...
88. النبي وصفاته ووظائفه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈88⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في وصف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم يك بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يك بالجعد القطط ولا السبط، كان جعدا رجلا، ولم يك بالمطهم ولا المكلثم، وكان في الوجه تدويرا، أبيض مشرب، أدعج العين، أهدب الاشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذا مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، بأبي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا، ولم ينخل دقيقه(1).
2. روي أنه قيل له: صف لنا نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم كأننا نراه، فإنا مشتاقون إليه، فقال: كان نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبيض اللون، مشربا حمرة، أدعج العين(2).. سبط الشعر(3).. كث اللحية، ذا وفرة(4).. دقيق المسربة، كأنما عنقه إبريق فضة، يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته إلى سرته كقضيب خيط إلى السرة، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدمين، شثن الكعبين، إذا مشى كأنما يتقلع من صخر، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميعا بأجمعه كله، ليس بالقصير المتردد، ولا بالطويل المتمعط(5).. وكان في الوجه تدوير، إذا كان في الناس غمرهم، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرفه أطيب من ريح المسك، ليس بالعاجز ولا باللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفا، من خالطه بمعرفة أحبه، ومن رآه بديهة هابه، عزه بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلّى الله عليه وآله وسلّم(6).
3. روي أنّه قال يصف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأعرابي: (إذا نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عرفته ليس بالطويل المتثنى، ولا القصير الفاحش، أبيض مشرب حمرة، ربعة، أحسن الناس، شعره إلى شحمة اذنه، عريض الجبهة، ضخم العينين، أقرن الحاجبين مفلج الثنايا، أسيل الخد، كث اللحية، على شفته السفلى خال، كأن عنقه إبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس ليس على ظهره ولا بطنه إلا شعر كقضيب الفضة يجري، شثن الكفين، كأن كفه من لينها متن أرنب، إذا مشى مشى متقلعا، كأنه يهبط من صبب، وإذا التفت التفت بأجمعه، وإذا صوفح لم ينزع يده حتى ينزع الآخر، وإذا احتبى إليه رجل لم يحل حبوته حتى يكون الرجل هو الذي يحل حبوته، وإذا ضحك تبسم، يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة الحسنة، ليس بسخاب في الاسواق(7).
__________
(1) بحار الأنوار: 16/194.
(2) الدعج: شدة سواد العين في شدة بياضها.
(3) السبط من الشعر: المنبسط المسترسل.
(4) الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شجمة الاذن.
(5) المتناهي في الطول.
(6) أمالي ابن الشيخ: 217.
(7) بحار الأنوار: 16/186.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) أنّه قال: هذه صفة جدي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: كث اللحية، عريض الصدر، طويل العنق، عريض الجبهة، أقنى الانف، أفلج الاسنان، حسن الوجه، طيب الريح، حسن الكلام، فصيح اللسان، كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بلغ عمره ثلاثا وستين سنة، ولم يخلف بعده إلا خاتم مكتوب عليه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكان يتختم في يمينه، وخلف سيفه ذا الفقار، وقضيبه وجبة صوف، وكساء صوف كان يتسرول به لم يقطعه ولم يخيطه حتى لحق بالله(1).
__________
(1) الاحتجاجات: 10: 132.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، يعني: الزكاة: طاعة الله، والإخلاص(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٠٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني: القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني: المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام، والسنة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أن يبعث محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يعني: بين، مثلها في الجمعة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: لقد منّ الله عليكم يا أهل الإيمان إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ الخير والشر؛ لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشر فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، أي: في عمياء من الجاهلية، لا تعرفون حسنة، ولا تستعتبون من سيئة، صم عن الحق، عمي عن الهدى(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن ـ وجوه:
أ. أحدها: أن كل جوهر يألف بجوهره، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره، ولا ينضم إلى جنس آخر، فإذا كان كذلك، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم، ويدفع الاختلاف من بينهم ـ فإذا كان ما وصفنا بعثوا من جوهرهم وجنسهم؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم
ب. الثاني: أن الرسل لا بدّ لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك.
ج. الثالث: أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة والجن؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم!؟ فإذا كان كذلك بعثوا منهم؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة.
2. ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ المنة الثانية: حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحسبهم لم يبعثهم من غيرهم؛ وذلك:
أ. أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة، فبعثهم منهم؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم، لمّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة ـ لا يكذبون على الله تعالى.
ب. الثاني: أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون: إنما كان ذلك بتعليم من أحد، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا، بعثهم الله منهم؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد، ولا اختلفوا فيه ـ أنهم إنما علموا ذلك بالله تعالى لا بأحد من البشر ألا ترى أن ما أتى به موسى ـ صلوات الله عليه ـ من الآيات من نحو: العصا، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته: لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط، وقد نشأ بين أظهرهم، فكيف ولم يكن سحرا!؟ فدل أن لله على خلقه منة عظيمة؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا
ج. وقيل: قوله: ﴿رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: من العرب معروف النسب أميّا؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويّا وحيا، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله، كقوله: ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ الآية [العنكبوت: 48]
3. قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: إعلام رسالته ونبوته.
ب. ويحتمل الآيات الحجج والبراهين، هما واحد.
ج. ويحتمل: آيات القرآن.
4. قوله عزّ وجل: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
أ. يحتمل: التزكية من الزكاء والنماء، وهو أن أظهر ذكرهم، وأفشى شرفهم ومذاهبهم؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم؛ كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]: أظهره ولم يخمل ذكرهم؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 10] أي: أخفاها وأخملها!؟
ب. ويحتمل: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يطهرهم بالتوحيد.
ج. وقيل: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يأخذ منهم الزكاة؛ ليطهرهم.
5. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أن ينصرف إلى وجوه، وقد ذكرناه في غير موضع، ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه: إلى الهلاك، وإلى الحيرة، وإلى خمول الذكر وغيره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/521.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وفي وجه المنة بذلك ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: ليكون ذلك شرفا لهم.
ب. الثاني: ليسهل عليهم تعلم الحكمة منه لأنه بلسانهم.
ج. الثالث: ليظهر لهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة.
2. في قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنه يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين.
ب. الثاني: أن يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء.
ج. الثالث: أنه يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها، وهو قول الفراء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/434.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ﴾ معناه أنعم الله، وأصل المن القطع، منه يمنه مناً: إذا قطعة، و﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع، والمن النعمة، لأنه يقطع بها عن البلية، ويقول القائل: من علي بكذا أي استنقذني به مما أنه فيه، والمن تكدير النعمة، لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها، والمنة القوة، لأنه يقطع بها الاعمال.
2. في تخصيص المؤمن بذكر هذه النعمة وإن كانت نعمة على جميع المكلفين قيل فيه من حيث أنها على المؤمنين أعظم منها على الكافرين، لأنها نعمة عليهم من حيث هي نفع في نفسها، وفيما يؤدي إليه من الايمان بها، والعمل بما توجبه أحكامها، فالمؤمن يستحق اضافتها إليه من وجهين، لما بيناه من حالها، ونظائر ذلك قد بيناه مثل قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وغير ذلك وإنما أضافه إلى المتقين من حيث أنهم المنتفعون بها دون غيرهم.
3. في قوله تعالى: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: من أنفسهم ليكون ذلك شرفا لهم، فيكون ذلك داعياً لهم إلى الايمان.
ب. الثاني: من أنفسهم، لسهولة تعلم الحكمة عليهم، لأنه بلسانه.
ج. الثالث: من أنفسهم، ليتيسر عليهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة، وقال الزجاج: منّ عليهم إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم من الأميين، لا يتلو كتاباً ولا يخط بيمينه، فنشأ بين قوم يخبرونه ويعرفونه بالصدق والأمانة وأنه لم يقرأ كتاباً ولا لقنه، فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة، فكان ذلك من أدل دليل على صفقة فيما أتى به.
4. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ معناه يقرأ عليهم ما أنزله عليه من آيات القرآن.
5. قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين، فيصيروا بهذه المنزلة الرفيعة في الخلق.
ب. الثاني: يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين سالكين سبيل المهتدين.
ج. الثالث: قال الفراء يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها.
6. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني القرآن، وهو الحكمة، وإنما كرره بواو العطف لأمرين:
أ. أحدهما: قال قتادة: الكتاب القرآن، والحكمة السنة.
ب. الثاني: لاختلاف فائدة الصفتين، وذلك أن الكتاب ذكر للبيان أنه مما يكتب ويخلد ليبقى على الدهر، والحكمة والبيان عما يحتاج إليه من طريق المعرفة.
7. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يعني أنهم كانوا كفاراً، وكفرهم هو ضلالهم فانقذهم الله بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/39.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المَنُّ: النعمة، والمن: القطع، ومنه ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ وهو الأصل في الباب، وسمي النعمة منًا؛ لأنها يقطع بها من البلية.
2. لما نفى الله تعالى الخيانة عن الرسول وأمر الناس بترك الخيانة بين عظيم نعمه عليهم به، وأنه بعثه من بينهم، وهم شاهدوه صبيًا وناشئًا وكهلاً، فلم يعثروا منه على خيانة، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ﴾ أي أنعم الله ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وخصهم بالذكر، وإن كان هو مبعوثًا إلى الكل:
أ. قيل: لأن النعمة عليهم أعظم، ولأنهم اهتدوا به، وعلموا مواقعه، وانتفعوا ببيناته.
ب. وقيل: منته به عليهم ما اقتدوا به من دينه وشريعته.
ج. وقيل: ما استحقوا به الثواب، وتخلصوا من العقاب.
3. ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ﴾ أرسل فيهم ﴿رَسُولًا﴾ يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾:
أ. قيل: يعني نسبه فيهم، فذكر ذلك شرفًا لهم.
ب. وقيل: من أنفسهم يعني بلسانهم يسهل عليهم تعلم الحكمة منه.
ج. وقيل: من أنفسهم لئلا تلتبس عليهم أحواله في الطهارة.
د. وقيل: إنه خطاب للعرب والعجم أي من جنسهم، فليس بِمَلَكٍ، ولا جِني؛ ليكونوا أقرب إلى القبول منه.
هـ. وقيل: من أنفسهم أي نظيرًا لهم لا يَعْلَمُ كما لا يعلمون، ثم جاء بالرسالة والمعجزات.
4. ﴿يَتْلُو﴾ يقرأ ﴿عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾:
أ. قيل: يعني كتابًا بعدما علموا أنه لا يقرأ كتابًا، ولا يخط بيمينه، ثم يتلو عليهم أقاصيص الأمم مع معرفتهم بصدقه وأمانته.
ب. وقيل: يتلو القرآن ثم يعلمهم ما يحتاجون إلى تعلمه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: هو القرآن سمي كتابًا؛ لأنه يكتب، وحِكْمَةً؛ لأن فيه بيان ما يُحتاج إليه.
ب. وقيل: الحكمة: السنة عن قتادة.
ج. وقيل: الحكمة: الفقه في الدين.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: يطهرهم من ذنوبهم باتباعه.
ب. وقيل: شهد بأنهم أزكياء.
ج. وقيل: يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين.
د. وقيل: يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها عن الفراء.
7. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يعني من قبل بعثته ﴿لَفِي ضَلَالٍ﴾ عن الهدى ﴿مُبِينٌ﴾ بين ظاهر.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. عظيم نعمه على عباده ببعثه رسولا على الصفة التي بَيَّن، ولا نعمة أعظم من ذلك؛ لأنهم به نجوا من العذاب، وبه أدركوا الثواب.
ب. بطلان مذهب الْمُجْبِرَة في الاستطاعة؛ لأنه تعالى بين أن وجه الإنعام بالرسول والبيان، فلو كان كلفهم ولا قدرة لم ينفع البيان، ولولا البيان لما كان منعمًا به فمع فقد القدرة أولى.
ج. بطلان قولهم في المخلوق؛ لأن على قولهم لو خلق فيهم الإيمان آمنوا سواء وجد البيان أوْ لم يوجد، ولو لم يخلق لم يكن، فأي فائدة في البيان، فكيف يُعَدُّ هذا البيان نعمة.
د. بطلان قولهم من وجه آخر، وهو أنه بعثه من قومه ليكونوا أقرب إلى القبول فكيف يصح ذلك، وعندهم الأمر موقوف على خلقه لا على البيان والرسول؟
9. ﴿قَبْلِ﴾: رفع على الغاية، وهو مبني على الضم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/447.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أصل المن: القطع، يقال: منه يمنه: إذا قطعه، والمن: النعمة، لأنه يقطع بها عن البلية، يقال: من فلان علي بكذا أي: استنقذني به مما أنا فيه، والمن: تكدير النعمة، لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها، والمنة: القوة لأنه يقطع بها الأعمال.
2. ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثه نبينا، فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ﴾ أي: أنعم الله ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا﴾ منهم، خص المؤمنين بالذكر، وإن كان صلّى الله عليه وآله وسلّم مبعوثا إلى جميع الخلق، لأن النعمة عليهم أعظم لاهتدائهم به، وانتفاعهم ببيانه، ونظير ذلك ما تقدم بيانه من قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن المراد به من رهطهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، وكونه أميا لم يكتب كتابا، ولم يقرأه، ليعلموا أن ما أتى به وحي منزل، ويكون ذلك شرفا لهم، وداعيا إياهم إلى الإيمان.
ب. ثانيها: إن المراد به أنه يتكلم بلسانهم، فيسهل عليهم تعلم الحكمة منه، فيكون خاصا بالعرب.
ج. ثالثها: إنه عام لجميع المؤمنين، والمراد بأنفسهم أنه من جنسهم، لم يبعث ملكا ولا جنيا، وموضع المنة فيه أنه بعث فيهم من عرفوا أمره، وخبروا شأنه.
4. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ يعني القرآن ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ مضى بيانه في سورة البقرة ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يعني أنهم كانوا في ضلال ظاهر بين أي: كفارا، وكفرهم هو ضلالهم، فأنقذهم الله بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/876.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: أنعم عليهم، و﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: جماعتهم، وقيل: نسبهم، وقرأ الضّحّاك، وأبو الجوزاء: (من أنفسهم) بفتح الفاء.
2. في وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: لكونه معروف النّسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة.
ب. الثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجّاج.
ج. الثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
د. الرابع: لأن شرفهم يتمّ بظهور نبيّ منهم، قاله الماورديّ.
3. سؤال وإشكال: هل هذه الآية خاصّة أم عامّة؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أنها خاصّة للعرب، روي عن عائشة والجمهور.
ب. الثاني: أنها عامّة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملك، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجّاج، وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية.
__________
(1) زاد المسير: 1/344.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:
أ. الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
ب. الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الإنسان إلى الخيانة.
ج. الثالث: كأنه تعالى يقول: إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول والدناءة، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والإحسان من جميع العالمين، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل.
د. الرابع: أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار
2. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ قال الواحدي: للمن في كلام العرب معان:
أ. أحدها: الذي يسقط من السماء وهو قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: 57]
ب. ثانيها: أن تمن بما أعطيت وهو قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة: 264]
ج. ثالثها: القطع وهو قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت: 8] ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: 3]
د. رابعها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه، ومنه قوله: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ [ص: 39]، وقوله: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول.
3. بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إحسان إلى كل العالمين، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28] إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الإسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] مع أنه هدى للكل، كما قال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات:
4. بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إحسان من الله إلى الخلق، ثم إنه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر، وبعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت مشتملة على الأمرين:
أ. أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة.. وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165] قال أبو عبد الله الحليمي: وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه:
• الأول: أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية، فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها.
• الثاني: أن الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي.
• الثالث: أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى إنه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها.
• الرابع: أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس، فيقوي العقول بنور عقله، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
ب. الثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.. وهي أمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، وتفصيلها في المسائل التالية.
5. وجه الانتفاع بالخصلة الأولى، والواردة في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ من وجوه:
أ. الأول: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب، والملازمة على الصدق، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة، وبعده عن الخيانة والكذب، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى.
ب. الثاني: أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة، ثم إنه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين، ثم إنه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والإلهام الالهي.
ج. الثالث: أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا، فإذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا.
د. الرابع: أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات، ومعلوم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله.
هـ. الخامس: أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة، ثم لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها ولا شك أن فيه أعظم المنة.
6. بناء على هذه الوجوه:
أ. فإن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال، فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم، فقال: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
ب. وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44] وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
7. وجه الانتفاع بالخصال، الواردة في قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أن كمال حال الإنسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الانسانية قوتان، نظرية وعملية، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق، وقوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية و﴿الْكِتَابِ﴾ إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى ﴿الْكِتَابِ﴾ إشارة إلى ظواهر الشريعة ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها.
8. ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فإذا كان وجه النعمة العلم والأعلام، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/418.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله تعالى عظيم منته عليهم ببعثه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى في المنة فيه أقوال:
أ. منها أن يكون معنى ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي بشر مثلهم، فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أن ذلك من عند الله.
ب. وقيل: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ منهم، فشرفوا به صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكانت تلك المنة.
ج. وقيل: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته، وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحق بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه.
د. قرئ في الشواذ ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ بفتح الفاء يعني من أشرفهم، لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم، ثم قيل: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص في العرب، لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولهم فيه نسب، إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى فطهره الله من دنس النصرانية، وبيان هذا التأويل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة]، وعن عائشة: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ قالت: هذه للعرب خاصة، وقال آخرون: أراد به المؤمنين كلهم، ومعنى ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أنه واحد منهم وبشر ومثلهم، وإنما امتاز عنهم بالوحي، وهو معنى قوله ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة] وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به، فالمنة عليهم أعظم.
2. ﴿يَتْلُو﴾ في موضع نصب نعت لرسول، ومعناه يقرأ، والتلاوة القراءة، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ تقدم في البقرة، ومعنى ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي ولقد كانوا من قبل، أي من قبل محمد، وقيل: ﴿أَنْ﴾ بمعنى ما، واللام في الخبر بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، ومثله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة] أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين، وهذا مذهب الكوفيين، وقد تقدم في البقرة معنى هذه الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/264.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ جواب قسم محذوف، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته، ومعنى: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أنه عربيّ مثلهم؛ وقيل: بشر مثلهم، ووجه المنة على الأوّل: أنهم يفقهون عنه، ويفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان، ومعناها على الثاني: أنهم يأنسون به بجامع البشرية، ولو كان ملكا لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية، وقرئ: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ بفتح الفاء، أي: من أشرفهم لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم، ولعلّ وجه الامتنان على هذه القراءة: أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأوّل، وأما على الوجه الثاني: فلا حاجة إلى هذا التخصيص، وكذا على قراءة من قرأ: بفتح الفاء، لا حاجة إلى التخصيص، لأن بني هاشم هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجاد ورفاعة المحتد، ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾
2. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ هذه منة ثانية، أي: يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية، لا يعرفون شيئا من الشرائع.
3. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يطهرهم من نجاسة الكفر، وهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، وهما: في محل نصب على الحال، أو صفة لرسول، وهكذا قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾، والمراد بالكتاب هنا: القرآن، والحكمة: السنة، وقد تقدّم في البقرة تفسير ذلك.
4. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل محمد، أو: من قبل بعثته ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: واضح لا ريب فيه، واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة، وبين النافية، فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية، واسمها ضمير الشأن، أي: وإن الشأن والحديث؛ وقيل: إنها النافية، واللام بمعنى: إلا، أي: وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، وبه قال الكوفيون، والجملة على التقديرين: في محل نصب على الحال.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/453.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ﴾ أنعم، وأصله القطع، فإنَّ البليَّة تُقطع بالنعمة، وإذا عَدَدْتَ على أحد بما فَعلتَ به من الخير فقد مننت، أي: أبطلت ما فعلت وقطعته، ﴿عَلَى الْمُومِنِينَ﴾ بالفعل، ومن يؤُول أمره إلى الإيمان، أنعم عليهم برسوله والإيمان به، ومنهم الرسول منَّ الله عليه بالوحي وإيمانه به، ومنَّ عليه بمن تبعه، وكلُّ نبيء هو أوَّل من يؤمِن بما أوحي إليه أنَّه من الله، ولو تقدَّم الإيحاء به إلى غيره، والرسول مِنَّةٌ على كلِّ أحد لأنَّه منجاة لِكُلِّ من أرادها، إِلَّا أنَّه خصَّ المؤمنين لأنَّهم المنتفعون به، والمراد المؤمنون من العرب أو من قريش أو من الناس.
2. ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنَ اَنفُسِهِمْ﴾ نسبهم من إسماعيل ومن عدنان إليهم، ونسبه في كلِّ العرب إِلَّا بني تغلب، تنصَّروا واستمرُّوا عليها، وكان في قومه يشاهدونه من حيث نشأ إلى ادِّعائه الوحي، ما يرون منه محرَّما ولا مكروها ولا شيئًا من مساوئ الأخلاق، وما رأوا منه إِلَّا عبادة الله بما أمكن له قبل الوحي، ومكارمَ الأخلاق، فيبعد أن ينسبوه إلى الكذب في دعوى الوحي، ولا كذب أقبح من دعوى الوحي كذبا، إِلَّا دعوى الألوهيَّة وعبادَةَ الأصنام، وجحودَ الله وأنواع الشرك، فبَعْثُه فيهم من أكبر النعم، إذ كان أقرب لهم إلى فهم كلامه وإلى الإيمان، فلا يكذِّبونه لمشاهدتهم صدقه في كلِّ أحواله، وإذ كان أنسب لهم بالافتخار به فيكون من دواعي الإيمان به، أو ﴿أَنفُسِهِمْ﴾: قريش، ويدلُّ له قراءة: (من أَنفَسِهم) (بفتح الفاء) فذلك أشدُّ لهم فخرا ونعمة، أو ﴿أَنفُسِهِمْ﴾: الإنس، لا من الجنِّ ولا من الملائكة، فهو أليق بالأخذ عنه، وأخرج البيهقيُّ عن عائشة: (إنَّ المراد العرب خاصَّة)، وذلك في الآيَة، وإلَّا فهو رحمة للعالمين كلِّهم، و(مِنْ) يتعلَّق بـ (بَعَثَ)، أو بمحذوف نعتا لـ (رَسُولاً)، ومن لم يعلم أنَّه من الجنِّ أو الإنس أو الملائكة أشرك، ومن لم يعلم أمن العرب أو العجم أشرك؛ لأَنَّ كونه من العرب معلوم كالأمر الضروريِّ، وقيل: لا يشرك، ومن جزم بأنَّه من العجم أو من الجنِّ أو الملائكة أشرك، لا إن لم يعلم أنَّه من أشرف القبائل.
3. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمُ ءَايَاتِهِ﴾ أي: القرآن، وهو أفضل كتب الله، بعد ما لم يجدوا إِلَّا ما قلَّ جدًّا من أهل الكتاب من الوحي ممزوجا بأكاذيب، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهِّرهم من الشرك وما دونه من المعاصي وسوء الطباع، والاعتقاد وفساد الجاهليَّةِ وأهلِ الكتاب، أو يشهد لهم أنَّهم أزكياء.
4. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ السنَّة، يعبَّر عن القرآن تارة بالآيات وتارة بالكتاب، تلويحا بأنَّه نعمة من حيث إنَّه علامة ونعمة من حيث إنَّه كلام مجموع، وقد يعبَّر عنه بالحكمة من حيث إنَّه عصمة، فوسَّط التزكية للإيذان بذلك التعدُّد في النعم، فإنَّ التزكية تكميل بالعمل المترتِّب على التعليم المرتَّب عَلَى التلاوة، وأمَّا قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً﴾ إلخ [البقرة: 129]، فيتبادر منه أنَّ الكلَّ نعمة مشتمل عَلَى نِعَم.
5. ﴿وَإِن كَانُواْ﴾ إنَّ الشأن كونهم، وليست (إن) عاملة في مذكور ولا محذوف، لكن بيَّنت المعنى، وقيل: عملت في ضمير الشأن محذوفا، ويجوز تقدير غيره إذا أمكن، مثل أن يقدَّر هنا: (وإنَّهم كانوا)، ونسب للبصريِّين أنَّها تُهمل ولا يُقدَّر لها ضمير، وأجازوا إعمالها في ظاهر، ﴿مِن قَبْلُ﴾ قبل بعثه صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَفِي ضَلَالٍ﴾ عن الدين والمصالح، ﴿مُّبِينٍ﴾ ظاهر.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/50.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ﴾ أي أنعم ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من جنسهم، عربيّا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته، والانتفاع به.
2. ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر، وإلا فبعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم إحسان إلى العالمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
3. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ يعني القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي القرآن ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أي السنة ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي من قبل بعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم وتزكيته ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي ظاهر من عبادة الأوثان، وأكل الخبائث، وعدوان بعضهم على بعض، وسواها، فنقلوا ببعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم من الظلمات إلى النور، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك، قال الرازي: وفي قوله تعالى ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وجه آخر من المنة، وذلك أنه صار شرفا للعرب، وفخرا لهم، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44]، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا، وأنزل عليه القرآن، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/453.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ من عليهم غمرهم بالمنة وأثقلهم بالنعمة، قال محمد عبده: انتقل من نفي الغلول عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن وصفه قبل ذلك بالرحمة واللين وأمره بالمشاورة إلى التفرقة بين الصحابة الذين عاملهم هذه المعاملة الذين اتبعوا رضوان الله وبين من باء بسخط من الله وتفاوت درجاتهم في ذلك وقالوا ما قالوا مما دل على جهلهم وكفرهم بحرمانهم من هدايته ـ ولعله يعني من كان مع أبي سفيان في أحد من الكافرين ـ ثم عاد إلى ذكر منته تعالى على المؤمنين ببعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيم، وقد كان ما تقدم من وصفه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالرحمن واللين وأمره بتلك المعاملة الحسنى وتنزيهه عن الغلول تمهيدا لهذه المنة.
2. ثم وصفه بأوصاف أخرى أكد بها المنة، أولها: أنه من أنفسهم أي من جنسهم أي العرب، ووجه هذه المنة الخاص، التي لا تنافي كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم رحمة عامة، هو أن كونه منهم يزيد في شرفهم ويجعلهم أول المهتدين به، لأنهم أسرع الناس فهما لدعوته، والنعمة العامة قد ذكرت في آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ويمكن أن يستدل على هذا التخصيص بالعرب دعوة إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تقدمت في سورة البقرة ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ [البقرة: 179] الخ الأوصاف المذكورة هنا، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بأنفسهم ههنا البشر لا العرب، وهذا القول ضعيف وإن وجب الإيمان بكون جميع الأنبياء من البشر، أما ضعفه فمن وجوه:
أ. أحدها: ان المراد بالمؤمنين في الآية من كانوا متصفين بالإيمان عند نزولها في عقب غزوة أحد وهم من العرب.
ب. ثانيها: موافقة دعوة أبوية إبراهيم وإسماعيل عليهم الصلاة والتسليم وإنما دعوا أن يكون النبي من ذريتهما وذرية إسماعيل هم العرب المستعربة كما هو مشهور.
ج. ثالثها: موافقة آية سورة الجمعة التي في معنى هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2] والأميون هم العرب.
د. رابعها وخامسها: ما يأتي قريبا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾، وما يأتي في تفسير وصفهم بالضلال المبين.
هـ. سادسها: أن العرب هم الذين تلا عليهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بلسانه آيات الله وباشر بنفسه تزكيتهم وتعليمهم وهم الذين حملوا دعوته إلى غيرهم من الناس، وقد نص العلماء على أن الإيمان بكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من العرب شرط في صحة الإسلام والإيمان لا بد من تلقينه لكل من يدخل في كل هذا الدين، ومن جحده بعد العلم به يكون مرتدا عن الإسلام، ثم صار ينشر الدعوة كل قوم قبلوها واهتدوا بها فصح قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28] وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
3. الوصف الثاني قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ قال محمد عبده: الآيات هي الآيات الكونية الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته وتلاوته عبارة عن تلاوة ما فيه بيانها، وتوجيه النفوس إلى الاستفادة منها والاعتبار بها، وهو القرآن كقوله عز وجل في أواخر هذه السورة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190] وقوله في سورة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] ومنها ما لم يذكر فيه كلمة (الآيات) كقوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [الشمس: 1 ـ 2]
4. الوصف الثالث والرابع قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قال محمد عبده: تزكيته إياهم في تطهيرهم من العقائد الزائغة ووساوس الوثنية وأدرانها والعقائد هي أساس الملكات ولذلك نقول إن العرب وغيرهم كانوا قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ملوثين في عقولهم ونفوسهم.
5. سبق أن المراد بالتزكية تربية النفوس وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مربيا ومعلما، وأراد محمد عبده بقوله (إن العقائد أساس الملكات): إن من لم يتزك عقله ويتطهر من خرافات الوثنية وجميع العقائد الباطلة لا تتزكى نفسه بالتخلي عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالملكات الفاضلة، فإن الوثني من يعتقد أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ومضار تخشى من بعض المخلوقات وأنه يجب تعظيم هذه المخلوقات والالتجاء إليها ليؤمن ضرها، وينال خيرها، ويتقرب بها إلى خالقها وأن من يعتقد هذا يكون دائما أسير الأوهام، وأخيذ الخرافات، يخاف في موضع الأمن ويرجو حيث يجب الحذر والخوف، وتتعدى قذارة عقله إلى نفسه فتفسد أخلاقها، وتدنس آدابها، فتزكية النفس لا تتم إلا بتزكية العقل ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص.
6. قال محمد عبده: (أما تعليمهم الكتاب فمعناه أن هذا الدين الذي جاء به قد اضطرهم إلى تعلم الكتابة بالقلم وأخرجهم من الأمية لأنه دين حث على المدنية وسياسة الأمم)، كان أول حاجتهم إلى تعلم الكتابة وجوب كتابة القرآن وقد اتخذ صلّى الله عليه وآله وسلّم كتبة للوحي وكتبوا له كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام وكان يأمرهم بتعلم الكتابة، ثم كان ذلك يكثر فيهم على قدر نماء مدنيتهم وامتداد سلطتهم.
7. قال محمد عبده: (وأما الحكمة فهي أسرار الأمور وفقه الأحكام وبيان المصلحة فيها والطريق إلى العمل بها ذلك الفقه الذي يبعث على العمل، أو هي العمل الذي يوصل إلى هذا الفقه في الأحكام، أو طرق الاستدلال ومعرفة الحقائق ببراهينها لأن هذه الطريقة هي طريقة القرآن، وسنته في العقائد وكذا في الآداب والعبادات وقد مرت الشواهد الكثيرة على ذلك وسيأتي ما هو أكثر وأغزر إن شاء الله تعالى.
8. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي وإنهم كانوا قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ضلال بين واضح: وأي ضلال أبين من ضلال قوم مشركين يعبدون الأصنام ويتبعون الأوهام أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فيعرفوا كنه ضلالتهم وحقيقة جهالتهم، فضلالهم أبين من ضلال أهل الكتاب، كما هو ظاهر لأولي الألباب.
__________
(1) تفسير المنار: 4/222.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
بعد أن نفى الله تعالى الغلول والخيانة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي إن هذا الرسول ولد في بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول؟.
1. وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة:
أ. إنه من أنفسهم أي إنه عربي من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة، إلى ما لهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ وقال:
çوكم أب علا بابن ذا شرف...كما علت برسول الله عدنانé
وقد خطب أبو طالب في تزويج خديجة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر، فقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن هذا ابن أخي محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل)، وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت في آيات أخرى كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
ب. إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها، والاعتبار بها كما جاء في قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وقوله: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ وقوله: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾
ج. إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى في أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم، فكان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها، دفعا لشرها، وجلبا لخيرها، وتقربا إلى خالقها، ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبد الخرافات، يخاف في موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.
د. إنه يعلمهم الكتاب والحكمة، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة، وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم والعرفان، فقد طلب إليهم كتابة القرآن، واتخذ كتبه للوحى، وكتب كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام في سائر الأصقاع المعروفة، فانتشرت الكتابة بينهم، وعظمت مدنيتهم، وامتدت سلطتهم؛ فملكوا الأمم التي كان لها السلطان والصّولة والنفوذ في تلك الحقبة.
هـ. كذلك علّمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء، ومعرفة أسرارها، وفقه أحكامها، وبيان ما فيها من المصالح والحكم، وهداهم إلى طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق، ببراهينها، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها، والتمسك بأهدابها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
2. الخلاصة ـ إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها وعللها وبيان منافعها.
3. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة في ضلال بيّن واضح، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام، وهم على ذلك أميون لا يقرؤون ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال، وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة، فكان موقعها أعظم، إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهل وبعد عن الحق، فكانت أعم نفعا وأتم وقعا.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/123.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل: شخص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
1. إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة، حقيقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وقيمتها الذاتية، وعظم المنة الإلهية بها، ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها، ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة.. إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة: إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول، والانشغال بهذا الأمر الصغير، الذي كان الانشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة، وبدل النصر هزيمة، وفعل بالمسلمين الأفاعيل.. فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة، والمنة العظيمة المتمثلة فيها، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة، تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها، وأسلاب الأرض كلها، وأعراض الأرض كلها، شيئا تافها زهيدا، لا يذكر ولا يقدر، شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره، بل تستحي أن تفكر فيه! فضلا عن أن تشغل به! وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة، فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة، وما تمثله من منة عظيمة، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة، تصغر في ظلها الآلام والخسائر، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات، على حين تعظم المنة، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق.
2. ثم الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد، فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فما ينبغي لأمة هذا شأنها، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة.
3. هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق، نذكرها باختصار وإجمال، لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا، وأن يكون هذا الرسول ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.. إن العناية من الله الجليل، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي، المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر، وإلا فمن هم هؤلاء الناس، ومن هم هؤلاء الخلق، حتى يذكرهم الله هذا الذكر، ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم، أن يرسل لهم رسولا من عنده، يحدثهم بآياته سبحانه وكلماته، لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟
4. وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.. لم يقل (منهم) فإن للتعبير القرآني ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة.. إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس، لا صلة الفرد بالجنس، فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى، إنما هي أعمق من ذلك وأرقى، ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله، فهو منة على المؤمنين.. فالمنة مضاعفة، ممثلة في إرسال الرسول، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب.
5. ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية.. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها، في تكريم الله لهم، بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة! ولو تأمل أن الله الجليل سبحانه يتكرم عليه، فيخاطبه بكلماته، يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته؛ وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها، ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو ـ هو الإنسان ـ هو العبد الصغير الضئيل ـ وعن حياته، وعن خوالجه، وعن حركاته وسكناته، يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة، وهذا التفضل، وهذا العطاء؟
6. إن الله الجليل غني عن العالمين، وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحوج.. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل، ويتلمسه بعنايته، ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته! فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء!
7. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم ويرفعهم وينقيهم، يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم، ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم، ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم، وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها، من أرجاسها.
8. إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها.. إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون.. وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني.. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.. إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر، لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها، والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
9. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ كان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا، أمية القلم، وأمية العقل سواء، وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة، في أي باب من الأبواب، وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشئ معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب، فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا، وحكماء العالم، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان، والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة ـ بإذن الله ـ لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة؛ من النواحي الأخلاقية والاجتماعية؛ وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي، والرخاء الحضاري!
10. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفهومات الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك، وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق:
أ. والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون ـ ولا شك ـ ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام؛ وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان.
ب. كانوا يدركون أن الإسلام ـ والإسلام وحده ـ هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمة فحسب، ولكن ليكونوا ـ على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن ـ أمة تقود البشرية، وترسم لها مثلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل.
ج. كانوا يدركون أن الإسلام ـ والإسلام وحده ـ هو الذي منحهم وجودهم القومي، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي.. وقبل كل شيء وأهم من كل شيء.. وجودهم الإنساني، الذي يرفع إنسانيتهم، ويكرّم آدميتهم، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم، الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم، والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك، وعلموها كيف تحترم (الإنسان) وتكرمه بتكريم الله، غير مسبوقين في هذا، لا في الجزيرة العربية، ولا في أي مكان.. وفي اللفتة السابقة إلى (الشورى) طرف من هذا المنهج الإلهي، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله.
د. وكانوا يدركون أن الإسلام ـ والإسلام وحده ـ هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم، ونظرية للحياة البشرية، ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية.. والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب، تقدمه للبشرية، لتدفع بالبشرية إلى الأمام.
هـ. وقد كان الإسلام، وتصوره للوجود، ورأيه في الحياة، وشريعته للمجتمع، وتنظيمه للحياة البشرية، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله (الإنسان).. كان الإسلام بخصائصه هذه هو (بطاقة الشخصية) التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة.
11. وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة، ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم، وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا ـ كما كانوا ـ لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
أ. يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول، والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة، وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة!
ب. يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به على ما عنده من إنتاج؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار!
ج. يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية، وتشقى بها جميعا غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
12. لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة، لا شيء إلا هذا المنهج الفريد، لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم، والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس! إنها ـ وحدها ـ بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية، فأحنت لها هامتها، والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.
13. إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة، وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة، وهي التي تقدم أكبر منهج، وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة، والعرب يملكون هذه الرسالة ـ وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء ـ فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان!؟ لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة، وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان.. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان! ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم!.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/507.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية الكريمة ما يزكّى الرأي الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ وهو أن الغلّ من الحقد، لا من الغلول بمعنى الخيانة، ففي هذه الآية تذكير النبيّ الكريم بأنه رحمة أرسلها الله للناس، ومنّة منّ الله بها عليهم، بما يتلو عليهم من آيات الله، وبما يفتح لهم من طاقات النور، وبما يفيض عليهم من مواطر الهدى، فيطهرهم من أرجاس الكفر والضلال، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفتح قلوبهم المظلمة إلى حيث مطالع الهدى والنور، ويوقظ عقولهم النائمة الغافية لتتصل بهذا الكون وتطالع في صفحات الوجود وعلى قسمات الموجودات، بعض ما أبدعت قدرة الخالق العظيم، وما وسع علمه، وهنا يرى الرسول ـ مع عظم المسئولية التي يحملها ـ مدى الخير الذي يسوقه الله على يديه إلى الناس، الذين هو منهم وهم منه، فيحمله ذلك على أن يبالغ في تحرّى الدقة البالغة في ألا يشوب هذه النعمة العظيمة كدر، أو يعلق بها أذى، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية، مشرقة، طيبة، وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى في سبيل رسالته، متجاوزا عن كل ما يعرض له في طريقه، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء، فإذا دعي من ربّه إلى أن يكظم غيظه، ويعفو الناس، ويلين لهم، ويستغفر للمسيئين منهم، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه، ويناجيه به وجدانه.
2. في الآية الكريمة أيضا، يرى المؤمنون ما آتاهم الله من فضله، وما أوسع لهم في برّه وكرمه، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعرفون وجهه، ويأنسون إليه، ويتلقون من بين يديه ما يتلقى هو من ربّه من نفحات ورحمات، يسوقها إليهم، فيعيدهم خلقا جديدا، فإذا هم ناس غير الناس، وقوم غير القوم.. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة.
3. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.. وتلك نعم من الله سابغة، وأفضال غامرة، ينبغي أن يذكروها، ويؤدوا شكرها، إيمانا بالله، وجهادا في سبيل الله، وطاعة وولاء لرسول الله، الذي حمل إليهم هذا الخير، وغرسه في مغارسه، ورواه من خفقات قلبه، ومسارب وجدانه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/635.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ استئناف لتذكير رجال يوم أحد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم، ومناسبة ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّا عظيما، إذ قد شاع تصبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159]، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أحد ناشئا بعضها عن بعض، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرص الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طلقا في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحا إلى منبعثه.
2. المنّ هنا: إسداء المنّة أي النّعمة، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الّذي في قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ في سورة البقرة [264]، وإن كان ذكر هذا المنّ منّا بالمعنى الآخر، والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنّما كان مذموما لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وطول الله ليس بمجحود.
3. المراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الّذين كانوا مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقرينة السياق وهو قوله: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من أمّتهم العربية، و(إذ) ظرف لـ (منّ) لأنّ الإنعام بهذه النّعمة حصل أوقات البعث.
4. معنى ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سببا لقوّة التواصل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن، والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربيا يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جارا لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته، وعن النقاش: قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا تغلب، وبذلك فسّر: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾
5. هذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين، وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (من دخل في الإسلام فهو من العرب)
6. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ أي يقرأ عليهم القرآن، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.
7. التزكية: التطهير، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام، وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرهم بحفظ ألفاظه، لتكون معانيه حاضرة عندهم، والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 269]
8. عطف الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين) وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فرض الصلاة والحجّ.
9. جملة ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ حال، وإن مخففة مهملة، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف، والجملة خبره على رأي الزمخشري، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسما هو ضمير الشأن، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة، وقال جمهور النحاة: يبطل عملها وتكون بعدها جملة، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمّا اسمية، أو فعلية فعلها من النواسخ غالبا.
10. وصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هدى، أو شبهة، فكان حاله مبيّنا كونه ضلالا كقوله: ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: 13]، والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية.
11. يجوز أن يشمل قوله: ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر، ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/277.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خولفت أوامره في غزوة أحد، فنزل بالمؤمنين فيها ما نزل، ولقد ناسب أن يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين نعمته عليهم في إرسال الرسول الأمين، ويشير إلى الهداية التي اشتملت عليها رسالته، وأن اتّباعه اتباع رضوان الله، ومخالفته اتباع لسخط الله، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ لقد من الله تعالى، ونعمه على المؤمنين كثيرة، باختيار رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة، لان لهم، ولم يكن فظا غليظا بهم، وفي هذا النص السامي يبين أن ذات رسالته نعمة، فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ﴾ أنعم وأعطى ووهب، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام، ولقد كانت منته في بعث الرسول من أنفسهم.
2. معنى ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ يصح تخريجها تخريجين:
أ. الأول: أن يكون من نفس العرب، ومن قومهم، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمنى العرب.
ب. الثاني: أن يكون من أنفسهم، أي أنه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة؛ إذ لا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم، وكان بشرا مثلهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر، وإن كان مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا.
3. بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. التلاوة القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، أي يعقبه في نظام محكم دقيق، والتلاوة في أكثر أحوالها لا تكون إلا في آيات مقروءة، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار أن كل آية من كتاب الله تعالى دليل على أنه من عند الله، وظاهر السياق أن الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية، والمعنى في ذلك أن الله سبحانه يلقى على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله، وقيل: إن المراد بالآيات.. الكونية، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها، وعلى توجيه الأنظار إليها، وإن الظاهر هو الأول، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلّف.. وإنه من أعظم منن الله أن يخاطب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء، وأن يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى.
ب. التزكية هي العمل الثاني من عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية، وتنميتهم وتقويتهم، فالرسالة المحمدية كأن آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح: تهذيب نفوسهم آحادا، والربط بين قلوبهم جماعات، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة، كما قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص]، والكلمة ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من شأن أهل الإيمان.
ج. وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم، وتفصيل المجمل فيه، وتطبيقه عليهم، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته إذ تلاوته قراءته مرتلا مفهوما، وتعليمه بيان أحكامه، فقد أمر بالصلاة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علمها، وأمر بالحج، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علمه، وهكذا، وقيل: إن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام، ولذا كانت أولى آيات القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق]
د. وتعليم الحكمة، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية، ويصح أن تفسر الحكمة بما هو أعم من ذلك وأشمل، فتشمل العلم بأسرار الكون، وأسرار النفوس، والسلوك القويم الذي يسدد الخطا في الدنيا، ويرضى الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
4. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي إن حال الناس، وخصوصا العرب، أنهم كانوا من قبل بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في ضلال واضح بيّن، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم متنابذين متدابرين يئدون بناتهم؟ وألم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال؟ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد؟ كل ذلك كان وقت أن بزغ فجر الإسلام، اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1490.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تضمنت هذه الآية الأمور التالية:
أ. ان الرسول احسان من الله إلى الخلق، لأن الرسول ينقلهم من الجهل إلى العلم، ومن المذلة إلى الكرامة، ومن معصية الله وعقابه إلى طاعته وثوابه.
ب. ان هذا الإحسان قد تضاعف على العرب بالخصوص لأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم، يباهون به جميع الأمم.
ج. انه يتلو عليهم آيات الله الدالة على وحدانيته، وقدرته وعلمه وحكمته.
د. انه يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية، ومن الأساطير والخرافات، والتقاليد الضارة، والعادات القبيحة.
هـ. يعلمهم الكتاب أي القرآن الذي جمع كلمتهم، وحفظ لغتهم، وحثهم على العلم ومكارم الأخلاق، ويعلمهم الرسول أيضا الحكمة، وهي وضع الأشياء في مواضعها، وقيل: ان المراد بها هنا الفقه.. وخير تفسير لهذه الآية ما قاله جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة: (أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا ان نعبد الله، ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام)
2. بالاختصار ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي منح العرب وجودهم الانساني والدولي والحضاري، ولولاه لم يكن لهم تاريخ يذكر، ولا أثر يشكر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/198.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، وقد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات والوجه الخاص بما هاهنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان والمن على المؤمنين لصفة إيمانهم ولذا قيل: على المؤمنين، ولا يفيده غير الوصف حتى لو قيل: الذين آمنوا، لأن المشعر بالعلية ـ على ما قيل ـ هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الإشعار، والمعنى ظاهر.
2. في الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/58.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أنعم عليهم ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا﴾ هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ في النسب، ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ ليعلموا أن الله أرسله إليهم ويهتدوا بما في الآيات من الهدى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ بالتربية الحسنة وتعليمهم أسباب الزكاء، وهو الطّيبُ ضد الخبث، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذي هو القرآن ليحفظوه ويتدبروا آياته ويتبعوه.
2. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أي يعلمهم الحكمة، فيجمعوا بين الإيمان والصلاح والعلم المستفاد من القرآن ومن التزكية والحكمة المستفادة من القرآن والسنة، فيكونوا مؤمنين أتقياء علماء حكماء، فقد جعل الله لهم خيراً كثيراً وهيّألهم فضلاً عظيماً، ويظهر من كلام بعض المفسرين في الحكمة: (أنها الرأي الذي أحكم في صدقهِ فلا يتخلله كذب، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر)، وقيل: (هي ملكة يتأتّى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ووزن الأمور بموازينها الصحيحة وإدارك غايات الأوامر والتوجهات)، وقيل في تفسيرها: العلم، وقيل الفقه، وقيل: فهم معاني القرآن ومعرفة محكمه ومتشابهة وناسخة ومنسوخة وعامة وخاصة، ونحو ذلك على التفصيل، والأولى أن يقال: الحكمة فائدة من فوائد معرفة معاني القرآن على التفصيل لا أنها هي العلم؛ لأن القرآن يدل على اختلاف مفهوم العلم والحكمة، قال تعالى حاكياً: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف:6] وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام:83]
3. من انتفع بعلمه فعمل به وكان راجح العقل جيد التدبير إذا هَمَّ بأمر تدبّر عاقبته، حسن المعرفة لعواقب الأمور فهو الحكيم، بخلاف العالم الذي لم ينتفع بعلمه الذي عقل العلم عقل رواية لا عقل رعاية، كعلماء السوء والأحبار الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، فليسوا حكماء وإن كانوا علماء، ومن أمثال إيتاء الحكمة ما حكاه الله تعالى في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان:12]، فقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [لقمان:12] يستفاد منه حكمة لأنه يعرف به أن الرأي السديد أن يشكر الإنسان لينفع نفسه، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34] وكذلك قوله تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [محمد:38]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَخَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل:20]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء:77] وغير ذلك.
4. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يبين أنهم كانوا في أشد الحاجة إلى الرسول ليهديهم من ضلال أي غواية عن طريق الرشاد ﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي بيّن لا يخفى أنه غواية كعبادة الأصنام وأكل الميتة وشرب الخمر والزنا والقتال على أهواء وخلافات عدوانية وحمية جاهلية ووَأدٍ للبنات وتحريم بعض الأنعام كما حكاه الله في (سورة الأنعام) وغير ذلك من الضلال.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/571.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يبقى للفكرة جوّها الكبير الذي يحتوي كلّ ما في الساحة من تطلّعات ومواقف ووسائل وأهداف ليدفع بالقضية إلى الواقع الجديد في حدود القضايا الإيجابية التي تحكمه وتوجّهه في اتجاه الأعلى والأفضل، في مقارنة بالواقع القديم في سلبيّاته المغرقة بالضلال، فليست حركة التغيير من نوع الحركات التي يراد منها تغيير الصورة كلها وما تشتمل عليه من ملامح الظلمة والضلال والاهتزاز، وفي ضوء ذلك كان للشخص الجديد معنى آخر، وسرّ جديد يتّسع للحياة، حسب الدور الكبير الذي أعدّ له، فهو لا يتحرّك من خلال ذاته، كمفكّر يعيش تجربته الشخصية، بل هو رسول من الله يتحرك من خلال رسالته.. وليس غريبا عنهم لتكون مشاعره غريبة عن مشاعرهم، أو تكون أفكاره غريبة عن قضاياهم، بل هو من أنفسهم، من قلب الجماعة التي ينتمون إليها، أرسله الله إليهم يتلو عليهم آياته التي تفتح قلوبهم على عظمته وخطّ هداه، وليزكيهم فيطهّر كل ما لديهم من رذائل الأخلاق والسلوك والأفكار والعادات، ويعلّمهم كتاب الله الواحد الذي تجتمع فيه كل الرسالات ويلتقي عليه كل الرسل كما يعلّمهم الحكمة التي تربط حركتهم بالحياة في موقعها الطبيعي الذي لا اهتزاز فيه ولا التواء، لأنه لا يكفي للشخصية الإسلامية أن تلتقي بالكتاب في تفكيرها النظري، بل لا بدّ لها، في طريق التكامل، من أن تلتقي بالتطبيق السليم لأفكاره وتعاليمه في خط الحكمة الذي يمثّل التوازن في مواجهة الفكر والواقع معا.
2. إنّه جاء من أجل هذا كله، ليخلّصهم من الضلال الواضح الذي كانوا يتخبطون فيه، سواء في ذلك جانب الفكر أو جانب العمل، وتلك هي المنّة التي منّ الله بها عليهم، لأنّ قضية تصحيح المسار، وتقويم الشخصية، وتركيز الخط، هي الخير كل الخير، بعيدا عن كل شهوات الحياة ولذائذها وأطماعها، فلا بدّ لهم من أن يعيشوها في جوّ النعمة عندما تتحرّك بهم خطوات الحرب والسّلام، في الشدّة أو في الرخاء، ليستقيم لهم كل ما يريدونه لأنفسهم من خير ومحبّة وسلام.
3. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فأنعم عليهم بالنعمة الكبرى التي تتصل بحركة السعادة في مصيرهم في الدنيا والآخرة، وهذا هو المعنى الإيجابي للمنّ الذي ينفتح على معنى العطاء الإلهي لعباده في النعم التي يغدقها عليهم واللطف الذي يمنحهم إياه، خلافا للمعنى السلبي للمنّ الذي يحصل من الناس الذين يقذفون لبعضهم البعض الخدمات في قضاء حاجاتهم وحلّ مشاكلهم، فيعملون على استعظام ذلك بالقول وبالفعل تذكيرا لمن أنعموا عليه بما لهم عليه من فضل لإذلاله وتحقيره، من حيث إنهم في موقع التفضل وهو في موقع الحاجة، أمّا التخصيص بالمؤمنين فلأنهم هم الذين ينتفعون بالرسالة ويهتدون بهداها، ويحصلون على نتائجها، أمّا الآخرون الذين شملتهم الرسالة في دعوتها، وانفتحت عليهم في خطوطها، فإنهم لا يعيشون الإحسان بهذه النعمة الكبرى، ولا يتفهمون إيجابياتها في وجودهم الممتد من الدنيا إلى الآخرة، مما لا يجعل للمنّ أثرا في شعورهم الإنساني الذي يستجيب في أحاسيسه بالنعم الموفورة له من صاحبها، ولا سيما نعمة الهداية في مضمون الرسالة.
4. ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من النوع الإنساني الذي ينتمون إليه، ومن النموذج البشري الذي يلتقي معهم في الفكر والإحساس والقدرة والتطلعات، فلم يرسله الله من الملائكة ليشعروا بغربته عنهم واختلافهم عنه، ولم يرسله من الجنّ الذين تبتعد طبائعهم عن طباعهم وأوضاعهم عن أوضاعهم، بل أرسله بشرا مثلهم يتكلم كما يتكلمون، ويتألم كما يتألمون، ويفرح كما يفرحون، ويأكل ويشرب ويلبس وينام ويتحرك كما يفعلون ذلك كله في حياتهم العامة والخاصة، مما يجعلهم يألفونه ويشعرون بالقرب منه والانفتاح عليه، كما يألفون بعضهم بعضا وينفتحون بإرادة القرب من بعضهم البعض في مواقع الإنسانية الحميمة المتعاونة.
5. وهكذا يمكن لهم أن يجدوا فيه القدوة الحسنة من موقع بشريته في خصوصية الملامح الذاتية في محيطه، فلا مشكلة ـ من الناحية النفسية ـ أن يلتقوا بفضائله الأخلاقية وممارساته الروحية، من حيث هي جهد بشري يمكن للبشر أن يتمثلوه ويقتدوه ويأخذوا به في حياتهم ـ من ناحية المبدأ ـ لأن سموّه في نبوته لا يجعل عمله عملا غير خاضع للقدرة البشرية، بل يجعل تطلعاته وآفاقه الروحية في الدرجة العليا من أجواء الخصوصيات الحية للعمل، ولو كان من نوع آخر ـ كالملائكة والجنّ ـ لكان لهم أن يعتذروا عن خط القدوة بأنهم لا يملكون القدرة على القيام بمثل عمله، لأنهم لا يتميزون بالخصائص الكبرى التي تمنحهم القدرة على مثل هذا العمل أو ذاك.
6. فهو الرسول البشر الذي أنزل الله عليه وحيه حيث اصطفاه لإبلاغ رسالاته للناس في أمورهم العامة والخاصة، وللقيام بالمهمّات المحددة في الارتفاع بهم إلى الدرجة العليا من الكمال البشري مما يمكن للبشر أن يبلغوه من درجات الكمال، وهكذا كان دوره:
أ. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ ليسمعوها ويتعلموها ويقرؤوها ويتدبروها في وجدانهم العقلي وإحساسهم الروحي، ليعرفوا حقائقها من خلال معرفتهم بخصائصها.
ب. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فيطهّر نفوسهم من الرذائل الفكرية والروحية وينمّي قدراتها في مواقع المعرفة ليتخلصوا من رجس الجهل والتخلف، ويسير بهم في خط الاستقامة التي تتوازن بها أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم بالآخرين وبالحياة، ليكون الرسول ـ في رسالته ـ إنسان التغيير الداخلي والخارجي للذين أقبلوا على رسالته في عملية إيمان وانفتحوا عليه في موقف التزام وتقوى.
ج. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذي أنزله الله ليكون نورا يضيء لهم الطريق، وهدى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السّلام، ويقودهم إلى الصراط المستقيم الذي ينتهي بهم إلى رضوان الله في الدنيا والآخرة.
د. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ التي تمثل خط التوازن في حركة الإنسان في نفسه ومع الإنسان الآخر، ومع الحياة، بعد أن يكون قد انفتح على كل الحكمة في علاقته بالله، فيضع كل شيء في موضعه، ويعطي كل إنسان حقه، وكل شيء حاجته، من دون زيادة أو نقصان؛ وبذلك، أي بهذه المعرفة الكتابية التي تمثل الهدى في خط وعي النظرية على مستوى القاعدة الفكرية، والمعرفة التطبيقية العملية ـ في معنى الحكمة ـ على أساس حركة الإنسان في هدى السلوك الواقعي، بذلك تكمن قيمة الإسلام في عطائه الفكري والعملي للإنسان المتمثل بهؤلاء الذين انطلقوا في التزامهم الإسلامي في طريق الإيمان.
7. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ في جاهليتهم السابقة على الإيمان ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ في المتاهات الضائعة في خيالات السراب، وامتداد الرمال إلى ما يشبه اللانهاية، وسيطرة الظلام الروحي على كل آفاق الذات.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/362.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة (بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم) صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد (معركة أحد) وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.
2. الجدير بالاهتمام ـ في المقام ـ هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة (منّ) التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادئ الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو: ان المن ـ كما قال الراغب في مفرداته: هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة: المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال: من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظّم أحد ـ في القول والادعاء ـ ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح، وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاما للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.
3. تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو هداية عموم البشر، لأن المؤمنين هم الذين يستفيدون ـ بالنتيجة والمآل ـ من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملا دون غيرهم.
4. ثمّ إن الله سبحانه يقول: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ إحدى مميزات هذا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ احتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريبا عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام الإنسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة، هذا مضافا إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيرا، وأقوى أثرا من التبليغ بأية وسيلة أخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلّغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية، وبذات غرائزه وبنائه الروحي، فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة ـ مثلا ـ كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا: إذا كان الأنبياء لا يعصون أبدا، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة، وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها، ولهذا اختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، واحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان.
5. ثمّ إن الله سبحانه يقول واصفا مهمات هذا النبي العظيم: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوم بثلاثة أمور في حقّهم:
أ. تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.
ب. تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.
ج. تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية.
6. لكن حيث إن الهدف الأصلي هو (التربية) لذلك قدمت على (التعليم) مع أن الحال ـ من حيث الترتيب الطبيعي ـ تقتضي تقديم التعليم على التربية.
7. إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم للتربية، فلا بدّ أولا من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك.
8. ثمّ إن هناك احتمالا آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم الواقعيين، تماما مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من النقوش القبيحة أولا، ولهذا السبب قدمت التزكية في الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية.
9. إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وكأن القرآن يخاطبهم قائلا: ارجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم؟
10. إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله: ﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ لأن للضلال أنواعا وأصنافا: فمن الضلال ما لا يمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور اهتدى إلى الصواب وأدرك الخطأ فورا.
11. لقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، ومجيء الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل، وغير ذلك من حالات الانحطاط والسقوط والفساد سائدا في كلّ أرجاء المعمورة في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافيا على أحد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/766.
89. المصائب والكسب والقدر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈89⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 165 ـ 166]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) أنّه قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه؛ فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، قال بأخذكم الفداء(1).
__________
(1) أحمد: ١/٣٣٤.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمد، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس، فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا بعدتهم، فليس في ذلك ما نكره، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
__________
(1) الترمذي: ٣/٣٩٥.
(2) قال الدارقطني في العلل: 4/31: والمرسل أشبه بالصواب.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ﴾ إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون؟ فقال: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ عقوبة بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال: لا تتبعوهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٨.
(2) ابن المنذر: ٢/٤٨٠.
السلماني:
روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم)، قالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعدتهم(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. روي أنّه قال: قال أسر المسلمون من المشركين سبعين، وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، فتقووا به على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون، أو تقتلوهم)، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون، قال فأخذوا الفدية منهم، وقتلوا منهم سبعين، قال عبيدة: وطلبوا الخيرتين كلتيهما(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ الآية، يعني بذلك: أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ أصاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر من المشركين أن قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وأصيب يوم أحد من المسلمين سبعون رجلا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ بأي ذنب هذا؟(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٨.
(2) ابن المنذر: ٢/٤٨٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين، فذلك قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون؟: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال ما قال(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٦.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، قالوا: فإنما أصابنا هذا لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى، وعصينا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، فمن قتل منا كان شهيدا، ومن بقي منا كان مطهرا، رضينا بالله ربنا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال: لا تتبعوهم) يوم أحد، فاتبعوهم(1).
3. روي أنّه قال في الآية: لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا: من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا، فلما رأى الله ما قالوا من ذلك قال الله: هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر، فردهم الله بذلك، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا؛ ليسلموا منها في الآخرة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة، فكانوا قد أصابوا مثلها يوم بدر ممن قتلوا وأسروا، فقال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون: (إنا في جنة حصينة ـ يعني بذلك: المدينة ـ فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم)، فقال له ناس من الأنصار: إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع فيه، فابرز بنا إلى القوم، فانطلق، فلبس لأمته، فتلاوم القوم، فقالوا: عرض نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر وعرضتم بغيره! اذهب يا حمزة، فقل له: أمرنا لأمرك تبع، فأتى حمزة فقال له، فقال: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز، وإنه ستكون فيكم مصيبة)، قالوا: يا نبي الله، خاصة أو عامة؟ قال: سترونها(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣٨.
(2) ابن جرير: ٦/٢١٥.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ أي: من أين هذا؟ ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أنكم عصيتم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾، وذلك أن سبعين رجلا من المسلمين قتلوا يوم أحد؛ يوم السبت في شوال، لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقتل من المشركين قبل ذلك بسنة ـ في سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ـ ببدر سبعين رجلا، وأسروا سبعين رجلا من المشركين، فذلك قوله سبحانه: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ من المشركين يوم بدر(1).
2. روي أنّه قال: بمعصيتكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وترككم المركز، ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من النصرة والهزيمة قدير(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ من القتل والهزيمة بأحد ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المؤمنين، وجمع المشركين: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أصابكم ذلك، ثم قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ وليرى إيمانكم، يعني: ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ صبرهم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣١١.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان، ١/٢٠١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم، فقال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم فبذنوبكم، قد أصبتم مثليها قتلا من عدوكم في اليوم الذي كان قبله ببدر، قتلى وأسرى، ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أنكم أحللتم ذلك بأنفسكم، ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: أن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفوه قدير(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢١٨.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾، الإذن من الله على معنيين:
أ. فأما أحدهما: فإذن أمر وإرادة، وحكم ومشيئة؛ وذلك قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، فهذا معناه معنى: حكم بالزيادة للشاكرين، وبالعذاب للكافرين، وكذلك قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]
ب. وأما المعنى الآخر: فإذن تخلية وإمهال للعصاة، فيما يكون منهم من العصيان؛ فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾، يعنى تعالى: بتخلية الله لهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/193.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ يوم أحد؛ حيث قتل منكم سبعون، ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾:
أ. قيل: يوم بدر: قتلتم سبعين وأسرتم سبعين.
ب. وقيل: إن ذلك كله يوم أحد كانت الدائرة: إن أصابكم في آخره ما أصاب، فقد أصابهم ـ أيضا ـ مثلاها؛ يذكر هذا لهم على التسلى بما أصيبوا؛ ليتسلى ذلك عنهم، أو يذكرهم نعمه عليهم بما أصيب المشركون مثلى ذلك؛ ليشكروا له عليها، وليعلموا أنهم لم يخصّوا هم بذلك.
2. ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ كأنه يعاتبهم بقولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾ فقال ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم، والخلاف لنبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئا عن ارتكاب المنهي والخلاف لأمره، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء في سبيل الله، وهم مشركون!؟ فقال: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يقول: بمعصيتكم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبترككم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره؛ كقوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]
3. قوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء، أي: لو كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من النصر له والرسالة حقّا؛ فمن أين بلى بهذا!؟ وذلك كقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران: 154]، وقولهم يوم الخندق: ﴿مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 12]، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام
ب. وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به، وهم أنصار دين الله، وقد وعد لأنصار دينه النصر، وإن الذي ينصره الله لا يغلبه شيء، وكان قد وعدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، أو بما كانوا رأوا الدّبرة عليهم والهزيمة من الأعداء، فيقولون: بم انقلب علينا الأمر؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن الله، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم: فجائز ذلك بحق المحنة؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر، وللاجتماع على الطاعة أدعى؛ إذ المحنة بمثله تدعو كلا إلى اتقاء الخلاف، ومنع إخوانه ـ أيضا ـ عن ذلك؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين، والله أعلم.
4. ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من النصر والهزيمة، ولكن ما أصابكم إنما أصاب بمعصيتكم ربكم، وخلافكم رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو أصابكم؛ محنة منه إياكم.
5. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المؤمنين، وجمع المشركين، ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾:
أ. قيل: فبمشيئة الله وإرادته.
ب. وقيل: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾: فبتخلية الله إياكم لما لعلهم رأوا النصر والغلبة بالكثرة، أو بالقوة والعدة؛ فخلاهم الله بينهم وبين عدوهم؛ ليعلموا أن أمثالهم مع قلتهم وضعفهم لا ينتصرون من أمثال أولئك مع كثرة عددهم، وقوّة أبدانهم، وعدتهم في سلاحهم، ولكن بالله ينتصرون منهم، ويتغلبون عليهم.
ج. وقيل: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ بعلم الله، أي: يعلم الله ما يصيبكم من خير أو شرّ، ليس عن سهو وغفلة منه يصيبكم.
6. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿أَولَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ـ: كيف عم هؤلاء بالعقوبة، وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل، والجواب: لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء، لا مخرج الجزاء لفعلهم، ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر أو عصيان، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان أو خلاف في أمر ـ لم يؤاخذ غير مرتكبها؛ لقوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15]، وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم؛ لما ذكرنا أن له ابتداء امتحان، أو إن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم؛ فعمهم لذلك بذلك، كقطّاع الطريق وكسرّاق أن تعمهم العقوبة جميعا: من أخذ ومن لم يأخذ، ومن تولى ومن لم يتولّ؛ فكذلك هذا، أو كانوا جميعا كنفس واحدة؛ فعمهم بذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/523.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾: أي وما أصابكم من لقاء الجهاد، فإنما هو بأمر الله ليميز لرسوله بين المؤمنين والمنافقين حتى يعلم ذلك، ولكنه اختصر.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 266.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يعني المصيبة التي أصابتهم يوم أحد وبالذي أصابوا بها يوم بدر ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ وفي الذي هو من عند أنفسهم خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم أن يتحصنوا بها وقيل اختيارهم الفداء من السبعين يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم إن فعلتم ذلك قتل منكم مثلهم فهذا كان اختيارهم، وقيل: إن الرماة خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد في ملازمة موضعهم.
2. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي بأمر الله وعلمه وذلك ليميز المؤمنين من المنافقين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/157.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يعني بالمصيبة التي أصابتهم يوم أحد، وبالتي أصابوها يوم بدر.
2. في الذي هو من عند أنفسهم في قوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم أن يتحصنوا بها، وهذا قول قتادة، والربيع.
ب. الثاني: اختيارهم الفداء من السبعين يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم إن فعلتم ذلك قتل منكم مثلهم، وهذا قول علي، وعبيدة السلماني.
ج. الثالث: خلاف الرماة يوم أحد لأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ملازمة موضعهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/435.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنما دخلت الواو في ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ﴾ لعطف جملة على جملة إلا أنه تقدمها ألف الاستفهام، لأن له صدر الكلام، وإنما اتصل الواو الثاني بالأول ليدل على تعلقه به في المعنى، وذلك أنه وصل التقريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة لفرقة واحدة.
2. المصيبة التي أصابت المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد، فإنه قتل منهم سبعون رجلا وكانوا هم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها، فإنهم كانوا قتلوا من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين في ـ قول قتادة، والربيع، وعكرمة، والسدي ـ فقال الزجاج: لأنهم أصابوا يوم أحد منهم مثلهم، ويوم بدر مثلهم، فقد أصابوا مثليهم، وهذا ضعيف، لأنه خلاف لأهل السير، لأنه لا خلاف أنه لم يقتل من المشركين مثل من قتل من المسلمين بل قتل منهم نفر يسير، فحمله على ما قاله ترك الظاهر.
3. قوله: حكاية عن المسلمين ﴿أَنَّى هَذَا﴾ أي من أين هذا.
4. في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال قتادة، والربيع: لأنهم اختلفوا في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد وكان دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها، فقالوا كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية، ونحن في الإسلام، وأنت يا رسول الله نبينا أحق بالامتناع وأعز.
ب. الثاني: روي عن علي عليه السلام وعبيدة السلماني أن الحكم كان في أسرى بدر القتل، فاختاروا هم الفداء، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم، فقالوا: رضينا بذلك، فانا نأخذ الفداء وننتفع به، وإذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ج. الثالث: لخلاف الرماة يوم أحد لما أمرهم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ملازمة موضعهم.
5. ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ معناه هاهنا أنه على كل شيء قدير يدبركم بأحسن التدبير من النصر مع طاعتكم وتركه مع المخالفة إلى ما وقع به النهي، وهذا جواب لقوله: ﴿أَنَّى هَذَا﴾ وقد تقدم الوعد بالنصرة.
6. في الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة: بأن المعاصي كلها من فعل الله، لأنه تعالى قال: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ولو لم يكن فعلوه، لما كان من عند أنفسهم كما أنه لو فعله الله، لكان من عنده.
7. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يعني يوم أحد وما دخل عليهم من المصيبة بقتل من قتل من المؤمنين.
8. في قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: بعلم الله، ومنه قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ﴾ معناه اعلموا ومنه قوله: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ﴾ أي إعلام، ومنه ﴿آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ يعني أعلمناك.
ب. الثاني: أنه بتخلية الله التي تقوم مقام الإطلاق في الفعل برفع الموانع، والتمكين من الفعل الذي يصح معه التكليف، ولا يجوز أن يكون المراد به بأمر الله، لأنه خلاف الإجماع، لأن أحداً لا يقول: إن الله يأمر المشركين بقتل المؤمنين، ولا أنه يأمر بشيء من القبائح، ولأن الأمر بالقبيح قبيح، لا يجوز أن يفعله الله تعالى.
9. يمكن أن يحمل قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ مع تسليم أنه بأمر الله بأن يكون ذلك مصروفاً إلى المنهزمين المعذورين بعد إخلال من أخل بالشعب، وضعفهم عن مقاومة عدوهم، وان حمل على الجميع أمكن أن يكون ذلك بعد تفرقهم وتبدد شملهم وانفساد نظامهم، لأن عند ذلك أذن الله في الرجوع وألا يخاطروا بنفوسهم.
10. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يقول القائل: المعاصي تقع بإذن الله، كما قال: ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ من إيقاع المشركين بكم ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾؟ والجواب: لا يجوز ذلك لأن الله تعالى إنما خاطبهم بذلك على وجه التسلية للمؤمنين، فدل ذلك على أن الاذن المراد به التمكين ليتميزوا بظهور الطاعة منهم، وليس كذلك قولهم: المعاصي بإذن الله، لأنه لما عري من تلك القرينة صار بمعنى اباحة الله، والله تعالى لا يبيح المعاصي، لأنها قبيحة، ولأن إباحتها تخرجها من معنى المعصية.
11. الفاء انما دخلت في قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ ولأن خبر (ما) التي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء، لأنه معلق بالفعل في الصلة كتعليقه بالفعل في الشرط، كقولك الذي قام فمن أجل أنه كريم أي، لأجل قيامه صح أنه كريم، ومن أجل كرمه قام، وقد قيل أن (ما) هي بمعنى الجزاء، ولا يصح هاهنا لأن الفعل بمعني المضي.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/41.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. مِثْلُ الشيء شبهه، وحد المثلين ما يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالجوهرين السوادين، والأشياء على ثلاثة أضرب: متماثل، ومختلف، ومتضاد، ومثليه: ضعفيه.
ب. الالتقاء أن يصيرا بحيث يلقى أحدهما صاحبه.
2. عاد الكلام إلى ذكر الجهاد، وما كان منهم يوم أحد ويوم بدر، وما قاله المنافقون فقال سبحانه ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ يعني حين أصابكم القتل والجرح بأحد، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين سبعين ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿مِثْلَيْهَا﴾ ببدر فإنه:
أ. قتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون عن قتادة وعكرمة والربيع والسدي.
ب. وقيل: قتل منهم ببدر سبعون، وبأحد سبعون.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾:
أ. قيل: يعني من أي وجه أصابنا هذا، ونحن مسلمون، وفينا رسولْ الله، وينزل عليه الوحي وهم مشركون!؟
ب. وقيل: إنهم استنكروا ذلك للوعد الذي وعدهم أن ينصرهم إن أطاعوه عن أبي علي.
4. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿هُوَ﴾ يعني ما أصابكم من الهزيمة والقتل ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي لمخالفتكم أمر ربكم، وترككم طاعة الرسول لا لخلف وعد من جهته تعالى؛ لأنه وعد النصر إن أطعتم.
5. اختلفوا في الخطيئة التي أدتهم إلى تلك المصيبة على أقوال:
أ. الأول: هي خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد، وقد كان دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن يتحصنوا بها، ويدعو المشركين إلى أن يقصدوهم فيها، فقالوا: كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فنحن بالإسلام أحق؛ لأنا به أعز عن قتادة والربيع.
ب. الثاني: اختيارهم الفداء من الأسرى يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم: إن فعلتم ذلك قتل منكم بعدتهم، عن علي وعبيدة السلماني.
ج. الثالث: خلاف الرماة لما أمرهم به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من ملازمة موضعهم.
د. الرابع: من عند أنفسكم أي لفشلكم وتنازعكم وعصيانكم فاتقوا ذلك.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾:
أ. قيل: وإن لم ينصركم في الحال لمخالفتكم فهو قادر على نصركم.
ب. وقيل: يدبركم بأحسن التدبير من النصرة مع طاعتكم، وتركه مع المخالفة.
7. هذا جواب لقولهم ﴿أَنَّى هَذَا﴾، وقد تقدم الوعد بالنصر ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جَمْعُ المسلمين وجمع المشركين يوم أحد.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾:
أ. قيل بتخليته التي تقوم مقام الإطلاق في الفعل.
ب. وقيل: بإذنه بعلمه، ومنه ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ﴾ أي إعلام، ولا يجوز حمله على الأمر؛ لأنه تعالى نهى المشركين عن قتال المؤمنين ومخالفة الرسول، فلا يجوز أن يأمرهم به
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الواو في قوله: ﴿أَوَلَمَّا﴾ واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة كما كانت من [قبل]
ب. دخلت الواو في ﴿أَوَلَمَّا﴾ لعطف جملة على جملة، إلا أنه تقدمها ألف الاستفهام؛ لأن له صدر الكلام، فإنما اتصل الواو الثاني بالواو الأول ليدل على تعلقه به في المعنى، وذلك أنه وصل التقريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة لتفرقة واحدة.
ج. دخلت الفاء في ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ لأن خبر ﴿مَا﴾ التي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء من جهة أنه معلق بالفعل في الصلة كتعليقه بالفعل في الشريطة كقولك: الذي قام فمن أجل أنه كريم، أي لأجل قيامه صح أنه كريم، ومن أجل كرمه قام.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/448.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم عاد الكلام إلى ذكر الجهاد فقال: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها﴾ أي: حين أصابكم القتل والجرح، وذلك ما أصاب المسلمين يوم أحد:
أ. فإنه قتل من المسلمين سبعون رجلا، وكانوا هم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها، فإنهم كانوا قتلوا من المشركين سبعين رجلا، وأسروا سبعين، عن قتادة وعكرمة والربيع والسدي، أي: وقد أصبتم أيها المسلمون يوم بدر مثليها.
ب. وقيل: قتلتم منهم ببدر سبعين، وبأحد سبعين، عن الزجاج، وهذا ضعيف لأنه خلاف ما ذكره أهل السير، فإنه لا خلاف بينهم أنه قتل منهم بأحد نفر يسير، فقوله خلاف الجمهور.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾:
أ. قيل: أي: من أي وجه أصابنا هذا، ونحن مسلمون، وفينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينزل عليه الوحي، وهم مشركون؟
ب. وقيل: إنهم إنما استنكروا ذلك لأنه وعدهم بالنصر من الله إن أطاعوه، عن الجبائي.
3. ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: قل يا محمد: ما أصابكم من الهزيمة والقتل، من عند أنفسكم أي: بخلافكم أمر ربكم، وترككم طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه أقوال:
أ. أحدها: إن ذلك بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم إلى أن يتحصنوا بها، ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها، فقالوا: كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية، ونحن الآن في الاسلام، وأنت يا رسول الله نبينا، أحق بالامتناع وأعز، عن قتادة والربيع.
ب. ثانيها: إن ذلك باختيارهم الفداء من الأسرى يوم بدر، وكان الحكم فيهم القتل، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء، قتل منكم في القابل بعدتهم، فقالوا: رضينا، فإنا نأخذ الفداء، وننتفع به، وإذا قتل منا فيما بعد، كنا شهداء، عن علي عليه السلام وعبيدة السلماني، وهو المروى عن الباقر عليه السلام.
ج. ثالثها: إن ذلك بخلاف الرماة يوم أحد، لما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم به من ملازمة مراكزهم (إن الله على كل شيء قدير) أي: فهو قادر على نصركم فيما بعد، وإن لم ينصركم في الحال لمخالفتكم.
4. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين، يعني يوم أحد من النكبة بقتل من قتل منكم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾:
أ. قيل: أي: بعلم الله ومنه قوله ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ﴾ أي: إعلام.
ب. وقيل: بتخلية الله بينكم وبينهم التي تقوم مقام الإطلاق في الفعل، برفع الموانع، والتمكين من الفعل الذي يصح معه التكليف.
ج. وقيل: بعقوبة الله، فإن الله تعالى جعل لكل ذنب عقوبة، وكان ذلك عقوبة لهم من الله، على ترك أمر رسول الله.
6. لا يجوز أن يكون المراد بالإذن هاهنا الإباحة والإطلاق، كما يقتضيه اللفظ، لأن الله لا يبيح المعاصي، ولا يطلقها، وقتل الكافر المسلم من أعظم المعاصي، فكيف يأذن فيه؟
7. مسائل لغوية ونحوية:
أ. إنما دخلت الواو في (أو لما) لعطف جملة على جملة، إلا أنه تقدمها ألف الاستفهام، لأن له صدر الكلام، وإنما وصلت هذه الواو الكلام الثاني بالأول، ليدل على تعلقه به في المعنى، وذلك أنها وصلت التفريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة، لفرقة واحدة.
ب. الفاء إنما دخلت في قوله ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ لأن خبر ﴿مَا﴾ الذي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء، لأنه معلق بالفعل في الصلة، كتعليقه بالفعل في الشرط، كقولك: الذي قام فمن أجل أنه كريم أي: لأجل قيامه صح أنه كريم، ومن أجل كرمه قام.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/877.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾، قال عمر بن الخطّاب: لمّا كان يوم أحد، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفرّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكسرت رباعيّته، وهشّمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ قال: بأخذكم الفداء.
2. ﴿أَوَلَمَّا﴾ قال الزجّاج: هذه واو النّسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلّم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له: أو هو ممّن يقول ذلك؟ فأمّا (المصيبة) فما أصابهم يوم أحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لأنّهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، والضّحّاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجّاج قال قد أصبتم يوم أحد مثلها، ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين.
3. ﴿أَنَّى هَذَا﴾، قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون؟
4. في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطّاب، وقال عليّ بن أبي طالب: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدّتهم، فذكر ذلك للناس، فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدّتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون، عدد أسارى بدر، فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداء، واختياركم القتل لأنفسكم(2).
ب. الثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرّماة يوم أحد، وتركهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس، ومقاتل في آخرين.
ج. الثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد، فإنه أمرهم بالتّحصّن فيها، فقالوا: بل نخرج، قاله قتادة، والرّبيع.
5. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الجمعان: النبيّ وأصحابه، وأبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم.
6. في قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أمره.
ب. الثاني: قضاؤه، رويا عن ابن عباس.
ج. الثالث: علمه، قاله الزجّاج.
__________
(1) زاد المسير: 1/345.
(2) الترمذي 1567 والنسائي في (الكبرى) 8662، وهو حديث ضعيف
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد: وهو المراد من قولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾، وأجاب الله عنه بقوله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم.
2. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ المراد منها واقعة أحد، وفي قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.
ب. الثاني: أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر، وهزموهم أيضا في الأول يوم أحد، ثم لما عصوا هزمهم المشركون، فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة، وهذا اختيار الزجاج: وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال: كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد، ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر.
3. الفائدة في قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة.
4. ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق، ومعنا الرسول، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر، فكيف صاروا منصورين علينا! وقد أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين:
أ. الأول: ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فإذا أصبتم منهم مثلي هذه الواقعة فكيف تستبعدون هذه الواقعة؟
ب. الثاني: قوله قل: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾
5. تقرير هذا الجواب ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ من وجهين:
أ. الأول: أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور:
• أولها: أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى هاهنا، وهم أبوا إلا الخروج، فلما خالفوه توجه إلى أحد.
• ثانيها: ما حكى الله عنهم من فشلهم.
• ثالثها: ما وقع بينهم من المنازعة.
• رابعها: أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع.
• خامسها: اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في محاربة العدو، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾ [آل عمران: 125] فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.
ب. الثاني: في التأويل: ما روي عن علي أنه قال جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر، فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك لقومه، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم، فنتقوى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي بأخذ الفداء واختياركم القتل.
6. استدل المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ ـ ومن وافقهم ـ على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ من وجوه:
أ. أحدها: أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه، كان قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ كذباً.
ب. ثانيها: أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم، فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب.
ج. ثالثها: أن القوم قالوا: ﴿أَنَّى هَذَا﴾، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.
7. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ عما ذكروه: أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بإيجاد الله تعالى.
8. ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي إنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم، واحج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا: إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه، وإذا كان الله قادرا على إيجاده، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجداً له يفضي إلى هذا المحال، وجب أن لا يكون العبد موجدا له.
9. قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ متعلق بما تقدم من قوله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ [آل عمران: 165] فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق.
10. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ المراد يوم أحد، والجمعان: أحدهما: جمع المسلمين أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الثاني: جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان.
11. في قوله تعالى: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ وجوه:
أ. الأول: أن إذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة، استعار الاذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
ب. الثاني: فبإذن الله: أي بعلمه كقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ﴾ [التوبة: 3] أي إعلام، وكقوله: ﴿آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ [فصلت: 47]، وقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ﴾ [البقرة: 279] وكل ذلك بمعنى العلم، وطعن الواحدي فيه فقال: الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: 11]
ج. الثالث: أن المراد من الاذن الأمر، بدليل قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: 152] والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
د. الرابع: وهو المنقول عن ابن عباس: أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى الله.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/421.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ الألف للاستفهام، والواو للعطف، ﴿مُصِيبَةٍ﴾ أي غلبة، ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين، والأسير في حكم المقتول، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد، أي فهزمتموهم يوم بدر ويوم أحد أيضا في الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من عشرين، قتلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم أحد.
2. ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهم مشركون؟
3. ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني مخالفة الرماة، وما من قوم أطاعوا نبيهم في حرب إلا نصروا، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، وقال قتادة والربيع بن أنس: يعني سؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخرج بعد ما أراد الإقامة بالمدينة، وتأولها في الرؤيا التي رآها درعا حصينة، قال علي بن أبي طالب: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل، وقد قيل لهم: إن فاديتم الأسارى قتل منكم على عدتهم، وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأسارى يوم بدر: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم)، فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة، فمعنى ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ على القولين الأولين بذنوبكم، وعلى القول الأخير باختياركم.
4. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يوم أحد؛ أي: ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي بعلمه، وقيل: بقضائه وقدره، قال القفال: أي فبتخليته بينكم وبينهم، لا أنه أراد ذلك، وهذا تأويل المعتزلة، ودخلت الفاء في ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ لأن ﴿مَا﴾ بمعنى الذي، أي والذي أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، فأشبه الكلام معنى الشرط، كما قال سيبويه: الذي قام فله درهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/265.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف، والمصيبة: الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد، ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ يوم بدر، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون، وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد؛ والمعنى: أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا بالنصر.
2. ﴿أَنَّى هَذَا﴾ أي: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.
3. ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب، أي: هذا الذي سألتم عنه، وهو من عند أنفسكم، بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال وقيل: إن المراد بقوله: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ خروجهم من المدينة، ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك؛ وقيل: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل.
4. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ يوم أحد؛ أي: ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ فبعلمه، وقيل: بقضائه وقدره؛ وقيل بتخليته بينكم وبينهم، والفاء: دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط كما قال سيبويه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/455.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ الهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد، أو على محذوف مثل: أفعلتم كذا وقلتم، و(لما) ظرفه المضاف إلى أصابتكم، أي حين أصابتكم مصيبة، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين: من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر.
2. ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة، قال ابن القيم: وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، وقال: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79] فالحسنة والسيئة هاهنا النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله، والثاني عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه، وختم الآية الأولى بقوله: ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ بعد قوله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر، والثاني ينفي القول بإبطال القدر، فهو شاكل قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 28 ـ 29]، وفي ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه، كشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
3. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار، فالإذن هنا هو الإذن الكونيّ القدريّ، لا الشرعيّ الدينيّ، كقوله في السحر: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: 102]
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/454.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا﴾ الهمزة مِمَّا بعد الواو، والعطف عَلَى ما قبلُ، أو العطف عَلَى محذوف، أي: أتنسون النصر السابق ببدرٍ ومبدأِ أُحد، وتركَ المركز والإلحاحَ بالخروج وقد كرهه صلّى الله عليه وآله وسلّم وَلَمَّا ﴿أَصَابَتْكُم﴾، وأجيز كون هَذِهِ الواو استـئنافا، ولا يثبت عندي واو الاستئناف؛ لأَنَّ الاستئناف غير معنى، كما قال ابن هشام: (إنَّ الاستفتاح غير معنى)؛ وليس من ذلك قولنا: (مِنْ) للابتداء؛ لأَنَّ المعنى أنَّ (مِنْ) تدلُّ عَلَى بدء الشيء من كذا، وَهَذَا مَعنًى صحيح.
2. ﴿مُّصِيبَةٌ﴾ فِعْلَةٌ مصيبة من المشركين بأُحد، موصوفة بما في قوله: ﴿قَدَ اَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا﴾، أو والحال أنَّكم قد أصبتم منهم مثليها ببدر، قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، والأسر كالقتل، ولم يأسر المشركون بأُحد أَحدا، ولا مانع من أن يكونوا قتلوا أوَّل أُحد سبعين، والأشهر أنَّهم قتلوا أقلَّ، وقيل: قتلوا سبعين، وقيل: خمسا وسبعين، وأسروا سبعين كما مَرَّ، وقيل: المِثلان: الهزيمتان، هَزموا المشركين يوم بدر، وهزموهم أوَّل مرَّة في أُحد.
3. ﴿قُلْتُم﴾ ما قبلَ (لَمَّا) مسلَّط عَلَى جوابها، أي: أَقُلتم لَمَّا أصابتكم؟ ﴿أَنَّى﴾ من أين ﴿هَذَا﴾؟، وقدَّر بعض: (أنَّى أصابنا هَذَا؟)، أي: هَذَا الذي أصابنا من القتل والانهزام، مع أنَّا مؤمنون بنصر الله ورسوله، يقوله المنافقون إنكارا لنبوءته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وضعفاء المؤمنين تعجُّبا وطلبا لوجه ذلك.
4. ﴿قُلْ هُوَ﴾ أي: الذي أصابكم ﴿مِنْ عِندِ أَنفُسِكُم﴾ بإلحاحكم بالخروج إِلَى أُحد وترك المركز، وبما روي ـ إن صحَّ ـ أنَّ جبريل عليه السلام جاء إِلَى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر فقال: (إنَّ الله كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيِّرهم بين قتل الأسرى وبين أن يأخذوا الفداء عَلَى أن يقتل منهم عدَّة الأسرى في حرب أخرى)، فقالوا: (يا رسول الله، نأخذ الفداء نتقوَّى به، ونقتل منَّا بعدَّتهم شهداء، لا نقتلهم وهم عشائرنا وإخواننا)، فكان القتل بأحد، ويكون الجواب بـ (مِنْ) ترجيح أن يقدَّر معنى (أَنَّى) بـ (من أين)، ولا يتعيَّن ذلك لجواز أن يتخالفا بذلك مع صحَّة المعنى.
5. ﴿إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من النصر وغيره ﴿قَدِيرٌ﴾ فمن ذلك نصره لكم حين وافقتم، وخذلانه لكم حين خالفتم، وقيل: وعد بالنصر بعدُ، فيكون جمع التوبيخ والوعد.
6. ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جمع المشركين وجمع المؤمنين من قتلٍ وهزمٍ، وَهُوَ يوم أُحد، ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ بقضائه بإدالة الكفَّار عليكم، أو بتسليطه إيَّاهم عليكم، والتخلية من لوازم الإذن، وهي مرادة في التسليط، أو بعلمه كقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ﴾ [التوبة: 3]، أي: إعلام، إِلَّا أنَّ الإخبار بِأَنَّ ذلك بعلمه لا يفيد التسلية، والمقام لها، ومعلوم أنَّ علمه عامٌّ، وما أصابهم يوم التقى الجمعان شَيء معلوم عندهم لا عموم وإبهام، فلا تكون موصولة عامَّة تشبه الشرطيَّة فتكون الفاء بعدها، ولا شرطيَّةً لعدم العموم، الجواب أنَّها موصولة عامَّة أو شرطيَّة، وجه العموم أن تقدّر: وما يتبيَّن أنَّه أصابكم، أو ما أصابكم كائنا ما كان، وذلك من تقدير الإبهام والعموم في المعلوم المخصوص، وإذا جعلت شرطيَّة فالتقدير: (فهو بإذن الله)؛ لأَنَّ الجواب لَا بُدَّ أن يكون جملة أو فعلا، ويجوز تقديره هنا فعلاً يصحُّ شرطا، ومع ذلك يقرن بالفاء للفصل بينه وبين الفاء بِشَيءٍ هكذا: (فبإذن الله وقع)، يقال: إن جاء زيد فبالدراهم يُكرَمْ، بالفاءِ مع جزمِ يكرمْ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/52.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد تبرئة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغلول وبيان ما بعث لأجله عاد الكلام إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة في واقعة أحد والرد على المنافقين بيان ضلالهم في أقوالهم وأفعالهم، قال تعالى: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا﴾ قال المفسرون: إن الاستفهام الأول للتقريع و(لما) بمعنى (حين) المصيبة ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم وقد تقدم بيانه، والمشهور أن معنى إصابتهم مثليها هو كونهم قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين والمشركون لم يقتلوا منهم يوم أحد غير سبعين رجلا، فجعل الأسرى في حكم القتلى للتمكن من قتلهم، وقال بعضهم إن المراد بالمصيبة الهزيمة وبالمثلين هزيمة المؤمنين للمشركين يوم بدر وهزيمتهم إياهم يوم أحد، ويحتمل أن يكون ما نالوه يوم أحد من المشركين في أول الأمر هو مثلي ما ناله المشركون منهم في ذلك اليوم بعد ترك الرماة مركزهم وإخلائهم ظهور المسلمين لخيل المشركين راجع: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: 152]
2. قولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾؟ هو تعجب منهم، أي من أين جاءنا هذا المصاب، قال محمد عبده: الكلام لتعجبهم وبيان لمنة الله تعالى عليهم حتى في واقعة أحد فإن خذلانهم فيها لم يبلغ مبلغ ظفرهم في بدر، بل كان نصرهم هناك ضعفي انتصار المشركين هنا كأنه يقول: لماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه؟ وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه ومصدره! وقال المفسرون: إن سبب تعجبهم مما أصابهم هو اعتقادهم أنهم لا بد أن ينتصروا وهم مسلمون يقاتلون في سبيل الله وفيهم رسوله.
3. تقدم كشف هذه الشبهة في تفسير الآيات السابقة، وقد ذكر هنا تعجبهم ليبني عليه هذا الجواب وما فيه من الحكم لأولي الألباب، وهو: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ فإنكم أخطأتم الرأي بخروجكم من المدينة إلى أحد وكان الرأي ما رآه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من البقاء فيها، حتى إذا ما دخلها المشركون عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل، وروي هذا عن الربيع، ثم إنكم فشلتم وتنازعتهم في الأمر وعصيتهم الرسول طمعا في الغنيمة ففارق الرماة منكم موقعهم الذي أقامهم فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكر عليكم من ورائكم، هذا المتبادر المشهور والمعقول المعنى الموافق لقاعدة كون العقوبات آثارا لازمة للأعمال.
4. روي عن عكرمة ويروى عن الحسن أن ما حصل يوم أحد من المصيبة كان عقابا على أخذ الفداء عن أسرى بدر الذي عاتب الله عليه نبيه بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: 67] الخ، وقووه بما رواه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي عن علي قال: (جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك ان تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وإما أن يأخذوا منهم الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم، نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر، وأقول: ما أرى أن هذا يصح عن علي رضي الله عنه فإنه بعيد عن المعقول، وكيف يصح والمأثور ان أخذ الفداء كان من رأي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورأي أبي بكر وحاشا لهما ان يرضيا بأخذ مال يعاقبون عليه بقتل سبعين مؤمنا.. وقد تقدم لنا بحث كون العقوبات آثارا طبيعية للأعمال فليرجع إليه من شاء.
5. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لا يعجزه تنفيذ سننه بعقاب المسيء وإثابة المحسن وإقامة النظام العام في الكائنات، يربط الأسباب بالمسببات، فلا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر، ولا بر ولا فاجر، قال محمد عبده بناء على كون وجه تعجبهم هو وجود الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم: أي أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ينفع أمة خالفت السنن والطبائع فلا تغتروا بوجودكم معه، مع المخالفة لله وله، فهو لا يحميكم مما تقتضيه سنن الله فيكم.
6. من مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى: ﴿أو لما﴾ فيه وجهان أحدهما أن همزة الاستفهام قدمت على الواو لأن لها الصدارة والواو عاطفة للجملة الاستفهامية، وثانيهما أن الواو عاطفة لما بعدها على محذوف قبلها هو الجملة الاستفهامية والتقدير: أأخطأتم الرأي في الخروج إلى أحد وفعلتم ما فعلتم من الفشل والعصيان ولم تبالوا بذلك وتفكروا في عاقبته ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا تعجبا منه واستغرابا؟ وقدر بعضهم غير ذلك.
7. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال محمد عبده: أي لا عجزا في القدرة ولا قهرا للإرادة، وهذا صريح في أن قدرته لا يمنعها وجود الرسول فيهم، أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد فهو بإذن الله أي إرادته الأزلية وقضائه السابق بأن تكون السنن العامة في الأسباب والمسببات مطردة فكل عسكر يخطئ الرأي ويعصي القائد ويخلي بين العدو وبين ظهره، يصاب بمثل ما أصبتم أو بما هو أشد منه، هذا هو معنى ما يروى عن ابن عباس من تفسير الإذن هنا بقضاء الله وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين كما قيل وعبرة وعلم عال يجلي لهم قوله السابق في هذا السياق ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وذهب بعض المفسرين إلى أن الإذن هنا عبارة عن التخلية وعدم المعارضة والمنع على سبيل المجاز أي أنه تعالى لم يمنع المشركين من الإيقاع بالمؤمنين بعناية خاصة منه لأنهم لم يستحقوا تلك العناية منه سبحانه وقد فشلوا في الأمر وعصوا الرسول فقد وقع ذلك لأنه تعالى أذن به وأراده.
__________
(1) تفسير المنار: 4/225.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الغلول والخيانة، ثم برأه منه، وبين ما بعث لأجله ـ عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها، وبين خطأهم وضلالهم في أقوالهم وأفعالهم.
2. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ أي لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم في بدر، فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه، فلما ذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه.
3. فائدة قوله تعالى: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ ـ التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة؟
4. كان سبب تعجبهم أنهم قالوا: كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول؛ وهم ينصرون دين الشرك بالله، ومع ذلك ينصرون علينا؟ وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين:
أ. قوله قد أصبتم مثليها.
ب. قوله ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة:
أ. إن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال المصلحة في البقاء في المدينة، فلا نخرج إلى أحد، فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأي ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.
ب. إنكم فشلتم وضعفتم في الرأي.
ج. إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية.
د. إنكم عصيتم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.
5. لا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال، والله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾
6. ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر، فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله في البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.
7. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد، فهو بإذن الله وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها؛ فكل عسكر يخطئ الرأي ويعصى قائده، ويخلّى بين العدو وبين ظهره، يصاب بمثل ما أصبتم به، أو بما هو أشد وأنكى منه، وفي ذلك تسلية للمؤمنين وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 4/125.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يصل الله تعالى الجماعة المسلمة بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج؛ وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين؛ فيكشف لهم عن حكمة ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها؛ وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث، فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق.
2. لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم؛ وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم؛ وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله، وسنة الله لا تحابي أحدا.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.
3. لكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك، ولا يضيع هباء، فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية ـ بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ـ وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف؛ وتؤهل للنصر الموعود؛ وتنتهي بالخير والبركة.. ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته، بل تمدهم بزاد الطريق، مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق.
4. بهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة؛ وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع؛ ويكشف عن السبب القريب من أفعالها؛ كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره سبحانه ويواجه المنافقين بحقيقة الموت، التي لا يعصم منها حذر ولا قعود: ﴿أَولَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾
5. المسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا؛ والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير؛ والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها: أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش، وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم، وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين!
6. يذكرهم الله هذا كله، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر، وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرّضتم أنفسكم لها، فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلما كان أو مشركا، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء!
7. ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته، وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث.
8. ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها، وقدر الله دائما من وراء كل أمر يحدث، ومن وراء كل حركة وكل نأمة، وكل انبثاقة في هذا الكون كله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ لم يقع مصادفة ولا جزافا، ولم يقع عبثا ولا سدى، فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون؛ ومقدر لها علتها ونتائجها؛ وهي في مجموعها ـ ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي ـ تحقق الحكمة الكامنة وراءها؛ وتكمل (التصميم) النهائي للكون في مجموعه! إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية.
9. هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية.. وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة.. وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها.. والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء ـ ومن بينها الإنسان ـ والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة، وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره، فتنطبق عليه، وتؤثر فيه.. ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر الله ومشيئته؛ ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره.. وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل، ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره، فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس، ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها، كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة، ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة.. كلا، ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي.. فالإنسان ليس ندا لله، ولا عدوا له كذلك، والله سبحانه حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض، لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته سبحانه ولا مناهضا لمشيئته، ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير.. ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر؛ وأن يتحرك ويؤثر؛ وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه؛ وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم، وراحة وتعب، وسعادة وشقاوة.. وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته، قدر الله المحيط بكل شيء، في تناسق وتوازن.
10. هذا الذي وقع في غزوة أحد، مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل، فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة، فخالفوا هم عن سنته وشرطه، فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له.. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف، وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور، ومن ضعف أو قصور، وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين ـ من وراء الألم والضر ـ وقد نالوه وفق سنة الله كذلك، فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه، يعينهم الله ويرعاهم، ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي ـ ولو ذاقوا مغبتها من الألم ـ لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد.
11. على هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم، بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة، وهم يواجهون قدر الله، ويتعاملون مع سنته في الحياة؛ وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده، وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء، وأن خطأهم وصوابهم ـ وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم ـ متساوق مع قدر الله وحكمته، وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق:
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/514.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا، ورأوا ما أصيبوا به في أنفسهم وفي إخوانهم هناك، ثم ما وقع في نفوسهم من وساوس وظنون، كلّما خبت جذوتها، وبردت نارها، نفخ فيها المنافقون، والكافرون، فازداد ضرامها، وتسعّرت نارها، وفي هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من الله، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم.. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية.
2. فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد، فقد كان لهم في عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به، نكاية وجراحات في يوم بدر ضعف ما أصابهم به في يوم أحد.. ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عندما أصيبوا به، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم في عدوّهم، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله، فيرون أنهم أرجح كفّة، وأربح صفقة.. وإذن فما ينبغي لهم أن يعجبوا، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم، ويقولوا: (أنّى هذا؟) تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان.
3. ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل في جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال، فذلك الخلل إنما هو في ذات أنفسهم، لا في الدين الذي يجاهدون في سبيله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي بما أحدثتم في هذا اليوم من أمور، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد، وباعدت بينهم وبين الله! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون، وتغيّر ما بأنفسكم، فغيّر الله مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم، قريبا من أيديكم، أمّا الله سبحانه وتعالى فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد.. ذلك مما ينزّه الله عنه: ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدرة مطلقة دائمة، لا تحول ولا تزول أبدا.
4. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ هو عزاء ومواساة للمسلمين، لما أصابهم في تلك المعركة.. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن الله، ولأمور قدّرها الله وأرادها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/636.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ عطف الاستفهام الإنكاري التعجيبي على ما تقدّم، فإنّ قولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾ ممّا ينكر ويتعجّب السامع من صدوره منهم بعد ما علموا ما أتوا من أسباب المصيبة، إذ لا ينبغي أن يخفى على ذي فطنة، وقد جاء موقع هذا الاستفهام بعد ما تكرّر: من تسجيل تبعة الهزيمة عليهم بما ارتكبوا من عصيان أمر الرسول، ومن العجلة إلى الغنيمة، وبعد أن أمرهم بالرضا بما وقع، وذكّرهم النصر الواقع يوم بدر، عطف على ذلك هنا إنكار تعجّبهم من إصابة الهزيمة إيّاهم.
2. (لمّا)، اسم زمان مضمّن معنى الشرط فيدلّ على وجود جوابه لوجود شرطه، وهو ملازم الإضافة إلى جملة شرطه، فالمعنى: قلتم لمّا أصابتكم مصيبة: أنّى هذا.
3. جملة ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ صفة (لمصيبة)، ومعنى أصبتم غلبتم العدوّ ونلتم منه مثلي ما أصابكم به، يقال: أصاب إذا غلب، وأصيب إذا غلب، قال قطريّ بن الفجاءة:
çثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب...جذع البصيرة قارح الإقدامé
4. المراد بمثليها المساويان في الجنس أو القيمة باعتبار جهة المماثلة أي: أنّكم قد نلتم مثلي ما أصابكم، والمماثلة هنا مماثلة في القدر والقيمة، لا في الجنس، فإنّ رزايا الحرب أجناس: قتل، وأسر، وغنيمة، وأسلاب، فالمسلمون أصابهم يوم أحد القتل: إذا قتل منهم سبعون، وكانوا قد قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين، فهذا أحد المثلين، ثم إنّهم أصابوا من المشركين أسرى يوم بدر فذلك مثل آخر في المقدار إذ الأسير كالقتيل، أو أريد أنّهم يوم أحد أصابوا قتلى إلّا أنّ عددهم أقلّ فهو مثل في الجنس لا في المقدار والقيمة.
5. (أنّى) استفهام بمعنى من أين قصدوا به التعجّب والإنكار، وجملة ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ جواب (لمّا)، والاستفهام بأنّى هنا مستعمل في التعجّب.
6. ثم ذيّل الإنكار والتعجّب بقوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إنّ الله قدير على نصركم وعلى خذلانكم، فلمّا عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدّر الله لكم الخذلان.
7. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ عطف على قوله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ [آل عمران: 165] وهو كلام وارد على معنى التسليم أي: هبوا أنّ هذه مصيبة، ولم يكن عنها عوض، فهي بقدر الله، فالواجب التسليم، ثم رجع إلى ذكر بعض ما في ذلك من الحكمة.
8. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ أراد به عين المراد بقوله: ﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ وهي مصيبة الهزيمة، وإنّما أعيد ما أصابكم ليعيّن اليوم بأنّه يوم التقى الجمعان، وما موصولة مضمّنة معنى الشرط كأنّه قيل: وأمّا ما أصابكم، لأنّ قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ معناه بيان سببه وحكمته، فلذلك قرن الخبر بالفاء.
9. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ هو يوم أحد، وإنّما لم يقل وهي بإذن الله لأنّ المقصود إعلان ذكر المصيبة وأنّها بإذن الله إذ المقام مقام إظهار الحقيقة، وأمّا التعبير بلفظ ﴿مَا أَصَابَكُمْ﴾ دون أن يعاد لفظ المصيبة فتفنّن، أو قصد الإطناب.
10. الإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجّه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين، وعدم تدارك ذلك باللطف، ووجه الشبه أنّ الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبه ومراده، ذلك أنّ الله تعالى رتّب الأسباب والمسبّبات في هذا العالم على نظام، فإذا جاءت المسبّبات من قبل أسبابها فلا عجب، والمسلمون أقلّ من المشركين عددا وعددا فانتصار المسلمين يوم بدر كرامة لهم، وانهزامهم يوم أحد عادة وليس بإهانة، فهذا المراد بالإذن.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/279.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام إلى الآن موصول في غزوة أحد وأعقابها، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم، أن يعجبوا لماذا كانت الهزيمة، وإنه لا يصح أن تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا، ولأنه لا عجب في أن يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكى يعتبروا، ويحسنوا التدبير، ويحسنوا الطاعة، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة، ولكى يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها، ولكى يبث في نفوس أهل الإيمان أن الحرب ليست نصرا مستمرا، ولكن العاقبة في النهاية لأهل الحق والعدل والرشاد، وهناك فائدة للهزيمة أنها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لا يؤمن بشيء، ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه، ويخفون ما لا يبدون، فإن الهزيمة في أحد قد كشفت النفاق والمنافقين، بل إن غزوة أحد من أول أمرها قد كشفت النفاق، فقد أخذ المنافقون يثبطون، حتى همت طائفتان أن تفشلا والله وليّهما، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة، ليضعضعوا عزائم المؤمنين، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله، فغزوة أحد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها، وحسبها ذلك فائدة.
2. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القرآن في معنى الخير، وأما الفعل (أصاب) فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء]، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [التوبة]
3. المثل هو المساوى، والمثلان هما ضعف المساوى، والمعنى: أولمّا أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم أنّى هذا؟ وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر، قتلوا نحو سبعين، وأسروا مثلهم، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد.
4. الاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ، وموضع التوبيخ هو قولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾؛ لأن ذلك يدل على التردد والشك أو تسربه إلى قلوبهم، ومعنى ﴿أَنَّى هَذَا﴾: من أين هذا، أي من أين جاءت هذه الهزيمة، وهذا لا يقوله إلا ضعاف الإيمان؛ لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطأهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا: أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، بالمقتلة العظيمة فيهم في بدر، والمقتلة العظيمة في أول الغزوة في أحد، ويصح أن يقال: إن الذين قالوا من أقوياء الإيمان؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويخشون أن يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم.
5. وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم، ويزيل تعجبهم، فقال: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي أن سبب المصيبة منكم أنتم، وقد أكد أنه منهم بإبراز الضمير في الإجابة، وبالإتيان بالظرف وهو عند، وبالتعبير بـ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ التي تدل على التوكيد.
6. وكان سبب الهزيمة منهم لأنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجيء إليهم الأعداء ويقضوا عليهم، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى، وعلى رأيهم، فعليهم أن يتحملوا تبعته، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا، ولأنهم عندما رتب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جيشه ترتيبا حكيما، وأخذ المقاتلون ينفذون الخطة بإحكام، والرماة يحمون ظهورهم، حتى أخذوا يحسّونهم بإذنه، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة، وفروا أمامهم، ترك الرماة أماكنهم، فكان الاضطراب في جيش الحق، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض، وضعف صوت الهادي الرشيد، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة.
7. بيد أن هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحّص المؤمنين، وليبين لهم بالعمل أن طاعة القائد الرشيد سبب النصر، وأن قدرة الله تعالى فوق كل شيء، فهو قادر على كل شيء، كان يستطيع أن ينصركم في هذا المضطرب، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن أن يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب، ولكن الله خوّفهم فرضوا من الغنيمة بالإياب، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته: ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا، فبين سبحانه أن قدرته فوق كل شيء، وأنه سبحانه أراد لكم تلك النتيجة وحماكم من أن تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفهم ذلك الصرف، حتى كأنهم المهزومون وأنتم المنصورون.
8. وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ (إنّ)، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربى المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
9. بين سبحانه عموم إرادته وقدرته فقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي إن ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد وكلاهما قد أصر على أن يكون الموقف حاسما لمصلحته، قد كان بإذن الله تعالى، أي بإرادته الأزلية، وتقديره الحكيم، وقضائه المحكم، فما كان بغير إرادته: بل كان على مقتضى حكمته، ذلك أن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، فمن سلك طريق النصر ينتصر إن خلصت نيته، واستقامت إرادته، وتوكل على الله تعالى، ولا يبغى إلا وجهه سبحانه، وإن طريق النصر أوله انصراف عن المادة لأنها تضعف العزيمة، ثم تنظيم محكم ووضع لكل شخص في موضعه الذي يحكم القيام به، ثم طاعة وإصرار وعزيمة على امتثال الخطة المثلى، ثم ثبات جنان وتصرّف في الشديدة، ولم تكونوا كذلك في هذه المعركة الطاحنة التي اختبرتم فيها اختبارا شديدا، وهو سبيل النصر إن انتفعتم به، فقد شابت نفوس بعضكم المادة وهمت طائفتان أن تفشلا فلم تكن النية المحتسبة، وخالفتم القائد الرشيد، وأفسدتم النظام المحكم، وذهب الهلع بنفوس أكثركم إذ اشتدت الشديدة وقوى البلاء.
10. هنا بحثان لفظيان:
أ. أحدهما: أن الله تعالى عبر في غزوة أحد عن الموقعة بقوله: ﴿الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ وفي ذلك إشارة إلى قوة التجمع في الفريقين، وذلك يدل على أن كل فريق مصر على القتال، مريد للنصر فيه، فهزيمة بدر جمعت المشركين في أحد وجعلت لهم عزيمة مريدة ماضية، وإيمان المؤمنين جعل في أقويائهم رغبة في النصر أو الاستشهاد.
ب. الثاني: أنه سبحانه وتعالى عبر عن إرادته الأزلية بالإذن؛ لأن الإذن هو الإعلان، وقد علمت تلك الإرادة بهذا الأمر الذي وقع، وقد كانت تلك المصيبة التي نزلت لها فوائد؛ أولها: ضرورة الاستمساك بأسباب النصر، وطلبه بأسبابه، وقد أشرنا إلى ذلك، وثانيها.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1492.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ ـ يوم أحد ـ ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ ـ يوم بدر ـ ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾، أي كيف أصابنا هذا، ونحن نقاتل في سبيل الله.. وتوضيح الآية ان وقعة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة، ووقعة احد في السنة الثالثة منها، وكان النصر في بدر للمسلمين، فلقد قتلوا من المشركين سبعين، وأسروا سبعين، وأيضا انتصر المسلمون يوم أحد في الجولة الأولى، وخسروا في الثانية، لأن الرماة خالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسبقت الاشارة إلى ذلك أكثر من مرة، وكان المشركون قد قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعين رجلا.
2. إذا قارنّا بين انتصار المسلمين في بدر، وانتصار المشركين في أحد يكون الرجحان في جانب المسلمين، لأن سبعين قتيلا بسبعين قتيلا، يبقى مع المسلمين سبعون أسيرا من المشركين.. اذن، علام هذه الدهشة من المنافقين وبعض المسلمين، وتساؤلهم: كيف انتصر المشركون يوم أحد، مع انهم أعداء الله؟ ولما ذا تجاهل المنافقون انتصار المسلمين يوم بدر، مع انه كان ضعف انتصار المشركين يوم أحد؟
3. ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، هذا جواب قولهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾ ومعناه أنتم السبب فيما أصابكم، فلقد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البقاء في المدينة وعدم الخروج إلى أحد، فأبيتم إلا الخروج، ولما خرج معكم إلى أحد أمركم أن تلتزموا المراكز التي عينها للرماة، فتركتموها طمعا في الغنيمة.. والخلاصة ان قوله تعالى: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ تماما كقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾
4. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾، المراد باليوم يوم أحد، وبالجمعين المسلمون والمشركون، والمراد بإذن الله علمه تعالى، تماما كقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي فاعلموا، ولا يجوز ان يراد بالاذن هنا الاباحة، لأنه تعالى لا يبيح للكافر قتل المسلم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/199.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، وفيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد، وفيها جواب ما قالوه في المقتولين، ووصف حال المستشهدين بعد القتل وأنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.
2. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم والتحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة والموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم وبعدهم وخروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم وهو معصية الرماة بتخلية مراكزهم، ومعصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك، وبالجملة سببه معصيتهم الرسول ـ وهو قائدهم ـ وفشلهم وتنازعهم في الأمر وذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة والعادة.
3. الآية في معنى قوله: أتدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم وهو إفسادكم سبب الفتح والظفر بأيديكم ومخالفتكم قائدكم وفشلكم واختلاف كلمتكم.
4. وصفت المصيبة بقوله: ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ وهو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد، وهو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر وهو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا، وفي هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم وتحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.
5. قيل: إن معنى الآية: أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة، وذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر، وكان الحكم فيهم القتل، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا: رضينا فإنا نأخذ الفداء وننتفع به، وإذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء، ويؤيد هذا الوجه، بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله: ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف، وسيجيء روايته عن أئمة أهل البيت عليه السلام في البحث الروائي الآتي(2).
6. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ إلى آخر الآيتين، الآية الأولى تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله: ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر، وشرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله، وأما الوجه الأول المذكور وهو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه وبين نسبة المصيبة إلى إذن الله وهو ظاهر، فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، وليكون توطئة لانضمام قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وبانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين وما تكلموا به وجوابه وبيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/59.
(2) سبق ذكرها.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ رجع الكلام فيما يتعلق بيوم أحد، والمصيبة التي أصابت المسلمين فيه هي قتل سبعين رجلاً وجراح أصابتهم، وهزيمتهم، وغَمٌّ وخوف وحزن.
2. ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ هو إصابة المسلمين للكفار يوم بدر وفي معركة أحد، ولكن المسلمين كان بعضهم يعتقد أن النصر معهم على كل حال فلما أصابتهم مصيبة يوم (أحد) قالوا: ﴿أَنَّى هَذَا﴾!؟ أي من أين هذا استغراب لوقوعها ﴿قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ فأنتم سبّبتم له، فكنتم مصدره ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فلم يترك صرف المصيبة لأنه لم يقدر على صرفها، ولكنه لما سبق ذكره من الحكمة وما يأتي.
3. ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ في أحد جمع المسلمين الذي قد كان كافياً لمقاومة العدو وجمع الكفار، ولم يكن التقاء جمع الكفار بأفراد لا يصلحون للمقاومة في مجرى العادة، بل قد بلغوا أنهم جمع وجند وحزب ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:173] ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:56] ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ لأنه لم يغلب ولم ينسكم، ولكنه أراد أن يبتليكم ويؤدبكم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/573.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تستمر الآيات لتعمّق المفاهيم الإسلامية في نفوس المسلمين من خلال معركة أحد، لأن ذلك من أفضل الوسائل التي اتبعها القرآن في أسلوبه التربوي الذي يرتكز على ملاحقة التجربة ورصد خطواتها العملية، والتعرف على ملامح الخطأ والصواب فيها، لمعالجتها من الموقع نفسه، ليلتقي المسلمون بالمفهوم في حركة الواقع عندهم، كما هو الحال في هاتين الآيتين اللتين أشارتا إلى التساؤل المرير الذي كان المسلمون يطرحونه بعد الهزيمة: أنّى هذا؟ وكيف حدثت الهزيمة؟ ولماذا لم ينتصروا وهم جند الله الذين يقاتلون في سبيل الله؟ ولماذا لم ينصرهم الله؟
2. كان هذا التساؤل مريرا مرارة الهزيمة، كانوا ينطلقون فيه من مفهوم خاطئ، وهو أن الله يكفل للمسلمين النصر، وللمؤمنين النجاح، بعيدا عن كل الظروف الطبيعية التي تفرض النصر والهزيمة، وذلك بأن يتدخّل الله بطريقة مباشرة، بما يشبه المعجزة، في آفاق الغيب، كما أرسل الملائكة في بدر ليكونوا معهم في المعركة، ولكنهم لم يعرفوا المفهوم الصحيح الذي قرّره الله في كتابه، فإن الله لم يتعهد للمؤمنين بالنصر والنجاح بطريقة غيبيّة، بل تعهد لهم بذلك من خلال سننه الحتمية في الكون بالانطلاق إلى الهدف من وسائله، وإلى المسبّبات من خلال أسبابها، تماما كما هو الحال في الولادة والوفاة والرزق والغنى والفقر وغير ذلك من الأمور.. التي تخضع لتخطيط حكيم ينظم الواقع على أساس قانون السببيّة، الذي قد يتمثل في الأسباب غير المألوفة أو غير المنتظرة.
3. في ضوء ذلك، فإن المفهوم الذي يرتكز على أساس التدخل المباشر من قبل الله في النصر بعيدا عن أسبابه هو مفهوم خاطئ، لأنه يعني أن الله يلغي سننه القائمة على مصلحة الحياة والإنسان، لوضع طارئ في غير مصلحة الناس الذين يطلبونه لما في ذلك من انعكاس سلبي على حياتهم، فإن المسلمين إذا استراحوا لفكرة النصر الغيبي استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل، وتركوا الجهاد ومهماته، وأقبلوا على اللهو واللعب، في حين لو تعاطوا مع النصر والهزيمة من موقع الأسباب الموجبة لهما، من غير أن يتخلوا عن العمق الروحي للغيب في حياتهم، بما هو مدد رئيسي من إمدادات الطاقة المعنوية التي ترفع درجة استعدادهم وطاقاتهم للبذل والتضحية، لباتت قيمتهما في حياتهم، بما يمثلانه من يقظة ووعي للواقع وانطلاقة جديدة للاستعداد الدائم لكل الأوضاع المستقبلية، بتحضير مقدماتها وأسبابها الطبيعيّة، سواء لتجاوز الهزيمة، أو للظفر بالنصر.
4. هكذا انطلقت الآية لتؤكد المفهوم بالدخول في عملية مقارنة بين ما حدث في بدر وما حدث في أحد، فقد استطاعوا أن ينتصروا في معركة بدر ويصيبوا المشركين بخسارة مضاعفة لهزيمتهم في أحد، لأنهم قتلوا منهم سبعين وأسروا مثل هذا العدد، بينما كانت خسارة المسلمين في أحد سبعين شهيدا، وليس ذلك إلّا لأنهم أخذوا بأسباب النصر هناك من خلال ما يتعلق بحالة الانضباط والاندفاع ومراقبة الله في حركتهم في المعركة، مما جعل الجوّ الروحي معدّا لاستقبال اللطف الإلهي بالنصر، أمّا في أحد، فقد استسلموا لأسباب الهزيمة، فابتعدوا عن الله، الذي لا يمنح الإنسان النصر من موقع الهزيمة، كما لا يجعل الهزيمة في مواقع النصر، لأن ذلك يسيء إلى سنن الله الحتمية في الكون، وهذا ما يتمثل في هذه الآية: ﴿أَولَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها في بدر قُلْتُمْ أَنَّى هذا كيف هذا؟ قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ لأنكم عصيتم الرسول فكان جزاء العصيات هذا الواقع السلبي الذي واجهتموه اليوم ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ فليس هناك شيء بعيد عن قدرته، فهو القادر على النصر لعباده والقادر على أن يبتليهم بالهزيمة من خلال قدرته على الأسباب والمسبّبات.
5. في هذا الجوّ الذي ينطلق فيه السبب من الناس، وتتحرّك السببيّة التي تربط بينه وبين المسبب من قبل الله؛ نلتقي بالآية الثانية التي تجعل الهزيمة الحاصلة بإذن الله، لأن ذلك يصحح نسبتها له، فلولا هذه العلاقة بين الانسحاب من الموقع وبين الهزيمة لما حدثت، ولكن ذلك لا يلغي مسئولية الناس الذين انسحبوا، لأنّ الأمر كان طوع إرادتهم، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ﴾ والمراد بالجمعين: جمع الإيمان وجمع الكفر.
6. وردت كلمة ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ في القرآن في عدة موارد، لتكون تعبيرا عن إرادة الله وسنته في الكون على سبيل الكناية، لأن الله عندما أودع قانون السببية في الكون، فكأنّه أعطى الإذن للمسبب أن يحدث عند حدوث السبب.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/367.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)(1):
1. ﴿أَولَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾ هذه الآية تتضمن دراسة أخرى وتقييما آخر لمعركة أحد وتوضيح ذلك: إن بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج أحد، وكانوا لا يكتمون حزنهم وقلقهم هذا بل طالما كرروه وأظهروه على ألسنتهم، فذكرهم الله ـ في هذه الآية ـ بثلاث نقاط هي:
أ. يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معيّنة، بل عليكم أن تحاسبوا كلّ قضايا المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنه أصابتكم على أيدي أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة أخرى (معركة بدر) لأنهم قتلوا من المسلمين في معركة (أحد) سبعين ولم يأسروا أحدا بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة (بدر) سبعين وأسروا سبعين ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾، وعبارة ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ هي في الحقيقة بمثابة إجابة مقدمة على سؤال.
ب. أنتم تقولون، هذه المصيبة كيف أصابتنا؟ ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ ولكن (قل) أيها النبي: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة، فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم، فأنتم الذين خالفتم أمر الرسول، وتركتم الجبل ذلك الموقع الخطير، وأنتم الذين لم تحسموا المعركة، ولم تذهبوا إلى نهايتها، بل انصرفتم إلى جمع الغنائم بعد انتصار محدود، وأنتم الذين تركتم ساحة المعركة وفررتم ولم تصمدوا عندما باغتكم العدو من الخلف، ومن ناحية الجبل الذي تركتم حراسته، فكلّ هذه العيوب والذنوب، وكلّ هذا الوهن هو الذي سبب تلك الهزيمة النكراء، وأدى إلى قتل تلك المجموعة الكبيرة من المسلمين.
ج. يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأن الله قادر على كلّ شيء، فإذا أصلحتم أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم ممّا تعانون منه من نقاط الضعف شملكم تأييده، وأنزل عليكم نصره ﴿أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
2. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ تنوه الآية الكريمة بحقيقة هامة هي أن أية مصيبة (كتلك التي وقعت في أحد) مضافا إلى أنها لم تكن دون سبب وعلة، فإنها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم الأول من الآية الأولى ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي أن ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن الله ومشيئته وإرادته لأن لكلّ ظاهرة في عالم الكون المخلوق لله سبحانه سببا خاصّا وعلّة معيّنة، وأساسا أن هذا العالم عالم مقنن يجري وفق قانون الأسباب والمسببات، وهذه حقيقة ثابتة لا تتغير.
3. وعلى هذا الأساس إذا وهنت جماعة في الحرب، وتعلقت بالدنيا وحطامها، والثروة وجواذبها، وتجاهلت أوامر قائدها المحنك الرؤوف كانت محكومة بالهزيمة والفشل، وهذا هو المقصود من إذن الله، فإذن الله ومشيئته هي تلك القوانين التي أرساها في عالم الكون ودنيا البشر.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/771.
90. المنافقون والقتال والدفع
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈90⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 166 ـ 167]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ كثروا بأنفسكم وإن لم تقاتلوا(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٤٨٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ كونوا سوادا(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٤٨٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ المنافقون، فجبنوا؛ فقال ما قد سمعتم: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ فهو اليقين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٠.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣٣٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾: معناه كثّروا سوادكم ورابطوا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، والله، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا! فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم ابن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ٢/٦٣.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ أو كثروا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ يعني: وليرى ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ في إيمان أهل الشك عند البلاء والشدة، يعني: عبد الله بن أبي بن مالك الأنصاري وأصحابه المنافقين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ المشركين عن دياركم وأولادكم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾، يعني: من الكذب(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان، ١/٢٠١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ بكثرتكم العدو، وإن لم يكن قتال(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: منكم، ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوكم فبإذني، كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم بعد أن جاءكم نصري، وصدقتم وعدي؛ ليميز بين المنافقين والمؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ ليميز بين المؤمنين والمنافقين(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ منكم، أي: ليظهروا ما فيهم(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، أي: ليطهر ما فيكم(2).
5. روي أنّه قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فأظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم، ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي: يخفون(3).
6. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾، يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين سار إلى عدوه من المشركين بأحد، وقولهم: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدافعنا عنكم، ولكنا لا نظن أن يكون قتال، فأظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم، يقول الله ـ جل ذكره ـ: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢١.
(2) ابن المنذر: ٢/٤٨١.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٨١١.
(4) ابن جرير: ٦/٢١٠ مختصرًا من طريق سلمة، وابن المنذر: ٢/٤٨٣ واللفظ له.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سألت: عن تأويل: ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾، وقلت: ما معنى ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾؟ والجواب: تأويل ﴿قَاتَلُوا﴾ يعني: كونوا بقتالكم لله مطيعين، ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ فكونوا بقتالكم عن أنفسكم وحرمكم مدافعين، إن لم تكونوا لله مجيبين، وفي ثوابه على القتال لعدوه راغبين.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/193.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ كما ذكرنا فيما تقدم؛ ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون، ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين؛ وكذلك ليعلم ما قد علم أنهم ينافقون، ويصيرون منافقين، غير صابرين، ولا محتسبين.
2. قوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ أي: كثّروا السواد؛ لأن المشركين إذا رأوا سواد المؤمنين كثيرا يرهبهم ذلك ويخوفهم؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]
ب. ويحتمل: أو ادفعوا العدو عن أنفسكم؛ لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين، أو ادفعوا عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك، أو ادفعوا عن دينكم إذا قصدوا دينكم، وقد يقصدون ذلك، أو أن يكون قوله عزّ وجل: ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ ـ واحدا، أي: قاتلوا في سبيل الله وادفعوا
3. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ يعني: المنافقين:
أ. قيل: قال المنافقون الذين تخلفوا في المدينة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: قال ذلك غيرهم.
4. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يعني: المنافقين، أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر، كل ذلك لغة، وفي حرف حفصة: هم (إلى الكفر أقرب)، وتأويله: أن المنافقين كانوا لا يعرفون الله عزّ وجل ولا كانوا يعبدونه؛ فإنما هم عباد النعمة، يميلون إلى حيث مالت النعمة: إن كانت مع المؤمنين؛ فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم، وإن كانت مع المشركين فمعهم؛ كقوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ الآية [النساء: 141]، وكقوله عزّ وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ الآية [الحج: 11]، وأما الكفار: فإنهم كانوا يعرفون الله، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين:
أ. أحدهما: لما اتخذوها أربابا.
ب. الثاني: يطلبون بذلك تقربهم إلى الله زلفى؛ كقولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، لكنهم إذا أصابتهم الشدة، ولم يروا فيما عبدوا الفرج عن ذلك ـ فزعوا إلى الله عزّ وجل، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: 65]، فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول، وقوله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ الآية [الزمر: 8]، وأمّا المؤمنون: فهم في جميع أحوالهم: في حال الرخاء والشدة، والضراء والسراء ـ مخلصون لله صابرون على مصائبهم وشدائدهم قائلون: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]
5. قوله عزّ وجل: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. قيل: إنما كانوا كذا؛ لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141]: ذكروا كونهم مع المؤمنين، وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم، ومنعهم من المؤمنين؛ فذلك آية الأقرب منهم.
ب. ويحتمل: أقرب منهم للإيمان؛ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب؛ فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب، وهو الكفر.
ج. وعن ابن عباس: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ قال: هم يومئذ يسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وسرّ العبد أولى من علانيته، وفعله أولى من قوله.
6. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وهو قولهم، وقيل: وهم منهم أقرب؛ لأنهم كانوا في الحقيقة كفارا على دينهم.
7. قوله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل الذم.
ب. وقيل: كقوله عزّ وجل: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾ [الأحزاب: 14]؛ فيكون الوصف بالقرب على الوقوع والوجوب؛ كقوله عزّ وجل: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، أي: هي لهم ـ وبالله التوفيق ـ وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق، والكفر لم يكن يفارق قلوبهم، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان، ثم قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، وقد يكون على القرب من حيث كانوا شاكّين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان؛ إذ حقيقته تصديق عن معرفة، ولم يكن لهم معرفة، والكفر قد يكون بالتكذيب؛ كأن له بما يكذب علم بالكذب أولا؛ فلذلك كان الكفر أقرب إليهم، ويحتمل: أقرب إليهم: أولى بهم، وهم به أحق أن يعرفوا؛ بما جعل الله لهم من إعلام ذلك في لحن القول، ثم في أفعال الخير، ثمّ في أحوال الجهاد، ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/525.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ يعني عبدالله بن أبي وأصحابه ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا﴾ خطواً أو أكثروا على خيلكم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني جاهدوا وكثروا السواد إن لم تقاتلوا أو رابطوا على خيلكم إن لم تقاتلوا ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بأحكام الكفار وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان ثم صاروا بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان.
2. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء وإنما قال بأفواههم ولم يكن القول إلا بالفم للتأكيد ولما يجوز أن ينسب القول إلى الساكت إذا كان به راضياً.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/157.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ليرى المؤمنين.
ب. الثاني: ليميّزوا من المنافقين.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ يعني عبد الله بن أبيّ وأصحابه، ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني جاهدوا.
3. في قوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: يعني تكثير السواد وإن لم يقاتلوا وهو قول السدي وابن جريج.
ب. الثاني: معناه رابطوا على الخيل إن لم تقاتلوا، وهو قول ابن عوف الأنصاري.
4. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ قيل إن عبد الله بن عمرو بن حزام قال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم فقال له ابن أبي: علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا بنا لو نعلم قتالا لاتبعناكم.
5. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بحكم الكفار، وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان، ثم صاروا بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان.
6. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء، وإنما قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وإن كان القول لا يكون إلا به لأمرين:
أ. أحدهما: التأكيد.
ب. الثاني: أنه ربما نسب القول إلى الساكت مجازا إذا كان به راضيا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/435.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليس معناه أن الله يعلم عند ذلك ما لم يكن عالماً به، لأنه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها وإنما معناه، وليتميز المؤمنون من المنافقين إلا أنه أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازاً على المظاهرة في المجازاة بالقول على ما يظهر من الفعل من جهة أنه ليس يعاملهم بما في معلومة أنه يكون منهم إن بقوا، بل يعلمهم معاملة من كأنه لا يعلم ما يكون منهم حتى يظهر، ليكونوا على غاية الثقة بأن الله إنما يجازي بحسب ما وقع من الإحسان أو الاساءة.
2. قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ عطف على قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقيل في خبر ليعلم قولان:
أ. أحدهما: أنه مكتف بالاسم، لأنه بمعنى ليعرف المنافقين.
ب. الثاني: أنه محذوف، وتقديره: وليعلم المنافقين متميزين من المؤمنين.
3. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ روي أن القائل لهم ذلك كان عبد الله بن عمرو بن خزام يذكرهم الله ويحذرهم أن يخذلوا نبيه عند حضوره عدوه ـ في قول ابن إسحاق والسدي ـ
4. في قوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال السدي، وابن جريج: ادفعوا بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا.
ب. الثاني: قال ابن عون الانصاري: معناه رابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا معنا.
5. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ قال ابن إسحاق، والسدي ان القائل لذلك عبد الله بن أبي بن سلول، انخزل يوم أحد بثلاثمائة نفس، قال لهم علام نقتل أنفسنا ارجعوا بنا، وقالوا للمؤمنين لا يكون بينكم قتال، ولو علمنا أنه يكون قتال لخرجنا معكم وأضمروا في باطنهم عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمؤمنين، فقال الله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ لأنهم بهذا الاظهار إلى الكفر أقرب منهم للإيمان إذا كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم إلى الايمان أقرب حتى هتكوا أنفسهم عند من كانت تخفى عليه حالهم من المؤمنين الذين كانوا يحسنون الظن بهم.
6. ليس المراد أن بينهم وبين المؤمنين قرباً يوجب دخول لفظة أفعل بينهم، وإنما هو مثل قول القائل: ـ وهو صادق ـ لمن هو كاذب: أنا أصدق منك، وإن لم يكن بينهما مقاربة في الصدق.
7. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ انما ذكر الأفواه، وإن كان القول لا يكون إلا بالأفواه لأمرين:
أ. أحدهما: للتأكيد من حيث يضاف القول إلى الإنسان على جهة المجاز، فيقال: قد قال كذا: إذا قاله غيره ورضي به، وكذلك ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي يتلونه على غير جهة الأمر به.
ب. الثاني: لأنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب.
8. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ يعني أعلم من الكافرين الذين قالوا: لا يكون قتال، وما كتموه في نفوسهم من النفاق.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/44.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾:
أ. قيل: معناه ليتميز المؤمن من المنافق، فذكر العلم وأراد المعلوم.
ب. وقيل: ليظهر المعلوم من المؤمن والمنافق فيقع الجزاء على المفعول لا على المعلوم.
ج. وقيل: ليعلم أولياء الله المؤمنين والمنافقين، فذكر نفسه وأراد أولياءه تفخيمًا لشأنهم.
د. وقيل: ليعلم ليرى.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾:
أ. قيل: الواو للحال أي في حال ما قيل لهم.
ب. وقيل: معناه، وقد قيل لهم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾:
أ. قيل: إن عبد الله بن أبي والمنافقين معه من أصحابه انخزلوا يوم أحد بنحو ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا!؟ ارجعوا بنا، والقائل لهم تعالوا: عبد الله بن عمرو الأنصاري يذكرهم الله، ويحذرهم أن يخذلوا نبيه والمسلمين عند حضور العدو، فلما أبوا قال: أبعدكم الله، الله يغني عنكم.
ب. وقيل: القائل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعوهم إلى القتال والرجوع عن الأصم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾:
أ. قيل: كثروا سوادنا إن لم تقاتلوا معنا عن السدي وابن جريج.
ب. وقيل: رابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا عن أبي عون الأنصارى.
ج. وقيل: إذا لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن أهلكم وحرمكم ومدينتكم.
5. ﴿قَالُوا﴾ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا﴾ أي لو علمنا أنه يقع قتال بينكم وبين أعدائكم ﴿لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ لسرنا معكم، ولكن نعلم أنه لا يكون قتال.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾:
أ. قيل: يعني بإظهار هذا القول صاروا أقرب إلى الكفر؛ إذ كانوا مثل ذلك في ظاهر أقوالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا الستر فعلم المؤمنون ما لم يعلموا.
ب. وقيل: إنه ذَكَرَ الكُفْرَ وأراد الكافر كأنه قيل: هم يومئذ إلى الكافرين أقرب منهم إلى المؤمنين.
ج. وقيل: المراد، به الشهادة عليهم بأنهم كفار، كما يقول الرجل لخصمه: أنا أصدق منك، لا يريد أنْ يجعل لخصمه نصيبًا من الصدق عن أبي مسلم.
د. وقيل: هم بأعمالهم بالكفر أولى منهم بالإيمان عن الأصم.
هـ. وقيل: اللام بمعنى ﴿إِلَى﴾ يعني إلى الكفر كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي إلى هذا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: ذكروا الأفواه تأكيدًا؛ لأن القول قد يضاف إليه إذا قال رسوله.
ب. وقيل: فرقا بين قول اللسان وقول الكتاب، ومعناه أنهم قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وأضمروا أنه وإن كان قتالاً لا يقاتلون معهم ولا ينصرون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقيل: يقولون بأفواههم من الإيمان والتقرب إلى الرسول ما ليس في قلوبهم، فإن في قلوبهم الكفر.
8. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ بما يضمرون من النفاق.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. يدل قوله: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ أن تكثير سواد المجاهدين بمنزلة القتال في أنه يعد من الجهاد.
ب. يدل قوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ على نفاق القوم، ولذلك عقبه بقوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ تحذيرًا لهم من إسرار الكفر.
10. في خبر ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ قولان:
• الأول: أنه مكتف بالاسم؛ لأنه بمعنى: ليعرف المنافق.
• الثاني: أنه محذوف وتقديره: ليعلم المنافقين متميزين من المؤمنين.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/451.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ الله ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ معناه: وليميز المؤمنين من المنافقين، لأن الله عالم بالأشياء قبل كونها، فلا يجوز أن يعلم عند ذلك ما لم يكن عالما به، إلا أن الله أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازا أي: ليظهر المعلوم من المؤمن والمنافق.
2. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ أي: للمنافقين ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ قالوا: إن عبد الله بن أبي، والمنافقين معه من أصحابه، انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلاثمئة رجل، وقالوا: علام نقتل أنفسنا؟ وقال لهم عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، واتقوا الله، ولا تخذلوا نبيكم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾:
أ. قيل: ﴿ادْفَعُوا﴾ عن حريمكم وأنفسكم، إن لم تقاتلوا في سبيل الله.
ب. وقيل: معناه أقيموا معنا وكثروا سوادنا، وهذا يدل على أن تكثير سواد المجاهدين معدود في الجهاد، وبمنزلة القتال.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾:
أ. قيل: يعني قال المنافقون: لو علمنا قتالا لقاتلناهم، قالوا ذلك إبلاء لعذرهم في ترك القتال، والرجوع إلى المدينة، فقال لهم: أبعدكم الله، الله يغني عنكم!
ب. وقيل: إنما القائل لذلك رسول الله، يدعوهم إلى القتال، عن الأصم.
5. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يعني بإظهار هذا القول، صاروا أقرب إلى الكفر، إذ كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا الستر، فعلم المؤمنون منهم ما لم يعلموه، واللام بمعنى إلى يعني: هم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان، كقوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي: إلى هذا.
6. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ ذكر الأفواه:
أ. قيل: تأكيدا لأن القول قد يضاف إليها.
ب. وقيل: إنما ذكر الأفواه فرقا بين قول اللسان، وقول الكتاب.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: المراد به قولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وإضمارهم أنه لو كان قتال لم يقاتلوا معهم، ولم ينصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: معناه يقولون بأفواههم من التقرب إلى الرسول والإيمان، ما ليس في قلوبهم، فإن في قلوبهم الكفر.
8. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي: بما يضمرونه من النفاق والشرك.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/879.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلّة صبرهم.
2. قال ابن قتيبة: والنّفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جحرته، يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه، قال ابن قتيبة: قال الزّياديّ عن الأصمعيّ: ولليربوع أربعة أجحرة: النّافقاء: وهو الذي يخرج منه كثيرا، ويدخل منه كثيرا، والقاصعاء، سمّي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصّع ببعضه كأنه يسدّ به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدّم: إذا امتلأ ولم يسل، والدّامّاء، سمّي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدمّ به فم الجحر، كأنه يطليه، ومنه يقال: ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به، والرّاهطاء، ولم يذكر اشتقاقه، وإنما يتّخذ هذه الجحر عددا، فإذا أخذ عليه بعضها، خرج من بعض، قال أبو زيد: فشبّه المنافق به، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه، ويخرج منه بعقده، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب، قال ابن قتيبة: والنّفاق: لفظ إسلاميّ لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام، قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبيّ، وأصحابه.
3. قال موسى بن عقبة: خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أبيّ في ثلاثمائة.
4. القتال، مباشرة الحرب، وفي المراد بالدّفع ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه التّكثير بالعدد، رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، والضّحّاك، والسّدّيّ، وابن جريج في آخرين.
ب. الثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
ج. الثالث: أنه بمعنى القتال أيضا، قاله ابن زيد.
5. في قوله تعالى: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم، ذكره ابن إسحاق.
ب. الثاني: لو كنا نحسن القتال لاتّبعناكم.
ج. الثالث: إن معناه: أن هناك قتلا وليس بقتال، ذكرهما الماورديّ.
6. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ﴾ أي: إلى الكفر ﴿أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أي: إلى الإيمان، وإنما قال يومئذ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان.
7. في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وجهان ذكرهما الماورديّ:
أ. أحدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر.
ب. الثاني: يقولون: نحن أنصار، وهم أعداء.
8. ذكر في الذي يكتمون وجهين:
أ. أحدهما: أنه النّفاق.
ب. الثاني: العداوة.
__________
(1) زاد المسير: 1/346.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين، قال الواحدي: يقال: نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه:
أ. الأول: قال أبو عبيدة: هو من نافقاء اليربوع، وذلك لأن جحر اليربوع له بابان: القاصعاء والنافقاء، فإذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق، لأنه وضع لنفسه طريقين، إظهار الإسلام وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر:
ب. الثاني: قال ابن الأنباري: المنافق من النفق وهو السرب، ومعناه أنه يتستر بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب.
ج. الثالث: أنه مأخوذ من النافقاء، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض، ثم إنه يرقق بما فوق الجحر، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة، وهذا يشعر بتجدد علم الله، وهذا محال في حق علم الله تعالى، فالمراد هاهنا من العلم المعلوم، والتقدير: ليتبين المؤمن من المنافق، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة.
3. في الآية حذف، تقديره: وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين.
4. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ ولم يقل: وليعلم المنافقين؟ والجواب: الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى، والفعل يدل على تجدده، وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه، وأما ﴿نَافَقُوا﴾ فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت.
5. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ في أن هذا القائل من هو؟ وجهان:
أ. الأول: قال الأصم: إنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعوهم إلى القتال.
ب. الثاني: روي أن عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا: لم نلقي أنفسنا في القتل، فرجعوا وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهم عبد الله ابن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله الأنصاري: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو، فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ يعني قول عبد الله هذا.
6. قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: إن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم، يعني كونوا إما من رجال الدين، أو من رجال الدنيا.
ب. قال السدي وابن جريج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا، قالوا: لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة، والأول هو الوجه.
7. في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات.
8. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان:
أ. الأول: أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة، فلهذا رجعنا.. فإن كان المراد من هذا الكلام هو هذا الوجه فهو فاسد، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب: فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس، وإما الاستهزاء.
ب. الثاني: أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله كان في الاقامة بالمدينة، وما كان يستصوب الخروج.. فإن كان المراد من هذا الكلام هو هذا الوجه فهو أيضاً باطل، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والإعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة.
9. ثم إن الله تعالى بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ وفي تأويله وجهان:
أ. الأول: أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين، واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين، وأيضاً قولهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ يدل على أنهم ليسوا من المسلمين، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكل واحد منهما كفر.
ب. الثاني: في التأويل أن يكون المراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين.
10. قوله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قال أكثر العلماء: إن هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار، قال الحسن إذا قال الله تعالى: ﴿أَقْرَبُ﴾ فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: ﴿مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر.
ب. وقال الواحدي في (البسيط): هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره، لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
11. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم، فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
12. سؤال وإشكال: إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر، فما معنى قوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾؟ والجواب: المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/423.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي ليميز، وقيل ليرى، وقيل: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين بإظهارهم الشماتة فيعلمون ذلك، والإشارة بقوله نافقوا وقيل لهم هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانوا ثلاثمائة، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو جابر ابن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واستشهد رحمه الله تعالى.
2. اختلف الناس في معنى قوله: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ فقال السدي وابن جريج وغيرهما: كثروا سوادنا وإن لم تقاتلوا معنا، فيكون ذلك دفعا وقمعا للعدو، فإن السواد إذا كثر حصل دفع العدو، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى! ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي، وروي عنه أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله! وقال أبو عون الأنصاري: معنى ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، وذهب قوم من المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ إنما هو استدعاء إلى القتال حمية، لأنه استدعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم أحد لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة، أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم.
3. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أي بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التحقيق.
4. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر، وذكر الأفواه تأكيد، مثل قوله: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الانعام]
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/267.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطف على قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ عطف سبب على سبب، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ عطف على ما قبله، قيل: أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحدا، والمراد بالعلم هنا: التمييز والإظهار، لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك؛ والمراد بالمنافقين هنا: عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
2. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ هو معطوف على قوله: ﴿نَافَقُوا﴾ أي: ليعلم الله الذين نافقوا والذين قيل لهم؛ وقيل: هو كلام مبتدأ، أي: قيل لعبد الله بن أبيّ وأصحابه: ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر.
3. ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر، فأبوا جميع ذلك وقالوا: لو نعلم أنه سيكون قتالا لاتبعناكم وقاتلنا معكم، ولكنه لا قتال هنالك؛ وقيل المعنى: لو كنا نقدر على القتال ونحسنه لاتبعناكم، ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه، وعبر عن نفي القدر على القتال: بنفي العلم به، لكونها مستلزمة له، وفيه بعد لا ملجئ إليه، وقيل: معناه: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم، والخروج من المدينة، وهذا أيضا فيه بعد دون ما قبله؛ وقيل: معنى الدفع هنا: تكثير سواد المسلمين؛ وقيل: معناه: رابطوا.
4. القائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه هو: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله.
5. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أي: هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون، لأنهم قد بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك؛ وقيل: المعنى: أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان.
6. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جملة مستأنفة، مقررة لمضمون ما تقدّمها، أي: أنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وذكر الأفواه للتأكيد، مثل قوله: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/455.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر الله تعالى عن حكمة هذا التقدير بقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزا ظاهرا.
2. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ عطف على (نافقوا) داخل معه في حيز الصلة، أو كلام مبتدأ ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأموالكم ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة ﴿هُمْ﴾ أي بهذا القول ﴿لِلْكُفْرِ﴾ في الظاهر ﴿يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلا.
3. قال ابن كثير: استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان، وقال الواحديّ: هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره، لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم، مع أنهم كانوا كافرين، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
4. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان، وقوله: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ تأكيد على حدّ: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/455.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُومِنِينَ﴾ عطف على (بِإِذْنِ اللهِ) عطف سبب عَلَى مسبَّب، ولا مانع من عطف الجارِّ والمجرور عَلَى مثلهما مع اختلاف معناهما، نحو: (جئت بالجند وفي الصبح)، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ﴾ أي: ليعلم المؤمنين والمنافقين علمَ وقوعٍ طبق العلم الأزليِّ، أو ليتميَّز للناس مَا في علمه تعالى من إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، وأعاد (يَعْلَمَ) تأكيدا، ولئلَّا يقترن الكفَّار والمؤمنون عَلَى نهج واحد.
2. ﴿وَقِيلَ﴾ عطف عَلَى (نَافَقُوا)، قال المسلمون لهم حين انصرفوا عن القتال وهم ثلاثمائة، رئيسهم ابن أبيٍّ، وقيل: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقيل: عبد الله بن عمرو بن حرام، من بني سلمة، وعليه الجمهور، وتقدَّم غير ذلك.
3. ﴿لَهُمْ تَعَالَواْ قَاتِلُواْ﴾ بدل اشتمال من (تَعَالَوْا)، والربط بالمعنى لا بالمعنى()، وَهُوَ كون القتال من لوازم التعالي لا بالضمير، إذ لا يعود الضمير للجملة.
4. ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الكفرة، ﴿أَوِ ادْفَعُواْ﴾ ادفعوا الكفرة عن الأنفس والأموال، وادفعوهم بكثرة سواد المجاهدين في سبيل الله، فإنَّ كثرته تكسر همَّة العدوِّ وتُروِّعُه، أي: احضُروا يحصلْ بحضوركم قتال العدوِّ أو دفعهم بكثرتكم عن الأموال والأنفس، ولو لم تقاتلوا، أو ادفعوا عن أنفسكم اسم النفاق بالقتال أو الحضور ولو لم تقصدوا وجهَ الله تعالى .
5. ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَّاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ هَذَا مِمَّا يقوِّي كون (قِيلَ) عطف قصَّة عَلَى أخرى لا على صلة (الَّذِينَ)، وإلَّا قال: (فقالوا) بالعطف، وَمَعنَى ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً﴾: لو عرفنا أنَّ ما ذهبتم له هو قتال لَاتَّبعناكم، ولكن عرفناه إلقاءً بالنفس للتهلكة لكثرة عدوِّكم، ولتجربتنا أنَّه كلَّما خرجنا من المدينة إِلَى عدوِّنا يغلبنا، أو لم نعرف كيفيَّته ولم نجرِّبه، ولو عرفنا ذلك لاتَّبعناكم، أو لم نعرف أنَّ قتالا يقع بينكم وبين عدوِّكم، ولو عرفنا لاتَّبعناكم، والوجهان الأخيران استهزاء وغشٌّ، وذلك أوَّل ما صرَّحوا به من نفاقهم.
6. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ﴾ أي: قربهم إِلَى اعتقاد الشرك ونصرة أهله، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يوم إذ قالوا منصرفين عن أحد: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَّاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ متعلِّق بقوله: ﴿أَقْرَبُ مِنْهُمْ﴾ أي: من قربهم، ﴿لِلاِيمَانِ﴾ إِلَى اعتقاد الإيمان ونصرة أهله؛ لأَنَّ انصرافهم عن أحُد ضعف في قلوب المؤمنين، وقوَّة في قلوب المشركين، وقيل ظهور هَذَا منهم هم أقرب إِلَى الإيمان منهم إِلَى الكفر بحسب الظاهر، واللَّام الأولى متعلِّقة بالمضاف المقدَّر، والثانية متعلِّقة بمضاف مقدَّر أَيضًا كما رأيت، وهما بمعنى (إِلىَ)، أو بمعنى (مِنْ)، ولم يتَّحد متعلَّقهما.
7. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ من الإيمان ﴿مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ منه، وذكر الأفواه مع أنَّ القول لا يكون إِلَّا منها تأكيدًا، أو تصويرا لحقيقة القول بصورة فَرْدِه الصادر عن آلته التي هي الفم، لقوله تعالى: ﴿وَلَا طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]، أو مبالغةً بِأَنَّ القول بجميع الفم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]، وقولهم: (فلان أكل في بطنه)، أي: ملأه، وإذا قلنا: يطلق القول عَلَى الاعتقاد أَيضًا حقيقة فذكره لذلك أَيضًا، وإلَّا فقوله: ﴿مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ ظاهر في أنَّ القول بالأفواه، ولو لم يذكرها.
8. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ وصحَّ التفضيل مع أنَّ علم الله غير علم المخلوق، اعتبارا لجامع مطلق عدم الجهل، فإنَّ الله جلَّ وعلا لا يجهل، والمسلمون لم يجهلوا بعض أحوال المنافقين، لكن علم الله أعمُّ إذْ عَلِم أحوال المنافقين كلِّها، وعلمها تفصيلا وإجمالا، والذي يكتمون هو النفاق وطعنهم في الإسلام إذا خلوا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/54.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي حالهم من قوة الإيمان وضعفه والاستفادة من المصائب حتى لا يعودوا إلى أسبابها والعلم بسنن الله عندما يظهر فيهم حكما في الشدة والبأس أي ليظهر علمه بذلك ويترتب عليه مقتضاه، وقد تقدم الكلام على التعليل بالعلم فارجع إلى تفسير قوله تعالى: ﴿وليعلم الذين آمنوا﴾ من هذا السياق فما هو ببعيد فالتعليل الأول المأخوذ من قوله: ﴿فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ لبيان السبب والتعليل الثاني لبيان الحكمة والفائدة في ذلك وعطف عليه قوله عز وجل.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ ليبين في هذه الآية وما بعدها حال المنافقين مع المؤمنين كما بين من قبل حال الكافرين معهم، والذين نافقوا هم الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر، قال ابن الأنباري: إنه مأخوذ من النفق وهو السرب فهم يتسترون بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب، وقال غيره إنه مشتق من النافقاء وهو حجر اليربوع أو أحد بابيه، قال أبو عبيده إنه يجعل لحجره بابين أحدهما القاصعاء والآخر النافقاء، فإذا طلب من أحدهما خرج من الآخر، وهكذا شأن المنافق يظهر للمؤمنين من باب الإيمان وللكافرين من باب الكفر فإذا أصابته مشقة من أحدهما لجأ إلى الآخر، وقال غيره: إن النافقاء حجر اليبروع يحفره في الأرض ويرققه من أعلاه فإذا رابه شيء فخاف على نفسه دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فإذا فتشه رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام، وكذا وجهه الرازي ولك أن تقول لأنه يلجأ للإسلام ويحتمي به فإذا رابه منه شيء خرج منه إلى الكفر، وقول أبي عبيدة أظهر هذه الأقوال، وسيأتي من أوصافهم ما يظهر به وجه التسمية كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141]
3. المعنى: وليعلم حال الذين نافقوا، أيْ وقع منهم النفاق في هذه الواقعة ولم يقل المنافقين كما قال المؤمنين لأن النفاق لم يكن صفة ثابتة لهم كثبوت إيمان المؤمنين، فإن منهم من تاب بعد ذلك وصدق في إيمانه، أي ليظهر علمه بذلك فيترتب عليه مقتضاه من العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وسوءا وكرهوا حصوله.
4. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ فمعناه أن هؤلاء الذين نافقوا قد دعوا إلى القتال على أنه في سبيل الله أي دفاع عن الحق والدين وأهله ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه لا للحمية والهوى ولا ابتغاء الكسب والغنيمة، أو على أنه دفاع عن أنفسهم وأهلهم ووطنهم فراوغوا وحاولوا، وقعدوا وتكاسلوا.
5. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم لاتبعناكم ولكننا نرى أن الأمر ينتهي بغير قتال، نزل ذلك في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاث مئة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الفشل وقد تقدم ذكر ذلك في مجمل القصة عند الشروع في تفسير الآيات الواردة فيها.
6. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أي أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان يوم قالوا ذلك القول لظهور صفته فيهم وانطباق آيته عليهم، فإن القعود عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الوطن والأمة عند هجوم الأعداء من الفرائض التي لا يتعمد المؤمن تركها كما يعلم من الآيات الكثيرة في هذا السياق وغيره ومنها ما هو صريح في جعله من الصفات التي حصر الإيمان في المتصفين بها كقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]، قال محمد عبده: ليس قوله ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ للاحتراس بل لرفع شأن هذا اليوم الذي حصل فيه التمييز بين الفريقين وقال إنهم أقرب إلى الكفر ولم يقل إنهم كفار مع علمه بحالهم تأديبا لهم ومنعا للتهجم على التكفير بالعلامات والقرائن، أقول: يعني أن هذا الذي صدر منهم وإن كان من شأنه ألا يصدر إلا من الكافرين لا يعد بحد ذاته كفرا صريحا في حكم الظاهر لاحتمال العذر والتأويل، ولو سجل عليهم به ظاهرا لوجب أن يعاملوا معاملة الكفار، مع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعاملهم بعد ذلك معاملة المؤمنين حتى أنه صلى على جنازة رئيسهم عبد الله بن أبي بعد بضع سنين من واقعة أحد، وحينئذ فضحهم الله تعالى في سورة التوبة بعد ما كان من ظهور كفرهم ونفاقهم في غزوة تبوك وأنزل عليه ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 84] فحاصل معنى عبارة محمد عبده أنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر وأن امتناعهم عن الجهاد عمل من أعمال الكفر ولكنه لم يصرح به في الآية بل صرح بما يومئ إليه تأديبا عسى أن يتوب منهم من لم يتمكن الكفر في قلبه ومنعا للناس من الهجوم على التكفير، فليعتبر بهذا متفقهة زماننا الذين يسارعون في تكفير من يخالف شيئا من تقاليدهم وعاداتهم وإن كان من أهل البصيرة في دينه وإيمانه والتقوى في عمله ولم يكونوا على شيء من ذلك.
7. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جملة مستأنفة مبينة لحالهم في مثل قولهم هذا أي إن الكذب دأبهم وعادتهم يصدر عنهم على الدوام والاستمرار ليستروا بذلك ما يضمرون، ويؤيدوا به ما يظهرون، وهل يكون نفاق بغير كذب؟ وفي تقييد القول بالأفواه توضيح لنفاقهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم وفي التنزيل آيات أخرى في بيان حالهم هذه.
8. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم فهو يبين في كل حين من مخبآت سرائرهم ما تقتضيه الحال وتقوم به المصلحة ثم هو الذي يعاقبهم به في الدنيا والآخرة.
9. من مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا﴾ فيه وجهان أحدهما أنه عطف على ﴿نَافَقُوا﴾ وهو الظاهر المتبادر، والثاني أنه استئناف وقوله قبله ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ قد تم به الكلام السابق، قالوا فالواو في قوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ هي التي يسمونها واو الاستئناف على هذا القول، وقد قال محمد عبده في هذه الواو ما حاصله: وقد خلط بعضهم في الكلام عن هذه الواو لعدم فهم المراد منها وليس هو بمعنى الاستئناف المشهور وإنما تأتي لوصل كلام بكلام آخر مباين للأول تمام المباينة من جهة ذاته، ومرتبط به من جهة السياق والغرض، ففي مثل هذه الحال إذا فصل الثاني من الأول يكون في الفصل البحت وحْشةٌ على السمع وإيهام للذهن أن الغرض الذي سبق له الكلام قد انتهى فيجيء المتكلم بالواو ليستمر الأنس بالكلام في الغرض الواحد ويظل الذهن منتظرا لغاية الفائدة والغرض منه فكأن المتكلم عند نطقه بالجملة المستأنفة بالواو للانتقال من جزء من كلامه قد تم إلى جزء آخر يراد به مثل ما يراد مما قبله، يقول: هذا جزء من الكلام يثبت غرضي ويبين مرادي وثم جزء آخر منه وهو كذا، وهذا الشرح مبني على كون الجملة المستأنفة لا اشتراك بينها وبين ما قبلها بوجه ما وإنما يقرنها بها السياق والغرض، وفيها رأي آخر وهو أنها عطف على معنى خفي فيما قبلها غير مذكور ولا معين وإنما ينتزع من الكلام انتزاعا، فلما كان كذلك لم يقولوا إن الواو فيها عاطفة إذ لا معطوف عليه في الكلام وقالوا للاستئناف مراعاة لصورة اللفظ.
10. اللام في قوله ﴿لِلْكُفْرِ﴾ و﴿لِلْإِيمَانِ﴾ متعلقة بأقرب على أنها بمعنى إلى فإن المستعمل في صلة القرب حرفا إلى ومن يقال قرب منه وقرب إليه، وقال بعضهم: إنه يتعدى باللام أيضا.
__________
(1) تفسير المنار: 4/228.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، واستفادتهم من المصائب حتى لا يعودوا إلى أسبابها، وليعرفوا سنن الله عندما يظهر فيهم حكمها، كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر، فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما واتقاء للمكروه، واحتياطا في الأمر، كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وكرهوا حصوله.
2. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ أي إن هؤلاء المنافقين دعوا إلى القتال، وقيل لهم: إن كان في قلبكم حب الدين والذود عنه فقاتلوا لأجله، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
3. الخلاصة ـ قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه، أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم، لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا.
4. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي قالوا: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم ما أسلمناكم، بل كنا نتبعكم، لكنا نرى أن الأمر سينتهى بدون قتال، روى أن الآية نزلت في عبد الله بن أبىّ ابن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين، ويوقعوا فيهم الفشل.
5. لا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء، إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا.
6. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أي هم يوم قالوا هذه المقالة ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته، بانخذالهم عن نصرة المؤمنين، واعتذارهم لهم على وجه الخديعة والاستهزاء، فإن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأهل والوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن، ولا ينبغي تركه بحال، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾
7. إنما قال إنهم أقرب إلى الكفر، ولم يقل إنهم كفار ـ منعا للنبز بالكفر بالعلامات والقرائن، دون أن يكون هناك كفر صريح، ومن ثم كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعاملهم معاملة المؤمنين، حتى إنه صلى على رئيسهم عبد الله بن أبىّ صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد، إلى أن فضحهم الله بقوله: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾
8. الخلاصة ـ إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر لعملهم عمل الكفار بتركهم الجهاد، لكنه لم يصرح به، بل أومأ إليه، تأديبا لهم عسى أن يتوب على من لم يتمكن الكفر في قلوبهم، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب.
9. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره قلوبهم، فهم يظهرون الإيمان باللسان ويبطنون الكفر، فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون، ويؤيدوا ما يظهرون، وفي ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم، وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم.
10. الخلاصة ـ إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه في قلوبهم كقولهم: لو نعلم قتالا، وقولهم: لاتبعناكم، وهم كاذبون في كل من الأمرين، فإنهم كانوا عالمين به وقد أصروا على الانخذال وعزموا على الارتداد.
11. ثم أكد كفرهم ونفاقهم وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد فقال: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم، فهو في كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم، ثم يعاقبهم على ذلك في الدنيا والآخرة، والخلاصة ـ إنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنّه سرائرهم وقلوبهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/128.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية الكريمة تكشف بقية موقف المنافقين في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ فهم لم يكتفوا بالتخلف ـ والمعركة على الأبوابـ وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، وبخاصة أن عبد الله بن أبي، كان ما يزال سيدا في قومه، ولم يكشف لهم نفاقه بعد، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم، بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة، ويجعلون من طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم واتباعه مغرما ومضرة، وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله، ولحتمية الأجل، ولحقيقة الموت والحياة، وتعلقهما بقدر الله وحده.
2. من ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع، الذي يرد كيدهم من ناحية، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، فالموت يصيب المجاهد والقاعد، والشجاع والجبان، ولا يرده حرص ولا حذر، ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم، فيرد كيدهم اللئيم، ويقر الحق في نصابه، ويثبت قلوب المسلمين، ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين.
3. مما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة، تأخيره ذكر هذا الحادث ـ حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة ـ وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق، وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية.. فقد أخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها؛ وحتى يقر في الإخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها.. ثم يشير هذه الإشارة إلى ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، وفعلتهم وتصرفهم بعدها، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم، ووزن الأعمال والأشخاص، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص ـ بعد ذلك ـ فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح، بذلك الحس الإيماني الصحيح.
4. لعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد، فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه ـ كما أسلفنا ـ وقد ورم أنفه لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأخذ برأيه ـ لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة ـ وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم، وبلبلة في الأفكار، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر.. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق، مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه، ليبقى نكرة في: ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ كما يستحق من يفعل فعلته، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق، وبعد أن تستريح القلوب، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير.. ثم على حقيقة الأجل المكتوب، والموت المقدور، الذي لا يؤجله قعود، ولا يقدمه خروج، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/516.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ هو عرض لمقولة أخرى من مقولاتهم المنكرة، وقد ذكرها الله عنهم من قبل في قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾، كما ذكرها القرآن في قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، وقد شرحنا ما أرانا الله في هاتين الآيتين في موضعيهما.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/639.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطف على ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ عطف العلّة على السبب، والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرّر في الخارج كقول إياس بن قبيصة الطائي:
çوأقبلت والخطّيّ يخطر بيننا...لأعلم من جبانها من شجاعهاé
أراد لتظهر شجاعتي وجبن الآخرين، وقد تقدّم نظيره قريبا.
2. ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ هم عبد الله بن أبيّ ومن انخزل معه يوم أحد، وهم الذين قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قاله لهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري، والد جابر بن عبد الله، فإنّه لمّا رأى انخزالهم قال لهم: اتّقوا الله ولا تتركوا نبيئكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، والمراد بالدفع حراسة الجيش وهو الرباط أي: ادفعوا عنّا من يريدنا من العدوّ فلمّا قال عبد الله بن عمر بن حرام ذلك أجابه عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم، أي لم نعلم أنّه قتال، قيل: أرادوا أنّ هذا ليس بقتال بل إلقاء باليد إلى التّهلكة، وقيل: أرادوا أنّ قريشا لا ينوون القتال، وهذا لا يصحّ إلّا لو كان قولهم هذا حاصلا قبل انخزالهم، وعلى هذين فالعلم بمعنى التحقّق المسمّى بالتصديق عند المناطقة، وقيل: أرادوا لو نحسن القتال لاتّبعناكم، فالعلم بمعنى المعرفة، وقولهم حينئذ تهكّم وتعذّر.
3. معنى ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ أنّ ما يشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على أنهم يبطنون الكفر من دلالة أقوالهم: إنّا مسلمون، واعتذارهم بقولهم: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم، أي إنّ عذرهم ظاهر الكذب، وإرادة تفشيل المسلمين، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم.
4. يتعلّق كلّ من المجرورين في قوله: ﴿مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ بقوله: ﴿أَقْرَبُ﴾ لأنّ ﴿أَقْرَبُ﴾ تفضيل يقتضي فاضلا ومفضولا، فلا يقع لبس في تعلّق مجرورين به لأنّ السامع يردّ كل مجرور إلى بعض معنى التفضيل.
5. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ استئناف لبيان مغزى هذا الاقتراب، لأنّهم يبدون من حالهم أنّهم مؤمنون، فكيف جعلوا إلى الكفر أقرب، فقيل: إنّ الذي يبدونه ليس موافقا لما في قلوبهم، وفي هذا الاستئناف ما يمنع أن يكون المراد من الكفر في قوله: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ﴾ أهل الكفر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/281.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي ليعلم الله سبحانه وتعالى وقوع ما قدره في علمه الأزلي فيعلم المؤمنين الثابتين الأقوياء الذين لا يبغون مادة، بل يبغون إعلاء كلمة الله تعالى، وجعلها هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، وليعلم وقوع ما قدره في علمه الأزلي وهو ظهور المنافقين في هذه الشدة.
2. لتقريب المعاني نقول: إن الله تعالى يعلم ما يقع في المستقبل علما أزليا كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان] فإذا وقع ما قدره علمه سبحانه واقعا، وما يتغير بذلك علم الله تعالى، بل الذي يتغير هو المعلوم من أنه سيقع إلى أنه واقع، وعلم الله واحد.
3. يصح أن يقال: إن معنى علم الله تعالى في هذه الآية الكريمة وما يشبهها من آيات هو ظهور ما قدره سبحانه وتعالى بحيث يعلمه الناس، وهو من قبل في علم الله المكنون، ولوحه المحفوظ.
4. مرمى النص الكريم أن تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من أهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران] لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر، فكان لا بد أن يميّزوا ويعرفوا ليتوقى المؤمنون شرهم، ولا يكون ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس، وتلك التجربة كانت في غزوة أحد، فعلم أمر أهل النفاق من بعدها، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم.
5. عبر الله سبحانه عن المنافقين بقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ لبيان أن النفاق حدث جديد، قد وجد في صفوف المؤمنين، ولم يكن قبل بدر الكبرى، فالقوة في بدر قد أوجدته، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته.
6. ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنهم كانوا معوّقين في ابتداء القتال، قيل لهم من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم: تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسم نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة، فالمعنى: قاتلوا لرضا الله، أو ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم إن لم تقاتلوا، وقيل إن معنى ادفعوا أن يكثروا سواد المسلمين، فيلقى ذلك الرعب في قلوب الأعداء فيعرفوهم بهذا التكثير، وعن سهل بن سعد الساعدى وقد كف بصره قال: لو أمكنني لبعت دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل: كيف وقد كف بصرك؟ قال: لقوله تعالى: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾
7. عبر بالمجهول في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾ للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبيّ ومن الأصحاب، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق.
8. ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ ظاهر المعنى أنهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم أنهم لا يعتقدون أن قتالا يقع، وأن الأمر ينته بغير قتال، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر أن المعنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه وأخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا أن تبقوا بالمدينة، حتى يجيء العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا السبيل لبث الفتنة بطرق أخرى، فهم لا يبغون إلا الفتنة، وذلك لأنهم خرجوا معهم، ولكنهم قبل أن يصلوا إلى أحد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن أبى بن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين.
9. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين، وبيانا لحقيقتهم، فأما الحكم فهو أنهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم ـ كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان، وأما الوصف فهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان، وكاتمين الكفر، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها.
10. الحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو أنهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع أنهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان أبا لبعض المؤمنين أو أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فالمراد بـ (الكفر) أهله، وكما في قوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق]، ويصح أن يقال: إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لا تدل على كل حقيقتهم؛ وذلك لأن تلك الحوادث قد كشفتهم، وبينت قربهم من الكفر؛ إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لا يعلنون كل أمرهم، ولكن الجزء الذي ظهر، وإن لم يكن الكل، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر، وأما الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به وهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن، وإعلان ما يناقضه، وقد أظهروا أنهم يريدون مصلحة المسلمين، وهم يريدون خذلانهم وأظهروا أنهم يقولون الحق عندما كانوا يثبطون المؤمنين، وهم لا ينطقون بالحق، ولا يريدونه.
11. ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ أي أنهم يخادعون المؤمنين، ويبدون ما لا يخفون، ويحسبون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شؤونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكى يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وإن أولئك المنافقين لا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد أن وقعت، لكى يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1496.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، أي ان لما أصاب المسلمين يوم أحد فوائد، منها ان يظهر الله علمه للناس بإيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، فالمنافقون قبل وقعة أحد لم يكونوا مكشوفين عند الناس، ومتميزين عن المؤمنين وفي هذه الوقعة تكشفوا عن واقعهم، وعليه يكون المراد بعلم الله هنا اظهار علمه بالمعلوم وتميزه عن غيره، لا انه تعالى قد تجدد له العلم بعد وقعة أحد، لأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها.
2. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ ـ أي للمنافقين ـ ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ لم يبين الله من هو الذي قال ذلك للمنافقين، لأنه أورد القول بصيغة المجهول، كما انه تعالى أشار للمنافقين بضمير الغيب لا بأسمائهم، ولكن كثيرا من المفسرين قالوا: ان عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد في ثلاثمائة مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع هو ومن معه، ورفضوا أن يقاتلوا، فعلوا ذلك بقصد التخذيل وتثبيط الهمم عن الحرب مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال لهم عبد الله أبو جابر الانصاري: لماذا ترجعون؟ فان كان لكم دين، فقاتلوا عن دينكم، وهذا هو معنى فقاتلوا في سبيل الله، وان لم يكن لكم دين فدافعوا عن أنفسكم وأهلكم وأموالكم، وهذا هو معنى أو دافعوا.. وذكر أصحاب التواريخ هذه المثلبة لابن أبيّ وأصحابه، وقول عبد الله أبي جابر الأنصاري لهم.. ولفظ الآية ينطبق على مثل فعلهم، وعلى قول الأنصاري لهم، ولكن الآية لم تذكر اسم الفاعلين، ولا اسم القائل.
3. مهما يكن، فان المنافقين قد أجابوا هذا القائل المؤمن و﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾، أي ان الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدى المناورات وعرض العضلات، ولن يصل إلى الحرب والقتال، ولو تأكدنا ـ ما زال القول للمنافقين ـ من ان الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم.. وقيل: ان المنافقين أرادوا بجوابهم هذا ان مجابهة المسلمين للمشركين ليس من نوع القتال والحرب في شيء، وإنما هي عملية انتحار، لتفوق عدو المسلمين عدة وعددا، ولفظ الآية يتحمل المعنيين، ولكن المعنى الأول أقرب إلى دلالة لفظها.
4. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾، أي ان المنافقين أرادوا من قولهم: لا نعلم ان هناك قتالا، أرادوا أن يخفوا نفاقهم، ويبتعدوا عن التهم.. ولكن قولهم هذا أدل على نفاقهم، وأقرب لنصرة المشركين، لأنه يتفق مع مصلحتهم لما فيه من تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ﴿مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ بل فيها الكذب والنفاق، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من الكفر به وبرسوله، قال الإمام علي: (ان لسان المؤمن من وراء قلبه، وان قلب المنافق من وراء لسانه)، أي ان قول المؤمن انعكاس لما في قلبه، لأنه لا يقول إلا ما يعتقد، أما المنافق فان لسانه في معزل عن قلبه، وإنما يتبع لسانه مصالحه الشخصية، ويتلون كلامه بحسبها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/201.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، مرتبط بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ أي أن استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله: ﴿هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾، وليكون توطئة لانضمام قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وبانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين وما تكلموا به وجوابه وبيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.
2. ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم وأنفسكم.
3. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح، وأما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك.
4. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾، ذكر الأفواه للتأكيد وللتقابل بينها وبين القلوب.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/60.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين ثبوا على إيمانهم ولم يرتابوا فيكون لهم فضيلة الثبات وأجره.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ وما أصابكم يوم أحد كان لهذه الحكمة أن يبتلي الذين نافقوا حتى ينكشف سرهم، فقد كان فيما روي: ادعى عبد الله بن أُبَيّ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خالف رأيه في البقاء في المدينة حتى يصل العدوّ إلى المدينة ويقاتلوه عند وصوله، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما روي ـ قد رجح هذا الرأي عند المشاورة في الخروج أو البقاء، ولكن بعض المخلصين من أصحابه أشاروا بالخروج للقاء العدوّ فوافقهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج ومعه الجيش وكانوا فيما روي ألفاً، فرجع عبد الله بن أبي ومعه ثلث الجيش من الطريق، بدعوى: أن الخروج خلاف الرأي، ولما اشتد القتال تبعهم بعض المخلصين، وقال لهم: ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ أي ادفعوا عن وطنكم وأهلكم ومالكم وأنفسكم إن كنتم لا تريدون القتال في سبيل الله، ولكن عبد الله بن أبيّ لا يريد القتال أصلاً لأنه خلاف الولاء للكفار الذي هو معنى النفاق، فظهر: أن رأيه في البقاء في المدينة لم يكن ليقاتل فيها، وإنما ليسلمها للعدو عند وصوله، وأن خروجه مع الجيش لم يكن ليقاتل، ولكن ليرجع فيضعف بذلك قوة المسلمين، وأنه لا يريد القتال لا في سبيل الله ولا في الدفاع، وأنه عاص لله ورسوله.
3. ثم تجلى نفاقه بإرجافه حيث أجاب: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ فهو يزعم أن لقاء العدو في تلك الحال ليس إلا بمثابة انتحار وتسليم النفس للهلاك، وهذا باطل واضح، فقد قاتلوا في بدر وهم قلة أقل من عددهم يوم (أحد)، ولكنه قد ظن عدو الله أن الكفار هم الغالبون وأن الإسلام يسقط، وفي أمله أنهم إذا غلبوا رجع إلى الكفر، كما قال تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ من النطق بالشهادتين وما أشبه ﴿مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لأنهم غير مؤمنين ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من النفاق والنية الخبيثة وغير ذلك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/574.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ليعلم الله المؤمنين من خلال المواقف الصلبة التي يظهر بها المؤمن في عمقه الإيماني ويتميز بها عن غيره من المنافقين، لأن حكمة الله اقتضت أن يمتحن إيمان المؤمن بالتجربة القاسية، وذلك في لفتة إيحائية في خطة الابتلاء في الحياة، بأن الموقف هو الأساس في الإيمان وليس الكلمة، وبهذا نعرف أن الحديث عن علم الله بذلك خاضع لطبيعة الأشياء في وسائل المعرفة، فهو وارد على سبيل التقريب لا على سبيل الحقيقة، لأن الله يعلم بكل شيء قبل حدوثه.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ هذا نموذج من النماذج التي كانت تتحرك في المجتمع الإسلامي لتثير فيه الفتنة والخوف والتردد، وتشوّه له وجه الصورة الحقيقيّة للأشياء، وتعطّل كثيرا من طاقاته وخطواته العمليّة السائرة نحو الهدف.. وقد جاء القرآن ليكشف لنا عن هؤلاء في ما يذكره لنا من كلماتهم ومواقفهم، لنتعرّف من ذلك على ملامحهم، لنرصد تحركاتهم في ما نعيش الآن من حركة الحاضر وما نريد أن نعايشه من أوضاع المستقبل، لأن أسلوب القرآن من خلال ما يقدّمه إلينا من نماذج، يثير أمامنا التجربة في الماضي لنتعلم من وحيها كيف نتجاوز سلبياتها ونحتوي إيجابياتها في ما نستقبل من تجارب الحياة المماثلة.
3. لقد عاش هؤلاء المنافقون مع المسلمين كمسلمين من حيث الجانب الشكلي للإسلام، فقد أظهروا الإيمان، في ما أظهروه من كلماته، ولكنهم أبطنوا الكفر، وكانت خطتهم أن يفسدوا على المسلمين إسلامهم وحياتهم ليفجّروا الإسلام من الداخل عندما تدبّ في داخله عوامل التفجير المتنوّعة، أمّا في ما يتعلق بسلوكهم وما يواجهونه من تحديات المسؤولية التي تمتحن إيمان الإنسان من خلال الالتزام وعدمه، فقد كانوا يتهرّبون من ذلك بإثارة التبريرات والأعذار التي يبرّرون بها قعودهم وتراجعهم، ويعملون على إغراء الآخرين بالسير على طريقهم في ذلك، وهذا ما حدث لهم عندما كان النبي يدعو المسلمين إلى الخروج إلى المعركة في أحد، فقد حاولوا الإيحاء باهتمامهم بالجهاد في سبيل الله في كل موقف من المواقف التي تتحرك فيها المعركة للقتال، فإذا حصلت لهم القناعة بذلك فإنهم يبادرون إلى القتال في الصفوف الأولى للمعركة، وبهذا واجهوا الدعوة إلى الخروج للقتال في سبيل الله والدفاع عن المؤمنين، فقد قالوا: إنهم يعتقدون بأن الموقف ليس موقف قتال، ولذلك فلا يشعرون بأيّة ضرورة للخروج، ولو اعتقدوا ذلك لخرجوا.
4. أرادوا من هذا الأسلوب أن يحققوا نقطتين: إحداهما: تبرير قعودهم عن الخروج، والأخرى: الإيحاء للمسلمين باتخاذ الموقف نفسه، بتبريد الحماس الإيماني الذي يجيش في نفوسهم ويدفعهم إلى السير نحو المعركة.
5. لكنّ الله يحدّثنا عن طبيعة الموقف، ليكشف زيف الواقع الذي ينطوون عليه، فهم للكفر أقرب منهم للإيمان، لأن الإيمان ليس كلمة تمثّل معنى التقوى والإيمان، بل هو موقف للتقوى يدفع الإنسان إلى أن يقف عند حدود الله، فيتحرك حيث يريد منه أن يتحرك، ويتوقف حيث يريده أن يتوقف، ولعلّ من أوضح مواقف التقوى أن يطيع الله ورسوله في ما يتوجّه إليه من أوامر ونواه، فلا معنى للإيمان وللتقوى إذا كان الإنسان يتهرب من الاستجابة لله ورسوله في دعوة الجهاد، ويبرّر ذلك بما يعلم الله أنه غير صادق فيه، في ما يعلمه الله من داخله، وذلك هو معنى الكفر كموقف، فإن المظهر العملي للكفر هو الانحراف عن طاعة الله، ولهذا وردت كثير من الآيات التي تعتبر الانحراف العملي كفرا، لأنه يلتقي مع الكفر في مظاهره، وربما كان من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، حيث اعتبر عدم القيام بالحج كفرا، ويؤكّد هذا التفسير للآية الحديث الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام: (من مات ولم يحج حجة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق الحج من أجله، أو سلطان يمنعه فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا)
6. ﴿وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ نافَقُوا﴾ وأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان فكانوا جزءا من المجتمع الإسلامي، فهم يتحركون في داخله كأنهم جماعة إسلامية مؤمنة في اهتماماتها بالواقع الإسلامي، وفي حديثها المتنوع عن إيجابيات حركة المسلمين وسلبياتها، في الحرب والسلم، كما لو كانت المسألة لديهم مسألة الغيرة على الإسلام والمسلمين، وربما كان حديثهم حول المصلحة الإسلامية أكثر حماسا وانفعالا من المسلمين الآخرين للتدليل على إخلاصهم، فيخدعون البسطاء الطيبين من المسلمين عندما يمنحونهم الثقة فيستمعون إليهم، ويأخذون بآرائهم وأفكارهم، فيؤدي ذلك إلى اهتزاز المجتمع الإسلامي بفعل خططهم الخبيثة التي تختفي وراءها أحقادهم الثقافية، فيخيل للمؤمنين أنها صادرة عن غيرة على الإسلام وإخلاص للمسلمين، فكانت هذه الآية من أجل تعرية الواقع الذي يختزنونه في داخلهم، وفضح مخططاتهم في أساليبهم الخادعة من أجل أن يظهروا على حقيقتهم، فيعلم الناس من أمرهم ما كانوا يخفونه، وبذلك تسقط كل خططهم في الإضرار بالمسلمين، أما نسبة العلم إلى الله بصفات المخلوقين، باعتبار أن للمعرفة وسائلها الواقعية التي إذا توفّرت أعطت الصورة الحقيقية للأشياء كهؤلاء المنافقين الذين انفتح المسلمون عليهم في حركة المعركة.
7. ﴿وقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ كما يقاتل المسلمون من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله فتكون الغلبة للمسلمين على الكافرين من خلال حشد كل القوى المسلمة المقاتلة في ساحة الحرب ليحققوا التوازن في موازين القوى في المعركة.
8. ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ العدوّ عن ساحة المسلمين بحشد القوة التي ترهبه وتخفيفه وتهزم روحه المعنوية وتكسر شوكته، فإن الهدف الأساس في ساحة التحديات هي هزيمة العدوّ نفسيا أو عسكريا، كوسيلة من وسائل إضعافه وإسقاط معنوياته، لتنطلق المسيرة بقوّة بعيدا عن مواقع الخطر، وهذا هو الذي توحي به كلمة ﴿ادْفَعُوا﴾ التي تتضمن معنى الدفع النفسي والعملي بالوسائل المتنوعة التي قد تتفادى القتال لتحقق النتائج بدونه، وقد جاء في تفسير الكشاف، عن سهل بن سعد، الساعدي ـ وقد كفّ بصره ـ أنّه قال: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوّهم، قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: ﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ أراد كثروا سوادهم.. وهكذا نرى أن هذا الصحابي الجليل قد فهم آفاق الآية بطريقة واقعية على أساس تنوّع الوسائل في الصراع، ليكون من بينها ـ بالإضافة إلى القتال ـ حشد القوة الجماهيرية العددية للمسلمين أمام العدو، ليشعر بثقل القوّة في ميدان المواجهة، فيمنعه ذلك من الهجوم أو يدفعه إلى التقهقر، وهذا ما يمكن لنا استيحاؤه في إطلاق شعارات الوحدة بين المسلمين أمام التحديات الكبرى للكفر والاستكبار، لتكون مظهر صلابة وقوّة في الساحة.
9. ﴿قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ﴾ وهذا هو المنطق التبريري الذي يحاول أن يجد عذرا ـ في موقع العذر ـ فهم يتحدثون عن تصوّرهم بأن المعركة سوف تنتهي سلميّا بالطريقة الحاسمة التي لا تنفتح على قتال، مما لا يجعل هناك حاجة لوجودنا معكم، فليست القضية قضية انفصال عن مسئولية المسيرة الإسلامية بل هي قضية فقدان الضرورة الواقعية لكثرة المقاتلين، فلا يكون البعد عن المعركة خطيئة أو مشكلة سلبية، وربما فسّر البعض كلام المنافقين، أنهم قالوا: لو أننا كنا نعتبر أن المسألة مسألة قتال بينكم وبين العدو بحيث يمكن لكم أن تحققوا النصر عليه، مع احتمال أن يحقق النصر عليكم لاتبعناكم؛ ولكننا في دراساتنا للواقع نجد أن حركتكم حركة انتحارية، لأن موازين القوى وشروط المعركة لم تتوفر لديكم، بل كنتم كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة، فليست المسألة عقلائية يتحرك بها منطق العقل، فإن المسلمين قد وقفوا في موقع غير مناسب لحركة المعركة، ونقطة غير ملائمة.
10. مهما كان المعنى، فقد كان موقفهم موقف الاعتذار والتعلل بالأعذار الواهية التي تبرر تخلّفهم حتى لا ينكشف أمرهم في نفاقهم الداخلي، فلم تكن المسألة كما تصوروها أو شرحوها، بل كانت حربا حقيقية انتصر المسلمون في بداياتها من خلال أخذهم بأسباب النصر، مما يوحي بأن توازن القوى كان لمصلحة المسلمين، فلم ينهزموا من قلة عدد أو من عدم توازن الموقف والموقع، بل كانت هزيمتهم من مخالفتهم للخطة الموضوعة، واندفاعهم في الطمع الدنيوي الذي دفعهم إلى التخلي عن مراكزهم الحيوية.
11. ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ إذ ظهرت حقيقتهم في ارتباطهم بواقع الكفر، وذلك من خلال موقفهم وكلامهم التبريري الذي يفصح عن عقيدتهم المنحرفة، لأنه لا ينطلق من حجّة مقبولة، وواقع معقول، فكانوا ـ مع الكافرين ـ في الموقع والموقف، بينما كانوا ـ في الماضي ـ أقرب إلى المؤمنين في مواقف الإيمان التي كانوا يتظاهرون بها خداعا ونفاقا.
12. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فهم يتكلمون كلام المؤمنين، ويعتقدون عقيدة الكافرين، فلا يتجاوز إيمانهم مخارج الحروف في أفواههم، فليس للقلوب حصّة منه، وذلك هو شأن المنافقين الذين يظهرون غير ما يبطنون، أما المؤمنون فهم الذين تلتقي الكلمة عندهم في اللسان بالإيمان في الجنان، والقرآن في ذلك يؤكد هويتهم الحقيقة، فليست القضية لديهم قضية الانحراف العملي، بل هي الانحراف في العقيدة، لأن كلمات الإيمان وأساليب التبرير التي يبررون بها مواقفهم لا تمثل الواقع الداخلي عندهم، فهي مجرد كلمات لا تعبّر عما في النفس من قريب ولا من بعيد، فإن الله يعلم ما يكتمون في قلوبهم من كفر ونفاق، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ لأنه المطلع على أسرار خلقه، فلا يخفى عليه شيء مما يبطن هؤلاء المنافقون في قلوبهم ويكتمونه عن الناس.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/370.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان، وعلى العموم فقد تميز المسلمون ـ في معركة أحد ـ في طوائف ثلاث:
أ. الطائفة الأولى: وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتّى آخر لحظه، حتّى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.
ب. الطائفة الثانية: هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الاضطراب ولم يمكنهم الثبات حتّى آخر لحظة، ففروا من الميدان.
ج. الطائفة الثالثة: وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى المدينة، وهم عبد الله بن أبي سلول، وثلاثمائة شخص من أعوانه وأنصاره وجماعته، فلو لم تقع حادثة أحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقا، ولما اتضح الأمر بمثل هذا الاتضاح أبدا، ولما تبين كلّ شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع ـ في مقام الادعاء ـ أنهم مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.
2. في الحقيقة ـ تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين:
أ. الأول: العلة الفاعلية للهزيمة.
ب. الثاني: العلة الغائية (والنتيجة النهائية) لها.
3. على أنّ هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ ولم تقل (ليعلم المنافقين)، وبتعبير آخر: جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة (الوصف) وهو ـ لعلّه ـ لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، والتحق بصف المؤمنين الصادقين.
4. ثمّ إن القرآن الكريم يستعرض حوارا قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ فإن بعض المسلمين (وهو عبد الله بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى انسحاب عبد الله بن أبي سلول وانفصالهم عن الجيش الإسلامي، واعتزامهم العودة إلى المدينة قال تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله، ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.
5. بناء على تفسير آخر قال المنافقون: لو أننا كنا نعتبر هذا قتالا معقولا لتعاونا معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالا بل نوعا من الانتحار والمغامرة الانتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم أمر غير عقلائي، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.
6. على كلّ حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأن المسلمين انتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من الهزيمة والانكسار فلم يكن إلّا بسبب أخطاء ومخالفات ارتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ (أي أنهم يكذبون)، هذا مضافا إلى أنه يستفاد من هذه الجملة (أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله وسلوكه.
7. ثمّ علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على اقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أحد في صحبة المسلمين، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ فإن الله يعلم جيدا ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم الشريرة في الآخرة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/774.
91. القاعدون والخذلان والموت
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈91⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 168]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: عجبت لعامر الدنيا دار الفناء، وهو نازل دار البقاء(1).
2. روي أنّه قال: الجبن شين(2).
3. روي أنّه قال: الجبن ذلّ ظاهر(2).
4. روي أنّه قال: احذروا الجبن؛ فإنّه عار ومنقصة(2).
5. روي أنّه قال: إذا هبت أمرا فقع فيه فإنّ شدّة توقّيه أشدّ من الوقوع فيه(2).
6. روي أنّه قال: شدّة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين(2).
7. روي أنّه قال: من هاب خاب(2).
8. روي أنّه قال: لا ينبغي للعاقل أن يقيم على الخوف إذا وجد إلى الأمن سبيلا(2).
__________
(1) أعلام الدين: ص 296.
(2) غرر الحكم: ص263.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بما يقولون إنه كما يقولون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ هم الكفار، يقولون لإخوانهم: لو كانوا عندنا ما قتلوا، يحسبون أن حضورهم إلى القتال هو الذي يقدمهم إلى الأجل(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا، فذكر الله في قولهم: ولئن أطعتنا لترجعن: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ الآية(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن جرير، وابن جرير: ٦/٢٢٣ دون ما بين المعقوفين.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا﴾ نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ثلاث إذا كنّ في الرجل فلا تحرج أن تقول إنّه في جهنّم: الجفاء، والجبن، والبخل، وثلاث إذا كنّ في المرأة فلا تحرج أن تقول: إنّها في جهنّم: البذاء، والخيلاء، والفخر(1).
__________
(1) الخصال 1/158.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدين ولا الولاية ـ كقوله سبحانه: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: ٧٣، وهود: ٦١]، ليس بأخيهم في الدين ولا في الولاية، ولكن أخاهم في النسب والقرابة ـ: ﴿وَقَعَدُوا﴾ عن القتال: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، فأوجب الله لهم الموت صغرة قمأة، والإيجاب لمن كرهوا قتله من أقربائهم، فقال سبحانه: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: رجع يومئذ عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، ولم يشهدوا القتال، فقال عبد الله بن رباب وأصحابه: أبعدكم الله، سيغني الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين عن نصركم، فلما انهزم المؤمنون وقتلوا يومئذ قال عبد الله بن أبي: لو أطاعونا ما قتلوا، يعني: عبد الله بن رباب وأصحابه؛ فأنزل الله تعالى في قول عبد الله بن أبي: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان، ١/٢٠١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾، أي: أنه لا بد من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله حرصا على البقاء في الدنيا، وفرارا من الموت(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: لإخوانهم في الدين، ومعارفهم من المنافقين: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ ولم يخرجوا إلى الجهاد ﴿مَا قُتِلُوا﴾
ب. وقيل: لإخوانهم في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدين والولاية؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: 73] ليس بأخيهم في الدين ولا في الولاية؛ ولكن كان أخاهم في النسب والقرابة.
2. ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ وقعدوا عن الخروج في الجهاد ﴿مَا قُتِلُوا﴾ في الغزو، ثم قال عزّ وجل لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن قل لهم: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأنهم لو قعدوا في بيوتهم ما قتلوا؛ فمعناه: أن من قتل في سبيل الله فمكتوب ذلك عليه، ومن مات في بيته فمكتوب ذلك عليه، فإذا لم تقدروا دفع ما كتب عليكم من الموت؛ كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا، وهو مكتوب عليهم كالموت!؟
3. هذه الآية ترد على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من قتل مات قبل أجله، أو قبل أن يستوفي أجله؛ فهم واليهود فيما أنكر الله عليهم قولهم لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ـ سواء بقوله: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/528.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ يعني عبد الله بن أبيّ وأصحابه حين انخذلوا وقعدوا، وكانوا نحو ثلاثمائة وتخلف عنهم من قتل منهم (فقالوا) لو أطاعونا وقعدوا معنا ما قتلوا.
2. ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ أي ادفعوا عن أنفسكم الموت، ومنه قول الشاعر:
çتقول وقد درأت لها وضيني...أهذا دينه أبدا ودينيé
3. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني في خبركم أنهم لو أطاعوا ما قتلوا.
ب. الثاني: معناه إن كنتم محقين في تثبيطكم عن الجهاد فرارا من القتل.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/436.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه من الأعراب:
أ. أحدها: أن يكون نصباً على البدل من الذين نافقوا.
ب. الثاني: الرفع على البدل من الضمير في يكتمون.
ج. الثالث: الرفع على خبر الابتداء، وتقديره: هم ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾
2. المعني بهذا الكلام والقائلون لهذا القول عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين قالوه في قتلى يوم أحد من إخوانهم ـ على قول جابر بن عبد الله، وقتادة، والسدي، والربيع ـ
3. ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ معناه ادفعوا قال الشاعر:
çتقول إذا درأت لها وضيني...أهذا دينه أبداً ودينيé
4. سؤال وإشكال: كيف يلزمهم دفع الموت عن أنفسهم بقولهم أنهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا؟ والجواب: لأن من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت فليدفعه، فهو أجدى عليه.
5. سؤال وإشكال: كيف كان هذا القول منهم كذباً مع أنه اخبار على ما جرت به العادة؟ والجواب:
أ. لأنهم لا يدرون لعلهم لو لم يخرجوا لدخل المشركون عليهم في ديارهم، فقتلوهم هذا قول أبي علي.
ب. وقال غيره: معني ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي محقين في تثبيطكم من الجهاد فراراً من القتل.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/45.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الدرء: الدفع، درأت عنه أَدْرَأُ دَرْءًا، أي دفعت، فأنا دارئ أي دافع، قال الشاعر:
çتَقُولُ إذَا دَرَأْتُ لَها وضِيني... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينيé
2. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ يعني المنافقين ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾:
أ. في النسب لا في الدين، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا في قتلى أحد عن جابر وقتادة والسدي والربيع.
ب. وقيل: هم المتخلفون من المنافقين دون عبد الله ابن أبي؛ لأنه حضر الوقعة، والأول الوجه؛ لأنه الذي انخذل بهم.
ج. وقيل: سماهم إخوانًا على زعمهم.
3. ﴿وَقَعَدُوا﴾ يعني هَؤُلَاءِ المنافقين القائلين قعدوا عن الجهاد ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ يعني مَنْ قُتِل بأحد لو قعدوا كما قعدنا، وفعلوا كما فعلنا لسلموا كما سلمنا، ولم يقتلوا كما لم نقتل.
4. ﴿قُلْ﴾ يا محمد جوابًا لهم ﴿فَادْرَؤُوا﴾ أي ادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾:
أ. قيل: يعني من علم الغيب في السلامة والقتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت فليدفع هذا القائل الموت عن أنفسكم.
ب. وقيل: إن المراد أنّ الموت والقتل سببان لفناء الخلق، فادرؤوا الموت في الوقت المعلوم عن الأصم، يعني أن ذلك غير مقدور لبشر.
ج. وقيل: ادفعوا عن أنفسكم الموت بجلوسكم لو نجى أولئك من القتل أو جلسوا فلستم في قولكم صادقين؛ لأنه كان يجوز لو لم يخرجوا لدخل المشركون عليهم ديارهم فقتلوهم عن أبي علي.
د. وقيل: إن كنتم محقين في تثبيطكم عن الجهاد فرارًا من القتل.
هـ. وقيل: إذا كان تحرزكم لأولئك من القتل ممكنًا، فأنتم على دفعه من أنفسكم أقدر عن أبي مسلم.
5. سؤال وإشكال: ما يقوله أبو علي كيف يكون ذلك كذبا عنهم؟ والجواب: لأنهم لا يدرون لعلهم لو لم يخرجوا لدخل عليهم المشركون دارهم وقتلوهم.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. في قوله تعالى: ﴿قْل فَادْرَؤُوا﴾ ترغيب في الجهاد، وبيان أن كل أحد يموت بأجله، فلا ينبغي أن يجعل ذلك عذرًا في القعود عن الجهاد؛ لأن المجاهد قد يسلم والقاعد قد يموت، فيجب أن يكون الاتكال عليه تعالى.
ب. أن الآجال مؤقتة معلومة لا تزيد ولا تنقص، ولا يقدر عليها أحد غيره تعالى.
7. موضع قوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ من الإعراب يحتمل ثلاثة أوجه:
• الأول: النصب على البدل من ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾
• الثاني: الرفع على البدل من الضمير في ﴿يَكْتُمُونَ﴾
• الثالث: الرفع على خبر الابتداء، بتقدير هم الَّذِينَ قالوا لإخوانهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/452.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الدرء: الدفع، يقال درأ عنه أي: دفع عنه، قال الشاعر:
çتقول إذا درأت لها وضيني:... أهذا دينه أبدا، ودينيé
2. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ يعني المنافقين ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ في النسب، لا في الدين، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا في قتلى أحد ﴿وَقَعَدُوا﴾ هم يعني هؤلاء القائلون، عن جابر وقتادة والسدي والربيع ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ في القعود في البيت، وترك الخروج إلى القتال ﴿مَا قُتِلُوا قُلْ﴾ لهم يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿فادرؤوا﴾ أي: فادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في هذه المقالة، ولا يمكنهم دفع الموت، لأنه يجوز أن يدخل عليهم العدو فيقتلهم في قعر بيوتهم.
3. إنما ألزمهم الله دفع الموت عن أنفسهم بمقالتهم أنهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا، لأن من علم الغيب في السلامة من القتل، يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت، فينبغي أن يدفعه هذا القائل، فإنه أجدى عليه، وفي هذا ترغيب في الجهاد، وبيان أن كل أحد يموت بأجله، فلا ينبغي أن يجعل ذلك عذرا في القعود عن الجهاد، لأن المجاهد ربما يسلم، والقاعد ربما يموت، فيجب أن يكون على الله التكلان.
4. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ يحتمل أن يكون نصبا على البدل من الضمير في ﴿يَكْتُمُونَ﴾، ويحتمل أن يكون رفعا على خبر الابتداء على تقدير هم الذين قالوا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/879.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وفي إخوانهم قولان:
أ. أحدهما: أنهم إخوانهم في النّفاق، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: إخوانهم في النّسب، قاله مقاتل.
2. على الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمّد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا.
3. ﴿وَقَعَدُوا﴾ يعني القائلين قعدوا عن الجهاد.
4. ﴿فادرؤوا﴾ أي: فادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنّ الحذر ينفع مع القدر.
__________
(1) زاد المسير: 1/346.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ [آل عمران: 167] وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك، فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لإخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس.
2. في محل ﴿الَّذِينَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: النصب على البدل من ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [آل عمران: 167]
ب. ثانيها: الرفع على البدل من الضمير في ﴿يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 167]
ج. ثالثها: الرفع على خبر الابتداء بتقدير: هم الذين.
د. رابعها: أن يكون نصباً على الذم.
3. اختلف في ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾:
أ. قال المفسرون: المراد عبد الله بن أبي وأصحابه.
ب. وقال الأصم: هذا لا يجوز لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الجهاد يوم أحد، وهذا القول هو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا﴾ أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد، قاله لمن خرج إلى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفاً لهم عن الجهاد.
4. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ أي قالوا لأجل إخوانهم، وقد سبق بيان المراد من هذه الأخوة، الأخوة في النسب، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدار، أو في عداوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو في عبادة الأوثان؟
5. ﴿وَقَعَدُوا﴾ قال الواحدي: الواو في قوله: ﴿وَقَعَدُوا﴾ للحال، ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا، ثم أجاب الله عن ذلك بقوله: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾
6. سؤال وإشكال: ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فإن التحرز عن القتل ممكن، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة؟ والجواب: هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق، فيصح الاستدلال أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني: إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره والوصول إلى المطالب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/425.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ معناه لأجل إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخزرج، وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدين، أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتلوا، وقيل: قال عبد الله بن أبي وأصحابه لإخوانهم، أي لأشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قتلوا، لما قتلوا.
2. ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ يريد في ألا يخرجوا إلى قريش، وقوله: ﴿وَقَعَدُوا﴾ أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد، فرد الله عليهم بقوله: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾ أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم، والدرء الدفع، بين بهذا أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقتول يقتل بأجله، وما علم الله وأخبر به كائن لا محالة، وقيل: مات يوم قيل هذا، سبعون منافقا، وقال أبو الليث السمرقندي: سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول: لما نزلت الآية ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/268.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الآية، أي: هم الذين قالوا لإخوانهم، على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون بدلا من: واو يكتمون، أو منصوبا على الذمّ، أو وصف للذين نافقوا، وقد تقدم معنى ﴿قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ أي: قالوا لهم ذلك، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال.
2. ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ بترك الخروج من المدينة ما قتلوا، فردّ الله ذلك عليهم بقوله: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ والدرء: الدفع، أي: لا ينفع الحذر من القدر، فإن المقتول يقتل بأجله.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/456.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ أي من أجل أقاربهم من قتلى أحد ﴿وَقَعَدُوا﴾ أي والحال قد قعدوا عنهم خذلانا لهم ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ أي في الرجوع ﴿مَا قُتِلُوا﴾ كما لم نقتل ﴿قُلْ﴾ كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت ﴿فادرؤوا﴾ أي ادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ أي فإنها أقرب إليكم من أنفسهم.
2. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أن الموت يغني منه حذر، والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود، مع كتابته عليكم، فإن ذلك مما لا سبيل إليه.
3. قال ابن القيّم: وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا رد الله عليهم، وجوابه لهم، وعرفوا موادّ النفاق، وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف، وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/455.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُواْ﴾ نعت (الَّذِينَ)، أو بدل منه، أو بدل من ضمير (أَفْوَاهِهِمْ)، أو (قُلُوبِهِمْ)، أو من واو (يَكْتُمُونَ)، أو ذَمُّ (الذين)، أو هم الذين، ﴿لإِخْوَانِهِمْ﴾ في شأن إخوانهم، أو لأجل إخوانهم، أو خاطبوا إخوانهم، وَعَلَى هَذَا فقوله: ﴿لَوَ اَطَاعُونَا﴾ التفات، أي: لو أطعتمونا ما قُتلتم، والأُخوَّة أخوَّة النَّسب أو البلد، وهم شهداء أحد المخلصون، أو أخوَّة دين النفاق، فإنَّ مِمَّن مات في أحد من هو منافق، ﴿وَقَعَدُواْ﴾ في المدينة عن الجهاد، عطف عَلَى (قَالُوا)، أو حال بلا تقدير (قد) أو (هم)، أو تقدير أحدهما، وذلك في الماضي المثبت.
2. ﴿لَوَ اَطَاعُونَا﴾ في القعود في المدينة عن الخروج للجهاد، أو المراد بالقعود الانخزال عن القتال بعد الخروج كما مَرَّ أنَّ ابن أُبيٍّ انخزل بثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر يدعوهم للرجوع إِلَى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وحزب الله تعالى ، ﴿مَا قُتِلُواْ﴾ كما لم نقتل إذ لم نخرج.
3. ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿فَادْرَءُواْ﴾ أي: إذا اعتبرتم ذلك فادرَؤُوا، أي: ادفعوا، ﴿عَنَ اَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنَّ الموت ينجي منه القعود، فإنَّه إذا جاءكم لم تقدروا عَلَى ردِّه، ومن قدَّر الله موته في موضع لم يجد إِلَّا أن يخرج إِلَيهِ، ومن قدِّر موته في موضعه لم يجد أن يموت في غيره، فيدركه في موضعه، وروي أنَّه أنزل بهم الموت فمات منهم نحو سبعين عدد من قتل في أحد بلا خروج ولا قتال، لإظهار كذبهم، وجميع ما في العالم لا يقع إِلَّا بإذن الله عَلَى سبب وَعَلَى غير سبب، فكما يكون عدم الخروج سببا للنجاة يكون سببا للموت.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/56.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر الله تعالى للمنافقين قولا آخر قالوه بعد القتال ـ وإنما كان القول السابق قبل القتال اعتذارا عن القعود والتخلف ـ فقال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ أي هم الذين قالوا لإخوانهم، أو هو بدل من قوله ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أو نعت له، أي قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في أحد وفي شأنهم والحال أنهم هم قد قعدوا عن القتال: لو أطاعونا في القعود عن القتال فلم يخرجوا كما أننا لم نخرج لما قتلوا كما أننا نحن لم نقتل إذ لم نخرج.
2. قال محمد عبده: هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين جاء في سياق التقريع المتقدم، وقدم القول فيه على القعود عن القتال لأنه أقبح منه، فإن القعود ربما كان لعذر أو التمس الناس له عذرا واللوم فيه على فاعله وحده لأن إثمه لا يتعداه إلى غيره، وأما هذا القول الخبيث فإنه أدل على فساد السريرة وضعف العقل والدين، وضرره يتعدى لما فيه من تثبيط همم المجاهدين، أقول: ويدل على إصرارهم ما اجترموه من التثبيط والنهي حين انفصل ابن أبي بأصحابه من العسكر مؤيدين ذلك بالاحتجاج على أنهم فعلوا الصواب وقد دحض الله تعالى حجتهم بقوله لنبيه ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال محمد عبده: أي أن هذا القول في حكمه الجازم يتضمن أن علمهم قد أحاط بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز هذا فيها جاز في غيرها، وحينئذ يمكنهم درء الموت أي دفعه عن أنفسهم ولذلك طالبهم به وجعله حجة عليهم، وقد يقال: إن فرقا بين التوقي من القتل بالبعد عن أسبابه وبين دفع الموت بالمرة، فالموت حتم عند انتهاء الأجل المحدود وإن طال والقتل ليس كذلك فكيف احتج عليهم بطلب درء الموت عن أنفسهم؟ قال: وهذا اعتراض يجيء من وقوف النظر فكل يعلم ولا سيما من حارب أنه ما كل من حارب يقتل فقد عرف بالتجربة أن كثيرين يصابون بالرصاص في أثناء القتال ولا يموتون وأن كثيرين يخرجون من المعمعة سالمين ولا يلبثون بعدها أن يموتوا حتف أنوفهم كما يموت كثير من القاعدين عن القتال، فما كل مقاتل يموت، ولا كل قاعد يسلم، وإذا لم يكن أحد الأمرين حتما سقط قولهم وظهر بطلانه، وأقول: إنه ذكر في المسألة كلاما آخر لم أكتبه في وقته ولم أفرغ له بعده حتى نسيته، وكل من سمع كلام من لاقوا الحروب يعجب من كثرة الوقائع التي يسلم فيها المخاطرون ويهلك الحذرون.
__________
(1) تفسير المنار: 4/231.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر الله تعالى قولا قالوه قبل القتال وبين بطلانه ـ أردفه قولا قالوه بعده وبيّن فساده، قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في هذه الواقعة، والحال أنهم قعدوا عن القتال: لو أطاعونا في القعود ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج ـ لما قتلوا كما أنّا لم نقتل، وفي هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا.
2. دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أي قل لهم: إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز في غيرها، وحينئذ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم.
3. الخلاصة ـ إنكم إن كنتم صادقين في أن الحذر يغنى عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/130.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول، ومن معه، ويسميهم: ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، وقد كشفهم الله في هذه الموقعة، وميز الصف الإسلامي منهم، وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾.. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر، وإنما هم: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.. فقد كان في قلوبهم النفاق، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها، فالذي كان برأس النفاق ـ عبد الله بن أبي ـ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأخذ برأيه يوم أحد، والذي كان به قبل هذا أن قدومه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرئاسة فيهم، وجعل الرئاسة لدين الله، ولحامل هذا الدين!
2. هذا الذي كان في قلوبهم، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد، والمشركون على أبواب المدينة، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام، وهو يقول لهم: ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا﴾ محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/516.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هو كشف لبعض ما أراد الله من هذا المصاب الذي وقع في المسلمين، فهو امتحان وبلاء لهم، ليعرفوا ما في أنفسهم من إيمان وصبر، وليتعاملوا مع الله على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم.
2. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث في أحد، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين، فيأخذوا حذرهم منهم، ويعزلوهم عنهم، فإنهم ـ حيث كانوا ـ مرض خبيث، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها، ويختلط بها.
3. قولة المنافقين هنا، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ قولة منافقة خبيثة، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين، وهم في مواجهة العدو:
أ. فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، وأن قريشا، إنما جاءت لتعرض قوّتها، ولتلقى في قلوب المسلمين الرعب منها، حتى لا يعترضوا تجارتها في طريقها إلى الشام، ثم تنصرف بلا قتال.
ب. وقد تحمل هذه القولة أيضا ـ وهو الوجه الواضح منها ـ على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم.. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش.. فالمسلمون ـ كما يرى المنافقون ـ في عدد قليل وضعف ظاهر، وقريش في جموع كثيرة، وأعداد وفيرة، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر، فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شيء، فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟ إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب.. هكذا يقول المنافقون.
4. قوله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ إدانة لهم، وحكم عليهم، بهذه الكلمة المنافقة، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر، فكادوا يكونون كفرا خالصا.
5. في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ ما يفضح نفاقهم، ويكشف حقيقة أمرهم.. إنهم لا يريدون أن يكونوا في المجاهدين، ولا يودّون للمسلمين نصرا، ولا يرجون للدّين انتصارا.. وإنما هم يعذرون لأنفسهم بهذه الكلمات المنافقة ليعيشوا بها في المؤمنين ولا ينقطعوا بها عن الكافرين والمشركين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/638.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ بدل من ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، أو صفة له، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين، إذ لعلّهم عرفوا من قبل بقولهم فيما تقدّم ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ فذكر هنا وصفا لهم ليتميّزوا كمال تمييز، واللام في (لإخوانهم) للتعليل وليست للتعدية، قالوا: كما هي في قوله: ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 156]، والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أحد، وهم من جلّة المؤمنين.
2. جملة ﴿وَقَعَدُوا﴾ حال معترضة، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أحد، وفعلوا كما فعلنا، وقرأ الجمهور: ما قتلوا ـ بتخفيف التاء ـ من القتل، وقرأه هشام عن ابن عامر ـ بتشديد التاء ـ من التقتيل للمبالغة في القتل، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعنا في طاعتهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أي ادرءوه عند حلوله، فإنّ من لم يمت بالسيف مات بغيره أي: إن كنتم صادقين في أنّ سبب موت إخوانكم هو عصيان أمركم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/282.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ في هذا النص قولهم بعد انتهاء الحرب، وقد قالوه ليبعثوا الريب في جماهير المؤمنين، وليعلنوا تخلى الله عن نصرتهم، والمعنى: هؤلاء قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم لو أطاعنا المؤمنون ما قتلوا، فقد دعوناهم إلى العودة إلى المدينة والامتناع عن الخروج ولكنهم خالفونا، فانتهوا إلى القتل، فالتقاول كان بين المنافقين أنفسهم، أو نقول: إن إخوانهم هم ذوو رحمهم وعشائرهم من المؤمنين الذين استشهدوا في أحد، والمعنى على هذا أن الذي قالوه لأجل أو في شأن إخوانهم، فاللام للتعليل وبيان الباعث على القول، فهم لا يتألمون لإخوانهم وذوى رحمهم، ولكن يلقون باللوم عليهم.
2. خلاصة القول: إنهم فرحون بأنهم لم يقتلوا لأنهم لم يخرجوا، ولائمون لمن خرجوا وقتلوا، شامتون فيهم، وهم بهذا يقررون أن موتهم سببه الخروج للقتال، وقد رد الله سبحانه وتعالى ذلك عليهم ببيان أن الموت مكتوب على الإنسان، وتقدر أسبابه، فقد يكون قتال ولا موت، وقد يكون موت من غير قتال، فقال سبحانه: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
3. ﴿فَادْرَءُوا﴾ الفاء هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح وهى تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بامتناعكم عن الذهاب إلى الميدان وقعودكم في الديار، فادرؤوا أي ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب الذي لا تفرون منه أبدا وهذا كقوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء] والمرمى في هذا النص أنهم يعتقدون أنهم نجوا من الموت بقعودهم، فهل يعتقدون أنهم نجوا منه نهائيا؟، إنه ملاحقهم، وما دام ملاحقهم وهو حقيقة مقررة يثبتها الحس المستمر، فلما ذا تفرون من القتال؟
4. التعليق في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لإفادة كذب حسهم، وكذب قولهم في زعمهم إن القعود سبب للنجاة، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لهم أنهم إن كانوا صادقين في أن القعود سبب للنجاة فليدفعوا عن أنفسهم الموت؛ لأن الموت لا يدفعه قعود ولا يستعجله خروج.
5. لتوضيح هذا الذي نقصده نقول: إن كلام هؤلاء المنافقين ككلام الكافرين الذي حكاه الله تعالى آنفا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران]، وإن هؤلاء قد زعموا أن القعود دافع للموت مانع من نزوله، فإن كان في إمكانهم بقعود أو نحوه أن يدفعوه فليدفعوه إذا جاء إن كانوا صادقين في هذا الزعم الذي زعموه، والمؤدى أن الموت إذا جاء الأجل ليس له من دفاع، فلا ينجى منه القعود، ولا ينزله الخروج، فزعمهم بأنهم كانوا ينجون لو لم يخرجوا زعم باطل، وإن كانوا صادقين فليدفعوه إذا نزل.. اللهم اجعل لنا في الموت عبرة، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا رب العالمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1499.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، أي قال المنافقون: لو أطاعنا الذين قتلوا يوم أحد مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يخرجوا معه ما قتل أحد منهم، كما انّا نحن لم نقتل لأنّا لم نخرج.
2. ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾، كلا، لا ينجو من من الموت من فر منه، ولم يعط البقاء من طلبه، قال الإمام علي عليه السلام: (إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، وإن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/202.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب وهم القتلى، وإنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله: ﴿وَقَعَدُوا﴾ أوقع تعيير وتأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع.
2. ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾ جواب عن قولهم ذاك، والدرء: الدفع.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/60.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ﴿وَقَعَدُوا﴾ عن القتال في حال هجوم العدو الذي لا يدفعه إلا القتال لا القعود وإنما القعود يُجرّيه، فإذا هجم على المسلمين مع فرط حقده عليهم لغضبه لدينه وملته ولمقتل أصحابه يوم بدر فكيف يُبْقِيْ على مسلم بل هو مظنة أن يستأصل شَأْفَتَهم فكيف يقول عدو الله المنافق: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ وهم إنما دعوهم إلى القعود، فقد ظهر نفاقه في هذه الكلمة أيضاً.
2. ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ﴾ أي فادفعوا عن أنفسكم ﴿الْمَوْتَ﴾ الذي لابد منه ولا مفر منه ولا محيص ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إنكم تستطيعون دفع القتل عن إخوانكم لو أطاعوكم، فإنَّ دَفْعَ القتل عنهم حينئذ مثل دفع الموت؛ لأنهم لو أطاعوكم فقعدوا هجم عليهم العدو فقضى عليهم بلا ريب.
3. في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا) وفي القرآن الكريم حكاية: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ [المائدة:23] فما يروى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان رأيه البقاء في المدينة محمول على أنه كان يوهم ذلك تألفاً للمنافقين قبل ظهور نفاقهم، ورؤياه أنه أدخل يده في جيب درعه كان تأويله رجوعه المدينة بعد تولي الأعداء ورجوعهم إلى مكة، بمعنى: أنه رجع في حفظ الله وحمايته ونصره بالرعب، ولو كان تأويله ترك الخروج لكانت الرؤيا لم تصدق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/576.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يتابع هؤلاء المنافقون عملية الإيحاء بالأفكار السلبية التي تملأ نفوس المؤمنين حسرة وألما وتبعدهم عن خط الإيمان في تصوراتهم الحياتية، ويصوّر لنا القرآن هذه العمليّة: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ الذين قتلوا في المعركة ﴿وَقَعَدُوا﴾ فلم يخرجوا معهم ليقاتلوا المشركين ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ في البقاء في بيوتهم والقعود عن القتال وهو ما أمرناهم به ﴿مَا قُتِلُوا﴾ فهم قد عرّضوا أنفسهم للقتل، أما نحن فقد استطعنا أن نحفظ حياتنا بقعودنا عن الخروج، وذلك بحصولنا على السلامة من الموت.
2. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ﴾ أي فادفعوا ﴿الْمَوْتَ﴾ إذا كنتم تملكون أسباب الحياة والموت وتعرفون مصادر الموت وموارده، فإذا كانت مسألة الحياة هي القعود عن القتال والبقاء في البيوت، وكانت مسألة الموت هي الاندفاع إلى الحرب والمشاركة فيها، فهل تستطيعون الحصول على الخلود وأنتم باقون في بيوتكم أو بعيدون عن ساحة الحرب!؟ فإن قضية الموت والحياة ليست خاضعة للفرص التي يوفرها الإنسان لنفسه أو يختارها في بعض مجالاته، بل هي بيد الله، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34]؛ ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154]؛ وهكذا أراد الله، من خلال هذا التحدي للمفاهيم التي طرحوها في الساحة، أن يكشف كذبهم وزيف واقعهم، لأنهم لا يستطيعون مواجهة هذا التحدي في قليل أو كثير.
3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فهل يبعدكم البعد عن ساحة الجهاد عن الموت في ما تستقبلونه من الزمان؟ إن ذلك لن يعفيكم من القضاء المحتوم الذي يجري على سنّة الله في الإنسان، فكل إنسان يموت بأجله، فلا يهرب من الحرب الجهادية ليسلم؛ فقد يلتقي بالموت وهو في راحة ودعة وأمان.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/376.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة، وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، فيرد عليهم القرآن الكريم قائلا: ﴿الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ يعني أنكم بكلامكم هذا تريدون الادعاء بأنكم مطلعون على عالم الغيب، وإنكم عارفون بالمستقبل وحوادثه، فإذا كنتم صادقين في ذلك فادفعوا عن أنفسكم الموت، لأنكم ـ طبقا لهذا الادعاء ـ ينبغي أن تعرفوا علة موتكم، وتقدرون على تجنبها، وتحاشيها، وإبطال مفعولها.. افرضوا أنكم لم تقتلوا في ساحات الجهاد والشرف، فهل يمكنكم أن تضمنوا لأنفسكم سنا طويلا، وعمرا خالدا؟ هل يمكنكم أن تمنعوا الموت عن أنفسكم أبدا ودائما؟ فإذا لم يمكنكم تحاشي الموت ـ هذه النهاية المحتّمة لكل نفس ـ فلما ذا تموتون في الفراش بذل وهوان، ولا تختارون الشهادة والموت بشرف وعز في ساحات الجهاد ضد أعداء الله وأعداء الرسالة؟
2. لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخوانا للمنافقين إطلاقا، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين؟ فيكون المعنى هو: إنكم أيها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخوانا لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ بكلمة (الذين قعدوا) أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة، فهل يصحّ أن يدعي الإنسان إخوته لآخر ثمّ يخذله حين يحتاج إلى نصره وتأييده ويقعد عنه حين يحتاج إلى حمايته!؟
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/777.
92. فضل الشهداء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈92⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك؛ أرواحهم في جوف طير خضر ـ ولفظ عبد الرزاق: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر ـ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟، قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا!؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا(1).
2. روي أنّه قال في الثالثة حين قال لهم: هل تشتهون من شيء؟ قالوا: تقرئ نبينا السلام، وتبلغه أنا قد رضينا ورضي عنا(2).
__________
(1) عبد الرزاق في المصنف: ٩٥٥٤.
(2) الثوري: ص٨١.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. قال الإمام علي يوم الجمل: أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش( ).
2. سئل الإمام الرضا عن قول الإمام علي (لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش؟) فقال: في سبيل الله( ).
3. قال الإمام علي يحض أصحابه على الجهاد: فقدموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي الشجعان منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها حفافيها وورائها وأمامها لا يتأخرون عنها فيسلموها ولا يتقدمون عليها فيفردوها، أجزأ امرؤ قرنه وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه، وأيم الله لو فررتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة، أنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم إن في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار غير مزيد في عمره، ولا محجوب بينه وبين يومه، من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء، الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، اللهّم فإن ردّوا الحق فافضض جماعتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك يخرج منه النسيم، وضرب يفلق الهام ويطيح العظام ويبدد السواعد والأقدام وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر، ويرموا بالكتائب تقفوها الجلائب حتى يجر بلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى تدعق الخيول في نواحي أرضهم وبأعنان مساربهم ومسارحهم( ).
4. قال الإمام الصادق: كان الإمام علي إذا أراد القتال قال هذه الدعوات: اللهم إنك أعلمت سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك، وندبت إليه أوليائك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك مآبا وأحبها اليك مسلكا، ثم اشتريت فيه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا، فاجعلني ممن يشتري فيه منك نفسه، ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه غير ناكث ولا ناقض عهدا، ولا مبدل تبديلا بل استيجابا لمحبتك، وتقربا به إليك، فاجعله خاتمة عملي، وصير فيه فناء عمري، وارزقني فيه لك وبه مشهدا توجب لي به منك الرضا، وتحط به عني الخطايا، وتجعلني في الأحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت لواء الحق، وراية الهدى ماضيا على نصرتهم قدما، غير مول دبرا، ولا محدث شكا، اللهم وأعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال، ومن الضعف عند مساورة الأبطال ومن الذنب المحبط للأعمال، فأحجم من شك أو أمضي بغير يقين فيكون سعيي في تباب وعملي غير مقبول( ).
5. قال الإمام علي: وليعلم المنهزم بأنه مسخط ربه، وموبق نفسه، وأن في الفرار موجدة الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، ولا يرضي ربه، ولموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها، والإقرار عليها( ).
6. قال الإمام علي: أيّها الناس إنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص ومن لم يمت يقتل وإنّ أفضل الموت القتل، والّذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش ( ).
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. ليس شأني شأن من يخاف الموت ما أهون الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ، ليس الموت في سبيل العزّ إلّا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذلّ إلّا الموت الّذي لا حياة معه أفبالموت تخوّفني هيهات طاش سهمك وخاب ظنّك، لست أخاف الموت إنّ نفسي لأكبر من ذلك وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي، مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي، فإذا لا أبالي بالقتل ( ).
2. قال الإمام الحسين: موت في عزّ خير من حياة في ذلّ ( ).
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة(2).
__________
(1) الحاكم: ٢/٤١٩.
(2) عبد الرزاق في المصنف: ٩٥٥٧.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا: يا ليت لنا مخبرا يخبر إخواننا بالذي صرنا إليه من الكرامة لنا، فأوحى إليهم ربهم: أنا رسولكم إلى إخوانكم، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ إلى قوله: ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين أرسلهم النبي إلى بئر معونة: لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل، فخرج أولئك النفر حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل هذا الماء؟ فقال ابن ملحان الأنصاري: أنا، فخرج حتى أتى حواءهم، فاحتبى أمام البيوت، ثم قال يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت، ورب الكعبة، فاتبعوا أثره، حتى أتوا أصحابه في الغار، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، فحدثني أنس: أن الله أنزل فيهم قرآنا: (بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه)، ثم نسخت، فرفعت بعدما قرأناه زمانا، وأنزل الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن أبي عاصم في الجهاد: ٢/٥١٥.
(2) ابن جرير: ٦/٢٣٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾: في صور طير خضر، يطيرون في الجنة حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، يعني: في طاعة الله في جهاد المشركين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾، يعني: أرواح الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ لما دخلوا الجنة، ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء؛ قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما صرنا فيه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا، فيصيبون ما أصبنا من الخير، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمرهم، وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾، يعني: إخوانهم من أهل الدنيا أنهم سيحرصون على الجهاد، ويلحقون بهم(2).
4. روي أنّه قال: لما أصيب حمزة وأصحابه بأحد قالوا: ليت من خلفنا علموا ما أعطانا الله من الثواب؛ ليكون أجرأ لهم، فقال الله: أنا أعلمهم، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ الآية(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٣.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٤.
(3) ابن أبي شيبة: ٥/٣٢١.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقوا ربهم، فأكرمهم، فأصابوا الحياة، والشهادة، والرزق الطيب، قالوا: يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا، فقال الله: أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ يرزقون من ثمر الجنة، ويجدون ريحها، وليسوا فيها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٩٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال في الآية: أرواح الشهداء في طير بيض في الجنة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٠٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا ما يموت، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، من قتل في سبيل الله يقدم إلى البشرى إلى ما قدم من خير في الجنة، ويقول: أخي تركته على مثل عملي، يقتل الآن، فيقدم على مثل ما قدمت عليه، فيستبشر بالجنة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٥.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم؛ لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم(1).
2. روي أنّه قال: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ الآية(2).
3. روي أنّه قال في الآية: كنا نحدث: أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض، تأكل من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سدرة المنتهى، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال: من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٧.
(2) ابن جرير: ٦/٢٣١.
(3) ابن جرير: ٢/٦٩٩.
ابن قيس:
روي عن محمد بن قيس (ت 126 هـ) أنّه قال: قالوا: يا رب، ألا رسول لنا يخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل أن يأتي بهذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الآيتين(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ إن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا(1).
2. روي أنّه قال: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، في قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة، وتبيت في القناديل(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٨.
(2) ابن جرير: ٦/٢٣٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ذكر لنا عن بعضهم في قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ الآية، قال هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة قالوا: ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه، فإذا شهدوا قتالا تعجلوا إلى ما نحن فيه، فقال الله: إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه، ففرحوا، واستبشروا، وقالوا: يخبر الله إخوانكم ونبيكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالا أتوكم، فذلك قوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٧.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ بما هم فيه من الخير والكرامة والرزق(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يعني: من بعدهم من إخوانهم في الدنيا أنهم لو رأوا قتالا لاستشهدوا ليلحقوا بهم، ثم قال سبحانه: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من العذاب، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عند الموت(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ يعني: رحمة من الله، ﴿وَفَضْلٍ﴾ ورزق، ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: أجر المصدقين بتوحيد الله تعالى(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني: قتلى بدر: ﴿أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ من الثمار(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٤.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقون فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال الله لنبيه يرغب المؤمنين في ثواب الجهاد، ويهون عليهم القتل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: لا تظن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾، أي: قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾، أي: ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وقد أذهب الله عنهم الخوف والحزن(3).
4. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ الآية: لما عاينوا من وفاء الموعود، وعظيم الثواب(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٢٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٣.
(3) ابن جرير: ٦/٢٣٨.
(4) ابن جرير: ٦/٢٣٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ هم إخوانهم من الشهداء ممن يستشهد من بعدهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء، وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء، وثوابا أعطاهم؛ إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٣٨.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ وجوه:
أ. قيل: إن المنافقين قالوا للذين قتلوا بأحد وببدر: إنهم ماتوا؛ فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ بأحد وبدر ﴿أَمْوَاتًا﴾ كسائر الموتى؛ بل هم أحياء عند ربهم.
ب. وقيل: قالوا: إن من قتل لا يحيا أبدا ولا يبعث؛ فقال عزّ وجل: بل يحيون ويبعثون كما يحيا ويبعث غيرهم من الموتى.
ج. وقيل: إن العرب كانت تسمي الميت: من انقطع ذكره إذا مات ولم يذكر، أي: لم يبق له أحد يذكر به؛ فقالوا: إذا قتل هؤلاء ماتوا، أي: لا يذكرون؛ فأخبر الله عزّ وجل أنهم مذكورون في الملأ: ملأ الملائكة، وملأ البشر، وهو الظاهر المعروف في الخلق أن الشهداء مذكورون عندهم.
د. وقيل: قوله عزّ وجل: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي: يجري أعمالهم بعد قتلهم، كما كان يجري في حال حياتهم، فهم كالأحياء فيما يجري لهم ثواب أعمالهم وجزائهم، ليسوا بأموات.
هـ. وقيل: إن حياتهم حياة كلفة؛ وذلك أنهم أمروا بإحياء أنفسهم في الآخرة؛ ففعل المؤمنون ذلك: أحيوا أنفسهم في الآخرة؛ فسموا أحياء لذلك، والكفار لم يحيوا أنفسهم بل أماتوها؛ فسمى أولئك أحياء، والكفار موتى.
و. وقيل: سمى هؤلاء أحياء؛ لأنهم انتفعوا بحياتهم، وسمى الكفار أمواتا؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم، ألا ترى أنه عزّ وجل سماهم مرة ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: 18]؛ لما لم ينتفعوا بسمعهم ولا ببصرهم ولا بلسانهم، ولم يسم بذلك المؤمنين؛ لما انتفعوا بذلك كله!؟ فعلى ذلك سمى هؤلاء أحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، وأولئك الكفرة موتى؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم
ز. وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين يعرضون على الجنان، وأرواح الكفار على النار؛ فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لأرواح غيرهم من المؤمنين ذلك، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم وشدة ما لا يكون لأرواح غيرهم من الكفرة ذلك؛ فاستوجبوا بفضل اللذة على غيرهم اسم الحياة، ألا ترى أنه قال تعالى: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ فيها، ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
ح. وقيل: إن الناس كانوا يقولون فيما بينهم: من قتل بـ (بدر) وأحد مات فلان ومات فلان؛ فقال الله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: 154]
ط. وقيل: إن الحياة على ضربين: حياة الطبيعي وحياة العرضيّ، وكذلك الموت على وجهين: موت الطبيعي، وموت العرضي، ثم حياة العرضي على وجوه: أحدها حياة الدّين والطاعة؛ كقوله عزّ وجل: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، وحياة العلم والبصيرة واليقظة، يسمي العالم حيّا، والجاهل ميتا، وحياة الزينة والشرف، على ما سمى الله تعالى الأرض ميتة في حال يبوستها، وحية: في حال خروج النبات منها بقوله عزّ وجل: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾ [فصلت: 39]، وحياة الذكر واللذة؛ فجائز أن يكون الله تعالى لما أخبر أنهم أحياء عند ربهم أن يكون لهم حياة من أحد الوجوه التي ذكرنا: حياة ذكر ولذة، أو حياة زينة وشرف، أو حياة العلم لهم بأهل الدنيا على ما كان لهم قبل ذلك، أو حياة دين وعبادة، أو يجري عليهم أعمالهم على ما كان لهم قبل الشهادة، وإن كانت أجسادهم في الحقيقة ميتة في أحكام الدنيا عند أهل الدّنيا، وهذا يقوي قولنا في المرتد: إنه إذا لحق بدار الحرب يحكم في نفسه وماله بحكم الموتى في قسمة المواريث، وقضاء الديون وغيرها، وإن كان هو في الحقيقة حيّا على ما حكم في أموال الشهداء وأنفسهم بحكم الموتى في حكم الدنيا؛ لما لا يعودون إلى الدنيا، وإن كانوا عند ربّهم أحياء؛ فعلى ذلك يحكم في نفس المرتد وأمواله بحكم الموتى؛ لما لا يعود إلى دارنا، وإن كان هو في الحقيقة حيّا عند الله لما جاز أن يكون حيّا عند الله، ميتا عندنا، وجاز أن يكون ميتا عندنا حيّا عند الله وحياة الطبيعي هو حياة جوهر، وما به يقوم النفس، وموت الطبيعي هو هلاكه، وفوته، وموت العرضي: هو جهله؛ والله أعلم.
2. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ روي عن مسروق، قال سألت عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية؛ قال سألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقال: (أرواحهم عند الله في حواصل طير خضر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح في الجنّة في أيّها شاءت ثمّ تأوي إلى قناديلها..) والحديث طويل.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾:
أ. عن ابن عباس قال: تنزل عليهم صحف مكتوب فيها من يلحق بهم من الشّهداء؛ فبذلك يستبشرون)
ب. وقيل: (يستبشرون) لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم؛ بما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعم، الذي أعطاهم الله.
ج. وقيل: (يستبشرون)، يعني: يفرحون ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾:
أ. قيل: يعني: من بعدهم من إخوانهم في الدنيا: رأوا قتالا؛ استشهدوا؛ فلحقوا.
ب. وقيل: ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم.
5. الاستبشار: هو الفرح أو طلب البشارة؛ كأنهم طلبوا البشارة لقومهم؛ ليعلموا بكرامتهم عند الله ومنزلتهم؛ كقول من قال: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26 ـ 27]
6. قوله عزّ وجل: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ أي: بدين من الله؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103]، قيل: بدينه.
ب. ويحتمل: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ الجنة، ﴿وَفَضْلٍ﴾ زيادات لهم وكرامات من الله، عزّ وجل.
7. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر؛ كقوله عزّ وجل: ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ [الأحقاف: 16] [وكقوله عزّ وجل]: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40] الآية.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/529.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾: يحتمل وجهين: إما أن يكون أراد حياتهم في الآخرة.. وإما أن يكون أراد حياة أرواحهم في هذه الدنيا، فقد قيل: إن الله خص الشهداء بحياة أرواحهم، وصبرهم على محن الجهاد وتضحيتهم.. وروي بعد ذلك أن أرواح المؤمنين في البشارات في هذه الدنيا، وقد يمكن ذلك، لأن الله رحيم بعباده المؤمنين.. وقيل: إن أرواح الفاسقين في التهدد والوعيد، والغموم والعسر والعذاب والتبكيت، فزادهم الله عسراً ونكداً، ولا فرج عنهم من العذاب المهين أبداً، وزادهم الله ناياً عن رحمته وبعداً، بما خالفوا الله وعصوه تمرداً، واجتهدوا في إماتة الحق والدين والهدى، وإذاعة الفواحش والظلم والردى.
2. معنى قوله عز وجل في هؤلاء الشهداء: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآية: يريد عز وجل أن الشهداء يستبشرون ويسترون بأولياء الله الذين تركوهم وراءهم في الدنيا لم يموتوا بعد ولم يلحقوا بهم، فلما عاينوا السرور فرحوا لإخوانهم الذين لم يموتوا بعد بأنهم إذا ماتوا في الجهاد، وجَدُوا من السرور مثل ما وجدوا، وعاينوا منه برحمة الله كالذي عاينوا، مما هو أكثر مما ظنوا وتوهموا، فنسأل الله أن يبلغنا ما نأمل من الجهاد، وقتل من أفسد وأوعث في البلاد.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 266.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
1. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يقولون إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله عز وجل ما أصبنا.
2. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يعني أنهم في الحال وبعد القتل بهذه الصفة فأما في الجنة فحالهم معلومة روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لما قتل إخوانك بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تعلف من ورق الجنة وترد في أنهارها بحيث لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً إلا ربهم، ويحتمل أن يكون المعنى أنهم أحياء بحيث لا يعلم بمواضعهم إلا الله.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ يعني أنهم في الحال وبعد القتل بهذه الصفة، فأما في الجنة فحالهم في ذلك معلومة عند كافة المؤمنين، وليس يمتنع إحياؤهم في الحكمة، وقد روى ابن مسعود وجابر وابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنّة وتأكل من ثمارها)
2. في قوله تعالى: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا ربّهم.
ب. الثاني: أنهم أحياء عند ربهم من حيث يعلم أنهم أحياء دون الناس.
3. في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا، وهو قول قتادة، وابن جريج.
ب. الثاني: أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه فيبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه، وهذا قول السدي.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/437.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾:
أ. ذكر ابن عباس وابن مسعود، وجابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد انهار الجنة، وتأكل من ثمارها، قال البلخي: وهذا ضعيف، لأن الأرواح جماد لا حياة فيها، ولو كانت حية لاحتاجت إلى أرواح أخر، وأدى إلى ما لا يتناهى فضعف الخبر من هذا الوجه.
ب. في الناس من قال: إن تأويل الآية اخبار عن صفة حال الشهداء في الجنة من حيث فسد القول بالرجعة، وهذا ليس بشيء لأنه خلاف الظاهر، ولأن أحداً من المؤمنين لا يحسب أن الشهداء في الجنة أموات، وأيضاً، فقد وصفهم الله بأنهم أحياء فرحون في الحال، لأن نصب فرحين هو على الحال، وقوله: ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يؤكد ذلك، لأنهم في الآخرة قد لحقوا بهم، ومعنى الآية النهي عن أن يظن أحد أن المقتولين في سبيل الله أموات.
2. ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به جميع المكلفين، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾
3. اختلفوا في معنى حياتهم:
أ. قيل: ينبغي أن يعتقد أنهم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ وبهذا قال الحسن، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء واختاره الجبائي، والرماني، وأكثر المفسرين.
ب. وقال بعضهم وذكره الزجاج: المعنى ولا تحسبنهم أمواتاً في دينهم بل هم أحياء في دينهم، كما قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الآية.
ج. وقال البلخي معناه: لا تحسبنهم كما يقول الكفار أنهم لا يبعثون بل يبعثون، وهم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾
د. وقال قوم: إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلتذ بنعيمها، فهم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾
4. في معنى قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا ربهم وليس المراد بذلك قرب المسافة لأن ذلك من صفة الأجسام وذلك مستحيل عليه تعالى.
ب. والوجه الآخر: عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس ـ ذكره أبو علي ـ.
5. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ رفع على أنه خبر الابتداء، وتقديره بل هم أحياء، ولا يجوز فيه النصب بحال، لأنه كان يصير المعنى بل احسبنهم أحياء، والمراد بل أعلمهم احياء.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المعنى بل أحياء على معنى أنهم بمنزلة الأحياء كما يقال لمن خلف خلفاً صالحاً أو ثناء جميلا: ما مات فلان بل هو حي؟ والجواب: لا يجوز ذلك لأنه انما جاز هذا بقرينة دلت عليه من حصول العلم بأنه ميت فانصرف الكلام إلى أنه بمنزلة الحي، وليس كذلك الآية لأن إحياء الله لهم في البرزخ جائز مقدور والحكمة تجيزه.
6. سؤال وإشكال: أليس في الناس من أنكر الحديث من حيث أن الروح عرض لا يجوز أن يتنعم؟ والجواب: هذا ليس بصحيح، لأن الروح جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح، والدليل على ذلك أن الروح تخرج من البدن، وترد إليه وهي الحساسة الفعالة دون البدن، وليست من الحياة في شيء، لأن ضد الحياة الموت، وليس كذلك الروح ـ هذا قول الرماني سؤاله وجوابه.
7. في الآية دليل على أن الرجعة إلى دار الدنيا جائزة لأقوام مخصوصين، لأنه تعالى أخبر أن قوماً ممن قتلوا في سبيل الله ردهم الله أحياء كما كانوا، فأما الرجعة التي يذهب إليها أهل التناسخ، ففاسدة، والقول بها باطل لما بيناه في غير موضع، وذكرنا جملة منه في شرح جمل العلم فمن أراده وقف عليه من هناك ان شاء الله.
8. قال أكثر المفسرين: الآية مختصة بقتلى أحد، وقال أبو جعفر عليه السلام، وكثير من المفسرين: انها تتناول قتلى بدر وأحد معا.
9. ﴿فَرِحِينَ﴾ نصب على الحال من ﴿يُرْزَقُونَ﴾ وهو أولى من رفعه على بل أحياء لأن النصب ينبئ عن اجتماع الرزق والفرح في حال واحدة، ولو رفع على الاستئناف لكان جائزا، وقال الفراء: يجوز نصبه على القطع عن الأول.
10. ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ معناه بما أعطاهم الله من ضروب نعمه.
11. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ أي هم بمنزلة من قد بشر في صاحبه بما يسر به، ومعنى يستبشرون أي يسرون بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور في البشارة، فوجده، وأصل البشارة من البشرة وذلك لظهور السرور بها في بشرة الوجه، ومنه البشر لظهور بشرته.
12. في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال ابن جريج، وقتادة: يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا.
ب. والآخر: أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر ذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا ـ ذكره السدي ـ
ج. وقال الزجاج: معناه أن لم يلحقوا بهم في الفعل إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم وإيمانهم.
13. لحقت ذلك وألحقت غيري، مثل علمت وأعلمت، وقيل لحقت وألحقت لغتان بمعنى واحد مثل بان وأبان، وعلى ذلك: إن عذابك بالكفار ملحق، أي لا حق على هذا أكثر نقاد الحديث، وروى بعض الثقات ملحق بنصب الحاء ذكره البلخي.
14. قيل في موضع أن في قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: انه خفض بالباء وتقديره بان لا خوف، هذا قول الخليل والكسائي والزجاج.
ب. الثاني: ان يكون موضعه نصباً على أنه لما حذف حرف الجر نصب بالفعل كما قال الشاعر: (أمرتك الخير)، أي بالخير في قول غيرهم.
15. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ الكسائي (وإن الله) ـ بكسر الالف ـ الباقون بفتحها على معنى وبأن الله، ورجح هذه القراءة أبو علي الفارسي، والكسر على الاستئناف، وفي قراءة عبد الله (والله لا يضيّع أجر المؤمنين)، وهو يقوي قراءة من قرأ بالكسر.
16. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم بأنهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله، وانهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فوصفهم هاهنا بأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وفضل الله وان كان هو النعمة، وقيل في تكراره هاهنا قولان:
أ. أحدهما: لأنها ليست نعمة مضيقة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور واللذة.
ب. والآخر: للتأكيد لتمكين المعنى في النفس، والمبالغة.
17. النعمة: هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح، لأن المنفعة على ضربين:
أ. أحدهما: منفعة اغترار، وحيلة.
ب. الثاني: منفعة خالصة من شائب الإساءة.
18. النعمة: تعظيم بفعل غير المنعم، كنعمة الرسول على من دعاه إلى الإسلام فاستجاب له، لأن دعاءه له نفع من وجهين:
أ. أحدهما: حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له.
ب. والآخر: قصده الدعاء إلى حق من يعلم انه يستجيب له المدعو، وإنما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة وعظم المنزلة.
19. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وان كانوا هم علموا ذلك فإنما ذكر الله انهم يستبشرون بذلك، لأن ما يعلمونه في دار التكليف يعلمونه بدليل، وما يعلمونه بعد الموت يعلمونه ضرورة، وبينهما فرق واضح، لأن مع العلم الضروري يتضاعف سرورهم، ويشتد اغتباطهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/46.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستبشار: استفعال من البشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل، والمستبشر: بمنزلة الذي طلب السرور في البشارة، وأصل البشارة البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر ذلك في بشرة وجهه، ومنه البشر لظهور بشرته.
ب. لحِقْتُ وألحقت قيل: هما بمعنى، وقيل: بينهما فرق كما بين عَلمتُ وأعلمت في التعدي، ونظيره بانَ وأبان، واللحوق: الإدراك، لحقته أدركته، ومنه: إن عذابك بالكفار ملحق.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:
أ. قال بعضهم: الآية نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلاً، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، منهم أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
ب. وقال بعضهم: بل نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلاً، أربعة من المهاجرين منهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وسائرهم من الأنصار، وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل ثمارها، وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم وما أعد الله لهم من الكرامة قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه حتى يرغبوا في الجهاد، وقال الله تعالى: إنا نبلغ عنكم إخوانكم ففرحوا واستبشروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ الآية.
ج. وروي عن جابر أن أباه قتل، وأنه لما رأى ما هو فيه من النعيم قال: يا رب من يبلغ قومي ما أنا فيه فقال تعالى: أنا مبلغ ذلك، وأنزل الآية.
د. وفي خبر ابن مسعود أنه لما قتل بأحد من قتل ونالوا من كرامة الله ما نالوا قالوا: يا ربنا أقرئ عنا نبينا السلام، وأخبره أنا رضينا ورضي عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
هـ. وقال بعضهم: إن رجالاً من الصحابة قالوا: يا ليتنا نعلم ما فُعِلَ بإخواننا الَّذِينَ قتلوا بأحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن قتادة والربيع.
و. وقال بعضهم: إنها في شهداء بئر معونة من قراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورضي عنهم، وذلك أن أبان بن عامر بن مالك بن ملاعب الأسنة، وكان سيد بني عامر بن صعصعة قدم المدينة وأظهر الإسلام، وذهب بجماعة من أصحاب النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، فلما نزلوا بئر معونة خرج عامر بن الطفيل في قبائل بني سليم عصية وذكوان فقتلوهم عن آخرهم غير عمرو بن أمية، فإنه كان في سَرْح القوم، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبره بذلك، قال أنس: فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾
ز. وقال بعضهم: إن أولياء الله الشهداء، قالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية لهم وإخبارًا عن حال قتالهم.
3. لما حكى الله تعالى قول المنافقين فيمن قتل من الشهداء تثبيطًا للناس عن الجهاد، وليكون ذلك حسرة في قلوبهم عقبه بذكر حال الشهداء ردًّا عليهم وترغيبًا في الجهاد وما أعد الله لهم في الشهادة من الكرامة، فقال سبحانه ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾:
أ. قيل: هو خطاب للنبي.
ب. وقيل: المراد أمته وإن كان الخطاب له.
ج. وقيل: ولا تحسبن أيها السامع، أو أيها الإنسان، أي لا تظنن.
4. ﴿الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي في الجهاد في نصرة دينه ﴿أَمْوَاتًا﴾ يعني موتى كموت من لم يقتل في سبيل الله ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ بل هم أحياء، واختلفوا في معنى كونهم أحياء على أقوال:
أ. قول من ينفى الحياة في القبر وإلى يوم الحشر، ثم اختلفوا:
• فقيل: أحياء بالذِّكر معظمون مذكورون بالفضل.
• وقيل: أحياء في الجنة يوم القيامة عن أبي القاسم وأبي مسلم.
• وقيل: أحياء في جريان العبادة لهم كما كان تجري لهم في حال الحياة.
• وقيل: أحياء في الدين.
• وقيل: أحياء في العلم.
• وقيل: أجسادهم لا تبلى في القبر، ولا تأكلها الأرض.
• وقيل: لأنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأموات، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (زملوهم بدمائهم وثيابهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك)
ب. الثاني: قول من يجعل الحياة في الدنيا للأرواح دون الأجساد، ثم اختلفوا:
• فقيل: أحياء لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة كأرواح الأحياء من المؤمنين الَّذِينَ باتوا على الوضوء.
• وقيل: أرواحهم أحياء يتنعمون وأجسادهم بالية، ورووا في ذلك أخبارًا ذكرنا طرفًا منها في النزول، ورووا عن الحسن أيضًا.
ج. الثالث: قول من يجعل الحياة للأجساد، ويجوز الثواب والعقاب والإحياء في القبر، ويجوز إصعاد الشهداء والأنبياء إلى الجنة، ثم اختلف هَؤُلَاءِ:
• فقال بعضهم: أحياء في القبور.
• وقال بعضهم: أحياء في حال هذا الخطاب، ثم كيف يكون حالهم بعد ذلك، ولئن كانوا أحياء في القبر أو في السماء فموقوف على الدليل، وليس في الآية بيانه، وهو قول شيخنا أبي علي وأبي هاشم وجماعة من مشايخنا، وهو قول أكثر الأمة، وهو الصحيح؛ لأن الوجه الأول كله عدول عن الظاهر والحقيقة، ولأنه لا يختص به الشهداء، والوجه الثاني بينا أن ما يذكرونه في الروح ليس بشيء، ولأنه لا يختص به الشهيد، ولا يحمل على يوم القيامة؛ لأنه لا يخص الشهيد، ولأنه لا يظن مؤمن أن أحدًا لا يبعث يوم القيامة.
5. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ لا شبهة أن المكلف والمثاب والمعاقب هو هذا الشخص المبني بنية مخصوصة، وأن الروح لا تقوم بنفسها ولا تحيا، وإنما هي شرط في حياة الشخص، فلا بد للخبر من تأويل، فيحمل على أحد وجهين:
أ. إما أنه فعل ذلك بأرواحهم كرامة لهم كما فعل بكتب المؤمنين في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ وكما نفعل فيما بيننا بتذكرة الأحبة إذا غابوا أو ماتوا.
ب. الثاني: أن يكون المراد بالروح الشخص نفسه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾:
أ. قيل: في علمه.
ب. وقيل: في الموضع الذي لا يجري فيه إلا حكمه.
ج. وقيل: عند ربهم بالمنزلة والرفعة.
د. وقيل: يحييهم عند غيبة الناس بحيث لا يرونهم، ولا يجوز حمله على المشافهة؛ لأنه يتعالى عن ذلك.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُرْزَقُونَ﴾:
أ. قيل: في قبورهم غداء وعشاء.
ب. وقيل: يرزقون النعيم في قبورهم.
ج. وقيل: من نعيم الجنة.
د. وقيل: يعرض عليهم نعيم الجنة غدوًا وعشيًا.
8. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي مسرورين بما آتاهم الله من نعمه:
أ. قيل: بما أعطوا في قبورهم.
ب. وقيل: في الجنة.
ج. وقيل: بما يرجون من اجتماعهم مع الأنبياء.
د. وقيل: فرحين بما نالهم من الشهادة وجزائها.
9. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ معناه أنهم بمنزلة من بشر في صاحبه بما بشر به، واختلفوا:
أ. فقيل: يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا عن ابن جريج وقتادة، وتقديره: ويسرون بأن يقاتل المؤمنون فيستشهدوا فيلحقوا بمنزلتهم.
ب. وقيل: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه يبشر به، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا عن السدي، والَّذِينَ لم يلحقوا بهم من خلفهم إخوانهم الَّذِينَ فارقوهم وهم أحياء على دينهم.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:
أ. قيل: يعرفون بأن يلحق بهم من خلفهم؛ لأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واستبشارهم أن لا خوف عليهم من النار ولا حزن على الدنيا؛ لأنه صار إلى نعيم الأبد.
ب. وقيل: لا خوف يرجع إلى الشهداء.
ج. وقيل: إلى الَّذِينَ يلحق بهم تقديره: لأنه لا خوف على هَؤُلَاءِ، فيجوز أن يلحق بهم أولئك فيرون ما هم فيه وينالون ما نالوا.
11. لتمام ذكر الشهداء قال الله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يعني يفرحون عند ورودهم على ما أعد الله لهم على سالف طاعاتهم من النعم الواصلة إليهم والفضل الذي أصابهم ﴿مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: النعمة ما استحقوه لطاعتهم، والفضل ما زادهم الله من المضاعفة.
ب. وقيل: ذكرهما تأكيدًا.
12. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي علموا أنه تعالى يوفي الجزاء، ولا يضيع عمل محسن، وإنما ذكر ذلك وإن كان المؤمن يعلم ذلك في الدنيا؛ لأن ذلك يعلم في الآخرة ضرورة لا يعترض فيه شبهة، وليس المشاهدة والضرورة كالاستدلالي، فيتضاعف به سرورهم.
13. سؤال وإشكال: لم كرر ذكر الاستبشار بالنعم؟، والجواب: في الآية الأولى أراد النعم الواصلة إلى إخوانهم، وفي هذه الآية بما وصل إليهم.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن في حال هذا الخطاب كان الشهداء أحياء، ولا مانع من حمله على ظاهره، ولا يقال: إن قولكم يؤدي إلى الرجعة؛ لأن المنكَرَ الرجعةُ إلى دار الدنيا وحال التكليف، فأما إحياؤه بحيث لا يظهر لنا إلا بالخبر فجائز، وقد روي مثل ذلك في الأنبياء.
ب. أن اجتماع المؤمنين في الجنة من عظيم ما يفرحون به.
ج. أن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا ينالهم أهوال القيامة خلاف قول بعضهم.
د. أن هناك أجرًا مستحقًا خلاف من يقول: الثواب تَفَضُّلٌ، ومن يقول: إنه لا يستحق على العمل جزاءٌ.
هـ. أنه لا يضيع ألبتَّة وأنه يوفره عليهم، وذلك يوجب صحة الموازنة.
و. أن الإثابة لا تكون إلا من قبله.
ز. أن كل مكلف يجب أن يحفظ ثوابه؛ لأن تضييعه يكون من جهته.
ح. أن غير المؤمن خالف حاله حال المؤمنين في أنه لا يجب توفير أجره؛ لأنه خص المؤمن بذلك، فلو كان الفاسق بمنزلته لم يكن للتخصيص فائدة، والفاسقِ هو الذي ضيع أجره وأحبط عمله.
15. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَمْوَاتًا﴾ نصب على المفعول الثاني؛ لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، لو قلت: حسبت زيدًا، لم يكن كلامًا تامًا حتى تقول: قائمًا، أو قاعدًا.
ب. ﴿فَرِحِينَ﴾: نصب على الحال من ﴿يُرْزَقُونَ﴾، يعني هم فرحين في حال رزقهم، ولو رفع على الإتباع أو الاستئناف جاز.
ج. موضع ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فيه قولان:
• الأول: خفض بالباء تقديره: بأن لا خوف عليهم عن الخليل والكسائي والزجاج.
• الثاني: نصب؛ لأنه لما حذف حرف الجر نصب بالفعل، قال الشاعر:
çأَمَرْتُكَ الخيرَ فافعلْ ما أُمِرتَ به... فقد تركتُك ذا مالٍ وذا نَشبé
أي: بالخير.
16. قراءات ووجوه:
أ. إجماع القراء على التاء هاهنا في تحسبن على أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو على تقدير: لا تحسبن أيها الإنسان، أو أيها السامع، وروي في الشواذ عن أهل الشام: يحسبن ـ بالياء ـ فأما ما بعده فقرئ بالياء وبالتاء.
ب. قرأ ابن عامر ﴿قُتِلُوا﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف.
ج. قراءة العامة ﴿أَحْيَاءً﴾ بالرفع على تقدير: بل هم أحياء وهو خبر ابتداؤه محذوف، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿أَحْيَاءً﴾ بالنصب على تقدير: أحسبهم أحياء، وقيل: تقديره: أعلمهم أحياء.
د. قراءة العامة ﴿فَرِحِينَ﴾ بغير الألف في الشواذ، فارحين) بالألف، وهما لغتان كَفارِهٍ وفَرِهٍ، وحاذر وحذر، وطامع وطمع.
هـ. قرأ الكسائي ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون بفتحها، على معنى وأن الله معطوفًا على ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/453
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل البشارة من البشرة، لظهور السرور فيها، ومنه البشر: لظهور بشرته، والمستبشر: من طلب السرور في البشارة فوجده.
ب. لحقت الشيء وألحقته غيري، وقيل: لحقت وألحقت لغتان بمعنى واحد، وجاء في الدعاء: (إن عذابك بالكفار ملحق)بكسر الحاء أي: لاحق.
ج. النعمة: هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح، لأن المنفعة على ضربين أحدهما: منفعة اغترار وحيلة، والآخر: منفعة خالصة من شائبة الإساءة، والنعمة تعظم بفعل غير المنعم كنعمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على من دعاه إلى الاسلام، فاستجاب له، لأن دعاءه أنفع من وجهين:
• أحدهما: حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له.
• والآخر: بقصده الدعاء إلى حق يعلم أن يستجيب له المدعو، وإنما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة، وعظم المنزلة.
2. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قيل: نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا: ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين.
ب. وقيل: نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلا: أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد الله بن جحش، وسائرهم من الأنصار، عن ابن مسعود والربيع وقتادة.
ج. وقال الباقر عليه السلام وكثير من المفسرين: إنها تتناول قتلى بدر وأحد معا.
د. وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس بن مالك وغيره، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، وكان سيد بني عامر بن صعصعة، على رسول الله المدينة، وأهدى له هدية، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقبلها، وقال: يا أبا براء! لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم، ولم يعد، وقال: يا محمد! إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوتهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم، فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة ابن اسما بن صلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، وذلك في صفر، سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فلما نزلوا قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله أهل هذه الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول الله، فقال حرام: يا أهل بئر معونة! إني رسول رسول الله إليكم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فآمنوا بالله تعالى ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه، حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، قد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية ورعلا وذكوانا فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم، حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه، وبه رمق، فارتث بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عرف، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير، يحوم حول العسكر، فقالوا: والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من ضمر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أبيه، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله، وأخبره الخبر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا عمل أبي براء، وقد كنت لهذا كارها متخوفا، فبلغ ذلك أبا براء، فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله بسببه، فقال حسان بن ثابت، يحرض أبا براء على عامر بن الطفيل:
çبني أم البنين ألم يرعكم... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء... ليخفره، وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك، أبو الحروب، أبو براء... وخالك ماجد حكم بن سعدé
وقال كعب بن مالك:
çلقد طارت شعاعا كل وجه... خفارة ما أجار أبو براء
بني أم البنين أما سمعتم... دعاء المستغيث مع النساء
وتنوية الصريخ؟ بلى، ولكن... عرفتم أنه صدق اللقاءé
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء قول حسان، وقول كعب، حمل على عامر بن الطفيل، وطعنه فخر عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن مت فدمي لعمي، ولا يتبعن سواي، وإن عشت فسأرى فيه رأي قال: فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرآنا: بلغوا قومنا عنا بأنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه، ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها، وأنزل الله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ا لآية.
3. لما حكى الله سبحانه قول المنافقين في المقتولين الشهداء، تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء، ذكر بعده ما أعد الله للشهداء من الكرامة، وخصهم به من النعيم في دار المقامة، فقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو يكون على معنى: لا تحسبن أيها السامع، أو أيها الانسان ﴿الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: في الجهاد وفي نصرة دين الله، ﴿أَمْوَاتًا﴾ أي: موتى، كما مات من لم يقتل في سبيل الله في الجهاد ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ أي: بل هم أحياء، وقد مر تفسيره في سورة البقرة عند قوله ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ الآية.
4. في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: إنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا، إلا ربهم، وليس المراد بذلك قرب المسافة، لأن ذلك من صفة الأجسام، وذلك مستحيل على الله تعالى.
ب. والآخر: إنهم عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس، عن أبي علي الجبائي، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وجابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وروي عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب، وقد استشهد في غزاة مؤتة: رأيته وله جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنة.
5. أنكر بعضهم حديث الأرواح، وقال: الروح عرض لا يجوز أن يتنعم، وهذا لا يصح، لأن الروح جسم رقيق هوائي، مأخوذ من الريح، ويدل على ذلك أنه يخرج من البدن، ويرد إليه، وهي الحساسة الفعالة دون البدن، وليست من الحياة في شيء، لأن ضد الحياة الموت، وليس كذلك الروح، وهذا قول علي بن عيسى.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُرْزَقُونَ﴾:
أ. قيل: من نعيم الجنة، غدوا وعشيا.
ب. وقيل: يرزقون النعيم في قبورهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:
أ. قيل: أي: يسرون بما أعطاهم الله من ضروب نعمه في الجنة.
ب. وقيل: في قبورهم.
ج. وقيل: معناه بما نالوا من الشهادة وجزائها.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾:
أ. قيل: أي: يسرون بإخوانهم الذين فارقوهم، وهم أحياء في الدنيا، على مناهجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم، وصاروا من كرامة الله إلى مثل ما صاروا هم إليه، يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، فيصيبون من النعيم مثل ما أصبنا، عن ابن جريج وقتادة.
ب. وقيل: إنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه، فيسر بذلك، ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا، عن السدي.
ج. وقيل: معناه لم يلحقوا بهم في الفضل، إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم وإيمانهم، عن الزجاج.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:
أ. قيل: أي: يستبشرون بأن لا خوف عليهم، وذلك لأنه بدل من قوله: ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ لأن الذين يلحقون بهم، مشتملون على عدم الحزن، فالاستبشار هنا إنما يقع بعدم خوف هؤلاء اللاحقين، ومعناه: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، لأن الله تعالى يتولاهم، ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموالهم، لأن الله قد أجزل ما عوضهم.
ب. وقيل معناه: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، لأن الله محص ذنوبهم بالشهادة، ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا، فرحا بالآخرة.
10. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، الذين وصفهم الله بأنهم ﴿يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
11. ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ الفضل والنعمة عبارتان يعبر بهما عن معنى واحد، وقيل في تكراره قولان:
أ. أحدهما: إن المراد أنها ليست نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور واللذة، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم، والفضل ما زادهم من المضاعفة في الأجر.
ب. والآخر: إنه للتأكيد، وتمكين المعنى في النفس، والمبالغة.
12. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يوفر جزاءهم، وإنما ذكر ذلك، وإن كان غيرهم يعلم ذلك، لأنهم يعلمونه بعلم الموت ضرورة، وإنما يعلمونه في دار التكليف استدلالا، وليس الاستدلال كالمشاهدة، ولا الخبر كالمعاينة، فإن مع الضرورة والعيان، يتضاعف سرورهم، ويشتد ارتباطهم، وفيه دلالة على أن الثواب مستحق، وأن الله لا يبطله البتة، وأن الإتابة لا تكون إلا من قبله تعالى، ولذلك أضاف نفي الإضاعة إلى نفسه.
13. ما روي في الأخبار من ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى أعلاها إسنادا، ما رواه علي بن موسى الرضا عليه السلام، عن الحسين بن علي عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين يخطب، ويحضهم على الجهاد، إذ قام إليه شاب فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟ فقال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ناقته العضباء، ونحن منقلبون عن غزوة (ذات السلاسل)، فسألته عما سألتني عنه فقال: الغزاة إذا هموا بالغزو، كتب الله لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم، باهى الله بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحية من سلخها، ويوكل الله بكل رجل أربعين ملكا يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلا ضغف له، ويكتب له كل يوم عبادة ألف رجل، يعبدون الله ألف سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم مثل عمر الدنيا، وإذا صاروا بحضرة عدوهم، انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوهم، وأشرعت الأسنة، وفوقت السهام، وتقدم الرجل إلى الرجل، حفتهم الملائكة بأجنحتها، يدعون الله بالنصرة والتثبيت، فينادي مناد: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة، لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين، فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض، تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب الذي أخرج من البدن الطيب، أبشر فإن لك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقول الله عز وجل: أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني، ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث يشاء، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام، يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون بابا، على كل باب سبعون مصراعا من ذهب، على كل باب سبعون غرفة مسبلة، في كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب، قوائمها الدر والزبرجد، مرمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشا، غلظ كل فراش أربعون ذراعا، على كل فراش زوجة من الحور العين، عربا أترابا، فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبة؟ فقال: هي الغنجة الرضية الشهية، لها سبعون ألف وصيف، وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي، بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكوبة والأباريق، فإذا كان يوم القيامة، فوالذي نفسي بيده، لو كان الأنبياء على طريقهم لترجلوا لهم، لما يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر، فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته وجيرانه، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا، فيقعدون معي، ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله، عز وجل، في كل يوم بكرة وعشيا.
14. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن عامر ﴿قُتِلُوا﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف.. من قرأ ﴿قُتِلُوا﴾ بالتخفيف، فالوجه فيه أن التخفيف يصلح للقليل والكثير.
ب. قرأ الكسائي وحده ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ﴾ بكسر الألف، والباقون بالفتح.. ووجه الفتح في ﴿أَنْ﴾، أن المعنى ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجرهم، ويتوفر ذلك عليهم، ويوصله إليهم من غير نقص وبخس، ووجه الكسر على الاستئناف.
15. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَحْيَاءً﴾: رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي: بل هم أحياء، ولا يجوز النصب فيه بحال، لأنه يصير التقدير فيه: بل أحسبهم أحياء، والمراد: بل أعلمهم أحياء.
ب. ﴿يُرْزَقُونَ﴾: في موضع رفع صفة لأحياء.
ج. ﴿فَرِحِينَ﴾: نصب على الحال من ﴿يُرْزَقُونَ﴾، وهو أولى من رفعه عطفا على ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ لأن النصب ينبئ عن اجتماع الرزق والفرح في حال واحدة، ولو رفع على الاستئناف لكان جائزا.
د. قال الخليل: موضع (أن لا خوف عليهم)، جر بالباء على تقدير: بأن لا خوف عليهم، وقال غيره: موضعه نصب على أنه بدل من قوله: (الذين لم يلحقوا)، وهو بدل الاشتمال مثل قوله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/880.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها نزلت في شهداء أحد، روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب؛ قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية) وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي الضّحى.
ب. الثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله عزّ وجلّ وقالوا: ربّنا أعلم إخواننا، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
ج. الثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة، روى محمّد بن إسحاق عن أشياخ له، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلمّا نزلوا بئر معونة، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطّفيل بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشّقّ الآخر، فقال: الله أكبر، فزت وربّ الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى فيهم: (بلّغوا قومنا عنّا أنّا قد لقينا ربّنا، فرضي عنّا ورضينا عنه) ثم رفعت، فنزلت هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾
2. هذا اختلاف الناس فيمن نزلت، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ رجلا قال يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أنّ أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور، تحسّروا، وقالوا نحن في النّعمة والسّرور، وآباؤنا، وأبناؤنا، وإخواننا، في القبور، فنزلت هذه الآية، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.
3. معنى الآية: لا تحسبنّهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله، وقد بيّنا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنّة، وتشرب من أنهارها، قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة.
4. ﴿فَرِحِينَ﴾ قال ابن قتيبة: الفرح: المسرّة، فأمّا الذي آتاهم الله، فما نالوا من كرامة الله ورزقه، والاستبشار: السّرور بالبشارة.
5. ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ إخوانهم من المسلمين، وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأنّي قد أنزلت على نبيّكم، وأخبرته بأمركم فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير.
ب. الثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل، قاله قتادة.
ج. الثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السّدّيّ.
6. (الهاء) و(الميم) في قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم، قال الفرّاء: معناه: يستبشرون لهم بأنّهم لا خوف عليهم، ولا حزن، وفي ماذا يرتفع (الخوف) و(الحزن) عنهم قولان:
أ. أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيتهم، ولا يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم.
ب. الثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدّنيا فرحا بالآخرة.
7. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ قال مقاتل: برحمة ورزق، ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأنّ الله، وقرأ الكسائيّ بالكسر على الاستئناف.
__________
(1) زاد المسير: 1/347.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ثبط القوم الراغبين في الجهاد بأن قالوا: الجهاد يفضي إلى القتل، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد، والقتل شيء مكروه، فوجب الحذر عن الجهاد، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم: الجهاد يقضي إلى القتل باطل:
أ. بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل.
ب. ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم أن القتل في سبيل الله شيء مكروه، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله إلى أجل مراتب الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل يكون مكروها، فهذا وجه النظم.
2. هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين إلى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل إلى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد أفضل من تركه.
3. ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فإن كان المراد منه هو الحقيقة، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فأما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية:
أ. الاحتمال الأول: أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، وقد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي، قال: وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى، كانوا يقولون: أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون إلى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة، وهذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه:
• الحجة الأولى: أن قوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
• الحجة الثانية: أنه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والإحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فإنه تعالى قال: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [25: نوح] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الإحسان والاثابة كان ذلك أولى.
• الحجة الثالثة: أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول صلع ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب إليهم، سؤال وإشكال: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور، والجواب: قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ إنما يتناول الموت لأنه قال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة، وقوله: ﴿يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾ فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال.
• الحجة الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره.
• الحجة الخامسة: ما ورد من الروايات في هذا الباب، وكأنها بلغت حد التواتر(2)، فكيف يمكن إنكارها؟ طعن الكعبي في هذه الروايات وقال: إنها غير جائزة لأن الأرواح لا تتنعم، وإنما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة، وأيضا: الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الأرواح في حواصل الطير، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير، والجواب:
● أما الطعن الأول: فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم، وسنبين أن الأمر ليس كذلك.
● وأما الطعن الثاني: فهو مدفوع لأن القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال.
ب. الاحتمال الثاني: أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح، ومنهم من أثبتها للبدن(3).
ج. الاحتمال الثالث: في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد، والقائلون بهذا القول اختلفوا:
• فقال بعضهم: إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات إليها.
• ومنهم من قال يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها، ومن الناس من طعن فيه وقال: إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فإما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها، أو يقال: إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى، ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة.
د. الاحتمال الرابع في تفسير هذه الآية أن نقول: ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه:
• الأول: قال الأصم البلخي: إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة، صح أن يقال: إنه حي وليس بميت، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد إنه ميت وليس بحي، وكما يقال للبليد، إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له: ما مات من خلف مثلك، وبالجملة فلا شك أن الإنسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا، فإنه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي.
• الثاني: قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم، وأنها لا تبلى تحت الأرض ألبتة، واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء، أمر بأن ينادى: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع، قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان، فأصابت المسحاة إصبع رجل منهم فقطرت دما الثالث: أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات، فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات.
4. القائلون بأن الشهداء أحياء في الحال منهم من أثبت هذه الحياة للروح، ومنهم من أثبتها للبدن، وذلك مبني على أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، ويدل عليه أمران:
أ. أحدهما: أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال، والتبدل، والإنسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره، والباقي مغاير للمتبدل، والذي يؤكد ما قلناه: أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا، وأنه يكون في أول الأمر صغير الجثة، ثم انه يكبر وينمو، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره فصح ما قلناه.
ب. الثاني: أن الإنسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم.
5. ثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم والدهن في السمسم، وماء الورد في الورد، ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم، وعلى كلا المذهبين فإنه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا، وان قلنا إنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر، كما في هذه الآية، وعن عذاب القبر كما في قوله: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25] فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك، فظاهر الآية دال عليه، فوجب المصير اليه، والذي يؤكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل:
أ. أما القرآن فآيات:
• إحداها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 ـ 30] ولا شك أن المراد من قوله: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ الموت، ثم قال: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت، وهذا يدل على ما ذكرناه.
• ثانيها: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: 61] وهذا عبارة عن موت البدن، ثم قال: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ [الأنعام: 62] فقوله: ﴿رُدُّوا﴾ ضمير عنه، وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن.
• ثالثها: قوله: ﴿فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ/ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: 88، 89] وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت.
ب. وأما الخبر:
• فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من مات فقد قامت قيامته)، والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله.
• وأيضا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)
• وأيضا روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا)، فقيل له: يا رسول الله إنهم أموات، فكيف تناديهم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنهم أسمع منكم)، أو لفظاً هذا معناه، وأيضا
• قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار)، وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد.
ج. وأما المعقول فمن وجوه:
• الأول: وهو أن وقت النوم يضعف البدن، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات، فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس.
• الثاني: وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ، وجفافه يؤدي إلى الموت، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الإلهية، وهو غاية كمال النفس، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن.
• الثالث: أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الإلهية، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا، فانا نرى أن الإنسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان، أو بالفوز بمنصب، أو بالوصول إلى معشوقه، قد ينسى الطعام والشراب، بل يصير بحيث لو دعي إلى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الأنوار، وانكشف لهم شيء من تلك الأسرار، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن، وإذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن، ولتكن هذه الإقناعيات كافية في هذا المقام.. ومتى تقررت هذه القاعدة زالت الإشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه، وإذا عرفت هذه القاعدة فنقول: قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، والدليل عليه ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي، والآية دالة على ذلك وهي قوله: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ولفظ (عند) فكما أنه مذكور هاهنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء: 19] فإذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة.
6. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ قال الزمخشري: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لكل أحد وقرئ بالياء، وفيه وجوه:
أ. أحدها: ولا يحسبن رسول الله.
ب. الثاني: ولا يحسبن حاسب.
ج. الثالث: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال: وقرئ ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ بفتح السين، وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد والباقون بالتخفيف.
7. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ قال الواحدي: التقدير: بل هم أحياء، قال الزمخشري: قرئ أحياء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء، وأقول: إن الزجاج قال ولو قرئ أحياء بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال: لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة، وللزجاج أن يجيب فيقول: الحسبان ظن لا شك، فلم قلتم إنه لا يجوز أن يأمر الله بالظن، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن.. وهذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرئ أحياء بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة، والفارسي نازعه فيه، وليس كل ما له وجه في الإعراب جازت القراءة به.
8. في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى.
ب. الثاني: هم أحياء عند ربهم، أي هم أحياء في علمه وحكمه، كما يقال: هذا عند الشافعي كذا، وعند أبي حنيفة بخلافه.
ج. الثالث: أن ﴿عِنْدَ﴾ معناه القرب والإكرام، كقوله: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19] وقوله: ﴿الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: 206]
9. اختلف في توجيه قوله تعالى: ﴿يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾:
أ. المتكلمون قالوا: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ إشارة إلى المنفعة، وقوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم.
ب. الحكماء فإنهم قالوا: إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الإلهية كانت مبتهجة من وجهين، أحدهما: أن تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الإلهية، والثاني: بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة، قالوا: وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول، فقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله: ﴿فَرِحِينَ﴾ إشارة إلى الدرجة الثانية، ولهذا قال: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني أن فرحهم ليس بالرزق، بل بإيتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق، ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب.
10. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، قوله: ﴿أَلَّا خَوْفٌ﴾ في محل الخفض بدل من (الذين) والتقدير: ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم.
11. الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة، وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة، والذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر:
أ. الأول: أن يقال: إن الشهداء يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا، فهو قوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾
ب. الثاني: أن يقال: إن الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، والمراد بقوله: ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم، دليله قوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ [النساء: 95، 96] فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم، هذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني والزجاج.
12. التأويل الأول أقوى من الثاني، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع إلى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك، وأيضا: فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء، قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69] وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص، أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم.
13. الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا.
14. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ بين الله تعالى أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم، وإنما أعاد لفظ ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة.
15. سؤال وإشكال: أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار.
ب. الثاني: لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة.
16. ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
17. الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة إخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان، وهذا، تنبيه من الله تعالى على أن فرح الإنسان بصلاح أحوال إخوانه ومتعلقيه، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه.
18. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ الكسائي وإن الله بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون بفتحها على معنى: وبأن الله، والتقدير: يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط، وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر، ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله.
19. المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من إيصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصا بهم، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب، فان الله سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة.
20. الآية عند أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بإيمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل اليه أجر إيمانه، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/426.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
(3) نقلنا تفاصيل هذا الاحتمال وأدلته إلى المسائل التالية.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحانا يميز المنافق من الصادق، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده.
2. الآية في شهداء أحد، وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقيل: بل هي عامة في جميع الشهداء:
أ. وفي مصنف أبي داوود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم ـ قال ـ فأنزل الله ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ إلى آخر الآيات.
ب. وروى بقي بن مخلد عن جابر قال: لقيني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا جابر مالي أراك منكسا مهتما؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا وعليه دين، فقال: ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا وما كلم أحد قط إلا من وراء حجاب فقال له: يا عبدي تمن أعطك قال: يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تعالى إنه قد سبق مني أنهم [إليها] لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية، أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي في جامعه وقال: هذا حديث حسن غريب.
ج. وروى وكيع عن سالم بن الأفطس عن سعيد بن جبير ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة، فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾ إلى قوله: ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
3. قال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أحد خاصة، والحديث الأول يقتضي صحة هذا القول، وقال بعضهم: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره، وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله تعالى هذه الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم.
4. بالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة:
أ. ثم منهم من يقول: ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون.
ب. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها.
ج. وصار قوم إلى أن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة، وهو كما يقال: ما مات فلان، أي ذكره حي، كما قيل:
çموت التقي حياة لا فناء لها...قد مات قوم وهم في الناس أحياءé
فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل.
د. وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون، وهذا هو الصحيح من الأقوال، لأن ما صح به النقل فهو الواقع، وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف، وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم، وقد أتينا على هذا المعنى مبينا في كتاب (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)، والحمد لله، وقد ذكرنا هناك كم الشهداء، وأنهم مختلفو الحال.
5. من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة، فإن قوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ دليل على حياتهم، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حي:
أ. وقيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة، ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم سنوا أمر الجهاد، نظيره قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا﴾ [المائدة]، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
ب. وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء.
ج. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض، فالأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن.
6. إذا كان الشهيد حيا حكما فلا يصلى عليه، كالحي حسا، وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم:
أ. فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم، إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة، لحديث جابر قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ادفنوهم بدمائهم) يعني يوم أحد ولم يغسلهم، رواه البخاري، وروى أبو داوود عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا؟ بدمائهم وثيابهم، وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداوود بن علي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية.
ب. وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون، قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك، قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة، لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره، والعلة في ذلك ـ والله أعلم ـ ما جاء في الحديث في دمائهم أنها (تأتي يوم القيامة كريح المسك) فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا، وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شهداء أحد، (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة)، قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم، قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ.
7. القول بترك غسلهم أولى، لثبوت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قتلى أحد وغيرهم، وروى أبو داوود عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. أما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا:
أ. فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداوود إلى أنه لا يصلى عليهم، لحديث جابر قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
ب. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم، ورووا آثارا كبيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد.
9. العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك، أو حكم سائر الموتى، وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله: أغار العدوقصمه الله ـ صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي، فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال، غسله وصلي عليه، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين، ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبي فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك، ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه، ففعلت، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في (التبصرة) لأبي الحسن اللخمي وغيرها، ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه.
10. هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى إنه يكفر الذنوب، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (القتل في سبيل الله يكفر كل شي إلا الدين كذلك قال لي جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم آنفا)، قال علماؤنا: ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة.
11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بهذا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
12. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم، و﴿عِنْدَ﴾ هنا تقتضي غاية القرب، فهي كـ ﴿لَدَى﴾ ولذلك لم تصغر فيقال! عنيد، قال سيبويه، فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب.
13. ﴿يُرْزَقُونَ﴾ هو الرزق المعروف في العادات، ومن قال: هي حياة الذكر قال: يرزقون الثناء الجميل، والأول الحقيقة، وقد قيل: إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعبمها وسرورها ما يليق بالأرواح، مما ترتزق وتنتعش به، وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها، وهذا قول حسن، وإن كان فيه نوع من المجاز، فهو الموافق لما اخترناه، والموفق الإله.
14. ﴿فَرِحِينَ﴾ نصب في موضع الحال من المضمر في ﴿يُرْزَقُونَ﴾، ويجوز في الكلام ﴿فَرِحُونَ﴾ على النعت لأحياء، وهو من الفرح بمعنى السرور، والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور، وقرأ ابن السميقع (فارحين) بالألف وهما لغتان، كالفره والفاره، والحذر والحاذر، والطمع والطامع، والبخل والباخل، قال النحاس: ويجوز في غير القرآن رفعه، يكون نعتا لأحياء.
15. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كان لهم فضل، وأصله من البشرة، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه، وقال السدي،: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا، وقال قتادة وابن جريح والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرون ويفرحون لهم بذلك، وقيل: إن الإشارة بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم إلى جميع المؤمنين وإن لم يقتلوا، ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك.
16. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي بجنة من الله، ويقال: بمغفرة من الله، ﴿وَفَضْلٍ﴾ هذا لزيادة البيان، والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا، وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد:
أ. روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (للشهيد عند الله ست خصال ـ كذا في الترمذي وابن ماجة ست، وهي في العدد سبع ـ يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهذا تفسير للنعمة والفضل، والآثار في هذا المعنى كثيرة، وروي عن مجاهد أنه قال: السيوف مفاتيح الجنة.
ب. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: أكرم الله تعالى الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحدا من الأنبياء ولا أنا أحدها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت، والثاني أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا، والثالث أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم، والرابع أن الأنبياء لما ماتوا سموا أمواتا وإذا مت يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى، والخامس أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فإنهم يشفعون في كل يوم فيمن يشفعون(2).
17. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ قرأه الكسائي بكسر الألف، والباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، ومن قرأ بالكسر فعلى الابتداء، ودليله قراءة ابن مسعود ﴿والله لا يضيع أجر المؤمنين﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/269.
(2) لا نرى صحة هذا الحديث لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بيّن الله سبحانه: أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق، والكاذب من الصادق، بين هاهنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف ويحذر، كما قالوا من حكى الله عنهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ وقالوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو لكل أحد، وقرئ: بالياء التحتية؛ أي: لا يحسبن حاسب.
2. اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3. معنى الآية عند الجمهور: أنهم أحياء حياة محققة، ثم اختلفوا؛ فمنهم من يقول أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون، وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي: يجدون ريحها وليسوا فيها، وذهب من عدا الجمهور: إلى أنها حياة مجازية، والمعنى: أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة، والصحيح الأوّل، ولا موجب للمصير إلى المجاز، وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون، ويأكلون، ويتمتعون.
4. ﴿الَّذِينَ قَتَلُوا﴾ هو المفعول الأوّل، والحاسب هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو كل أحد كما سبق؛ وقيل: يجوز أن يكون الموصول هو فاعل الفعل، والمفعول الأوّل محذوف، أي: لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا، وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء.
5. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي: بل هم أحياء، وقرئ بالنصب على تقدير الفعل، أي: بل احسبهم أحياء، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إما خبر ثان، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على الحال؛ وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: عند كرامة ربهم، قال سيبويه: هذه عندية الكرامة، لا عندية القرب.
6. ﴿يُرْزَقُونَ﴾ يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ والمراد بالرزق هنا: هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور كما سلف، وعند من عدا الجمهور المراد: الثناء الجميل، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة، لا لسبب يقتضي ذلك.
7. ﴿فَرِحِينَ﴾ حال من الضمير في يرزقون، وبما آتاهم الله من فضله: متعلق به، وقرأ ابن السميقع: (فارحين) وهما لغتان، كالفره والفاره، والحذر والحاذر.
8. ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة، وما صاروا فيه من الحياة، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه، ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك، فالمراد باللحوق هنا: أنهم لم يلحقوا بهم في القتل والشهادة، بل سيلحقون بهم من بعد، وقيل: المراد: يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة، والواو: في ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾، عاطفة على ﴿يُرْزَقُونَ﴾ أي: يرزقون ويستبشرون؛ وقيل: المراد بإخوانهم هنا: جميع المسلمين الشهداء وغيرهم، لأنهم عاينوا ثواب الله؛ وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام؛ استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا أقوى، لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله، بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج وابن فورك.
9. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بدل من: الّذين، أي يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم ولا حزن، وأن: هي المخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن المحذوف.
10. كرر قوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ لتأكيد الأوّل ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف والحزن، بل به وبنعمة الله وفضله، والنعمة: ما ينعم الله به على عباده، والفضل: ما يتفضل به عليهم، وقيل: النعمة: الثواب، والفضل: الزائد؛ وقيل: النعمة: الجنة، والفضل داخل في النعمة، ذكر بعدها لتأكيدها؛ وقيل: إن الاستبشار الأوّل: متعلق بحال إخوانهم، والاستبشار، والثاني: بحال أنفسهم.
11. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ الكسائي: بكسر الهمزة من: أن، وقرأ الباقون: بفتحها، فعلى القراءة الأولى: هو مستأنف اعتراض، وفيه دلالة: على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين، ويؤيده قراءة ابن مسعود: والله لا يضيع أجر المؤمنين، وعلى القراءة الثانية: الجملة عطف على فضل، داخلة في جملة ما يستبشرون به.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/458.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من شهداء أُحد، وكذا مثلهم، ﴿أَمْوَاتًا﴾ نزلت في شهداء بدر أو أُحد، وإن تأخَّرت الآيَة عن أُحُد ففيهما، والخطاب لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو كلِّ من يصلح له، أو لمن قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا)، ورجَّحوا أنَّها نزلت في شهداء أحد، وأمَّا شهداء بدر فنزل فيهم: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ يُّقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ الآيَة [البقرة: 154]، لَمَّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم بأرواحهم في أجواف طير خضر في قناديل ذهب معلَّقة تحت العرش، قالوا: (من يبلِّغ عنَّا إخواننا أنَّنا أحياء في الجنَّة ليرغبوا في الجهاد)؟ فقال الله تعالى : (أنا أبلِّغهم عنكم)، فأنزل: ﴿وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾، قال جابر بن عبد الله: قُتل أبي في أُحد عن بنات وديون، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدما رأى انكساري وأخبرته: (أحياه الله)، وقال له: (يا عبد الله: سلني ما شئت، فقال: أعدني للدنيا فأُقتل فيك ثانيا، فقال: يا عبدي قضيت أن لا أعيد إلى الدنيا من مات)، (وكلَّم الله الشهداء من وراء حجاب ـ أي: بواسطة الملائكة ـ وكلَّم أباك كفاحا ـ أي: خلق له كلاما حيث شاء فسمعه ـ قال: فمن يبلِّغ ما أنا فيه من الكرامة؟ قال: أنا) فأنزل الآيَة، وروى ابن إسحاق عن أنس أنَّها في أهل بئر معونة ، وأنَّه أنزل الله تعالى فيهم قرآنًا يتلى: (أبلغوا عنَّا قومنا أنَّا قد لقينا ربَّنا فرضي عنَّا ورضينا عنه)، ثمَّ نسخ.
2. ﴿بَلَ اَحْيَآءٌ﴾ هم أحياء، ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ لا أموات عنده، أي: حيوا عنده، أو ثابتون عنده، أو ذوو زلفى عنده، فالقرب قرب تكريم، أو يتعلَّق بقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ من ثمار الجنَّة ولحمها وسائر طعامها، كما يرزقون منها ذلك إذا بُعثوا ودخلوها، وكما يعذِّب الكفَّار قبل يوم القيامة وبعد البعث، ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46]، ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25]، وتعجيل الرحمة لأهلها أحقُّ من تعجيل العذاب لأهله، فليس كما قيل: يرزقون إذا دخلوها يوم القيامة، بل من الآن، فقيل: (تتنعَّم أرواحهم في أجواف طير خضر ترِد أنهار الجنَّة، وتأكل من ثمارها، وتسرح في الجنَّة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش)، جاء الحديث بذلك، فقد يفسَّر به فقط ما ذكر في الآيَة.
3. وإذا جاء يوم البعث ردَّت إلى نفس أجسادها في الدنيا، بِأَن يجمع نفس مَا تلف من الأجساد، وهكذا شأن البعث، ولا تقل: بجسد غير هَذَا فَتَزِلَّ، ثمَّ إنَّه قد يصل الجسد نفسه إلى داخل الجنَّة فتكون فيه الروح، وقد يوصل إليه الخير من الجنَّة إلى قبره وهو حيٌّ، وما تفتَّت فالتنعُّم بالروح فقط، ولو كان المراد بالحياة مطلق السعادة، كما يقال: فلان حيٌّ ولو مات، وفي الجاهل: ميِّت ولو حيِيَ، كما قيل، أو لقرب وقت البعث والجنَّة، أو تحقُّقهما، لم يقل: يرزقون [أي في الحديث]، فهذا مناف للآية والأحاديث.
4. دعوى أنَّ (يُرْزَقُونَ) وما بعده ترشيح تكلُّف لو ادَّعاها مدَّع، والجملة خبر آخر مع (أَحْيَاءٌ)، أو نعت لـ (أَحْيَاءٌ)، أو حال من ضمير (أَحْيَاءٌ)، أو من الضمير في (عِندَ) إذا جعلنا (عِندَ) متعلِّقا بمحذوف خبر أو حال أو نعت.
5. ﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من شرف السعادة والشهادة وخير الجنَّة.
6. (مِنْ) للابتداء، أو للبيان، أو للسببيَّة، أو للتبعيض، و(فَرِحِينَ) حال من واو (يُرْزَقُونَ)، أو من المستتر في (أَحْيَاءٌ)، أو في (عِندَ)
7. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ يرزقون ويستبشرون، أو فرحين ويستبشرون، كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوِا اِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَآفَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: 19]، ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ﴾ [الحديد: 18]، أو وهم يستبشرون، ومعنى (يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ببشارة الله، وهو موافق للمجرَّد، أي: ويُبْشَرون (بفتح الشين وإسكان الباء قبلها)، أو مطاوع أَبشَرَ، كأَرَاحه الله فاستراح، أي: أبشرهم الله بذلك فاستبشروا، أو يطلبون البشارة من الله لإخوانهم في الدين وقرابتهم بما نالوه بالشهادة من الكرامة ليفرحوا لهم، ويحرصوا في القتال.
8. ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ بإخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم حينئذ، بأَن لم يقتلوا، ولكن يقتلون بعد ذلك شهداء، ﴿مِنْ خَلْفِهِم﴾ قال ابن عبَّاس: (تتنزَّل على الشهداء صحف مكتوب فيها أسماء من يُقتَل بعدهم شهيدا، فيفرحون لهم بذلك)، والاستبشار يذكر ويراد به الفرح، ويراد به البشارة، وذلك كقوله تعالى: ﴿يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبـِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ إلخ [يس: 26 ـ 27]
9. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من وقوع محذور لعدمه، ومصدر السلب بدل اشتمال من (الَّذِينَ)، أي: انتفاء خوف من خلفهم، ويجوز أن يقدَّر: (بأَن لا)، وليس المراد أنَّ المتقدِّمين لا يخافون على من خلفهم، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فوت محبوب إذا ماتوا لعدم فوته.
10. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ كرَّره تأكيدًا لنفي الخوف والحزن، بإثبات النعمة والفضل وأجر الإيمان لهم، وقد قيل: هو بدل من (يَسْتَبْشِرُونَ) الأوَّل، والاستبشار الأوَّل بحال إخوانهم الذين يستشهدون بعدُ، والثاني بحال أنفسهم، أو الأوَّل بدفع المضارِّ، ولذا قدِّم، والثاني بوجود المسارِّ.
11. ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ﴾ مقدار من النعمة جعله بفضله ثوابا لأعمالهم، لا لاستحقاقهم؛ لأَنَّ أعمالهم خلقها الله لهم، ويَسَّرَها لهم، فهي نعمة أيضًا، ﴿وَفَضْلٍ﴾ مقدار من النعمة زائد على ما جعله ثوابا، وكلا المقدارين لا يعلم كنهه إِلَّا الله، وذلك كقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُومِنِينَ﴾ أجر إيمانهم، فالنعمة أجر العمل، وَهَذَا أجر التصديق والتوحيد، والمراد: عموم المؤمنين، فدخل فيه هؤلاء، وأمَّا الكفرة فلا أجر لهم على عملهم ولا فضل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/57.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذّرون الناس منه، ليس مما يحذر، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني، أي لا تحسبنهم أمواتا تعطلت أرواحهم.
2. ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءً﴾ فوق الدنيا لأنهم مقربون ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إذ بذلوا له أرواحهم، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه، لمشاركة أرواح غيرهم في ذلك، بل بمعنى أنهم ﴿يُرْزَقُونَ﴾ رزق الأحياء، لا رزقا معنويّا، بل حقيقيا:
أ. كما روى ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، حسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عزّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ الآية، هكذا رواه الإمام أحمد؛ ورواه أبو داوود والحاكم في مستدركه، وأخرج مسلم عن مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ الآية، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا!؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
ب. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الشهداء على بارق ـ نهر بباب الجنة ـ فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية ـ تفرد به أحمد ـ ورواه ابن جريح بإسناد جيد.
3. قال ابن كثير: (كأنّ الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، ثم قال: وقد روينا في مسند أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن محمد بن إدريس الشافعيّ عن مالك بن أنس الأصبحيّ عن الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)، قوله: يعلق أي يأكل، وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم، في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان، أن يميتنا على الإيمان)
4. قال الواحديّ: (الأصح في حياة الشهداء، ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون)، وقال البيضاويّ: (الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مدرك بذاته، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ [غافر: 46] الآية ـ. وحديث: أرواح الشهداء في أجواف طير)، قال الشهاب: (يعني ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة، بل هو في الحقيقة النفس المجردة، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها، وهو جوهر مدرك لذاته، أي من غير احتياج إلى هذا البدن، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه)، وقال أبو السعود: (في الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول: المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر).. وقد أسلفنا في سورة البقرة، في مثل هذه الآية، زيادة على ذلك، فتذكر.
5. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ﴾ أي بإخوانهم المجاهدين الذين ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ لم يقتلوا فيلحقوا بهم ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ متعلق بـ (يلحقوا) والمعنى: أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم، أو لم يلحقوا بهم: لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
6. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بدل من (الذين)، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم، والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشّرهم الله بذلك، فهم مستبشرون به، وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء.
7. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يسرون بما أنعم الله عليهم، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة، وتوفير أجرهم عليهم، قال أبو السعود: (كرّر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن، بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة، لا يقادر قدرها، وهي ثواب أعمالهم، ثم قال والمراد بالمؤمنين: إما الشهداء، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان، وكونه مناطا لما نالوه من السعادة، وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم، وعدّت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين)
8. قال ابن القيّم: (إن الله تعالى عزّى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ الآيات ـ فجمع لهم إلى الحياة الدائمة، منزلة القرب منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، واستباشرهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم مننه، ونعمه عليهم، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهي منّته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال، الذي كانوا فيه قبل إرساله، إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له، أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر، في جنب ما يحصل لهم به من الخير، وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوه ويتكلوا عليه، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما له فيها من الحكم، لئلا يتهموا في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه، وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوا فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/456.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى حال المنافقين في قعودهم عن القتال في سبيل الله والدفاع عن الحقيقة وتثبيطهم لإخوانهم قبل القتال وبعده وقولهم فيمن قتلوا إنهم لو أطاعوهم لما قتلوا وبين أفنهم وفساد رأيهم في التوقي من الموت بعدم القتال والدفاع وهو في الحقيقة من أسباب الهلاك لا من أسباب السلامة، وبعد هذا كله أراد أن يبين حال من يقتل في سبيل الله وأنه لا يكون بحيث يظن أولئك السفهاء في موتهم فقال عز وجل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾(2)
2. إن الآية متصلة بما قبلها متممة له فإذا صح الخبران فهما من جملة وقائع غزوة أحد التي نزل فيها هذا السياق كله والمعنى: لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه فيؤثرون الدنيا على الآخرة ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ أن من قتلوا في سبيل الله أمواتا فقد فقدوا الحياة وصاروا عدما.
3. ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ في عالم غير هذا العالم هو خير منه للشهداء وغيرهم من الصالحين، ولكرامته وشرفه أضافه الرب تعالى إليه فهذه العندية عندية شرف وكرامة لا مكان ولا مسافة، وقيل عندية علم وحكم، وإذا كان الأمر كذلك فليس يضير أولئك الذين قتلوا في سبيل الله قتلهم، وليس ما صاروا إليه دون ما كانوا فيه، فلو فرضنا أن الخروج إلى القتال سبب مطرد للقتل لا يتخلف كما يوهم كلام المنافقين لما صح أن يكون مثبطا للمؤمن عن الجهاد عند وجوبه بمثل مهاجمة المشركين للمؤمنين في أحد أو بفتنة المسلمين عن دينهم ومنعهم من الدعوة إليه وإقامة شعائره، وهو ما كان عليه جميع مشركي العرب في زمن البعثة، فكيف والخروج إلى القتال هو سبب للسلامة في الغالب، لأن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع غيرها فيها فإذا هاجمها الأعداء ظفروا بها ونالوا ما يريدون منها.
4. ذكرنا الخلاف في هذه الحياة في تفسير قوله تعالى: ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ [البقرة: 154] وأن المختار فيها أنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئا:
أ. فلا نقول كما قال متكلمي المعتزلة أن المراد بقوله ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ أنهم سيكونون أحياء في الآخرة، فإن ظاهر الآية أنهم أحياء مذ قتلوا؛ ولا تخصيص في قولهم للشهداء ولا يتفق مع ما يأتي.
ب. ولا بقول من قال: إنهم أحياء بحسب الذكر وطيب الثناء كما يقال: (من خلف مثلك ما مات) وقال الشاعر:
çيقولون إن المرء يحيا بنسله...وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي...فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلوé
ج. ولا بقول من قال: إنهم أحياء بأجسادهم كحياتنا الدنيا يأكلون ويشربون وينكحون في قبورهم كسائر أهل الدنيا.
د. ولا بقول من يقول إن أجسادهم ترفع إلى السماء، قال الرازي في القائلين بأنها حياة جسدية ما نصه: (والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم أنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السماوات وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل هذه السعادات إليها، ومن الناس من طعن فيه وقال إن أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فإما أن يقال إن الله يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب إليها، أو يقال إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله ويؤلفها ويرد الحياة إليها ويوصل الثواب إليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تتفسخ أعضاؤه وينفصل منه القيح والصديد، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة)، قال محمد عبده: (وتطرف جماعة فزعموا أن حياة الشهداء كحياتنا هذه في الدنيا يأكلون أكلنا ويشربون شربنا ويتمتعون تمتعنا وهو قول لا يصدر عن عاقل لأن من الشهداء من يحرق بالنار ومن تأكله السباع أو الأسماك، وقال بعضهم المراد أن أجسادهم لا تبلى ولم يزد على ذلك ولكن هذا لم يثبت على أن الجسد لا ثمرة له إذا خرجت منه الروح، وجملة القول إن بعضهم يقول إن هذه الحياة مجازية وبعضهم يقول إنها حقيقة ومن هؤلاء من يقول إنها دنيوية ومنهم من يقول إنها أخروية ولكن لها ميزة خاصة ومنهم من يقول إنها واسطة بين الحياتين، وقد تقدم أن المختار عندنا عدم البحث في كيفية هذه الحياة وذكرنا في آية البقرة بحث ما ورد من كون أرواحهم تكون في حواصل طير خضر فراجعه.
5. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي مسرورين بما أعطاهم الله من فضله أي زيادة على ذلك الرزق الذي استحقوه بعملهم فالفضل ما كان في غيره مقابلة عمل كما قال: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 30]
6. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الاستبشار السرور الحاصل بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل، فالمستبشرون بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة كذا قالوا والعبارة للرازي، ويصح أن يكون معنى الطلب فيه على حاله.
7. الذين لم يلحقوا بهم هم الذي بقوا في الدنيا، قال محمد عبده: إنما قال ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ للدلالة على أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذرون حذورهم قدما بقدم، فهو قيد فيه الخبر والحث والترغيب والمدح والبشارة وهو من البلاغة بالمكان الذي لا يطاول، والمعنى على الأول ويطلبون البشرى بالذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم أي يتوقعون أن يبشروا في وقت قريب بقدومهم عليهم مقتولين في سبيل الله كما قتلوا، مستحقين من الرزق والفضل الإلهي مثل ما أوتوا، والمعنى على الثاني أنهم يسرون بذلك عند حصوله.
8. هذا ما روي في وجه الاستبشار عن ابن جريج وقتادة، وروي عن السدي أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيسر ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه عليهم في الدنيا، واختار أبو مسلم والزجاج أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم هم إخوانهم الذين لا يحصلون فضيلة الشهادة فلا ينالون مثل درجتهم وأن استبشارهم بهم يكون عند دخولهم الجنة بعد القيامة قبلهم فيرون منازلهم فيها ويعلمون أنهم من أهلها، وإن فاتتهم درجة الشهادة لا سيما إذا كان المراد بالذين من خلفهم من جاهد مثلهم ولم يقتل ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 95 ـ 96] والآية الآتية تؤيد كون المراد بمن خلفهم بقية المجاهدين الذين لم يقتلوا.
9. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم، أي يستبشرون بهم من حيث إنه لا خوف عليهم، فالخوف والحزن على هذا منفيان عن الذين لم يلحقوا بهم، أو الباء للسببية والمعنى بسبب أنه لا خوف عليهم.. وحينئذ يحتمل أن يكونا منفيين عنهم أنفسهم، أي أن الفرح والاستبشار يكونان شاملين لهم بحالهم وبحال من خالفهم من إخوانهم بسبب انتفاء الخوف والحزن عنهم هم حيث هم، كما يحتمل أن يكون المراد نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم أيضا، والمختار عندي أن المراد بنفي الخوف والحزن نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم ممن قاتل معهم ولم يقتل وأن الآية الآتية مفسرة لذلك، والخوف تألم من مكروه يتوقع والحزن تألم من مكروه وقع، وتقدم تفسير هذا التركيب في الجزء الأول راجع تفسير ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [البقرة: 62]، وقد قيل إن المراد بالخوف والحزن ما يكون في الدنيا وقيل بل المراد ما يكون في الآخرة، ويجوز أن يكون المعنى أنه لا خوف عليهم في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ثانية ولا هم يحزنون في المستقبل البعيد عندما يقدمون على ربهم في الآخرة، فاعرض هذا على الآيات الآتية إلى قوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
10. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ ضمير يستبشرون إما للشهداء وإما للذين لم يلحقوا بهم، فإن كان للشهداء فهو عبارة عما يتجدد لهم من نعمة وفضل أو المراد بقوله بنعمة ما ذكره في الآية السابقة من كونهم أحياء عنده يرزقون ﴿وَفَضْلٍ﴾ هو عين ما ذكره في الآية السابقة من كونهم ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإن كان للذين لم يلحقوا بهم فالمعنى أنهم يستبشرون بمثل ما فرح به الشهداء ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/232.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين في الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره كما يحدث الموت، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد، ذكر هنا ما يحبب الجهاد في سبيل الله، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم الله بالقرب منه، والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.
2. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه، فيؤثرون الدنيا على الآخرة ـ أن من قتلوا في سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.
3. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أي بل هم أحياء في عالم آخر غير هذا العالم، هو خير للشهداء، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله، فليس القتل في سبيله بضائرهم، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين في مثل وقعة أحد، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة، كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد، وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحى، وقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ تأكيد لكونهم أحياء، وتحقيق لهذه الحياة.
4. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي مسرورين بشرف الشهادة، والتمتع بالنعيم العاجل، والزّلفى عند ربهم، والفوز بالحياة الأبدية.
5. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله، فيلحقوا بهم من خلفهم، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.
6. في قوله تعالى: ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم، وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمآب.
7. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، وهى أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها.
8. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ النعمة هي الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله، والفضل هو التفضل الذي يمنّ الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد، وعبر عنهم يوصف الإيمان للإشارة إلى سموّ مكانته، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة، وفي ذلك تحريض على الجهاد، وترغيب في الشهادة، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم، وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله ـ ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ـ لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/131.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى.. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها.. حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء، أحياء عند ربهم يرزقون؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها، فهم متأثرون بها، مؤثرون فيها، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة.
2. يربط الله تعالى بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش، متوكلة على الله وحده، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته.
3. لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ فقال يتحداهم: ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة، فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله ـ وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى ـ فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء، فهم ﴿يُرْزَقُونَ﴾ عند ربهم، وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين، وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.
4. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير، فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث، فوق ما نالهم من فضل الله، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله؟
5. إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور، إنها تعدّل ـ بل تنشئ إنشاء ـ تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها، وهي موصولة لا تنقطع؛ فليس الموت خاتمة المطاف؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق! إنها نظرة جديدة لهذا الأمر، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين، واستقبالهم للحياة والموت، وتصورهم لما هنا وما هناك.
6. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ الآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله، وفارقوا هذه الحياة، وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.. ونص كذلك في إثبات أنهم ﴿أَحْيَاءً﴾.. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات، وصف ما لهم من خصائص الحياة، فهم ﴿يُرْزَقُونَ﴾
7. مع أننا نحن ـ في هذه الفانية ـ لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة، وما بينهما من انفصال والتئام، وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها؛ وأننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها، لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
8. فهؤلاء ناس منا، يقتلون، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها، ولكن لأنهم: ﴿قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾؛ وتجردوا له من كل الأعراض والأعراض الجزئية الصغيرة؛ واتصلت أرواحهم بالله، فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك، فإن الله سبحانه يخبرنا في الخبر الصادق، أنهم ليسوا أمواتا، وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده، وأنهم يرزقون، فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.
9. ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، فهم يستقبلون رزق الله بالفرح؛ لأنهم يدركون أنه ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ عليهم، فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله، فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
10. ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم؛ وهم مستبشرون لهم؛ لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ ولم تنقطع بهم صلاتهم، إنهم ﴿أَحْيَاءً﴾ كذلك معهم، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة، موضع استبشارهم لهم: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
11. وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين، وأنه لا يضيع أجر المؤمنين، فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء ـ الذين قتلوا في سبيل الله؟ ـ وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس، عن هذه الرحلة إلى جوار الله، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة! إنها تعديل كامل لمفهوم الموت ـ متى كان في سبيل الله ـ وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم، وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة، وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة إلى حياة! ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة ـ في سبيل الله ـ وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة، فيرجع إليها هناك.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/518.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.. هو تطمين للمؤمنين، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين، فهؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، قد استوفوا آجالهم في الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله.
2. ثم إن هؤلاء القتلى (شهداء) أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت، وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس، من مؤمنين وكافرين، وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون في الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره في الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.
3. ومن أجل هذا يستخفّ المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعدّ لعباده الله الصالحين، أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم، ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم ـ كما يتصورن ـ هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم ـ حسب معتقدهم ـ لا يلتقون به أبدا! هذه هي الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء في العالم الآخر.
4. ولكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلّا ما يبعث في قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فيجدون هؤلاء القتلى أحياء في العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
5. فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشفّ، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها ـ هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله من فضله وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزّى به، ويستبشر المؤمنون.
6. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم في حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوىّ الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضي الذي انتقلوا منه.. فهم في هذا العالم العلوىّ، إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم في فضل من الله ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم في سبيل الله، وباستشهادهم في هذه السبيل ـ يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فكما وفّى الله هؤلاء الذين استشهدوا في سبيل الله، سيوفّى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/640.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ عطف على ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ [آل عمران: 168]، فلمّا أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سدى، فقيل لهم: إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة، فقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم.
2. الخطاب يجوز أن يكون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تعليما له، وليعلّم المسلمين، ويجوز أن يكون جاريا على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن.
3. الحسبان: الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهيا عن الجزم بأنّهم أموات.
4. قرأ الجمهور: الذين قتلوا ـ بتخفيف التاء ـ وقرأه ابن عامر ـ بتشديد التاء ـ أي قتّلوا قتلا كثيرا.
5. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ للإضراب عن قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تضرب عن مفرد من الجملة، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر، فالتقدير: بل هم أحياء، ولذلك قرأه السبعة ـ بالرفع ـ، وقرئ ـ بالنصب ـ على أنّ الجملة فعلية، والمعنى: بل أحسبتم أحياء، وأنكرها أبو علي الفارسي.
6. أثبت القرآن للمجاهدين موتا ظاهرا بقوله: ﴿قُتِلُوا﴾، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فعلمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح، غير مضمحلّة، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم، ومسرّتهم بإخوانهم، ولذلك كان قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ دليلا على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق، ونبضات القلب، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائما لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة.
7. إن علّقنا ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ بقوله: ﴿أَحْيَاءً﴾ كما هو الظاهر، فالأمر ظاهر، وإن علقناه بقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ فكذلك، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشئ عنها كائنا عند الله، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق.
8. ﴿فَرِحِينَ﴾ حال من ضمير ﴿يُرْزَقُونَ﴾، والاستبشار: حصول البشارة، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْنَى اللهُ﴾ [التغابن: 6]
9. وقد جمع الله لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين، فالمراد ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
10. ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ تمثيل بمعنى من بعدهم، والتقدير: ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة من رفاقهم بأمنهم وانتفاء ما يحزنهم.
11. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ بدل اشتمال، و(لا) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها، ولم يبن اسم (لا) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع: (زوجي كليل نهامة، لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سامة) برفع الأسماء النكرات الثلاثة.
12. في هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء منحت الكشف على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا، وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله، وقد يكون خاصّا الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها، وقد يكون عامّا لجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة، على أنّ الرازي حصر اللذّة الحقيقية في المعارف، وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء، ولو كانت سيئة.
13. في الآية بشارة لأصحاب أحد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم.
14. ضمير ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالا من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله، ويحتمل أن يكون تكريرا لقوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا﴾ والضمير لـ ﴿الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: 63] فكرّر أغويناهم، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح، والأولى عائدة لإخوانهم، والنعمة: هي ما يكون به صلاح، والفضل: الزيادة في النعمة.
15. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأه الجمهور ـ بفتح همزة (أنّ) ـ على أنه عطف على ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأن جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها، أي استبشروا بأنّ علموا حقيقة كليّة وسرّا جليلا من أسرار العلم بصفات الله وكمالاته، التي تعمّ آثارها، أهل الكمال كلّهم، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إذ لم يحصل بزيادته زيادة نعمة وفضل للمستبشرين من جنس النعمة والفضل الأولين، بل حصلت نعمة وفضل آخران.
16. قرأه الكسائي ـ بكسر همزة (إنّ) ـ على أنه عطف على جملة ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء، ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام، فتكون الواو للاستئناف.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/283.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ما زالت النصوص الكريمة في ذكر أعقاب غزوة أحد التي كانت أبلغ درس إسلامي للغزاة خاصة، وللمؤمنين عامة، وقد كانت المسبار الذي سبرت به النفوس، وتكشفت به قلوب المؤمنين، وأظهرت قلوب المنافقين، ولقد كانت عباراتهم فيها شماتة بأهل الإيمان، وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ما ناله أهل الشهادة باستشهادهم، وما هم عليه من روح وريحان، وما يستقبلونه من جنات النعيم، وقد بين في هذه الآيات الكريمة ما أعده الله سبحانه للمؤمنين المجاهدين الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح، من أجر لا يضيع، وعمل صالح يرى، وقول طيب هدوا إليه يسمع، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾
2. في هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين، وتحريض للمؤمنين، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة، وهى أن الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء، بل هو بقاء، وأن الموت ليس إنهاء للحياة، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى، أو بعبارة أخرى هو انتقال من دور الحياة المادية إلى دور الحياة الروحية حتى تكون القيامة، وتجزى كل نفس بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
3. نهى الله سبحانه وتعالى نبيه الأمين عن أن يظن أي ظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله تعالى أموات بل هم أحياء، والتأكيد هنا تأكيد للنهى، أي أن الله تعالى ينهى نبيه نهيا مؤكدا عن أن يظن ذلك الظن، فـ (نون التأكيد) ليست لتأكيد الظن المنهى عنه، بل هي لتأكيد النهى، كما يقال: لا تفعلن كذا، فليست النون لتأكيد الفعل، بل هي لتأكيد النهى.
4. لا شك أن نهى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى لغيره، وغيره أولى بهذا النهى منه وأجدر؛ لأن الناس منهم من ظنوا بالله الظنون، وقد أصابتهم حسرة شديدة، وبعضهم أصابتهم خيبة آمال، ومنهم من كان في ألم شديد للذين قتلوا منهم، وقد وجه النهى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابتداء ليكون انتهاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أسوة حسنة لهم، والنبي أقرب البشر إلى الله سبحانه، فنهيه فيه تأكيد النهى لغيره.
5. الذين قتلوا في سبيل الله تعالى هم الذين قتلوا في سبيل الحق والدعوة إليه، سواء أكان ذلك في ميدان القتال، أم كان في ميدان الدعوة إلى الله تعالى وإلى صراط مستقيم، وكل داع لله إذا قتل في سبيله أو مات في طلبه فهو قد قتل في سبيل الله تعالى، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فمن قتل في هذه السبيل فقد قتل في سبيل الله تعالى.
6. سؤال وإشكال: كل ميت فهو حي بروحه؛ لأن الله تعالى قد بين في محكم آياته أن الموت ليس فناء، كما قال سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران]، وقد بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخاطبته يوم بدر قتلى المشركين أن أرواحهم تسمع الكلام، فلما ذا إذن اختص الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بأنهم أحياء؟ والجواب: أحد أمور ثلاثة:
أ. أولها: أن هذا النص الكريم رد على شماتة الذين شمتوا من اليهود، وتطييب لقلوب الذين فقدوا أحبتهم من المؤمنين، وتشجيع للذين يحملون السيوف على عواتقهم لجعل كلمة الله تعالى هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى.
ب. ثانيها: أن النص الكريم تذكير بحقيقة مقررة ثابتة وهى أن الموت ليس فناء، في وقت قد غامت فيه على النفوس غيمة من الألم المرير، وقد كان أقرب المتوفين ذكرا في هذا الوقت هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله تعالى.
ج. ثالثها: أن الله تعالى قد ذكر لأولئك الشهداء حياة ليست كحياة غيرهم، بل هي حياة فيها تكريم واستبشار ورزق كريم، ونعيم وسعادة ورضا بما كان منهم، وأنهم قد نالوا جزاء كريما بمجرد الاستشهاد، وأن هذه الحياة السعيدة لا يصح أن يطلق عليها اسم الموت، وإن كان يصح إطلاقها على غيرهم.
7. سؤال وإشكال: ما هذه الحياة التي ينالونها بعد الاستشهاد وما كيفها؟ وإن كنا لا نشعر بها ولا نراها، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة]؟، والجواب: وردت أحاديث كثيرة في هذا الباب تدل على حياة كريمة لهؤلاء الشهداء، فقد روى مسلم عن مسروق: إنا سألنا عبد الله بن عباس عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فقال: إنا قد سألنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم سؤال تركوا)، وهذا الحديث يدل على حياة كريمة، وهى حياة روحية لا جسدية، وأقصى ما يدل عليه التجسيد هو أنها تكون في طيور خضر، وأن هذه الآية تشير إلى الجزاء الأوفى الذي يستقبلهم في الحياة الآخرة، وإلى أن الأرواح بعد الموت إما في شقاء، وإما في نعيم، وأن حياة أولئك الشهداء الأطهار في أحسن نعيم، وأكمله، ولذا قال سبحانه: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
8. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ في هذا النص الكريم ما يثبت أن حياتهم في هذه الفترة التي تكون بين الاستشهاد والحساب والثواب حياة كريمة سعيدة هنيئة؛ لأن فيه التصريح بأنهم عند ربهم الذي خلق الكون وخلقهم، والذى جاهدوا في سبيله، وقاتلوا وقتلوا، وإذا كانوا عنده فهم عند من يكرمهم ومن يجازيهم جزاء عاجلا، حتى يكون الجزاء الأوفى والنعيم المقيم، عندما تتصل أرواحهم الطاهرة بأجسامهم التي يعيدها الله سبحانه وتعالى إليهم في سعادة وحبور.
9. الرزق الذي يرزقهم الله تعالى رزق معنوي من سعادة وهناءة، وطيب مثوى تشعر به أرواحهم ويرون مقدمات جزائهم، ولا نقول إنه في هذه الفترة مادى؛ لأن الحياة في هذه الحال حياة أرواح قد انفصلت عن أجسادها، والرزق حينئذ يكون معنويا، وإن هذا معنى تقريبى؛ لأن كل الأحاديث النبوية الواردة في هذه الفترة تشير إلى أن الحياة روحية، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه مالك: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم مبعثه)، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مخاطبا صحابته من أهل بدر وأحد: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا في الحرب)، وهذا الحديث وإن ذكر طعاما ماديا يتناوله الطير الخضر التي حلت فيها الأرواح هو يدل على أن الحياة روحية، إذ الأرواح ليست في أجسادها.
10. بين الله سبحانه وتعالى حالهم فقال سبحانه: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، أي أنهم في هذه الحياة التي يحيونها يشعرون بسعادة عظيمة؛ لأنهم يرون ثمرات أعمالهم من الجهاد في سبيل الله، ويشعرون برضا الله سبحانه وتعالى، وأنهم في تكريم، وقد آتاهم الله تعالى نعمة الطاعة ونعمة الجهاد، وأشعرهم بالسعادة المطلقة في حياتهم الروحية، ورحابه الكريم، وأن الملائكة أولئك الأرواح الطاهرة تحفهم بالتكريم والترحيب، ويروى في ذلك البخاري أن جابرا، قال لما قتل أبى جعلت أبكى وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهوننى، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (لا تبك، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع) فأرواح الشهداء في تكريم من الملائكة الأطهار، والله سبحانه وتعالى يتغمدها برضاه وتقريبها حتى إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليذكر أن الله تعالى يخاطبها كفاحا، أي مواجهة، وأي تكريم أعلى من ذلك وأسمى؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
11. إن أرواح الشهداء الأبرار لترضى بجهاد الذين أعقبوهم في الميدان فلم يخلوه، ولذا قال سبحانه: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، والاستبشار: طلب البشرى، والبشرى هي الأمر الذي يدخل السرور في النفس، لأمر كان يتوقع منه مرهوبا أو محبوبا فتجيء البشرى بالمحبوب دون المرهوب، وفي بيان استبشار أولئك الشهداء الأبرار تخريجان:
أ. أحدهما: أن يكون المراد طلبهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد وخلفوهم في الميدان، لا خوف عليهم من أن يستمكن العدو منهم ولا ينتصر عليهم، ولا هم في حزن أو غم بسبب أنهم لم ينالوا ما يرغبون من نصرة كلمة الحق، ورفع كلمة الدين، فهم على اطلاع بما يجرى للمؤمنين، ويريدون أن تجيء إليهم البشرى بالانتصار الباهر، والفوز الظاهر الذي يذهب معه الخوف ويكون بدله الأمن، ولا يكون حزن من هزيمة، أو غم من قرح يصيبهم وتكون كلمة يستبشرون معناها يطلبون البشرى.
ب. الثاني: أن يكون معنى الاستبشار طلب البشرى ونيلها، فالاستجابة معناها طلب الإجابة ونيلها، والمعنى أنهم في سرور وحبور مما آتاهم الله تعالى من فضله، ولأنهم جاءتهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل يقبلون على الجهاد طالبين الاستشهاد من غير خوف، ولا رهبة، ولا حزن، بل تلقيا لأسباب المنون بإيمان قوى؛ لأنها إما الشهادة في عزة وكرامة، وإما الانتصار وإعلاء كلمة الله تعالى.
12. بين سبحانه وتعالى استبشارهم بحسن الجزاء فقال سبحانه: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذه الجملة بيان للاستبشار السابق، والتخريج في معنى كلمة الاستبشار الذي ذكرناه في النص السابق يجرى فيها، والمعنى أن هؤلاء الشهداء يطلبون البشرى بنعمة من الله تعالى، وهى نعمة جزيلة كريمة فاضلة لأنها صادرة عن مانح النعم لهذا الوجود كله ومسديها لكل حيّ والنعمة هنا هي نعمة الانتصار، والفضل هو ما يسبغه الله تعالى على أهل الحق من عزة، وطلب له شاعرين بأن الموت في سبيل الله هو عين البقاء، والحياة في باطل هي عين الفناء، فالاستبشار من هؤلاء الأطهار استبشار بالعزة لدينهم وللحق الذي افتدوه بأجسامهم وخفقت من بعد ذلك أرواحهم، فهم يستبشرون بنعمة النصر وفضل العزة للذين جاؤوا من بعدهم، فنعمتهم هم وفضل الله عليهم في نصرة الإسلام بعدهم، وكون الله تعالى لا يضيع أجر المؤمنين، بأن يعطيهم النصر والعزة والكرامة جزاء جهادهم، وليس الاستبشار هنا بما ينالونه هم، بل بما ينال الإسلام والمؤمنين من بعدهم، والدليل على ذلك أن الاستبشار هنا بيان للاستبشار الذي سبقه، والاستبشار الذي سبقه كان لأن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1501.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ المخاطب في (لا تحسبن) كل عاقل، والمقصود بالذين قتلوا في سبيل الله كل قتيل من أجل الله، سواء استشهد بين يدي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أم من قبل ومن بعد.
2. ظاهر الآية ان الشهداء أحياء في الحال، لا أن الله سوف يحييهم مع غيرهم يوم البعث والنشر، وانهم أحياء حقيقة، لا مجازا كالذكر الطيب وما اليه.. هذا هو ظاهر الآية، ويجب الاعتماد عليه، إذ لا موجب للعدول عنه من نقل أو عقل، ما دامت الحياة بيده تعالى يهبها لمن يشاء متى يشاء.
3. في الآية رد صريح على المنافقين الذين قالوا: ان أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقتلون أنفسهم، ولا يصلون إلى خير.
4. لسنا نعرف دينا أو أمة رفعت من شأن الشهداء في سبيل الحق والعدل كما رفعه الإسلام، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها)، وقال: (الجنة تحت ظلال الأسنة) التي تقضي على الظلم والجور، والشر والباطل، أما المستشهدون في سبيل الحق فهم والحق سواء في نظر الإسلام، لأن من يستهين بحياته من أجل الحق يكون تقديسه تقديسا للحق بالذات.
5. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وفرحهم بهذا الفضل من وجهين:
أ. الأول: انهم يتمتعون به، الوجه.
ب. الثاني: انه يدل على رضى الله الذي ضحوا بحياتهم من أجله، تماما كهدية الحبيب التي تدل على حبه.
6. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، كل مؤمن يحب لأخيه في الايمان ما يحبه لنفسه، ولكن قد تخون الظروف ولا تتهيأ الأسباب لبلوغ المراد.. والذين استشهدوا في سبيل الله لهم اخوان في الله يعرفونهم بأسمائهم وأشخاصهم، ولا ينقصون عنهم ايمانا وإخلاصا، وقد تركوهم أحياء بعدهم.. وحين رأى الشهداء فضل الله عليهم فرحوا بما نالوه، وأيضا استبشروا لإخوانهم الذين تركوهم على نهجهم في الايمان والإخلاص والجهاد.. استبشر الشهداء لأن إخوانهم الأحياء سيلحقون بهم، وينالون ما نالوه من الفضل والكرامة.
7. في هذه الآية دلالة صريحة على ان الشهداء أحياء قبل يوم القيامة، لأن استبشارهم بمصير إخوانهم الأحياء انما حصل في الحال، لا أنه سوف يحصل في غد.
8. سؤال وإشكال: لماذا أعاد لفظ يستبشرون، ولفظ فضل في قوله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟ والجواب: للشهداء ثلاث فرحات:
أ. الفرحة الأولى بما نالوه لأنفسهم، واليها الاشارة بقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
ب. الفرحة الثانية كانت لأجل إخوانهم الذين يعرفونهم ولم يلحقوا بهم بعد، واليها الاشارة بقوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾
ج. الفرحة الثالثة كانت لكل مؤمن عرفوه أو لم يعرفوه، شهيدا كان أو غير شهيد، واليها الاشارة بقوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ والذي يؤيد ان هذه الفرحة كانت من أجل المؤمنين جميعا قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
9. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه عطف الفضل على النعمة، والعطف يستدعي وجود الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه، فما هو هذا الفرق؟ والجواب: أجاب الرازي بأن النعمة هي الثواب والأجر الذي يستحقه العامل جزاء عمله، والفضل هو التفضل الزائد الذي يمنحه الله كرما لا استحقاقا.. ولا يبتني جواب الرازي هذا على شيء سوى الرغبة في الجواب على أساس التسليم بوجود الفرق.. ونحن لا نرى أي فرق بين قول القائل: أنعم عليّ فلان، وبين قوله: تفضل عليّ.. والصحيح ان المترادفات يعطف بعضها على بعض، ومجرد الاختلاف في اللفظ كاف في الصحة، ويسمى هذا عطف التفسير(2).
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/203.
(2) نرجح ما ذكره الرازي، وكل من يرى فروقا بين ما يطلق عليه مترادفات
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ الآية، وفي الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات، ويحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾
2. المراد بالموت بطلان الشعور والفعل، ولذا ذكرهما في قوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ الآية حيث ذكر الارتزاق وهو فعل، والفرح الاستبشار ومعهما شعور.
3. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ الآية، الفرح ضد الحزن و، البشارة والبشرى ما يسرك من الخبر والاستبشار طلب السرور بالبشرى، والمعنى: أنهم فرحون بما وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، ويطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن ذلك يظهر:
أ. أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم ويتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.
ب. وثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين وهو أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه وبين يوم القيامة، وقد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ الآية.
4. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ الآية، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم وبحال أنفسهم والدليل عليه قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فإنه بإطلاقه شامل للجميع، ولعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار وكذا تكرار الفضل فتدبر في الآية، وقد نكر الفضل والنعمة وأبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن، ولذا أبهم الخوف والحزن ليدل في سياق النفي على العموم.
5. التدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا، وأن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا، وأن هذا الرزق نعمة من الله وفضل ثالثا، وأن الذي يشخص هذه النعمة والفضل هو أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رابعا.
6. هذه الجملة ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف ورقة وسهولة بيان، وأول ما يلوح من معناها أن الخوف والحزن مرفوعان عنهم، والخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها، وكذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله، فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، وارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء ولا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه، وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال، وهذا هو خلود السعادة للإنسان وخلوده فيها.
7. من هنا يتضح أن نفي الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ﴾، ويقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾، فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء.
8. يتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل وهو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، وعلى ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم ويخصهم بعطية منه.
9. أما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، والنعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، وقد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا﴾.. وقوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ مآلها إلى حقيقة واحدة.
10. في الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾: (البقرة: 154)، ولعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجيء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/61.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ العطف بالواو يفيد أن هذا من الرد على المنافقين الذين جعلوا القتل خسارة، حيث قالوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ بمعنى: أنها فاتتهم السلامة المرغوبة، فبيّن الله أن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء في حالة أحسن من الدنيا، ونهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حسبانهم أمواتاً، والخطاب له عام، له ولمن بلغه، ولعله خص لتبشيره تبشيراً خاصاً به؛ لأنه قتل حمزة ومؤمنون عزيز عليه ما عنتوا معه، فكانت المصيبة عليه عظيمة.
2. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ أي بل هم أحياء أرواحهم، ولعله عبر بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ليفيد التصعيد بأرواحهم، وأن الحياة حياة الأرواح، ومعنى ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أنها مقربة مكرمة، ومعنى ﴿يُرْزَقُونَ﴾ رزقاً يصلح للأرواح، ولا مانع أن يكون لأجسادهم حياة مخالفة لهذه الحياة المعهودة، ولكن الروايات وقوله: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ يظهر منها أن المراد حياة الأرواح.
3. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ نصب ﴿فَرِحِينَ﴾ على أنه حال من ﴿يُرْزَقُونَ﴾ وفي هذا زيادة التحقيق لكونهم أحياء حقيقة، فهم حين قتلوا خرجوا من الحياة الدنيا، وانتقلوا إلى حياة أفضل في النعمة والسرور.
4. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ يفيد: أنه لا ينقص من أجورهم شيئاً؛ لأنه ليس من الأجور ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أو معنى ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ هدايتهم للجهاد ونيل الشهادة.
5. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾ بإخوانهم المؤمنين الباقين بعدهم، فقوله تعالى: ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي ما زالوا أحياء باقين خلفهم، وفائدة: ﴿مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ تحقيق أن المراد بعدم اللحوق: بقاؤهم خلفهم لا القصور عن درجتهم.
6. ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بدل اشتمال من (الذين) أي يستبشرون بأن لا خوف على إخوانهم ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة، وذلك لأنهم علموا بحسن عاقبتهم فاستبشروا لهم، والمراد: لا خوف عليهم من عذاب الله.
7. ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ نعمة إحسان وفضل عطاء تفضل، فالنعمة والفضل ماهم فيه من الكرامة التي تفضل بها، ويستبشرون بـ ﴿أَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بل لا بد أن يوفّوه يوم القيامة، وهذا كله لهم ولإخوانهم، وقيل: لإخوانهم، والأولى العموم؛ لأنه وإن رجع يستبشرون الثانية إلى الأولى، فلا يلزم أن تخص إخوانهم، فكأنه قيل: ويستبشرون بالذين من خلفهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، فاستبشارهم بالذين من خلفهم داخل في استبشارهم بنعمة من الله وفضل لأنه نعمة الله عليهم، وعلى إخوانهم وفضله للشهداء ولإخوانهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/577.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستمر القرآن ـ في هذه السورة ـ في أجواء المعركة التي يخوضها المسلمون ضد الكفر والباطل، ليعالج بعض الحالات النفسية التي يعيشها الناس إزاء الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، فهم يعيشون جوّ المأساة والحسرة والألم، فقد كان هؤلاء المجاهدون بينهم في حياتهم هذه، تتفجّر الحياة في وجوههم وعيونهم ونبضات قلوبهم.. وفجأة تموت الحياة، فيخمد الإشراق في العيون، وتذبل الشفاه، وتهدأ الحركة في القلوب، ويتحوّل الإنسان إلى شيء، مجرد شيء يدفن ويتحلّل، كما يدفن كل شيء ويتحلّل.. وهكذا تعود الصورة السلبيّة للمصير لتتفاعل في النفس يأسا وخذلانا يوحي للإنسان بالصورة القاتمة لما يخلّفه الجهاد في سبيل الله من آلام وأحزان، مما يدفع إلى التقاعس عنه أو الثورة عليه.
2. لكن هذه الصورة، ليست من فعل الإيمان بالله واليوم الآخر، بل هي من فعل الكافرين الذين يقولون كما حدثنا الله في كتابه: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [الأنعام: 29] فهم الذين يعيشون العقدة من الموت ومن كلّ ما يقرّبهم إليه أو يربطهم به، لأنه يمثّل الجدار الذي تتحطم عنده الحياة، ولا شيء وراء الجدار غير الظلام الأبديّ الذي لا يوحي بأيّة إشراقة من نور ولو من بعيد.
3. إنها الماديّة التي تخنق في الإنسان الشعور الحيّ بامتداد الحياة الأبديّة في حياته حتى ما بعد الموت، وبذلك يفقد الإنسان حيويّة الاندفاع إلى ساحة الموت من خلال الرغبة الذاتية التي تتعامل فيها الذات مع طبيعة الأشياء، أمّا الذين يندفعون منهم للقتال من خلال المبادئ الوطنية وغيرها، فهم لا يزالون يتحركون بفعل الرواسب الروحيّة التي تعيش في أعماقهم، وتحرّك دوافعهم لا شعوريا، وربما يوحون لأنفسهم في بعض الحالات بحياة أخرى هي حياة الذكر الخالد بعد الموت، أو حياة أمتهم من خلالهم، ولكنها أوهام خادعة على أساس التفكير الماديّ الذي لا يحسّ الإنسان معه بأيّ شيء من هذا القبيل بعد الموت، فما معنى أن يعمل له ليعيش من خلاله!؟
4. إن هذه الصورة هي صورة التفكير المادي في فكر الذين يؤمنون به، أمّا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، فإنّ الصورة عندهم تختلف كثيرا، فها هي الحياة تتفجر من جديد بعد الموت، فليس الموت إلا سفرا كما هو السفر الذي يمثل الانتقال من جوّ إلى جوّ آخر، ومن مرحلة إلى مرحلة أخرى، وفي هذه الحياة شقاء وسعادة، وفرح وألم، وجحيم ونعيم.. ولكن ذلك كله يمثل نتاج الحياة الأولى في ما عمله الإنسان من خير أو شر ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]
5. تتحرك الصورة في وعينا الإيماني من خلال القرآن الكريم، لتقدم لنا الشهداء الذين جاهدوا في سبيل الله بالصورة المشرقة، التي تملأ الروح بالفرح الكبير الذي يوحي بالشعور العميق بالسعادة الروحيّة، بدلا من الصورة الظاهرية القاتمة: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فهم عند الله أحياء، تضج الحياة في داخلهم، وتشرق في عيونهم، وتتحرك في مظاهر الحياة لديهم.. وتلك هي الحياة التي لا يشوبها الكدر والألم في ما يعيشه الناس في هذه الدنيا.
6. ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فهم يعيشون الفرح الروحي، في ما أتاهم الله من فضله ولطفه ورحمته، وذلك هو الفرح الحقيقي الذي يحس الإنسان معه بالسعادة المطلقة التي لا تعكّر صفوها أيّة شائبة، مما كان يجده الفرحون في الدنيا الذين يفرحون لشهوة أو لذّة أو انتصار طارئ في الأجواء التي تمزج ذلك كله بالحسرة والألم من جهات أخرى.
7. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويمنحهم الله البشرى بأولئك الذين تركوهم من خلفهم في الحياة لما يريهم الله من نعمته عليهم ولطفه بهم فيرتاحون لذلك.
8. ثمّ يعطينا الجوّ الذي يعيشه هؤلاء عند الله، فهم يعيشون الأمن من الخوف، لأن الخوف لا يكون إلّا من خلال حالة صعبة مترقّبة، يواجه فيها الإنسان الألم والشقاء، وليس عند الله للمؤمنين إلا الفرح والسعادة، ويعيشون الأمن من الحزن الذي لا ينطلق إلا من حالة صعبة يحس الإنسان بالأسف عليها فيحزن، وليس في حياة المؤمن في الدار الآخرة أيّ شيء أو أيّة خسارة يأسف عليها، فما معنى الخوف والحزن بعد ذلك!؟
9. جاء في تفسير الميزان ملاحظة دقيقة في استيحاء قوله تعالى: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ قال: (وهذه الجملة، أعني قوله: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، كلمة عجيبة كلّما أمعنت في تدبّرها زاد في اتساع معناها على لطف ورقة وسهولة بيان، وأوّل ما يلوح من معناها أن الخوف والحزن مرفوعان عنهم، والخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدّر نفسه واجدة لها، وكذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم تقع بعد، فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن، فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله، فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، وارتفاع مطلق الحزن إنما يتسير له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء ولا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الإنسان، معناه: أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه، وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال، وهذا هو خلود السعادة للإنسان وخلوده فيها، ومن هنا يتضح أن نفي الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله، فهو سبحانه يقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ﴾ [آل عمران: 198]؛ ويقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96] فالآيتان تدلّان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء، ويتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل، وهو العطية، لكن تقدم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 69] أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، وعلى ذلك فالمعنى: أن الله يتولّى أمرهم ويخصّهم بعطيّة منه)
10. وتتفايض البشرى وتنساب حياة وفرحا وسرورا في نفوسهم، فهم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ وقد أجمل الله النعمة والفضل ليوحي بالتصور المطلق الذي يلتقي فيه الإنسان بما شاء له التصوّر من آفاق واسعة شاملة لا يصل إليه الخيال.. ويشعرون بالحقيقة التي كانت تحملها لهم رسالات السماء في ما تحمله للمؤمنين من الوعد بالثواب الجزيل عند الله، وهي ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وها هم يرونها رأي العين في ما يرونهم من نعيم، وفي ما يفيض عليهم من رحمة ولطف ورضوان.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/378.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يرى بعض المفسرين أن الآيات الحاضرة نزلت في شهداء (أحد) ويرى آخرون أنها نزلت في شهداء (بدر)، ولكن الحقّ هو أن ارتباط هذه الآيات بما قبلها من الآيات يكشف عن أنها نزلت في أعقاب حادثة (أحد)، وإن كان محتواها، ومضمونها يعم حتّى شهداء (بدر) الذين كانوا 14 شهيدا ولهذا روي عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام أنه قال: إنها تتناول قتلى بدر وأحد معا، وقد روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: اطلع إليهم (أي أرواح شهداء أحد وهي في الجنة) ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أين يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أخرى فقال تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون قالوا: فتقرئ نبينا السلام وتبلغهم ما نحن فيه من كرامة فلا يحزنوا، فنزلت هذه الآيات.
2. الذي يبدو للنظر هو أن بعض ضعاف الإيمان كانوا ـ في مجالسهم وندواتهم بعد حادثة أحد ـ يظهرون الأسف على شهداء أحد، وكيف أنهم ماتوا وفنوا، وخاصة عندما كانت تتجدد عليهم النعمة فيتأسفون لغياب أولئك القتلى في تلك المواقع، وكانوا يحدثون أنفسهم قائلين كيف ننعم بهذه النعم والمواهب وإخواننا وأبناءنا رهن القبور لا يصيبهم ما أصابنا من الخير، ولا يمكنهم أن يحظوا بما حظينا به من النعيم؟ وقد كانت هذه الكلمات ـ مضافا إلى بطلانها ومخالفتها للواقع ـ تسبب إضعاف الروح المعنوية لدى ذوي الشهداء، فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كلّ هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية، ومقامهم الرفيع وتقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾
3. الخطاب ـ هنا ـ متوجه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة حتّى يحسب الآخرون حسابهم، ثمّ يقول سبحانه معقبا على العبارة السابقة ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، والمقصود من الحياة في الآية هي (الحياة البرزخية) في عالم ما بعد الموت، لا الحياة الجسمانية والمادية، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير من الناس حياة برزخية أيضا.
4. ثمّ إنه سبحانه يقول: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ وهذه الآية ـ في الحقيقة ـ مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم.. فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين:
أ. الأولى: من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها، لا بها فقط بل لما يتلقونه من الفضل الإلهي الذي هو التصعيد المتزايد المستمر للنعم الذي يشمل الشهداء أيضا.
ب. الثانية: من جهة أنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة.
5. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أجل، إنهم يرون بأم أعينهم ما كانوا يوعدون به ويسمعون بآذانهم، إنها فرحة مضاعفة، شهادة على بقاء الروح تعد الآيات الحاضرة من جملة الآيات القرآنية ذات الدلالة الصريحة على بقاء الروح.
6. فهذه الآيات تتحدث عن حياة الشهداء بعد الموت والقتل، وما يحتمله البعض من أن المراد بهذه الحياة هو معنى مجازي، وأن المقصود هو بقاء اسمهم، وخلود آثارهم، وأعمالهم وجهودهم بعيد جدا عن معنى الآية، وغير منسجم بالمرّة مع أي واحد من العبارات الواردة في الآيات الحاضرة، سواء تلك التي تصرح بأن الشهداء يرزقون، أو التي تتحدث عن سرورهم من نواح مختلفة، هذا مضافا إلى أن الآيات الحاضرة دليل بيّن وبرهان واضح على مسألة (البرزخ) والنعم البرزخية التي سيأتي الحديث عنها وشرحها عند تفسير قوله سبحانه: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ إن شاء الله.
7. قيل عن الشهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكلّ الأمم، وكلّ الشعوب تحترم شهداءها وتقيم لهم وزنا خاصّا ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء في سبيل الله من الاحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلا، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فإن الحديث التالي نموذج واضح من هذا الاحترام العظيم، الذي يوليه الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت تلك الجماعة المحدودة المختلفة أن تكتسب تلكم القوّة العظيمة الهائلة التي استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش، فعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام عن الحسين بن علي عليهما السّلام قال: بينما أمير المؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه فقال: الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب، ويكتب له (أي لكلّ شهيد وغاز) كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله، وإذا ضاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد: (الجنة تحت ظلال السيوف) فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتّى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب الذي خرج من البدن الطيب، أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقول الله: أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/779.
93. فضل الثابتين وتوكلهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈93⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 172 ـ 175]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ كنا ثمانية عشر رجلا(1).
2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية فينا؛ ثمانية عشر رجلا: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن سعد في الطبقات: ٣/١٤١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٦.
أبو رافع:
روي عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (ت 40 هـ): أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة، فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنزلت فيهم هذه الآية(1).
__________
(1) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ٢/١٧٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: إذا انتبه أحدكم من نومه فليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، الحي القيوم، وهو على كل شيء قديرٌ، سبحان رب النبيين وإله المرسلين، وسبحان رب السماوات السبع وما فيهن، ورب الأرضين السبع وما فيهن، ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين)، فإذا جلس من نومه فليقل قبل أن يقوم: حسبي الله، حسبي الرب من العباد، حسبي الذي هو حسبي منذ كنت، حسبي الله ونعم الوكيل(1).
__________
(1) الخصال: ص 625.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(1).
2. روي أنّه قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقال نبيكم مثلها: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ النعمة: أنهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت، وكان في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فربح مالا، فقسمه بين أصحابه(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ لم يؤذهم أحد، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ أطاعوا الله ورسوله(4).
5. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ الشيطان يخوف المؤمنين بأوليائه(5).
6. روي أنّه قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واشتد عليهم الذي أصابهم، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ندب الناس لينطلقوا معه، وقال: (إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل)، فجاء الشيطان فخوف أولياءه، فقال: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: (إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد)، فانتدب معه أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية(6).
7. روي أنّه قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم، وبينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حبال، فقال: إن لكم علي رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه، إن أنتم وجدتموه في طلبي، وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة، فاستقبلت العير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا له: يا محمد، إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل، فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا، وقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ الآية(7).
8. روي أنّه قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا، حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عنبة ـ شك سفيان ـ، فقال المشركون: نرجع قابل، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية، وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه فلم يجدوا به أحدا، وتسوقوا(8).
9. روي أنّه قال: افصلوا بينهما؛ قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾(9).
__________
(1) البخاري: ٤٥٦٣.
(2) البخاري: ٤٥٦٤.
(3) البيهقي في الدلائل: ٣/٣١٨.
(4) ابن جرير: ٦/٢٥٤.
(5) ابن جرير: ٦/٢٥٥.
(6) ابن جرير: ٦/٢٤٢.
(7) ابن جرير: ٦/٢٤٩.
(8) تَسَوَّق القوم: باعوا واشتروا، الصحاح.
(9) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٧.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) بن مالك، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى يوم أحد، فقيل له: يا رسول الله، إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ الآية(1).
__________
(1) الخطيب في تاريخه: ١٢/٣٧١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ الجراحات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ بفضل أصابوه من سوق عكاظ(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾، يعني: المشركين يخوفهم المسلمين، وذلك يوم بدر(3).
__________
(1) ابن المنذر: ١١٨٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٩.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢١.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ لم يلقوا أحدا، ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ لم يصبهم إلا خير(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يعظم أولياءه في أعينكم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٩.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ هذا أبو سفيان قال لمحمد يوم أحد: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فقال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عسى)، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لموعده، حتى نزل بدرا، فوافوا السوق، فابتاعوا، فذلك قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، وهي غزوة بدر الصغرى(1).
2. روي أنّه قال: وافقوا السوق فابتاعوا، وذلك قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾، قال الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يخوف المؤمنين بالكفار(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه: الشياطين، يخوفكم بالفقر(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥٠.
(2) ابن جرير: ٦/٢٥٣.
(3) ابن جرير: ٦/٢٥٥.
(4) تفسير مجاهد: ص٢٦٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان يوم أحد السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على نفسي، فتخلف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ترهيبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم(1).
2. روي أنّه قال: كانت بدرا متجرا في الجاهلية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واعد أبا سفيان أن يلقاه بها، فلقيهم رجل، فقال لهم: إن بها جمعا عظيما من المشركين، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة التجارة، وأهبة القتال، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم خرجوا حتى جاؤوها، فتسوقوا بها، ولم يلقوا أحدا؛ فنزلت: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ إلى قوله: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٤٠.
(2) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٤٢٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا ولي الشيطان(1).
2. روي أنّه قال: إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا، ورجعوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن أبا سفيان قد رجع، وقد قذف الله في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه؟)، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يطلبه، فلقي عيرا من التجار، فقال: ردوا محمدا، ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعا، وأني راجع إليهم، فجاء التجار، فأخبروا بذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾: فذلك يوم أحد بعد القتل والجراحة، وبعدما انصرف المشركون وأبو سفيان وأصحابه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا عصابة تنتدب لأمر الله فتطلب عدوها!(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يخوف والله المؤمن بالكافر، ويرهب المؤمن بالكافر(2).
3. روي أنّه قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم، فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس، فقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ الآية(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨١٧.
(2) ابن جرير: ٦/٢٤١.
(3) ابن جرير: ٦/٢٤٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ يعني رجلا واحدا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في حديثه: فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المسجد دعا المسلمين لطلب الكفار، فاستجابوا، فطلبوهم عامة يومهم، ثم رجع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو، ويسمعوا بذلك، وقال: (لا ينطلق معي إلا من شهد القتال)، يعني: بأحد، فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك، فقال: (لا)، فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء، فانطلقوا، فقال الله تعالى في كتابه: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، قال وأقبل جابر بن عبد الله السلمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله، إن أبي رجعني وقد خرجت معك لأشهد القتال، فقال: ارجع، وناشدني أن لا أترك نساءنا، وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع رجاء الذي كان أصابه من القتل، فاستشهده الله، فأراد بي البقاء لتركته، فلا أحب أن تتوجه وجها إلا كنت معك، وقد كرهت أن تطلب معك إلا من شهد القتال، فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فطلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العدو حتى بلغ حمراء الأسد، ونزل القرآن في طاعة من أطاع الله، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين، وشأن مواطنهم كلها، ومخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ غدا؛ فقال جل ثناؤه: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٢١]، ثم ما بعد الآية في قصة أمرهم(2).
3. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا، فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل، يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم، فالحذر الحذر، فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان، فاستجابوا لله وللرسول، وخرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، وإن لم نلقه ابتعنا بضائعنا، وكان بدر متجرا يوافى كل عام، فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر، فقضوا منه حاجتهم، وأخلف أبو سفيان الموعد، فلم يخرج هو ولا أصحابه، ومر عليهم ابن حمام فقال: من هؤلاء؟ قالوا: رسول الله وأصحابه ينتظرون أبا سفيان ومن معه من قريش، فقدم على قريش فأخبرهم، فأرعب أبو سفيان، ورجع إلى مكة، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل، فكانت تلك الغزوة تدعى غزوة جيش السويق، وكانت في شعبان سنة ثلاث(3).
__________
(1) عبد الرزاق: ٥/٣٦٦.
(2) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ١١/٢٢٠.
(3) البيهقي في الدلائل: ٣/٣٨٤.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه ـ يعني: حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى ببدر ـ دراهم ابتاعوا بها من موسم بدر، فأصابوا تجارة، فذلك قول الله: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أما النعمة فهي العافية، وأما الفضل فالتجارة، والسوء القتل(1).
2. روي أنّه قال: ذكر أمر المشركين وعظمهم في أعين المنافقين، فقال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونهم(2).
3. روي أنّه قال: لما ندم أبو سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وقالوا: ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فلقوا أعرابيا، فجعلوا له جعلا، فقالوا له: إن لقيت محمدا وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم، فأخبر الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابي في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، ثم رجعوا من حمراء الأسد؛ فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ الآية(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥٤.
(2) ابن جرير: ٦/٢٥٦.
(3) ابن جرير: ٦/١٢٨.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾، بلغنا: أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد، موعد ما بيننا وبينكم موسم بدر الصغرى، أن نقاتل بها إن شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذلك بيننا وبينك)، فانصرف أبو سفيان، فقدم مكة، فلقي رجلا من أشجع يقال له: نعيم بن مسعود، فقال له: إني قد واعدت محمدا وأصحابه، ولا أخرج إليهم، وأكره أن يخرج محمد وأصحابه ولا أخرج، فيزيدهم ذلك علي جرأة، ويكون الخلف منهم أحب إلي، فلك عشرة من الإبل إن أنت حبسته عني فلم يخرج، فقدم الأشجعي المدينة وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر فنقتتل بها، فقال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد، وأنتم تريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله إذن لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخرجوا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفسي بيده لأخرجن، وإن لم يخرج معي منكم أحد)، فخرج معه سبعون رجلا حتى وافوا معه بدرا، ولم يخرج أبو سفيان، ولم يكن قتال، فتسوقوا في السوق، ثم انصرفوا(1).
__________
(1) أورده ابن أبي زمنين: ١/٣٣٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: أي شيء قلت حين دخلت على أبي جعفر بالربذة؟ قال: اللهم إنك تكفي من كل شيء ولا يكفي منك شيء؛ فاكفني بما شئت، وكيف شئت، ومن حيث شئت، وأنى شئت(1).
2. روي أنّه قال في شكر الله تعالى: الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئا حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلا حين يستقرضني، والحمد لله الذي استوجب الشكر علي بفضله وإن كنت قليلا شكري، والحمد لله الذي وكلني الناس إليه فأكرمني ولم يكلني إليهم فيهينوني، فرضيت بلطفك يا رب لطفا، وبكفايتك خلفا.. اللهم يا رب، ما أعطيتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله قواما لي فيما تحب، اللهم أعطني ما أحب واجعله خيرا لي، واصرف عني ما أكره، واجعله خيرا لي.. اللهم ما غيبت عني من الأمور فلا تغيبني عن حفظك، وما فقدت فلا أفقد عونك، وما نسيت فلا أنسى ذكرك، وما مللت فلا أمل شكرك، عليك توكلت، حسبي الله ونعم الوكيل(2).
3. روي أنّه قال في دعائه في الصباح: بسم الله الرحمن الرحيم، أصبحت بالله ممتنعا، وبعزته محتجبا، وبأسمائه عائذا من شر الشيطان والسلطان، ومن شر كل دابة ربي آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، اللهم ارزقني من فضلك ولا تجعل لي حاجة إلى أحد من خلقك، اللهم ألبسني العافية وارزقني عليها الشكر، يا واحد يا أحد يا صمد، يا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدٌ، يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مالك الملك، ويا الله يا لا إله إلا أنت، اشفني بشفائك من كل داء وسقم، فإني عبدك وابن عبدك أتقلب في قبضتك(3).
4. روي أنّه قال: إذا دخلت سوقك فقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، اللهم إني أعوذ بك من أن أظلم أو أظلم، أو أبغي أو يبغى علي، أو أعتدي أو يعتدى علي، اللهم إني أعوذ بك من شر إبليس وجنوده، وشر فسقة العرب والعجم، وحسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم(4).
5. روي أنّه قال: من دخل على سلطان يهابه فليقل: حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، وأمتنع بحول الله وقوته من حولهم وقوتهم، وأمتنع برب الفلق من شر ما خلق، ولا حول ولا قوة إلا بالله(5).
6. روي أنّه قال في دعائه في دفع كيد الأعداء: حسبي الرب من المربوبين، وحسبي الخالق من المخلوقين، وحسبي الرازق من المرزوقين، وحسبي الله رب العالمين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم(6).
__________
(1) الكافي: 2/559.
(2) مهج الدعوات: ص 188.
(3) الكافي: 2/524.
(4) الكافي: 5/156.
(5) الكافي: 2/558.
(6) عيون أخبار الإمام الرضا: 1/305.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ الفعل، ﴿وَاتَّقُوا﴾ معاصيه: ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهو الجنة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾، يعني: تصديقا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ندب الناس يوم أحد في طلب المشركين، فقال المنافقون للمسلمين: قد رأيتم ما لقيتم لم ينقلب إلا شريد، وأنتم في دياركم تصحرون، وأنتم أكلة رأس، والله لا ينقلب منكم أحد، فأوقع الشيطان قول المنافقين في قلوب المؤمنين، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يعني: يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين، ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ في ترك أمري، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: إذ كنتم، يقول: إن كنتم مؤمنين فلا تخافوهم(2).
4. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ وذلك أن المشركين انصرفوا يوم أحد ولهم الظفر، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني سائر في أثر القوم)، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد على بغلة شهباء، فدب المنافقون إلى المؤمنين، فقالوا: أتوكم في دياركم، فوطئوكم قتلا، وكان لكم النصر يوم بدر، فكيف تطلبونهم وهم اليوم عليكم أجرأ، وأنت اليوم أرعب!؟ فوقع في أنفس المؤمنين قول المنافقين، فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ إلى آخر الآية، وأنزل الله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ﴾ [النساء: ١٠٤]، يعنى: تتوجعون من الجراحات، إلى آخر الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لأطلبنهم ولو بنفسي)، فانتدب مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سبعون رجلا من المهاجرين والأنصار، حتى بلغوا صفراء بدر الصغرى، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يطلبه، فأمعن عائدا إلى مكة مرعوبا، ولقي أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي وهو يريد المدينة، فقال: يا نعيم، بلغنا أن محمدا في الأثر، فأخبره أن أهل مكة قد جمعوا جمعا كثيرا من قبائل العرب لقتالكم، وأنهم لقوا أبا سفيان، فلاموه بكفه عنكم بعد الهزيمة، حتى هموا به فردوه، فإن رددت عنا محمدا فلك عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة، فسار نعيم فلقي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصفراء، فقال: (ما وراءك يا نعيم؟)، فأخبره بقول أبي سفيان، ثم قال أتاكم الناس، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم الملتجأ ونعم الحرز)، فأنزل الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾(3).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣١٦.
(2) تفسير مقاتل: ١/٣١٧.
(3) تفسير مقاتل: ١/٣١٥.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل، أصابوا عفوه وعزته، لا ينازعهم فيه أحد ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ قتل، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ طاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: أخبرت أن أبا سفيان لما راح هو وأصحابه يوم أحد منقلبين، قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنهم عامدون إلى المدينة، يا رسول الله، فقال: (إن ركبوا الخيل وتركوا الأثقال فهم عامدوها، وإن جلسوا على الأثقال وتركوا الخيل فقد أرعبهم الله، فليسوا بعامديها)، فركبوا الأثقال، ثم ندب أناسا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثا، فنزلت: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥٤.
(2) ابن جرير: ٦/٢٤٣.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وهم الذين ساروا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الغد من يوم أحد إلى حمراء الأسد، على ما بهم من ألم الجراح، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ لما صرف عنهم من لقاء عدوهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٤١.
(2) ابن جرير: ٦/٢٥٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: إن الله ربما ذكر الواحد وهو لجميع الناس، وربما ذكر الناس وهو واحد، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ وإنما قال لهم ذلك رجل واحد، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦] فهذا لجميع الناس، وإنما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٥٣/٢٧٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾:
أ. قيل: أجابوا الله عزّ وجل والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ما دعاهم إليه، وأطاعوا فيما أمرهم به من بعد ما أصابهم القرح، أي: الجراحة.
ب. قيل: دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأحد القروح والجراحات؛ فأجابوه، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية.
2. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ في الإجابة له بعد ما أصابتهم الجراحة، وشهدوا القتال معه، ﴿وَاتَّقُوا﴾ الخلاف له، وترك الإجابة، ويحتمل: اتقوا النار وعقوبته، ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ في الجنة وثواب جزيل.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ الآية:
أ. قيل: إن المنافقين قالوا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ما انهزم كفار مكة وولوا أدبرهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ يخوفونهم؛ حتى لا يتبعوهم على أثرهم، فذلك عادتهم لم تزل؛ كقوله تعالى: ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: 47] أي: فسادا.
ب. وقيل: إنه إنما قال ذلك لهم رجل يقال لهم: نعيم بن مسعود، ولا ندري كيف كانت القصة؟
4. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ لما وجدوا الأمر على ما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووعد لهم، لا على ما قال أولئك؛ فزادهم ذلك إيمانا، أي: تصديقا، زادهم:
أ. قيل: جراءة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال.
ب. ويحتمل: زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقا.
ج. وقيل: قوله عزّ وجل: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي: تصديقا ويقينا بجرأتهم على عدوهم، ويقينهم بربهم، واستجابتهم لنبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. سؤال وإشكال: ما معنى قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ على أثر قوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ وقول ذلك قول لا يحتمل أن يزيد الإيمان، وليس كقوله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2]؛ لأنها حجج، والحجج تزيد التصديق، أو تحدث، أو تدعوا إلى الثبات على ذلك؛ فيزيد الإيمان؛ فقولهم: اخشوهم، كيف يزيد؟ والجواب: يخرج ذلك على وجوه:
أ. أحدها: أنهم إذا علموا أنهم أهل النفاق، وأنهم يخوفون بذلك، وقد كان وعدهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بصنيعهم، فكذبوهم بذلك، وأقبلوا نحو أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إجابة لأمره؛ وتصديقا بوعده، ومجانبة لاغترارهم بأخبار أعدائه والنزول على قولهم؛ فكان ذلك منهم ـ عند ذلك ـ زائدا في إيمانهم مع ما في تكذيبهم؛ ذلك نحو قوله عزّ وجل: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [التوبة: 125] الآية: إنه إذا زاد بتكذيب آيات الله رجسا؛ فمثله تكذيب المكذب بالآيات؛ لذلك يزيد إيمانا
ب. الثاني: أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبرهم بتفرق أعداء الله، وتشتت أمرهم، وأخبرهم المنافقون بالاجتماع؛ فصاروا إلى ما نعتهم به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فوجدوا الأمر على ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أعظم آيات النبوة؛ فزادهم ذلك إيمانا، والله أعلم، وذلك، قوله عزّ وجل: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ﴾ الآية.
ج. الثالث: لما لم يغتروا بقول المنافقين، ولا قصدوا لذلك، ولا ضعفوا؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ سكينته على قلوبهم؛ ليزيد لهم بذلك إيمانا؛ كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية [الفتح: 4]، وبالله التوفيق.
6. معنى زيادة الإيمان يتخرج على وجوه:
أ. أحدها: بحق الابتداء في حادث الوقت؛ إذ له حكم التجدد في حق الأفعال بما هو للكفر به تارك؛ وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية [النساء: 136]، فيكون ذلك بحق الزيادة على ما مضى، وإن كان بحق التجدد في حق الحادث والفرد.
ب. الثاني: أن يكون له الثبات عليه؛ إذ حجج الشيء توجب لزومه، والدوام عليه؛ فسمى ذلك زيادة.
ج. ويحتمل: أن يكون يزداد له في أمره بصيرة، وعلى، وسلموا لما رأوا النصر منه؛ رضاء منهم بكل ما يصيبهم، كقوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]: مدحهم الله عزّ وجل بما رأوا أنفسهم لله؛ فكذلك هذا.
7. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ أي: ذو منّ عظيم، يدفع المشركين عن المؤمنين، ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾:
أ. يحتمل النعمة: نعمة الدين، على ما ذكرنا.
ب. وقيل: انقلبوا بنصر من الله والغنيمة.
ج. ويحتمل: النعمة من الله: الأمن من العدو؛ لأن المنافقين كانوا يخوفونهم بقولهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾
د. ويحتمل: النعمة: الجنة، وفضل الزيادة على ذلك.
هـ. وقيل: انصرفوا بأجر من الله وفضل، وهو ما تشوقوا به من الشوق.
و. ويحتمل قوله: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ الزيادة في الإيمان، وهو الصلابة والقوة فيه.
ز. ويحتمل قوله تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: رجعوا بمحمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ ولا قتل، ولا هزيمة، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾:
أ. أي: اتبعوا العمل الذي به رضوان الله، ورضاء رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: اتبعوا طاعته ورضاه.
9. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ مما كانوا يخوفونهم بقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾
10. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: يخوف أولياءه وأعداءه، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياؤه يخافونه؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11]: ومن لم يتبع، لكن من اتبع الذكر كان يقبل إنذاره، ومن لم يتبع الذكر لا؛ وإلا فإنه كان ينذر الفريقين جميعا؛ فعلى ذلك الشيطان كان يخوف أولياءه وأعداءه جميعا، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياءه يخافونه.
ب. ويحتمل قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: بأوليائه، وجائز هذا في الكلام؛ كقوله: ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ [الشورى: 7]، أي: بيوم الجمع؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121]؛ فعلى ذلك قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: بأوليائه، وعن ابن عباس: يخوفكم أولياءه، وهذا يؤيد تأويل من يتأول: يخوف بأوليائه.
11. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا تخافوه لمخالفتكم إياه، ﴿وَخَافُونِ﴾ أي: خافوا مخالفتكم أمري؛ كقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ [النحل: 99 ـ 100] أخبر أن ليس له سلطان على الذين آمنوا؛ إنما سلطانه على الذين يتولونه؛ لذلك قال لا تخافوه؛ لما ليس له عليكم سلطان، وخافون؛ لما لى عليكم سلطان، وبالله العصمة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/532.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ﴾ إلى قوله ﴿ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾: روي أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين الإمام علي عليه صلوات رب العالمين، وذلك أن أبا سفيان فيما قيل نادى وهو منهزم في يوم بدر إلى رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله أن ميعادك إلى هذا الموضع للقتال في وقت كذا وكذا، فلما كان ذلك الوقت سار إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لميعاده، وجعل أمير المؤمنين الإمام علي صلوات الله عليه في مقدمة العسكر، فجعل المنافقون يقولون للناس: إن قريشاً قد جمعوا لكم فاحذروهم، ولا تأمنوا شرهم، فلا يزيده كلامهم إلا إيماناً بالله وبصيرة وعزيمة، وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما وصلوا إلى بدر لم يجدوا أحداً من المشركين، فأقاموا بها وقتاً، ثم انقلبوا راجعين إلى المدينة، فمدح الله أمير المؤمنين بهذا الكلام كرامة له من الله ذي الجلال والإكرام.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 267.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ أما الناس في الموضعين وإن كان بلفظ الجمع فهو واحد وهذا القائل هو نعيم بن مسعود الأشجعي، والناس الثاني هو أبو سفيان وأصحابه، والوقت الذي أراد أبو سفيان أن يجمع فيه هذا الجمع هو بعد رجوعه عن أحد سنة ثلاث حتى أوقع الله في قلوب المشركين الرعب، وقيل إنها في بدر الصغرى سنة أربع بعد أحد بسنة.
2. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/158.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ أما الناس في الموضعين وإن كان بلفظ الجمع فهو واحد لأنه تقدير الكلام جاء القول من قبل الناس، والذين قال لهم الناس هم المسلمون وفي الناس القائل قولان:
أ. أحدهما: هو أعرابي جعل له على ذلك جعل، وهذا قول السدي.
ب. الثاني: هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول الواقدي.
2. الناس الثاني أبو سفيان وأصحابه، واختلفوا في الوقت الذي أراد أبو سفيان أن يجمع لهم هذا الجمع على قولين:
أ. أحدهما: بعد رجوعه على أحد سنة ثلاث حتى أوقع الله في قلوب المشركين الرعب كفّوا، وهذا قول ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة.
ب. الثاني: أن ذلك في بدر الصغرى سنة أربع بعد أحد بسنة، وهذا قول مجاهد.
3. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ التخويف من الشيطان والقول من الناس، وفي تخويف أوليائه قولان:
أ. أحدهما: أنه يخوف المؤمنين من أوليائه المشركين، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
ب. الثاني: أنه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، وهذا قول الحسن، والسدي.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/438.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾:
أ. ذكر ابن عباس والسدي، وابن إسحاق، وابن جريج، وقتادة: ان سبب نزول هذه الآية ان أبا سفيان: صخر بن حرب، وأصحابه لما انصرفوا عن أحد، ندموا، وقال بعضهم لبعض: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم فارجعوا فاغيروا على المدينة، واسبوا ذراريهم.
ب. قيل: إن بعضهم قال لبعض: إنكم قتلتم عدوكم حتى إذا لم يبق إلا الرشيد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فرجعوا إلى حمراء الأسد وسمع بهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فدعا أصحابه إلى الخروج، وقال: لا يخرج معنا إلا من حضرنا أمس للقتال، ومن تأخر عنا، فلا يخرج معنا، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أذن لجابر وحده في الخروج، ـ وكان خلفه أبوه على بناته يقوم بهن ـ فاعتل بعضهم بأن قال بنا جراح، وآلام فانزل الله تعالى ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾
ج. وقيل نزلت فيهم أيضاً ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ ثم استجابوا على ما بهم إلى اتباعهم وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا من غير حرب، وخرج المسلمون إلى حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة.
2. موضع (الذين) يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: الجر ـ على أن يكون نعتاً للمؤمنين ـ والرفع ـ على الابتداء ـ وخبر الذين الجملة ـ والنصبـ على المدح ـ
3. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ معناه من بعد ما نالهم الجراح وأصله الخلوص من الكدر، ومنه ماء قراح أي خالص، والقراح من الأرض: ما خلص طينه من السبخ، وغيره، والقريحة خالص الطبيعة، واقترحت عليه كذا أي اشتهيته عليه لخلوصه على ما تتوق نفسه إليه، كأنه قال استخلصته، وفرس قارح أي طلع نابه لخلوصه ببلوغ تلك الحال عن نقص الصغار، وكذلك ناقة قارح أي حامل، فالقرح الجراح، لخلوص ألمه إلى النفس.
4. أجاب، واستجاب بمعنى واحد، وقال قوم: استجاب: طلب الاجابة، وأجاب: فعل الاجابة، وقوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ فالاحسان هو النفع الحسن.
5. الإفضال: النفع الزائد على أقل المقدار.
6. ﴿وَاتَّقُوا﴾ معناه اتقوا معاصي الله ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ معناه هاهنا الذين فعلوا الحسن الجميل من طاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والانتهاء إلى قوله، وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ معناه تبيين الصفة لا التبعيض.
7. في المعني بقوله: ﴿النَّاسِ﴾ الأول في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها: قال ابن عباس، وابن إسحاق: انهم ركب دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجبنوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم.
ب. وقال السدي: هو اعرابي ضمن له جعل على ذلك.
ج. وقال الواقدي: هو نعيم بن مسعود الاشجعي وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
8. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أبو سفيان وأصحابه ـ في قول أكثر المفسرين ـ:
أ. وقال مجاهد: انما كان ذلك في بدر الصغرى وهي سنة أربع وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة.
ب. وقال قوم من المفسرين: إن هذا التخويف من المشركين كان في السنة المقبلة، لأن أبا سفيان، لما انصرف يوم أحد، قال موعدكم البدر في العام المقبل، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمن حضره: قولوا نعم، فلما كان العام المقبل خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه، وكان أبو سفيان كره الخروج، فدس من يخوف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه لم يسمعوا منهم، وخرجوا إلى بدر فلما لم يحضر أحد من المشركين، رجعوا، وكانوا صادفوا هناك تجارة اشتروها فربحوا فيها، وكان ذلك نعمة من الله، وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.
9. إنما عبر بلفظ الجميع عن الواحد في قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ لأمرين:
أ. أحدهما: ان تقديره جاء القول من قبل الناس، فوضع كلام موضع كلام ـ ذكره الرماني ـ.
ب. الثاني: إن الواحد يقوم مقام الناس، لأن (الإنسان) إذا انتظر قوماً فجاء واحد منهم، قد يقال: جاء الناس إما لتفخيم الشأن، وأما لابتداء الإتيان.
10. ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ حكاية عن قول نعيم بن مسعود للمسلمين، يعني اخشوا أبا سفيان، وأصحابه فبين الله تعالى ان ذلك القول زادهم ايماناً وثباتاً على دينهم، واقامة على نصرة نبيهم، وقالوا عند ذلك ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾:
أ. ومعناه كافينا الله، وأصله من الحساب، لأن الكفاية بحسب الحاجة، وبحساب الحاجة، ومنه الحسبان وهو الظن.
ب. والوكيل: الحفيظ، وقيل: هو الولي، وأصله القيام بالتدبير، والمتولى للشيء قائم بتدبيره، والحافظ له يرجع إلى هذا المعنى، ومعنى الوكيل في صفات الله المتولي للقيام بتدبير خلقه، لأنه مالكهم رحيم بهم، والوكيل في صفة غيره: انما يعقد بالتوكيل.
11. ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ الانقلاب، والرجوع، والمصير واحد، وقد فرق بينهما بأن الانقلاب هو المصير إلى ضد ما كان قبل ذلك كانقلاب الطين خزفاً، ولم يكن قبل ذلك خزفاً والروع هو المصير إلى ما كان قبل ذلك.
12. في قوله تعالى: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ان النعمة العافية، والفضل: التجارة، والسوء: القتل ـ في قول السدي، ومجاهد ـ
ب. وقال الزجاج: النعمة هاهنا الثبوت على الايمان في طاعة الله وفضل الربح في تجارتهم، لأنه روي أنهم أقاموا في الموضع ثلاثة أيام فاشتروا أدماً وزبيباً ربحوا فيه.
13. قال قوم: إن أقل ما يفعله الله بالخلق فهو نعمة، وما زاد عليه فهو الموصوف بانه فضل، والفرق بين النعمة والمنفعة أن النعمة لا تكون نعمة إلا إذا كانت حسنة، لأنه يستحق بها الشكر ولا يستحق الشكر بالقبيح، والمنفعة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة مثل ان يغصب ما لا ينتفع به ـ وإن كان قبيحاً ـ
14. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ موضعه نصب على الحال، وتقديره: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل سالمين، والعامل فيه ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ والمعني بالآية الذين أمرهم الله تعالى بتتبع المشركين إلى حمراء الأسد، فلما بلغوا إليها وكان المشركون أسرعوا في المضي إلى مكة رجع المسلمون من هناك من غير أن يمسهم قتل ولا جراح غانمين سالمين، وقد امتثلوا ما أمرهم الله تعالى به، واتبعوا رضوانه، ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ أي ذو إحسان عظيم على عباده ديني ودنيوي.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:
أ. قيل: انما ذلك التخويف الذي كان من نعيم بن مسعود من فعل الشيطان، وباغوائه، وتسويله، ويخوف أولياءه المؤمنين، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يخوف المؤمنين بالكافرين.
ب. وقال الزجاج، وأبو علي الفارسي، وغيرهما من أهل العربية: إن تقديره يخوفكم أولياءه، أي من أوليائه بدلالة قوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم مصدقين بالله فقد أعلمتكم أني انصرفكم عليهم، فقد سقط عنكم الخوف، ومثله قوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ ومعناه لينذركم بأساً والتقدير لينذركم ببأس شديد، فلما حذف الجار نصبه.
ج. وقيل: إن (يخوف) يتعدى إلى مفعولين، لأنك تقول: خفت زيداً وخوفت زيداً عمراً، ويكون في الآية حذف أحد المفعولين، كما قلناه في قولهم: فلان يعطي الدراهم ويكسو الثياب، وقال بعضهم: هذا لا يشبه الآية، لأنه انما أجازوا حذف المفعول الثاني في أعطى الدراهم، لأنه لا يشتبه أن الدراهم هي التي أعطيت، وفي الآية تشتبه الحال في من المخوف ومن المخوّف.
د. وقال قوم: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي انما خاف المنافقون ومن لا حقيقة لإيمانه.
هـ. وقال الحسن، والسدي: يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين ويخوف يتعدى إلى مفعولين كما يتعدى، يعطي لأن أصله خاف زيد القتال، وخوفته القتال، كما تقول، عرف زيد أخاك وعرفته أخاك.
16. سؤال وإشكال: كيف يكون الأولياء على المفعول الثاني وإنما التخويف من الأولياء لغيرهم؟ والجواب: ليس التقدير هكذا، وإنما هو على (خاف المؤمنون أولياء الشيطان)، وهو خوفهم أولياءه، قال الرماني: وغلط من قدر التقدير الأول، وقوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ يعني لا تخافوا المشركين، وإنما قال: ﴿ذَلِكَ﴾ وهي انما يشار بها إلى ما هو بعيد لأنه أراد ذلك القول تقدم من المخوف لهم من قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/51.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القرح: الجراح، وأصله الخلوص من الكَدَر يقال: ماء قراح أي خالص، والقريحة خالص الطبيعة، وأقرحت عليه كذا اشتهيته عليه لخلوصه على ما تتوق نفسه إليه كأنه قال استخلصته، والقرح: الجرح لخلوص ألمه إلى النفس.
ب. استجاب وأجاب قيل: بمعنى، ومنه ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ قيل: أجاب: فَعَلَ الإجابة، واستجاب طلب أن يَفْعَلَ الإجابة؛ لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل.
ج. الإحسان: النفع الحسن.
د. الانقلاب والرجوع من النظائر، وبينهما فرق، فالرجوع المصير إلى الموضع الذي كان فيه صاحبه، قيل: والانقلاب هو المصير على نقيض ما كان [قبل] كقولهم: انقلب الطين خزفًا.
هـ. النعمة: المنفعة الحسنة إذا قصد بها المنعم للإحسان.
و. الخوف والفزع والخشية والرهبة والهيبة نظائر، وخاف يخاف خوفًا، وخَوَّفَهُ تخويفًا، و﴿خَوْفٍ﴾ يتعدى إلى مفعولين كما أن يُعطي) يتعدى إلى مفعولين، تقول: خوفت زيدا القتال، وأصله خاف زيد القتال، ونظيره: عَرَّفْتُ زيدًا أخاك، وعرف زيد أخاك.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾:
أ. قيل: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه عن أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم، وقالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى لم يبق إلا الشريد تركتموه، ارجعوا فاستأصلوهم، فرجعوا إلى حمراء الأسد، وسمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد أن يرهب عدوه، فدعا أصحابه إلى اتباعه، ونادى مناديه: ألا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، وألقى الله الرعب في قلوب الكفار، فانهزموا من غير قتال، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من المهاجرين والأنصار حتى بلغوا حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، ففيهم نزلت الآية عن ابن عباس والسدي وابن إسحاق وابن جريج وقتادة وأبي علي.
ب. وعن عائشة قالت لعبد الله بن الزبير: إن جدك وأباك لمن الَّذِينَ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ تعني بالجد أبا بكر وبالأب الزبير.
ج. وقيل: كانت هذا الدعاء والخروج في الثاني من أحد.
د. وقيل: أقام بها ثلاثة أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ورجع إلى المدينة.
هـ. وقيل: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، والَّذِينَ خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لموعد أبي سفيان، وذلك أن أبا سفيان لما انصرف يوم أحد قال: يا محمد، موعدنا بدر الصغرى من قابل، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذلك بيننا وبينك)، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة، ونزل بمر الظهران، وألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب فندم وبدا له، وشمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للخروج فكره بعضهم فقال: (لأخرجن إليهم وإن لم يخرج معي أحد) فخرج وخرجوا معه حتى وافى بدرا الصغرى، وأقام ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان إلى مكة، فسماهم أهل مكة جيش السويق، قالوا: أخرجتم تشترون السويق، ووافى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السوق ببدر، وكان سوقًا للعرب، فباعوا ما معهم وربحوا، وانصرفوا إلى المدينة عن مجاهد وعكرمة.
و. وقيل: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رجع الناس بعد الهزيمة يوم أحد شد على الكفار بمن أجابه من أصحابه حين كشفهم، وكانوا قتلوا جماعة فقذف في قلوبهم الرعب فانهزموا، فنزلت الآية فيهم عن الأصم.
3. لما أخبر تعالى عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين صفتهم فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ أي أجابوا وأطاعوا في أوامره، وأطاعوا الرسول ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ﴾ نالهم ﴿الْقَرْحُ﴾ الجراح يوم أحد.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾:
أ. قيل: إنه ابتداء كلام بعد أن تم الكلام الأول عند قوله سبحانه ﴿وَالرَّسُولُ﴾
ب. وقيل: بل يتصل بما قبله عن أبي علي، يعني للذين أحسنوا منهم في مستقبل أمرهم كما أحسنوا في الماضي واتقوا معاصي الله.
5. ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي ثواب جزيل.
6. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾:
أ. قيل: لما خرج رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى حمراء الأسد مر به معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك، فكانت خزاعة مع رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم مسلمهم وكافرهم، فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا على الرجعة، فقال: يا معبد ما وراءك؟ فقال: إن محمدًا خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم، يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه يومكم، وقد ندموا على ما صنعوا، قال: ويلك ما تقول، قال: والله، ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: إنا أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، ففتر أبو سفيان ومن معه، فمر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: المدينة، قال: فهل تبلغون محمدًا رسالة حتى أحمل إبلكم هذا زبيبًا بعكاظ؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا أجمعنا الرجوع إليه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم بحمراء الأسد، فأخبروه بقول أبي سفيان، فقالوا: حسبنا الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وابن إسحاق وقتادة.
ب. وقيل: إن أبا سفيان لما خرج من مكة لموعد بدر الصغرى، وبدا له فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرًا فقال: إني خرجت لموعد محمد، وإن هذه عام جدب، وقد بدا لي فالحقْ بالمدينة وأعلمهم أنا في جمع كثير، وضمنوا له جعلاً، فخرج إلى المدينة والناس يتهيؤون لميعاد أبي سفيان، فأخبرهم بما أعد أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله، وفيه نزلت الآية، عن الواقدي وعكرمة ومجاهد.
ج. وقيل: لما تجهز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: كنا نهيناكم عن الخروج إلى أحد فعصيتمونا حتى نالكم ما نالكم، فإن أبيتم إلا الخروج لا يرجع منكم أحد، قالوا: حسبنا الله، فنزلت الآية عن السدي.
د. وقيل: دخل ناس من تهامة المدينة فسألوهم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعًا كبيرة فاخشوهم، فقالوا: حسبنا الله، فأنزل الله هذه الآية عن أبي معشر.
7. ثم أخبر تعالى عن حسن نصره للمؤمنين الَّذِينَ تقدم ذكرهم، وقوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ﴿النَّاسِ﴾:
أ. قيل هم الركب الَّذِينَ في سهم أبو سفيان إلي المسلمين ليجبنوهم عن ابن عباس وقتادة.
ب. وقيل: بل هو أعرابي ضمن له جعلاً عن السدي.
ج. وقيل: كان نعيم بن مسعود الأشجعي عن الواقدي ومجاهد ومقاتل وعكرمة.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾:
أ. قيل: عامّ أريد به الخاص كقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني محمدًا، وإنما يجوز ذلك لوجهين:
• أحدهما: بتقدير جاء القول من قبل الناس.
• الثاني: تفخيمًا وتعظيمًا.
ب. وقيل: هم المنافقون عن السدي.
9. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ اختلفوا متى كان؟
أ. قيل: عام أحد سنة ثلاث.
ب. وقيل: في بدر الصغرى سنة أربع.
10. ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾ يعني أبا سفيان وأصحابه من أهل مكة ﴿قَدْ جَمَعُوا﴾:
أ. قيل: جموعًا كثيرة من الناس.
ب. وقيل: جمعوا الآلات والرجال.
11. ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ خافوهم، ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾:
أ. قيل: تصديقًا وقوة.
ب. وقيل: تثبيتًا بمعنى زادهم ذلك التخويف تثبيتًا على إيمانهم.
12. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ﴾ كفانا الله ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾:
أ. قيل: المعتمد والملجأ الذي توكل إليه الأمور.
ب. وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول.
ج. وقيل: نعم المانع عن الواقدي.
13. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُوفَضْلٍ عَظِيمٍ﴾: روي أنهم لما رجعوا عن بدر الصغرى، ولم يلقوا كيدًا قالوا: هل يكون هذا غزوًا، فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزاة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
14. لما تقدم ذكر انقطاعهم إليه سبحانه بين تعالى ما منَّ عليهم فقال تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾:
أ. قيل: يعني رجعوا من وجهتهم إلى المدينة.
ب. وقيل: رجعوا بعد أحد لما خرجوا في طلب أبي سفيان.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾:
أ. قيل: النعمة العافية، والفضل التجارة عن السدي ومجاهد.
ب. وقيل: النعمة: الثبوت على الإيمان والطاعة، والفضل: الربح في تجارتهم عن الزجاج، فإنهم في بدر الصغرى لما أتوا بدرًا ولم يلقوا غزوًا اتجروا وربحوا.
ج. وقيل: بفضل في دينهم من طاعة الله، عن الأصم.
د. وقيل: كان أبو سفيان خلف ببدر أثاثًا وأمتعة فغنمه أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فذلك النعمة، والفضل ما برأ من جراحتهم.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾:
أ. قيل: أي ما نالهم مكروه.
ب. وقيل: القتل عن السدي ومجاهد.
ج. وقيل: الجراح وغيره مما يكرهون.
17. ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ في طاعته وطاعة رسوله فيما أمر به عن الأصم ﴿وَاللهُ ذُوفَضْلٍ عَظِيمٍ﴾:
أ. قيل: على أوليائه يعطيهم نعم الدارين، وتلك نعمة عظيمة.
ب. وقيل: الفضل العظيم أن أخزى عدوهم ورضي عنهم من غير أن حل بهم مكروه.
18. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:
أ. قيل: لما خوف نعيم بن مسعود المسلمين بأبي سفيان وأصحابه نزلت هذه الآية.
ب. وقيل: بل خوفهم الركب الذي دسهم أبو سفيان على ما تقدم.
19. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بما قبله:
أ. قيل: لما تقدم تخويف الكافر المؤمنين بيَّن تعالى أنهم لا ينبغي للمؤمنين أن يخافوا ذلك؛ لأنه ناصرهم ومعينهم عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: هذا عائد على قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ فإن الحزن والوهن من تخويف الشيطان لأوليائه الَّذِينَ نالهم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خوف أو غم ففشلوا ووهنوا، وخالفوا طريقة المؤمنين الَّذِينَ قالوا: حسبنا الله، وصاروا عدوًا لله وأولياء الشيطان، فهو يخوفهم أبدًا بالخواطر الفاسدة عن أبي مسلم.
20. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ ذلكم يعني يخوفكم أيها المؤمنون الشيطان:
أ. قيل: الركب.
ب. وقيل: نعيم بن مسعود، وسمي شيطانًا لعتوه وتمرده في الكفر كقوله: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ وقيل: هو الشيطان يخوف بالوسوسة.
ج. وقيل: الشيطان ألقى إليه حتى تكلم هو به.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾:
أ. قيل: يخوف المؤمنين بأوليائه من الكفار عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي علي، كقوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ ويُقال: فلان يكسي الثياب.
ب. وقيل: يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين عن الحسن والسدي والأصم وأبي مسلم.
ج. وقيل: يعظم أولياءه في صدوركم لتخافوهم عن السدي.
22. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ يعني لا تَرهبوا الكافرين وإن كثر عددهم مع طاعتكم إياي، ﴿وَخَافُونِ﴾ في ترك معصيتي ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مصدقين لوعدي، ومصدقين لرسولي فيما وعدكم به، وقيل: وعدهم الأمن والنصر بقوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾
23. تدل الآيات الكريمة على:
أ. على عظم منزلة أولئك الَّذِينَ خرجوا مع النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدما أصابهم في الدين ما أصابهم؛ لأن معاودة الحرب بعد مثل تلك الحالة مما يعظم موقعه خصوصًا مع قلة العدد ووفور عدد العدو، فإذا صبروا وجاهدوا استحقوا ثوابًا عظيمًا، وهذا يدل على فضل الصحابة؛ لأن هذه منزلة تفردوا بها لم يشاركهم فيها غيرهم، ولذلك كانوا أعظم وأفضل ممن بعدهم.
ب. أن الأجر يُسْتَحقُّ على التقوى.
ج. بطلان مذهب الجبر في المخلوق؛ لأنه تعالى أضاف الإحسان والتقوى إليهم، ومدحهم به، ولو كان خلقًا له لكان إضافته إليه أولى.
د. أن القوم لما خوفوا بكثرة العدو ووفور عدتهم ازدادوا بصيرة، وانقطعوا إلى الله، وقالوا: حسبنا الله، وذلك يدل على قوة يقينهم وفضلهم وتقدمهم في الدين.
هـ. أن كل خير وظَفْرٍ فمِنْ عنده تعالى.
و. أن الإيمان يزيد وينقص، وذلك يوجب أن العمل من الإيمان خلاف ما تقوله المرجئة، وقد روى ابن عمر قال: قلنا: يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يُدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار)، وروي أن الإيمان يزيد وينقص عن عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز وعلقمة وحماد بن زيد وسلمة بن إبراهيم، ووكيع بن الجراح، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وقول مشايخنا، وإليه ذهب الشافعي.
ز. أنه تعالى أعطاهم لما توكلوا عليه غنيمة الدنيا وثواب الآخرة.
ح. أن اتباع رضا الله تمام ما يمدح به المكلف ونهايته.
ط. أن الثواب يستحق بهذه الأعمال التي تقدم ذكرها.
ي. أن بالطاعة تندفع مكاره الدنيا، كما يتخلص بها من العقاب.
ك. أن القوم كانوا خرجوا من المدينة لظاهر قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾، وذلك يؤيد قول من يقول: إنهم خرجوا إلى بدر الصغرى.
ل. أن وسوسة الشيطان تؤثر في أوليائه لقبولهم منه؛ لذلك خص الأولياء بالذكر، ومعلوم أنه يخوف من يتمكن منه، لكن لما اختصوا بالقبول صاروا كأنه لم يخوف غيرهم.
م. أن الواجب على المكلف أن يخاف الله، وأن صفة المؤمنين ذلك، فإنهم لا يخافون غيره؛ لأن قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ليس بشرط ولكن ذلك طريقة المؤمنين.
24. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الَّذِينَ: موضعه من الإعراب يحتمل ثلاثة أوجه: الجر على النعت للمؤمنين، والرفع على الابتداء وخبره ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ الجملة، والنصب على المدح وتقديره: أعني الَّذِينَ استجابوا لله.
ب. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع جر مردود على المؤمنين تقديره: والله لا يضيع أجر المؤمنين، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ، والقوم هم الَّذِينَ استجابوا لله وللرسول.
ج. موضع ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ من الإعراب النصب على الحال؛ لأنه في موضع سالمين، والعامل فيه ﴿انْقَلَبُوا﴾
د. ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾: نصب لأنه المفعول الثاني، تقديره: يخوفهم أولياءه، وقيل: نصب بنزع الخافضة أي بأوليائه.
هـ. ﴿وَخَافُونِ﴾: حذف الياء منه كما تحذف الألف والواو والياء في القوافي.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/459.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. استجاب وأجاب بمعنى، وقيل: استجاب طلب الإجابة، وأجاب: فعل الإجابة.
ب. القرح: الجرح، وأصله الخلوص من الكدر، ومنه ماء قراح أي: خالص، والقراح من الأرض: ما خلص طينه من السبخ وغيره، والقريحة: خالص الطبيعة، واقترحت عليه كذا أي: اشتهيته عليه لخلوصي على ما تتوق نفسه إليه، كأنه قال: استخلصته، وفرس قارح: طلع نابه لخلوصه عن نقص الصغار، ببلوغ تلك الحال، والقرح: الجراح لخلوص ألمه إلى النفس.
ج. الإحسان: هو النفع الحسن، والإفضال: النفع الزائد على أقل المقدار.
د. حسبنا الله أي: كافينا الله، وأصله من الحساب، لأن الكفاية بحسب الحاجة وبحساب الحاجة، ومنه الحسبان وهو الظن.
هـ. الوكيل: الحفيظ، وقيل: هو الولي، وأصله القيام بالتدبير، فمعنى الوكيل في صفات الله: هو المتولي للقيام بتدبير خلقه، لأنه مالكهم الرحيم بهم، وهو في صفة غيره، لأنما يعتد بالتوكيل.
2. مما روي في سبب نزول نزول الآيات الكريمة:
أ. روي أنه لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد فبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم عن المسلمين، وتلاوموا فقالوا: لا محمدا قتلهم، ولا الكواعب أردفتهم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد، تركتموهم فارجعوا فاستأصلوهم، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأراد أن يرهب العدو، ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، وقال: ألا عصابة تشدد لأمر الله، تطلب عدوها، فإنها أنكأ للعدو، وأبعد للسمع؟ فانتدب عصابة منهم، مع ما بهم من القراح والجراح الذي أصابهم يوم أحد، ونادى منادي رسول الله: ألا لا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرهب العدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، فيظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم، فينصرفوا، فخرج في سبعين رجلا حتى بلغ (حمراء الأسد)، وهي من المدينة على ثمانية أميال.
ب. وذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: هل من رجل يأتينا بخبر القوم؟ فلم يجبه أحد، فقال أمير المؤمنين: أنا آتيك بخبرهم، قال: إذهب فإن كانوا ركبوا الخيل وجنبوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، وإن كانوا ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل، فإنهم يريدون مكة، فمضى أمير المؤمنين عليه السلام على ما به من الألم والجراح، حتى كان قريبا من القوم، فرآهم قد ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل، فرجع وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، فقال: أرادوا مكة، فلما دخل رسول الله المدينة، نزل جبرائيل فقال: يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إن الله، عز وجل، يأمرك أن تخرج ولا يخرج معك إلا من به جراحة، فأقبلوا يكمدون جراحاتهم، ويداوونها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح، حتى بلغوا (حمراء الأسد)
ج. وروى محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدا، قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج في طلب العدو، قلنا: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله، فوالله ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكنت أيسر جرحا من أخي، فكنت إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا مع رسول الله إلى (حمراء الأسد) فمر برسول الله معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عنه شيئا، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والله لقد عز علينا، ما أصابك في قومك وأصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى لقي أبا سفيان، ومن معه بالروحاء، وأجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: قد أصبنا حد أصحابه، وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم! فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فأنا والله أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال قلت:
çكادت تهد من الأصوات راحلتي... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة... عند اللقاء، ولا خرق معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة... لما سموا برئيس غير مخذولé
وقلت:
çويل لابن حرب من لقائكم... إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السبل ضاحية... لكل ذي إربة منهم، ومعقول
من جيش أحمد، لا وخش تنابلة... وليس يوصف ما أثبت بالقيلé
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ، غدا إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا الكرة عليه، وعلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد، فأخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول الله وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله إلى المدينة بعد الثالثة، وقد ظفر في وجهه ذلك بمعونة ابن المغيرة بن العاص، وأبي قرة الجمحي، وهذا قول أكثر المفسرين.
د. وقال مجاهد وعكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد، حين أراد أن ينصرف: يا محمد! موعد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى القابل إن شئت، فقال رسول الله: ذلك بيننا وبينك، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل (مجنة) من ناحية (الظهران) ثم ألقى الله عليه الرعب، فبدا له، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وأن هذه عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد، ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو، فأتى نعيم المدينة، فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: بئس الرأي رأيكم، أتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا، وقد جمعوا لكم عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده، لأخرجن ولو وحدي! فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج رسول الله في أصحابه، حتى وافوا (بدر الصغرى) وهو ماء لبني كنانة، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية، يجتمعون إليها في كل عام، ثمانية أيام، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من (مجنة) إلى ﴿مَكَّةَ﴾ فسماهم أهل مكة جيش السويق، ويقولون إنما خرجتم تشربون السويق، ولم يلق رسول الله وأصحابه أحدا من المشركين ببدر، ووافق السوق، وكانت لهم تجارات، فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، وقد روى ذلك أبو الجارود، عن الباقر عليه السلام.
3. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ أي: أطاعوا الله في أوامره، وأطاعوا رسوله، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ أي: نالهم الجراح يوم أحد ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو ﴿وَاتَّقُوا﴾ معاصي الله لهم ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي: ثواب جزيل.
4. في المعني بالناس الأول في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إنهم الركب الذين دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجبنوهم عند منصرفهم من أحد، لما أرادوا الرجوع إليهم، عن ابن عباس وابن إسحاق، وقد مضت قصتهم.
ب. الثاني: إنه نعيم بن مسعود الأشجعي وهو قول أبي جعفر، وأبي عبد الله.
ج. الثالث: إنهم المنافقون، عن السدي.
5. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ المعني به هو أبو سفيان وأصحابه عند أكثر المفسرين:
أ. أي: جمعوا جموعا كثيرة لكم.
ب. وقيل: جمعوا الآلات والرجال.
6. إنما عبر بلفظ الواحد عن الجمع في قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ لأمرين:
أ. أحدهما: إنه قد جاءهم من جهة الناس فأقيم كلامه مقام كلامهم، وسمي باسمهم.
ب. والآخر: إنه لتفخيم الشأن.
7. ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ أي: خافوهم.
8. ثم بين تعالى أن ذلك القول زادهم إيمانا وثباتا على دينهم، وإقامة على نصرة نبيهم، بأن قال: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي: كافينا الله، وولينا وحفيظنا، والمتولي لأمرنا، ونعم الوكيل أي: نعم الكافي والمعتمد، والملجأ الذي يوكل إليه الأمور.
9. ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ أي: فرجع النبي ومن معه من أصحابه ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ أي: بعافية من السوء، وتجارة رابحة ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾:
أ. أي: قتل، عن السدي ومجاهد.
ب. وقيل: النعمة ها هنا: الثبوت على الإيمان في طاعة الله، والفضل: الربح في التجارة، عن الزجاج.
ج. وقيل: إن أقل ما يفعله الله فهو نعمة، وما زاد على ذلك فهو الموصوف بأنه فضل.
10. الفرق بين النعمة والمنفعة أن النعمة لا تكون نعمة إلا إذا كانت حسنة، والمنفعة قد تكون حسنة، وقد تكون قبيحة، وهذا لأن النعمة يستحق بها الشكر، ولا يستحق الشكر بالقبيح.
11. ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ بالخروج إلى لقاء العدو ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ على المؤمنين.
12. تضمنت الآية التنبيه على أن كل من دهمه أمره، فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة، وقد صحت الرواية عن الصادق عليه السلام أنه قال: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فإني سمعت الله يقول بعقبها: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، وروي عن ابن عباس أنه قال: آخر كلام إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقال نبيكم مثلها، وتلا هذه الآية.
13. ثم ذكر الله تعالى أن ذلك التخويف والتثبيط عن الجهاد، من عمل الشيطان فقال: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾:
أ. إنما ذلك التخويف الذي كان من نعيم بن مسعود، من فعل الشيطان، وباغوائه وتسويله، يخوف أولياءه المؤمنين، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ويخوف المؤمنين بالكافرين.. وهو الأصح.
ب. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي وغيرهما: إن تقديره: ويخوفكم أولياءه أي: من أوليائه بدلالة قوله ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن كنتم مصدقين بالله، فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم، ومثله قوله ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ أي: لينذركم ببأس شديد، فلما حذف الجار نصبه.
ج. وقيل: معناه إن الشيطان يخوف المنافقين الذين هم أولياؤه، وإنهم هم الذين يخافون من ذلك التخويف، بأن يوسوس إليهم ويرهبهم، ويعظم أمر العدو في قلوبهم، فيقعدوا عن متابعة الرسول، والمسلمون لا يخافونه، لأنهم يثقون بالنصر الموعود، ونظيره قوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
14. مسائل لغوية ونحوية:
أ. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب:
• الجر على أن يكون نعتا للمؤمنين.
• والأحسن والأشبه بالآية أن يكون موضع الرفع على الابتداء، وخبره الجملة التي هي ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
• ويجوز النصب على المدح، وتقديره: أعني الذين استجابوا إذا ذكروا.
ب. كذلك القول في موضع ﴿الَّذِينَ﴾ في الآية الثانية، لأنهما نعت لموصوف واحد.
15. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾: في موضع نصب على الحال، وتقديره: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل سالمين، والعامل فيه ﴿فَانْقَلَبُوا﴾
16. ﴿كَمْ﴾ من ﴿ذَلِكُمْ﴾: للخطاب لا للضمير، فلا موضع لها من الإعراب.
17. (يخوف) يتعدى إلى مفعولين يقال: خاف زيد القتال، وخوفته القتال.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/886.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن المشركين لمّا انصرفوا يوم أحد، ندب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه لاتّباعهم، ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوما، فقال: إن لقيتم محمّدا، فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلّة، فأبى إلّا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكّة، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والجمهور.
ب. الثاني: أنّ أبا سفيان لمّا أراد الانصراف عن أحد، قال يا محمّد، موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلمّا كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى الله في قلبه الرّعب، فبدا له الرّجوع، فلقي نعيم بن مسعود، فقال: إني قد واعدت محمّدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصّغرى، وهذا عام جدب، لا يصلح لنا، فثبّطهم عنّا، وأعلمهم أنّا في جمع كثير، فلقيهم فخوّفهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان، فنزل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآيات، وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وعكرمة.
2. الاستجابة: الإجابة، وأنشدوا: (فلم يستجبه عند ذاك مجيب)، أي: فلم يجبه.
3. في مراد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وخروجه وندب الناس إلى الخروج ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: ليرهب العدوّ باتّباعهم.
ب. الثاني: لموعد أبي سفيان.
ج. الثالث: لأنه بلغه عن القوم أنّهم قالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم.
4. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ أي: أحسنوا بطاعة الرسول، واتقوا مخالفته.
5. في المراد بالنّاس في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضمانا لتخويف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، قاله ابن عباس، وابن إسحاق.
ب. الثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعيّ، قاله مجاهد، وعكرمة، ومقاتل في آخرين.
ج. الثالث: أنهم المنافقون، لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتجهّز، نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم، لم يرجع منكم أحد، هذا قول السّدّي.
6. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ يعني أبا سفيان وأصحابه، ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ قال الزجّاج: زادهم ذلك التّخويف ثبوتا في دينهم، وإقامة على نصرة نبيّهم، وقالوا: ﴿حَسْبُنَا اللهُ﴾ أي: هو الذي يكفينا أمرهم.
7. ﴿الْوَكِيلُ﴾، فقال الفرّاء: الوكيل: الكافي، واختاره ابن القاسم، وقال ابن قتيبة: هو الكفيل، قال ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له، وقام به، وقال الخطّابيّ: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته: أنه الذي يستقلّ بالأمر الموكول إليه، وحكى ابن الأنباريّ أنّ قوما قالوا: الوكيل: الرّبّ.
8. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ الانقلاب: الرّجوع، وفي النّعمة، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها الأجر، قاله مجاهد.
ب. الثاني: العافية، قاله السّدّيّ.
ج. الثالث: الإيمان والنّصر، قاله الزجّاج.
9. في الفضل، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: ربح التّجارة، قاله مجاهد، والسّدّيّ، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان، قال الزّهريّ: لما استنفر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر، خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجرا يوافى كلّ عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، وأخلف أبو سفيان الموعد.
ب. الثاني: أنهم أصابوا سريّة بالصّفراء، فرزقوا منها، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أنه الثّواب، ذكره الماورديّ.
10. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ في طلب القوم، ﴿واللهُ ذُوفَضْلٍ﴾ أي: ذو منّ بدفع المشركين عن المؤمنين.
11. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ قال الزجّاج: معناه: ذلك التّخويف كان فعل الشيطان، سوّله للمخوّفين، وفي قوله تعالى: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: يخوّفكم بأوليائه، قاله الفرّاء، واستدلّ بقوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ أي: ببأس، وبقوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ أي: بيوم التّلاق، وقال الزجّاج: معناه: يخوّفكم من أوليائه، بدليل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وإبراهيم، وابن قتيبة، وأنشد ابن الأنباريّ في ذلك:
çوأيقنت التّفرّق يوم قالوا...تقسّم مال أربد بالسّهامé
أراد: أيقنت بالتّفرّق، قال فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه، قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوّفكم أولياءه، تقول العرب: قد أعطيت الأموال، يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني، فهذا أشبه من ادّعاء (باء) ما عليها دليل، ولا تدعو إليها ضرورة.
ب. الثاني: أن معناه: يخوّف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسّدّيّ، وذكره الزجّاج.
12. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ يعني: أولياء الشّيطان ﴿وَخَافُونِ﴾ في ترك أمري، وفي (إن) قولان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى: (إذ)، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها للشّرط، وهو قول الزجّاج في آخرين.
__________
(1) زاد المسير: 1/349.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مدح الله تعالى المؤمنين على غزوتين، تعرف إحداهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى، وكلاهما متصلة بغزوة أحد، أما غزوة حمراء الأسد فهي المراد من هذه الآية ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ على ما سنذكره ان شاء الله تعالى.
2. محل ﴿الَّذِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ إلى آخر هذه الآية.
ب. الثاني: أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين.
ج. الثالث: أن يكون نصباً على المدح.
3. في سبب نزول هذه الآية قولان:
أ. الأول: وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال، فخرج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قوم من أصحابه، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان كل ذلك لإثخان الجراحات فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة.
ب. الثاني: قال أبو بكر الأصم: نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا، وصلى عليهم، صلّى الله عليه وآله وسلّم ودفنهم بدمائهم، وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم للزبير: ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها، فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى، فقال للزبير: فدعها تنظر اليه، فقالت خيرا واستغفرت له، وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر، فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية، وأكثر الروايات على الوجه الأول.
4. استجاب: بمعنى أجاب، ومنه قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [البقرة: 186] وقيل: أجاب، فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة، لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل، والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية.
5. في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وجوه:
أ. الأول: ﴿أَحْسَنُوا﴾ دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا﴾ دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات، والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم.
ب. الثاني: أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت، واتقوا الله في التخلف عن الرسول، وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض.
ج. الثالث: أحسنوا: فيما أتوا به من طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك.
6. (من) في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾: قال صاحب الكشاف: هي للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم.
7. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر: قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا، فقال: يا نعيم إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم، فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك قال: والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي) ثم خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى، وهي ماء لبني كنانة، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، ولم يلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين، ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
8. في محل ﴿الَّذِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه جر، صفة للمؤمنين بتقدير: والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس.
ب. الثاني: أنه بدل من قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾
ج. الثالث: أنه رفع بالابتداء وخبره ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾
9. المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ﴾ من تقدم ذكرهم، وهم الذين استجابوا لله والرسول، وفي المراد بقوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ وجوه:
أ. الأول: أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: 72] ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55] وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم، إلا أنه أضيف إليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا هاهنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد.
ب. الثاني: وهو قول ابن عباس، ومحمد بن إسحاق: أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان، فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا.
ج. الثالث: قال السدي: هم المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان: القوم قد أتوكم في دياركم، فقتلوا الأكثرين منكم، فان ذهبتم إليهم لم يبق منكم أحد.
10. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره، ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أي جمعوا لكم الجموع، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا، ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ أي فكونوا خائفين منهم.
11. ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا، فقال تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾، وفي الضمير في قوله: ﴿فَزَادَهُمْ﴾ قولان:
أ. الأول: عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات.
ب. الثاني: أنه عائد إلى نفس قولهم، والتقدير: فزادهم ذلك القول إيمانا، وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: 6] وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: 42]
12. المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار، وعلى طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل ما يأمر به وينهى عنه ثقل ذلك أو خف، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة، وكانوا محتاجين إلى المداواة، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾
13. الذين يقولون إن الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات، وإنه يقبل الزيادة والنقصان، احتجوا بهذه الآية، فإنه تعالى نص على وقوع الزيادة، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا: الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره، فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا.
14. هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه سبحانه قلب القضية هاهنا، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها.
15. ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن الأنباري: ﴿حَسْبُنَا اللهُ﴾ أي كافينا الله، ومثله قول امرئ القيس: (وحسبك من غنى شبع وري)، أي يكفيك الشبع والري.
16. في قوله تعالى: ﴿الْوَكِيلُ﴾ أقوال:
أ. أحدها: أنه الكفيل، قال الشاعر:
çذكرت أبا أروى فبت كأنني...برد الأمور الماضيات وكيلé
أراد كأنني برد الأمور كفيل.
ب. الثاني: قال الفراء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن (نعم) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها، تقول: رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالق، وهذا أحسن من قول من يقول: خالقنا الله ونعم الرازق، فكذا هاهنا تقدير الآية: يكفينا الله ونعم الكافي.
ج. الثالث: الوكيل، فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول اليه، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه.
17. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج، والمعنى: وخرجوا فانقلبوا، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه، كقوله: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: 63] أي فضرب فانفلق.
18. ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ قال مجاهد والسدي: النعمة هاهنا العافية، والفضل التجارة، وقيل: النعمة منافع الدنيا، والفضل ثواب الآخرة.
19. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ في طاعة رسوله ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم إظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء، وروي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم.
20. اختلف أهل المغازي:
أ. فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد، والآية الثانية ببدر الصغرى.. وهو أولى لأن قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ كأنه يدل على قرب عهد بالقرح، فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه.
ب. ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى.. وهو أيضا محتمل، والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة، فكأنه قيل: إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم، ثم استجابوا لله وللرسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا، وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم.
21. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، قوله: ﴿الشَّيْطَانِ﴾ خبر ﴿ذَلِكُمْ﴾ بمعنى: إنما ذلكم المثبط هو الشيطان و﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ جملة مستأنفة بيان لتثبيطه، أو ﴿الشَّيْطَانِ﴾ صفة لاسم الإشارة و﴿يُخَوِّفُ﴾ الخبر، والمراد بالشيطان:
أ. قيل: الركب.
ب. وقيل: نعيم بن مسعود، وسمي شيطاناً لعتوه وتمرده في الكفر، كقوله: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]
ج. وقيل: هو الشيطان يخوف بالوسوسة.
22. سؤال وإشكال: الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين، فما معنى قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾؟ والجواب: المفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه:
أ. الأول: تقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: 7] أي فإذا خفت عليه فرعون، ومثال حذف الجار قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف: 2] معناه: لينذركم ببأس وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر: 15] أي لينذركم بيوم التلاق، وهذا قول الفراء، والزجاج، وأبي علي، قالوا: ويدل عليه قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه.
ب. الثاني: أن هذا على قول القائل: خوفت زيدا عمرا، وتقدير الآية: يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول، كما تقول: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، قال ابن الأنباري: وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا﴾ أي لينذركم بأساً وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول: خاف زيد القتال، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود يخوفكم أولياءه.
ج. الثالث: أن معنى الآية: يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، فأما أولياء الله، فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم، وهذا قول الحسن والسدي، فالقول الأول فيه محذوفان، والثاني فيه محذوف واحد، والثالث لا حذف فيه.
23. الأولياء هم المشركون والكفار، وقوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء، وفي القول الثالث عائدة إلى ﴿النَّاسِ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: 173] ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ فتقعدوا عن القتال وتجنبوا ﴿وَخَافُونِ﴾ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/432.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع رفع على الابتداء، وخبره ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾، ويجوز أن يكون في موضع خفض، بدل من المؤمنين، أو من ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا﴾، ﴿اسْتَجَابُوا﴾ بمعنى أجابوا والسين والتاء زائدتان، ومنه قوله: فلم يستجبه عند ذاك مجيب(2).
2. اختلف في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ فقال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبي: هو نعيم بن مسعود الأشجعي، واللفظ عام ومعناه خاص، كقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ [النساء] يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال السدي: هو أعرابي جعل له جعل على ذلك، وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد الناس ركب عبد القيس، مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم، وقيل: الناس هنا المنافقون، قال السدي: لما تجهز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه للمسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد، فقالوا: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبي سفيان فقالوا: ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ جموعا كثيرة ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ أي فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، فالناس على هذه الأقوال على بابه من الجمع.
3. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وإقامة على نصرتهم، وقوة وجراءة واستعدادا، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال، وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه على أقوال، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان الذي هو تاج واحد، وتصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شي إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته دون ذاته:
أ. فذهب جمع من العلماء إلى أنه يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإيمان بضع وسبعون بابا فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أخرجه الترمذي، وزاد مسلم (والحياء شعبة من الإيمان) وفي حديث علي: (إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة، وقوله لمظة) قال الأصمعي: اللمظة مثل النكتة ونحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ، إذا كان بجحفلته شي من بياض، والمحدثون يقولون لمظة بالفتح، وأما كلام العرب فبالضم، مثل شبهة ودهمة وخمرة، وفيه حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد وينقص، ألا تراه يقول: كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة حتى يبيض القلب كله، وكذلك النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق اسود القلب حتى يسود القلب كله.
ب. ومنهم من قال: إن الإيمان عرض، وهو لا يثبت زمانين، فهو للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللصلحاء متعاقب، فيزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن، وباعتبار دوام حضوره، وينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن، أشار إلى هذا أبو المعالي، وهذا المعنى موجود في حديث الشفاعة، حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم، وفيه: (فيقول المؤمنون يا ربنا إخواننا كانوا يصومون ويصلون ويحجون فقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه) وذكر الحديث، وقد قيل: إن المراد بالإيمان في هذا الحديث أعمال القلوب، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك، وسماها إيمانا لكونها في محل الإيمان أو عني بالإيمان، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب، دليل هذا التأويل قول الشافعين بعد إخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير: (لم نذر فيها خيرا) مع أنه تعالى يخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله، وهم مؤمنون قطعا، ولو لم يكونوا مؤمنين لما أخرجهم، ثم إن عدم الوجود الأول الذي يركب عليه المثل لم تكن زيادة ولا نقصان، وقدر ذلك في الحركة، فإن الله سبحانه إذا خلق علما فردا وخلق معه مثله أو أمثاله بمعلومات فقد زاد علمه، فإن أعدم الله الأمثال فقد نقص، أي زالت الزيادة، وكذلك إذا خلق حركة وخلق معها مثلها أو أمثالها.
ج. وذهب قوم من العلماء إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هو من طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان، وبهذا المعنى ـ على أحد الأقوال ـ فضل الأنبياء على الخلق، فإنهم علموه من وجوه كثيرة، أكثر من الوجوه التي علمه الخلق بها، وهذا القول خارج عن مقتضى الآية، إذ لا يتصور أن تكون الزيادة فيها من جهة الأدلة.
د. وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمانإنما هي بنزول الفرائض والأخبار في مدة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر، وهذا إنما هو زيادة إيمان، فالقول فيه إن الإيمان يزيد قول مجازي، ولا يتصور فيه النقص على هذا الحد، وإنما يتصور بالإضافة إلى من علم، فاعلم.
4. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي كافينا الله، وحسب مأخوذ من الإحساب، وهو الكفاية، قال الشاعر:
çفتملأ بيتنا إقطا وسمنا...وحسبك من غنى شبع وريé
روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ ـ إلى قوله: ـ ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ قالها إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال لهم الناس: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾
5. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ قال علماؤنا: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضاهم عنه، ورضي عنهم.
6. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه، أي بأوليائه، أو من أوليائه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل إلى الاسم فنصب، كما قال تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف] أي لينذركم ببأس شديد، أي يخوف المؤمن بالكافر، وقال الحسن والسدي: المعنى يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم، وقد قيل: إن المراد هذا الذي يخوفكم بجمع الكفار شيطان من شياطين الإنس، إما نعيم بن مسعود أو غيره، على الخلاف في ذلك كما تقدم.
7. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ أي لا تخافوا الكافرين المذكورين في قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، أو يرجع إلى الأولياء إن قلت: إن المعنى يخوف بأوليائه أي يخوفكم أولياءه.
8. ﴿وَخَافُونِ﴾ أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي، والخوف في كلام العرب الذعر، وخاوفني فلان فخفته، أي كنت أشد خوفا منه، والخوفاء المفازة لا ماء بها، ويقال: ناقة خوفاء وهي الجرباء، والخافة كالخريطة من الأدم يشتار فيها العسل.
9. قال سهل بن عبد الله: اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا: ما الخوف؟ فقال: لا تأمن حتى تبلغ المأمن، قال سهل: وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير يغشى عليه، فقيل لعلي ابن أبي طالب ذلك، فقال: إذا أصابه ذلك فأعلموني، فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال: أشهد أن هذا أخوف أهل زمانكم، فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولهذا قيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه، ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾، ومدح المؤمنين بالخوف فقال: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل]
10. لأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا، قال الأستاذ أبو علي الدقاق: دخلت على أبي بكر بن فورك عائدا، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله يعافيك ويشفيك، فقال لي: أترى أني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت، وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: (لوددت أني كنت شجرة تعضد)(3)
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/277.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول.
(3) لا نرى صحة هذه العبارة لا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا عن أبي ذر
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ صفة للمؤمنين، أو بدل منهم، أو: من الذين لم يلحقوا بهم، أو: هو مبتدأ، خبره: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ بجملته، أو: منصوب على المدح، وقد تقدم تفسير القرح.
2. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ المراد بالناس هنا: نعيم بن مسعود كما سيأتي بيانه، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه: لكونه من جنسهم؛ وقيل: المراد بالناس: ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان؛ وقيل: هم المنافقون.
3. المراد بقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أبو سفيان وأصحابه، والضمير في قوله: ﴿فَزَادَهُمْ﴾ راجع إلى القول المدلول عليه، بقال، أو إلى المقول، وهو ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ أو إلى القائل؛ والمعنى: أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله، وازدادوا طمأنينة ويقينا، وفيه دليل: على أن الإيمان يزيد وينقص.
4. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ حسب: مصدر حسبه، أي: كفاه، وهو بمعنى الفاعل، أي: محسب: بمعنى كافي، قال في الكشاف: والدليل على أنه بمعنى المحسب: أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة، لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية، انتهى، والوكيل: هو من توكل إليه الأمور، أي: نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي، أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعم الوكيل الله سبحانه.
5. ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ هو معطوف على محذوف، أي: فخرجوا إليهم فانقلبوا بنعمة، هو متعلق بمحذوف وقع حالا، والتنوين للتعظيم، أي: رجعوا متلبسين ﴿بِنِعْمَةِ﴾ عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية ﴿وَفَضْلٍ﴾ أي: أجر تفضل الله به عليهم؛ وقيل: ربح في التجارة؛ وقيل: النعمة خاصة بمنافع الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدّم تفسيرهما قريبا بما يناسب ذلك المقام، لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة، والكلام هنا مع الأحياء.
6. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ في محل نصب على الحال، أي: سالمين عن سوء، لم يصبهم قتل، ولا جرح، ولا ما يخافونه ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ في ما يأتون ويذرون، ومن ذلك: خروجهم لهذه الغزوة ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، ومن تفضله عليهم: تثبيتهم، وخروجهم للقاء عدوهم، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير، ودافعة لكل شرّ.
7. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ﴾ أي: المثبط لكم أيها المؤمنون ﴿الشَّيْطَانِ﴾ هو خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة، والخبر قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾؛ فعلى الأول يكون قوله: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ جملة مستأنفة، أو حالية، والظاهر أن المراد هنا: الشيطان نفسه، باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط؛ وقيل: المراد به: نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة؛ وقيل: أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم؛ والمعنى: أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه، وهم الكافرون؛ وقيل: إن قوله: ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ منصوب بنزع الخافض، أي: يخوفكم بأوليائه أو من أوليائه، قاله الفراء، والزجاج، وأبو علي الفارسي، ورده ابن الأنباري: بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر، وعلى قول الفراء ومن معه: يكون مفعول يخوف محذوفا، أي: يخوفكم، وعلى الأول: يكون المفعول الأوّل محذوفا، والثاني مذكورا، ويجوز أن يكون المراد: أن الشيطان يخوف أولياءه، وهم القاعدون من المنافقين، فلا حذف.
8. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ أي: أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان، أو: فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم، فيجبنوا عن اللقاء، ويفشلوا عن الخروج، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه فقال: ﴿وَخَافُونِ﴾ فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهيي، لكون الخير والشرّ بيدي، وقيده بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأن الإيمان يقتضي ذلك.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/459.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلهِ وَالرَّسُولِ مِنم بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ الجرح في أُحد، أَمْدَحُ الذين، أو هم الذين، أو بالذين لم يلحقوا بهم الذين استجابوا، أو المؤمنين الذين، أو الذين استجابوا لله،،، إلخ لِمُحسنهم المتَّقين أجر عظيم، كما قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ﴾ بالأعمال الصالحات، ﴿واتَّقَواْ﴾ ما نُهُوا عنه، ﴿اَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ومن لم يكن منهم كذلك فلا أجر له، وإن فرضنا أنَّ هؤلاء كلَّهم محسنون متَّقون فـ (مِنْ) للبيان، وَهَذَا راجح أو متعيَّن، لقوله تعالى : ﴿اسْتَجَابُوا﴾، فذكرُ الإحسان والاتِّقاء مدح وتعليل لا قيد؛ ولذلك عدل عن مقتضى الظاهر، وهو أن يقول: لهم أجر عظيم، وهم مِن أعظم من يُمدح، خرجوا للقتال مع ما فيهم من جروح جديدة.
2. تقدَّم أنَّه لَمَّا ذهب أبو سفيان يوم أحد إلى مكَّة خرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وذلك من الغد للقتال صبيحة يوم الأحَد، لستّ عشرة أو ثمان مضت من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، ونادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أن لا يخرج معنا أحد إِلَّا من شهد معنا يومنا بالأمس، فخرج ستُّمائة وثلاثون رجلا مؤمنا خالصا، إلى أن وصلوا حمراء الأسد، موضع على ثمانية أميال من المدينة على يسار الذاهب إلى ذي الحليفة، وبه سميِّت غزوة حمراء الأسد، وأقاموا بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثمَّ رجعوا إلى المدينة يوم الجمعة، وقد غابوا خمسا، وأَذِنَ صلّى الله عليه وآله وسلّم لجابر بن عبد الله بن حزام أن يرجع إلى المدينة ليقيم على سبع أخوات له أمره أبوه بهنَّ، وقيل: خرج في جماعة لا في ستِّمائة وثلاثين، وسبب هَذَا الخروج ما بلغه أنَّ أبا سفيان لَمَّا بلغ الروحاء ذاهبا إلى مكَّة أراد الرجوع إلى المدينة ليستأصل من بها، ولم يرجع لرعب في قلبه، واشتدَّ هربهم، فلم يدركهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأمَّا غزوة بدر الصغرى فمن قابل، إذ واعد أبو سفيان بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأشار إليها في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾
3. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ نُعَيم بن مسعود الأشجعي، عامٌّ أريد به خاصٌّ، إطلاقا للكلِّ وإرادةٌ للبعض، كقوله تعالى: ﴿اَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 54]، أي: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو للحقيقة، كما تقول: فلان يشتري النخل أو يركب الخيل، ولو لم يشتر أو يركب إِلَّا واحدة، أو نُعيم ومن وافقه على قوله من أهل المدينة من المنافقين وضعفاء المؤمنين، وقيل: الناس: رَكْبٌ من عبد قيس، وأسلم نُعيم يوم الخندق، ﴿إِنَّ النَّاسَ﴾ أبو سفيان ومن معه ﴿قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ جموعا ليقاتلوكم، ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ أي: لا تخرجوا إليهم، فعبَّر عن عدم الخروج بملزومه وسببه، وإلَّا فالخشية ضروريَّة لا كسبيَّة، فلا يؤمر بها لتُكْسَب.
4. لَمَّا كان عام قابل خرج أبو سفيان ومن معه في ألفين من قريش حتَّى نزل بـ (مر الظهران) لموعد بدر الصغرى، فألقى الله في قلبه الرعب، وبدا له أن يرجع، فمرَّ به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة، فقال: هَذَا موعدنا لمحمَّد، إِلَّا أنَّ العام جدب لا شجر يرعى ولا لبن يشرب، فاذهبوا إليه فثبِّطوه، وقد بدا لي أن أرجع، فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبَّطوا المسلمين، أو لقي نعيم بن مسعود معتمرا وقال له ذلك، أو جعل له عشرة أبعرة إن ثـبَّطهم، وضمنها له سهيل بن عمرو، ويكنَّى: أبا يزيد، وقال لهم أبو سفيان: (إن خرج محمَّد ولم أخرج زاده جرأة علينا فاجهدوا في تثبيطه)، فجاؤوا المدينة فثبَّطوا، أو جاءها فوجدهم يتجهَّزون للخروج، فقال لهم: غلبكم أبو سفيان في العام الماضي، ولم يفلت منكم إِلَّا شريد، وإن ذهبتم إليهم الآن لم يفلت منكم أحد، وما هَذَا بالرأي، فأثَّر ذلك في قلوبهم، فعرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك فقال: (والله لأخرجنَّ إليهم ولو وحدي)، فخرج في سبعين راكبا والباقون يمشون، أو يتعاقبون، والجملة ألف وخمسمائة.
5. ﴿فَزَادَهُمُ إِيمَانًا﴾ زادهم الله أو القولُ، أي: قول الركب وقول نُعيم، أو المقول أو القائل الجنس، أو القائل نُعيم، ونصوص القرآن أنَّ الإيمان يزداد بنزول شَيء آخر، وحصول معجزة أخرى، وبإعمال الفكر في الحجَّة، وزيادة الحجَّة والعمل، وقابل الزيادة يقبل النقص، هَذَا مذهبنا(2)، والنقص يكون بالكسل، وطول العهد، وقسوة القلب، ومن طبع البشر النقص بطوله، رأى أبو بكر قوَّة خشوع قوم أسلموا حادثا فقال: (كذلك كنَّا ثمَّ قست القلوب)، قال ابن عمر: (قلنا يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص؟) فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (نعم يزيد حتَّى يدخل صاحبه الجنَّة، وينقص حتَّى يدخل صاحبه النار)
6. ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ﴾ كافينا، كقول إبراهيم لجبريل حين ألقي في النار: (حسبي علم الله بحالي)، وقد قال [له]: (ألَك إليَّ حاجة؟)، ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ هو، وَهُوَ من يوكل إليه الأمر، أي: يترك، قال أبو هريرة: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل))، قال أبو نعيم عن شدَّاد بن أوس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (حسبي الله ونعم الوكيل أمان من كلِّ خائف)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة أنَّه إذا اشتدَّ همُّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مسح بيده عَلَى رأسه ولحيته، ثمَّ تنفَّس الصعداء وقال: (حسبي الله ونعم الوكيل)، ويروى أنَّه آخر ما قال إبراهيم حين ألقي في النار.
7. ﴿فَانقَلَبُواْ﴾ خرجوا لبدر فانقلبوا، كقوله تعالى: ﴿فانفَلَقَ﴾، أي: فضرب فانفلق، ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ﴾ ربح تجارة، ﴿وَفَضْلٍ﴾ ثواب الآخِرَة إذ خرجوا للجهاد، أو العكس، أو النعمة: السلامة والثبات عَلَى الإيمان، والزيادة فيه، والفضل: الربح، وافوا بدرا ولم يوافها أبو سفيان، وَهُوَ سوق لبني كنانة يجتمعون فيه كلَّ عام ثمانية أيَّام، ووافقوه ومعهم تجارة فباعوا واشتروا أدما وزبيبا، وأصابوا الدرهم درهمين، فرجعوا إِلَى المدينة سالمين.
8. ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ جرح، أو كيد عدوٍّ، أو قتل، وعيَّر أهلُ مكَّة جيشَ أبي سفيان: خرجتم لتشربوا السويق! فأنهضه ذلك إِلَى غزوة الأحزاب ولم تفدهم، ورجعوا خائبين، فكانت آخر غزوهم.
9. ﴿وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ﴾ موجبه بخروجهم إِلَى بدر الصغرى، ومطاوعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ورضوانُه: ولايتُه أو ثوابُه، ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ للمطيعين، ومنه ما فعل بكم من خزي عدوِّكم ونصركم وحفظكم، وتوفيقكم، وتصليبكم في الدين وغير ذلك.
10. ﴿إِنَّمَا ذَالِكُم﴾ القائل أو الآمر له بالقول من الناس، أو القائل جِنِّيٌّ: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، ﴿الشَّيْطَانُ﴾ الجنِّيُّ إبليس، أو بعض أولاده، أو الإنسيُّ أبو سفيان، أو نعيم بن مسعود، أو الجنس الشامل له الصادق بركب عبد القيس، أو جنس الخبيث المضرِّ الشامل لهؤلاء كلِّهم من الجنِّ والإنس، إِلَّا أنَّ تفسير الشيطان بنُعيم لا يناسب إسلامه بعدُ، ولو بتأويل تشبيه فعله بفعل الشيطان، والكاف خطاب للمؤمنين.
11. ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ﴾ منافقي المدينة، والمفعول الثاني محذوف، أي: القتال، أو غلبة المشركين، أو حُذف الأوَّل، أي: يخوِّف نُعيمٌ، أو الركبُ، أو إبليسُ المسلمين أولياءَه الذين هم أبو سفيان وأصحابه.
12. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ لا تخافوا أيُّها المسلمون بالخروج مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس الذين قيل: (إنَّهم قد جمعوا لكم)، ولا تخافوا أولياء الشيطان: أبا سفيان وأصحابه في القعود عن القتال، ﴿وَخَافُونِ﴾ في مخالفة أمري وترك الذهاب معه صلّى الله عليه وآله وسلّم إِلَى القتال.
13. ﴿إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ حقًّا، فإنَّ الإيمان الحقيق يحمل عَلَى إيثار ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وقيل: الخطاب للخارجين والمتخلِّفين، والقصد التعريض بالمتخلِّفين، وقيل: الخطاب للمتخلِّفين؛ لأَنَّ الخارجين لم يخافوا إِلَّا الله، وقالوا: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، ووَضَعَ الظاهرَ موضع المضمر نعيا عليهم بأنَّهم أولياء الشيطان، وإذا كان للمؤمنين فقوله: ﴿إِن كُنتُم مُّومِنينَ﴾ زيادة تهييج إِلَى الإيمان.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/61.
(2) يقصد الإباضية
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ أي دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهابا له ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ بأحد ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ بطاعته ﴿وَاتَّقُوا﴾ مخالفته ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
2. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أي الركب المستقبل لهم ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾ أي أبا سفيان وأصحابه ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أي الجموع ليستأصلوكم ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ ولا تأتوهم ﴿فَزَادَهُمْ﴾ أي ذلك القول ﴿إِيمَانًا﴾ أي تصديقا بالله ويقينا، والمعنى: أنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل ما يأمر به وينهى عنه، وفي الآية دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا، فإن ازدياد اليقين بتناصر الحجج، وكثرة التأمل، مما لا ريب فيه ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ﴾ أي كافينا أمرهم من غير عدة لنا ولا عدد ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي الموكول إليه والمفوض إليه الأمر.
3. ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ أي رجعوا من حمراء الأسد ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ يعني: العافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي لم يصبهم قتل ولا جراح ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ أي في طاعة رسوله بخروجهم وجراءتهم ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ حيث تفضل عليهم بالعافية وما ذكر معها، وبالحفظ عن كل ما يسوؤهم، وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
4. قال السيوطيّ في (الإكليل): في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة.
5. حمل الآية على غزوة حمراء الأسد، هو ما قاله الحسن وقتادة وعكرمة وغير واحد، وروي أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى.. قال ابن كثير: والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد.
6. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أي قول الشيطان ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي يخوفكم بقوله أولياءه الكفار، وحينئذ فأولياءه ثاني مفعولي يخوف، والأول محذوف، أي يخوفكم أولياءه، كما قرئ كذلك، وقيل: لا حذف فيه، والمعنى يخوف من يتبعه، فأما من توكل على الله فلا يخافه.
7. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ أي أولياءه ﴿وَخَافُونِ﴾ في مخالفة أمري ورسولي ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/461.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وهم إخوان أولئك الشهداء الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فدعاهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اتباع أبي سفيان في حمراء الأسد فاستجابوا لله وله من بعدما أصابهم القرح في أحد حتى أنهك قواهم، وتقدم بيان ذلك مفصلا في أول السياق، وقيل هو على عمومه، وقيل إن المراد به الشهداء، والجملة على هذين القولين ابتدائية ومدحية.
2. قال محمد عبده: ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم وفضل عليهم في أنفسهم، وهو نعمة الله عليهم وفضله الخاص بهم في دار الكرامة، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار، ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو وليس عندي في ذلك عنه غير هذا.
3. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ جملة ابتدائية على الوجه الأول وخبرية على الوجهين الآخرين مما تقدم.
4. سؤال وإشكال: إن أولئك الذين استجابوا لله ولرسوله في تلك الحالة هم خيار المؤمنين وكلهم من المحسنين المتقين فما معنى قوله (منهم)؟ والجواب: أجابوا عن ذلك بأن (من) هنا للتبيين لا للتبعيض، وأن الوصف بالإحسان والتقوى للمدح والتعليل لا للتقييد، واختار محمد عبده قول من قال إن (من) للتبعيض وقال في محلها لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج معه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى (حمراء الأسد) أي وهم من الذين لا يضيع الله أجرهم ولكنهم لا يستحقون الأجر العظيم الذي استحقه الذين خرجوا معه وهم مثقلون بالجراح ومرهقون من الإعياء إلى استئناف قتال أضعافهم من الأقوياء.. فالضمير في قوله (منهم) راجع على هذا القول للمؤمنين لا للذين استجابوا، وهو لا يظهر إلا إذا جعلنا قوله ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا﴾ منصوبا على المدح والجملة المدحية معترضة.
5. قال محمد عبده: وثم وجه آخر وهو أنه وجد في نفوس بعض المؤمنين بعد أحد شيء من الضعف فهذه الآيات كلها تأديب لهم، ولما دعاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم للخروج لبوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم عند الخروج بالفعل موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا فأراد من ﴿الذين أحسنوا واتقوا﴾: الذين خرجوا بالفعل، وهم بعض الذين استجابوا، والإحسان أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة والتقوى أن يتقي الإساءة والتقصير فيه، أقول: وهذا الوجه أظهر الوجوه وأحسنها، ومما أشار إليه محمد عبده ما رواه ابن إسحاق أنه لما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب العدو و(أن لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس) كلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني لا يبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. ليعتبر المسلمون بهذه الآيات التي وردت في أولئك الأبرار الأخيار الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وكيف جاء وعدهم بالأجر مقرونا بوصف الإحسان والتقوى، وأنى يعتبر المغرورون المسيئون، الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين هم للزكاة مانعون، والذين يبخلون بأنفسهم فلا يبذلونها في سبيل الحق ولا يتعبون، والذي يقولون الكذب وهم يعلمون، والذين يتولون المبطلين وينصرون، ويشاقون أهل الحق ويخذلون، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون.
7. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ الذين قال لهم الناس هم الذين استجابوا لله وللرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد للقاء المشركين إذ عاد بهم أبو سفيان لاستئصالهم وكانوا سبعين رجلا كما تقدم، ولكن روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذلك بيننا وبينك إن شاء الله) (كما تقدم)
8. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي فزادهم قول الناس لهم إيمانا بالله وثقة به من حيث خشوه ولم يخشوا الناس الذين خوّفوا منهم بأنهم جمعوا لهم الجموع واعتمدوا على نصره ومعونته وإن قل عددهم وضعف جلدهم، فإنه هو العزيز القوي، وذلك من شأن المؤمنين كما جاء في الآية الثانية من الآيتين التاليتين، وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح على محاربة الجيش الكبير، فالزيادة كانت في الإذعان النفسي، والشعور القلبي، وتبعتها الزيادة في العمل، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده، والشعور بعزته وسلطانه، فلولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها.
9. قالوا: إن التصديق لا يعتد به ويكون إيمانا صحيحا إلا إذا وصل إلى درجة اليقين، فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنا أو شكا، وليس الظن إيمانا يعتد به والشك كفر صريح، ونقول: إن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ولا يعد إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطرف المخالف أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان، أحدهما أن هذا الأمر ثابت وثانيهما أنه يحتمل احتمالا ضعيفا أن لا يكون ثابتا، فإن جزم الذهن بأنه ثابت فلم يتصور الطرف المخالف، وهو عدم الثبوت كان جزمه هذا إيمانا، وإن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلف من المقدمات اليقينية في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم، ولا ملاحظا فيه استحالة الطرف المخالف، وأكثر المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بالجبت والطاغوت في هذه المرتبة من الإيمان، ويصح أن يطلق على أهلها لفظ ﴿الْمُوقِنِينَ﴾
10. لو كان الإيمان لا يصح إلا ببرهان منطقي على إثبات قضاياه واستحالة ضدها لما تصور أن يرتد أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه، لأن اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرجوع عنه، وإن أمكن مكابرته ومجاحدته باللسان، ولذلك قال محمد عبده: (الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس) يعني بذلك اليقين المنطقي الذي تنتهي مقدماته إلى البديهيات، ولكن الردة ثابتة نقلا ووقوعا، قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ [النحل: 106] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 138]
11. هذا وإن لليقين مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا وحصرها بعضهم في ثلاث: علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين، ويروى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) وهذا القول مبني على أن اليقين يقبل الزيادة في نفسه ومن أيقن بأن فلانا طبيب ماهر لأنه رآه نجح في معالجة بعض المرضى يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين ويزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى، ولا سيما في معالجة الأمراض الباطنية التي يعسر تشخيصها.
12. ثم إن فائدة الإيمان إنما تكون بإذعان النفس الذي يحرك فيها الخوف والرجاء وغيرهما من وجدانات الدين التي يترتب عليها ترك المنكر المنهي عنه وفعل المعروف المأمور به، ولولا ذلك لم يكن للدين فائدة في إصلاح حال البشر، وهل يقول عاقل إن الإذعان والخوف والرجاء من الأمور التي لا تقبل الزيادة والنقصان؟ أما أنه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال، ولكنهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما كما هو ثابت بالمشاهدة، فثبت أنهم متفاوتون في منشأها من النفس وهو الإذعان، الذي يقوى ويضعف بالتبع للإيمان، وهذا عين قبول الزيادة والنقصان.
13. من هنا تفهم معنى إدخال السلف الصالح الأعمال في مفهوم الإيمان، فإن كل اعتقاد له أثر في النفس يتبعه عمل من الأعمال، فهي سلسلة مؤلفة من ثلاث حلقات يحرك بعضها بعضا، والغزالي يعبر عنها بالعلم والحال والعمل، فيقول: إن العلم بأن كذا يرضي الله تعالى أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النفس حالا يترتب عليها فعل ما يرضيه ويقتضي مثوبته؛ وترك ما يسخطه ويقتضي عقوبته؛ ويقول إن ترتب بعضها على بعض واجب، وعبارته: إن العلم يوجب الحال والحال يوجب العمل، فارجع إليه في كتاب التوبة وغيره من كتب المجلد الرابع من الإحياء.
14. أما زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته وهي المسائل التي يؤمن بها المؤمن التي يعبر عنها بشعب الإيمان فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل، فإن هذه المسائل لا يمكن أن تتلقى إلا بالتدريج فكلما تلقى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا، وليس هذا خاصا بالكافر الذي يدخل في الإسلام فإن الناشئ بين المؤمنين مثله في ذلك، وليست المسائل التي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النصوص التي جاء بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن القرآن هدانا إلى التفكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض لنزداد إيمانا ونعتبر ونستفيد، وذلك يفتح لنا أبوابا من العلم بالله وسننه لا نهاية لها، فكل ما نهتدي إليه في بحثنا ونظرنا من أسرار الكائنات، وسنن الله تعالى في المخلوقات، فإنا نزداد به علما بالله وإيمانا بقدرته وحكمته البالغة، وقد قال سبحانه لأقوى الناس إيمان وأوسعهم علما به وبسننه ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، وكذلك آيات القرآن تزيد من يتلقاها إيمانا كلما تلقى شيئا منها وقد يتدبرهاا لمؤمن بعد العلم بها بأيام أو سنين، فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124 ـ 125] وقال علي رضي الله عنه حين سئل هل خصهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بشيء: (لا إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن)، وليس هذا النوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية التي نحن بصدد تفسيرها وإنما المراد به النوع الأول وهو الزيادة في أصل اليقين والإذعان، المؤثر في الوجدان فهي من قبيل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 21]
15. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي وقالوا معبرين عن إيمانهم حسبنا الله أي هو كافينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا لنا، وحسبنا بمعنى محسبنا، فهو من أحسبه إذا كفاه كما قالوا، ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ الذي توكل إليه الأمور، هو فإنه لا يعجزه أن ينصرنا عليهم، على قلتنا وكثرتهم، أو يلقي الرعب في قلوبهم، ويكفينا شر بغيهم وكيدهم وقد كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى ألقى الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرتهم فولوا مدبرين، وأعز الله بذلك رسوله والمؤمنين.
16. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي فعادوا بعد خروجهم إلى لقاء الذين جمعوا لهم ومناجزتهم القتال متمتعين أو مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة كما روي عن ابن عباس، أو العافية كما روي عن مجاهد والسدي، أو ما هو أعم من ذلك، وأما الفضل فقد فسروه بالربح في التجارة، روى البيهقي عن ابن عباس أن بعيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل، والظاهر أن هذا الموسم هو موسم بدر الصغرى، وقد تقدم آنفا خبر الخروج إليها وأنهم اتجروا فيها وربحوا، وليس في ألفاظ الآية ما يدل على أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى أو بدر الموعد إلا هذه الكلمة بهذا التفسير، لأن غزوة حمراء الأسد المتصلة بغزوة أحد قد قيل لهم فيها: إن الناس قد جمعوا لكم فزادهم ذلك إيمانا فخرجوا إلى لقائهم، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل معنوي لم يمسسهم سوء ولا أذى، وفسر السوء بالقتل والجراح.
17. ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ أي أعظم ما يرضيه وتستحق به كرامته وراجع إلى تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ إن كنت نسيته فما هو ببعيد ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ فإن كان أكرمهم بذلك في الدنيا، فقد يعطيهم ما هو أعظم وأكرم في العقبى.
18. من مباحث البلاغة في الآية الإيجاز في قوله: ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ فإنه يدل على أنهم خرجوا للقاء العدو وأنهم لم يلقوا كيدا فلم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم، ومثل هذا الحذف الذي يدل عليه المذكور بمجرد ذكره كثير في القرآن، كقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: 63] أي فضربه فانفلق، وقوله تعالى بعد ذكر مناجاة موسى عليه السلام له في أرض مدين وإرساله تعالى إياه إلى فرعون وجعل أخيه وزيرا له وأمرهما بأن يبلغا فرعون رسالته ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ [طه: 50]؟ أي قال فرعون لما بلغاه الرسالة: إذا كان الأمر كما تقولان فمن ربكما يا موسى، فقد فهم من هذا الجواب أن موسى وهارون عليهما السلام صدعا بأمر ربهما وهبا إلى فرعون فبلغاه ما أمرهما الله تعالى بتبليغه إياه.
19. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ قيل إن المراد بالشيطان هنا شيطان الإنس الذي غش المسلمين وخوفهم ليخذلهم، واختلف في تعيينه فقيل هو أبو سفيان فإنه أراد بعد أحد أن يكر ليستأصل المسلمين وأرسل إليهم يخوفهم في بدر الثانية أو الصغرى، وقيل هو نعيم بن مسعود الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين عن الخروج إلى بدر الموعد، وقد أسلم نعيم يوم الأحزاب، وقيل هو وفد عبد القيس على الخلاف الذي تقدم ذكره في سبب النزول، وقيل بل المراد به شيطان الجن الذي يوسوس في صدور الناس على حد ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268] والمعنى على الأول: ليس ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو من عز إليه بأن يقول ذلك أو من وسوس به إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وهم مشركو مكة ويوهمكم أنهم جمع كثير أولو بأس شديد وأن مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم وتجبنوا عن مدافعتهم، والمعنى على الثاني: أن الشيطان يخوف أولياءه ولا سلطان له على أولياء الله المؤمنين، فهو عاجز عن تخويفهم، وفي التفسير الكبير للرازي إنه يخوف أولياءه المنافقين فيسول لهم القعود عن قتال المشركين ويزين لهم خذلان المسلمين، وإذا صح هذا من جهة المعنى فإن الإشارة فيه ليست جلية كجلائها في الوجه الأول ولا الثاني أيضا ولا يظهر عليه قوله: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأن المنافقين لم يكونوا بحيث يخاف المؤمنون منهم فينهون عن ذلك، أي لا تحلفوا بقوله: ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ فتخافوهم بل خافوني أنا لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخين في الإيمان قائمين بحقوقه.
20. قال محمد عبده: في الآية التنبيه إلى الموازنة بين أولياء الشيطان من مشركي مكة وغيرهم وبين ولي المؤمنين القادر على كل شيء، كأنه يقول: عليكم أن توازنوا بين قوتي وقوتهم ونصرتي ونصرتهم، فأنا الذي وعدتكم النصر وأنا وليكم ونصيركم ما أطعتموني وأطعتم رسولي.
21. سؤال وإشكال: في هذا المقام شبهة تعرض لبعضهم: يقولون إن تكليف عدم الخوف من تكليف ما لا يستطاع ولا يدخل في الوسع، فإن الإنسان إذا علم أن العدد الكثير ذا العدد العظيمة يريد أن يواثبه وينزل به العذاب بأن رآه أو سمع استعداده من الثقات فإنه لا يستطيع أن لا يخافه، فكان الظاهر أن يؤمروا بإكراه النفس على المقاومة والمدافعة مع الخوف لا أن ينهوا عن الخوف، والجواب: أن هذه الشبهة حجة الجبناء فهي لا تطوف إلا في خيال الجبان، فإن أعمال النفس من الخوف والحزن والقرح يتراءى للإنسان أنها اضطرارية وأن آثارها كائنة لا محالة مهما حدث سببها، والحقيقة أن ذلك اختياري من وجهين:
أ. أحدهما: أن هذه الأمور تأتي بالعادة والمزاولة ولذلك تختلف باختلاف الشعوب والأجيال فمن اعتاد الإحجام عند الحاجة إلى الدفاع يصير جبانا والعادات خاضعة للاختيار بالتربية والتمرين ففي استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ويعود نفسه الاستهانة بها.
ب. وثانيهما: أن هذه الأمور إذا حدثت بأسبابها، فالإنسان مختار في الإسلاس لها والاسترسال معها حتى يتمكن أثرها في النفس وتتجسم صورتها في الخيال ومختار في ضد ذلك وهو مغالبتها والتعمل في صرفها وشغل النفس بما يضادها ويذهب بأثرها أو يتبدل به أثرا آخر مناقضا له، فهذا الأمر الاختياري هو مناط التكليف، كأنه يقوله إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله على كل شيء وكونه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم وإظهار دينكم على الدين كله وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، وتذكروا قوله: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 239] ثم خذوا أهبتكم وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم.
22. مراده أن الوجه الأول إنما يتعلق به الاختيار في التربية التدريجية والثاني يتعلق به الاختيار فورا في كل وقت، وقد قلت في هذا المعنى شعرا في الحزن من مرثية نظمتها في أيام التحصيل وهو:
çأطبيعة ذا الحزن ليس يشذ عن...ناموسه فرد من الأفراد
أم ذاك مما أوجبته شرائع ال...أديان من هديٍ لنا ورشاد
أم ذلك العقل السليم قضى على...كل الشعوب بهذه الأصفاد
كلا، فليس الأمر ضربة لازب...لكنه ضرب من المعتاد
فاخلع سرابيل العوائد إن تكن...ليست بنهج العقل ذات سداد
وتقلد الحزم الشريف كصارم...كيما تنافح جيشها بجهادé
23. قال محمد عبده: إن قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يفيد وجوب توثيق الإيمان بالله في القلب قبل كل شيء لأن تلك الخواطر والهواجس التي تحدث الخوف من أولياء الشيطان لا يمحوها من لوح القلب إلا الإيمان الصحيح الثابت.
24. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ إشارة إلى إيمان من يرجح الخوف من أولياء الشيطان على الخوف من الله تعالى مشكوك فيه، أقول: فليزن كل مؤمن نفسه بهذه الآية ويقارن بين عمله وعمل الصحابة الكرام وبين إيمانهم لكي لا يكون من المغرورين.
25. من تدبر هذه الآية حق التدبير علم أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا فالشجاعة وصف ثابت للمؤمنين إذا شاركهم فيه غيرهم فإنه لا يدرك فيه مداهم ولا يبلغ شأوهم، ومن بحث عن علل الأشياء يرى أن علة الجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وكل من الخوف والحرص مما لا يتسع له قلب المؤمن كقلب غيره، قال تعالى في سياق الكلام على اليهود: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ [البقرة: 96]
__________
(1) تفسير المنار: 4/237.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم وصفهم الله تعالى بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته، ولبّوا نداءه، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه، واتقوا عاقبة تقصيرهم، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال، وفي قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون.
2. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة: إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم، روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى.
3. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث في قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا في حاجة إلى قسط من الراحة، وشيء من التداوي، لكن وثوقهم، بنصر الله وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.
4. والخلاصة ـ إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد الله ووعيده، وتبع ذلك زيادة في العمل، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، ونحو الآية قوله تعالى ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾
5. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم بالله: الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، أو يلقى في قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب في قلب أبى سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم، فولّوا مدبرين، وكان في ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين، أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، وأخرج ابن أبى الدنيا عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء وقال: (حسبى الله ونعم الوكيل)، وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (حسبى الله ونعم الوكيل أمان كل خائف)
6. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم، وأطاعوا رسولهم، وربحوا في تجارتهم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى، روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فربح ما لا فقسمه بين أصحابه، فذلك الفضل، وأخرج ابن جرير عن السدى قال: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.
7. ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ أي واتبعوا في كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر، وعنه نهى.
8. ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجرأة على العدو، وحفظهم من كل ما يسوؤهم، وفي هذا إلقاء للحسرة في قلوب المتخلفين منهم، وإظهار لخطل رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.
9. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتحبنوا عن مدافعتهم.
10. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي فلا تخافوا أولئك الأولياء، ولا تحفلوا بقولهم ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ فتخافوهم، بل خافوني في مخالفة أمرى، لأنكم أوليائي وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخي الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان وأوليائه.
11. وخلاصة ذلك ـ إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف، فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، واذكروا قوله: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم.
12. في هذه الآية من العبرة: إن صادق الإيمان لا يكون جبانا، فالشجاعة وصف للمؤمن، لا يبلغ غيره فيها مداه، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وقلب المؤمن لا يتسع لهما، ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما منى به المسلمون من ضعف في إيمانهم، وجهل بكثير من شؤون دينهم.
13. إن في استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب، إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها في نفسه، وتتجسم صورتها في خياله، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها، وهذا يدخل في اختيار الإنسان، وهو الذي نبط به التكليف.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/134.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
بعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم، فيعين من هم؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم.. إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة، وهم مثخنون بالجراح، وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة، وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب، وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم، ودعاهم وحدهم، ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم ـ ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! ـ فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي دعوة الله ـ كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك ـ فاستجابوا بهذا لله والرسول ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح.
1. لقد دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعاهم وحدهم، وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى، وتومئ إلى حقائق كبرى، نشير إلى شيء منها:
أ. فلعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم، هو شعور الهزيمة، وآلام البرح والقرح؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش، وتعقبها، كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء، وليست نهاية المطاف، وأنهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء، إنما هي واحدة وتمضي، ولهم الكرة عليهم، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل، واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ب. ولعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته، فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا، وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها، وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة.
ج. ولعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شاء أن يشعر المسلمين، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها، ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها، عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها، ولا يقدمونها فداها، لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين، ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها ـ بعد أن يشعر المؤمنون ـ بقيام هذا الأمر الجديد، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة، ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم ـ كما أبلغهم رسل أبي سفيان ـ وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا ـ:
2. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة، وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة، وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صور من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
أ. قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال شهدنا أحدا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي ـ أو قال لي ـ أتفوتنا غزوة مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ـ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة.. حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
ب. وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على نفسي، فتخلف على إخوتك، فتخلفت عليهن.. فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج معه.
3. وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة، في تلك النفوس الكبيرة، النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
4. ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه، المكتفين به، المتجردين له: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾، فأصابوا النجاة ـ لم يمسسهم سوء ـ ونالوا رضوان الله، وعادوا بالنجاة والرضى.
5. ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ فهنا يردهم إلى السبب الأولى في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشاء، ومع التنويه بموقفهم الرائع، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله، لأن هذا هو الأصل الكبير، الذي يرجع إليه كل فضل، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل! ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾
6. بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله، صورتهم هذه، وموقفهم هذا، وهي صورة رفيعة، وهو موقف كريم، وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة، نضجت، وتناسقت، واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها، وانجلى الغبش عن تصورها، وأخذت الأمر جدا كله، وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف، فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس.. والفارق هائل والمسافة بعيدة، لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس؛ وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا، أطار الغبش، وأيقظ القلوب، وثبت الأقدام، وملأ النفوس بالعزم والتصميم، نعم، وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير.
7. وأخيرا يختم الله تعالى هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع.. إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب، وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة.. ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان، وأن يبطلوا محاولته، فلا يخافوا أولياءه هؤلاء، ولا يخشوهم، بل يخافوا الله وحده، فهو وحده القوي القاهر القادر، الذي ينبغي أن يخاف: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار؛ ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد، وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب.. الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير.. دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة، بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه.
8. والشيطان ماكر خادع غادر، يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته.. ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره، ويعرف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذر، فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه، ويستند إلى قوته.. إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر، هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء، فلا تقف لهم قوة في الأرض.. لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/520.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ المراد بهؤلاء الذين الذين استجابوا لله ورسوله، هم المسلمون الذين خرجوا مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد عودتهم من أحد، وقد بلغ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن قريشا بعد انصرافها من أحد، ندمت على أنها أنهت القتال من قبل أن تستأصل المسلمين، وقد أمكنتها الفرصة فيهم، فبدا لها أن تعود فتدخل عليهم المدينة وتبيدهم جميعا.. وهنا أمر النبي أصحابه أن يخرجوا للقاء العدو، دون أن يكون فيهم أحد ممن لم يشهد معهم القتال.. فخرج المسلمون الذين شهدوا أحد، جميعا، وهم مثخنون بالجراح، لا يكاد أحدهم يمسك نفسه.. فلما علمت قريش أن النبيّ خرج في أصحابه ظنوا أن النبيّ يطلبهم، ليأخذ للمسلمين بقتلاهم في أحد.. فرجعوا إلى مكة، ورجع النبيّ وأصحابه إلى المدينة، دون أن يقع قتال، فهؤلاء الذين هم استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، وقد عدّهم الله جميعا في الشهداء، من استشهد منهم فيما بعد من ولم يستشهد، لأنهم كانوا في مواجهة القتل المحقق.
2. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هو شرط لنيل درجة الاستشهاد، إذ لا بد أن يستمسك هؤلاء المؤمنون بما هم عليه يومئذ من إحسان وتقوى، أمّا من انحلّ عزمه، وفتر إيمانه بعد ذلك، فليس أهلا لأن ينال هذه الدرجة العليا، وذلك الأجر العظيم، وفي هذا تحذير للمسلمين الذين ذكرهم الله، ومجّد عملهم، وأعلى منزلتهم ـ من أن يستنيموا في ظل هذا الوعد الكريم، دون أن يعملوا ليكونوا أهلا له، وليظلوا محتفظين بهذه المنزلة التي أنزلهم الله أياها، فليتقوا وليحسنوا، وليزدادوا إحسانا وتقوى، فعند الله منازل كثيرة للمتقين المحسنين.
3. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ هو بيان لهؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ولموقفهم يومئذ من عدوهم.. فقد ترامت إليهم الأنباء التي أرجف بها المرجفون فيهم، من المشركين والمنافقين، ليزيدوا في آلامهم، وليدخلوا اليأس عليهم، ولكن ما إن دعاهم الرسول إلى ملاقاة العدو، حتى خفّوا مسرعين، متحاملين على أنفسهم، غير ملتفين إلى جراحهم التي تتفجر دما، وقيل إن المراد بالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، هم المؤمنون الذين استجابوا للنبي وخرجوا معه للقاء قريش في بدر الثانية، وذلك أن أبا سفيان كان قد أنذر النبيّ والمسلمين بعد معركة أحد بأنه سيلقاهم في مثل هذا اليوم، في بدر.. ذلك أنه في نشوة هذا النصر الذي ناله كان يرى أن أحدا لم تثأر الثأر الذي ينشده، لما أصاب قريشا في بدر، فأراد أن يعيد معركة بدر من جديد، ليطلع عليها في قريش بصورة غير الصورة التي وجدتهم عليها يومئذ، وكان أبو سفيان حين جاء الموعد الذي واعد النبيّ على غير استعداد لملاقاة النبي والمسلمين في بدر، إذ كان العام عام جدب.. فأظهر أنه يستعدّ للحرب، ويجمع لها، وبعث إلى النبيّ من يلقى إليه ـ كذبا ـ أن قريشا تجمع له أعدادا لا قبل له بها، أما النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد دعا أصحابه إليه، ونديهم للقاء القوم على الموعد الذي تواعدوا له.. فاستجاب له أصحابه، وتقاعس المنافقون، وأرجفوا بالناس، وأذاعوا الفزع في المسلمين، وقالوا فيما قالوا لهم: إن قريشا قد فعلت بكم في أحد ما فعلت وأنتم في كنف دوركم وبين أهليكم، فكيف يكون حالكم معها وأنتم تلقونها في بدر؟ وأين المفرّ إذا انتصرت عليكم؟ فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فسكنت لذلك أفئدة المؤمنين واطمأنت، وسار النبي بأصحابه حتى نزل بدرا.. وخرج أبو سفيان فيمن اجتمع له، فلما علم أن النبيّ ينتظره بالمسلمين في بدر، قفل راجعا، وانتظر النبيّ هناك بالمسلمين أياما، حتى انفضّت السوق التي كانت تقام هناك كل عام، وباع المسلمون واشتروا، وعادوا سالمين غانمين، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ نجد في التعبير عن المرجفين بهذا القول، والمهوّلين له، بكلمة (الناس) تحقيرا لهم، وبألّا صفة لهم في الناس إلا أنهم على صورة الآدميين، وأنهم والمشركين من قريش على مستوى واحد من الكفر والشرك، إذ عبّر عنهم القرآن بلفظ (الناس) أيضا.. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾
5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ إشارة عامة تشمل هؤلاء الناس، الذين أذاعوا هذا القول وأرجفوا به، فقالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ كما تشمل المشركين من قريش، وهم: الناس الذين جمعوا لاستئصال المسلمين، فهؤلاء وهؤلاء حزب واحد.. هو حزب الشيطان، أو هم الشيطان ذاته، في إضلاله وإغوائه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾
6. الضمير في ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ يعود إلى الشيطان، وأولياؤه هم المنافقون، الذين يتولاهم الشيطان، ويتخذ منهم أعوانا على الشر والفساد.. وهو الذي خوفهم الجهاد في سبيل الله، وأراهم الموت في صورة بشعة مخيفة، فانعزلوا عن المسلمين، ونكصوا على أعقابهم، ويجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا، وتقديره: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾، بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم، هي من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين، ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ردّا على كيد الشيطان، وإفسادا لتدبيره السيئ.. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا، بل تلقوه بالعزم والتصميم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/643.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جملة ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أحد من الأرجاف بأنّ المشركين، بعد أن بلغوا الرّوحاء، خطر لهم أن لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم، وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ [آل عمران: 149]
2. تقدّم القول في القرح عند قوله: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ [آل عمران: 140]، والظاهر أنّه هنا للقرح المجازي، ولذلك لم يجمع فيقال القروح.
3. يجوز أن يكون ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ إلى آخره، بدلا من ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ [آل عمران: 172]، أو صفة له، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 171] على طريقة ترك العطف في الأخبار، وإنّما جيء بإعادة الموصول، دون أن تعطف الصلة على الصلة، اهتماما بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلة، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنف، فيكون مبتدأ وخبره قوله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: 175] أي ذلك القول، كما سيأتي، وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يوم أحد بعام، إنجازا لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال موعدكم بدر في العام القابل، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل، وكاد للمسلمين ليظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين، فجاعل ركبا من عبد القيس مارين بمرّ الظّهران قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشا جمعوا لهم جيشا عظيما، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعدادا وحميّة للدين، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك، وكانت هنالك سوق فاتّجروا ورجعوا سالمين غير مذمومين، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أي الركب العبديون ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أي إنّ قريشا قد جمعوا لكم، وحذف مفعول ﴿جَمَعُوا﴾ أي جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول.
4. قال بعض المفسّرين وأهل العربية: إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نعيم بن مسعود وأبي سفيان، وجعلوه شاهدا على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله، وإطلاق لفظ الناس مرادا به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام، ومنه قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 54] قال المفسّرون: يعني بـ (الناس) محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي زادهم قول الناس، فضمير الرفع المستتر في ﴿فَزَادَهُمْ﴾ عائد إلى القول المستفاد من فعل ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أو عائد إلى الناس، ولمّا كان ذاك القول مرادا به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم، وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون، جعل ما حصل به زائدا في إيمان المسلمين.
6. الظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ على العمل، أي العزم على النصر والجهاد، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص، ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143] يعني صلاتكم، أمّا التّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول، فلا يقبل النقص، ولا يقبل الزيادة، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته، أو طال زمانه، أو قارنته التجارب، يزداد جلاء وانكشافا، وهو المعبّر عنه بالملكة، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة، وقد قال إبراهيم عليه السلام: ﴿بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]
7. قولهم: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ كلمة لعلّهم ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحسب أي كاف، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل، قالوا: ومنه اسمه تعالى الحسيب، فهو فعيل بمعنى مفعل، وقيل: الإحساب هو الإكفاء، وقيل: هو اسم فعل بمعنى كفى، وهو ظاهر القاموس، وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ وقولهم: بحسبك درهم، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل، وقيل: هو مصدر، وهو ظاهر كلام سيبويه، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظا دون معنى، فيبنى على الضمّ مثل: قبل وبعد، كقولهم: أعطه درهمين فحسب، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير، وإضافته لا تفيده تعريفا لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابه المصدر، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر، أو لأنّه مصدر، وهو شأن المصادر، ومعناها: إنّهم اكتفوا بالله ناصرا وإن كانوا في قلّة وضعف.
8. جملة ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ معطوفة على ﴿حَسْبُنَا اللهُ﴾ في كلام القائلين، فالواو من المحكي لا من الحكاية، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة، والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله.
9. ﴿الْوَكِيلُ﴾ فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه، يقال: وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشئونه بنفسه: رجل وكل ـ بفتحتين ـ أي كثير الاعتماد على غيره، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله، وهذا القيام بشأن الموكّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع ﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: 66]، ومنه ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ [النساء: 109]، ومنه الوكيل في الخصومة، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه: ﴿أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 2] كما قال ﴿قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: 91] ولذلك كان من أسمائه تعالى: الوكيل، وقوله: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ومنه الوكيل على المال، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضا اسم الكفيل في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ في سورة الأنعام [102]، فقال: وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال، وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات.
10. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ تعقيب للإخبار عن ثبات إيمانهم وقولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهو تعقيب لمحذوف يدلّ عليه فعل ﴿فَانْقَلَبُوا﴾، لأنّ الانقلاب يقتضي أنّهم خرجوا للقاء العدوّ الذي بلغ عنهم أنّهم جمعوا لهم ولم يعبئوا بتخويف الشيطان، والتقدير: فخرجوا فانقلبوا بنعمة من الله، والباء للملابسة أي ملابسين لنعمة وفضل من الله، فالنعمة هي ما أخذوه من الأموال، والفضل فضل الجهاد، ومعنى لم يمسسهم سوء لم يلاقوا حربا مع المشركين.
11. جملة ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ إمّا استئناف بياني إن جعلت قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ بدلا أو صفة كما تقدّم، وإمّا خبر عن ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ إن جعلت قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ مبتدأ، والتقدير: الذين قال لهم الناس إلى آخره إنّما مقالهم يخوّف الشيطان به، ورابط هذه الجملة بالمبتدإ، وهو ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ على هذا التقدير، هو اسم الإشارة، واسم الإشارة مبتدأ.
12. ثم الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ إمّا عائد إلى المقال فلفظ الشيطان على هذا مبتدأ ثان، ولفظه مستعمل في معناه الحقيقي، والمعنى: أنّ ذلك المقال ناشئ عن وسوسة الشيطان في نفوس الذين دبّروا مكيدة الإرجاف بتلك المقالة لتخويف المسلمين بواسطة ركب عبد القيس، وإمّا أن تعود الإشارة الى ﴿النَّاسِ﴾ من قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ لأن الناس مؤوّل بشخص، أعني نعيم بن مسعود، فالشيطان بدل أو بيان من اسم الإشارة وأطلق عليه لفظ شيطان على طريقة التشبيه البليغ.
13. ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ تقديره يخوّفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول لفعل (يخوّف) بقرينة قوله بعده: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ فإنّ خوّف يتعدّى إلى مفعولين إذ هو مضاعف خاف المجرّد، وخاف يتعدّى إلى مفعول واحد فصار بالتضعيف متعدّيا إلى مفعولين من باب كسا كما قال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 28]، وضمير ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ على هذا يعود إلى ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ وجملة ﴿وَخَافُونِ﴾ معترضة بين جملة ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ وجملة ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
14. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرط مؤخّر تقدّم دليل جوابه، وهو تذكير وإحماء لإيمانهم وإلا فقد علم أنّهم مؤمنون حقّا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/285.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لله والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ أصل استجابوا: طلبوا الإجابة، والمعنى هنا أنهم عالجوا أنفسهم وطلبوا إجابة داعى الله إلى النصر، فأجابوا، فالاستجابة لأن السين والتاء للطلب تدل على أنهم راضوا نفسهم على إجابة الله تعالى، ونالوا ذلك الشرف العظيم؛ إذ أجابوا داعى الله ورسوله من بعد ما أصابهم ذلك الجرح ولم ينهنه من قوتهم، بل استرسلوا في قوة وصبر وعزيمة، واستثارهم الجرح ولم يضعفهم، وأنهم أجابوا الداعي فور الواقعة، فإنه يروى في ذلك أنه لما رجع المشركون قالوا: (لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا)، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، ولكن خذل الله المشركين، وقوى المؤمنين، فرجع المشركون من حيث جاؤوا، ويروى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما ندب المؤمنين أذن مؤذن رسول الله بطلب العدو، وأذن مؤذنه (ألا يخرجن معنا إلا من حضر أحدا، فخرجوا فهؤلاء هم الذين استجابوا لله والرسول، لأنه لم تأخذ الهزيمة من نفوسهم، وإن أصيبوا بكلوم في أجسامهم.
2. وقد قال سبحانه وتعالى في جزائهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ اختص سبحانه وتعالى من أولئك الذين جاهدوا ولم يستشهدوا بعد بأن لهم أجرا عظيما، وهنا يلاحظ ثلاثة أمور:
أ. أولها: أن الله لم يذكر الأجر لهم جميعا، لأنهم كانوا أحياء، والحىّ قد يغير ويبدل، فكان لا بد من التقييد بالإحسان والتقوى، أي يستمر على ما هو عليه.
ب. ثانيها، أن الإحسان هنا غير التقوى؛ إذ الإحسان هو إجادة الخطة، واتباع المنهج المستقيم في القتال، وذلك لا بد منه في الانتصار، والطاعة المطلقة للقائد من إحكام الخطة.
ج. ثالثها: أن التقوى ـ وهى وقاية النفس من الغرض والهوى والاتجاه إلى الله بإخلاص وقلب سليم خال من الشوائبـ أساس الأجر العظيم، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
3. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ الكلام متصل بالكلام في أعقاب أحد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابتهم الجراح، ولم تمنعهم هذه الجراح من أن يجيبوا داعى الله، ويستعدوا، ويتقدموا؛ ويتغلبوا على روح التردد والهزيمة التي كان يبثها المنافقون، وترشح لها الجراح، وإن أبا سفيان قد هم أن يرجع إلى المدينة، فخرجوا للقائه، ولكن ثبطه الله، فعادوا، ولقد كان أولئك الذين استجابوا لداعى الجهاد، وهم في تلك الحال، لهم موقف آخر جليل ذو شأن في الجهاد، وأثر في الإسلام، ولقد ذكر الله ذلك الموقف بقوله تعالت كلماته: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾
4. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ الموصول فيها بدل من الموصول في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ فهم طائفة واحدة لم تتعدد، ولكن تعدد عملهم، فهم في الأول لم تثقلهم الجراح عن أن يجيبوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم في الثاني لم ترهبهم أقوال الناس المتضافرة عن أن يتقدموا للقتال، وقد تكاثرت أسباب الرهبة، وأخبار الاستعداد، فهذا موقف آخر، وإن كان الذين نالوا الفضلين طائفة واحدة، وذلك الموقف هو أن أبا سفيان ومن معه لما رجعوا لا يلوون على شيء، قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: موعدكم بدر القابل فقبل النبيّ ذلك التهديد.. إلى آخر الأثر سبق ذكره.
5. قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ قد حذف فيه المفعول، فلم يقل جمعوا جيشا، وذلك ليذهب الخيال كل مذهب في مقدار ما جمعوا من أسلحة، ومقدار من جمعوا من الرجال وأموالهم، فيكون ذلك أشد تخويفا، ولكن لم يثبط ذلك من عزيمة المسلمين وإرادتهم القتال، وقد حكى سبحانه حال المؤمنين بقوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
6. أولئك المثبطون الدساسون قالوا ما قالوا، وقالوا: اخشوهم، أي قدّروا أنهم سينزلون بكم الأذى الشديد والقتل الذريع إن خرجتم، فهو إفزاع عن المستقبل، والفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يكون من أمر حاضر، والخشية من أمر متوقع، وهى إن كانت في الحاضر تكون خشية من قوى لما يكون منه في القابل، وكان أثر ذلك الدس المرهب أمرين:
أ. أحدهما: زيادة الإيمان، والثاني التفويض إلى الله تعالى، فأما زيادة الإيمان هنا فمعناها قوة اليقين وعدم تضعضع الثقة في الله تعالى.
ب. والأمر الثاني الذي كان أثرا لذلك الكلام المدسوس المثبط أنهم قالوا: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
7. معنى حسبنا أي كافينا، أي إذا كانوا هم يستنصرون بقواتهم يحشدونها، وعددهم يستكثرون به، ويعدون ذلك كفايتهم، فنحن كفايتنا من الله تعالى، وقد وعدنا بالنصر، وهو نعم النصير المعاون، فالوكيل هنا معناه النصير الكفيل المعاون، والوكيل الذي يستعان به في الدنيا إنما يكون لفضل قوته أو خبرته أو حكمته، فكيف يكون والمستعان هو الله سبحانه وتعالى، وهو نعم المولى ونعم النصير، فالوكيل هنا هو القادر الذي توكل إليه الأمور.
8. تكلم العلماء حول قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ فيقولون هل الإيمان يزيد وينقص؟
أ. لقد قال بعض العلماء إنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اعتقاد وإذعان، وتلك حقيقة ثابتة إما أن توجد كاملة وإما ألا توجد، ويكون معنى الزيادة على هذا الرأي ليست زيادة أصل الإيمان، إنما زيادة الثقة بنصر الله تعالى وعونه، وذلك من ثمرات الإيمان، لا من أصله، وهو شعبة منه، وليس جوهره.
ب. وقال آخرون وهم الأكثرون: إن الإيمان يزيد وينقص، وقد قال الزمخشري في تصوير ذلك الرأي من هذه الآية: لما أخلصوا النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط ـ إلى العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل، وعن ابن عمر أنه كان يأخذ بيد الرجل، فيقول: قم بنا نزدد إيمانا، ولقد قالوا: إن قوة الإيمان بإشراقه في القلب، وشدة ذلك الإشراق، وروى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة)، أي كثر الصفاء وأشرق البياض، وكان العمل الصالح.
9. الإيمان هو اليقين الجازم القاطع واليقين وهو من حيث أثره في النفس ثلاث مراتب:
أ. أولاها: علم اليقين، وهى أن تتوافر الأدلة والاطمئنان حتى يكون اليقين الجازم القاطع الذي لا يكون معه شك ولا ريب، ولا إنكار أو جحود، بل تسليم وإذعان من غير مماراة.
ب. ثانيها: عين اليقين، وهو أن تكون أعماله كلها وفق ذلك الاعتقاد الجازم، فيكون اليقين قد رؤى عيانا في الجوارح والأعمال.
ج. الثالثة، وهى المرتبة العليا: حقيقة اليقين، وهى أن يصل إلى درجة تشبه المشاهدة أو تكون من جنسها وهى التي قال فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذه مرتبة المشاهدة ولقد وصل إليها الأبرار، ولقد قال على كرم الله وجهه: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) لأنه وصل إلى مرتبة المشاهدة، وفي الجملة فإننا نرى أن الإيمان يزيد وينقص والله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.
10. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ بعد أن خرج أولئك الأبرار الأطهار، وقد استعدوا إلى اللقاء عادوا من بدر إذ لم يجدوا ولا مانع من أن نعتبر ذلك الفضل معنويا، وهو فضل الجهاد والنية المحتسبة وقد باعوا أنفسهم لله تعالى، ولعل الأولى أن نقول: إن الفضل يشمل النوعين الربح المالي، والشرف المعنوي، وكلاهما قد نالوه.
11. ثالث الأمور ـ أنهم عادوا سالمين، وهذا معنى: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي لم تنزل بهم جراح، بل إنه حتى الأمر الذي يسوؤهم لم يمسسهم بل قد عادوا فرحين مستبشرين.
12. ورابع الأمور ـ أنهم اتبعوا رضوان الله، أي اتبعوا أمر الله تعالى، وساروا في الطريق الذي يكون فيه رضوانه تبارك وتعالى، ورضوان الله أعظم ما يناله المؤمن، وحسبه أن يكون في عمل فيه رضوان الله الذي هو أكبر النعم لينال حظى الدنيا والآخرة.
13. إن هذه النعم التي نالوها هي من فضل الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بذلك النص السامي وهى تصف المولى العلى الكريم بأنه صاحب فضل عظيم لا تكتنه حقيقته، ولا يحده الحصر، وقد بدا فيما أسبغه الله تعالى من نعم على الناس أجمعين، وما أنقذ به عباده المؤمنين من شر الكافرين، وما وفقهم له من طلب رضوانه وما نصرهم به من نصر مؤزر، والتنكير في الفضل ووصفه لإفادة كثرته وقوة أثره.
14. من أفضل نعم الله أنه ثبت قلوب المؤمنين، فلم يفزعوا عندما دست الأخبار لإفزاعهم وترويعهم، فلم يروعوا لأن الله حاميهم وهم اعتمدوا عليه وهو وليهم؛ والترويع من الأوهام إنما يكون لأولياء الشيطان.
15. ولذلك قال سبحانه موازنا بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشيطان: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ الخطاب في الآية للمؤمنين الأقوياء أي إن الإرهاب والإفزاع يكون من أولياء الشيطان، وهو يخوف أولياءه ونصراءه بهذا التخويف وذلك الإفزاع، لأن أولئك لا يهمهم إلا الحياة الدنيا، ودائرة سلطان الشيطان في أن يحملهم على ألا يؤمنوا بالحياة الأخرى، وما دامت الدنيا همهم اللازم، فإنه لا يهمهم إلا الفوز الحاضر، ومن هنا يجد الشيطان موضع ثقته ووسوسته، فأولياء الشيطان إذا كانوا قد خوّفوا المؤمنين بالكثرة والعدد والهزيمة القريبة، فذلك هو منطقهم ومنطق الشيطان، أما المؤمنون فهم أولياء الله ولا يعتمدون إلا عليه، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر العاجل ومعه الجزاء، وإما الاستشهاد والثواب المقيم، ورضوان الله أكبر، وهو ثابت في الحالين، ولذلك لا يفزعهم مثل هذا التهديد الذي حملته رسل أبى سفيان، ويكون المعنى على هذا، إن تخويف الشيطان المبنى على الإفزاع والإرهاب إنما يكون أثره في أوليائه من الكافرين والمنافقين، ولا يمكن أن يكون له أثر في قلوب المؤمنين.
16. الإشارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ﴾ هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا معه، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، فالمعنى: إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي عمله وتدبيره، ولا يمكن أن يكون إلا في أوليائه، والله ولى الذين آمنوا، والشيطان على هذا هو إبليس اللعين الذي أضلهم ويخوفهم، هم ومن هم على شاكلتهم من المنافقين.
17. أكد الله سبحانه ولايته لهم، ونصرته لهم فقال تبارك وتعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي فلا تخافوا تهديدهم الذي هو تدبير الشيطان، فإنه إذا كنتم أولياء الله، ولا يهمكم إلا رضاه، ولستم أولياء الشيطان، ولا أثر له في قلوبكم، فلا يصح لكم أن تخافوا أولياء الشيطان، ولا تدبيره، والله معكم، ولذلك لا تخافوا سواه ما دام الإيمان شأنكم ووصفكم، فضعوا في نفوسكم ولاية الله ونصرته وتقواه، وضعوا أيضا في نفوسكم خشية عقابه ورجاء رضاه، فإن فعلتم خفتم الله وأرضيتموه، واتبعتم طريق السداد، وكنتم في أمن من الشيطان وأوليائه.
18. سؤال وإشكال: الخوف أمر نفسي لا قدرة للإنسان على منعه، فكيف يكون النهى عنه؟ والجواب: أن النهى عن الخوف نهى عن أسبابه، ودعوة إلى رياضة النفس على الصبر؛ وذلك لأن سبب الخوف والجبن حب الدنيا وكراهية الموت، وعدم عمران القلب بذكر الله وعدم الإحساس بولاية الله تعالى، وضعف الثقة بالنفس وبالله، فالله سبحانه وتعالى إذ نهى المؤمنين عن الخوف من الشيطان فمعناه النهى عن أسباب الخوف والأخذ في أسباب القوة، بالتقوى وذكر الله تعالى، والاتكال عليه تعالى بعد الأخذ في الأسباب، والإيمان بأن الله تعالى ناصر دينه، وناصر من استمسك به وأخذ بعروته ولم يتركها قط.
19. المقابلة بين النهى عن الخوف من أولياء الشيطان، والأمر بالخوف منه سبحانه، فيها بيان علاج النفس إذا ضعفت وخافت من الشيطان وأوليائه، فدفع الخوف من أولياء الشيطان يكون بالخوف من الله تعالى، فمن خاف الله تعالى حق الخوف منه لا يخاف أحدا من العباد إذا عاندوا وحادوا الله ودينه، لا يخاف أهل الضلال من يخاف الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1507.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، جاء في كتب السير والتفاسير ان المشركين بعد أن انتهت معركة أحد اتجهوا إلى مكة، وفي أثناء الطريق عادوا إلى التفكير فيما حدث، فندموا وتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لم نستأصل من بقي من المسلمين، وسيجمعون لنا، ويعيدون الكرة علينا، وهموا بالرجوع إلى حرب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه.. ولما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعاد تنظيم رجاله على عجل، ونادى مناديه لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فاجتمع اليه جماعة من المسلمين، على ما بهم من القراح والجراح، وساروا حتى عسكروا بحمراء الأسد في انتظار رجوع أبي سفيان ومن معه من المشركين.. وتبعد حمراء الأسد عن المدينة ثمانية أميال.. ونجحت هذه المظاهرة، لأن المشركين لما علموا بتجمع المسلمين من جديد خافوا وأسرعوا إلى مكة.. وعاد المسلمون إلى المدينة أعز جانبا.
2. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، المراد بلفظ الناس الأول المثبطون عن الحرب مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهؤلاء هم الذين قالوا للمؤمنين حين أهاب بهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقفوا للمشركين ثانية، قالوا لهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، والمراد بلفظ الناس الثاني المشركون الذين حاولوا اعادة الكرة على المسلمين، والمعنى ان المؤمنين على جراحهم الثقيلة الدامية قد لبوا نداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لمجابهة أبي سفيان وجيشه، ولم يلتفتوا إلى من خوفهم، وقال لهم، لا تخرجوا مع محمد، لأن الأعداء أقوى منكم، بل زادهم هذا القول ايمانا بالله وثقة بوعده، ومضوا على طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتصميم على محاربة المشركين، مهما تكن النتائج، معبرين عن هذه الطاعة، وهذا التصميم بقولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
3. وهكذا ينسجم المؤمن، ويلتحم مع إيمانه، ولا يخشى فيه القتل والأسر، والتنكيل والتعذيب.. قال رجل من بني عبد الأشهل: شهدت وأخي أحدا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجرحنا، ولما اذن مؤذن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج في طلب العدو خرجنا مع الرسول، وكنت أيسر جرحا من أخي، فكان إذا تأخر حملته.
4. ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾، خرج المؤمنون مع النبي إلى حمراء الأسد، كما أمرهم، ولم يلقوا من العدو كيدا ولا همّا، وهذا معنى ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، لأن العدو بعد أن علم بتجمعهم خاف وعاد إلى أهله.. وبعد انصراف العدو عاد المسلمون إلى أهلهم بنعم كثيرة من الله، منها السلامة، ومنها طاعة الله ورسوله، ومنها إرهاب العدو، ومنها الذكر الطيب.. وأية نعمة تعدل تنويه الله بهم، وتسجيل هذه المنقبة لهم في اللوح المحفوظ، وفي كتابه الذي يتلو آياته أهل الأرض إلى يوم يبعثون.
5. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ كل من أطاع الله فهو من أوليائه، وكل من استجاب إلى الشيطان فهو من أوليائه، والله يأمر أولياءه بالخير، ويرغبهم فيه، وينهاهم عن الشر، ويحذرهم منه، أما الشيطان فإنه على العكس، يأمر أولياءه بالشر ويغريهم به، وينهاهم عن الخير، ويخوفهم منه، وقال الحافظ المفسر محمد بن أحمد الكلبي، في تفسير التسهيل: المراد بالشيطان هنا أبو سفيان أو الذي أرسله أبو سفيان أو إبليس.
6. قول من قال للمؤمنين: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ هو من وحي الشيطان وتخويفه فلا يصغي اليه الا أولياؤه الذين يطيعونه، أما أولياء الرحمن فلا يزيدهم هذا القول الا ايمانا بالجهاد والفداء من أجل الإسلام ونبي الإسلام، وعلى ما قدمنا يكون معنى: ﴿الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ انهم يطيعونه إذا خوفهم، أما أولياء الله فلا يخافون الشيطان إذا خوّفهم، ومعنى ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ لا تخافوا المشركين فإنهم أولياء الشيطان، وهو يحاول أن يجعلهم مصدر الخوف والرعب، ويضيف عليهم سمة القوة والرهبة ليخلو لهم الجو، ويعثوا فسادا في الأرض.. والمؤمن لا يخاف الا الله وحده.
7. للشيطان أسماء كثيرة، منها اللعين والرجيم، والغاوي والغرور، ويمكن تسميته بالشحاذ المتسول، لأنه يقف على باب القلب يستعطف، ويقرعه برفق ولين طالبا الاذن بالدخول.. فإذا أبطأت عليه تضرع وتملق بكلمات معسولة، ويكتفي منك ان توارب الباب، ولو قليلا.. فإذا فعلت دخل، وأخرج من محفظته الغواية والخداع، والوهم والإغراء، وشرع بتمويه الحقائق وتشويهها، وتزيين القبائح وتحسينها، وصوّر عمل الخير شرا، وجهاد المبطلين كفرا، وسلم المحقين حربا، والمنكر معروفا، والمعروف منكرا، وألبس الخائن ثوب المصلح، والمخلص ثوب المفسد، إلى غير ذلك من حيله وأضاليله، وأجدى وسيلة يتوصل بها إلى مآربه تجسيم الخوف من قوة أوليائه الذين يقضون لباناته، ويحققون غاياته.. ان الشيطان مهندس ومشرّع، أما قوته المنفذة فهم شيعته الذين ينشرون في الأرض الفساد والضلال، ومن أجل هذا يضخم من شأنهم، ويمهد لهم سبيل السيطرة والنفوذ، ويلبسهم لباس العزة والقدرة، كي لا يرتفع في وجوههم صوت، أو يفكر في الانتقاض عليهم أحد.. فيضعف سلطانه بضعفهم، وينقطع رجاؤه من الشر والفساد بانقطاع آثارهم.
8. الخلاصة ان من خاف اهل الفساد والضلال، وهادن واحدا منهم فقد هادن الفساد والضلال بالذات، ووقّع معاهدة الحب والإخاء بينه وبين الشيطان.. وهذا مقياس لا يخطئ أبدا في الفصل والتمييز بين من يدعي الايمان بالله والخوف منه، وبين من يوالي الشيطان، ويؤثر طاعته على طاعة الله، ولا شيء أدل على هذه الحقيقة من قوله سبحانه: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، فإن معناه من ترك جهاد أهل الفساد والضلال خوفا منهم فهو من أولياء الشيطان، وليس من الله في شيء.. وقريب من هذه الآية قول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/205.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد، ويشعر بذلك قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وقد قال فيها: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾
2. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ الآية الاستجابة والإجابة بمعنى واحد ـ كما قيل ـ وهي أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول، ولعل ذكر الله والرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو لكونهم في وقعة أحد عصوا الله والرسول، فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار والتولي وقد نهاهم الله عنه وأمر بالجهاد، وأما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذي أصدره على الرماة بلزوم مراكزهم وحين كانوا يصعدون وهو يدعوهم في أخراهم فلم يجيبوا دعوته، فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله والرسول.
3. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، قصر الوعد على بعض أفراد المستجيبين لأن الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الإحسان والتقوى اللذين عليهما مدار الأجر العظيم، وهذا من عجيب مراقبة القرآن في بيانه حيث لا يشغله شأن عن شأن، ومن هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الأجر من الله سبحانه، وربما يقال: إن (من) في قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ بيانية كما قيل مثله في قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وهو تأول بما يدفعه السياق، ويتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ إلى آخر الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية.
4. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ الآية، الناس هو الأفراد من الإنسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض، والناس الأول غير الثاني، فإن الثاني هو العدو الذي كان يجمع الجموع، وأما الأول فهم الخاذلون المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين، فالناس الثاني أريد به المشركون، والناس الأول أيديهم على المؤمنين وعيونهم فيهم، وظاهر الآية كونهم عدة وجماعة لا واحدا، وهذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيمن بقي من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر الصغرى.
5. ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا.
6. ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾، وذلك لما في طبع الإنسان أنه إذا نهي عما يريده ويعزم عليه، فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراء فأوجب انتباه قواه واشتدت بذلك عزيمته، وكلما أصر عليه بالمنع أصر على المضي على ما يريده ويقصده، وهذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره، ولذا كان المؤمنون كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم وشدة في عزمهم وبأسهم، ويمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر الوحي أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله وقد وعدهم النصر ولا يكون نصر إلا في نزال وقتال.
7. ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي كافينا الله وأصل الحسب من الحساب لأن الكفاية بحساب الحاجة، وهذا اكتفاء بالله بحسب الإيمان دون الأسباب الخارجية الجارية في السنة الإلهية والوكيل هو الذي يدبر الأمر عن الإنسان، فمضمون الآية يرجع إلى معنى قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾، ولذلك عقب قوله: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ بقوله: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ الآية ليكون تصديقا لوعده تعالى، ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه فقال: واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.
8. حقيقة الأمر أن مضي الإرادة والظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب طبيعية وأخرى روحية والإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمه وهيأ من الأسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه وبين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية كوهن الإرادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظن وغير ذلك وهي أمور هامة عامة، وإذا توكل على الله سبحانه وفيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة وهو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شيء من الأسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا وسعادة، وفي التوكل على الله جهة أخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ الآية، وقد تقدم شطر من البحث المتعلق بالمقام في الكلام على الإعجاز.
9. ﴿ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ الآية، ظاهر الآية أن الإشارة إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا، فيكون هذا من الموارد التي أطلق فيها القرآن الشيطان على الإنسان كما يظهر ذلك من قوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ أي الناس القائلين لكم ما قالوا لأن ذلكم الشيطان، وسنبحث في هذا المعنى بما يكشف القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى.
10. الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية، وهي مختلفة اختلافا شديدا في جهات القصة ربما أدت إلى سوء الظن بها، وأكثرها اختلافا ما ورد منها في أسباب نزول كثير من آيات القصة وهي تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب، ولا يلبث الناظر المتأمل فيها دون أن يقضي بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق بلسانها بما تنتفع به، وهذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه بجوامع الحديث ومطولات التفاسير.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/63.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ الذي يظهر من ترك العطف في أول الآيتين، أنهما تفسير للذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وتخصيص بهم، فلا يدخل في ذلك غيرهم.
2. معنى: ﴿اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ﴾ أجابوا دعوة الرسول إلى الجهاد مرة أخرى مِنْ ﴿بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ في وقعة أُحُد، وتلك حالة شديدة؛ لأنهم كانوا في حالة تعب وجراح وقد لاقوا من ملاقاة الكفار شدة أثرها باقٍ في أنفسهم لكنهم يحبون الله ورسوله حباً غلب ذلك كله، لأنهم يريدون الآخرة ويرغبون في الشهادة فلذلك عظم فضلهم وأجرهم؛ فيحتمل: أنهم أهل حمراء الأسد، ويحتمل: أنهم الذين ثبتوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد قتل من قتل منهم وانهزام الكثير من الصحابة، والأقرب: أنهم أهل حمراء الأسد؛ لأجل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾
3. قال الشرفي في (المصابيح): (في سبب نزول هذه الآية أقوال: الأول: أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد تركتموهم ارجعوا واستأصلوهم فرجعوا إلى حمراء الأسد، وسمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد أن يرهب عدوه فدعا أصحابه إلى اتباعه، ونادى مناديه: (أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس) وألقى الله الرعب في قلوب الكفار فانهزموا من غير قتال، فخرج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قوم من أصحابه، وقيل: كانوا سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال)
4. ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وعد معلق على الإحسان والتقوى جملة؛ لأن العمدة في قبول الأعمال التقوى، و(من) للبيان ولا تفيد الكل ولا البعض أنهم أحسنوا واتقوا ولكنها تتبع الواقع عموماً أو خصوصاً، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ﴾ [الأحزاب:30] أنها لا تفيد: أن إحداهن أتت بفاحشة ولا كلهن، فكذلك قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ سواء كانوا كلهم أو بعضهم، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ﴾ [الفتح:29] فلا معنى للخلاف هل هي للبيان أو للتبعيض.
5. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أي بعض الناس، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (يعنى رجلاً واحداً)، والذي يظهر من الروايات: أن الإرجاف وقع مرتين، المرة الأولى عقب غزوة أحد، والثانية قرب موعد بدر الصغرى، فالأول: ركب من عبد قيس والثاني: نعيم بن مسعود.
6. ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ أي جمعوا العدة لحربكم، وقوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ أي هذا الإرجاف لأنهم جددوا عزمهم على القتال وإن كان العدو قد جمعوا لهم ورغبوا في الشهادة وازدادوا صلاحاً واستعداداً، فاستنارت بصائرهم وازداد إيمانهم ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ﴾ أي كافينا أي يكفينا الله؛ لأنه معنا ونحن متوكلون عليه ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ الذي توكل إليه الأمور لقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وحسن رعايته لأوليائه.
7. ﴿فَانْقَلَبُوا﴾ رجعوا حين علموا أن العدو لا يلقاهم ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ وهي في أنفسهم وما استفادوه، فالنعمة والفضل في أنفسهم زيادة الهدى والنور وقوى البصائر والفرح بإلقاء الله الرعب في قلوب الأعداء وفضيلة الصبر والنيات الصادقة وما استفادوه من الإرهاب على العدو وأنهم ما وهنوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
8. ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي في مخرجهم ذلك واتبعوا رضوان الله باستجابتهم لله ورسوله، وقولهم: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ وغير ذلك مما اتبعوا به ما يرضي الله كالنَّصَب والظمإ وغير ذلك مما ذكر في (سورة التوبة) وقوله تعالى: ﴿ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ يشير إلى فضله تعالى عليهم بما هيأ لهم من أسباب الفضل والقربة وهداهم له، فإنه فضل عظيم نالوه بصبرهم وخلوص نياتهم وهداية الله لهم، ويشير إلى فضل عظيم أعده لهم في الآخرة.
9. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إنما ذلك المرجف المذكور في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ إنما هو الشيطان يخوفكم ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ الكفار الذين هو معهم في عدواتكم، تعدى بخوف إلى أوليائه؛ لأن غرضه بالتخويف جعل أوليائه مخوفين فأبطل الله كيده بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ وهذا كقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:13] فإن شأن المؤمن أن يخشى الله لإيمانه بقدرته وعلمه وإيمانه بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوب طاعته وكون مخالفته سبباً لعذاب الله، فالمراد: خافوا معصيتي أو خافوني إن خفتموهم مثل خوفكم لي.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/579.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه صورة من صور الثبات والصمود في المجتمع الإسلامي، في ما تمثلت به أجواء معركة أحد، فقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه المسلمون المعركة وساروا في اتجاه المدينة، وكان هناك إحساس بأن المشركين قد يستغلون حالة الضعف الطارئة التي حدثت لهم بفعل الهزيمة، فيهجمون على المدينة للقضاء على الإسلام والمسلمين نهائيا، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبقي روح الاستعداد للقتال والتعبئة النفسية لدى المسلمين، لئلا يبتعدوا عن الجوّ ويفقدوا روح المبادرة، في الوقت الذي أراد فيه ـ أيضا ـ أن يوحي للعدوّ بالاستعداد الدائم للوقوف ضدّه ولمواجهته، حتى في أشدّ الحالات حراجة كالحالة التي كان المسلمون فيها آنذاك، وهي حالة الخروج من الحرب بالهزيمة، ولهذا طلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسلمين أن يتجمعوا في معسكر قرب المدينة بكامل عدتهم وقواهم، وكان فيهم ـ في ما يقال ـ الجرحى والثّكالى، واستجابوا للنبي في ما دعاهم إليه، واستطاعوا ـ من خلال ذلك ـ أن يضيّعوا على قريش فرصة المبادرة من جديد عندما فكّر بعض قادتهم في الهجوم على أساس عنصر المفاجأة، فتراجعوا عن ذلك عندما علموا بحالة الاستعداد القصوى لدى المسلمين في المدينة.
2. جاءت هذه الآيات لتحدثنا عن تلك التجربة، وعن الحالة النفسية القوية التي كان يعيشها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا معه ضد كل أساليب الانهزام الروحي التي كان الأعداء يحاولون أن يثيروها في عمق مشاعرهم، من أجل أن يهزموهم في الداخل قبل أن يعملوا على هزيمتهم في المعركة، وتنطلق هذه الآيات في هذا الجوّ لتؤكّد على قيمة الجانب الإيماني الذي يربط القوّة بالله، في تأكيد هذا الموقف الصلب الذي لا يخاف ولا يستكين.
3. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ وهو مفرد القروح، وهي حال خاصة تصيب الجرح، وقد جاءت على سبيل الكناية عن حالة الألم الناتج عن الهزيمة في ما كانوا يعيشون فيه من مشاعر وإحساسات عميقة صعبة، فلم تهزمهم بل صمدوا للتحدّيات المستقبليّة التي دعاهم الله ورسوله لمواجهتها، فاستجابوا للدعوة، لأنهم كانوا يشعرون بأنّ أعداء الرسالة لن يكتفوا بمعركة واحدة ضد الإسلام، ينتصرون أو ينهزمون فيها، بل هناك حرب مستمرة، ما دامت الرسالة تتقدم في خطواتها الثابتة إلى الأمام، ولهذا كان الاستعداد النفسي للمسلمين مستمرا للدخول في المعركة الجديدة عندما تنتهي المعركة السابقة، وقد حفظ الله لهم هذا الموقف في خط التقوى وفي روح الإحسان، فأعطاهم الأجر العظيم الذي يوازي عظمة الروح والموقف: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وربّما نستشعر من هذه الفقرة في الآية أن الله يعطي ثوابه للذين يتحركون في مواقفهم من مواقع التقوى والإحسان الكامنة في نفوسهم، المتحركة في أعمالهم المستقبلية في الخط المستقيم.
4. وتتجسّد الصورة التي توحي بالقوة من قاعدة الإيمان، فتهزم بروحيتها كل أساليب التخويف والترهيب ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ فقد انطلقت هذه الكلمات في عملية إيحاء بضخامة العدد والعدة الذي يتمثل في اجتماع هذا العدد الغفير من الناس لحرب المسلمين، بالمستوى الذي لا يستطيع المسلمون مواجهته على طريقة الحسابات الماديّة؛ الأمر الذي يدفع بهم إلى الشعور بالخوف من المشركين، فيتراجعون عن مواقفهم أمامهم أو يخففون من اندفاعهم في التحديات التي يثيرونها في صراعهم مع الشرك، فيقبلون بالتسويات التي يأخذ فيها الإيمان حصّة ليأخذ الشرك في مقابلها حصة، فينتهي بهم الأمر إلى الانسحاب من مواقعهم الحقيقية في نهاية المطاف، لأن الذين يتساهلون في بعض المواقف الحيوية تحت تأثير عامل الخوف سوف يتساهلون في القضايا والمواقف الأخرى للسبب نفسه في حالة أخرى.
5. لكن هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا لله وللرسول كانوا يعيشون الإيمان في أنفسهم كعامل من عوامل الشعور العميق بالقوّة، من خلال الشعور بالانتماء إلى الله القويّ القادر، ولهذا كان ردّ فعلهم على هذا التحدي مزيدا من التصعيد في حركة الإيمان في الداخل، لأن المؤمن يعيش الانتماء إلى الله والاعتماد عليه واللجوء إليه في حالات التحدي بالمستوى الذي يملأ نفسه بالقوّة، ويفرّغ داخله من كل مشاعر الضعف التي تهزم مواقفه.. وبذلك يزداد إيمانا في فكره وشعوره، لأن التجربة الصعبة لدى الواعين من المؤمنين لا تضعف الإيمان بل تنمّيه وتقوّيه، وتربطه بالأسس الثابتة التي ارتكز عليها وانطلق منها في ما يتحسسه من حركة الإيمان في خطّ الواقع، وفي ما يعانيه من ارتباط التجربة بقضايا الإيمان.
6. هناك نقطة أخرى، وهي أن التحديات الكافرة كلما كبرت كلّما كانت دليلا جديدا على مستوى الخطورة التي تمثلها حركة الإيمان ضدّ الكفر، مما يمنح المؤمن شعورا بقوّة الموقف في قوّة الإيمان، لأنّ ردّ الفعل في حركة الكفر في ما يمثله من أساليب العدوان لا يدلّ على قوة في الموقف، بل يوحي بحالة الضعف التي تدفع إلى التشنّج والانفعال العدواني، وفي هذا الموقف يشعر المؤمنون أن عليهم مواصلة الفعل من مواقعهم القويّة، ليرتفع مستوى الحركة إلى أعلى ما يستطيع العاملون أن يبلغوه، وهذا هو وحي القرآن في تصويره لهذه الروح الفاعلة الصاعدة: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فقد وازنوا بين قوّة هؤلاء الناس الذين جمعوا لهم، وعرفوا أن قوّتهم لا تملك عمقا ذاتيا في حسابات القوة، ولا تملك امتدادا في التأثير، لأنها محدودة في ذاتها وفي أثرها.. وبين قوّة الله المطلقة التي تمنح القوّة كما يشاء وتسلبها كما يشاء، وحدّدوا موقفهم على هذا الأساس، فاختاروا الارتباط بالمطلق ولم يخضعوا للمحدود؛ فشعروا بالكفاية بالله، فهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، وهو الوكيل عن عباده المؤمنين في ما يقوم به من حمايتهم وحفظهم من كلّ سوء.
7. واستجاب الله لهذا الإيمان ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، وردّ الله كيد الأعداء إلى نحورهم، فتراجعوا أمام حالة الاستعداد القصوى للمؤمنين التي عاشها المؤمنون من خلال نعمة الله وفضله عليهم، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ﴾ في ما يأمرهم به من الوقوف مع رضوانه في مواقع الجهاد، ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ في ما أعطاهم من قوّة الموقف من خلال قوّة الإيمان، فلم يستطع الناس أن يهزموهم بالكلمة، كما لم يستطيعوا أن يهزموهم بالفعل، وذلك هو فضل الله على عباده في ما يفيض عليهم من نعمة القوّة الروحية التي لا تقف عند حدّ.
8. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ فليس الخوف الذي يحدث للإنسان إلا من خلال تسويلات الشيطان الذي يوحي له بالمشاعر السلبيّة، التي تعطي الأشياء من حوله صورة غير واقعيّة، فتضخّم في وعيه القضايا الصغيرة، وتصغّر القضايا الكبيرة، وتضع أمامه صورة الموت الذي يلغي أطماعه وشهواته؛ فيضعف أمام ذلك كله، ويتضاءل ويصغر ويتراجع عن مواقفه، وينسحب من مواقع الجهاد الصعب تحت تأثير عامل الخوف الناتج من ذلك كلّه.. وذلك هو شأن أولياء الشيطان يصغون بمسامع قلوبهم لوسوسته، أما أولياء الله فهم الذين لا يرتبطون بالحياة إلا من خلال الإيمان بالله الذي يمسك مقاليدها بيده، ويحرّكها بقدرته، ويضع خططها بحكمته، فهو الذي ينفع ويضر، وهو الذي يحيي ويميت وإليه المصير.. وليست الحياة الدنيا نهاية المطاف، ليسقطوا أمام صورة النهاية في صورة الموت، بل هي بداية لحياة جديدة أخرى، ولهذا فإن الموت لا يمثّل حالة سلبية في عمق الشعور الإنساني المطيع لله، بل يحدث له حالة عكسيّة من الشعور الإيجابي بالشوق للقاء الله للحصول على رضوانه ونعيمه في الدار الآخرة، وهذا هو شعار المؤمنين في المعركة في ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: 52]؛ النصر أو الشهادة.
9. ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ لأنهم لا يملكون القوّة الذاتية التي تخيف المؤمنين، ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بالوقوف أمام حدود الله في الثبات على خط الجهاد وعدم الانهزام أمام تحديات الأعداء، فإن الإيمان موقف لحساب الله، وليس كلمة عبارة تنطلق به الشفاه في حالة شعورية سلبية في حركة الذات.
10. قد نستوحي من هذه الآيات في أنها لم تتحدث عن التاريخ الجهادي للمسلمين كتاريخ محدود يتحرك ضمن شخصيات معيّنة، بل تحدثت عنه كنموذج من نماذج حركة الإسلام في الحياة في حركة المؤمنين الذين يواجهون تحديات الأعداء بالقوّة، فلا تصرعهم الهزيمة بل تزيدهم قوة واستعدادا للحصول على النصر من خلال اختزان دروس الهزيمة في داخلهم، وتحويلها إلى تجربة رائدة في خط السير، ليتابعوا الطريق ويستشعروا بالقوة المتجددة بقدر ما يتجدد الإيمان في نفوسهم، وبذلك تتحول هذه القصة إلى درس نتعلمه في مواقفنا عندما نقود معركتنا في صراعنا مع الكفر والظلم والاستعمار، فيحاول الأعداء أن يستغلوا الأوضاع الشاذة في مجتمعاتنا ليثيروا فينا مشاعر الخوف من خلالها، فإن المؤمن ينظر بنور الله، فيدرس الواقع لا على أساس حدوده الضيّقة، بل على أساس المعطيات المستقبلية التي يمكن أن يقدّمها للمستقبل، في ما يوحي به من عملية حشد القوة في الداخل والخارج من خلال الارتباط بالله، فإن الحياة بيد الله، فلا يملك أحد أن يسلب الحياة ممن يريد الله له ذلك، وهذا هو سرّ القوّة النفسية التي يواجه بها المؤمن الحرب النفسية التي يشنها الأعداء ضدّه، فيتزايد لديه الشعور بأنه يقف على أرض صلبة وأن رأسه مرفوع إلى السماء في اتجاه النور المتحرك في آفاق الله.
11. هذه التربية على التوكل على الله التي نشأ عليها هؤلاء المسلمون من الصحابة في صدر الدعوة هي السرّ في الثبات على الإسلام أمام كل التحديات الصعبة والأخطار الكبرى، فقد فهموه فهما واعيا عميقا واسعا ممتدّا في حركة الواقع الإنساني، وذلك بالأخذ بالأسباب التي أعدّها الله للأشياء في واقع الحياة في قضايا النصر والهزيمة مما يتصل بالأسباب الطبيعية، وبالانفتاح على الله في استلهام القوة منه في الإمداد الغيبي الذي يمدّ به عباده الصالحين في ساعات الشدّة، وفي مواقع التحدي عندما يخضعون لبعض نقاط الضعف النفسية في ضعف بشريتهم، ووهن الإرادة واهتزاز الإحساس، وسيطرة الخوف والحزن من خلال أسبابها في الواقع، فينطلقون إلى الله يستمدون منه القوّة التي تنقذهم من ضعفهم، والأمن الذين يخلّصهم من خوفهم، والفرح الروحي الذي يبعدهم عن حزنهم؛ فتمتلئ نفوسهم بالثقة أمام الأعداء، فإذا كانوا يمثلون القوة المادية التي تغلب قوّة مادية مماثلة، فإن الله يملك القوة الغيبية التي لا تغلب ولا تقهر، وهكذا يتحول التوكل في معناه الإيماني إلى عنصر قوّة في الإنسان المؤمن، بحيث تطرد عنه كل عوامل الضعف، فينطلق إلى الحياة في كل قضاياها بثقة فاعلة، واطمئنان عميق، وموقف ثابت، وهذا هو شأن القوة الروحية الإيمانية في الواقع الحركي للإنسان في مواجهة الشدائد.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/385.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد انتصاره في معركة (أحد) على الجيش الإسلامي يغذ السير في طريق العودة إلى مكّة حتى إذا بلغ أرض (الروحاء) ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية، ولما بلغ هذا الخبر إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر مقاتلي أحد أن يستعدوا للخروج إلى معركة أخرى مع المشركين، وخص بأمره هذا الجرحى والمصابين حيث أمرهم بأن ينضموا إلى الجيش، يقول رجل من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد شهد أحدا: شهدت أحدا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فو الله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكنت أيسر جرحا من أخي، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى (حمراء الأسد)، فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، والذي تجلّى في اشتراك الجرحى والمصابين خاف وأرعب، ولعله ظن أنه أدركت المسلمين قوّة جديدة من المقاتلين وأتاهم المدد.
2. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين، وألقت مزيدا من الوهن في عزائمهم، وهي أنه: مرّ برسول الله (معبد الخزاعي) وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النّبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثمّ خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالرّوحاء وقد أجمعوا الرّجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراك يا معبد؟ قال: محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر قط مثله يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط، قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال معبد: (فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل)، قال أبو سفيان: فو الله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصلهم، قال معبد: فأنا والله أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقفل راجعا ومنسحبا إلى مكّة بسرعة، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للانسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح: (أخبروا محمّدا إنا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم) ثمّ انصرف إلى مكّة، ولما مرّت هذه الجماعة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بحمراء الأسد أخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيّام، فلم ير لهم أثرا فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة، والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
3. يتبيّن من تخصيص جماعة معينة بالأجر العظيم في هذه الآية أنه كان هناك بينهم من لم يملك الإخلاص الكامل، كما يمكن أن يكون التعبير بـ (منهم) إشارة إلى أن بعض المقاتلين في أحد امتنعوا ببعض الحجج عن تلبية نداء الرّسول والإسهام في هذه الحركة، ثمّ إنّ القرآن الكريم يبيّن إحدى العلائم الحيّة لاستقامتهم وثباتهم إذ يقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، والمعنيون بالناس في قوله: ﴿قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ هم ركب عبد القيس، أو نعيم بن مسعود الذي جاء بهذا الخبر على رواية أخرى.
4. ثمّ بعد ذكر هذه الاستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ﴾ وأية نعمة وأي فضل أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء ويعود هؤلاء المقاتلون إلى المدينة سالمين.
5. يبقى أن نعرف أن الفرق بين النعمة والفضل، يمكن أن يكون بأن النعمة هي الأجر بقدر الاستحقاق والفضل هو النفع الزائد على قدر الاستحقاق.
6. تأكيدا لهذا الأمر يقول القرآن: ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ مضافا إلى أنّهم ﴿اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ واللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ أنه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.
7. إنّ مقارنة معنوية المسلمين في معركة (بدر) بمعنويتهم في حادثة (حمراء الأسد) التي مرّ تفصيلها، أمر يدعو إلى الإعجاب لدى المرء، إذ كيف استطاعت جماعة منكسرة لا تملك المعنوية العالية، ولا العدد البشري الكافي، مع ما يحمل أفرادها من الجراحات الثقلية والإصابات الفادحة أن تغير ملامحها في مدّة قد لا تزيد على يوم وليلة، فتستعد وعلى درجة عالية من العزم والإرادة لطلب العدو وملاحقته، ومواجهته مرة أخرى إلى درجة أن القرآن الكريم يقول عنهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ثمّ استقاموا وصمدوا.
8. هذا هو أثر الإيمان بالهدف، فكلّما ازدادت مصائب الإنسان المؤمن وازدادت مشكلاته ازدادت استقامته، وتضاعف ثباته، وشحذت عزيمته، وفي الحقيقة تهيأت كل قواه المعنوية والمادية وتعبأت لمواجهة الخطر.
9. إن هذا التغير العجيب، وهذا التحول السريع والعظيم في مثل هذه المدّة القصيرة يوقف الإنسان على مدى سرعة تأثير التربية القرآنية وعمقها، ومدى فاعلية البيان النبوي الأخّاذ الذي يكاد يكون معجزة.
10. ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة (حمراء الأسد)، ولفظة (ذلكم) إشارة إلى الذين كانوا يخوفون المسلمين من قوّة قريش، وبأس جيشهم لإضعاف معنويات المسلمين، وعلى هذا الأساس يكون معنى هذه الآية هو: إن عمل نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان، يعني أن هذه الوساوس إنما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصّة، وأمّا المؤمنون الثابتون فلا تزل أقدامهم لهذه الوساوس مطلقا، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبدا، وعلى هذا الأساس فأنتم لستم من أولياء الشيطان، فلا تخافوا هذه الوساوس، ويجب أن لا تزلزلكم أو تزعزع إيمانكم.
11. إنّ التّعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم بـ (الشّيطان) إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان ومستلهم منه ومأخوذ من وحيه، لأن القرآن يسمّي كل عمل قبيح وفعل مخالف للدين عمل شيطاني، لأنه يتم بوسوسته، ويصدر عن وحيه إلى أتباعه، وإمّا أن المقصود من الشّيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون (هذا المورد) من الموارد التي يطلق فيها اسم (الشّيطان) على المصداق الإنساني له، لأن للشيطان معنى وسيعا يشمل كل غاو مضل، إنسانا كان أم غير إنسان كما نقرأ في سورة الأنعام الآية، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
12. ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام الآية: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني أن الإيمان بالله والخوف من غيره لا يجتمعان، وهذا كقوله سبحانه في موضع آخر: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾، وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير الله كان ذلك دليلا على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأنّنا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى الله الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته، وأساسا لو أن المؤمنين قارنوا وليهم (وهو الله سبحانه) بولي المشركين والمنافقين (الذي هو الشيطان) لعلموا أنّهم لا يملكون تجاه الله أية قدرة، ولهذا لا يخافونهم قيد شعرة، وخلاصة هذا الكلام ونتيجته هي أنّ الإيمان أينما كان، كانت معه الشجاعة والشهامة، فهما توأمان لا يفترقان.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/6.
94. المسارعون للكفر ومصيرهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈94⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 176 ـ 177]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ هم كفار قريش(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ٢/١٣٩.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ كان رجل من اليهود قتل رجلا من أهل بيته، فقالوا لحلفائه من المسلمين: سلوا محمدا، فإن كان يقضي بالدية اختصمنا إليه، وإن كان يأمر بالقتل لم نأته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ هم المنافقون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ هم الكافرون(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥٨.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿اشْتَرَوْا﴾، أي: استحبوا الضلالة على الهدى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ معناه نصيب(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ يعني: المشركين يوم أحد، ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ لن ينقصوا الله شيئا من ملكه وسلطانه لمسارعتهم في الكفر، وإنما يضرون أنفسهم بذلك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ يعني: نصيبا في الجنة، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه يعنيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ يعني: باعوا الإيمان بالكفر، ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ﴾ يعني: لن ينقصوا الله من ملكه وسلطانه ﴿شَيْئًا﴾ حين باعوا الإيمان بالكفر، إنما ضروا أنفسهم بذلك، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني: وجيع(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣١٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: المنافقين، ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: موجع(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم، وقد ظاهر أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول الله لرسوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ مظاهرتهم عليك؛ فإن الله ينصرك؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم.
ب. ويحتمل ـ أيضا ـ وجها آخر: وهو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يشتد عليه كفرهم بالله، ويحزن لذلك، كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]؛ فيخرج قوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ مخرج تسكين الحزن، ودفعه عنه، والتسلّى عن ذلك، لا مخرج النهي؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع، وكقوله تعالى: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]: هو على مخرج التسكين والدفع عنه، لا على النهي؛ فكذلك الأول: والله أعلم ـ وكقوله تعالى لأم موسى عليه السلام: ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ [القصص: 7]
2. قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل قوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ أي: لن يضروا أولياء الله عزّ وجل إنما ضرر ذلك عليهم، كقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105]
ب. ويحتمل: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ لأنه ليس لله في فعلهم وعملهم نفع، ولا في ترك ذلك عليه ضرر؛ إنما المنفعة في عملهم لهم، والضرر في ترك عملهم عليهم.
3. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ هذه الآية تنقض على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ قولهم؛ لأن الله تعالى يقول: أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظا؛ والمعتزلة يقولون: بل أراد أن يجعل لهم حظّا في الآخرة؛ إذ يقولون: أراد لهم الإيمان، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان، والآية في قوم خاص علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا؛ فأراد ألا يجعل لهم حظّا في الآخرة، ولو كان على ما تقوله المعتزلة: بأنه أراد أن يجعل لهم حظّا في الآخرة ـ لما أراد لهم أن يؤمنوا، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم: أراد الله ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة، وذلك جور عندهم، وبالله التوفيق.
4. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وذكر مرة: ﴿أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 177] ومرة: ﴿شَدِيدٌ﴾ [آل عمران: 4]؛ لأن التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه؛ لذلك أوعد بها في الغائب، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها، فنعوذ بالله من ذلك.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم، ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ ما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/537.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي المنافقون ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي يريد في الآخرة يحرمهم ثوابهم لإحباط إيمانهم بكفرهم ويجوز أن المراد يريد أن يحبط أعمالهم بما استحقوا من ذنوبهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/159.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: هم المنافقون، وهو قول مجاهد وابن إسحاق.
ب. الثاني: قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام.
2. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ في إرادته لذلك ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن يحكم بذلك.
ب. الثاني: معناه أنه سيريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط إيمانهم بكفرهم.
ج. الثالث: يريد أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم، وهذا قول ابن إسحاق.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/439.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
آية 176]
1. قرأ نافع في جميع القرآن (يحزنك) ـ بضم الياء ـ إلا قوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾، الباقون بفتح الياء في جميع القرآن، وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع، فإنه فتح في جميع القرآن إلا قوله (لا يحزنهم) فإنه ضم الياء وحكي البلخي عن ابن أبي محيص الضم في الجميع.
2. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ قال سيبويه: تقول: فتن الرجل، وفتنته، وحزن، وحزنته، وزعم الخليل أنك حيث قلت فتنته، وحزنته، لم ترد أن تقول: جعلته حزيناً وجعلته فاتناً، كما انك حين قلت: أدخلته جعلته داخلا، ولكن أردت أن تقول: جعلت فيه حزناً، وفتنة، فقلت فتنته كما قلت كحلته أي جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه دهناً، فجئت بفعلتهـ على حدهـ ولم ترد بفعلته هاهنا نفس قولك حزن وفتن ولو أردت ذلك لقلت أحزنته وأفتنته، وفتن من فتنته مثل حزن من حزنته قال وقال بعض العرب: أفتنت الرجل وأحزنته إذا جعلته حزينا، وفاتناً، فغيره إلى أفعل ـ هذا حكاه أبو علي الفارسي حجة لنافع ـ وقال قوله: (لا يحزنهم) إنما ضم على خلاف أصله لعله اتبع أثراً أو أحب الأخذ بالوجهين:
3. المعني بقوله: ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾:
أ. على قول مجاهد وابن إسحاق: المنافقون.
ب. وفي قول أبي علي الجبائي: قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام.
4. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ والارادة لا تتعلق بألا يكون الشيء، وإنما تتعلق بما يصح حدوثه؟ والجواب:: عنه جوابان:
أ. أحدهما: قال ابن إسحاق: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من المعاصي والكبائر.
ب. الثاني: ان الله يريد أن يحكم بحرمان ثوابهم الذي عرضوا له بتكليفهم، وهو الذي يليق بمذهبنا(2)، لأن الإحباط عندنا ليس بصحيح.
5. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾، وهذا إخبار عن كونه مريداً في حال الاخبار، وإرادة الله تعالى لعقابهم تكون يوم القيامة، وتقديمها على وجه يكون عزماً وتوطيناً للنفس لا يجوز عليه تعالى؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: قال أبو علي: معناه أنه سيريد في الآخرة حرمانهم الثواب، لكفرهم الذي ارتكبوه.
ب. الثاني: أن الارادة متعلقة بالحكم بذلك، وذلك حاصل في حال الخطاب، وقال الحسن: يريد بذلك فيما حكم من عدله.
6. ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي يبادرون إليه:
أ. والسرعة وإن كانت محمودة في كثير من المواضع، فإنها مذمومة في الكفر، والعجلة مذمومة على كل حال إلا في المبادرة إلى الطاعات.
ب. وقيل: إن العجلة هي تقديم الشيء قبل وقته، وهي مذمومة على كل حال، والسرعة فعل لم يتأخر فيه شيء عن وقته، ولا يقدم قبله.
7. ثم بين تعالى أنهم لمسارعتهم إلى الكفر لا يضرون الله شيئا، لأن الضرر يستحيل عليه تعالى، وإنما يضرون أنفسهم بأن يفوتوا نفوسهم الثواب، ويستحقوا العظيم من العقاب، ففي الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يناله من الغم باسراع قوم إلى الكفر بأن وبال ذلك عائد عليهم، ولا يضرون الله شيئاً.
8. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ استأنف الله تعالى بهذه الآية الاخبار بأن من اشترى الكفر بالإيمان بمعنى استبدل الكفر بالإيمان، وقد بينا فيما مضى أن تسمية ذلك شراء مجاز لكن لما فعلوا الكفر بدلا من الايمان شبه ذلك بشراء السلعة بالثمن وبين أن من فعل ذلك لا يضر الله شيئاً، لأن مضرته عائدة عليه على ما بيناه.
9. إنما كرر ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ في هذه الآية، فأنه ذكر في الآية الأولى: على طريقة العلة ـ لما يجب من التسلية عن المسارعة إلى الضلالة، وذكر في هذه الآية على وجه العلة لاختصاص المضرة للعاصي دون المعصى، والفرق بين المضرة والاساءة أن الاساءة لا تكون إلا قبيحة، والمضرة قد تكون حسنة إذا كانت لطفاً، أو مستحقة أو فيها نفع يوّفى عليها أو دفع ضرر أعظم منها كفعل العقاب، وضرب الصبي للتأديب، وغير ذلك.
﴿شَيْئًا﴾ نصب على أنه وقع موقع المصدر، وتقديره (لن يضروا الله شيئا) من الضرر، ويحتمل أن يكون نصباً بحذف الباء كأنه قال بشيء مما يضرّ به، كما يقول القائل: ما ضررت زيداً شيئاً من نقص مال، ولا غيره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/56.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحزن والغم من النظائر.
ب. الشراء والاستبدال من النظائر غير أن كل شراء استبدال، وليس كل استبدال شراء، كمن يستبدل أجيرًا بأجير.
2. أَمَّنَ الله تعالى المؤمنين من ضرر الكفار وكيدهم، وبيّن أن ضرر كفرهم عائد عليهم، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ أي لا يغمنك ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾:
أ. قيل: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار عن مجاهد وابن إسحاق.
ب. وقيل: هم قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام تقربًا إلى عبدة الأوثان عن أبي علي.
ج. وقيل: هم كفار قريش عن الضحاك.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾:
أ. قيل: يعني كفرهم ومسارعتهم فيه غير ضار بِاللهِ تعالى؛ لأنه تعالى يتعالى عن المنافع والمضار، وإنما ضرره عائد عليهم؛ لأنه تعالى يظهر دينه ويخزيهم.
ب. وقيل: لن يضروا دين الله شيئًا؛ لأنه تعالى ضمن حفظ دينه، ويظهره على الأديان.
ج. وقيل: تظاهرهم لا يضر شيئًا؛ لأنه مهلكم عن الأصم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾:
أ. قيل: يريد إحباط أعمالهم بما استحقوه من العقاب على إجرامهم عن ابن إسحاق.
ب. وقيل: يريد أن يحكم بحرمانهم عن الثواب لأجل كفرهم.
5. لا يصح أن يقال إن قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ المراد به لا يريد أن يجعل لهم ثوابًا لوجهين:
أ. أحدهما: أن الإرادة لا تتقدم المراد بكثير من الأوقات.
ب. الثاني: أن الإرادة لا تتعلق بألا يفعل، وقيل: أراد أنه يريد ذلك فيما حكم به، عن الحسن، قال أبو علي: سيريد في الآخرة حرمانهم من الثواب.
6. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لا نهاية له في الشدة والعظم.
7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ﴾ استبدلوا الكفر ﴿بِالْإِيمَانِ﴾ يعني اختاروا الكفر وتركوا الإيمان، وذكر الشراء توسعًا، وقيل: إنما ذكر الشراء لأنهم ارتدوا، وقيل: نافقوا ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾؛ قيل: إن ضرر فعلهم لا يعود عليه تعالى بل يعود عليهم.
8. إنما كرر ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾:
أ. لأنه ذكر الأول تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، والثاني لأن ضرره عائد عليهم.
ب. وقيل: بل ذكره تأكيدًا عن أبي مسلم.
9. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي موجع.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن على الرسول الدعاء وليس عليه الاغتمام بأمرهم.
ب. أن ضرر كفرهم عائد عليهم، وكذلك كل عمل، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ.
ج. أن المسارعة والشراء فِعْلُهم، فيبطل قولهم في المخلوق، ولا حجة لهم في قوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ لأنا نقول: إنه تعالى يريد عقابهم جزاء على كفرهم ولا يريد إثابتهم، وإنما كان لهم حجة لو قال: يريد الله كفرهم.
11. قراءات ووجوه:
أ. قرأ نافعِ ﴿يَحْزُنْكَ﴾ بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع ما في القرآن، إلا قوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ في الأنبياء فإنه بفتح الياء وضم الزاي، وقرأ أبو جعفر على الضد من ذلك [و] الباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي، وهما لغتان حَزَنَ يَحزُن كنصر ينصر، وأحْزَن يُحزِن، مثل أكرم يكرم، إلا أن اللغة العالية حَزَنَ يَحزُن، قال الشاعر: مضى صحبي وأحزنني الرباب.
ب. قراءة العامة ﴿يُسَارِعُونَ﴾، وعن طلحة بن مصرف: يُسْرِعُون.
12. في نصب قوله: ﴿شَيْئًا﴾ قولان:
أ. قيل: إنه وقع موقع المصدر، كأنه قيل: لن يضروا الله شيئًا من الضرر.
ب. وقيل: بحذف الباء، تقديره: لن يضروا الله بشيء مما يُضَرُّ به، كقولك: ما ضررت زيدا شيئًا من مال ولا غيره.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/468.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما علم الله تعالى المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إياهم، خص رسوله بضرب من التعليم في هذه الآية فقال: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ أيها الرسول ﴿الذين يسارعون قي الكفر﴾:
أ. يعني المنافقين، عن مجاهد، وابن إسحاق.
ب. وقوما من العرب، ارتدوا عن الاسلام، عن أبي علي الجبائي.
2. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ بكفرهم ونفاقهم وارتدادهم، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المنافع والمضار، وإنما قال ذلك:
أ. على جهة التسلية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه كان يصعب عليه كفر هؤلاء، ويعظم عليه امتناعهم عن الإيمان.
ب. ولا يبعد أنه ربما كان يخطر بباله أن مسارعتهم إلى الكفر، وامتناعهم عن الإيمان، لتفريط حصل من قبله، فأمنه الله من ذلك، وأخبر أن ضرر كفرهم راجع إليهم، ومقصور عليهم.
3. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي: نصيبا في الجنة، وإذا كانت الإرادة تتعلق بما يصح حدوثه، ولا يتعلق بأن لا يكون الشيء، فلا بد من حذف في الكلام، ومعناه: إنه يريد أن يحكم بحرمان ثوابهم الذي عرضوا له في تكليفهم، وأن يعاقبهم في الآخرة على سبيل الجزاء، لكفرهم ونفاقهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هذا ظاهر المعنى، وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة، لأنه تعالى نسب إليهم المسارعة إلى الكفر، وإذا كان ذلك قد خلقه فيهم، فكيف يصح نسبته إليهم؟
4. ثم استأنف تعالى الإخبار بأن من اشترى الكفر بالإيمان، وهم جميع الكفار بهذه الصفة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: استبدلوا الكفر بالإيمان، وقد بينا فيما تقدم أن إطلاق لفظ الشراء على ذلك مجاز وتوسع، وإنما شبه استبدالهم الكفر بالإيمان بشراء السلعة بالثمن.
5. ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ إنما هذا لأنه إنما ذكر ذلك في الآية الأولى على طريقة العلة لما يجب من التسلية عن المسارعة إلى الضلالة، وذكر في هذه الآية على وجه العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي، والفرق بين المضرة والإساءة أن الإساءة لا تكون إلا قبيحة، والمضرة قد تكون حسنة إذا كانت مستحقة، أو على وجه اللطف، أو فيها نفع يوفي عليها، أو دفع ضرر أعظم منها.
6. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم.
7. قرأ نافع في جميع القرآن ﴿يَحْزَنَّ﴾ بضم الياء وكسر الزاي إلا قوله ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ فإنه فتحها وضم الزاي، وقرأ الباقون في جميع القرآن بفتح الياء وضم الزاي، وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع، فإنه فتح الياء في جميع القرآن، إلا قوله ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ﴾ فإنه ضم الياء.. قال أبو علي: قال سيبويه تقول: فتن الرجل وفتنته، وحزن الرجل وحزنته، وزعم الخليل أنك حيث قلت فتنته وحزنته، لم ترد أن تقول جعلته حزينا، وجعلته فاتنا، كما أنك حين تقول: أدخلته جعلته داخلا، ولكنك أردت أن تقول: جعلت فيه حزنا وفتنة، كما تقول: كحلته جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه دهنا، فجئت بفعلته على حدة، ولم ترد بفعلته ها هنا تغيير قولك حزن وفتن، ولو أردت ذلك لقلت: أحزنته وأفتنته قال: وقال بعض العرب: أفتنت الرجل وأحزنته: إذا جعلته فاتنا وحزينا، فغيروا فعل، قال أبو علي: فهذا الذي حكيته عن بعض العرب حجة نافع، فأما قراءة (لا يحزنكم الفزع الأكبر): فيشبه أن يكون اتبع فيه أثرا وأحب الأخذ بالوجهين.
8. قوله ﴿شَيْئًا﴾: نصب على أنه وقع موقع المصدر، ويحتمل أن يكون نصبا بحذف الباء، كأنه قال: بشئ مما يضر به، كما يقال: ما ضررت زيدا شيئا من نقص مال، ولا غيره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/891.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾، قرأ نافع (يحزنك) (ليحزنني) (ليحزن) بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في (الأنبياء) ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ﴾، فإنه فتح الياء، وضمّ الزاي، وقرأ الباقون كلّ ما في القرآن بفتح الياء وضمّ الزّاي، قال أبو عليّ: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثرا، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين.
2. في الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم المنافقون، ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: المنافقون، قاله مجاهد.
ج. الثالث: كفّار قريش، قاله الضّحّاك.
د. الرابع: قوم ارتدّوا عن الإسلام، ذكره الماورديّ.
3. ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفّار، ونصرهم إيّاهم.
4. سؤال وإشكال: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ والجواب: لا يحزنك فعلهم، فإنّك منصور عليهم.
5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: لن يضرّوا أولياء الله شيئا، قاله عطاء.
6. قال ابن عباس: والحظّ: النّصيب، والآخرة: الجنّة، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في النّار.
7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾، قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء.
__________
(1) زاد المسير: 1/351.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ على وجوه:
أ. الأول: أنها نزلت في كفار قريش، والله تعالى جعل رسوله آمناً من شرهم، والمعنى: لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، فإنهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله، ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا، وإذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك ويعلو شأنك.
ب. الثاني: أنها نزلت في المنافقين، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر، أو بسبب أنهم كانوا يقولون إن محمداً طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام، فكان الرسول يحزن بسببه.
ج. الثالث: قال بعضهم: إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك السبب، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك، قال القاضي: ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور:
• الأول: أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان.
• الثاني: أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أحبط.
• الثالث: أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود، فلما قدر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الانتفاع بإيمانهم، ثم كفروا حزن صلّى الله عليه وآله وسلّم عند ذلك لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
د. الرابع: أن المراد رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لمتاع الدنيا، قال القفال: ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة: 41] فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار.
2. قرأ نافع (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الأنبياء: 103] في سورة الأنبياء، فإنه فتح الياء وضم الزاي، والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي، قال الأزهري: اللغة الجيدة: حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء، وحجة نافع أنهما لغتان يقال: حزن يحزن كنصر ينصر، وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان.
3. سؤال وإشكال: الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهى الله عن الطاعة؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8]
ب. الثاني: أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك، ألا ترى إلى قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
4. ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً، وقال عطاء: يريد: لن يضروا أولياء الله شيئاً.
5. في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ رد على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ وتنصيص على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، قال القاضي: المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به، وهذا الجواب ضعيف من وجهين:
أ. الأول: أنه عدول عن الظاهر.
ب. الثاني: بتقدير أن يكون الأمر كما قال لكن الإتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الأشكال.
6. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: الارادة لا تتعلق بالعدم، وقال أصحابنا ذلك جائز، والآية دالة على قول أصحابنا(2) لأنه قال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم، قال المعتزلة: المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال: ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] قلنا: هذا عدول عن الظاهر.
7. الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم، إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية، ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لا حظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة.
8. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم، أنهم كانوا يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم، فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
9. قال الله تعالى في الآية الأولى: ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 176]، وقال في هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ والفائدة في هذا التكرار أمور:
أ. أحدها: أن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له ألبتة على إلحاق الضرر بالغير.
ب. ثانيها: أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم، فأمثال هؤلاء لا يلتفت العاقل إليهم.
ج. ثالثها: ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين، لا بناء على الشبهات، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا، ومن كان عقله هذا القدر، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/437.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدوا خوفا من المشركين، فاغتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾، وقال الكلبي: يعني به المنافقين ورؤساء اليهود، كتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الكتاب فنزلت، ويقال: إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل كتاب، فلو كان قوله حقا لاتبعوه، فنزلت ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾
2. قراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع إلا في ـ الأنبياء ـ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ فإنه بفتح الياء وبضم الزاي، وضده أبو جعفر، وقرا ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي، والباقون كلها بفتح الياء وضم الزاي، وهما لغتان: حزنني الأمر يحزنني، وأحزنني أيضا وهي لغة قليلة، والأولى أفصح اللغتين، قاله النحاس، وقال الشاعر في أحزن: (مضى صحبي وأحزنني الديار)
3. قراءة العامة ﴿يُسَارِعُونَ﴾، وقرأ طلحة (يسرعون في الكفر)، قال الضحاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون، وقيل: هو ما ذكرناه قبل، وقيل: هو عام في جميع الكفار، ومسارعتهم في الكفر المظاهرة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر] وقال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف]، ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ أي لا ينقصون من ملك الله وسلطانه شيئا، يعني لا ينقص بكفرهم، وكما روي عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما روى عن الله تعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، خرجه مسلم في صحيحه والترمذي وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه طول يكتب كله، وقيل: معنى لن يضروا الله شيئا) أي لن يضروا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله تعالى ناصرهم.
4. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي نصيبا، والحظ النصيب والجد، يقال: فلان أحظ من فلان، وهو محظوظ، وجمع الحظ أحاظ على غير قياس، قال أبو زيد: يقال رجل حظيظ، أي جديد إذا كان ذا حظ من الرزق، وحظظت في الأمر أحظ، وربما جمع الحظ أحظا، أي لا يجعل لهم نصيبا في الجنة، وهو نص في أن الخير والشر بإرادة الله تعالى.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ تقدم في البقرة، ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ كرر للتأكيد، وقيل: أي من سوء تدبيره استبدال الإيمان بالكفر وبيعه به، فلا يخاف جانبه ولا تدبيره، وانتصب ﴿شَيْئًا﴾ في الموضعين لوقوعه موقع المصدر، كأنه قال: لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا، ويجوز انتصابه على تقدير حذف الباء، كأنه قال: لن يضروا الله بشيء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/281.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾: قرأ نافع: بضم الياء وكسر الزاي، وقرأ ابن محيصن بضم الياء والزاي، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الزاي، وهما لغتان، يقال: حزنني الأمر وأحزنني، والأول أفصح، وقرأ طلحة: ﴿يُسَارِعُونَ﴾ قيل: هم قوم ارتدّوا، فاغتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لذلك، فسلاه الله سبحانه، ونهاه عن الحزن، وعلل ذلك: بأنهم لن يضروا الله شيئا، وإنما ضروا أنفسهم، بأن لاحظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم؛ وقيل: هم كفار قريش، وقيل: هم المنافقون؛ وقيل: هو عام في جميع الكفار، قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفرط في الحزن، فنهي عن ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾
2. عدى يسارعون بفي دون إلى، للدلالة: على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته، ومثله: يسارعون في الخيرات.
3. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ تعليل للنهي؛ والمعنى: أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئا؛ وقيل: المراد لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد: لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده، وشيئا: منصوب على المصدرية، أي: شيئا من الضرر؛ وقيل: منصوب بنزع الخافض، أي: بشيء، والحظ: النصيب، قال أبو زيد: يقال: رجل حظيظ، إذا كان ذا حظّ من الرزق؛ والمعنى: أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا في الجنة، أو نصيبا من الثواب، وصيغة الاستقبال: للدالة على دوام الإرادة واستمرارها.
4. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائدا عليهم، جالبا لهم عدم الحظ في الآخرة، ومصيرهم في العذاب العظيم.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: استبدلوا الكفر بالإيمان، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ معناه: كالأول، وهو للتأكيد لما تقدمه؛ وقيل: إن الأول: خاص بالمنافقين، والثاني يعم جميع الكفار، والأول أولى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/462.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله، وقرئ في السبع ﴿يَحْزُنْكَ﴾ بضم الياء وكسر الزاي ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ قال عطاء: يريد أولياء الله، نقله الرازيّ، قال أبو السعود: تعليل للنهي، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدا، أي لن يضروا بذلك أولياء الله البتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه، وفيه مزيد مبالغة في التسلية، وقال المهايميّ: أي لن يضروا أولياء الله، لأنهم يحميهم الله، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئا بل ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ أن يضرهم الضرر الكليّ وهو ﴿أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي نصيبا من الثواب في الآخرة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ قال المفسرين: ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ أي استبدلوا ﴿الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم، كأنه قيل: وإنما يضرون أنفسهم، فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه، إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل، كما هو حال المرتدين، أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده، ببيان علته، بتغيير عنوان الموضوع، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا كيف وهو علم في الخسران الكليّ، والحرمان الأبديّ، دال على كمال سخافة عقولهم، وركاكة آرائهم، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم، ورزانة الرأي، ورصانة التدبير، من مضارة حزب الله تعالى، وهي أعز من الأبلق الفرد، وأمنع من عقاب الجو، وإن أجرى الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس، كما هو دأب جميع الكفرة، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريرا للقواعد الكلية، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام ـ أفاده أبو السعود ـ ثم قال وقوله تعالى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم، بذكر غاية إيلامه، بعد ذكر نهاية عظمه، قيل: لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة، وبتألمه عند كونها خاسرة، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/463.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يُحْزِنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إِلَى الكفر، أو ضُمِّن (يُسَارِعُونَ) معنى يقعون، فعُدِّي بـ (فِي) إشارةً إِلَى الرسوخ، مثل: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: 90]، وَهَذَا تسلية لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم عَلَى تعنُّتهم في الكفر، وتعرُّضهم له بالأذى، والمراد: يسارعون في زيادة الكفر، وزيادته كفر كلَّما عنَّ لهم أمر كفر دخلوه، أو هم المنافقون كلَّما خلوا أظهروا ما أبطنوا من الشرك، أو كلَّما تُخُيِّل غلبة المشركين عَلَى المؤمنين أظهروا الشرك معاونة للمشركين، أو يسارعون من الإيمان إِلَى الشرك، عَلَى أنَّهم قوم أسلموا، ثمَّ ارتدُّوا سريعا خوفا من قريش، أو المنافقون وطائفة من اليهود، كما ذكروا معًا في قوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الرَّسُولُ لَا يُحْزِنكَ﴾ إلخ [المائدة: 41]، والمراد ـ والله أَعلم ـ لا تحزن عَلَى ما فاتك من نصرهم لك عَلَى المشركين، ولا عَلَى واقِعٍ من إعانتهم لهم.
2. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَّضُرُّواْ﴾ بمسارعتهم للكفر، ﴿اللهَ﴾ أولياءه، ﴿شَيْئًا﴾ أي: ضرًّا، أو بشيء ما، ولا يبطلون دينه، وإنَّما ضرُّوا أنفسهم بذلِّ الدنيا وعذاب الآخرة وفوت نعيمها.
3. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا﴾ نصيبا، ﴿فِي الَاخِرَةِ﴾ من نعيمها، مع أنَّه أرحم الراحمين، لمزيد كفرهم ومسارعتهم إِلَيهِ وإصرارهم، بل كفرهم ومسارعتهم إِلَيهِ خذلان لهم، إذ لم يرد الله لهم حظًّا في الآخرة، ولا أثر لشيء إِلَّا بالله، ولا يكون في الوجود شَيء إِلَّا بإرادة الله تعالى ومشيئته، مِن كفرٍ وإيمانٍ وغيرهما، وإرادته ومشيئته لا تتبدَّلان، بخلاف حبِّه وبغضه إذا كانا بمعنى أمره بالشيء ونهيه عن الشيء، فإنَّه يحبُّ الشيء، أي: يأمر به، ولا يفعله عاص، ويبغض الشيء، أي: ينهى عنه، ويفعله عاص، وأمَّا حبُّه بمعنى إثابتِه أو مدحِهِ، وبُغضُه بمعنى عقابِهِ أو ذمِّهِ فلا يتخلَّفان، وبطل بالآيَةِ قول المعتزلة: إنَّ الله أراد الإيمان والطاعة للعاصي، وإنَّما يريدهما لفاعلهما، والآيَة في قوم أشقياء، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عَلَى تلك المسارعة الحقيرة في النار.
4. ﴿اِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ﴾ استبدلوه ﴿بِالاِيمَانِ لَنْ يَّضُرُّواْ﴾ بكفرهم ﴿اللهَ﴾ أولياءه من النبيء والأصحاب وغيرهم، ﴿شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ الآيَة تأكيد للتي قبلها، أو الأولى في المنافقين المتخلِّفين عن أُحد وأشياعهم والمرتدِّين، والثانية لعموم الكفرة، أو الأولى في المرتدِّين والمتخلِّفين، والثانية في المنافقين، أو الأولى المنافقون أو من ارتدَّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/65.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان ما كان من فوز المشركين في أحد وما أصاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المؤمنين، أظهر بعض المنافقين كفرهم وقالوا لو كان محمدا نبيا ما قتل وغير ذلك مما سبق نقل بعضه، وما سارع هؤلاء في إظهار ما يسرون من الكفر وتثبيط المؤمنين عن نصر الإيمان إلا لظنهم أن المسلمين قد قضي عليهم، وقد كان هذا مما يحزن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان من تسلية التنزيل له في هذا السياق قوله عز وجل: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ كما كان يسليه عما يحزنه من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه صلّى الله عليه وآله وسلّم كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [يونس 65] وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6] وقوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8] أو المراد من السياق تسليته صلّى الله عليه وآله وسلّم عما ساءه وحزنه من اهتمام المشركين بنصرة شركهم ومعاودتهم للقتال بعد أحد في حمراء الأسد أو بدر الصغرى لولا خذلان الله لهم.
2. روي القول بتفسير ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ بالمنافقين عن مجاهد وكذا قال في ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ في الآية التالية لهذه الآية، وقيل هم المرتدون خاصة، وروي عن الحسن أن ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ هم الكفار قالوا المسارعة فيه هي الوقوع فيه سريعا، وقال محمد عبده: المسارعة في الكفر هي المسارعة في نصرته والاهتمام بشؤونه والإيجاف في مقاومة المؤمنين، وما كل كافر يسارع في الكفر فإن من الكافرين القاعد الذي لا يتحرك لنصرة كفره ولا لمقاومة المخالف له فيه، والمسارعون المعنيون هنا هم أولئك النفر من المشركين كأبي سفيان ومن كان معه من صناديد قريش، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم المنافقون ورووا في ذلك روايات في سبب النزول، وإنما يأتي هذا لو قال: ﴿يسارعون إلى الكفر﴾
3. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ أي إنهم لا يحاربونك فيضروك بذلك وإنما يحاربون الله تعالى ولا شك في ضعف قوتهم وعجزها عن مناوأة قوته عز وجل فهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم.. وقد بين هذا بقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي إنهم على حالة من فساد الفطرة تقتضي حرمانهم من نعيم الآخرة بسنة الله وإرادته فلا نصيب لهم فيها ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فوق عذاب الحرمان من نعيمها ولم يقيد هذا العذاب بكونه في الآخرة فهو أعم كما هو ثابت وقوعا ونقلا بمثل قوله تعالى في المنافقين: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: 101] فقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ تعليل للنهي عن الحزن وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ بيان لكونهم يضرون أنفسهم ولا يضرونه تعالى، وجعله محمد عبده تعليلا آخر، إذ قال ما مثاله: فإن كنت تحزن عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم لأن النور بين أيديهم وهم لا يبصرون، والهداية قد أهديت إليهم وهم لا يقبلون، وتطمع في هدايتهم وترجوها وكلما رأيت منهم حركة جديدة في الكفر، حدث لك حزن جديد ـ فعليك ألا تحزن أيضا.
4. هذا ما عندي عن محمد عبده وتركت بياضا في دفتر المذكرات عنه لأتم فيه ما قاله ثم نسيته، ولعل معناه أن هؤلاء ممن طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلم يبق في نفوسهم استعداد ما للإيمان فلا مساغ للحزن من حالهم، ولكن هذا لا ينطبق إلا على من ماتوا على الكفر، فالأظهر أن الآية في مردة المنافقين وإلا فهي في مجموع من كان مع أبي سفيان لا جميعهم، والقول الأول أشد اتفاقا مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قالوا إن الآية تكرير للتأكيد وتعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين عن القتال أو المرتدين من الأعراب، وقال محمد عبده: أعاد المعنى وعممه وأكده بهذه الآية، هو في بادي الرأي تكرار ليس فيه زيادة فائدة.
6. من فقه الآيتين علم أن تلك في المسارعين في الكفر وهذه في الذين اشتروا الكفر بالإيمان، أي اختاروه ورضوا به كما يرضى المشتري أن يرى ما أخده أنفع له مما بذله، فهذا الوصف أعم من الأول، كأنه يقول إن أولئك الكفار الذين تراهم يسارعون في نصرة الكفر وتعزيزه والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله لا شأن لهم، ولا يستحقون أن تهتم بأمرهم، فإنهم إنما يحاربون الله ويغالبونه والله غالب على أمره، فلا يقدر أحد على ضره، ثم لا ينبغي أن تحزن عليهم أيضا لأنهم محرومون من رضوان الله، فلما بين هذا كان مما يمكن أن يخطر في البال أنه حكم خاص بالذين يسارعون في الكفر فبين في هذه الآية أنه عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان فاستبدله به، ففي إعادة العبارة بهذا الأسلوب فائدتان:
أ. إحداهما أن فيها قسما من الكافرين لم يذكروا في الآية الأولى.
ب. والثانية أن فيها مع تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بيانا لحال من أحوالهم يدل على سخافتهم وضعف عقولهم إذ رضوا بالكفر واختاروه وحسبوه منفعة وفائدة، فكأنه يقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم فيخاف منهم أو يحزن عليهم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/248.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان من فوز المشركين في أحد ما كان، وأصاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين شيء كثير من الأذى ـ أظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن، فنزلت هذه الآيات تسلية له، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه صلّى الله عليه وآله وسلّم كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾
2. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم، والإيجاف في مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل، ومن التثبيط للعزائم، والنيل من نبيهم ودعوته، وتأليب المشركين عليهم، إلى نحو ذلك مما يدور في خلد العدو لإيذاء عدوه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾، وتوجيه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.
3. ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ أي إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحبه، شيئا من الضر، فعاقبة هذه المسارعة في الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وفي جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة في تسليته صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك في الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله وإرادته، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره.
5. وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله والله غالب على أمره ـ أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا، فلن يضروا الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره، وفي هذا إيماء إلى شيئين:
أ. تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شيء مما يحتاج إلى أصالة الرأي وقوة التدبير.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/139.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب، إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن، من مسارعة الكفار إلى الكفار، ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئا، وإنما هي فتنة الله لهم، وقدر الله بهم، فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة؛ فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولا لهم، فآثروا عليه الكفر؛ فتركوا يسارعون في الكفر، وأملي لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء، فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء.
2. ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها: من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين، إنها تمييز الخبيث من الطيب، بالاختبار والابتلاء، فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به، ولا يطلع الناس عليه، فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر، وبالوسيلة التي يدركها البشر.. فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين، ليتكشف المخبوء في القلوب، ويتميز الخبيث من الطيب؛ ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين.
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة؛ والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة.. فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور؛ أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب، أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل، ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة، ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة! هناك دائما الشبهة الكاذبة، أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولما ذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل، ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة، وفيها فتنة للقلوب وهزة!؟ ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب: ﴿أَنَّى هَذَا﴾
3. ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير، والبيان الأخير، ويريح الله القلوب المتعبة، ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله: أمس واليوم وغدا وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية: إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك، وبقاءه منتفشا فترة من الزمان، ليس معناه أن الله تاركه، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب، أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا، وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان، ليس معناه أن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه، كلا، إنما هي حكمة وتدبير.. هنا وهناك.. يملى للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق؛ وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق!.. ويبتلى الحق، ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. فهو الكسب للحق والخسار للباطل، مضاعفا هذا وذاك! هنا وهناك!
4. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إنه يواسي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره؛ وهو يرى المغالين في الكفر، يسارعون فيه، ويمضون بعنف واندفاع وسرعة، كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه! وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية، فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية؛ كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف، أو من يهتف له من الأمام، إلى جائزة تنال!
5. وكان الحزن يساور قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حسرة على هؤلاء العباد؛ الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار، وهو لا يملك لهم ردا، وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر، من الشر والأذى يصيب المسلمين، ويصيب دعوة الله، وسيرها بين الجماهير، التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية.. فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم، فيطمئن الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويواسي قلبه، ويمسح عنه الحزن الذي يساوره.
6. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا، والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان، إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو؛ وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو، ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعاتق المسلمين جملة.. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله، وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا.. وهم إذن لن يضروا دعوته، ولن يضروا حملة هذه الدعوة، مهما سارعوا في الكفر، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى.
7. إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين، وينتفشون غالبين، وهم أعداؤه المباشرون؟ لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى! ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله؛ وأن يحملوا وزرهم كله، وأن يستحقوا عذابهم كله، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق! ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
8. ولما ذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لقد كان الإيمان في متناول أيديهم، دلائله مبثوثة في صفحات الكون، وفي أعماق الفطرة، وأماراته قائمة في (تصميم) هذا الوجود العجيب، وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في (تصميم) الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان ـ بعد هذا كله ـ قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة، ومن جمال التناسق، ومن صلاحية للحياة والناس.
9. أجل كان الإيمان مبذولا لهم، فباعوه واشتروا به الكفر، على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر، ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة، ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا، فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء، ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا؛ ولم يجعل في الباطل قوة، فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة، مهما انتفشت، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين!
10. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أشد إيلاما ـ بما لا يقاس ـ مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/523.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ عزاء ومواساة للنبي الكريم، لما كان يجد في نفسه من الحزن والألم، حين يرى بعض من دخلوا في الإيمان، وحسبوا في المؤمنين، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام ـ فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم.
2. والرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ، ولكنّ حرصه على هداية الناس، ورغبته الشديدة في استنقاذهم من الضلال في الدنيا، والنار في في الآخرة، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ في النصح لقومه، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده، كما يتعهد الأب صغاره.. ولهذا كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يأسى أشد الأسى، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرؤوس من قومه، ويمسكهم على شفير الهاوية، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير.. ولهذا أيضا كانت كلمات الله تتنزل عليه حينا بعد حين، تدعوه إلى الرفق بنفسه، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه في قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق.. ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، فهؤلاء الذين يسارعون في الكفر هم الخاسرون، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولن يضرّوا الله شيئا.
3. في التعبير بالظرف (في) في قوله تعالى: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ بدلا من (يسارعون إلى الكفر) ما يشير إلى أنهم قد دخلوا في حوزة الكفر فعلا، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم، وهم يتحركون في داخله، ليبلغوا الغاية في الكفر والضلال.
4. في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم، لما في قلوبهم من مرض، وما في كيانهم من فساد، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر في مسيرة الدعوة الإسلامية، وفي انطلاقها إلى المدى الذي أراده الله لها، والخسران في هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم.. ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
5. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في نسبة الإرادة إلى الله هنا إغاظة لهم، بسلب إرادتهم، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له؛ وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم، فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء في نفسه، ويعتزّ به، حتى وهو يركب مراكب الهلاك.. إذ أنه هنا يجد كلمة (أنا حرّ) التي يجد فيها وجوده، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم، وهؤلاء الذين دخلوا في الكفر، دخلوه وكأنهم مكرهون، بلا إرادة، ولا حرية، ولا اختيار.. إنهم ليسوا آدميين، حتى تكون لهم إرادة، وتكون لهم حرية واختيار.
6. في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ وفي تعليق الفعل بالمستقبل، وقد أراده الله ووقع فعلا ـ في هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم، بلا إرادة ولا اختيار، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا.. فليس لهم ـ والأمر كذلك ـ أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم، أو أن يكونوا يوما في وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى:
7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبّوا العمى على الهدى.. وقد توعّدهم اللهـ سبحانهـ في الآية السابقة بالعذاب العظيم، وتوعدهم في هذه الآية بالعذاب الأليم، كما توعدهم في الآية التالية بالعذاب المهين، فجمع لهم أشنع صور العذاب.. العذاب العظيم.. الأليم.. المهين.. العظيم في صورته، الأليم في آثاره الحسيّة، المهين في آلامه النفسية.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/647.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ نهي للرسول عن أن يحزن من فعل قوم يحرصون على الكفر أي على أعماله.
2. معنى ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ يتوغّلون فيه ويعجلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس، فعبّر عن هذا المعنى بقوله: ﴿يُسَارِعُونَ﴾، فقيل: ذلك من التضمين ضمّن يسارعون معنى يقعون، فعدّي بفي، وهي طريقة (الكشاف) وشروحه، وعندي أنّ هذا استعارة تمثيلية: شبّه حال حرصهم وجدّهم في تفكير الناس وإدخال الشكّ على المؤمنين وتربّصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع إلى تحصيل شيء يخشى أن يفوته وهو متوغّل فيه متلبس به، فلذلك عدّي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين، لا طالب الحصول، إذ هو حاصل عندهم ولو عدّي بإلى لفهم منه أنّهم لم يكفروا عند المسارعة، قيل: هؤلاء هم المنافقون، وقيل: قوم أسلموا ثم خافوا من المشركين فارتدّوا.
3. جملة ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم إلى الكفر بعلّة يوقن بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وموقع إنّ في مثل هذا المقام إفادة التعليل، وإنّ تغني غناء فاء التسبّب، كما تقدّم غير مرّة.
4. نفي ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ﴾ مراد به نفي أن يعطّلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدّين كلّه، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك، نهي الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة، وبيّن له أنّهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله، تذكيرا له بأنه وعده بأنّه متمّ نوره، ووجه الحاجة إلى هذا النهي: هو أنّ نفس الرسول، وإن بلغت مرتقى الكمال، لا تعدو أن تعتريها في بعض أوقات الشدّة أحوال النفوس البشرية: من تأثير مظاهر الأسباب، وتوقّع حصول المسبّبات العادية عندها، كما وقع للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر، وهو في العريش، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله، وقرأ الجمهور: يحزنك ـ بفتح الياء وضمّ الزاي ـ من حزنه إذا أدخل عليه الحزن، وقرأه نافع ـ بضم الياء وكسر الزاي ـ من أحزنه.
5. جملة ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة، بعد أن بيّن السلامة من كيدهم في الدنيا والمعنى: أنّ الله خذلهم وسلبهم التوفيق فكانوا مسارعين في الكفر لأنّه أراد أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة، والحظّ: النصيب من شيء نافع.
6. تكرير لجملة ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ قصد به، مع التأكيد، إفادة هذا الخبر استقلالا للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول، وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أنّ مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لموصولها، وتأكيد لقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ المتقدّم، كقول لبيد: (كدخان نار ساطع أسنامها) بعد قوله: (كدخان مشعلة يشبّ ضرامها) مع زيادة بيان اشتهارهم هم بمضمون الصلة.
7. الاشتراء مستعار للاستبدال كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/289.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد كان المشركون بعنادهم المستمر ومقاتلتهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بعد فتنتهم يوغلون في الكفر، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تذهب نفسه عليهم حسرات، فهو لا يخاف منهم، ولكن يشفق، ويتمنى أن يجيئوه مؤمنين، بدل أن يأخذهم مقتولين، ولقد نهاه سبحانه عن الحزن عليهم فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾
2. المعنى لا يحزنك ولا تكن في نفسك حسرة على الذين يسارعون في الكفر أي يوغلون فيه وينتقلون من درجة إلى درجة فينتقلون من الضلال والجحود إلى التضليل ومن التضليل إلى الفتنة ثم القتال، ثم التدبير الخبيث والمكر السيئ.
3. فسر الزمخشري كلمة ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ بمعنى الوقوع فيه سريعا من غير تريث وتدبر وتفكير، والأول عندي أوضح؛ لأن الكلام ليس في الذين وقعوا فيه من جديد، وإنما هو في الذين مردوا عليه وأوغلوا فيه واستمروا عليه، والنهى عن الحزن نهى عن الاسترسال فيه، ونهى عن أسبابه، وهو الظن بغلبة الضلال على اليقين والكفر والإيمان.
4. طمأن الله تعالى نبيه تأكيدا للنهى، ونفيا لمبرراته، فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ أي إنهم مهما يتماد شرهم وطغيانهم وفتنتهم الناس عن دينهم، فلن يضروا الله شيئا من الضرر ولو صغيرا، فلن ينقص كفرهم من سلطان الله، ولن يزيد إيمانكم من سلطان الله تعالى، فالله غالب قاهر فوق عباده، فعظمة الله لا ينقصها كفر، وقد زكى سبحانه النهى عن الحزن بأمر آخر وهو بيان أن الله أراد لهؤلاء ما هم عليه، وإن كان باختيارهم، ولذا قال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ أي أنه لا يصح أن تحزن لمسارعتهم في الكفر وانحدارهم في مهاويه؛ لأن الله سبحانه هو الذي لم يجعل لهم حظا في الآخرة، فما عصوا الله تعالى غالبين لإرادته، بل عصوا بإرادتهم وإرادته سبحانه، وإن كان لا يرضى لعباده الكفر، وفرق ما بين الرضا والإرادة، فالله سبحانه وتعالى لم يرد أن يجعل لهم حظا في الآخرة، ولكنه لا يحب الكفر ولا يرضاه، فالمعنى أن كفرهم ليس مراغمة لله سبحانه حتى تحزن وإنما هو بإرادته لأنه أراد ألا يكون لهم حظ من الخير في الآخرة ولهم بدل الحظ من الخير عذاب عظيم، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لتهديدهم بما يستقبلهم فوق الخزي العظيم في الدنيا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1516.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾، سبق ان المشركين جمعوا الجموع، وجهزوا الجيوش لمحاربة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وان المنافقين كانوا يؤازرونهم، ويدسون الدسائس على المسلمين، وفي هذه الآية وصف الله سبحانه كلا من المنافقين والمشركين بالعتو والحرص على معاندة الحق وحربه، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحزن ويتألم من صنيعهم هذا، فقال له الجليل: لا تحزن.. انهم لن ينالوا منك ولا من المسلمين ولا من دين الله كثيرا ولا قليلا، وان أمرهم سيضمحل، وتزول شوكتهم، أما دينك فسيعظم شأنه، وتعلو كلمته.. وهكذا كان، فلم تمض الأيام، حتى مكن الله للإسلام في شرق الأرض وغربها، ومحق الذين كانوا بالأمس يسارعون في عدائه وحربه.
2. ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، هذا مصير كل من تمادى في الغي، ولم يرتدع عنه، حتى مات عليه.
3. سؤال وإشكال: ان ظاهر الآية يشعر بأن الشر من الله، لأن عذاب جهنم شر، وقد أراده الله لهم؟ والجواب: أجل، ان الله أراد لهم العذاب، ولكن بعد ان استحقوه، لأنه تعالى أمرهم بالإيمان، ونهاهم عن الكفر، وترك لهم الخيار، فاختاروا الكفر على الإيمان، ومعنى هذا ان المشركين والمنافقين هم الذين أوجدوا سبب العذاب، وبعد أن أوجدوه مختارين أراد الله لهم العذاب، تماما كالقاضي يريد السجن للمجرم بعد أن يرتكب الجريمة.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لفظ اشتروا يشعر بالاختيار، لأن المشتري يختار السلعة، ويرضى بها بديلا عن الثمن، والكافر رضي بالكفر بديلا عن الايمان، فاستحق العذاب الأليم.
5. سؤال وإشكال: لقد كرر سبحانه ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ في آيتين لا فاصل بينهما، فما هو السر؟ والجواب: المراد بالآية الأولى كفار قريش الذين جهزوا الجيوش لحرب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن كان يؤازرهم من المنافقين، والمراد بالآية الثانية كل من كفر من الأولين والآخرين محاربا كان أو غير محارب، وعليه يكون ذكر الآية الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص، وهو كثير في كلام العرب، يقولون: فلان قامر بأمواله، فأهلك نفسه، وكل من يفعل فعله فهو من الهالكين.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/209.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها وخاصة الآيات الأربع الأول منها تتمة لها لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء والامتحان الإلهي لعباده، وعلى ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء والامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر ولا مؤمن، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار ويتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.
2. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى آخر الآية تسلية ورفع للحزن ببيان حقيقة الأمر فإن مسارعتهم في الكفر وتظاهرهم على إطفاء نور الله وغلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب وأنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية والتشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية والنعمة والقدرة ـ وهو الاستدراج والمكر الإلهي ـ إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان والمعصية، والمؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت وأئمة الكفر.
3. معنى الآية: لا يحزنك الذين يسرعون ولا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك وليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لأنهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة (وهو آخر حدهم في الكفر) ولهم عذاب أليم.
4. ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾، أمر إرشادي، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾ الآية تعليل للنهي، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ الآية تعليل وبيان لعدم ضررهم.
5. ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر وغيرهم، وهو كالبيان الكلي بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهي ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾ وأن يعلل به علته ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا﴾ لأنه أعم يعلل به الأخص، والمعنى: وإنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لأن الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/79.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾ مسارعتهم في الكفر بنصرهم للكفر ومسارعتهم في نصر الكفر، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حريصاً على ظهور دين الله وسقوط الكفر حباً من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لله ورغبة في أن تكون كلمة الله في الأرض هي العلياء وكلمة الذين كفروا السفلى، فقال تعالى: ﴿لَا يَحْزُنْكَ﴾ أي ذلك ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ بمسارعتهم.
2. وهو الذي مكنهم من ذلك حتى استحقوا ﴿أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا﴾ أي نصيباً ﴿فِي﴾ خير الحياة ﴿الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فلا تحزن مما يصنعون؛ لأنهم لن يضروا الله، وإنما يضرون أنفسهم، وهو تعالى هيأ لهم أن يضروا أنفسهم حين مكنهم من نفعها وضرها فاختاروا ضرها، وحين خذلهم بسبب ذلك وسلط عليهم الشياطين أي تركهم وشأنهم.
3. ﴿اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ استبدلوا الكفر بالإيمان، إما أنهم ارتدوا كما حصل من بعض المنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [التوبة:74] وإما أنهم لما كانوا في حضرة الآيات يتلوها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسمعونها وكان من حقهم لو استعملوا عقولهم ورفضوا أهواءهم أن يؤمنوا، لكنهم اختاروا الكفر بدلاً من أن يؤمنوا، فكانوا كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/582.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يعيش في داخل نفسه الحزن العميق، من خلال ما يواجهه من كفر الكفّار الذين لا يتوقفون أمام دعوة الإيمان ليتأمّلوا ويفكّروا ليؤمنوا من خلال ما تحمله الدعوة من براهين الحقّ؛ بل يسارعون في الكفر والإنكار تحت تأثير رواسبهم وتقاليدهم وشهواتهم وعلاقاتهم الحميمة بآبائهم.. فقد كان يعيش الإخلاص كله لله، ويريد للناس أن يلتقوا بالله في عمليّة إيمان وطاعة ليتعرّفوا عظمته من خلال خلقه، ويتحركوا في طاعته شكرا لنعمته، ولكنّ الله سبحانه لا يريد للرسول أن يحزن، بل يدعوه إلى أن يقابل الموقف بشكل طبيعي، فقد أقام عليهم الحجّة من خلال ما طرحه عليهم من أساليب الدعوة وأفكارها، مما لا يدع لهم مجالا فكريا للإنكار، فليس هناك تقصير من جهته إذا كان حزنه خوفا من التقصير، وإذا كان ذلك خوفا عليهم من الهلاك، فهم قد اختاروا لأنفسهم ذلك، أما إذا كان انفعالا روحيّا لمعصيتهم لله وكفرهم به، فإنهم لن يضرّوا الله شيئا، لا بلحاظ ذاته، لأنه الغني المطلق الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه وكفر من كفر به، بل هو الذي يملك أمر عقابهم، فمصيرهم خاضع لما يريده لهم ـ بسبب كفرهم ـ من سوء العاقبة، فليس لهم حظّ في الآخرة في ما يملكه المطيعون من نعيم الله ورضوانه.
2. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مما أعدّه الله للكافرين، وتلك هي قصة هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسالة وتمرّدوا على الدعوة.
3. ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ يا محمد في مسيرتك الرسالية المنطلقة في اتجاه إخراج الناس من الكفر إلى الإيمان، إذا رأيت ـ في الطريق ـ ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ في مبادراتهم الفكرية والعملية، وفي حركتهم الواقعية مما يحاولون فيه أن يحافظوا على قيم الكفر وامتيازاته، ليعطلوا كل المبادرات الإيمانية التي تقوم بها بأساليبهم المتنوعة، ووسائلهم المختلفة، فلا يثقل ذلك نفسك ولا يعطل حركتك بالطريقة التي يثقل بها الحزن النفس الإنسانية فيمنعها عن الاستمرار في الخط، ويعطل حركتها في تنفيذ الخطة، باعتبار أن العوامل النفسية السلبية تترك تأثيراتها على الإنسان في تفكيره وحركته، فإنك إذا كنت تفكر بالموضوع من خلال فضل مهمتك، فإنك تعرف أن مهمتك تنتهي عند إبلاغ الدعوة بالوسائل الحكيمة التي تفتح فيها قلوب الناس على الحق النازل من عند الله، بحيث لا تترك أيّة فرصة للهداية وأيّ أسلوب للإيمان إلا أتيت به، فإذا بلغت البلاغ الحسن، فقد حققت النجاح الرسالي في مرحلته الأولى.
4. ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ لأنك اخترقت كل الحواجز التي نصبوها أمام الدعوة، ويبقى الصراع بين الكفر والإيمان يفرض نفسه على الساحة لينتهي في نهاية المطاف، بعد استكمال الشروط الموضوعية، إلى النتائج الحاسمة، وإذا كنت تحزن لأجل الله لأنهم أساؤوا إليه وظلموه حقه وتجرّأوا على مقامه وتمردوا عليه، فعليك أن لا تشعر بالمشكلة من هذه الجهة.
5. إذ ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ لأن مسألة الكفر والإيمان لا تتصل بالله في حاجته إلى ذلك، فهو الغنيّ عن عباده في أصل وجودهم، لأنه الذي خلقهم والقادر على إزالته بكل تفاصيل وجودهم، فهو الذي أعطاهم عقولهم وحواسهم وأجسادهم وما يحتاجونه مما خلقه في الأرض وفي السماء، مما يتوقف عليه وجودهم، أما معادلة الإيمان، فهي مسألتهم التي بها يسعدون ويغتنون ويرتاحون ويفلحون، وقد ترك الله لهم الحرية في ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ فإذا كانوا قد اختاروا الكفر وتركوا دعوة الله، فإن الله قد وكلهم إلى أنفسهم وأبعدهم عن رحمته، ومنع عنهم لطفه، وحكم عليهم بالضلال بعد اختيارهم له، وهذا هو الذي يؤدي بالنتيجة إلى حرمانهم من كل حظ في الآخرة من نعيم الجنة ومواهب الله في العالم الآخر.
6. وهذا هو تفسير قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ﴾ فليست القضية قضية إرادة تكوينية تمنعهم من الحصول على فرصة السعادة في الآخرة فلا يملكون معها أيّة إمكانية لذلك، بل قضية اختيار منهم بعد أن أعطاهم الله فرصة الوصول إلى إيمانه من أوسع الأبواب من خلال ما ركبه فيهم من الإرادة الحرّة التي يتحملون مسئولية قراراتها، مما يؤدي إلى النتائج السلبية، فإن إرادة الله للأشياء تتصل بإرادة الإنسان في مسئولياته، فإذا اختار الخير في حركة عمله أعطاه الله الخير في نتائجه، وإذا اختار الشر فإن الله يريد لهم عند ذلك من موقع إرادته، أن لا يكون لهم حظ في الآخرة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
7. تنطلق الآية الثانية لتؤكد الفكرة في نطاق عامّ شامل يطرح القضية في مستوى القاعدة الكليّة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ في عمليّة اختيار ذاتيّة، لم تفرضها عليهم شبهة فكريّة، بل كانت نتيجة حالة نفسية مرضيّة معقدة، فقد باعوا الإيمان بالكفر واستبدلوه به بعد وضوح الحق لديهم، ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ بل يضرون أنفسهم في ما يفقدونه من نعمة الإيمان الذي يفتح آفاق الإنسان على كل المعاني الطيّبة في الحياة، ويوحي له بكل الأفكار الطاهرة المنفتحة التي تثير فيه مشاعر السموّ والخير والانطلاق.. وماذا بعد ذلك؟ إن الإضرار بأنفسهم لن يقتصر على الجانب السلبي، بل هناك الجانب الإيجابي الذي يتمثل فيه العذاب الأليم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بما اختاروه لأنفسهم من الكفر والعصيان.
8. تمتد الحياة بالكافرين وتنفتح لهم كل الأبواب التي تكفل لهم ما يريدونه من الرغبات والشهوات والفرص المادية والمعنويّة، وتطول أعمارهم، ويتقلّبون في نعيم الدنيا كما يحبون، ويحسبون أنّ في ذلك الخير كل الخير والسعادة كل السعادة.. ولكن ما هو مقياس الخير؟ هل هو في ما يحصل عليه الإنسان من النعيم في حساب اللحظات السريعة الزائلة، أم هو في ما يعيشه من الرضى والطمأنينة والنعيم في حساب الخلود الدائم في نهاية المطاف، وإن كان ذلك من خلال الأذى والتعب والشقاء في بداية الأمر!؟ وفي هذا الجوّ يمكن أن نقرّر حالة هؤلاء الكافرين في ما تخضع له من خير أو شر، ويحسم القرآن الموقف لمصلحة الفكرة التي تجعل القضية خاضعة للنتائج لا للبدايات، لأنها هي التي تعمّق السعادة في حياة الإنسان، فلا تكون مجرّد حالة طارئة تزول مع الزمن.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/395.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ موجه إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالله تعالى يسلي نبيّه في أعقاب أحداث (أحد) المؤلمة قائلا له: أيّها الرّسول ﴿لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ وكأنّهم يتسابقون إليه ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ بل يضرّون بذلك أنفسهم، وأساسا فالمتضرر والمنتفع إنّما هي الموجودات التي لا تملك من عند أنفسها شيئا حتى وجودها، أمّا الله الأزلي الأبدي سبحانه فهو الغني المطلق، فما الذي يعود به كفر الناس أو إيمانهم عليه سبحانه، وأي أثر يمكن أن يكون لجهودهم ومحاولاتهم بالنّسبة إليه تعالى؟ إنّهم هم المنتفعون بإيمانهم إذ يتكاملون بهذا الإيمان، وهم المتضررون بالكفر أيضا، إذ يؤدي هذا الكفر إلى سقوطهم وانحطاطهم، هذا مضافا إلى أن الله سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
2. في الحقيقة فإن الآية تقول: إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ الله لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأنّ الله أراد أن يكونوا أحرارا في اتّخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الرّبانيّة في العالم الآخر، وعلى هذا فالآية لا تنفي الجبر فحسب، بل هي من الأدلة والبراهين السّاطعة على حرية الإرادة الإنسانية.
3. ثمّ يقرّر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلا إذ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ يعنى ليس الّذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل الّذين يسلكون طريق الكفر بشكل من الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان، كل هؤلاء لن يضرّوا الله شيئا، وإنّما يضرّون أنفسهم.
4. ويختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هذا التفاوت في التعبير في خاتمة هذه الآية والآية التي قبلها حيث قال هناك: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وقال هنا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إنّما هو لأجل إن الذين جاء ذكرهم في الآية السابقة أسرع في المبادرة والتوجه نحو الكفر.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/12.
95. الكفار والإملاء والإثم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈95⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة، إن كان برا فقد قال الله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٨]، وإن كان فاجرا فقد قال الله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: مستريح، ومستراح منه، قال أبو الأحوص: إني لأحسبن كما قال ألم تسمع إلى قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٤٢.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٣.
أبو الدرداء:
روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) أنّه قال: ما من مؤمن إلا الموت خير له، وما من كافر إلا الموت خير له، فمن لم يصدقني فإن الله يقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٨]، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٤٧.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ليس بمؤمن من لم يهتم بإصلاح معاده(1).
2. روي أنّه قال: إن من الشقاء إفساد المعاد(2).
3. روي أنّه قال: من لم يعمل للآخرة لم ينل أمله(3).
4. روي أنّه قال: ما أخسر من ليس له في الآخرة نصيب(4).
5. روي أنّه قال: ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه، ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم، وقلة صبركم عما زوى منها عنكم؛ كأنها دار مقامكم وكأن متاعها باق عليكم!؟(5).
6. روي أنّه قال: دعاكم الله سبحانه إلى دار البقاء وقرارة الخلود والنعماء ومجاورة الأنبياء والسعداء، فعصيتم وأعرضتم، ودعتكم الدنيا إلى قرارة الشقاء ومحل الفناء وأنواع البلاء والعناء، فأطعتم وبادرتم وأسرعتم(6).
7. روي أنّه قال: إياك أن تبيع حظك من ربك وزلفتك لديه بحقير من حطام الدنيا(7).
8. روي أنّه قال: لا يترك الناس شيئا من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم، إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه(8).
9. روي أنّه قال: لا تبيعوا الآخرة بالدنيا، ولا تستبدلوا الفناء بالبقاء(9).
10. روي أنّه قال: أيها الناس، إنكم إن آثرتم الدنيا على الآخرة أسرعتم إجابتها إلى العرض الأدنى، ورحلت مطايا آمالكم إلى الغاية القصوى، تورد مناهل عاقبتها الندم، وتذيقكم ما فعلت بالأمم الخالية والقرون الماضية؛ من تغير الحالات وتكون المثلات(10).
11. روي أنّه قال: من لم يبال بما رزئ(11).
12. روي أنّه قال: ليس عن الآخرة عوض، وليست الدنيا للنفس بثمن(12).
13. روي أنّه قال: استفرغ جهدك لمعادك تصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك(13).
14. روي أنّه قال: أصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك(14).
15. روي أنّه قال: لا تلتمس الدنيا بعمل الآخرة، ولا تؤثر العاجلة على الآجلة؛ فإن ذلك شيمة المنافقين وسجية المارقين(15).
16. روي أنّه قال: لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا ومما لك عند الله عوضا(16).
17. روي أنّه قال: إن من باع جنة المأوى بعاجلة الدنيا تعس جده، وخسرت صفقته(17).
18. روي أنّه قال: من أغبن ممن باع البقاء بالفناء!؟(18).
19. روي أنّه قال: من أخسر ممن تعوض عن الآخرة بالدنيا!؟(18).
20. روي أنّه قال: أخسر الناس من رضى الدنيا عوضا عن الآخرة(19).
21. روي أنّه قال: إن أخسر الناس صفقة وأخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه في طلب ماله، ولم تساعده المقادير على إرادته؛ فخرج من الدنيا بحسرته وقدم على الآخرة بتبعته(20).
22. روي أنّه قال: ما أخسر صفقة الملوك إلا من عصم الله؛ باعوا الآخرة بنومة!(21).
23. روي أنّه قال: من باع آخرته بدنياه خسرهما(22).
__________
(1) غرر الحكم: 5/92.
(2) غرر الحكم: 2/491.
(3) غرر الحكم: 5/416.
(4) غرر الحكم: 6/86.
(5) نهج البلاغة: الخطبة: 113.
(6) غرر الحكم: 4/24.
(7) غرر الحكم: 2/305.
(8) نهج البلاغة: الحكمة: 106.
(9) غرر الحكم: 6/303.
(10) المثلات: عقوبات أمثالهم من المكذبىن.
(11) الرزء: النقص.
(12) غرر الحكم: 5/85.
(13) غرر الحكم: 2/212.
(14) نهج البلاغة: الكتاب: 31.
(15) غرر الحكم: 6/333.
(16) نهج البلاغة: الخطبة: 32.
(17) غرر الحكم: 2/512.
(18) غرر الحكم: 5/309.
(19) غرر الحكم: 2/414.
(20) نهج البلاغة: الحكمة: 430.
(21) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/346.
(22) غرر الحكم: 5/257.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) أنّه قال: الاستدراج من الله سبحانه لعبده أن يسبغ عليه النّعم ويسلبه الشكر(1).
__________
(1) بحار الأنوار: 75/117.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾، قال رب مغتر من الكفار(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنه قيل له: أخبرني عن الكافر، الموت خير له أم الحياة؟ فقال: (الموت خير للمؤمن والكافر)، قلت: ولم؟ قال: لأن الله يقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، ويقول: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/206.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: الموت خير للكافر والمؤمن، ثم تلا هذه الآية، ثم قال إن الكافر ما عاش كان أشد لعذابه يوم القيامة(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٤٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ معناه نطيل لهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ معناه مذلل(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في دعاء له: رب دعتني دواعي الدنيا فأجبتها سريعا وركنت إليها طائعا، ودعتني دواعي الآخرة فتثبطت عنها وأبطأت في الإجابة والمسارعة إليها، كما سارعت إلى دواعي الدنيا وحطامها الهامد(1).
2. روي أنّه قال: في زيارة الإمام الحسين ـ: اللهم، إني أشهد أنه بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة، وقد توازر عليه من غرته الدنيا وباع حظه بالأرذل الأدنى(2).
__________
(1) الهامد: الىابس.
(2) تهذيب الأحكام: 6/113.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، يعني بالمهين: الهوان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أبا سفيان وأصحابه يوم أحد، ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ حين ظفروا: ﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ في الكفر: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يعني: الهوان(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣١٧.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس(1).
__________
(1) تحف العقول: ص 391.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وقد نهاهم ـ جل جلاله ـ عنه، فالإملاء منه: الإبقاء منه، وتأخير العذاب والنقم، فيما ارتكبوا من الجرم، وبهذا كله وعنه، وبما تولى الله منه ـ أتوا من الإثم والإساءة ما أتوا، وعصوا الله بما عصوا؛ فاعلم أن الإملاء: نعمة من الله وإحسان، وازدياد الإثم منهم: فإساءة وعصيان، فمن الله سبحانه: الإملاء، ومنهم: الاعتداء، وتأخيره سبحانه لإنزال العذاب بهم إنما هو: ليزدادوا إثما بكسبهم، ليس لما يحبون من سرورهم، ولا لما يريدون من أمورهم؛ ولكن ليزدادوا بالبقاء والإملاء إثما، ولأنفسهم بما تركوا من البر ظلما، وإن كان ما تركوا من الهدى ـ وإن لم يفعلوه ـ ممكنا ـ كان ما تركوا من الهدى في نفسه حسنا، ولهم لو صاروا إليه ـ ولن يصيروا ـ منجيا، وكان كلهم لو أتاه بإتيانه له مهتديا؛ فالإملاء والإبقاء هو: من فعل الله بهم، وازدياد الإثم هو: من كسبهم هم وفعلهم، وما يمكن من الإملاء من الأمور، فسواء في المكنة من البر والفجور، فلما آثروا هواهم، على ما يمكنهم من هداهم، جاز أن يقال: أملوا ليزدادوا برا وهدى، ومثل ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ هو: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذريات: 56]، وهم ـ وإن خلقهم الله ليعبدوه ـ فيحملون لغير العبادة إن أرادوه، والعبادة لله وخلافها إنما هو فعل منهم، إذا فعلوه [نسب] إليهم، ولم يزل عنهم، وكل ذلك ففعل لهم وصنع، والله هو الصانع لهم المبتدع؛ ففعل الله بريء من فعلهم، فيما كان من الإملاء لهم؛ فعل الله: تأخير وإملاء، وفعلهم: ازدياد واعتداء، وبين ذلك فرق، لا يجهله إلا أحمق.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/194.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، فقال: إن الله أملى لهم ليزدادوا في الكفر والإجتراء عليه؟ والجواب: ليس ذلك كما قال بل قوله أحول المحال، وسنشرح ذلك ـ والقوة بالله ـ ونفسره، ونذكر ما أراد الله ـ إن شاء الله ـ به، فنقول: إن معنى إملائه لهم هو: لأن لا يزدادوا إثما، وليتوبوا ويرجعوا، ومن وسن ضلالتهم ينتبهوا؛ لا ما يقول أهل الجهالة، ممن تحير وتكمه في الضلالة: إن الله أملى لهم كي يزدادوا إثما، وضلالة واجتراء؛ وكيف يملي لهم كذلك، وقد نهاهم عن يسير ذلك، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، فنهاهم عن يسير الإثم وقليله؛ فكيف يملي لهم ليزدادوا من عظيمه وكثيره؟
2. فأما قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾؛ فإنما أراد سبحانه: لأن لا يزدادوا إثما؛ فطرح (لا) وهو يريدها، فخرج لفظ الكلام لفظ إخبار، ومعناه معنى نفي؛ والعرب تطرحها وهي تريدها، وتثبتها وهي لا تريدها؛ قال الله سبحانه: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 19]، فقال: (لئلا)؛ فأثبت (لا) وهو لا يريدها، فخرج لفظ الكلام لفظ إيجاب، ومعناه معنى نفي؛ أراد الله سبحانه: ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله؛ وهذا فموجود في أشعارهم، مثبت في أخبارهم؛ قال الشاعر:
çنزلتم منزل الأضياف منا... فعجلنا القرى أن تشتموناé
فقال: (فعجلنا القرى أن تشتمونا)، وإنما معناه: فعجلنا القرى لأن لا تشتمونا، فطرح (لا) وهو يريدها، فخرج لفظ الكلام بخلاف معناه.. وقال آخر:
çما زال ذو الخيرات لا يقول... ويصدق القول ولا يحولé
فقال: (لا يقول)، فأتى بـ (لا) وهو لا يريدها، وإنما معناها: ما زال ذو الخيرات يقول، فخرج اللفظ خلاف المعنى.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/194.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ الآية، اختلف في قراءتها، قرأ بعضهم بالياء، وبعضهم بالتاء:
أ. فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: لا تحسبن يا محمد أنما نملي لهم خير لهم؛ إنما نملى لهم ليزدادوا شرّا.
ب. ومن قرأ بالياء: صرف الخطاب إلى الكفرة.
2. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ يكون خيرا لهم؛ بل إنما نملي لهم ليكون شرّا وإثما لهم؛ فالآية على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ لكنهم تأولوا بوجهين:
أ. أحدهما: على التقديم والتأخير؛ كأنّه قال: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما؛ إنما نملى لهم خير لأنفسهم؛ فيقال لهم: لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين، وصرفها إلى الكافرين، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم، والإثم مكان الخير، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد، والوعيد في موضع الوعد.
ب. الثاني: قالوا: أخبر الله تعالى عما يؤول أمرهم في العاقبة، لا أن كان في الابتداء كذلك؛ كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8]، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدوا وحزنا؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوا وحزنا؛ وكذلك يقال للرجل: سرقت لتقطع، وقتلت لتقتل، وهو لم يسرق ليقطع، ولا قتل ليقتل؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة؛ فكذلك هذا، لكن الإخبار عما يؤول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن ذلك؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء، لا مخرج الإخبار عما يؤول الأمر في العاقبة، وبالله التوفيق، والثاني: أن من أراد أمرا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث، فالله سبحانه يتعالى عن الجهل بالعواقب، أو العبث في الفعل؛ دلّ أنه كان على ما أراد، لا ما لم يرد، ولو كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدّين وأخير ـ لم يكن لنهي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ [التوبة: 55] الآية؛ دلّ أنه قد يعطى ما ليس [هو] بأصلح في الدين ولا أخير.
3. قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾ الآية [التوبة: 55]، وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56] ونحو ذلك من الآيات ـ فيها وجهان على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ:
أ. أحدهما: قولهم في الأصلح: إن الله تعالى لو فعل بالخلق شيئا غيره أصلح لهم في الدين في حال المحنة ـ كان ذلك جورا، ومعلوم أن الفعل بهم؛ ليزدادوا إثما لا يبلغ في الصلاح في الدّين الفعل بهم؛ ليزدادوا به برّا، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فيقول: لا يعجبك كذا؛ فكأنه قال لا يعجبك الذي هو صلاح في الدّين، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون؛ فكان ذلك شهادة منه عزّ وجل على كل من وافق رأيه رأي أولئك الكفرة: أنهم لا يشعرون، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل الله تعالى لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترؤوا على دعوى الربوبية، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدين، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ الآية [الزخرف: 33]، ثم كان معلوما أنه إذا كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون، ثم لم يجعل كذلك، [والله أعلم]، وأيّد ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾ الآية [التوبة: 55]
ب. الثاني: أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة، وقد أخبر لأي وجه أعطى؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه، فالأول: يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون، والثاني: إذا علم ألا يكون؛ فيكون له به عابثا سفيها، جلّ الله تعالى عن الوجهين؛ ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه؛ وبهما سقوط الربوبية.
4. وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين:
أ. أحدهما: على التقديم والتأخير بمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملى خير لأنفسهم، وذلك فاسد لوجهين:
• أحدهما: لو كان جعل الخير شرّا والشرّ خيرا بالتأويل، وصرف الآية عن سياقها ونظمها ـ لجاز ذلك في كل وعد ووعيد، وأمر ونهي، وتحليل وتحريم؛ فيصير كل أمور الدنيا مقلوبا.
• الثاني: أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ على كل ذلك معجبا، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضر لهم ـ يشعرون، لا ألا يشعرون، مع ما قيل: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء في بعض القراءة، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرّا حتى يعاتبوا على الحسبان!؟ والله الموفق.
ب. الثاني: قالوا ذلك خبر عما يؤول الأمر إليه؛ كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8]، وهم لا لذلك التقطوا، وكمن يقول للسارق: سرقت لتقطع يدك، وكما يقال: (لدوا للموت وابنوا للخراب)، والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك؛ ألا ترى أن أحدا لا يقول: ولدت للموت، أو بنيت للخراب؛ لأنه لا لذلك يفعل، وإن كان إليه يؤول وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت؛ كذلك بطل هذا، وأمر قوم فرعون لم يقل: ليكون لهم عندهم؛ إنما هو ليكون لهم عند الله تعالى، وبما أراد الله، وكان كذلك، ولا قوة إلا بالله، وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار ـ ولا قوة إلا بالله ـ والأصل في ذلك أن الله تعالى عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد، جل الله عن هذا الوصف.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/538.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾: أي لا يحسبن تركنا لهم من المعاجلة لكرامتهم، ولا يظنوا ذلك، فلم نتركهم من المعاجلة لكرامتهم، ولا لخير نريده لهم، وإنما أنظرناهم وأملينا لهم، ليكون ذلك حجة عليهم، ولئلا يزدادوا إثماً، ويتوبوا إلى الله ربهم فقامت اللام مقام لئلا.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 267.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزه (ولا تحسبن) بالتاء وفتح السين، الباقون بالياء، وهو الأقوى، لأن حسبت يتعدى إلى مفعولين (وأن (على تقدير مفعولين، لأن قوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ سد مسد المفعولين لأنه لا يعمل في (أنما) إلا ما يتعدى إلى مفعولين: نحو حسبت وظننت وأخواتهما، وحسبت يتعدى إلى مفعولين أو مفعول يسد مسد المفعولين نحو حسبت أن زيداً منطلق وحسبت أن يقوم عمرو، فقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾، سد مسد المفعولين اللذين يقتضيهما (يحسبن) وكسر (إن) مع القراءة بالياء ضعيف وقرئ به، ووجه ذلك قال أبو علي الفارسي (إن) يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخل كل واحد منهما على الابتداء والخبر فكسر (إن) بعد (يحسبن) وعلق عنها الحسبان، كما يعلق باللام، فكأنه قال لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خير لهم، ومن قرأ بالتاء فعلى البدل، كقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ وكما قال الشاعر:
çفما كان قيس هلكه هلك واحد... ولكنه بنيان قوم تهدماé
وقال الفراء: يجوز أن يكون عمل فيه (يحسبن) مقدرة تدل عليها الاولى، وتقديره: ولا تحسبن الذين كفروا يحسبون انما نملي لهم وهكذا في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ ويجوز كسر (انما) مع التاء في (يحسبن) وهو وجه الكلام، لتكون الجملة في موضع الخبر: نحو حسبت زيداً انه كريم، غير انه لم يقرأ به أحد من السبعة.
2. ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ معنى اللام هاهنا للعاقبة وليست بلام الغرض، كأنه قال إن عاقبة أمرهم ازدياد الإثم كما قال: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ وكما قال: ﴿وَجَعَلَ لله أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وكقوله: ﴿لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وما قالوا ذلك ليكون حسرة وإنما كان عاقبته كذلك وقال الشاعر:
çوأمُ سماك فلا تجزعي... فللموت ما تلد الوالدةé
وقال آخر:
çأموالنا لذوي الميراث نجمعها... ودورنا لخراب الدهر نبنيهاé
وقال:
çوللمنايا تربي كل مرضعة... وللخراب يجد الناس بنياناé
وقال آخر:
çلدوا للموت وابنوا للخراب...فكلكم يصير إلى ذهابé
ويقول القائل: ما تزيدك موعظتي الا شرا، وما أراها عليك إلا وبالا.
3. معنى اللام هاهنا ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ لا يجوز أن يحمل على لام الغرض والارادة، لوجهين:
أ. أحدهما: ان ارادة القبيح قبيحة ولا نجوز ذلك عليه تعالى.
ب. الثاني: لو كانت اللام لام الارادة لكان الكفار مطيعين لله من حيث فعلوا ما أراده الله وذلك خلاف الإجماع، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
4. قال أبو الحسن الأخفش والاسكافي: في الآية تقديم وتأخير، وتقديره (ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً أنما نملي لهم خير لأنفسهم)، وهذا ضعيف لانه كان يجب لوكان على التقديم، والتأخير أن تكون انما الاخيرة مفتوحة الهمزة لانها معمول تحسبن ـ على هذاالقول ـ وأن تكون الاولى مكسورة، لانها مبتدأة في اللفظ والتقديم والتأخير لايغير الاعراب عن استحقاقه وذلك خلاف ما عليه جميع القراء، فانهم أجمعوا على كسر الثانية. والاكثر على فتح الاولى، ويمكن أن يقال ـ نصرة لابي الحسن ـ أن يكون التقدير ولاتحسبن الذين كفروا قائلين: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، بل فليعلموا أنما نملي لهم خير لانفسهم. فيكون الحسبان قد علق، ولم يعمل، وتكون إنما الثانية كسرت، لانها بعد القول، وتكون في موضع نصب بالقول المقدر وتكون أنما الاولى منصوبة بالعلم المقدر الذي بيناه. وعلى هذا يجوز أن يكون الوعد عاما، ويكون الوعيد المذكور مشروطا بالمقام على الكفر، وعلى الوجه الاول الذي حملنا اللام على العاقبة لابد من تخصيصها بمن علم منه انه لايؤمن، لانه لو كان فيهم من يؤمن لما توجه إليهم هذا الوعيد المخصوص.
5. قال البلخي: معناه لاتحسبن الذين كفروا ان املاء نا لهم رضاء بافعالهم، وقبول لها بل هو شر لهم، لانا نملي لهم وهم يزدادون إثما يستحقون به عذابا أليما، ومثله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ أي ذرأنا كثيراً من الخلق سيصيرون إلى جهنم بسوء فعالهم.
(ما) في قوله: (إنما) تحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن تكون بمعنى الذي والتقدير: إن الذي نمليه خير لأنفسهم.
ب. والآخر: أن يكون ما نملي بمنزلة الاملاء فتكون مصدراً، وإذا كانت كذلك فلا تحتاج إلى عائد يعود إليها.
6. الاملاء: طول المدة، ﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾ معناه نطول أعمارهم، ومنه قوله: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ أي حيناً طويلا، ومنه قوله: عشت طويلا، وتمليت حينا، والملأ: الدهر والملوان: الليل والنهار، لطول تعاقبهما، وإملاء الكتاب وإنما أنكر تعالى أن يكون الاملاء خير لهم ـ وان كانت نعمة دنيوية ـ من وجهين:
أ. أحدهما: قال الجبائي: أراد خير من القتل في سبيل الله، كشهداء أحد.
ب. الثاني: قال البلخي: لا تحسبن ان ذلك خير استحقوه بفعلهم، أي لا تغتروا بذلك فتظنوا انه لمنزلة لهم، لأنهم كانوا يقولون: إنه تعالى لو لم يرد ما هم عليه، لم يمهلهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/59.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الإملاء: الإمهال والتأخير، وأصله طول المدة، والمَلَوان: الليل والنهار لطول تعاقبهما.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في مشركي مكة عن مقاتل.
ب. وقيل: نزلت في قريظة والنضير عن عطاء.
3. بين الله تعالى أن إمهالهم إذا كان يؤدي إلى العقاب فذلك لا ينفعهم، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ يظنوا ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي نمهلهم، ونطيل أعمارهم، ونؤخر موتهم، وعلى التاء: ولا تحسبن أيها الرسول، ولا تحسبن أيها السامع، أو أيها الإنسان.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾:
أ. قيل: معناه لا يحسبن الَّذِينَ كفروا أن بقاءهم في الكفر خيرا من القتل بأحد في سبيل الله كشهداء أحد عن أبي علي وأبي مسلم؛ لأن قتل أولئك يؤديهم إلى الجنة، وبقاءهم في الكفر يؤديهم إلى العقاب، بل قتلهم خير من بقاء هَؤُلَاءِ؛ لأن لفظ الخير والشر يستعملان مضافًا، يقال: هذا خير لك من كذا، أو شر لك من كذا.
ب. وقيل: لا تحسبوا ذلك خيرًا استحقوه لعملهم أي لا تغتروا بذلك فتظنوا أن ذلك بمنزلتهم؛ لأنهم كانوا يقولون: لو لم نرد ما هم عليه لم نمهلهم عن أبي القاسم.
ج. وقيل: لا يحسبن الَّذِينَ كفروا أن دَفْعِي القتل عنهم لخير يكون منهم عن الأصم، قال القاضي قريبًا منه، قال: لا يظن هَؤُلَاءِ المنافقون أن تخلصهم من القتل ينفعهم، وأنه خير لهم حيث كان المعلوم أنهم يكفرون به.
د. وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الَّذِينَ كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا بل نملي لهم ونعطيهم غمار الخير يكسبونه، كأنه قيل: لم نعطهم النعمة للكفر إنما أعطيناهم للشكر عن الأصم.
5. ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي نمهلهم، ونطيل أعمارهم ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ هذه لام العاقبة؛ أي نملي لهم وعاقبتهم ازدياد الإثم، كقوله: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ وقال الشاعر: (لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَاب)، وقال آخر:
çوَأُمَّ سِمَاكٍ فَلا تَجْزَعِي... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الوَالِدَهْé
وتقول: ما تزيدك موعظتي إلا شرًا، ونظائره يكثر.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾:
أ. قيل: يعني يهينهم في نار جهنم.
ب. وقيل: لهم قتل في الدنيا على الهوان، وحرق في النار على الهوان.
7. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن بقاء المكلف إذا عصى الله فيه، فلا يكون خيرًا له؛ لأن كونه خيرا يتعلق بأمرين:
• أحدهما: من جهته تعالى، وهو أنه إذا اتقاه ومكنه ولطف له، وأراد منه أن يطيع كان هذا خَيرا.
• الثاني: من جهة العبد، وهو أن يطيع ربه وينقاد لأمره، فإذا لم يحصل ذلك من العبد جاز أن يقال: إنه ليس بخير له، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما الفاجرة فيستريح ويستراح منه، وقرأ ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ الآية، وأما البرة فقرأ ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ وروي نحوه عن ابن عباس.
ب. فساد قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق؛ لأنه أضاف ازدياد الإثم إليهم، وكذلك أضاف الحسبان إليهم، ولا يقال: إن اللام في قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ لام الإرادة؛ لأنه لو أراده منهم لكانوا مطيعين له، ولأن إرادة القبيح قبيحة، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ثم على مذهبهم كان ينبغي أن يقال: إنما نملي لهم لنزيدهم كفرًا بأن يُخلق فيهم.
8. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ و﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ و﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ الأربعة بالياء وضم الباء في قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب بالياء إلا قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ فإنه بالتاء، وقرأ حمزة كلها بالتاء، وقرأ عاصم والكسائي وخلف ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولا تحسبن الَّذِينَ يبخلون) بالياء والباقي بالتاء، واختلافهم في فتح السين، وكسرها بيناه في سورة البقرة، فمن قرأ بالتاء فعلى الخطاب، قال الفراء: هو على تكرير المعنى، كأنه قيل: لا تحسبن يا محمد الَّذِينَ كفروا، ومحل ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ نصب، ومن قرأ بالياء ف ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في محل الرفع؛ لأن الفعل مضاف إليه على تقدير: لا يحسب الكافر إملاءنا إياهم خيرًا.
9. ﴿إِنَّمَا﴾ بفتح الألف بإجماع القراء، ويجوز في العربية الكسر بأن تكون الجملة في موضع الخبر نحو: حسبت زيدًا إنه كريم، والنصب لوقوع الحسبان عليه، وقيل: هو بدل من الَّذِينَ.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/470.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
الإملاء: إطالة المدة، والملي: الحين الطويل، والملأ: الدهر، والملوان: الليل والنهار لطول تعاقبهما.
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: نزلت في مشركي مكة عن مقاتل وفي قريظة والنضير عن عطاء.
2. بين سبحانه أن إمهال الكفار لا ينفعهم، إذا كان يؤدي إلى العقاب، فقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ أي: لا يظنن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي: إن إطالتنا لأعمارهم، وامهالنا إياهم خير لهم من القتل في سبيل الله بأحد، لأن قتل الشهداء أداهم إلى الجنة، وبقاء هؤلاء في الكفر يؤديهم إلى العقاب.
3. ثم ابتدأ سبحانه فقال: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: إنما نطيل عمرهم، ونترك المعاجلة لعقوبتهم ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ أي: لتكون عاقبة أمرهم بازديادهم الإثم، فيكون اللام لام العاقبة، مثل اللام في قوله ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ وهم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرة عين، ولكن لما علم الله أنه يصير في آخر أمره عدوا وحزنا، قال كذلك، ومثله في قول الشاعر:
çأموالنا لذوي الميراث نجمعها... ودورنا لخراب الدهر نبنيهاé
وقول الآخر:
çأأم سماك! فلا تجزعي... فللموت ما تلد الوالدةé
وقول الآخر:
çفللموت تغذو الوالدات سخالها... كما لخراب الدهر تبنى المساكنé
وقول الآخر: لدوا للموت وابنوا للخراب.
4. لا يجوز أن تكون اللام في قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ لام الإرادة والغرض لوجهين أحدهما:
أ. إن إرادة القبيح قبيحة، وتلك عنه سبحانه منفية.
ب. والآخر: إنها لو كانت لام الإرادة، لوجب أن يكون الكفار مطيعين لله تعالى، من حيث فعلوا ما وافق إرادته، وذلك خلاف الاجماع، وقد قال عز اسمه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ﴾ والقرآن يصدق بعضه بعضا، وعلى هذا فلا بد من تخصيص الآية فيمن علم منه أنه لا يؤمن، لأنه لو كان فيهم من يؤمن لما توجه إليهم هذا الوعيد المخصوص، وقال أبو القاسم البلخي معناه: ولا يحسبن الذين كفروا أن املاءنا لهم رضا بأفعالهم، وقبول لها، بل هو شر لهم، لأنا نملي لهم، وهم يزدادون إثما يستحقون به العذاب الأليم، ومثله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ أي: ذرأنا كثيرا من الخلق، سيصيرون إلى جهنم بسوء أفعالهم، وقد يقول الرجل لغيره وقد نصحه فلم يقبل نصحه: ما زادك نصحي إلا شرا، ووعظي إلا فسادا، ونظيره قوله ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ ومعلوم أن الرسل ما أنسوهم ذكر الله على الحقيقة، وما بعثوا إلا للتذكير والتنبيه دون الإنساء، مع أن الإنساء ليس من فعلهم، فلا يجوز إضافته إليهم، ولكنه إنما أضيف إليهم، لأن دعاءه إياهم لما كان لا ينجع فيهم، ولا يردهم عن معاصيهم، فأضيف الإنساء إليهم، وفي هذا المعنى قوله حكاية عن نوح ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾
5. روي عن أبي الحسن الأخفش والإسكافي أنهما قالا: إن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما، إنما نملي لهم خير لأنفسهم)، وهذا بعيد، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون إنما الأخيرة مفتوحة الهمزة، لأنها معمول ليحسبن على هذا القول، وأن يكون إنما الأولى مكسورة الهمزة، لأنها مبتدأ على هذا القول، والتقديم والتأخير لا يغيران الإعراب عن استحقاقه، وذلك خلاف ما عليه القراءة، لأن القراء قد أجمعوا على كسر الثانية، وأكثرهم على فتح الأولى.
6. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يهينهم في نار جهنم.
7. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾، (ولا يحسبن الذين يفرحون) كلهن بالياء وكسر السين وكذلك (فلا يحسبنهم) بضم الباء وبالياء وكسر السين، وقرأ حمزة كلها بالتاء وفتح السين وفتح الباء من (يحسبنهم)، وقرأ أهل المدينة والشام ويعقوب كلها بالياء إلا قوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بالتاء وفتح الباء، إلا أن أهل المدينة ويعقوب، كسروا السين وفتحها الشامي، وقرأ عاصم والكسائي وخلف، كل ما في هذه السورة بالتاء إلا حرفين ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ فإنهما بالياء غير أن عاصما فتح السين، وكسرها الكسائي.. من قرأ بالياء فالذين في هذه الآي في موضع الرفع بأنه فاعل، وإذا كان الذين فاعلا، ويقتضي حسب مفعولين، أو ما يسد مسد المفعولين، نحو: حسبت أن زيدا منطلق، وحسبت أن يقوم عمرو، فقوله تعالى ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ قد سد مسد مفعولين اللذين يقتضيهما ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ وما يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون بمعنى الذي فيكون تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه لهم خير لأنفسهم والآخر: أن يكون ما نملي بمنزلة الإملاء، فيكون مصدرا، وإذا كان مصدرا لم يقتض راجعا إليه، وقال المبرد من قرأ يحسبن بالياء فتح إن، ويقبح الكسر مع الياء، وهو جائز على قبحه، لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي، فهو يبطل عمله مع إن المكسورة، كما يبطل مع اللام، كما يجوز: حسبت لعبد الله منطلق، يجوز على بعد: حسبت أن عبد الله منطلق، وقال أبو علي: الوجه فيه أن أن يتلقى بها القسم، كما يتلقى بلام الابتداء، وتدخل كل واحد منهما على الابتداء والخبر، فكأنه قال: لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خيرا لهم، وأما قراءة حمزة بالتاء من ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ وبفتح إن فقد خطأه البصريون في ذلك، لأنه يصير المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا املاءنا، وذلك لا يصح، غير أن الزجاج قال: يجوز على البدل من الذين، والمعنى: ولا تحسبن املاءنا للذين كفروا خيرا لهم، ومثله في الشعر: وما كان قيس هلكه هلك واحد... ولكنه بنيان قوم تهدما قال أبو علي: لا يجوز ذلك، لأنك إذا أبدلت ﴿أَنْ﴾ من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لزمك أن تنصب ﴿خَيْرًا﴾ من حيث كان المفعول الثاني، ولم ينصبه أحد من القراء، وإذا لم يصح البدل، لم يجز فيه إلا كسر إن على أن يكون إن وخبرها في موضع المفعول الثاني من ﴿تَحْسَبَنَّ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/893.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: في اليهود والنّصارى والمنافقين، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: في قريظة والنّضير، قاله عطاء.
ج. الثالث: في مشركي مكّة، قاله مقاتل.
د. الرابع: في كلّ كافر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
2. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: (ولا يحسبنّ الذين كفروا) (ولا يحسبنّ الذين يبخلون) (ولا يحسبنّ الذين يفرحون) بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنّه فتح السين، وقرأ حمزة بالتاء، وقرأ عاصم والكسائيّ كلّ ما في هذه السّورة بالتاء غير حرفين ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ فإنّهما بالياء، إلا أن عاصما فتح السين، وكسرها الكسائيّ، ولم يختلفوا في ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ أنها بالتاء.
3. ﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾: أي: نطيل لهم في العمر، ومثله: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾، قال ابن الأنباريّ: واشتقاق (نملي لهم) من الملوة، وهي المدّة من الزّمان، يقال: ملوة من الدّهر، وملوة، وملوة، وملاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: وتمل حبيبا، أي: لتطل أيّامك معه، قال متمّم بن نويرة:
çبودّي لو أني تملّيت عمره...بما لي من مال طريف وتالدé
__________
(1) زاد المسير: 1/351.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حكى الله تعالى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل، فهذا بيان وجه النظم.
2. قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ولا تحسبن الذين كفروا) (ولا تحسبن الذين يبخلون) [آل عمران: 180] (لا تحسبن الذين يفرحون).. (فلا تحسبنهم) [آل عمران: 188] في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله: (تحسبنهم) وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ فإنه بالتاء، وقرأ حمزة كلها بالتاء، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة، أما الذين قرؤوا بالياء المنقطة من تحت: فقوله: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ فعل، وقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت، وقوله: حسبت أن زيدا منطلق، وحسبت أن يقوم عمرو، فقوله في الآية: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ يسد مسد المفعولين، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ﴾ [الفرقان: 44] وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج، وهو أن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ نصب بأنه المفعول الاول، و﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بدل عنه، و﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ هو المفعول الثاني والتقدير: ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم، ومثله مما جعل (أن) مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: 7] فقوله: ﴿أَنَّهَا لَكُمْ﴾ بدل من إحدى الطائفتين.
3. (ما) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه خير لأنفسهم، وحذف الهاء من (نملي) لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك: الذي رأيت زيد.
ب. والآخر: أن يقال: (ما) مع ما بعدها في تقدير المصدر، والتقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير، قال الزمخشري: (ما) مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب، وأما في قوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى.
4. معنى ﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾ فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى، ومعنى (نملي) نطيل ونؤخر، والإملاء الامهال والتأخير، قال الواحدي: واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان، يقال: ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد، قال الأصمعي: يقال: أملى عليه الزمان أي طال، وأملى له أي طول له وأمهله، قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار.
5. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه:
أ. الأول: أن هذا الإملاء عبارة عن اطالة المدة، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى، والآية نص في بيان أن هذا الإملاء ليس بخير، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر.
ب. الثاني: أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الإملاء هو أن يزدادوا الإثم والبغي والعدوان، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بإرادة الله، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين.
ج. الثالث: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الإملاء، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان، والإتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الإملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم.
6. أجاب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ على هذه الوجوه بما يلي:
أ. أما الوجه الأول: فليس المراد من هذه الآية أن هذا الإملاء ليس بخير، إنما المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء، ولا يلزم من نفي كون هذا الإملاء أكثر خيرية من ذلك القتل، أن لا يكون هذا الإملاء في نفسه خيرا.
ب. وأما الوجه الثاني: فقد قالوا: ليس المراد من الآية أن الغرض من الإملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ [النساء: 64] بل الآية تحتمل وجوها من التأويل:
• أحدها: أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8] وقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: 179] وقوله: ﴿وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [إبراهيم: 30] وهم ما فعلوا ذلك لطلب الإضلال، بل لطلب الاهتداء، ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك.
• ثانيها: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم.
• ثالثها: أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان، أشبه هذا حال من فعل الإملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز.
• رابعها: وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ غير محمول على الغرض بإجماع الأمة، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والإيلام، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الإحسان، وإذا كان كذلك فقد حصل الإجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال، ثم بعد هذا: قول القائل: ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله.
ج. أما الوجه الثالث: وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه، ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا، وهو بالإجماع باطل.
7. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على هذه الإجابات بما يلي:
أ. عن الأول: أن قوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ معناه نفي الخيرية في نفس الأمر، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح، فلما لم يذكر الله هاهنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر.
ب. عن الثاني: وهو تمسكهم بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] وبقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ﴾ [النساء: 64]، فجوابه: أن الآية التي تمسكنا بها خاص، والآية التي ذكرتموها عام، والخاص مقدم على العام.
ج. عن الثالث: وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر، وأيضاً فان البرهان العقلي يبطله؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب، وعدم حصوله محال، وإرادة المحال محال، فيمتنع أن يريد منهم الايمان، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة.
د. عن الرابع: وهو التقديم والتأخير، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
• أحدها: أن التقديم والتأخير ترك للظاهر.
• ثانيها: قال الواحدي: هذا إنما يحسن لو جازت قراءة ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ بكسر (إنما) وقراءة ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ بالفتح، ولم توجد هذه القراءة ألبتة.
• ثالثها: أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الإملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع.
هـ. عن الخامس: وهو قوله: هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل، فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع، وأيضاً قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الإملاء إيصال الخير لهم والإحسان إليهم، والقوم لا يقولون بذلك، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه.
و. عن السادس: وهو المعارضة بفعل الله تعالى، فالجواب: أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه، فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة، أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه، فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية.
8. اتفق أصحابنا(2) أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية، اختلف فيه قول أصحابنا، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية، وقالوا هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة، لأنه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير، والعقل أيضا يقرره وذلك لأن من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك الإطعام إنعاما، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول: تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/439.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ الإملاء طول العمر ورغد العيش، والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين، فإن الله قادر على إهلاكهم، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم، ويقال: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم، وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة، وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له، لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران] وإن كان فاجرا فقد قال الله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾
2. قرأ ابن عامر وعاصم (لا يحسبن) بالياء ونصب السين، وقرأ حمزة: بالتاء ونصب السين، والباقون: بالياء وكسر السين، فمن قرأ بالياء فالذين فاعلون، أي فلا يحسبن الكفار.
3. ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ تسد مسد المفعولين، و﴿إِنَّمَا﴾ بمعنى الذي، والعائد محذوف، و﴿خَيْرُ﴾ خبر ﴿أَنْ﴾، ويجوز أن تقدر ﴿مَا﴾ والفعل مصدرا، والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم، ومن قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، و﴿الَّذِينَ﴾ نصب على المفعول الأول لتحسب، وأن وما بعدها بدل من الذين، وهي تسد مسد المفعولين، كما تسد لو لم تكن بدلا، ولا يصلح أن تكون ﴿أَنْ﴾ وما بعدها مفعولا ثانيا لتحسب، لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى، لأن حسب وأخواتها داخلة على المبتدأ والخبر، فيكون التقدير، ولا تحسبن أنما نملي لهم خير، هذا قول الزجاج، وقال أبو علي: لو صح هذا لقال: ﴿خَيْرًا﴾ بالنصب، لأن ﴿أَنْ﴾ تصير بدلا من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فكأنه قال: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا، فقوله ﴿خَيْرًا﴾ هو المفعول الثاني لحسب، فإذا لا يجوز أن يقرأ ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء إلا أن تكسر ﴿أَنْ﴾ في ﴿إِنَّمَا﴾ وتنصب خيرا، ولم يرو ذلك عن حمزة، والقراءة عن حمزة بالتاء، فلا تصح هذه القراءة إذا، وقال الفراء والكسائي: قراءة حمزة جائزة على التكرير، تقديره ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم خيرا، فسدت ﴿أَنْ﴾ مسد المفعولين لتحسب الثاني، وهي وما عملت مفعول ثان لتحسب الأول، قال القشيري: وهذا قريب مما ذكره الزجاج في دعوى البدل، والقراءة صحيحة، فإذا غرض أبي علي تغليط الزجاج، قال النحاس: وزعم أبو حاتم أن قراءة حمزة بالتاء هنا، وقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ [آل عمران] لحن لا يجوز، وتبعه على ذلك جماعة، قلت: وهذا ليس بشيء، لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا، وقرأ يحيى بن وثاب ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بكسر إن فيهما جميعا، قال أبو جعفر: وقراءة يحيى حسنة، كما تقول: حسبت عمرا أبوه خالد، قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر ﴿أَنْ﴾ يحتج به لأهل القدر، لأنه كان منهم، ويجعل على التقديم والتأخير (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم)، قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار (إنما نملي لهم إيمانا) فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه.
4. الآية نص في بطلان مذهب القدرية، لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب، كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان، وعن ابن عباس قال: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ وتلا ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ أخرجه رزين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/287.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ قرأ ابن عامر، وعاصم، وغيرهما: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾: بالياء التحتية، وقرأ حمزة: بالفوقية، والمعنى على الأولى: لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ورغد العيش، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد.
2. ﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ فليس الأمر كذلك، بل: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، وعلى القراءة الثانية: لا تحسبن يا محمد! أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم، بل هو شرّ واقع عليهم، ونازل بهم، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم ليزدادوا إثما، فالموصول على القراءة الأولى: فاعل الفعل، وأنما نملي وما بعده: ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه، أو سادّ مسد أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش، وأما على القراءة الثانية: فقال الزجاج: إن الموصول هو المفعول الأول، وأنما وما بعدها: بدل من الموصول، ساد مسد المفعولين، ولا يصح أن يكون أنما وما بعده هو المفعول الثاني، لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأوّل في المعنى، وقال أبو علي الفارسي: لو صح هذا لكان: خيرا، بالنصب، لأنه يصير بدلا من الذين كفروا، فكأنه قال لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا، وقال الكسائي والفراء: إنه يقدر تكرير الفعل، كأنه قال ولا تحسبنّ الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم، فسدّت مسدّ المفعولين، وقال في الكشاف: فإن قلت كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت: صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك.
3. قرأ يحيى بن وثاب: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾ بكسر إن فيهما، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية، وقوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ جملة مستأنفة، مبينة لوجه الإملاء للكافرين، وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة: لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار، ويجعل عيشهم رغدا ليزدادوا إثما، قال أبو حاتم: وسمعت الأخفش يذكر كسر ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾ الأولى وفتح الثانية، ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم، ويجعله على هذا التقدير: ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم، وقال في الكشاف: إن ازدياد الإثم علة، وما كل علة بعرض، ألا ترك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ، وليس شيء يعرض لك، وإنما هي علل وأسباب.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/462.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا ﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ بل هو سبب مزيد عذابهم، لأنه ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ بكثرة المعاصي فيزدادوا عذابا ﴿وَلَهُمْ﴾ أي في الآخرة ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ذو إهانة في أسفل دركات النار.
2. في (ما) من قوله تعالى ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ الأولى وجهان:
أ. أن تكون مصدرية أو موصولة، حذف عائدها، أي إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم.
ب. الثانية: كان حق (ما) في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة، ولكنها وقعت في الإمام متصلة، فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف.
3. (ما) الثانية في ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾.. متصلة لأنها كافّة.
4. في قوله تعالى ﴿مَهِينٍ﴾ سر لطيف، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر، وصف عذابهم بالإهانة، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/465.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي﴾ نمهل، و(ما) اسم للإملاء، أو للعُمُر، أي: نمليه، أو مصدريَّة، أي: أنَّ إملاءنا ﴿لَهُمْ خَيْرٌ﴾ خبر (أنَّ)، ﴿لأَنفُسِهِم﴾ والمصدر من خبرها سدَّ مسدَّ المفعولين، أي: لا يحسبنَّ الذين كفروا خيرة ما نملي لهم، ويجوز كون (ما) مصدريَّة، أي: أنَّ إملاءنا لهم خير.
2. ﴿إِنَّمَا﴾ إنَّ العمر الذي ﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾ أو إنَّ الإملاء الذي نملي لهم، واللام بمعنى عَلَى، أو للنفع بحسب ظنِّهم لعنهم الله، ﴿لِيَزْدَادُواْ إثمًا﴾ ثابت ليزدادوا، أو ما نملي لهم إِلَّا ليزدادوا، واللام للعاقبة لا للتعليل؛ لأَنَّ الإملاء غير مُتَقَدِّم عَلَى ازدياد الإثم، والعلَّة الباعثة تتقدَّم عَلَى المعلول تعالى الله عن ذلك، ولكن لا مانع من أنَّ لِكُلِّ ازدياد جزءا من الإملاء قبله، والله يريد الشرَّ بخلقه كما يريد لهم الخير، فيقال: اللام للإرادة، وأخطأ المعتزلة إذ قالوا: لا يريد لهم إِلَّا الخير.
3. ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ مذلٌّ جزاءً وفاقا عَلَى ترفُّعهم وتعزُّزهم في الدنيا، وتكبُّرهم في أعمارهم الطويلة بطيِّبات الدنيا، ورَدٌّ لتوهُّمهم أنَّهم أعزَّة عند الله تعالى .
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/67.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قد يعرض لبعض الأفكار وهم في هذا المقام، ويجول فيها صورة ما يتمتعون به من اللذات والقوة، وإمكان نيلهم من المؤمنين إذا أذنبوا كما نالوا منهم يوم أحد بذنبهم وتقصيرهم، فيقول الواهم: آمنا وصدقنا أن هؤلاء سيعذبون في الآخرة ولا يكون لهم نصيب من نعيمها؛ ولكن أليسوا الآن متمتعين بالدنيا؟ أليس لهم فيها من القوة ما تمكنهم من الاعتداء علينا؟ وقد كشف هذا الوهم قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، فبين لنا سنة حكيمة من سننه في الاجتماع البشري؛ وهي أن الإنسان يبلغ الخير بعمله الحسن؛ ويقع في الضير بتقصيره في العمل الصالح وتشميره في عمل السيئات، والعبرة بالخواتيم، فكأنه قال: إن هذا الإملاء للكافرين ليس عناية من الله بهم وإنما هو جري على سنته في الخلق، وهي أن يكون ما يصيب الإنسان من خير وشر هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لاسترساله في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم الذي يترتب عليه العذاب المهين.
2. هذا ما عندي عن محمد عبده في معنى الآية متصلا بما قبله، وقرأ حمزة (تحسبن) بالتاء على أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لكل من يحسب، وفتح سين بحسب في جميع القرآن هو ابن عامر وعاصم وكسرها الباقون.
3. الإملاء والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ مداه فيه من قولهم: أملى لفرسه، إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء أي: لا تحسبن يا محمد هؤلاء الذين كفروا إملاءنا لهم خير لأنفسهم، فقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بدل من المفعول، أو لا يحسبن هؤلاء الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم، فإن الخير ليس في الإمهال وإرخاء العنان للإنسان ليعمل بحسب استعداده ما يشاء، فإن هذه سنة الله في جميع البشر يعملون باختيارهم ما يشاؤون في دائرة الإمكان، وإنما يكون الخير للإنسان في الإملاء وطول الأجل، مع التمكين من العمل، إذا كان يزداد فيه عملا صالحا ينتفع به في نفسه بارتقائها في الأخلاق العالية؛ والصفات الفاضلة، وينفع به الناس في تهذيب أنفسهم، وتحسين معيشتهم، وهؤلاء الكافرون من المنافقين والمشركين وأمثالهم لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم، بالتمادي في مكابرة الحق، والاسترسال في الفسق، وتأييد سلطان الشر في الخلق.
4. فاللام في قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ هي التي يسمونها لام العاقبة والصيرورة، أي لتكون عاقبتهم بحسب السنة العامة في الخلق ازدياد الإثم فإنهم بمقتضى كفرهم وباطلهم يقاومون أهل الحق من المؤمنين، وكلما عمل الإنسان على شاكلته قويت بالعمل، والإثم داعية الإثم، كما أن الخير يمد بعضه بعضا، فما من خليقة ولا شاكلة في الإنسان إلا ويزيدها العمل بمقتضاها قوة ورسوخا في نفسه فهذه سنة من سننه تعالى في طباع البشر.
5. سؤال وإشكال: يرد هنا إشكالان:
أ. أحدهما: أن من الكافرين من يعمل الخير فإذا طال عمره ازداد منه، وهذا شيء ثابت بالنظر والاختبار، ونصوص القرآن التي تحكم بالضلال على الكثير أو الأكثر وإذا أطلقت الحكم أو عممته أتبعته باستثناء الأقل كما تقدم ذلك في التفسير.
ب. ثانيهما: أن من الكفار من إذا أملي له يظهر له في أثناء عمله بكفره أنه مخطئ فيتوب ويؤمن ويعمل الأعمال الصالحة، فالقاعدة التي ذكرت في ازدياد الاعتقاد والخلق قوة ورسوخا بالعمل غير مطردة وإطلاق الآية غير ظاهر في جميع الكفار.
6. الجواب: نحل الإشكالين كليهما بالمسائل الآتية حلا لا مرية فيه لمن تدبرها:
أ. الأولى: أن الكلام في الذين ثبت كفرهم في علم الله وأنهم لا يرجعون عنه لأن تربيتهم وسيرتهم التي كانوا عليها مذ كانوا رانت على قلوبهم وأحاطت بهم خطيئاتهم الناشئة عنها حتى لم يبق للهداية طريق إلى نفوسهم.
ب. الثانية: أن ما ذكر من ازديادهم إثما بالإملاء لهم هو شأنهم من حيث هم كافرون فهم من هذه الحيثية لا يزدادون على تمادي الزمان إلا إثما بعداوة النبي والمؤمنين وصدهم عن سبيل الله ومن تاب منهم وآمن لا يصدق على الإملاء له أنه من الإملاء للذين كفروا.
ج. الثالثة: أن في كل أمة مهما كان دينها أناسا تغلب عليهم سلامة الفطرة وحب الفضيلة فهم يعملون الخير وإن غلب الشر والفساد على من حولهم من قومهم وهؤلاء إذا دعوا إلى الدين الحق دعوة صحيحة لا يسارعون في مجاحدته ومعاداة الداعي وإيذائه بل هم الذي يسارعون إلى الإيمان به عندما يظهر لهم صدق دعوته وقد يثبتون قبل ذلك وإنما الكفر الحقيقي هو جحود الحق بعد ظهور حجته كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ [النساء: 114] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 32] فهؤلاء المراد بالذين كفروا في الآية.
د. الرابعة: أن من يستثنيهم القرآن من الحكم على الأمم التي يصفها بالكفر لا يستثنيهم في عمل السوء والشر فقط بل يستثنيهم من الكفر نفسه أيضا فكما قال في أهل الكتاب ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 158] وقال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 158] وقال: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 69] قال فيهم أيضا: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 154]
هـ. الخامسة: قد كان كثير من أولئك الكافرين المحاربين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه مؤمنين بالقوة والاستعداد وكان إيمانهم يظهر حينا بعد حين عندما تتم أسبابه، كما كان كثير من المؤمنين معه في الظاهر، كافرين في الباطن، وكانت نواجم الكفر تبدو منهم آنا بعد آن، كما ظهر منهم يوم أحد ـ وما العهد بتفسير الآيات التي نزلت فيها ببعيد ـ وكما ظهر يوم الأحزاب وفي غزوة تبوك التي فضحهم الله تعالى فيها كما سيأتي في تفسير سورة الأحزاب وسورة التوبة إن شاء الله تعالى ـ فالله تعالى يحكم على الشيء بحسب الواقع ونفس الأمر، ولا تنس المسألة الأولى من هذه المسائل.
في الآية من مواضع العبرة أن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول العمر والتمكن من العمل على شاكلته وبحسب استعداده، ويقابله أن المؤمن كلما طال عمره كثرت حسناته، وازدادت خيراته، فعسى أن يتخذ هذا ميزانا من موازين الإيمان ومحاسبة النفس، فإنه مما يذهب بالغرور، ويخرج الذي فقهه من الظلمات إلى النور.
7. من مباحث اللفظ أن قوله: (أنما) الأولى المفتوحة الهمزة كتبت في المصاحف متصلة أن فيها بما اتباعا للمصحف الإمام، ويجب بحسب فن الرسم فصلها، و(ما) هذه مصدرية على ما جرينا عليه في تفسير الآية، وقيل موصولة وهي مع صلتها في تأويل مصدر، وهو لا يصح حمله على (الذين) إلا بتأويل كتقدير مضاف أو حال، وذهب صاحب الكشاف إلى ترجيح البدلية، وقالوا فيه إن البدل ما يستغنى به عن المبدل منه وهنا لا يصح الاستغناء، وأجاب الزمخشري بأن عدم الاستغناء متعين في المعنى لا في اللفظ، وذكر ذلك محمد عبده وقال: والحق أنه يتسامح في أن المصدرية وما دخلت عليه ما لا يتسامح في المصدر نفسه ولا حاجة في الآية إلى تقدير.
8. في الآيات الثلاث (176 ـ 177 ـ 178) التفنن في وصف العذاب بين عظيم وأليم ومهين، والأليم ذو الألم والمهين ذو الإهانة، وهذه الأوصاف يتوارد بعضها على بعض كما لا يخفى وهذا لا يمنع مناسبة كل وصف لآيته ككون الجزاء بالعظيم على المسارعة في الكفر، لأن من شأن المسارعة أن تكون في العظائم، وبالأليم على شر الكفر لأن المشتري المغبون يتألم، وبالمهين على ازدياد الإثم بالإملاء لأن من ازدادوا إثما ما كانوا يطلبون إلا العزة والكرامة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/250.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله تعالى أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا في الحياة ليس من الخير لهم فقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به في أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيئ الأخلاق، وينتفع به الناس في تهذيبهم وتحسين معايشهم، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم، بالتمادي في مكابرة الحق، وتأييد سلطان الشر في الخلق، فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى في الدنيا والعقاب الدائم في الآخرة، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد في مثل هذه الحياة، وتزيينها لهم مما لا ينبغي أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل.
2. والخلاصة ـ إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه في الخلق، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لاسترساله في فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.
3. في الآية من العبرة:
أ. إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.
ب. إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/141.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية؛ يحسبون أن الله ـ حاشاه ـ يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله سبحانه لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب!؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم! وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك، وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن.. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء، فإنما هي الفتنة؛ وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾!
2. ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيرا، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة ـ غمرة النعمة والسلطان ـ بالابتلاء!
3. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
4. وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير، فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم ـ ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء ـ فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين.
5. وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/525.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ فيه تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين، وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام، كي يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح!، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾
2. الله سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاء ووبالا.. ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
3. هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شيء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفي هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوّى صلتهم بالله، ويزيد في حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين، أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم إلى آيات الله تلك، التي تعرض الكفر وأهله في هذا العرض المخيف، ويرى منه المصير الذي ينتظره، فيرجع إلى نفسه، ويعدل عن موقفه، ويصالح ربّه بالإيمان به، والموالاة لأوليائه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/650.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾:
أ. عطف على قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ [آل عمران: 169] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين: إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ، والأخرى تلوح حالة خير، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.
ب. يجوز كونه معطوفا على قوله: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ [آل عمران: 176] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجبا لحزنه، لأنهم لا يضرّون الله شيئا، ثم ألقى إليه خبرا لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين: أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاما، ليكون أخذهم بعد ذلك أشدّ.
2. قرأه الجمهور ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ـ بياء الغيبة ـ وفاعل الفعل ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. وقرأه حمزة وحده ـ بتاء الخطاب، فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، غير أنّه حسبان تعجّب، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيرا لهم، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك.
ب. على قراءة ـ الياء التحتية ـ فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم، ويمرّ عيشهم بهذا الوعيد، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل.
3. الإملاء: الإمهال في الحياة، والمراد به هنا:
أ. تأخير حياتهم، وعدم استئصالهم في الحرب، حيث فرحوا بالنصر يوم أحد، وبأنّ قتلى المسلمين يوم أحد كانوا أكثر من قتلاهم.
ب. ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول في المرعى، وهو مأخوذ من الملو بالواو وهو سير البعير الشديد، ثم قالوا: أمليت للبعير والفرس إذا وسّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخبب والركض، فشبّه فعله بشدّة السير، وقالوا: أمليت لزيد في غيّه أي تركته: على وجه الاستعارة، وأملى الله لفلان أخّر عقابه، قال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيها للمعقول بالمحسوس فقالوا: ملّأك الله حبيبك تملية، أي أطال عمرك معه.
4. ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ (أنّ) أخت (إنّ) المكسورة الهمزة، و(ما) موصولة وليست الزائدة، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من (إن) أخت (أنّ) و(ما) الزائدة الكافّة، التي هي حرف حصر بمعنى (ما) و(إلّا)، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّردا في الرسم القديم، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين، وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون (أنّما) من قوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من (أنّ) و(ما) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين، وأنّ المعنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلّا خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّا لهم، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث، فهو قصر حقيقي في ظنّهم، ولهذا يكون رسمهم كلمة (أنّما) المفتوحة الهمزة في المصحف جاريا على ما يقتضيه اصطلاح الرسم.
5. ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ هو بدل اشتمال من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فيكون سادّا مسدّ المفعولين، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال، ثمّ التفصيل، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلّق بها الظنّ، وهي مدلول المفعول الثاني، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضل تمكّن وزاد تقريرا.
6. ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيرا، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثما، و(إنما) هذه كلمة مركّبة من (إنّ) حرف التوكيد و(ما) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي: ما نملي لهم إلّا ليزدادوا إثما، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب، ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثما في تلك المدّة، فيشتدّ عقابهم على ذلك، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيرا لهم، بل هو شرّ لهم.
7. اللام في ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ لام العاقبة كما هي في قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8] أي: إنما نملي لهم فيزدادون إثما، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء، كان كالعلّة له، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملى لهم علم أنّهم يزدادون به إثما، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة، وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه، وتعليل النهي على حسبان الإملاء لهم خيرا لأنفسهم حاصل، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/291.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النص الكريم في بيان معاملة الله تعالى للذين تركوا الحق، ويتبعون الضلال، ويحادّون الله ورسوله سرا وإعلانا، وقد بين سبحانه في الآية أنه لا يصح أن تكون مسارعة الكفار في الكفر وتنقلهم من حال إلى حال فيه سببا في حزنك، وإلقاء الغم في قلبك، لأنهم لا يضرون إلا أنفسهم ولن يضروك شيئا ما دام الله سبحانه معك، ولن يتخلى عنك، وفي هذه الآيات يبين معاملة الله تعالى لهؤلاء الكافرين، واختباره سبحانه للمؤمنين، وأنه سبحانه وتعالى قد قدر كل ذلك في علمه المكنون الذي لا يطلع عليه أحد.
2. وقد قال سبحانه في أوصاف الكافرين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هذه الآية تبين حال الذين عاندوا الرسول، ولم يخلصوا في طلب الحق، وهؤلاء أقبلوا على الكفر راغبين فيه طالبين له، حتى إنهم ليجعلون الإيمان الذي أودعه الله تعالى النفوس في تكوينها، وجعله موضع النور في كيانها ـ ثمنا يقدم في نظير الكفر الذي يأخذونه، وفي هذا دلالة على أمرين:
أ. أولهما: أن الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه فكان هذا دليلا على تمكن الضلال، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب أن يكون متوقعا، فيهون أمره، ويضعف في النفس أثره.
ب. ثانيهما: أن الإيمان في ملك كل إنسان، وهو الأصل الذي يجب أن يهتدى إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق، فإذا فتح قلبه للكفر، فقد باع أغلى شيء في الوجود، وهو الإيمان، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر، والكلام بعد ذلك فيه استعارة تمثيلية، وهى تصوير الكافر الذي يترك بينات الله وآياته، وإنها لكثيرة، ويختار الضلال مع قيام الأدلة على بطلانه، بمن يكون في يده أجود بضاعة، ويبيعها بأرخص الأثمان، بل بشيء لا يفيد قط، وفيه إشارة إلى أن الكافرين يعلمون أن ما هم عليه هو الباطل، ولكنه العناد والطغيان، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل]
3. وقد بين سبحانه أن هؤلاء الذين اتجروا بإيمانهم وجعلوه سلعة تباع ـ مغبة فعلهم عليهم وحدهم دون سائر الناس، ولن يضروا المؤمنين إلا أذى والعاقبة للمتقين، ولذا قال سبحانه: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ أي ليس في طولهم ولا في طاقتهم أن يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف، أي وتقديره دين الله أو رسوله أو المؤمنين بالله، وفي حذف المضاف إشارة إلى أن ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين.
4. وإذا كان أولئك لا يضرون الله فهم لا يضرون إلا أنفسهم، وبين سبحانه الضرر الذي يلحقهم بقوله سبحانه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب مؤلم شديد الإيلام لهم في الدنيا وفي الآخرة، فآلامهم في الدنيا هزائم تتلوها هزائم، وخزى وسقوط لهم عن علياء طاغوتهم إلى الدرك الأسفل، وفعيل هنا بمعنى فاعل، ك ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة] بمعنى مبدع.
5. قد يسأل سائل: لماذا يتمتع هؤلاء بالسلطان، ولما ذا ينتصرون أحيانا؟ فبين سبحانه أن ذلك إملاء لهم، فقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾، قد يرد على الخاطر: إذا كان أمر الله هو الغالب فلم يترك هؤلاء في هذا النعيم؟ فقال سبحانه ذلك النص الكريم.
6. الإملاء: الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه، من قولهم: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء، ويطلق الإملاء على طول العمر، وهو من أملى بمعنى أعطاه ملاوة أو مهلة من الزمان، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (الإملاء: الإمداد، ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر، وملى من الدهر)
7. هنا في النص الكريم قراءتان:
أ. إحداهما بالياء أي ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ ويكون النهى عن الظن متجها للذين كفروا، والمعنى على هذا لا يجل بخواطر أولئك الكافرين أن إملاءنا لهم بإعطائهم نعيما في الدنيا، وإرخاء العنان لهم، وتمتيعهم وعدم القضاء عليهم دفعة واحدة ـ فيه خير لهم، ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما (أن (المصدرية و(ما) بعدها فإن ذلك كثير في القرآن وكثير من كلام العرب، كقولك عن شخص: لا يحسب أنه عالم.
ب. وعلى القراءة الثانية، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ يكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون المفعول الأول هو ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ بدل من الذين كفروا، وسد مسد المفعول الثاني، ويصح أن يكون هو المفعول الثاني، ويكون المعنى على هذا: لا تظن يا محمد ولا يظن أحد من أمتك الذين كفروا قد أملى لهم لخير يأتيهم، ويكون توجيه الظن إلى الذين كفروا له فائدة؛ لأن الظن قد سبق إلى المؤمنين من أشخاصهم، وما أوتوا من مال وقوة وعزة نفر، وبقاءهم على هذا أمدا طويلا.
8. صرح سبحانه من بعد ذلك بنتيجة الإملاء فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، والمعنى أننا لا نملى للذين كفروا إلا لنتيجة واحدة مقررة ثابتة، وهى أن يزدادوا إثما، وينالهم عذاب مهين مذل لهم في الدنيا والآخرة، فإنهم إن كانوا قد نالوا في هذا الإملاء نعيما وعزا، فإنهم بعد ذلك سينالهم العذاب الأليم المهين الذي لا يكون لهم قبل بدفعه.
9. (اللام) هنا لبيان العاقبة لا للتعليل والغاية وذلك كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص]، وذلك بيان للنتيجة؛ لأن نتيجة الالتقاط كانت كذلك، وإن كان الباعث في الحقيقة هو أن يتخذوه لهم وليا وموضع سرور، وبهذا تكون الآية مبينة لغاية عملهم، وأن النتيجة شر لهم لا محالة.
10. سؤال وإشكال: إن من الكافرين من تكون زيادة الإملاء له سببا في زيادة خير يقوم به وإن كان كافرا، وإن من هؤلاء الكافرين من يؤمن ويحسن إيمانه، فكان حقا أن الإملاء أنتج خيرا إذ مكنهم من الإيمان، والجواب:
أ. عن الأول إن زيادة الإثم، لا تمنع وجود فعل خير، وهم يزداد إثمهم باستمرارهم على الكفر ومشاقة الله ورسوله على أن ما يفعلون من خير يحبطه جحودهم وإنكارهم ومعاندتهم لله سبحانه إذ تنقصهم عند فعل الخير النية الطيبة.
ب. وعن الثاني نقول: إن زيادة الإثم مشروطة باستمرارهم على الكفر؛ لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم، وإن الإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق، وبإيمانهم تنته هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر، فبانتهائه تزول الزيادة، بل يغفر الله سبحانه وتعالى ما سبق كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال]
11. وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان أنهم سيكونون من بعد في أشد الذلة؛ لأن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لا رفعة معه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1517.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، ان عمر الإنسان كثروته، ان أحسن التصرف بها، وأنفقها على نفسه وأهله والمعوزين من عباد الله وعياله عادت عليه بالخيرات والحسنات، وكلما زادت ثروته تضاعف إنفاقه في الطاعة، وتضاعفت بذلك حسناته، وان أساء التصرف بها، وأنفقها في المعصية عادت عليه بالسيئات، وكلما نمت وربت ثروته ازداد عتوا وفسادا.. وهكذا العمر، يبلغ الإنسان به السعادة ان أحسن العمل.. ويكون سببا لشقائه ان أساء.. وهذه سنة إلهية واجتماعية في آن واحد.. وكل السنن المألوفة المعروفة طبيعية كانت أو اجتماعية فهي سنة الله في خلقه.
2. الله سبحانه قد جرى مع الكافرين على سنته في الناس أجمعين، أمهل من أمهل باطالة العمر، ليصيب من هذه الحياة ما يختاره لنفسه من خير أو شر، ولكن الكافر اغتر بالإمهال، واسترسل في البغي، فكانت النتيجة من إمهاله شقاءه وعذابه، على العكس من المؤمن إذا انسأ الله في أجله، حيث تزداد خيراته، وتكثر حسناته، بل من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، كما جاء في الحديث الشريف.. ومن هذا يتبين ان اللام في قوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا﴾ هي للعاقبة لا للتعليل.
3. سؤال وإشكال: ان بعض الكفار يعملون الخير لوجه الخير، وكلما طالت أعمارهم ازدادوا نفعا للانسانية بعلومهم وجهودهم الخالصة من كل شائبة.. وهذا يتنافى مع ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾؟ والجواب: ان سياق الآية يحدد المراد من الإثم فيها، وانه خصوص الكفر، وانهم من هذه الحيثية يزدادون كفرا، لا من جميع الجهات، إذ قد يكونون محسنين في بعض أعمالهم.
4. سؤال وإشكال: هل يثاب الكافر إذا أحسن ونفع الناس، أم ان عمله هذا وعدمه سواء؟ والجواب: ان الإنسان بالنظر إلى الايمان والعمل الصالح لا يخلو أن يكون واحدا من أربعة:
أ. ان يؤمن ويعمل صالحا، وينطبق على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
ب. ان لا يؤمن ولا يعمل صالحا.. وهذا من الذين: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
ج. ان يؤمن، ولكنه لم يعمل صالحا مدة حياته.. وهذا من حزب الشيطان، تماما كالثاني.. ولو كان مؤمنا حقا لظهرت عليه علامة من علامات الايمان، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا ينجي الا العمل، ولو عصيت لوهيت، أما إذا خلط عملا صالحا، وآخر سيئا، واعترف بذنبه فتشمله الآية 103 من التوبة: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
د. ان يعمل صالحا، ولا يؤمن، كالكافر يطعم جائعا أو يكسو عاريا أو يشق طريقا أو يبني ميتما أو مصحا لوجه الخير والإنسانية، وقيل ان عمله هذا وعدمه سواء، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، والكافر ليس من المتقين، إذ ليس بعد الكفر ذنب، وقيل غير ذلك(2).
5. ليس المراد من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ ان الإنسان إذا عصى الله في شيء لا يقبل منه إذا أطاعه في شيء آخر.. والا لزم ان لا يتقبل الا من المعصوم.. وهذا يتنافى مع عدله وحكمته، وإنما المراد من الآية ان الله سبحانه لا يقبل الا العمل الخالص من كل شائبة دنيوية، وان من عمل لغير الله والخير يكله إلى من عمل له.. وليس من شك ان من عمل الخير لوجه الخير والانسانية فقد عمل لله، سواء أراد ذلك، أم لم يرد، ومن عمل لله فأجره على الله، أما المراد من (ليس بعد الكفر ذنب) فهو ان الكفر أكبر الكبائر على الإطلاق، وان الذنب مهما عظم فإنه دون الكفر بمراتب.. وهذا شيء، وجزاء من أحسن شيء آخر.. ثانيا: ان الله سبحانه عادل، ومن عدله أن لا يكون المحسن والمسيء لديه سواء، بل للمسيء جزاؤه، وللمحسن جزاؤه، وليس من الضروري ان يكون جزاء المحسن غير المؤمن في الآخرة.. فقد يكون في الدنيا بكشف الضر والبلوى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، وأيضا لا ينحصر جزاء الآخرة بالجنة، فقد يكون بتخفيف العذاب، أو لا عذاب ولا ثواب، كما هي حال أهل الاعراف، واختصارا ان الإنسان مجزي بأعماله، ان خيرا فخير، وان شرا فشر، والكافر يستحق العقاب على كفره، وقد فعل الخير لوجه الخير، فيستحق عليه الثواب، ولكل عمل حساب.. أجل، نحن لا ندرك كنه الثواب الذي يثاب به المحسن غير المؤمن، ولا متى وأين؟ أفي الدنيا أو في الآخرة؟ ان هذا موكول إلى علم الله وحكمته، وتحديده بشيء معين مشاركة لله في علمه، فليتق الله من يؤمن به.
6. بهذه المناسبة نذكر كلمة للسيد كاظم صاحب العروة الوثقى، قالها في ملحقات العروة، باب الوقف، مسألة اشتراط نية القربة، وهذه هي بالحرف: (يمكن أن يقال بترتب الثواب على الأفعال الحسنة، وان لم يقصد بها وجه الله، فان الفاعل لها يستحق المدح عند العقلاء، وان لم يقصد بفعله التقرب إلى الله، فلا يبعد ان يستحق من الله تعالى التفضل عليه)، فهذا العالم الجليل يقول بكل وضوح: انه من الجائز أن يثيب الله على الأفعال الحسنة وان لم يقصد بها وجه الله.. اذن، فبالأولى أن يثيب الله فاعلها إذا قصد وجه الخير والانسانية، وسبقت الاشارة أكثر من مرة إلى أن العقل لا يأبى ان يمن الله بفضله وثوابه على المذنب وإنما الذي يأباه العقل أن يعاقب الله من لا يستحق العقاب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/211.
(2) انظر المسألة التالية.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم إن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم، فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء والإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم، ووراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلا الهوان، كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/80.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾ نطيل لهم في مدة الحياة ممكنين من الطاعة والمعصية ابتلاءً، وقد علم الله ماسيختارون، فكانوا كأنه مهلهم ليختاروا الإثم، وفي هذا التعبير دلالة على أنه غني عنهم، وأنها لا تضره معصيتهم وأنه مهلهم وهو عالم ما سيكون منهم؛ وأصل السياق لا يحسبن الذين كفروا أن املاءنا لهم خير لأنفسهم بل هو يستلزم أن يختاروا الإثم فيصير لذلك شراً لهم، ولم يقل بل هو شر لهم لأن الإملاء في الأصل نعمة لهم؛ لأنهم يتمكنون فيه من تلافي أنفسهم بالإسلام والتوبة فهو في الأصل خير لهم من حيث هو تعريض على السعادة الدائمة وإنما ينقلب شراً لهم بسوء اختيارهم، فما أحسن تعبير الآية الكريمة.
2. ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ فكان الشر ازديادهم إثماً لا نفس الإملاء فهو ابتلاء، ونفعه وضره تابع لاختيارهم وإنما يصير شراً بازديادهم فيه إثماً ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿لَهُمْ﴾ يصيرون إليه فتكون الحياة الدنيا كأن لم تكن إلا سبباً له ووبالاً عليهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/583.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تلك هي حالة الإحساس بالسعادة التي يعيشها الكافرون في امتداد الحياة لديهم ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ والإملاء: الإمهال وطول المدة، لأنهم لا يتحركون في حياتهم من المواقع الصحيحة التي تربطهم بطاعة الله وما تؤدي إليه من خير كثير، ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ لأن الكافر كلما امتد به العمر كلما ازداد معصية وإثما وتمردا على الله.. وفي ذلك الشر كل الشر في ما يؤدي به إلى عذاب الله، وما يعنيه ذلك من سوء العاقبة.
2. اللام هنا للعاقبة، لا للغاية كما هو واضح، فيكون وزانها وزان قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8]؛ فقد أخذوه ليكون لهم سرورا وقرّة عين، لأنهم انفتحوا على مستقبله معهم ليكون لهم ولدا في تمنياتهم العاطفية النفسية لعلاقة الولد بهم في الأجواء الحميمة بينه وبين والديه، ولكن جهلهم بأحداث المستقبل أخفى عنهم النتائج القاسية المرعبة التي تنتهي إليها علاقة هذا الوليد بهم، فسيتحول الأمر إلى أن يكون عاقبة أمره العداوة لهم من خلال عداوة الرسول للكافرين، والحزن العميق الذي تحمله المأساة التي سوف يعيشون في داخلها.
3. وهكذا يجد هؤلاء الذين كفروا أن هذا الترف الذي يتنعمون به، وهذا الجاه الذي يتحركون فيه، وهذه الثروة التي يملكونها، وهؤلاء الأولاد الذين ينتسبون إليهم ويفرحون بهم، وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا.. سيجدون كل ذلك خيرا لأنفسهم، وأيّ خير في الدنيا أعظم من أن يملك الإنسان كل ما يحقق رغباته وحاجاته وشهواته ولكنهم ينطلقون في ذلك من استغراقهم في الدنيا التي يعتبرونها نهاية المطاف، ولا يلتفتون أنهم سيواجهون الآخرة في كل حساباتها ومواقفها التي تقف فيها كل الدنيا بكل أهلها، لتقدم حساب مسئولياتها مما قدموه من عمل خير أو شر، ليعرفوا أن العبرة بأواخر الأمور وعواقبها لا ببداياتها وأولياتها، وسيرون أن طول المدة في الدنيا ـ في هذا الخط المنحرف الذي يتحركون فيه ـ سوف يكون زيادة في الإثم، وخطورة في المسؤولية، وعذابا مهينا، وهكذا نعرف أن الله لم يرد لهم أن يزدادوا إثما، لأنه خلقهم ليطيعوه وليحصلوا على جنته من خلال الحصول على رضوانه، ولكنهم عندما ازدادوا معصية ازدادوا إثما من خلال أنّ النتيجة تتبع المقدمات ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 117]
4. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يعيشون في المهانة والإذلال والانسحاق في النار وبئس القرار.
5. قد نحتاج إلى إثارة هذه الصورة في أجواء الدعوة إلى الله من خلال هذه الآيات، وذلك من أجل التخفيف من الحالة النفسية السيّئة التي تواجه الدعاة في ما يواجهونه من كفر الكافرين والابتعاد بهم عن المشاعر الضاغطة في ما يشاهدونه من امتداد الحياة بالكافرين مما يخيّل للناس أنه الخير كل الخير، لا سيّما في مقابل ما يشاهدونه من البلاء الذي يصيب المؤمنين في أنفسهم وأموالهم.. فإن التركيز على الطبيعة الواقعية لهذا كله يربط العاملين بالحقائق الأساسية لحركة العمل، ولا يجعلهم تحت رحمة المشاعر الطارئة من خلال المظاهر والأوهام.
6. ولعل الفكرة التي نستوحيها من الآيتين هي أن الله يريد للإنسان، سواء أكان نبيا أم وليا أم داعية إلى الله، ممن يتحركون في خط الدعوة، أن يجعل انفعالاته النفسية خاضعة للتفكير العقلاني الموضوعي الذي يحسب حسابات الواقع في حركة الناس من حولهم، وفي طبيعة الظروف المعقّدة المحيطة بهم، ليعرفوا أن الداعية لا يملك انفعاله في دائرة الذات، بل يتحرك بها في خط الرسالة التي تخطط من أجل الوصول إلى عقول الناس وقلوبهم مما قد يكلف الكثير من العناء والجهد والمشاكل العملية، وذلك من جهة أن هناك أكثر من عقدة فكرية أو نفسية أو واقعية تتحكم في شخصيات أولئك الكافرين، الأمر الذي يحتاج إلى تجارب عديدة وصدمات متنوعة تؤثر تأثيرا بالغا في إزالة الطبقة الصخرية المتحجّرة الملتصقة بعقولهم وقلوبهم، ولذلك فإن المسألة تحتاج إلى الصبر، والصبر يحتاج إلى الوعي المعرفي والروحي لحجم المشكلة في الواقع، ليكون الداعية منفتح العقل والروح والقلب والحركة على ذلك من أجل الوصول إلى تنفيذ خطة الدعوة في تفسير الإنسان.
7. إن على الداعية أن يتحرك ـ في ساحة الصراع ـ بمزاج الرسالة التي لا تعيش تحت تأثير الانفعال، بل تعيش في دائرة العقل المتحرك في اتجاه عناصر النجاح الواقعية للدعوة، ولعل مشكلة البعض من الدعاة أنهم يربكون حركة الدعوة بانفعالاتهم الذاتية، وقد نجد البعض منهم يسقط أمام تهاويل القوى المضادة لأن ذلك يثقل نفسه، ويحطّم كرامته، ويوحي إليه بالمهانة والإذلال، وقد يتطور الأمر ببعض هؤلاء فيخضع للمشاعر المنحرفة التي تؤدي به إلى الإحساس بخذلان الله لأوليائه ونصرته لأعدائه، مما يراه من امتداد سلطة الأعداء وانحسار فاعلية الأولياء، وذلك من خلال النظرة السطحية الانفعالية إلى الأمور، والابتعاد عن النظرة العميقة الواسعة المنفتحة على واقع الحياة والإنسان، وهذا ما يجب على العاملين في حقل الدعوة إلى الله أن يفهموه ويتدبروه ويخططوا له في تربية الدعاة، وترشيد الحركة، وتصويب الوسائل وتثبيت المواقف والمواقع.
8. في ضوء ذلك، فإننا لا نفهم النهي عن الحزن في مسارعة الكافرين في الكفر أنه أسلوب من أساليب التسلية، بل هو وسيلة من وسائل الوعي لحركة المفاهيم العقيدية في وجدان الإنسان المسلم، ليمنعه ذلك من الضعف والانسحاق أمام مظاهر التحدي، وذلك من خلال دراسة العناصر الموضوعية التي قد تجعل من ظاهرة الهزيمة في السطح واللحظة عملية نصر في العمق والامتداد، والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/399.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد تسلية النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآيات السّابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى، توجه سبحانه إلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، وهذه الآية ترتبط ـ في الحقيقة ـ بأحداث معركة (أحد) فهي مكملة للأبحاث التي مرّت حول هذه الواقعة، لأن الحديث والخطاب تارة كان موجها إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخرى موجها إلى المؤمنين، وها هو هنا موجه إلى الكفار والمشركين.
2. إنّ الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي﴾ ﴿لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ تحذّر المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدّة والعدد، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرّية التصرف، دليلا على صلاحهم، أو علامة على رضا الله عنهم.
3. وتوضيح ذلك: إنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ الله سبحانه ينبّه العصاة الذين لم يتوغّلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقا، فهو سبحانه ينبّههم بالنذر تارة، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أخرى، فيعيدهم بذلك إلى جادة الحق والصواب، وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرّة قابلية الهداية، فيشملهم اللطف الإلهي، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إليهم، لأنها تكون بمثابة جرس إنذار لهم تنبّههم من غفلتهم، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
4. لكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها، وبلغ طغيانهم نهايته فإنّ الله يخذلهم، ويكلهم إلى نفوسهم، أيّ أنّه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العقوبة والعذاب المهين، هؤلاء هم الذين نسفوا كلّ الجسور، وقطعوا كلّ علاقاتهم مع الله، ولم يتركوا لأنفسهم طريق لا العودة إلى ربّهم، وهتكوا كل الحجب، وفقدوا كل قابلية للهداية الإلهية، وكل أهلية للّطف الرّباني.
5. إن الآية الكريمة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إذ تقول: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
6. استدلت بطلة الإسلام زينب الكبرى بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام بهذه الآية في خطابها المدوي والساخن أمام طاغية الشام (يزيد بن معاوية) الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين الذين قطعوا جميع جسور العودة على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال، وما اقترفوه من شنيع الأعمال إذ قالت: (أظننت يا يزيد.. أنّ بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا أنسيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾)
7. سؤال وإشكال: إنّ الآية الحاضرة تجيب ضمنا على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس وهو: لماذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم، ولا يلقون جزاءهم العادل على إجرامهم؟ والجواب: إنّ القرآن الكريم يردّ على هذا التساؤل الشّائع قائلا: إنّ هؤلاء فقدوا كل قابلية للتغيير والإصلاح، وهم بالتالي من الّذين تقتضي سنّة الخلق ومبدأ حرّية الإنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم، ويوكّلوا إلى أنفسهم ليصلوا إلى مرحلة السقوط الكامل، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العذاب والعقوبة، هذا مضافا إلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنّه سبحانه قد يمدّ البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم، أي أنّه يأخذهم فجأة وهم في ذروة التنعم، ويسلبهم كلّ شيء وهم في أوج اللّذة والتمتع، ليكونوا بذلك أشقى من كلّ شقي، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب، لأن فقدان هذا النعيم أشدّ وقعا على النفس، وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، ومثل هؤلاء ـ في الحقيقة ـ مثل الذي يتسلق شجرة، فإنّه كلّما إزداد رقيا ازداد فرحا في نفسه، حتى إذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة، فهوى على أثرها من ذلك المترفع الشاهق إلى الأرض فتحطمت عظامه، فتبدل فرحه البالغ إلى حزن شديد.
8. يتبيّن ممّا قلناه في تفسير هذه الآية أن (اللام) في قوله سبحانه: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ (لام العاقبة) وليست (لام الغاية)، وتوضيح ذلك: إنّ العرب قد تستعمل اللام لبيان أن ما بعد اللام مراد للإنسان ومطلوب له كقوله: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، ومن البديهي أن هداية الناس وخروجهم من الظّلمات إلى النّور مراد له سبحانه، وقد تستعمل العرب (اللام) لا لبيان أن هذا هو مراد ومطلوب للشخص، بل لبيان أن هذا نتيجة عمل المرء ومآل موقفه كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ ولا شك أنّهم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرّة عين، ولا يختص هذا الأمر باللغة العربية وآدابها، بل هو مشهور في غيره من اللغات والآداب.
9. من هنا يتضح الجواب على تساؤل آخر يطرح نفسه هنا وهو: لماذا قال سبحانه: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ الذي معناه ـ بحسب الظاهر ـ أي نريد أن يزدادوا إثما، لأن هذا الإشكال والتساؤل إنّما يكون واردا إذا كانت اللام هنا لام الإرادة والغاية المبينة للعلّة والهدف، لا (لام العاقبة) ليكون معنى قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ هو: لتكون عاقبة أمرهم ازديادهم الإثم، وعلى هذا يكون معنى الآية: نحن نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد ذنوبهم وأوزارهم من الإثم، فالآية لا تدلّ على الجبر مطلقا، بل هي خير دليل على حرية الإنسان واختياره.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/14.
96. التمحيص الإلهي والغيب والاجتباء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈96⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه بعد أن ذكر بعض النبوءات الغيبية، قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب!؟، فضحك، وقال للرّجل وكان كلبيّا: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب: علم السّاعة، وما عدّده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]، فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام: من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النّار حطبا أو في الجنان للنّبيّين مرافقا، فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّا الله، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمّ عليه جوانحي(1).
2. روي أنّه سئل عن الفتنة، فقال: إنّه لمّا أنزل الله سبحانه قوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2] علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال: (يا عليّ، إنّ أمّتي سيفتنون بعدي)، فقلت: يا رسول الله، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عنّي الشّهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي: (أبشر فإنّ الشّهادة من ورائك)، فقال لي: (إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذا؟)، فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصّبر، ولكن من مواطن البشرى والشّكر، وقال: (يا عليّ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة، والأهواء السّاهية؛ فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، والسّحت بالهديّة، والرّبا بالبيع)، قلت: يا رسول الله، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة(2).
3. روي أنّه خرج من باب المسجد بالكوفة فلقيته كوكبة من الناس فقالوا: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، فأنكرهم فقالوا له: إنّا أصحابك ومن شيعتك، فقال: (ما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة) فقالوا: وما سيماء الشيعة؟ فقال: عمش عيونهم من البكاء خمص بطونهم من الطوى يبس شفاههم من الظماء مطوية ظهورهم من السجود وطيبة أفواههم من الذكر ومن لم يكن كذلك ليسوا منّي وأنا منهم بريء(3).
4. روي أنّه قال:ّ إنّ أولياء الله وأولياء رسوله من شيعتنا، من إذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وإذا ائتمن أدّى، وإذا حمّل في الحقّ احتمل، وإذا سئل الواجب أعطى، وإذا أمر بالحقّ فعل، شيعتنا من لا يعدو علمه سمعه، شيعتنا من لا يمدح لنا معيّبا ولا يواصل لنا مبغضا، ولا يجالس لنا قاليا، إن لقي مؤمنا أكرمه، وإن لقي جاهلا هجره، شيعتنا من لا يهرّ هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولا يسأل أحدا إلّا من إخوانه وإن مات جوعا، شيعتنا من قال بقولنا وفارق أحبّته فينا، وأدنى البعداء في حبنا، وأبعد القرباء في بغضنا، فقال له رجل ممّن شهد: جعلت فداك، أين يوجد مثل هؤلاء؟ فقال: في أطراف الأرضين، أولئك الخفيض عيشهم، القريرة أعينهم، إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن خطبوا لم يزوّجوا، وإن وردوا طريقا تنكبوا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ويبيتون لربّهم سجّدا وقياما(4).
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 128.
(2) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 156.
(3) جامع الأخبار: ص34.
(4) دعائم الاسلام: 1/64.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: يقول للكفار: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الكفر، ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق؛ فأنزل الله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(1).
__________
(1) أسباب النزول للواحدي،/٢٦٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾: فيسم الصادق بإيمانه من الكاذب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يختصهم لنفسه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يجتبي: يمتحن، يخلصهم لنفسه(3).
__________
(1) أبو جعفر الرملي في جزئه: ص٧٩.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد، كما عزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وهو عندهم باللفظ التالي.
(3) تفسير مجاهد: ص٢٦٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ حتى نبتليهم ويعلم الصادق، ويعلم الكاذب، فأما المؤمن فصدق، وأما الكافر فكذب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ ولا يطلع على الغيب إلا رسول(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا تذهب بكم المذاهب، فو الله ما شيعتنا إلّا من أطاع الله عزّ وجلّ(1).
2. روي أنّه قال: إنّما شيعة عليّ الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه تعرف الرهبانيّة على وجوههم(2).
3. روي أنّه قال: إنّما شيعة عليّ الشاحبون الناحلون الذابلون ذابلة شفاههم من القيام خميصة بطونهم مصفرّة ألوانهم متغيّرة وجوههم إذا جنّهم الليل اتّخذوا الأرض فراشا واستقبلوها بجباههم، باكية عيونهم، كثيرة دموعهم، صلاتهم كثيرة، ودعاؤهم كثير، تلاوتهم كتاب الله، يفرحون الناس وهم يحزنون(3).
4. روي عن أبي إسماعيل قال: قلت للإمام الباقر: جعلت فداك إنّ الشيعة عندنا كثير فقال: فهل يعطف الغنيّ على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟ فقلت: لا، فقال: ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا(4).
5. روي أنّه قال رجل عند الإمام الباقر لآخر فخر عليه: أتفاخرني وأنا من شيعة آل محمّد الطيّبين!؟ فقال له الإمام الباقر: ما فخرت عليه وربّ الكعبة، وغبن منك على الكذب يا عبد الله، آمالك معك تنفقه على نفسك أحبّ إليك أم تنفقه على إخوانك المؤمنين؟ قال: بل أنفقه على نفسي.. قال: فلست من شيعتنا، فانّا نحن ما ننفق على المنتحلين من إخواننا أحبّ إلينا من أن ننفق على أنفسنا.. ولكن قل: أنا من محبّيكم ومن الراجين للنجاة بمحبّتكم(5).
6. روي أنه قيل له: بما يعلم عالمُكم جعلت فداك!؟.. قال: إنّ عالمنا لا يعلم الغيب، ولو وكل الله عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم، ولكن يُحدّث إليه ساعة بعد ساعة(6).
7. روي أنه قيل له: لو تعلمون الغيب.. فقال: يُبسط لنا فنعلم، ويُقبض عنا فلا نعلم(7).
8. روي أنّه قال: إنّ لله علماً خاصّاً وعلماً عامّاً: فأما العلم الخاصّ فالعلم الذي لم يطّلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين، وأمّا علمه العام فإنه علمه الذي أطّلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين، وقد وقع إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(8).
__________
(1) أصول الكافي: 2/73.
(2) أصول الكافي: 2/235.
(3) صفات الشيعة: ص10.
(4) أصول الكافي: 2/173.
(5) تفسير العسكري [منسوب]، 308.
(6) بحار الأنوار: 26/60.
(7) بحار الأنوار: 26/96.
(8) بحار الأنوار: 26/160.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ حتى يميز الكافر من المؤمن(1).
2. روي أنّه قال في الآية: يقول للكفار: لم يكن ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، فميز بينهم في الجهاد والهجرة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ ميز المؤمنين من المنافقين يوم أحد(3).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٤٠.
(2) ابن جرير: ٦/٢٦٣.
(3) يحيى بن سلّام.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ﴾ معناه يختار(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن به منا، ومن يكفر؛ فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾: وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ حتى يخرج المؤمن من الكافر(2).
__________
(1) أخرج ابن جرير: ٦/٢٦٤.
(2) ابن جرير: ٦/٢٦٤.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الخطاب للكفار والمنافقين(2).
__________
(1) أورده الثعلبي: ٣/٢١٧.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/٢١٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا تمضي الأيام والليالي حتى ينادي مناد من السماء: يا أهل الحق اعتزلوا، يا أهل الباطل، اعتزلوا، فيعزل هؤلاء من هؤلاء، ويعزل هؤلاء من هؤلاء، قيل: أصلحك الله، يخالط هؤلاء هؤلاء بعد ذلك النداء؟ قال: كلا، إنه يقول في الكتاب: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه: ولا شحناؤه بدنه ولا يمتدح بنا معلنا ولا يجالس لنا عائبا ولا يخاصم لنا قاليا؛ إن لقي مؤمنا أكرمه وإن لقي جاهلا هجره، قيل: جعلت فداك فكيف نصنع بهؤلاء المتشيّعة؟ قال: فيهم التمييز وفيهم التبديل وفيهم التمحيص؛ تأتي عليهم سنون تفنيهم وطاعون يقتلهم واختلاف يبدّدهم؛ شيعتنا من لا يهرّ هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب ولا يسأل عدوّنا وإن مات جوعا، قيل: جعلت فداك فأين نطلب هؤلاء؟ قال: في أطراف الأرض؛ أولئك الخفيض عيشهم؛ المنتقلة ديارهم(2).
3. روي أنه قيل له: جعلت فداك صف لي شيعتك، فقال: شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه بدنه، ولا يطرح كلّه على غيره، ولا يسأل غير إخوانه، ولو مات جوعا، شيعتنا من لا يهرّ هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، شيعتنا الخفيفة عيشهم المنتقلة ديارهم، شيعتنا الّذين في أموالهم حقّ معلوم، ويتوانسون، وعند الموت لا يجزعون، وفي قبورهم يتزاورون، قيل له: جعلت فداك فأين اطلبهم قال: في أطراف الأرض وبين الأسواق، كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54](3).
4. روي أنّه قال يوصي أصحابه: وما شيعة جعفر إلّا من كفّ لسانه وعمل لخالقه ورجا سيّده وخاف الله حقّ خيفته، ويحهم أفيهم من قد صار كالحنايا من كثرة الصلاة، أو قد صار كالتّائه من شدّة الخوف أو كالضرير من الخشوع، أو كالضني من الصيام، أو كالأخرس من طول الصمت والسكوت، أو هل فيهم من قد أدأب ليله من طول القيام وأدأب نهاره من الصيام، أو منع نفسه لذّات الدنيا ونعيمها خوفا من الله وشوقا إلينا ـ أهل البيت ـ أنّى يكونون لنا شيعة وإنّهم ليخاصمون عدوّنا فينا حتّى يزيدوهم عداوة وإنّهم ليهرّون هرير الكلب ويطمعون طمع الغراب(4).
5. روي أنّه قال لابن جندب: يا ابن جندب بلّغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب فو الله لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.. يا ابن جندب إنّما شيعتنا يعرفون بخصال شتّى: بالسخاء والبذل للإخوان وبأن يصلّوا الخمسين ليلا ونهارا، شيعتنا لا يهرّون هرير الكلب ولا يطمعون طمع الغراب ولا يجاورون لنا عدوّا ولا يسألون لنا مبغضا ولو ماتوا جوعا، شيعتنا لا يأكلون الجرّيّ ولا يمسحون على الخفّين ويحافظون على الزوال ولا يشربون مسكرا، قال: جعلت فداك فأين أطلبهم؟ قال: على رؤوس الجبال وأطراف المدن، وإذا دخلت مدينة فسل عمّن لا يجاورهم ولا يجاورونه فذلك مؤمن كما قال الله: ﴿وجاء مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى﴾ والله لقد كان حبيب النجّار وحده(5).
6. روي أنّه قال: خرجت أنا وأبي حتّى إذا كنّا بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة فسلّم عليهم فردّوا عليه السّلام ثمّ قال: إنّي والله لأحبّ ريحكم وأرواحكم فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلّا بالعمل والاجتهاد من ائتمّ منكم بعبد فليعمل بعمله أنتم شيعة الله وأنتم أنصار الله وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون السابقون في الدنيا إلى ولايتنا السابقون في الآخرة إلى الجنّة وقد ضمنّا لكم الجنّة بضمان الله وضمان رسوله ما على درجات الجنّة أحد أكثر أزواجا منكم فتنافسوا في فضائل الدرجات أنتم الطيّبون ونسائكم الطيّبات كلّ مؤمنة حوراء عيناء وكلّ مؤمن صديق(6).
7. روي أنّه قال لبعض أصحابه: ليس منّا ـ ولا كرامة ـ من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه(7).
8. روي أنّه قال: امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدوّنا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها(8).
9. روي أنّه قال: ليس الأمر والاحتمال بالقول فقط لكن قبوله واحتماله أن تصونوه كما صانه الله، وتعظموه كما عظمه الله وتؤدوا حقّه كما أمر الله(9).
10. روي أنّه قال: الناس طبقات ثلاث: طبقة منا ونحن منهم، وطبقة يتزينون بنا، وطبقة يأكل بعضهم بعضا بنا(9).
11. روي أنّه قال: إنّ أصحاب عليّ كانوا المنظور إليهم في القبائل، وكانوا أصحاب الودائع، مرضيّين عند الناس سهار الليل مصابيح النهار(10).
12. روي أنّه قال: ينبغي لمن ادّعى هذا الأمر في السرّ أن يأتي عليه ببرهان في العلانية، قيل: وما هذا البرهان الّذي يأتي به في العلانية؟ قال: يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله، ويكون له ظاهر يصدّق باطنه(11).
13. روي أنّه سئل عن معرفة الإمام يعلم الغيب؟.. قال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلَمه الله ذلك(12).
14. روي أنّه خرج وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال: يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب، وما يعلم الغيب إلا الله، لقد كنت أبحث عن خادمتي فلانة، فما عرفتها في أي البيوت من الدار هي(13).
15. روي ـ عنه أو عن غيره ـ أنّه قال ردّاً على الغلاة: تعالى الله عزّ وجلّ عمّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه، ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: 65]، وأنا وجميع آبائي من الأولين: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين، ومن الآخرين: محمد رسول الله والإمام علي والحسن والحسين وغيرهم ممن مضى من الأئمة، إلى مبْلغ أيامي ومنتهى عصري عبيدُ الله عزّ وجلّ، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124 ـ 126].. قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناحُ البعوضة أرجحُ منه، وأُشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيداً، ومحمداً رسوله وملائكته وأنبياءه وأولياءه، وأُشهِدك وأُشهِد كل مَن سمع كتابي هذا، أني بريءٌ إلى الله وإلى رسوله ممن يقول إنا نعلم الغيب، أو نشارك الله في مُلكه، أو يُحلّنا محلاً سوى المحل الذي نصبه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسرتُه لك وبينتهُ في صدر كتابي.. وأُشهدكم أنّ كل من نتبرأ منه، فإنّ الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه، وجعلتُ هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانةً في عنقك وعنق مَن سمعه، أن لا يكتمه من أحد من مواليّ وشيعتي حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي، لعلّ الله عزّ وجلّ يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحقّ، وينتهوا عمّا لا يعلمون منتهى أمره ولا يبلغ منتهاه، فكلّ مَن فهم كتابي ولم يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته، فلقد حلّت عليه اللعنة من الله، وممن ذكرت من عباده الصالحين(14).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/207.
(2) أصول الكافي: 2/238.
(3) صفات الشيعة: ص17.
(4) تحف العقول: ص515.
(5) تحف العقول: ص303.
(6) أمالي الصدوق: ص626.
(7) أصول الكافي: 2/78.
(8) الخصال: 1/103.
(9) مشكاة الأنوار: ص60.
(10) مشكاة الأنوار: ص63.
(11) بحار الأنوار: 65/164.
(12) بحار الأنوار: 26/57.
(13) بحار الأنوار: 26/171.
(14) بحار الأنوار: 25/268.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يا معشر الكفار ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الكفر، ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ في علمه، حتى يميز أهل الكفر من أهل الإيمان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، وذلك أن الكفار قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، يعني: ليطلعكم على غيب ذلك، إنما الوحي إلى الأنبياء بذلك، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي﴾ يستخلص: ﴿مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيجعله رسولا فيوحي إليه ذلك، ليس الوحي إلا إلى الأنبياء(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ يعني: صدقوا بتوحيد الله تعالى، وبرسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ يعني: تصدقوا بتوحيد الله تعالى، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الشرك، ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(1).
5. روي أنّه قال: إن الكفار قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي: فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ أي: ترجعوا وتتوبوا: ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٦٤.
(2) ابن جرير: ٦/٢٦٦.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قول الله سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179]، معنى ذلك عندنا، وما نتأوله في قولنا: أنه أراد أنه لم يكن ليذر المؤمنين على ما عليه غيرهم من المنافقين، وذلك أن المؤمنين كانوا إذا أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشيء، مما أمره الله أن يأمرهم به من شرائع الإسلام، أذعنوا لذلك وسلَّموا وانقادوا له، وأجابوا بقولهم وألسنتهم، وكان المنافقون إذا أمروا ونهوا أجابوا بألسنتهم وأظهروا في باطنهم خلاف ما أظهروا، وكانوا يحتذون قول المؤمنين، ويذكرون عن أنفسهم ما يذكر المسلمون، من الإجابة والرغبة والصدق والسمع والطاعة والحق، فذكر الله عز وجل أنه لا يذرهم على ذلك حتى يميزهم بالأمر والنهي لهم، والإفتراض لما افترض على خلقه من الجهاد في سبيله، والإنفاق في طاعته، والإتباع لرسوله فيما أُمروا به من الجهاد، والصبر مع الرسول في البلاء، حتى يتبين للرسول الصادق في فعله وقوله، والكاذب فيما يظهر من نفسه للرسول، فلما افترض ذلك عليهم، وجعله حجة له باقية فيهم، لا يسعهم تركها، ولا يجوز لهم رفضها، لهج لذلك المؤمنون، وبَسَمَ له المتقون، وقولهم بفعلهم صدَّقوا، ونكل المنافقون ورضوا بالتخلف عن رسول الله وعصوا، فبان بذلك المؤمنون من الفاسقين، والصادقون من المنافقين، ومازهم بذلك رب العالمين، فوقف الرسول ومن معه على ذلك من فعلهم، وعَرَّفوهم بما كان من عملهم، وقد يكون الميزُ من الله لهم، بما حكم به في الأخرة عليهم ولهم، من الثواب للمتقين، والعذاب للفاسقين.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/168.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، هذه الآية نزلت في المؤمنين والمنافقين من قبل فرض الجهاد، فكان المؤمنون الصادق قولهم، الخالصة نياتهم، الصحيحة عزائمهم ـ يقولون: يا رسول الله، لو فرض الله الجهاد عليك، كما فرضه على من كان قبلك، أو امتحنا بما كان يمتحن به الأمم من قبلنا ـ لسلمنا ولقمنا، واجتهدنا وأبلينا في الله ونصحنا.. وكان المنافقون يقولون مثل قول المؤمنين سواء، ويصفون عن أنفسهم ما يصفه المؤمنون من نياتهم، فاستووا في الظاهر، واختلفوا في الضمائر، فلم يفرق بينهم في الضمائر شيء من الأمور؛ فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾؛ ففرض الله سبحانه على نبيه ـ صلى الله عليه ـ وعلى من معه الجهاد؛ فأماز أهل الشرك والارتياب، وبانوا لجميع أهل الدين في الألباب، فعرفوا بكذبهم، واستدل عليهم بغشهم، ونفذ المؤمنون لطاعة ربهم، مصممون في مرضاة خالقهم، لم يشكوا في دينهم، ولم يرتابوا في بصائرهم؛ بل زادهم ذلك إيمانا ويقينا، وهدى وعزما، فميز الله بما افترض من جهاد أعدائه؛ وقد كانوا عند الله من المميزين، وهو بهم عالم، وعلى سرائرهم مطلع؛ ولكن أبانهم لنبيه ـ صلى الله عليه ـ، وميزهم للمؤمنين ولجميع الصالحين؛ فكان من المنافقين ما قد بلغك في خروج النبي ـ صلى الله عليه ـ إلى بدر، ورجوعهم عنه، وما كان من عبدالله بن أبي سلول المنافق، من الرجوع بكثير من الناس عن رسول الله ـ ـ، فلم يضر بذلك إلا نفسه، وتولى الله النصر لنبيه صلى الله عليه، وأظهر كلمته، ولو كره المشركون، ﴿وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/197.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وجوه:
أ. قيل: لا يترك الله المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن.
ب. وقيل: ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق.
ج. وقيل فيه بوجه آخر: وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويستهزئون بهم سرّا؛ فقال الله عزّ وجل: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم، والاستهزاء بهم؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم.
د. ويحتمل وجها آخر: وهو أن قوله: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة؛ ولكن يجعل لكم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب، يجعل الخبيث في النار، والطيب في الجنة؛ كقوله عزّ وجل: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ الآية [الأنفال: 37]
2. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ وجهان:
أ. قيل: إنهم كانوا يقولون: لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء؛ كقولهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ﴾ [الأنعام: 124]؛ ومثل قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: 52]؛ فعلى ذلك قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ إلا من اجتباه لوحيه، وجعله موضعا لرسالته، أي: لا يجعلكم رسلا؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته
ب. وقيل: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترقون؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ بعد ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّا، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه.
3. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولا، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام.
4. قوله تعالى: ﴿يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: لا يطلع أحدا منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته.
ب. ويحتمل: لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر؛ نحو ما بين موسى إلى عيسى ـ عليهما السلام ـ ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكاما سوى أحكام موسى عليه السلام أبقى تلك الأحكام والشرائع؛ وكذلك ما بين عيسى إلى محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فاجتبى هؤلاء؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم
5. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ ظاهر، ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ برسله كلهم، ﴿وَتَتَّقُوا﴾:
أ. يحتمل: المعاصي ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
ب. ويحتمل: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ الشرك ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/541.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ والخبيث المنافق والكافر والطيب المسلم والذي وقع به التمييز هو الجهاد والدلالات التي يستدل بها عليهم ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ وسبب نزول هذه الآية أن قوماً من المشركين قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يكفر ومن يؤمن فنزلت هذه الآية فأطلع الله نبيه على الغيب ولكن اختاره فجعله رسولاً.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/159.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ الطيب المؤمنون، والخبيث فيه هاهنا قولان:
أ. أحدهما: المنافق، وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: الكافر، وهو قول قتادة، والسدي.
2. اختلفوا في الذي وقع به التمييز على قولين:
أ. أحدهما: بتكليف الجهاد، وهذا قول من تأوّل الخبيث بالمنافق.
ب. الثاني: بالدلائل التي يستدل بها عليهم وهذا قول من تأوله للكافر.
3. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ قيل إن سبب نزول هذا أن قوما من المشركين قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، قال السدي: ما أطلع الله نبيه على الغيب، ولكنه اجتباه فجعله رسولا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/440.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة والكسائي (يميز) ـ بالتشديد ـ الباقون بالتخفيف، يقال: مازه يميزه، وميزه يميزه ـ لغتان ـ.
2. معنى الآية لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه، فلا يميز المؤمن من المنافق، والكافر ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
3. في معنى الخبيث هاهنا قولان:
أ. أحدهما: قال مجاهد، وابن إسحاق، وابن جريح: هو المنافق، قالوا: كما ميز المؤمن من المنافق يوم أحد، بالامتحان على ما مضى شرحه.
ب. الثاني: قال قتادة، والسدي: حتى يميز المؤمن من الكافر.
4. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قال السدي: إن المشركين قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا، ومن يكفر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وقال قوم: إن كان يعلم المنافقين، فما حاجته إلى اختبارهم؟ فأنزل الله تعالى انه يميزهم، وذلك يكون: تارة باختيارهم، وتارة بتعيينهم.
5. اختلف في كيفية التمييز بين الكافر وبين المؤمن أو المنافق والمؤمن:
أ. قيل: بالامتحان والاختبار في تكليف الجهاد، ونحوه: مما يظهر به حالهم، وتنكشف ضمائرهم.
ب. وقيل: بالدلالات، والعلامات التي يستدل بها عليهم من غير نص اعلام لهم.
6. سؤال وإشكال: هل اطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم على الغيب؟ والجواب: عن ذلك جوابان:
أ. أحدهما: قال السدي: لا، ولكنه اجتباه، فجعله رسولا.
ب. وقال ابن إسحاق: ولكن الله اجتبى رسوله بإعلامه كثيراً من الغائبات، وهذا هو الأليق بالآية.
7. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ قال الزجاج قوله: سببه أن قوماً قالوا: هلا جعلنا الله أنبياء؟ فأخبر الله تعالى أنه ﴿يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ و(من) في الآية لتبيين الصفة لا للتبعيض، لأن الأنبياء كلهم مجتبون.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/63.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
أ. لِيَذَرَ: قال الخليل: أماتت العرب الفعل من (ذَرْ)، في الماضي، فلا يكادون يقولون: وَذَرْتُهُ، وإنما يستعملونه في المستقبل والأمر والنهي يقال: لا تذر وذر ولا يذر، وقد جاء في كلام العرب في حديث بدر في صفة علي: (وما ودع ولا وذر ولا بقي للصلح موضعًا)
ب. ماز الشيء يَمِيز ومَيَّزَ إذا فرقه، وامتاز القوم بعضهم من بعض، وقيل: ماز شيئين، وميز في أشياء.
ج. طلاع فلان علينا إذا هجم، ومنه ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وأطلعته على الأمر إذا أظهرت له ذلك، كأنه هجم عليه.
د. الاجتباء: الاختيار، ومنه ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ وهو مأخوذ من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته، كأنك جمعته وخلصته لنفسك حتى يكون جميعه لك، وقيل: من جبيت الماء إذا أخلصته لنفسك، ومنه: جَبَيْت الخراج جميعه.
1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمد صادقًا كما يزعم فأخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فإن وجد خبره كما أخبر آمنا به، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية عن السدي والكلبي.
ب. وقيل: إنهم اقترحوا عليه هذا النوع، وعلم الله تعالى أنهم لا يؤمنون عنده، ويستحقون عنده الاستئصال، فلم يبين لهم.
ج. وقيل: إن رجلاً كان يقال له عبد الله بن حذافة سأله من أبوه؟، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن السدي.
د. وقيل: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الضحاك.
2. وعد الله تعالى المؤمنين النصر والإظهار عطفًا على ما تقدم من الوعد بنعمه فقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ أي ليدع، ومعناه أنه لا يدع ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الاختلاط:
أ. قيل: إنه خطاب للكفار تقديره: ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه يا أهل الكفر من النفاق.
ب. وقيل: بل هو خطاب للمؤمنين على تقدير: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم من التباس المؤمنين بالمنافقين.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾:
أ. قيل: المخلص من المنافق عن مجاهد وابن جريج وابن إسحاق.
ب. وقيل: الكافر من المؤمن عن قتادة.
ج. وقيل: حتى يميز المخلص من المنافق يوم أحد بالامتحان.
4. اختلفوا بأي شيء ميز بينهم:
أ. قيل: بالامتحان بتكليف الجهاد ونحوه مما يظهر به الحال كما ظهر يوم أحد، فثبت المؤمنون معه، وتخلف المنافقون عن أبي علي.
ب. وقيل: بالدلالات والعلامات التي يستدل بها عليهم من غير نص عليهم.
ج. وقيل: بنصر المؤمنين حتى يكثر المؤمنون، ويعز الدين، ويُذِلَّ المنافقين، ويغني عن مداراة المنافقين عن أبي مسلم.
د. وقيل: بالهجرة والجهاد.
هـ. وقيل: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الإقرار حتى يفرض الفرائض، فيثبت المؤمن على إيمانه، ويتميز عمن ينقلب على عقبيه عن الأصم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾:
أ. قيل: أي ما كان الله ليظهر على غيبه أحدًا منكم يا معشر المؤمنين في حديث المنافقين وغيره.
ب. وقيل: على ضمائر القلوب حتى تعلموا المؤمن من المنافق.
ج. وقيل: ما كان الله ليوحي إليكم ويجعلكم جميعًا بمنزلة الرسول.
د. وقيل: إنه جواب لقولهم ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ﴾ يعني يوحى إلينا كما أوحي إليه فقال تعالى مجيبًا لهم: ما كان الله ليفعل ذلك ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي﴾ يصطفي ويختار ﴿مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ ممن سيصلح له قبل اجتبائه رسوله ولم يطلعه على الغيب عن السدي.
هـ. وقيل: لكن الله يجتبي يعلم ذلك من يشاء من رسله عن ابن إسحاق والأصم وأبي مسلم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾:
أ. قيل: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ﴾ يعني فصدقوا الله ﴿وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ تصدقوا ﴿وَتَتَّقُوا﴾ المعاصي ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ثواب جزيل.
ب. وقيل: فآمنوا بِاللهِ ورسله فقد جاءكم محمد بالآيات الدالة على رسالته، وصدق من تقدم من الرسل عن الأصم.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه تعالى ينصر المؤمنين ويميزهم من غيرهم.
ب. أنه لا يطلع على الغيب أحدًا، وأنه يطلع من يشاء، من ذلك رسله معجزة لهم.
ج. أن جماعة قد تصلح للرسالة، فيختار منهم من يشاء على أحد وجهين:
• إما لأنه أصلح وبالتأدية أقوم وعن المنفرات أبعد.
• إذا تساووا في جميع الوجوه فله أن يختار من يشاء، لأنها ليست بمستحقة ولا جزاء.
د. أن المؤمن يستحق على الإيمان والتقوى خلاف قول الْمُجْبِرَةِ.
8. قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ﴿يَمِيزَ﴾ بالتشديد وضم الياء الأولى، وفتح الميم، وكسر الياء الأخيرة، وكذلك في الأنفال، والباقون ﴿يَمِيزَ﴾ بالتخفيف وفتح الياء الأولى، وكسر الميم، وسكون الياء الأخيرة، وهو لغتان: مَازَهُ يَمِيزُهُ، ومَيَّزَهُ يُمَيِّزُهُ.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. اللام في قوله: ﴿لِيَذَرَ﴾ لام الجحد، وهي في تأويل ﴿كَيْ﴾؛ ولذلك نصب ما بعدها.
ب. ﴿لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ محله نصب بخبر ﴿كَانَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/473.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمد صادقا، فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فإن وجدنا مخبره كما أخبر آمنا به، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله هذه الآية، عن السدي والكلبي.
ب. وقيل: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت الآية، عن أبي العالية والضحاك.
2. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ليدع ومعناه: لا يدع الله المؤمنين ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ يا أهل الكفر من الإبهام، واشتباه المخلص بالمنافق أي: لم يكن يجوز في حكم الله أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبي، بل يتعبدكم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾:
أ. قيل: أي: الكافر من المؤمن، عن قتادة والسدي.
ب. وقيل: حتى يميز المنافق من المخلص يوم أحد، على ما مضى شرحه، عن مجاهد وابن إسحاق وابن جريج.
ج. وقيل: هو خطاب للمؤمنين وتقديره: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، وعلى هذا فيكون قد رجع من الخبر إلى الخطاب، كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾
4. اختلف في أنه بأي شيء ميز بين الخبيث والطيب:
أ. فقيل: بالامتحان وتكليف الجهاد، ونحوه مما يظهر به الحال، كما ظهر يوم أحد، بأن ثبت المؤمنون وتخلف المنافقون، عن الجبائي.
ب. وقيل: بالآيات والدلالات التي يستدل بها عليهم.
ج. وقيل: بأن ينصر الله المؤمنين ويكثرهم، ويعز الدين، ويذل الكافرين والمنافقين، عن أبي مسلم.
د. وقيل: بأن يفرض الفرائض، فيثبت المؤمن على إيمانه، ويتميز ممن ينقلب على عقبيه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾:
أ. قيل: أي: ما كان الله ليظهر على غيبه أحدا منكم، فتعلموا ما في القلوب أن هذا مؤمن، وهذا منافق ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: يختار من يشاء فيطلعه على الغيب أي: يوقفه على علم الغيب، ويعرفه إياه.
ب. وقيل: معناه يصطفي من رسله من يشاء، ممن يصلح له، ولا يطلعه على الغيب، عن السدي.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ كما أمركم ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ أي: تصدقوا ﴿وَتَتَّقُوا﴾ عقابه بلزوم أمره، واجتناب نهيه ﴿فَلَكُمُ﴾ في ذلكم ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
7. في هذه الآية دلالة على أنه يجوز أن يصلح جماعة لرسالته، فيختار منهم من يشاء، إما لأنه أصلح، وبالتأدية أقوم، وعن المنفرات أبعد، وإما لأنهم قد تساووا في جميع الوجوه، فيختار من يشاء من بينهم، لأن النبوة ليست مستحقة، ولا جزاء، وفيها دلالة على أن الثواب مستحق بالإيمان والتقوى، خلافا لمن قال إنه تفضل.
8. قرأ أهل الحجاز والشام وأبو عمرو وعاصم: حتى يميز وليميز بالتخفيف، والباقون بالتشديد وضم الياء الأولى.. ماز يميز: فعل متعد إلى مفعول واحد، كما أن ميز فعل متعد إلى مفعول واحد، ويقال: مزته فلم يتميز، وزلته فلم يتزل، والتضعيف في ميز ليس للتعدي والنقل، كما أن التضعيف في عوض ليس للنقل من عاض، لأن عاض متعد إلى مفعولين، كما في قول الشاعر:
çعاضها الله غلاما بعدما... شابت الأصداغ، والضرس نقدé
فلو كان التضعيف في عوض للنقل، لتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فعوض وعاض لغتان في معنى واحد مثل ميز وماز.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/895.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنّ قريشا قالت: تزعم يا محمّد أنّ من اتّبعك فهو في الجنّة، ومن خالفك فهو في النّار!؟ فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن والمنافق، فنزلت هذه الآية، هذا قول أبي العالية.
ج. الثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عرضت عليّ أمّتي، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.
د. الرابع: أنّ اليهود، قالت: يا محمّد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم!؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول عمر مولى غفرة.
هـ. الخامس: أن قوما من المنافقين ادّعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر الله نفاقهم يوم أحد، وأنزل هذه الآية، هذا قول أبي سليمان الدّمشقيّ.
2. في المخاطب بهذه الآية قولان:
أ. أحدهما: أنهم الكفّار والمنافقون، وهو قول ابن عباس، والضّحّاك.
ب. الثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، قال الثّعلبيّ: وهذا قول أكثر أهل المعاني.
3. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ و﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ﴾ بفتح الياء والتخفيف، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف، ويعقوب: (يميّز) بالتشديد، وكذلك في الأنفال: (ليميّز الله الخبيث)، قال أبو عليّ: مزت وميّزت لغتان.
4. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلّص، فأمّا الطّيّب، فهو المؤمن، وفي الخبيث قولان:
أ. أحدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج.
ب. الثاني: الكافر، قاله قتادة، والسّدّيّ.
5. في الذي وقع به التّمييز بينهم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال الخبيث: الكافر.
ب. الثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال هو المنافق، قال مجاهد: فميّز الله يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النّفاق وتخلّفوا.
ج. الثالث: أنه جميع الفرائض والتّكاليف، فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فإذا جاءت التّكاليف بان أمره، هذا قول ابن كيسان.
6. في المخاطب بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم كفّار قريش، فمعناه: ما كان الله ليبيّن لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن، هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمّدا على الغيب، قاله السّدّيّ.
7. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يجتبي بمعنى يختار، قاله الزجّاج وغيره، فمعنى الكلام:
أ. على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم.
ب. وعلى القول الثاني: أنّ الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء.
__________
(1) زاد المسير: 1/352.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ من بقية الكلام في قصة أحد، فأخبر تعالى أن الأحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة، ثم دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدو، ثم دعائه إياهم مرة أخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق، لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود إلى الجهاد، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز، فهذا وجه النظم.
2. قرأ حمزة والكسائي: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ﴾ بالتشديد، وكذلك في الأفعال والباقون ﴿يَمِيزَ﴾ بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة، قال الواحدي: وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا أو أميزه تمييزاً، ومنه الحديث (من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة)، وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف في اللفظ فكان أولى، وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول: التشديد للكثرة، فأما واحد من واحد فيميز بالتخفيف، والله تعالى قال: ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فذكر شيئين، وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق، وأيضا قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ﴾ [يس: 59] وهو مطاوع الميز، وحجة من قرأ بالتشديد: أن التشديد للتكثير والمبالغة، وفي المؤمنين والمنافقين كثرة، فلفظ التمييز هاهنا أولى، ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس، فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما.
3. ذكرنا أن معنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب، أي المنافق من المؤمن، واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها:
أ. أحدها: بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره.
ب. ثانيها: أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين، فلما قوي الإسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله، وعند ذلك حصل هذا الامتياز.
ج. ثالثها: القرائن الدالة على ذلك، مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته، والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك.
4. سؤال وإشكال: هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين، وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين، وان لم يظهر لم يحصل موعود الله، والجواب: أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني، لا الامتياز القطعي.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز، ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول: إن فلانا منافق وفلانا مؤمن، وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق، فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾:
أ. أي ولكن الله يصطفي من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق.
ب. ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان.
ج. ويحتمل أيضا أن يكون المعنى: وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل.
6. ثم قال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد، فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب، فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله.
7. إنما قال: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ ولم يقل: ورسوله لدقيقة، وهي أن الطريق الذي به يتوصل إلى الإقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فوجب الإقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء، فلهذه الدقيقة قال: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد، فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوة الكل، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهو ظاهر.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/442.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآية، اختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال:
أ. فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين، أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال الكلبي: إن قريشا من أهل مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: الرجل منا تزعم أنه في النار، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة! فأخبرنا عن هذا من أين هو؟ وأخبرنا من يأتيك منا؟ ومن لم يأتك؟، فأنزل الله تعالى ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الكفر والنفاق ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
ب. وقيل: هو خطاب للمشركين، والمراد بالمؤمنين في قوله: ﴿لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن، أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك، حتى يفرق بينكم وبينهم، وعلى هذا ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ﴾ كلام مستأنف، وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.
ج. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف، فتعرفوا المنافق الخبيث، والمؤمن الطيب، وقد ميز يوم أحد بين الفريقين، وهذا قول أكثر أهل المعاني، ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ يا معشر المؤمنين، أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة، وقد ظهر ذلك في يوم أحد، فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبه على ذلك، وقيل: معنى ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾ أي وما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم، فقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ على هذا متصل، وعلى القولين الأولين منقطع، وذلك أن الكفار لما قالوا: لم لم يوح إلينا؟ قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي على من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم.
2. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي﴾ أي يختار ﴿مِنْ رُسُلِهِ﴾ لإطلاع غيبه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ يقال: طلعت على كذا واطلعت عليه، وأطلعت عليه غيري، فهو لازم ومتعد.
3. قرئ ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ بالتشديد من ميز، وكذا في الْأَنْفَال وهي قراءة حمزة، والباقون ﴿يَمِيزَ﴾ بالتخفيف من ماز يميز، يقال: مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا، وميزته تمييزا، قال أبو معاذ: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين، فإن كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزا، ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت: فرقت بينهما، مخففا، ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت: فرقته تفريقا، قلت: ومنه امتاز القوم، تميز بعضهم عن بعض، ويكاد يتميز: يتقطع، وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك] وفي الخبر (من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة)
4. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ يقال: إن الكفار لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبين لهم من يؤمن منهم، فأنزل الله ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان، ﴿فَآمِنُوا﴾ أي صدقوا، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب.
5. ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي الجنة، ويذكر أن رجلا كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجما، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم، فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الأمير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال لا: قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب، فحسبت فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/289.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ كلام مستأنف، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار والمنافقين، أي: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وقيل: الخطاب للمؤمنين والمنافقين، أي: ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض؛ وقيل: الخطاب للمشركين، والمراد بالمؤمنين: من في الأصلاب والأرحام، أي: ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم، وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين! على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات.
2. قرئ يميز بالتشديد للمخفف، من: ماز الشيء، يميزه، ميزا: إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل: ميزه تمييزا.
3. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ حتى تميزوا بين الطيب والخبيث، فإنه المستأثر بعلم الغيب، لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول من رسله، يجتبيه فيطلعه على شيء من غيبه، فيميز بينكم، كما وقع من نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له، لا بكونه يعلم الغيب، وقيل: المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم.
4. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي﴾ أي: يختار ﴿مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، قوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: افعلوا الإيمان المطلوب منكم، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه، ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ بما ذكر ﴿وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ﴾ عوضا عن ذلك ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لا يعرف قدره، ولا يبلغ كنهه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/463.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ يترك ﴿الْمُومِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ لام الجحود، زائدة لتأكيد النفي، أي: ما كان شأن الله ترك المؤمنين؛ أو ما كان الله ذا ترك للمؤمنين، أو تاركا، أو للتقوية، أي: ما كان الله مريدا لتركهم عَلَى ما أنتم عليه من التباس المنافق بالمخلص، وجريان أحكام الإيمان عليه، وزعم الكوفيُّون أنَّها زائدة ناصبة للمضارع، ولا تقدّر (أنْ) ولا المصدر، ولا حذف، والجملة خبر كان.
2. الخطاب كما رأيت للمؤمنين والمنافقين المرتابين، وقيل: للمؤمنين، وقيل: للمنافقين والمرتابين، وفي الآيَة تسلية لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، ووعدٌ لهم ووعيد لغيرهم.
3. ﴿حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ﴾ المنافق لخبثه اعتقادا وفعلا ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ المخلص اعتقادا وفعلا وقولا، ومعنى الغاية أنَّ الله تعالى يفعل التخليص بينهم حتَّى يتبيَّن لكم، وذلك التمييز إِنَّمَا هو بعدم تحمُّل المشاقِّ وبذل الأموال في سبيل الله، وبرجوعهم عن أحد، وإِبائهم من الخروج إلى قتال أبي سفيان حين رجع من أُحد، ومن الخروج قابلا إلى بدر الصغرى، وما ينفلت أحيانا منهم من كلمات الكفر، وترك الفرائض، وقولهم: لو كان رسولا لم تصبه هَذِهِ المكاره، ونحو ذلك، لا بِأَن يقول فلان من أهل الجنَّة، وفلان منافق من أهل النار، فإنَّما هو للأنبياء لا لِلعَامَّةِ.
4. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أنَّ فلانا وفلانا وفلانا منافقون، ويخبر الله نبيَّه بهذا كغيره من الغيب فيسِرُّه لحذيفة كما قال: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي﴾ يختار، ﴿مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَّشَآءُ﴾ كما اجتبى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بهم بأعيانهم، لا بوصفهم فقط.
5. روي أنَّ الكفَّار قالوا: إن كان محمَّد صادقا فليخبرنا من يؤمن منَّا ومن يكفر، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (عُرِضت عليَّ أمَّتي وأُعلمت من يؤمن بي ومن يكفر، كما عُرضت على آدم ذرِّيتُه)، فقال المنافقون: إنَّه يزعم أنَّه يعرف من يؤمن ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا!، فنزل: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَّشَآءُ﴾، وقيل: قالت قريش: يزعم محمَّد أنَّه يعلم من يؤمن ويكون في رضا الله وفي الجنَّة، ومن يكون بعكس ذلك فليخبرنا بهم! فنزلت، قلت: لعلَّها نزلت في ذلك كلِّه.
6. ﴿فَئَامِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ بإخلاص وجزم، ولا تتوقَّفوا إلى أن يعلم الغيب، فإنَّه ليس يُعْلِمُهُ كلَّ غيب وقد أعلمه من يؤمن ومن يكفر، وبأن تعلموا أنَّه لا يعرف الغيب إِلَّا من عرَّفه الله إيَّاه واجتباه لذلك من الأنبياء، ﴿وَإِن تُومِنُواْ﴾ إيمانا خالصا، ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ ما فيكم من الكفر والنفاق، والخطاب في المواضع الثلاثة يُقَوِّي أنَّ الخطاب في قوله تعالى : ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ للمنافقين والمرتابين، ﴿فَلَكُمُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لا يعلم قدره إِلَّا الله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/68.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهر مخبآتهم، وعاد تلويحهم صريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق، انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم فقال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ أي يترك ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الالتباس بالمنافقين، وبل لا يزال يبتليكم ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ المنافق ﴿الْخَبِيثَ مِنَ﴾ المؤمن ﴿الطَّيِّبِ و﴾ لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه ﴿ما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر.
2. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ باطلاعه على الغيب، كما أوحى إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويخلصكم من سوء جوارهم، قال ابن القيّم: هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، كما قال ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26 ـ 27] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة، في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة، كما قال تعالى ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ فتصححوا الاعتقادات ﴿وَتَتَّقُوا﴾ فتصلحوا الأعمال ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
3. هاهنا لطائف:
أ. الأولى: في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما، بما يليق به، وإشعار بعلة الحكم.
ب. الثانية: إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمع، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، كما في مثل قوله تعالى ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: 3]، ونظيره قوله تعالى ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: 2]، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم.
ج. الثالثة: تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان، وإن ظهر مزيد إخلاصهم، لا بالتصرف فيهم، وتغييرهم من حال إلى حال أخرى، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220]
د. الرابعة: إنما لم ينسب عدم الترك إليهم، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة، كما يشهد به الذوق السليم.
هـ. الخامسة: التعرض للاجتباء في قوله: ﴿يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ﴾.. للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل، تقاصرت عنه همم الأمم، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا الباب أمر متين، له أصل أصيل، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام.
و. السادسة: تعميم الأمر في قوله تعالى ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهانيّ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء بصحة نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليّا.
4. هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود، وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم، فالمعنى: ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن، لسر يقتضيه، بل يفرز عنهم المنافقين، ولذلك فعله يومئذ، حيث خلى الكفرة وشأنهم، فأبرز لهم صورة الغلبة، فأظهر من في قلوبهم مرض، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/466.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قال محمد عبده: كان الكلام مسترسلا في بيان حال المؤمنين في واقعة أحد وما بعدها وجاء في السياق بيان حال من ظهر نفاقهم وضعفهم وبيان حال المجاهدين والشهداء ومن هم بمنزلة الشهداء، وحال الكفار المهددين للمسلمين، وكون الإملاء لهم واستدراجهم بطول البقاء في الدنيا ليس خيرا لهم، وقد كانت وقعة أحد أشد واقعة أحس المسلمون عقبها بألم الغلب لأنهم لم يكونوا يتوقعونه بعد رؤية بوادر النصر في بدر، ولأنه ظهر فيها حال المنافقين، وتبين ضعف نفوس بعض المؤمنين الصادقين؛ ولذلك كانت عناية الله تعالى ببيان فوائد المسلمين فيها عظيمة، ومنها ختمها بهذه الآية الكريمة، المبينة لسنة من السنن التي ذكرت في سياق تلك الآيات الحكيمة.
2. والمعنى: ما كان من شأن الله تعالى ولا من سنته في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كان عليها المسلمون عند حدوث غزوة أحد حتى يميز الخبيث من الطيب، وكيف كانوا؟ كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد، أما الرخاء واليسر وتكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثة مع التمتع بمزايا الإسلام وفوائده؛
3. ربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة ولا سيما إذا كان داخلا في دين جديد لما في ذلك من الرياء والسمعة، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين وفي ذلك فوائد كثيرة:
أ. منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال، فإذا عرفه اتقى ذلك.
ب. ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.
4. هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد.
5. فلما كان هذا اللبس ضارا بالأفراد والجماعات ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب فتظهر الخفايا وتبلى السرائر حتى يرتفع الالتباس؛ ويتضح المنهج السوي للناس.
6. قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم، ولكن الله تعالى أخبر أن هذا ليس من شأنه ولا من سنته كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانا فإنه تعالى خلق الإنسان نوعا عاملا يحصل جميع رغائبه ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة، ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالابتلاء بالشدائد وما تتقاضاه من بذل الأموال والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق والخير لا سبيل الهوى كما ابتلى المؤمنين في واقعة أحد بجيش عظيم، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، ثم ابتلاهم بظهور العدو عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين، وزلزال ضعفاء المؤمنين، وثبات كلمة الموقنين.
7. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي يصطفيهم فيطلعهم على ما شاء من الغيب وهو ما في تبليغه للناس مصلحة ومنفعة لهم في الإيمان كصفات الله تعالى واليوم الآخر وبعض شؤونه والملائكة، وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 1 ـ 3]
8. الدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجن: 26 ـ 28] وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي إن أنتم آمنتم بما جاؤوا به من خبر الغيب وقرنتم بالإيمان تقوى الله تعالى بترك المنهيات وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه.
9. لزُّ التقوى ههنا مع الإيمان في قرن وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر وأشهر وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها.
10. وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وزعم بعضهم أن الله تعالى أطلعه على علم الساعة قبل وفاته، وكل ذلك من الجرأة على الله تعالى والقول عليه بغير علم: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، إن اتبع إلا ما يوحى إلي، قل هو يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون﴾ [الأنعام: 50] هذا ما أمر الله خاتم رسله أن يبلغه خلقه وهو ما أمر به من قبله من الرسل كما قال حكاية عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [هود: 31] فهم كانوا ينفون أن يكونوا متصرفين في خزائن الله بالإعطاء والمنع وأن يكونوا يعلمون الغيب وأن يكونوا ملائكة أي من غير جنس البشر، وأمر الله نبيه أن يستدل على عدم معرفته الغيب بقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 187] وقال عز وجل: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59] يقولون إنه لا يعلمها غيره بعلم ذاتي استقلالي، ونقول إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله عن نفسه فإن ذلك يفضي إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس، ولا مجال فيه لعقول الناس.
__________
(1) تفسير المنار: 4/254.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله تعالى أن الشدائد هي محكّ صدق الإيمان فقال: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي ما كان من سنن الله في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها حين غزوة أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويظهر حال كل منهما، لأن الشدائد هي التي تميز قوىّ الإيمان من ضعيفه، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين، أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق، كما يقبلها صادق الإيمان، لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإسلام، وفي الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها:
أ. اتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق، لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين في سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون.
ب. أن تروز الجماعة حالها، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد.
ج. إنها تدفع الغرور عن النفس، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما في نفسه من ضعف في الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره.
2. قد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق، أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة، وفلانا من أهل النار، فأجاب الله عن هذا فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة.
3. ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس وبذل المال في سبيل الحق والخير، كما ابتلى المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، وابتلوا بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير.
4. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي ولكن الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف، ويفضحهم به على رؤوس الأشهاد، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم، ونحو الآية قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، وفي التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.
5. وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من وقوع الكوارث التي حصلت في أحد، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به فقال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله في كتابه وقص علينا قصصهم، وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام في الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، للإيماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته.
6. ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب، مع تقوى الله بترك ما نهى عنه؛ وفعل ما أمر به، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه، وقلّ أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى، كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر والرأفة بالفقراء والبائسين، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلّا بهما
__________
(1) تفسير المراغي: 4/142.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين، أن يميزهم من المنافقين، الذين اندسوا في الصفوف، تحت تأثير ملابسات شتى، ليست من حب الإسلام في شيء، فابتلاهم الله هذا الابتلاء ـ في أحد ـ بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم، ليميز الخبيث من الطيب، عن هذا الطريق: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
2. يقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله سبحانه وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز؛ يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام، فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعا فريدا، ونظاما جديدا.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض؛ وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.
3. وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله سبحانه أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن الله سبحانه أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس (مصمما) على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار، وهو مصمم هكذا بحكمة، مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض.
4. وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب، ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم، لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون، وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض! من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.
5. إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟ ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس.. ويكون من قدر الله ما يكون.
6. وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة؛ وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة، وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل الله العظيم، الذي ينتظر المؤمنين، ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب، بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان، خير خاتمة لاستعراض الأحداث في (أحد) والتعقيب على هذه الأحداث.
7. وبعد.. فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة، يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال، فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها، ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
أ. لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية، وفي طريقته في العمل في حياة البشر، وهي حقيقة أولية بسيطة، ولكنها كثيرا ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء، فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية، وفي دوره أمس واليوم وغدا:
• إن بعضنا ينتظر من هذا الدين ـ ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية ـ أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة! دون اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أية مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم! وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية، وحدود الواقع المادي للبشر، وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه، فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا، أو يؤثران في مدى استجابة الناس له، وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين، وجاذبية المطامع والشهوات، دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا.. حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها! ـ ما دام هذا الدين من عند الله ـ أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا! وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد، هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين، وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.. إن هذا الدين منهج للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري، في حدود الطاقة البشرية، ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي، ويسير بهم إلى نهاية الطريق، في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية، ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه، وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة، في أية خطة، وفي أية خطوة، عن طبيعة فطرة الإنسان، وحدود طاقته، وواقعه المادي أيضا، وأنه في الوقت ذاته يبلغ به ـ كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة ـ ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق.
• ولكن الخطأ كله ـ كما تقدم ـ ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها؛ ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري؛ والتي تبدل فطرة الإنسان، وتنشئه نشأة أخرى، لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته، وواقعه المادي كله! أليس هو من عند الله؟ أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلما ذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولما ذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائما؟ ولا ينتصر أصحابه دائما؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا؟ ولما ذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا؟
• وكلها ـ كما نرى ـ أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها! إن الله قادر ـ طبعا ـ على تبديل فطرة الإنسان ـ عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه ـ وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى.. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة، وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة، وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما، ولا تمحى، ولا تبدل، ولا تعطل، وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية، وشاء أن يبلغ (الإنسان) من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة.
• وليس لأحد من خلقه أن يسأله: لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها! وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم، بالنظام الكلي للكون، وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا (التصميم) الخاص! و(لما ذا؟) ـ في هذا المقام ـ سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله كذلك ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله، لأنه أكثر أدبا مع الله ـ الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته ـ وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال.. والكافر لا يسأله، لأنه لا يعترف بالله ابتداء، فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه سبحانه ومقتضى ألوهيته! و
• لكنه سؤال قد يسأله هازل مائع، لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد.. ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه! وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية.. فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر، إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية ـ حتى يعرفها فهو مؤمن، أو ينكرها فهو ملحد.. وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء! ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله سبحانه لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولما ذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة، لا تمحى، ولا تعدل، ولا تعطل! ولما ذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية؟
• ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة؛ ويراها وهي تعمل في واقع البشرية، ويفسر التاريخ البشري على ضوئها؛ فيفقه خط سير التاريخ من ناحية، ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى.
• هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام ـ كما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله، ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملا، وتستقيم عليه ـ بقدر طاقتها ـ وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها؛ وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك؛ وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة.. تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج.. وتبلغ ـ بعد ذلك كله ـ من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوي الذي تطيقه فطرة البشر، على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا؛ ولا تغفل واقعهم، ومقتضيات هذا الواقع، في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها.. ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة؛ وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة، بقدر ما تبذل من الجهد؛ وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية؛ وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب، وقبل كل شيء، وقبل كل جهد، وقبل كل وسيلة.. هنالك عنصر آخر: هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض، ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها؛ ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج، وثقتها به، وتوكلها عليه، هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته، وهذه هي خطته الحركية ووسيلته، وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يربيها بأحداث معركة أحد؛ وبالتعقيب على هذه الأحداث.
• حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة، وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها، وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها؛ وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها ـ حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة؛ وتعاني آلامها المريرة، ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة: ﴿أَولَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾ ولكنه ـ كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص ـ لا يترك المسلمين عند هذه النقطة، بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج؛ ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء، الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة.
• إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري، ويتأثر بتصرف البشر إزاءه.. هو خير في عمومه، فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها؛ ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها، ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان، مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان؛ ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية.. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضا ـ فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة ـ وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة، متوكلة على الله.
• حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان، لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس؛ وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا، وهو قاعد آمن سالم؛ وتتبين له حقائق في الناس، وفي الحياة، لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة؛ ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه، وبانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبدا، بدون هذه التجربة الشاقة المريرة.
• وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته؛ ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها، مدى احتمال كل لبنة، ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام.
• وهذا ما أراد الله سبحانه أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهو يربيها بالأحداث في (أحد) وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة، وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾.. وهو يقول: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، ثم.. وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا؛ فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، وإذن فهو ـ في النهاية ـ قدر الله وتدبيره وحكمته، من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات، وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل، يستقر في النفس من وراء الأحداث، والتعقيب المنير على هذه الأحداث.
ب. وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة الجهد البشري، ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
• إن النفس البشرية ليست كاملة ـ في واقعها ـ ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء، حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
• وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية ـ كما هو وعلى الطبيعة ـ ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.. وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق.. فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر، فيهم الضعف وفيهم النقص، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ﴾، ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾.. وفيهم من يقول الله عنهم: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.. وفيهم من ينهزم وينكشف، وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾
• وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون؛ ولكنهم كانوا في أوائل الطريق، كانوا في دور التربية والتكوين، ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر، مسلمين أمرهم لله، مرتضين قيادته، ومستسلمين لمنهجه، ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه، بل رحمهم وعفا عنهم؛ وأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، وأمره أن يشاورهم في الأمر، بعد كل ما وقع منهم، وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه سبحانه تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك، وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير.. ولكنه لم يطردهم خارج الصف، ولم يقل لهم: إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر، بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف.. لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم، ورباهم بالابتلاء، ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء، والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات، في رحمة وفي عفو وفي سماحة؛ كما يربت الكبير على الصغار؛ وهم يكتوون بالنار، ليعرفوا ويدركوا وينضجوا، وكشف لهم ضعفهم، ومخبآت نفوسهم، لا يفضحهم بها، ويرذلهم، ويحقرهم، ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا، ولكن ليأخذ بأيديهم، ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين.
• ثم وصلوا.. وصلوا في النهاية، وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة، وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح، يخرجون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غير هيّابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾
• ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا.. تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار، بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة؛ ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين، تلك المؤاخذة العسيرة، يجد الفرق واضحا في المعاملة؛ ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة، كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد، والقوم يوم تبوك.. وهم هم.. ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوي السامق.. ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا، وظل فيهم الضعف، والنقص، والخطأ، ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله، إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج؛ ولا يبدلها أو يعطلها، ولا يحملها ما لا تطيق، وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
• وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية، لتحاول وتبلغ، في ظل هذا المنهج الفريد.. فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة، إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه، وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية، متخلفة في كل شيء، على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق
• هذا الدرس.. وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي، مهما تكن قابعة في السفح، ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة، فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر، فهي ليست وليدة خارقة عابرة، إنما هي وليدة المنهج الإلهي، الذي يتحقق بالجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية ـ والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير! هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها، ومن الواقع المادي الذي هي فيه، ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة.. من السفح.. ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان، إلى ذلك الأوج السامق.
• شرط واحد لا بد أن يتحقق.. أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج، أن تؤمن به، وأن تستسلم له، وأن تتخذه قاعدة حياتها، وشعار حركتها، وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل.
ج. وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها.. حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة، وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان، الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة.. فكل هذه عوامل أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة.
• والمنهج الإلهي ـ من ثم ـ يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية، مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط، متكاملة في الوقت ذاته وشاملة، والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساجات كلها والنقط والخطوط والخيوط.. وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل، الذي يأخذ الحياة جملة، ولا يأخذها مزقا وتفاريق، والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعا، ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة، في قبضته، فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة، لا تصيب النفس بالفصام، ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام.
• ومن نماذج هذا التجميع، وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه ـ في التعقيب القرآني ـ عن الخطيئة، وأثرها في النصر والهزيمة، فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾.. كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا ـ وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به ـ بدؤوا المعركة بالاستغفار من الذنوب: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.. وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة، توجيهها للتطهر والاستغفار: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.. ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم: الاعتداء والمعصية: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا ـ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ـ وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾
• وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة، يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة، كما نجد الكلام عن (التقوى) وتصوير حالات المتقين، يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة، ويربط بين جو السورة كلها ـ على اختلاف موضوعاتها ـ وجو المعركة، كما نجد الدعوة إلى ترك الربا، وإلى طاعة الله والرسول، وإلى العفو عن الناس، وكظم الغيظ، والإحسان... وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية.. والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي الهام.
د. وحقيقة رابعة.. عن طبيعة منهج التربية الإسلامي.. فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث، وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات، ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث.. على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد.. وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة، ليصحح تأثره، ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح! وهو لا يدع جانبا من الجوانب، ولا خاطرة من الخواطر، ولا تصورا من التصورات، ولا استجابة من الاستجابات، حتى يوجه إليها الأنظار، ويسلط عليها الأنوار، ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة، ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية؛ وبذلك يمحص الدخائل، وينظفها ويطهرها في وضح النور؛ ويصحح المشاعر والتصورات والقيم؛ ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين، وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة.. مما يلهم وجوب اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق، وننظر في التعقيب على غزوة أحد، فنجد الدقة والعمق والشمول.. الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة؛ والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة؛ والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث، ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج، والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف، المسيرة للحادث، كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء؛ بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب، فهو وصف حي، يستحضر المشاهد ـ كما لو كانت تتحرك ـ ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير.
هـ. وحقيقة خامسة كذلك.. عن واقعية المنهج الإلهي.. فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع، مزاولته بالفعل، فهو لا يقدم مبادئ نظرية، ولا توجيهات مجردة.. ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته، وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة، هو موقفه إزاء مبدأ الشورى.
• لقد كان في استطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها ـ وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها ـ نقول كان في استطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستندا إلى رؤياه الصادقة؛ وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة؛ ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد! ولكنه ـ وهو يقدر النتائج كلها ـ أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل، لأن هذا في تقديره صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة، فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية! ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى ـ بعد المعركة كذلك ـ تثبيتا للمبدإ في مواجهة نتائجه المريرة، فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية.
• إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا، وأن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية ـ كمبدإ الشورى ـ شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته ـ مهما بلغت من الجسامة ـ لا تبرر إلغاءه، بل لا تبرر وقفه فترة من الوقت، لأنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف، بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا! وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى ـ بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا ترددا وأرجحة، وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته، من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي، فقال قولته التربوية المأثورة: (ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له).. ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾.. فتطابق ـ في المنهج ـ التوجيه والتنفيذ.
و. وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله.. وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله، إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك، ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج، ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة، وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك، فإنه يصفهم بالخطإ، وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف، ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم ـ مهما تكن منازلهم وأقدارهم ـ ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم! ونتعلم نحن من هذا، أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه ـ أيا كانوا ـ وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا، بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطإ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص، والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم، وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة.. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام، وعلى تاريخ الإسلام؛ إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ (الإسلام) ليس هو تاريخ (المسلمين) ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان! إن تاريخ (الإسلام) هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام، في تصورات الناس وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم، ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت، تدور حوله حياة الناس في اطار ثابت، فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام، أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون!؟ وهذا ما أراد الله سبحانه أن يعلمه للأمة المسلمة، وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة، ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها، ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه، وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/526.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قضت حكمة الله أن يجعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للناس، يذوق فيها بعضهم بأس بعض، وفي هذا الاحتكاك الواقع بينهم، تظهر أحوالهم وتنكشف أمورهم، وتعرف معادنهم، ولولا ذلك لكانوا شيئا واحدا، لا مؤمن ولا كافر، ولا طيب ولا خبيث، ولا محسن ولا مسيء وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ هو من مقتضيات هذه الحكمة التي كان من آثارها هذا الاحتكاك الذي يدور بين المسلمين والكافرين، والذي ابتلى فيه المؤمنون بما أصيبوا في أنفسهم وأهليهم.. فليس الإسلام هو كلمة يقولها الإنسان ليكون مسلما، وإنما هو كلمة وراءها عمل، ووراء العمل تبعات كثيرة، وأعباء ثقال، ولولا ذلك لكان مدخل الإيمان سهلا، لا ثمن له، يستوى فيه من يعمل ومن لا يعمل.. بل إنه لا يجد أحد ما يدفعه إلى العمل وبذل الجهد، إذ كان الأمر على تلك الصفة.
2. في قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ التفات للمؤمنين واستحضار لهم، ليكونوا في مواجهة هذا الحكم، وليؤخذ إقرارهم به، وما عليه المؤمنون هو العافية التي كانوا فيها قبل أن يبتلوا بلقاء الكافرين وجهادهم.
3. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أي حتى يقع هذا الصدام بين المؤمنين والكافرين، وحتى تنكشف أحوالهم، ويعرف الصابرون وغير الصابرين، ومن كان إيمانهم بالله خالصا صادقا، ومن كان إيمانهم على نفاق ودخل.. وعلم الله سبحانهـ علم شامل، محيط بما وقع وما لم يقع، في جميع صوره وأحواله.. وعلمه هنا، الذي يميز به الخبيث من الطيب ليس علما مستحدثا، وإنما هو علم قديم يندرج تحته هذا الحال الذي يكون عليه المؤمنون وهم في هذا الامتحان الذي يؤدونه بين يدى الله، وعلى هذا ينبغي أن يفسّر ويفهم ما ورد في القرآن من علم الله الذي يبدو وكأنه معلق بوقوع الأحداث.. مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾، ومثل قوله سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.. ونحو هذا، فعلم الله محيط بكل شيء، وكل ما هو في علم واقع تحت هذا العلم، في جميع أحواله المتلبس بها.. فالله سبحانه يعلم أزلا أن هذا الإنسان ـ مثلا ـ سيولد من أبوين، هما فلان وفلان.. في بلد كذا، في زمن كذا.. وقبل أن يولد هذا الإنسان هو في علم الله، وبعد أن ولد هو في علم الله.. ولكن علم الله به قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يولد في المكان والزمان الواقعين في علم اللهـ يكون المعلوم فيه على صور خاصة وصفات خاصة، فإذا ولد، كان المعلوم في علم الله على صورة غير الصورة السابقة، وعلى صفات غير تلك الصفات التي كان عليها قبل أن يولد!.. وهكذا تتغير ذوات المعلومات وصفاتها، وعلم الله محيط بها في جميع أشكالها وأحوالها، فلا يتغيّر ولا يتبدّل.
4. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾، والربط بين الحكمين لازم، لأن عدم اطلاع المؤمنين على الغيب، وما أراد الله لهم وكتب عليهم، يقتضى أن يؤمروا وأن ينهوا وأن يدعو إلى الامتحان والابتلاء والجهاد في سبيل الله، ولو كان الغيب مكشوفا للناس لما كان ثمّة داعية إلى أمر أو نهى، فكلّ يعرف مصيره الذي هو صائر إليه.. ولو عرف الناس مصائرهم مقدما، وانكشف لهم مستقبلهم خطوة خطوة، لما احتملت طبيعتهم البشرية هذا الموقف الذي يرى فيه الإنسان وجوده كله من مبدئه إلى نهايته، ولكانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
5. ففي حجب المستقبل عنّا رحمة بنا، وإحسان إلينا، واستدعاء لوجودنا كلّه لمواجهة المجهول، ومحاولة كشفه واستخراج ما في أطوائه، من خير وشر، وحلو ومرّ.. فهو على أي حال ثمرة مجهود، وحصاد معركة! وانظر.. لو أن إنسانا ما عرف عن يقين من سجّل القدر أنه في يوم كذا، في ساعة كذا، ستصدمه سيارة تقضى عليه، أو تشبّ فيه نار فتلتهمه، أو أن أحد أبنائه سيحدث له حادث أليم.. ماذا تكون حالة هذا الإنسان، منذ أن يطلع على هذا الغيب إلى أن يقع؟ هل يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب، أو يهدأ له قلب أو يستريح له بال؟ إنه في همّ دائم، وكرب كارب، وعذاب أليم!؟
6. وأكثر من هذا.. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى ـ وهو الفقير المعدم ـ أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض، وأنه سيشبع من جوع، ويكتسى من عرى، وينال ما يشتهى من متع الدنيا، بعد هذا الحرمان الطويل.. ماذا تراه في يومه هذا، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟ إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم، في عذاب، دونه كل عذاب.. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة، ويدفع مسيرة، الزمن بكل ما في كيانه من قوى ظاهرة وباطنه.. والزمن قائم في وجهه، جاثم على صدره، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه.. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود.. ولكن أنّى له ذلك، وهو مشدود إلى الحياة، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟
7. من رحمة الله علينا إذن كان هذا الذي صنعه الله بنا، فحجب عنّا ما أراده لنا، وما قضاه علينا، فنعمل بإرادة، ونمضى بعزم، ونعيش مع أمل، فقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم الله به، وبين تلك الأوامر الجهاد في سبيل الله، والثبات في وجه العدوّ، والعمل على انتزاع النصر منه.. ذلك هو المطلوب من المؤمنين في مثل هذا الموقف.. أما ما يؤول إليه الأمر، وما يسفر عنه القتال، فذلك علمه عند الله.. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع، أيّا كان، بعد أن امتثلوا أمر الله، وأعطوه كل جهدهم، يقول جعفر الصادق لزرارة: (يا زرارة.. أعطيك جملة في القضاء والقدر؟) قال: نعم، جعلت فداك، قال: (إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق، سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم)، وهذه كلمة فيها مقطع القول في القضاء والقدر، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر.. إنهم مطالبون بما كلّفوا به، وغير مطالبين بما قدّره الله عليهم.
8. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ استدراك فيه معنى الاستثناء من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.. إذ أن رسل الله الذين يصطفيهم الله لحمل رسالاته إلى عباده، هم ممن أظهرهم الله على بعض ما في الغيب، وأطلعهم على لمحات منه، ليروا على ضوئها طريقهم الذين يقودون فيه عباد الله إلى الهدى والخير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾
9. ومن جهة أخرى.. فإن الرّسول ـ وإن لم يطلع على شيء من الغيب، فإنه أشبه بمن اطلع على الغيب فيما يتعلق بالدعوة التي يحملها، والرسالة التي يقوم بتبليغها.. إنها دعوة خير، ورسالة نور وهدى.. وإن السعادة في الدنيا والآخرة لمن استجاب لدعوته وعمل بها، وإن النّصر والتأييد من الله لمن آمن بالله وجاهد في سبيله.. هذه حقائق لا تقبل الشك، ووعود محققة كأنها واقعة وإن لم تكن قد وقعت، فهي في مضمونها من أبناء الغيب، يراها رسل الله والمؤمنون بالله، رأى العين، ويستيقنونها يقين الواقع في أيديهم، ففي قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ وفي قوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وفي قوله سبحانه: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾، وفي قوله جل شأنه: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ في هذه الآيات وكثير غيرها يرى رسول الله ويرى المؤمنون معه واقع هذه الوعود ماثلا بين أيديهم، وكأنهم قد اطلعوا الغيب وعاينوا ما سيكون قبل أن يكون!
10. لما نزل قوله تعالى ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ استيقن المسلمون أن جمع الكافرين سيهزم بأيديهم وسيولّى الدبر.. هذا ما لم يكن يشكّ فيه مؤمن، حتى لكأنه يراه رأى العين، ولكن الرؤية لم تكن كاملة، حيث لم ينكشف للمسلمين هذا اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الوعد الذي وعدهم الله إياه.. فلما كان يوم بدر انكشف ما كان مستورا، ورأى المسلمون الجمع المنهزم، وفي هذا كان يقول عمر: (ما كنت أدرى أي جمع هذا الذي سيهزم حتى رأيت جمع قريش يوم بدر، وهم منهزمون يولّون الأدبار)
11. قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ دعوة يستجيب لها كل ذي عقل ووعى، حيث كانت تلك الدعوة من عند الله، وكان حاملوها رسلا من عند الله، وكانت مضامينها حقّا مطلقا، ووعودها واقعا محققا، لأنها من أبناء الغيب وقد أطلع الله عليها رسله والمؤمنين به، فيما حملت آياته إليهم من أمر ونهى، ومن خبر أو وعد! وليس الإيمان وحده مجردا من العمل هو الذي يعطى الثمرة المرجوة من الإيمان.. إذ لا بد من أن يصحب الإيمان عمل يدعو إليه الإيمان، ويرسم حدوده، وثمرة هذا العمل هي التقوى، التي يحقق بها المؤمن حقيقة الإيمان، وبهذا يدرج في سلك المؤمنين، ويحظى من الله بالجزاء الأوفى، والأجر العظيم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/651.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ استئناف ابتدائي، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أحد من الحكم النافعة دنيا وأخرى، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 166]
2. بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم، فقدّر ذلك زمانا كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس، وقرّ للمؤمنين الخالصين المقام في أمن، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال، ورأوا انتصارهم يوم بدر، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم، بأن أصاب المؤمنين يقرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين، وسجّل الله عليهم نفاقهم باديا للعيان كما قال:
çجزى الله المصائب كلّ خير...عرفت بها عدوّي من صديقيé
3. ما صدق ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال، وحرفا (على) الأوّل والثاني، في قوله: ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ للاستعلاء المجازي، وهو التمكّن من معنى مجرورها ويتبيّن الوصف المبهم في الصلة بما ورد بعد (حتّى) من قوله: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾، فيعلم أنّ ما هم عليه هو عدم التمييز بين الخبيث والطيّب.
4. معنى ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نفي هذا عن أن يكون مرادا لله نفيا مؤكّدا بلام الجحود، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 79] إلخ، فقوله: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق، فالضمير في قوله: ﴿أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين، والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخلّص من النفاق، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك، فلم يقل: ليذركم على ما أنتم عليه تنبيها على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين، ولذلك لم يقل على ما هم عليه.
5. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ غاية للجحود المستفاد من قوله: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ المفيد أنّ هذا الوذر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعا منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطيّب صار هذا الوذر ممكنا، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة.
6. لحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود، فمعناها تنهية الاستحالة: ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية، فيكون حصوله كالمستحيل، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفيا، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا الزمخشري ومتابعوه، وتنبّه لها أبو حيّان، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات، فجعل التقدير: إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان، حتّى يميز، وأخذ هذا التأويل من كلام ابن عطية، ولا حاجة إليه على أنّه يمكن أن يتأوّل تأويلا أحسن، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطّلا لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم، ولكن فيما ذكرته وضوح وتوقيف على استعمال عربيّ رشيق.
7. (من) في قوله: ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ معناها الفصل أي فصل أحد الضدين من الآخر، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب (مغني اللبيب)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ في سورة البقرة.
8. قيل: الخطاب بضمير ﴿مَا أَنْتُمْ﴾ للكفار، أي: لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق.
9. قرأ الجمهور: يميز ـ بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة ـ من ماز يميز، وقرأه حمزة، والكسائي ويعقوب، وخلف ـ بضمّ ياء المضارعة وفتح الميم وياء بعدها مشدّدة مكسورة ـ من ميّز مضاعف ماز.
10. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم، ولم يكن من شأن الله اطلاعكم على الغيب، فلذلك جعل أسبابا من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلعوا عليهم، وإنّما قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّسا على استفادة المسبّبات من أسبابها، والنتائج من مقدّماتها.
11. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين في نفي الوحي والرسالة، فيكون المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلّا ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26، 27] الآية، فيكون كاستثناء من عموم ﴿لِيُطْلِعَكُمْ﴾، ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي: إلّا الغيب الراجع إلى إبلاغ الشريعة، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله اطلاعهم عليه بل قد يطلعهم، وقد لا يطلعهم، قال تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: 60]
12. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ إن كان خطابا للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى، وبأنّ وعد الله لا يخلف، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين.
13. موقع ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ ظاهر على الوجهين، وإن كان قوله: ﴿فَآمِنُوا﴾ خطابا للكفار من المنافقين بناء على أنّ الخطاب في قوله: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ وقوله: ﴿لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ للكفّار فالأمر بالإيمان ظاهر، ومناسبة تفريعه عمّا تقدّم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتّت.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/293.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه أن تلك الشدائد التي تنزل بالمؤمنين هي خير لهم ليتبين الطيب من الخبيث، ولذا قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
2. كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة أحد سببا في أن عرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بين سبحانه أن شأن الله تعالى في عباده أن يختبرهم، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره، و(يذر): معناها يترك، وقوله: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من اليسر، وعدم التعرض للشدائد، ومعنى ﴿يَمِيزَ﴾ يفصل، وقرئ (يميّز) أي يحدد ويبين، والطيب هو الصادق الإيمان، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان.
3. ومعنى النص الكريم: ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق أن يتركهم في حال من اليسر الذي لا صعوبة معه، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لا مميز يميز من دخل في الإيمان وأشرب قلبه حبه، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من الطيب، وتنفصل الأقسام، وتتميز كل جماعة بحقيقتها، وهذا على أن قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من نصر مستمر، لا مشقة فيه ولا ابتلاء، وعلى أن قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا، وقد بينه الزمخشري بقوله: (لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلّص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيكون عيارا على عقائدكم، وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله)
4. وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون؛ لأن الله لا يطلع على غيبه أحدا، وما كان لكم معشر المؤمنين أن تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب.
5. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ الغيب ضد المشاهد، وهو ما غيب عنا مما لا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته، كالعلم بما يكون في المستقبل، وحقيقة الملائكة وذواتهم، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه، و(اجتبى) معناها اختار واصطفى.
6. والمعنى: من شأن الله تعالى أن لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدّوا ويجتهدوا، ويعلموا، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، ومع ذلك يصطفى من رسله من يطلعهم على بعض الغيب، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم، وكمكاشفته بالوحى لجبريل الأمين، وهكذا من شؤون الغيب.
7. ويستفاد من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب، كما فقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام] وأن الأنبياء قد يصطفى الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات، فما يعطيهم يعلمونه، وإنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [هود]، وقال تعالى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف]
8. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي إذا علمتم أن الله تعالى لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين أن تؤمنوا بالله حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث، ليس كمثله شيء، وأن تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وأن تؤمنوا بالله حق الإيمان، وبالرسل وما جاؤوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم أجر عظيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1522.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ كان أعداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فئتين:
أ. الأولى المشركون، وهم الذين رفضوا الإيمان به باطنا وظاهرا، وأعلنوا الحرب عليه منذ البداية، وانتهت بهم الحال إلى أن جمعوا له الجموع، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة، فجمع لهم كما جمعوا، وأعد كما أعدوا.. فكانوا أعداء معروفين متميزين عن غيرهم من المسلمين.
ب. الثانية: المنافقون، وهم الذين أضمروا الكفر والعداء للنبي وصحبه، وأظهروا لهم الحب والولاء.. وكانت مهمتهم العمل ضد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم داخل صفوف المسلمين.. فتارة يروجون الاشاعات الكاذبة، وأخرى يغرون المسلمين بمعصية الله والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحينا يثبطون عزائمهم، ويخوفونهم من المشركين، وفي بعض الغزوات انضموا إلى جيش المسلمين، ثم تركوهم في منتصف الطريق، وقد لاقى منهم النبي والخلص من أصحابه أكثر مما لاقوه من المشركين، لأن هؤلاء يحاربون في العلنية، والمنافقون يكيدون في الخفاء، ويدبّون الضراء، وهذا شأنهم مع كل داع إلى الخير في كل زمان ومكان، يندسون في صفوف الطيبين للفساد والتخريب، وقد ذكرهم الله سبحانه في العديد من الآيات، منها الآية 173 ـ 179 وهي التي نحن بصددها، ومنها الآية 112 من سورة الانعام: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾
2. فرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يعامل هؤلاء، وكل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين، فيحقن دماءهم، ويحترم أموالهم، ويندبهم إلى الحرب معه، ويشركهم في الغنائم، لأن الإسلام ما زال في دور الإنشاء والتكوين، فلو قتلهم الرسول، أو طردهم لقال البسطاء: ان محمدا لا يرضيه أحد آمن به أو كفر، ولاتخذ المشركون من ذلك وسيلة للدعاية ضد الإسلام ونبيه.. ومن أجل هذا حار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر المنافقين، وضاق بهم ذرعا.. ان قبلهم أفسدوا، وزهدوا المسلمين في الجهاد، وان رفضهم خاف على دعوته من قلة الأنصار والأتباع، فأنزل الله سبحانه قوله: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي ليس من حكمته تعالى ان يدع الحال كذلك، يتوارى المنافقون وراء دعوى الإسلام، بل انه سبحانه يسلط عليهم الأضواء، ليعرفوا ويفتضحوا أمام الملأ، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والفساد.. والمحك الذي يفضح المنافقين ليس أمرا بالكلام كالتلفظ بالشهادتين، ولا بالركوع والسجود، وما اليه مما لا عسر فيه ولا حرج، وإنما هو الأمر بالجهاد وبذل النفس الذي يكشف الغطاء عن المنافقين، ولا يبقي لهم مجالا للرياء والخداع، والكيد ونفث السموم، بهذا الامتحان العسير، والأمر بالصبر والثبات في وقعة أحد تعرفون يا معشر المؤمنين نعمة الله عليكم، وانه لم يدعكم على الحال التي كنتم عليها من التباس الصادقين منكم بالأعداء الأدعياء الذين تقنعوا من قبل باسم الإسلام.. والمراد بالطيب المؤمنون، وبالخبيث المنافقون، وأفرد اللفظ، لأنه اسم جنس.
3. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، أي ليس من حكمته تعالى، ولا من سننه أن يطلعكم على علمه بالناس، ويقول لكم: هذا طيب، وذاك خبيث، بل عليكم أن تعرفوا ذلك بالتجربة عند المحن والشدائد، كما حدث في وقعة أحد، وعند ما دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الصحابة على ما بهم من ألم الجراح أن يخرجوا معه ثانية لطلب العدو، ومقابلته في حمراء الأسد.. وبكلمة ان الله لا يخبر أحدا بما في قلوب الناس من ايمان ونفاق، وإنما يأمر بالتضحية بالنفس والمال، وعند التنفيذ والعمل يعرف الأصيل من الدخيل.
4. أجل، ان الله يطلع بعض رسله على نفاق هذا، أو ايمان ذاك لحكمة هو بها أعلم، وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، ومثله الآية 26 من سورة الجن: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/214.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره، ويتميز الخبيث من الطيب.
2. ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب وهو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾
3. ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء، غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله ويحفظ طيبه، ولذلك قال أولا: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ ثم تممه ثانيا بقوله: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وقد ظهر من الآية:
أ. أولا: أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه.
ب. وثانيا: أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران مدار الإيمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم، وهذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد، ويدل عليها قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا﴾ ﴿الْخَيْرَاتِ﴾: البقرة 148، إذا انضم إلى قوله: ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾: المائدة 48، وسيجيء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ﴾ الآية.
ج. وثالثا: أن الإيمان بالله ورسله مادة لطيب الحياة وهو طيب الذات، وأما الأجر فيتوقف على التقوى والعمل الصالح، ولذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب والخبيث ثم فرع عليه قوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾، ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
4. بذلك يتبين في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، إن الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه، والجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيبة، وأما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها وتحققها إلى روح حيواني، وبقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى والأعضاء، ولو سكنت الجميع بطلت وأبطلت الحياة.
5. كرر لفظ الجلالة مرات في الآية، والثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر وليس إلا للدلالة على مصدر الجلال والجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو بألوهيته وهو الامتحان، والاطلاع على الغيب، واجتباء الرسل، وأهلية الإيمان به.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/80.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ﴾ هو نفي مؤكد بمعنى أنه لا يصح في حكمة الله أن يذر المؤمنين ملتبسين بغيرهم غير متميزين عنهم، ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على الحالة التي أنتم عليها من التشابه في دعوى الإيمان وعدم تميز الصادق في دعواه من الكاذب، فقوله: ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي الآن عند نزول الآية هذه، ولا يصح أن يفسر بما كنتم عليه قبل وقعة أحد إذا كانت الآية إنما نزلت بعد أحد، بل هي تفيد: أنه لابد من ابتلاء وفتنة غير ما قد كان في وقعة أحد حتى يتم التميز بين المؤمنين الصادقين وغيرهم، فهي كقوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ إلى آخر الآيتين [العنكبوت:2 ـ 3]، فأما إن كانت هذه الآية نزلت قبل أحد فمن مصاديقها ما كان من الابتلاء في أحد، وفائدة تأخيرها في ترتيب الآيات الدلالة على فتنة غير ما قد وقع حتى يميز الخبيث الفاقد للإيمان الكاذب في دعواه الإيمان من الطيب المؤمن حقاً.
2. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ حتى تميزوا بين الخبيث والطيب من قبل أن يتميزوا بأعمالهم الكاشفة عن أسرارهم بسبب الفتنة، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيرسلهم إليكم ليطلعوكم على ما يشاء من الغيب أي على ما أرسلهم به من الغيب كأخبار البعث والجنة والنار، دون أن يطلعكم على الغيب جملة، فأغنى ذكر الرسل عن ذكر المرسل به لوضوحه من الواقع الذي هو الإنذار والتبشير ونحو ذلك من الأخبار بالمغيب فيما أُرسل به خاصة لا كل الغيب.
3. قال في (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (﴿يَجْتَبِي﴾ معناه: يختار) ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ إيماناً صحيحاً صادقاً لا مجرد الدعوى ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وهو السعادة الدائمة في الآخرة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/584.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عرضت عليّ أمتي في صورها، كما عرضت على آدم، وأعلمت من يؤمن لي ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين فاستهزأوا، وقالوا: يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر، ونحن معه ولا يعرفنا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.. وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.. وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرّق بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. نلاحظ أن هذه الروايات ـ كغيرها من أسباب النزول ـ لا تستند إلى رواية متصلة بالرسول أو ببعض الصحابة الموثوقين، مما يغلب على الظن أنها كانت اجتهادات شخصية، أو قريبة من ذلك، الأمر الذي يجعلنا لا نملك أساسا للانفتاح على أجواء الآية من خلال هذه الروايات، وربما نحتاج إلى التنبيه على ضرورة التأكيد والاستيثاق من كل الروايات الواردة في هذا المجال لدراسة سندها، لتوثيق النص في مسألة صدوره، وللتأمّل في دلالته ومدى انسجامها مع جوّ الآيات ومع المفاهيم الثابتة في الخط الفكري الإسلامي؛ لأن اختلاط الأمور من خلال الروايات غير الموثوقة، أو الاجتهادات غير المدروسة، قد يؤدي إلى الابتعاد عن صفاء الآية في إيحاءاتها الفكرية ودلالتها المفهومية، وهذا ما قد يجب علينا أن نلاحظه في كل الروايات المتصلة بالتفسير، لأن فقدان الحجية في سندها ودلالتها يؤدي إلى إرباك الفهم القرآني، وبالتالي إلى ضياع المفاهيم الإسلامية باعتبار أن القرآن هو الأساس ـ بالإضافة إلى السنّة ـ في تقرير الجانب المفهومي الفكري للإسلام في كل قضايا العقيدة والشريعة والمنهج.
3. لمّا كان الإيمان ـ في وعي الحقيقة القرآنية الإلهية ـ موقفا وليس كلمة، كان من الطبيعي أن يحرّك المؤمنين إلى تجسيده في حياتهم العملية، وذلك من خلال الظروف الصعبة، والتحديات الشديدة، والطرق الطويلة الضائعة، التي تواجه مسيرتهم في ما يأخذون به وما يتركونه، ليتميّز الطيّبون الذين يعيشون الإيمان فكرا وشعورا وحياة تشمل كل أوضاعهم وعلاقاتهم، فيثبتون أمام المزالق، ولا يسقطون أمام قسوة الظروف وتحدياتها، ولا ينحرفون تحت تأثير الطرق الملتوية؛ بل يبحثون عن الهدى في موقع الهدى ويسيرون عليه في اتجاه الخط المستقيم، وبذلك يتبين الخط الخبيث في سلوك الخبيثين الذين قد يخادعون الناس في الحالات الرخيّة السهلة التي لا تكلّف الإنسان شيئا من تضحية أو جهد، فيمكن له أن يتخذ لنفسه مظهرا يبتعد به عن الحقيقة المرعبة التي تختفي في داخله؛ ولكنهم لا يستطيعون السير طويلا في خطة الخداع هذه، لأن المواقف التي تضع الإنسان بين اختيارين ـ لا ثالث لهما ـ لا تترك المجال واسعا أمام اللاعبين، بل تحدد لهم الساحة التي لا تسمح لهم باللعب فيها بحريّة.. وهكذا يجدون أنفسهم أمام الاختيار الصعب الذي يتحركون فيه من مواقع الخبث الداخلية في نفوسهم، فينكشف الزيف، وتتحرك المواقف في عملية فرز حقيقية، ليميز الله من خلالها الخبيث من الطيب من حركة التجربة التي لا تترك مجالا للشك عندما يتبدد الضباب أمام إشراقة النور المتفجر من قلب الشمس.
4. ربما كان يدور في عقول المؤمنين، أن الله يعلم غيب الناس في ما يسرّون وفي ما يعلنون، ويميز الخبيث من الطيب بما يعرفه من سرائرهم فلو أطلعهم على هذا الجانب من غيبه لوفّر عليهم عناء الدخول في التجربة الصعبة، ولكن الله يثير أمامهم القضية الحاسمة من سننه التي أخضع لها الأشياء، فقد أجرى سنته في حياة الناس، أن يسير بهم في أمورهم على أساس الأسباب الطبيعية في المعرفة، فإذا أرادوا المعرفة فعليهم أن يبتغوا إليها الوسيلة من مصادرها الواقعية، لأن لذلك صلة ووثيقة بالنموّ العقلي والعملي لشخصيتهم التي تعطيها التجربة والمعاناة انفتاحا كبيرا على الحياة، فتلتقي المعرفة بالتجربة في وحدة ذاتية غنيّة بالعطاء، ولا سبيل إلى المعرفة الغيبيّة التي تنتظر النتائج من دون عناء، لأنهم يخسرون الكثير من حياتهم في هذا المجال من خلال ما يفقدونه من الوسائل الواقعية للمعرفة، ولكن الله لا يحجب الغيب عن رسله الذين يجتبيهم ويختارهم من بين خلقه ليقودوا الناس إلى سواء السبيل، فقد تمس الحاجة الرسالية إلى أن يكونوا على معرفة بما حولهم ومن حولهم من الناس والأشياء مما لا طريق لديهم إلى معرفته، وذلك من أجل أن يدفعوا عن الرسالة شرّا، أو يجلبوا لها خيرا، من خلال التخطيط الواعي للحركة في امتداد الحياة، مما قد يستدعي المعرفة الخفيّة بحقائق الأشياء.
5. تنطلق الآية ـ من خلال هذه الحقيقة الإيمانية ـ لتدعو الناس المؤمنين إلى أن يعيشوا الإيمان كأعمق ما يكون، فيتحول إلى تقوى، ويتحركوا من التقوى في مواقفهم العمليّة ليعطيهم الله أجر التقوى المرتكزة على الإيمان، ولن يكون الأجر عاديا يشبه ما يأخذه الناس من أجر على أعمالهم، بل هو الأجر العظيم الذي يحسب حساب العمل من موقع الإيمان الذي ينطلق مع النفس الطيّبة التي تعيش الآفاق الرحبة بين يدي الله.
6. ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ليدعهم ويمنحهم حرية الاسترخاء في نوازعهم الذاتية وأوضاعهم العادية، فليس من شأنه ـ في مواقع حكمته ورحمته ـ أن يهمل عباده المؤمنين ليعيشوا الحياة بعيدا عن القوّة والوعي والصلابة في الموقع والموقف.
7. ﴿عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ في المجتمع الإسلامي الذي يختلط فيه المؤمن والمنافق، من خلال اختفاء الملامح الحقيقية للإيمان لأنها لا تظهر إلا من خلال التجربة القاسية الصعبة التي تظهر دخائل النفوس وحقائق الالتزام؛ فلا يعرف فيه المخلص من غير المخلص، لأن السلوك العبادي الظاهري مما يلتقي عليه الجميع، وبذلك يظهر أن ما ذكره صاحب مجمع البيان من أن المقصود بكلمة ﴿أَنْتُمْ﴾ أهل الكفر فلا يذرهم على ما كانوا عليه قل مبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه خلاف الظاهر، لأن السياق يتصل بالمجتمع الإسلامي في التجربة التي عاشها المسلمون في يوم أحد في اختلاط الموقف بين أهل الإيمان والنفاق، إلّا إذا كان مقصود صاحب المجمع من أهل الكفر، أهل النفاق الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان مما يسمح لهم بالامتداد في حياة المسلمين والبعث بهم من خلال الشخصية الخفية التي يختفون وراءها، ولكنه هو ذكر ـ بعد اختياره ذلك ـ احتمال أن يكون الخطاب للمؤمنين وتقديره ـ كما يقول ـ (ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق)، وعلى هذا فيكون قد رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22]
8. ﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ﴾ أي الشخص الذي يعيش الرداءة الداخلية في عناصر الشخصية الفكرية والروحية والعملية، والعمل الرديء الذي يحمل في داخله السوء والشرّ لمن حوله وما حوله، فيعرف ـ بالتجربة القوية الصعبة ـ كل حركة الخفايا السلبية في الداخل، ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ مقارنا بالشخص الذي يعيش الطيبة النفسية والطهارة الفكرية والانتماء الروحي والاستقامة الأخلاقية أو هو العمل الذي يحمل تلك المعاني كلها في ملامحه الداخلية والخارجية، وذلك من خلال المسؤوليات المتنوعة المتصلة بحركة الإنسان في ساحة الصراع بين الكفر والإيمان وميدان التجاذب بين الخير والشرّ، وتعقيدات الأوضاع بين الحق والباطل وذلك بما يكلفهم الله من ذلك في المواقف الحاسمة التي لا مجال فيها للتردد، ولا فرصة فيها للهروب والتمييع بالأساليب الملتوية، فمن كان ثابت الإيمان ثبت في المعركة من خلال إرادته، فلا ينهزم أو يتراجع إلا من خلال نقاط الضعف الطارئة، أو الضغوط القاسية التي يصعب الابتعاد عنها، ومن كان منافقا في دائرة الاهتزاز في الموقع والموقف والانتماء والالتزام لفقدان القاعدة الفكرية الإيمانية التي تفرض عليه الوضوح والثبات، ابتعد عن المعركة وانهزم عن ساحتها، وانفتح ـ من خلال نفاقه ـ على معسكر الأعداء للكيد للإسلام والمسلمين بالتنسيق معهم لينفس عن حقده ويعبّر ـ عمليا ـ عن عقدته الخبيثة المتأصلة في شخصيته.
9. في ضوء ذلك، نعرف أن الخبث والطيبة ليسا شيئين كامنين في الذات في أصل الخلق، بل هما عنصران طارئان من خلال العوامل المتنوعة التي تتحرك في إرادتهم لتضغط على القرار الذي يتحرك في مواقفهم لمصلحة الكفر والباطل والشرّ.
10. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ الذي يختص به فلا يعلم الغيب من موقع الذات إلّا هو، فإن الله لا يريد للمؤمنين أن يرتبطوا بالجانب السهل من وعي الواقع، لتكون مسألة المعرفة لديهم منطلقة من الغيب الذي يريدون من الله أن يطلعهم عليه من دون أن يبذلوا أيّ جهد شخصي في سبيل الوصول إليه من خلال الوسائل التي أودعها الله فيهم في طاقة العقل، وفي قوّة الحبّ، وفي حركة الإرادة، وفي المعطيات الكثيرة المتناثرة على صعيد الواقع مما يتيح لهم أكثر من فرصة للوصول إلى النتائج المعرفية على مستوى الناس أو الواقع، الأمر الذي يعمّق الفكرة في الوجدان بأكثر مما يحصلون عليه من خلال المعرفة الآتية من الخارج، ولو كان ذلك من الغيب، لأن الإنسان الذي ينتج الفكرة ـ من خلال تجربته التأملية والعملية ـ يختلف في وعيه الفكري عن الإنسان الذي يستهلكها في وجدانه.
11. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيختار من يشاء منهم فيطلعه على الغيب من خلال الوحي النازل عليهم مما يتصل بحاجات الرسالة ومنطلقات الرسول، لأنّهم لا يملكون علم الغيب من الناحية الذاتية، بل ربما نفهم من الآيات القرآنية أن الله لم يمنحهم هذه المعرفة بشكل مطلق، بحيث تكون طبيعة ثانية فيهم بالإلهام الإلهي الذي يتحول فيهم إلى قوّة المعرفة الغيبية تبعا للإرادة أو لحاجات الذات، بل إن الله يطلعهم على بعض مفردات الغيب، ويعلّمهم إيّاه من خلال حكمته التي تتحرك ـ من خلالها ـ مشيئته من خلال ما يعطي ويمنع، حتى أن الآية التي استدلّ بها على علم الأنبياء بالغيب لا تدل على أكثر من ذلك بمعنى المعرفة التدريجية التابعة للحاجات الرسالية، وذلك قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26 ـ 27]؛ فإن ظاهره أن المسألة مسألة إظهار على الغيب وليست مسألة إعطاء القدرة على معرفة الغيب.
12. ربما نلاحظ أنّ الفقرة المذكورة لا تتحدث عن اطلاع الرسل على الغيب، بل تتحدث عن اجتباء الله من رسله من يشاء، فهو العالم ـ وحده ـ بالغيب فلا يعلم الغيب إلّا هو ويمكن استفادة ذلك من كونه استثناء ـ ولو كان منقطعا ـ من جملة: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ لأن المناسبة الوحيدة التي تفرضها هي هذه المسألة، فإن الله لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب إذ لا مصلحة لهم في ذلك، ولا دور لهم يتطلب مثل هذا العلم بالغيب، أمّا الرسل الذين يصطفيهم الله، فيوحي إليهم ويخبرهم بأنّ في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله له لا من جهة اطلاعه على المغيبات، لأن دوره في حركة الرسالة يقتضي ذلك لعلاقته بالمسألة في إبلاغ الرسالة، وفي تحديد بعض المواقف التي تفرضها المسألة المصيرية في موقعه وموقفه، مما يتوقف عليه معرفة بعض الأمور وبعض الأسرار بما لا يتيسر له الاطلاع عليه من ناحية ذاتية.
13. إن علم الغيب يتحرك في شخصية الرسول من خلال الدور الذي أوكله الله إليه، فيمنحه الله منه بالمقدار الذي تفرضه حاجة الرسالة إليه، وليس امتيازا ذاتيا له من موقع التشريف في الذات، لأن اصطفاء الله له وخلافته عنه هو الذروة في التشريف بحسب طبيعته، بقطع النظر عن الجزئيات المتصلة به، وهذا ما يستفاد من مجموع الآيات المتصلة بذلك؛ فليست المسألة في موقع الإيجاب الكلي لتكون الذات ذاتا تختزن الغيب في وجدانها الذاتي، وليست في موقع السلب الكلي، فهناك الدور الغيبي في مواقع الرسالة وحاجاتها؛ والله العالم.
14. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ فهذا هو الذي يحقق لكم عنصر الطيبة الروحية والشعورية والعملية، لتكونوا من الطيبين الذين يتميزون بالإيمان الشامل في مواجهة الخبيثين الذين يبتعدون عن أصالة الإنسان في معنى الإيمان في الشخصية، فهو الذي يحقق التوازن في الفكر والعقيدة، فيقدرون الله حق قدره، كما يضعون الأنبياء في منازلهم التي أنزلهم الله فيها، فهم ـ أي الأنبياء ـ لا يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يتحدثون عن الغيب إلّا بما أخبرهم الله، لأنهم ليسوا من علم الغيب في شيء من ناحية ذاتية، وهم الأمناء على إبلاغ الرسالة بكل أمانة وصدق وثبات وإخلاص.
15. ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فلا بد من أن تجتمع لكم هاتان الصفتان الإيمان والتقوى، لأن الإيمان وحده ليس كافيا في استحقاق الثواب، فلا بد من الانسجام مع الإيمان في خط التقوى الذي يمثل الانضباط في مواقع طاعة الله في أوامره ونواهيه، لأن قضية الرسالات هي قضية حركية التغيير الإنساني على مستوى الالتزام الفكري والعملي بالله ورسله ورسالاته، فلا يكفي الإيمان وحده، من حيث هو معادلة فكرية وحالة شعورية، بل لا بد من أن يتحول إلى موقف في الواقع العملي، والتزام في الجانب الحركي.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/403.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لم تكن قضية (المنافقين) مطروحة بقوّة قبل حادثة معركة (أحد) ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدوا لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها (أحد) وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدوا آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو (المنافقون)، وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة (أحد) ونتائجها الإيجابية.
2. الآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث ـ هنا ـ عن معركة (أحد) وأحداثها، تبيّن وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فلا بدّ أن تتميز الصفوف، وتتمّ عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس، وهذا قانون عام وسنة إلهية خالدة وشاملة، فليس كلّ من يدعي الإيمان، ويجد مكانا في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره، وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.
3. هنا يمكن أن يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحا بين المسلمين آنذاك أيضا حسب بعض الأحاديث والرّوايات) وهو: إذا كان الله عالما بسريرة كل إنسان وأسراره فلما ذا لا يخبر بها الناس ـ عن طريق العلم بالغيبـ ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟ إنّ المقطع الثّاني من الآية وهو قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ يجيب على هذا السؤال، أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار، لأن الوقوف على الأسرار ـ على عكس ما يظن كثيرون لا يحلّ مشكلة، ولا يفكّ عقدة، بل سيؤدي إلى الهرج والمرج والفوضى، وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية وانهيارها، وانطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده، وتوقف الناس عن الحركة والنشاط والفعالية.
4. الأهم من كلّ ذلك هو أنّه لا بدّ أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، وليس عن أي طريق آخر، ومسألة الاختبار الإلهي لا تعني سوى هذا الأمر، ولهذا فإن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم هو أعمالهم فقط.
5. ثمّ إنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي أنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إلى ذلك، وتبقى الأعمال ـ مع ذلك كلّه ـ هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم، ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأنبياء ـ بحسب ذواتهم ـ لا يعرفون شيئا من الغيب، كما ويستفاد منها أنّ ما يعلمونه منه إنما هو بتعليم الله لهم واطلاعهم على شيء من الغيوب، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب، كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإلهية.
6. من الواضح والمعلوم أنّ المراد من المشيئة الإلهية في هذه الآية ـ كغيرها من الآيات ـ هو (الإرادة المقرونة بالحكمة) أي أنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كلّ من يراه صالحا لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.
7. ثمّ أنّه تعالى يذكرهم ـ في ختام الآية ـ بأن عليهم ـ وهو الآن في بوتقة الحياة، بوتقة الامتحان الكبير، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح، والطيب والخبيث، والمؤمن والمنافق ـ عليهم أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم، إذ يقول: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
8. ثمّ أن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن المؤمن بالطيب، ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه الشّوائب، ولم يدخل في حقيقة الغرائب، ولم تلوثه الكدورات، فالماء الطاهر الطيب، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات، ويستفاد من هذا أن الإيمان هو فطرة الإنسان الأصلية، وهو جبلته الأولى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/19.
97. البخل وعواقبه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈97⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [آل عمران: 180]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، يفر منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك، حتى يطوق به في عنقه)، ثم قرأ علينا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مصداقه من كتاب الله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، من كان له مال لم يؤد زكاته، طوقه يوم القيامة شجاعا أقرع بفيه زبيبتان، ينقر رأسه حتى يخلص إلى دماغه، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا مالك الذي بخلت بي(2).
__________
(1) ابن ماجه: ٣/٦.
(2) ابن جرير: ٦/٢٧٢.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) بن الأجدع الهمداني في الآية: هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته الحق الذي جعله الله لهم في ماله، فيجعل حية فيطوقها، فيقول للحية: ما لي ولك؟ فتقول: أنا مالك(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٥٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سيحملون يوم القيامة ما بخلوا به، ألم تسمع أنه قال: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧] يعني: أهل الكتاب، يقول: يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني بذلك: أهل الكتاب، أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس، ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ألم تسمع أنه قال: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧] يعني: أهل الكتاب، يقول: يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٢٧.
(2) ابن جرير: ٦/٢٧٥.
(3) ابن جرير: ٦/٢٧٠.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ طوقا من نار(1).
__________
(1) الثوري: ص٨٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال هم يهود(2).
__________
(1) عبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره: ص٦٣.
(2) ابن جرير: ٦/٢٧٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال، وقد ذكر الزكاة: الذي يمنع الزكاة يحول الله ماله يوم القيامة شجاعا من نار، له زنمتان، فيطوقه إياه، ثم يقال له: الزمه كما لزمك في الدنيا، وهو قول الله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾) الآية(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/208.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدوا زكاتها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوقه، فيأخذ بعنقه، فيتبعه حتى يقذفه في النار(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٦٩.
(2) ابن جرير: ٦/٢٧٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال عن قول الله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلا جعل الله عز وجل ذلك يوم القيامة ثعبانا من النار مطوقا في عنقه، ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، وهو قول الله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ يعني ما بخلوا به من الزكاة(1).
__________
(1) الكافي: 3/502.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني: بما أعطاهم الله من فضله، يعني: من الرزق، وبخلوا بالزكاة؛ أن ذلك: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ﴾ البخل: ﴿هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وذلك أن كنز أحدهم يتحول شجاعا أقرع ذكر، ولفيه زبيبتان كأنهما جبلان، فيطوق به في عنقه فينهشه، فيتقيه بذراعيه فيلتقمهما، حتى يقضى بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار ويغل، وذلك قوله سبحانه: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إن بخلوا بالزكاة فالله يرثهم ويرث أهل السماوات وأهل الأرضين، فيهلكون ويبقى، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ يعني: في ترك الصدقة، يعني: اليهود(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣١٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/٣١٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:
أ. قيل: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ أوتوا العلم بالكتاب أن ما يؤتون من المال، وينالون من النيل بكتمان بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته وتحريفهما ـ أن ذلك خير لهم، ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة، ولو لم يكتموا كان خيرا لهم في الدنيا ذكرا وشرفا، وفي الآخرة ثوابا وجزاء.
ب. وقيل: نزلت في مانعي الزكاة؛ بخلا منهم وشحا؛ فذلك وعيد لهم.
2. الأوّل أشبه، والله أعلم، وإن كان في الزكاة ـ قيل: الجحود بها؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 7]
3. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. إن كان على التأويل الأول من كتمان نعته وصفته؛ فهو يطوق ذلك في عنقه يوم القيامة؛ ليعرفه كل أحد؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]
ب. وإن كان على التأويل الثاني: قيل: إن الزكاة التي منعها تصير حية ذكرا شجاعا أقرع ذو ذنبتين، يعنى: نابين؛ فيطوق بها في عنقه، فتنهشه بنابيها؛ فيتقيها بذراعيه، حتى يقضي بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار.
4. في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ دلالة أن أهل السماوات يموتون، ليس على ما يقوله القرامطة: إنهم لا يموتون؛ لأنه أخبر أن له ميراث السماوات والأرض، والوارث هو الذي يخلف المورّث؛ دلّ أنه ما ذكرنا، وإن كانوا هم وجميع ما في أيديهم لله عزّ وجل ملكا له وعبيدا؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: (لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، إلّا المولى من عبده) سمى ما يكون للمولى من عبده ميراثا، وإن كان العبد وما في يده ملكا للمولى، فعلى ذلك:
أ. الأوّل: سمى الله عزّ وجل ذلك ميراثا له، وإن كان عبيده وما في أيديهم ملكا له، وليس ذلك في الحقيقة ميراثا، إذ كان له في حال حياته؛ ولكن كان ولاية الانتفاع به فزال؛ وعلى مثل هذا وراثة المسلمين الجنة، لا على انتقال من غيرهم إليهم، ولكن على بقائهم فيها، وحصول أمرها لهم، أو على وراثة ما لو كان من لم يؤمن آمن، وما ادعوا أنها لهم بقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، فصارت ميراثا لغيرهم ما ادعوا أنها لهم
ب. الثاني: أن يعلم كل بالموت حقيقتها أنها له فأضيفت إليه بالميراث عنهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا﴾ [إبراهيم: 21]، ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [المائدة: 18]، والمرجع ونحو ذلك من غير غيبة عنه، ولكن ما يعلم كل إذ ذاك ذلك؛ وكذلك قوله عزّ وجل: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19]، وهو في الحقيقة كل يوم له، ولا قوة إلا بالله.
5. في الذكر والإخبار أنها له ميراث ـ تحريض على الإنفاق والتزود؛ إذ هي في الحقيقة لغير أهلها؛ وإنما لهم ما ينفقون ويتزودون دون ما يمسكون، وفيه منع الإمساك؛ وذلك كقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية [الحديد: 10]
6. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ وعيد منه عزّ وجل إياهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/543.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: أي سيطوقون في رقابهم المآثم ويتقلدونها يوم القيامة، وهو مثل مضروب بالطوق الذي يلزم الرقبة والحلق لزوماً وثيقاً.. ويمكن: أن يطوقهم الذهب والفضة التي كانوا يتحلون بها عن الإنفاق في سبيل الله، فتكون في رقابهم يعذبون بها في ذلك اليوم.
2. روي أن من غل الزكاة وبخل بها صورها سبحانه شجاعاً أقرع من هذه الحيات ـ التي يسميها أهل اليمن الحنشان ـ فروي أن ذلك الحنش يكون في رقبة من غل الزكاة، وهو يصيح أنا الزكاة، فإن يكن أراد المآثم فكفى به عذاباً، وإن يكن أراد تطويقهم في رقابهم الذهب والفضة ويعذبهم في النار بها، فذلك البلاء الجسيم.. وإن يصح ما روي في هذا الحنش الذي يصيح أنا الزكاة، فهو الهول العظيم، فنعوذ بالله من البخل وأهله، فما أحقهم من الله بعذابه ونكاله.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 267.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ هم مانعو الزكاة ويجوز أن يكون أهل الكتاب من اليهود والنصارى بخلوا أن بينوا للناس ما في كتبهم من صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته فقيل إنهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل أي يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان.
2. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي يطوقون بالنار.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/159.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم مانعو الزكاة، وهو قول السدي.
ب. الثاني: أنهم أهل الكتاب وبخلوا أن يبيّنوا للناس ما في كتبهم من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول ابن عباس، قال ألم تسمع أنه قال: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾، أي يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان.
2. في قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الذي يطوّقونه شجاع أقرع، وهذا قول ابن مسعود.
ب. الثاني: أنه طوق من النار، وهذا قول إبراهيم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/441.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة (ولا تحسبن) بالتاء المعجمة من فوق الباقون بالياء، وهو الأقوى، لأن عليه أكثر القراء، فمن قرأ بالتاء فالتقدير على قراءته ولا تحسبن بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم، وجاز حذف البخل مع الفصل لدلالة يبخلون عليه، كما يقال من كذب كان شراً له، والمعنى كان الكذب شراً له، قال الشاعر:
çإذا نُهي السفيه جرى إليه...وخالف والسفيه إلى خلافé
ومعناه خالف إلى السفه، قال الزجاج: إنما تكون هو، وهما، وهم، وأنا وأنت، ونحن فصولا مع الافعال التي تحتاج إلى اسم وخبر، ولم يذكر سيبويه الفصل مع الابتداء، والخبر، قال ولو تأول متأول قوله الفصل ها هنا أنه يدل على أنه جائز في المبتدأ والخبر كان جائزاً، قال: والقراءة بالياء عندي هو الأجود ويكون الاسم محذوفاً، قال والقراءة بالتاء لا تمتنع مثل قوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ وتقديره ولا تحسبن بخل الباخلين خيراً.
2. اختلفوا في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها:
أ. قال السدي: إن المعنى بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله كما بخلوا بمنع الزكاة.. وهو أظهر لأن أكثر المفسرين على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقيل إنها نزلت في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس ـ على قول ابن عباس ـ
3. ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ فلفظة (هو) فصل، بين الاسم، والخبر على تقدير ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل هو خيراً لهم فيمن قرأ بالياء.
4. في قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: رواه ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه شجاع أقرع يطوقونه، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقال ابراهيم النخعي: انهم يطوقون طوقاً من نار، وقال أبو علي: هو كقوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ وقال البلخي معناه سيجاوزن كأنهم طوقوا.
5. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ معناه أنه يبطل ملك كل شيء إلا ملك الله، فيصير كالميراث لصحة الملك الثاني بعد زوال الأول وإن لم يكن في صفات الله على جهة الانتقال، لأنه لم يزل مالكاً عز وجل والبخل هو منع الواجب لأنه تعالى ذم به وتوعد عليه وأصله في اللغة مشقة العطاء، وإنما يمنع الواجب لمشقة الإعطاء.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/64.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطوق معروف وكل ما يستدير شيئا فهو طوقه، وطوقتك الشيء كَلَّفْتُكَهُ.
ب. البخل في اللغة منع العطاء ومشقته عليه، وفي الشرع منع الواجب؛ لأنه تعالى ذم عليه، والذم لا يستحق إلا بترك واجب، إلا أنه إنما يمنع من الواجب لمشقة الإعطاء ففيه معنى اللغة، يقال: بَخِل يَبْخَلُ بُخْلاً بضم الباء وسكون الخاء وبفتحها.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: اتصال ذكر أحوالهم فإنهم كما بخلوا في الجهاد بخلوا في الإنفاق والزكاة عن علي ابن عيسى.
ب. وقيل: بين أنه مع ما تقدم من أحوالهم كتموا أمر محمد وبخلوا ببيانه عن ابن عباس والأصم.
ج. وقيل: مع ما تقدم من خصالهم بخلوا بالزكاة والإنفاق عن السدي.
3. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في مانعي الزكاة عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: في أهل الكتاب الَّذِينَ كتموا صفة محمد عن الأصم.
4. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ أي لا تظنن أيها السامع أو أيها الإنسان أو لا تظنن يا محمد والمراد غيره، وبالياء لا يحسبن الباخلون ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:
أ. أي أعطاهم من الأموال فيبخلون بإخراج الحقوق.
ب. وقيل: هو في الزكاة.
ج. وقيل: في سائر الواجبات.
د. وقيل: هو البخل ببيان صفة محمد عن الأصم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾:
أ. قيل: يعني البخل خيرًا لهم.
ب. وقيل: بخلهم خير من الإنفاق في سبيل الله.
6. ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ ابتداء كلام أي ليس كما يظنون بل ذلك البخل شر لهم ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ يعني ما بخلوا به من المال يجعل طوقًا لهم، واختلفوا في معناه:
أ. قيل: يجعل ذلك المال الذي منع زكاته وبخل به شجاعًا أقرع ويطوق به فينهش عنقه ومن قَرْنِهِ إلى قدمه ويقول: أنا مالُك، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار عن ابن عباس وابن مسعود وأبي وائل والشعبي والسدي، وروي ذلك مرفوعًا.
ب. وقيل: طوق من نار عن إبراهيم.
ج. وقيل: يتكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم عن مجاهد.
د. وقيل: هو قوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ يعني أنه يجعل طوقًا فيعذب بها عن أبي علي.
هـ. وقيل: معناه: إن وباله يعود عليهم فيصير طوقًا لأعناقهم عن أبي مسلم، كقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ والعرب تعبر بالرقبة والعنق عن جميع البدن، كقوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
وقيل: سيطوقون إثمه ووباله.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾:
أ. قيل: ترغيب في الإنفاق وبيان أن أملاكهم تزول، وأنه يبطل جميع الأملاك ويبقى ملكه، فكأنه عاد ميراثًا إليه.
ب. وقيل: هو بيان أنه دائم لا يزول باق لا يفنى، ترغيب في طاعته والانقطاع إليه.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عالم بأعمالكم فيجازي كل أحد بعمله، وفيه ترغيب وترهيب.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن البخل صفة ذم، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يكون إلا في منع واجبا، ويؤيده أن فعله شر له، وذلك لا يكون إلا في ترك الواجب، فيدل أن الآية وردت في مانعي الزكاة وسائر الواجبات دون النوافل، سؤال وإشكال: الغني إذا أدى الزكاة ومنع فضل ماله وجب ألا يعد بخيلاً؟ والجواب: كذلك نقول، ولذلك قلنا: لو كان مَنْ يمنع الفضل بخيلاً لكان الله تعالى مع قدرته على الزيادة في الإحسان بخيلاً، وذلك محال، وهذا يلزم أصحاب الأصلح.
ب. يدل قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ على زيادة الوعيد، وما روي أن الشجاع يتكلم، فإما أن يخلق الله تعالى الكلام في لسانه أو يعطيه آلة الكلام وهو الأولى.
10. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة وحده ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء وفتح السين والباقون بالياء وهو الاختيار؛ لأن أكثر الأئمة عليه، وهو أظهر في توجيه الآية عن علي بن عيسى.
ب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ بالياء على المغايبة كناية عن ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بالياء، والباقون بالتاء علي الخطاب.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿هُوَ﴾ في قوله: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ وصل بين الاسم والخبر ويسميه بعض النحويين العماد، وقيل: إنه على التكرير، تقديره: ولا تحسبن الَّذِينَ يبخلون لا تحسبن ذلك خيرًا لهم، هذا على قراءة التاء، وعلى الياء لا يحسبن البخل هو خيرا لهم)، والاسم مضمر، والخبر قوله: ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾، والخير هو المفعول الثاني، يعني لا تحسب البخل خيرًا لهم، وإنما جاز حذف البخل للدلالة عليه كما يقال: من كذب كان شرًا له، تقديره: كان الكذب شرًا له، فيحذف الكذب.
ب. ﴿هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ رفع على الابتداء، والخبر تقديره: البخل شر لهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/476.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البخل هو منع الواجب، لأنه توعد عليه، وذم به، وأصله في اللغة المشقة في الإعطاء.
2. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ الباخلون ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:
أ. أي: أعطاهم الله من الأموال، فيبخلون باخراج الحقوق الواجبة فيها ذلك البخل.. وهو أليق بسياق الآية.
ب. ويروى عن ابن عباس أيضا: أن المراد بالآية الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والفضل هو التوراة التي فيها صفته.
3. ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ وعلى القراءة الأخرى: لا تحسبن أيها السامع، أو لا تظنن يا محمد، فالخطاب له، والمراد غيره، بخل الذين يبخلون خيرا لهم، بل هو شر لهم أي: ليس كذلك كما يظنون بل ذلك البخل شر لهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾:
أ. قيل: يجعل ما بخل به من المال طوقا في عنقه، والآية نزلت في مانعي الزكاة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهو قول ابن مسعود وابن عباس والسدي والشعبي وغيرهم، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ما من رجل لا يؤدى الزكاة إلا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية، وقال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، يسأله من فضل أعطاه الله إياه، فيبخل به عنه، إلا أخرج الله له من جهنم شجاعا يتلمظ بلسانه حتى يطوقه، وتلا هذه الآية.
ب. وقيل: معناه يجعل في عنقه يوم القيامة طوقا من نار، عن النخعي.
ج. وقيل: معناه يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم، عن مجاهد.
د. وقيل: هو كقوله ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ فمعناه: إنه يجعل طوقا فيعذب بها، عن الجبائي.
هـ. وقيل: معناه إنه يعود عليهم وباله، فيصير طوقا لأعناقهم، كقوله ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ عن ابن مسلم، قال: والعرب تعبر بالرقبة والعنق عن جميع البدن، ألا ترى إلى قوله ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
5. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ معناه: يموت من في السماوات والأرض، ويبقى تعالى هو، جل جلاله، لم يزل ولا يزال، فيبطل ملك كل مالك إلا ملكه.
6. تضمنت الآية الحث على الانفاق، والمنع عن الإمساك من قبل أن الأموال إذا كانت بمعرض الزوال إما بالموت أو بغيره من الآفات، فأجدر بالعاقل أن لا يبخل بإنفاقه، ولا يحرص على إمساكه، فيكون عليه وزره، ولغيره نفعه.
7. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ هذا تأكيد للوعد والوعيد في إنفاق المال، لإحراز الثواب والأجر، والسلامة من الإثم والوزر.
8. اختلف في وجه اتصال الآية بما قبلها:
أ. قيل: أنهم كما بخلوا بالجهاد بخلوا بالإنفاق والزكاة، عن علي بن عيسى.
ب. وقيل: إنهم مع ما تقدم من أحوالهم كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبخلوا ببيانه.
9. قراءات ووجوه:
أ. ذكرنا اختلاف القراءة فيه: فمن قرأ ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء فالذين يبخلون فاعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ والمفعول الأول محذوف من اللفظ لدلالة اللفظ عليه، وهو مثل قولك: من كذب كان شرا له أي: كان الكذب شرا له، وكذلك في الآية ﴿لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله﴾ البخل ﴿هو خير لهم﴾، فدخلت ﴿هُوَ﴾ فصلا لأن تقدم يبخلون بمنزلة تقدم البخل، ومن قرأ بالتاء فالفاعل المخاطب وهو النبي، ﴿والذين يبخلون﴾: مفعول أول لتحسبن، و﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾: المفعول الثاني، وفي الكلام حذف تقديره: ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم، وهو فصل، وإنما احتجت إلى هذا المحذوف ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، لأن هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر، وإذا كان الخبر مفردا، فيجب أن يكون هو المبتدأ في المعنى.
ب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بالياء كناية عن الذين يبخلون، والباقون بالتاء على الخطاب.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/897.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدّوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح، والشّعبيّ، ومجاهد، وفي رواية السّدّيّ في آخرين.
ب. الثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونبوّته، رواه عطيّة عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، واختاره الزجّاج.
2. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ قال الفرّاء: ومعنى الكلام: لا يحسبنّ الباخلون البخل هو خيرا لهم، فاكتفى بذكر (يبخلون) من البخل، كما تقول: قدم فلان، فسررت به، أي: سررت بقدومه، قال الشاعر:
çإذا نهي السّفيه جرى إليه...وخالف والسّفيه إلى خلافé
يريد جرى إلى السفه.
3. الذي آتاهم الله:
أ. على قول من قال البخل بالزّكاة: هو المال.
ب. وعلى قول من قال البخل بذكر صفة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو العلم.
4. ﴿هُوَ﴾ إشارة إلى البخل وليس مذكورا، ولكنه مدلول عليه بـ (يبخلون)
5. في معنى تطويقهم به أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه يجعل كالحيّة يطوّق بها الإنسان، روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاع أقرع يفرّ منه، وهو يتبعه حتى يطوّق في عنقه) ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه يجعل طوقا من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم.
ج. الثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
د. الرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة.
6. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يموت أهل السّماوات وأهل الأرض، ويبقى ربّ العالمين، قال الزجّاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنّهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له، وقال ابن الأنباريّ: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلمّا مات الخلق، وانفرد عزّ وجلّ صار ذلك له وراثة.
7. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (يعملون) بالياء اتباعا لقوله تعالى ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ وقرأ الباقون بالتاء، لأنّ قبله ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/353.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بالغ الله تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله.
2. قرأ حمزة ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج: معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان:
أ. الأول: أن يكون فاعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ ضمير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو ضمير أحد، والتقدير: ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم.
ب. الثاني: أن يكون فاعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ هم الذين يبخلون، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا، وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم، وإنما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، كقوله: من كذب كان شرًّا له، أي الكذب، ومثله: (إذا نهى السفيه جرى إليه)، أي السفه وأنشد الفراء:
çهم الملوك وأبناء الملوك هم...والآخذون به والسادة الأولé
فقوله به: يريد بالملك، ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك.
3. (هو) في قوله: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ تسميه البصريون فصلا، والكوفيون عماداً، وذلك لأنه لما ذكر (يبخلون) فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل، فكأنه قيل: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة، وللخبر حقيقة، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر، فإذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة (هو)
4. الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا، وأن يكون علما:
أ. فالقول الأول: ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال، والمعنى: لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم، بل هو شر لهم، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم، وهو المراد من قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.. وهذا القول أولى، ويدل عليه وجهان:
• الأول: أنه تعالى قال: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى.
• الثاني: أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم، إلا على سبيل التكلف، فكان الأول أولى.
ب. والقول الثاني: أن المراد من هذا البخل: البخل بالعلم، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته، فكان ذلك الكتمان بخلا، يقال فلان يبخل بعلمه، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113] ثم إنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والإنجيل، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ذلك بخلا.
5. أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب، وان منع التطوع لا يكون بخلا، واحتجوا عليه بوجوه:
أ. أحدها: ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا الواجب.
ب. ثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به.
ج. ثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا.
د. رابعها: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأي داء أدوأ من البخل)، ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف.
هـ. خامسها: أنه لو كان تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكل.
و. سادسها: أنه تعالى قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3] وكلمة (من) للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5] فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك.
6. ثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب، إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة، منها إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم، فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم.
7. في تفسير الوعيد في قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وجوه:
أ. الأول: أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم، قيل: انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى جهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم، ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة: 35] وعن ابن عباس: تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول: أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي.
ب. الثاني: في تفسير قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ قال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين يطوقونه فدية [البقرة: 184] قال المفسرون: يكلفونه ولا يطيقونه، فكذا قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الإتيان به، فيكون ذلك توبيخا على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا.
ج. الثالث: أن قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ أي سيلزمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا، يقال منه: فلان كالطوق في رقبة فلان، والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق، ومنه يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]
د. الرابع: إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة)، والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق.
8. تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم غير بعيد، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به، قال تعالى في صفتهم: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 53] وقال أيضا فيهم: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: 37] وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181] وذلك من أقوال اليهود، ولا يبعد أيضا أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم، وفي البخل بالمال، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا.
9. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة، أما قوله: ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار، وأما قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فهو صريح بالوعيد.
10. في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وجهان:
أ. الأول: وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]
ب. الثاني: وهو قول الأكثرين: المراد أنه يفنى أهل السماوات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا الله، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى، فيصير كالميراث، قال ابن الأنباري: يقال: ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه، وقال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16] وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داوود مشاركا له فيه وغالبا عليه.
11. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بما يعملون بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون، والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه، والباقون قرؤوا بالتاء على الخطاب، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179] والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه، والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف: الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/443.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع رفع، والمفعول الأول محذوف، قال الخليل وسيبويه والفراء: المعنى البخل خيرا لهم، أي لا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل، وهو كقوله: من صدق كان خيرا له، أي كان الصدق خيرا له، ومن هذا قول الشاعر:
çإذا نهي السفيه جرى إليه...وخالف والسفيه إلى خلافé
فالمعنى: جرى: إلى السفه، فالسفيه دل على السفه، وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدا، قاله النحاس، وجوازها أن يكون التقدير: لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، قال الزجاج: وهي مثل ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾
2. ﴿هُوَ﴾ في قوله تعالى: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ فاصلة عند البصريين، وهي العماد عند الكوفيين، قال النحاس: ويجوز في العربية (هو خير لهم) ابتداء وخبر.
3. ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ ابتداء وخبر، أي البخل شر لهم، والسين في ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ سين الوعيد، أي سوف يطوقون، قاله المبرد، هذه الآية نزلت في:
أ. البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة، وهذه كقوله: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [التوبة] الآية، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسدي والشعبي قالوا: ومعنى ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ هو الذي ورد في الحديث:
• عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ـ ثم تلا هذه الآية ـ ولا يحسبن الذين يبخلون) الآية، أخرجه النسائي، وخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع حتى يطوق به في عنقه) ثم قرأ علينا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مصداقه من كتاب الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية.
• وجاء عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه)
ب. وقال ابن عباس أيضا: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل العلم، ومعنى ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة] وليس من التطويق، وقال إبراهيم النخعي: معنى ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ سيجعل لهم يوم القيامة طوق من النار، وهذا يجري مع التأويل الأول أي قول السدي، وقيل: يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة، أي ألزم عمله، وقد قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الاسراء]، ومن هذا المعنى قول عبد الله ابن جحش لأبي سفيان:
çأبلغ أبا سفيان عن أمر... عواقبه ندامه
دار ابن عمك بعتها...تقتضي بها عنك الغرام
هوحليفكم بالله رب...الناس مجتهد القسامه
اذهب بها اذهب بها...طوقتها طوق الحمامهé
وهذا يجري مع التأويل الثاني.
4. البخل في اللغة أن يمنع الانسال الحق الواجب عليه، فأما من منع مالا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك، وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا، وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون، حكاه النحاس، وبخل يبخل بخلا وبخلا، عن ابن فارس.
5. في ثمرة البخل وفائدته، وهو ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للأنصار: (من سيدكم؟) قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأي داء أدوى من البخل) قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: (إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء، وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء) ذكره الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين.
6. اختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقيل: البخل الامتناع من إخراج ما حصل عندك، والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك، وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)، وهذا يرد قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح منع المستحب، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة، ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدا ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبدا)، وهذا يدل على أن الشح أشد في الذم من البخل، إلا أنه قد جاء ما يدل على مساواتهما وهو قوله ـ وقد سئل، أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: (لا)
7. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أخبر تعالى ببقائه ودوام ملكه، وأنه في الأبد كهو في الأزل غني عن العالمين، فيرث الأرض بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم، فتبقى الأملاك والأموال لا مدعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وليس هذا بميراث في الحقيقة، لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله تعالى مالك السماوات والأرض وما بينهما، وكانت السماوات وما فيها، والأرض وما فيها له، وإن الأموال كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتوا ردت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ [مريم] الآية، والمعنى في الآيتين أن الله تعالى أمر عباده بأن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا لله تعالى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/291.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ الموصول: في محل رفع على أنه فاعل الفعل، على قراءة من قرأ بالياء التحتية، والمفعول الأول محذوف، أي: لا يحسبنّ الباخلون البخل خيرا لهم، قاله الخليل وسيبويه والفراء، قالوا: وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه، ومن ذلك قول الشاعر:
çإذا نهي السّفيه جرى إليه...وخالف والسّفيه إلى خلافé
أي: جرى إلى السفه، فالسفيه دلّ على السفه، وأما على قراءة من قرأ بالفوقية: فالفعل مسند إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمفعول الأول محذوف، أي: لا تحسبنّ يا محمد! بخل الذين يبخلون خيرا لهم، قال الزجاج: هو مثل: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، والضمير المذكور: هو ضمير الفصل، قال المبرد: والسين في قوله:
2. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله: ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ قيل: ومعنى التطويق هنا: أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقا من نار في أعناقهم؛ وقيل: معناه: أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة وليس من التطويق؛ وقيل: المعنى: أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال: طوق فلان عمله طوق الحمامة، أي: ألزم جزاء عمله؛ وقيل: إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعا أقرع، حتى يطوّق به في عنقه، كما ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال القرطبي: والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحقّ الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل.
3. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: له وحده لا لغيره، كما يفيده التقديم، والمعنى: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم وإنما كان عندهم عارية مستردة ومثل هذه الآية: قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ وقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، والميراث في الأصل: هو ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم: أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/464.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ بحقوق ما آتاهم الله من المال إيَّاه، كزكاة، وضيافة وَجَبَتْ، ونفقة عيال، ولو حيوانا، ونفقة أولياء لزمت، ونفقة جهاد تعيَّنت لفقد مال بيت المال وفراغه، ونفقة المضطرِّ، وقد صرَّح العلماء بأنَّه يجب على المؤمنين جمع ما يحتاج إليه بيت المال من أموالهم.
2. (الَّذِينَ) فاعل (يَحْسِب)، والمفعول الأوَّل محذوف، أي: لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله بخلَهم ﴿هُوَ﴾ أي: البخل المفهوم من (يَبْخَلُ)، ضمير فصل لا محلَّ له من الإعراب، وهو بين معرفة تحقيقا ـ وهي بُخلهم المقدَّر ـ ومعرفة حكما وهو اسم التفضيل الذي هو مفعول ثان في قوله: ﴿خَيْرًا لَّهُمْ﴾ إذ كان لا يقبل التأنيثَ والتثنيةَ والجمعَ حالَ تجريده من (ال) والإضافة إلى معرفة، و(لَهُمْ) نعت (خَيْرًا)، أو متعلِّق به، وإن لم نجعل (خَيْرًا) اسم تفضيل بل بمعنى نَفْعٍ لم يكن (هُوَ) ضمير فصل، بل يكون توكيدا للهاء في (فَضْلِهِ)، ويجوز هَذَا ولو جعلنا (خَيْرًا) اسم تفضيل، وقد تحصَّل أنَّ المفعول الأوَّل محذوف ـ أي: بخلهم ـ لجواز حذفه بلا شرط إذا عُلِم، و(خَيْرًا) مفعول ثان.
3. ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ﴾ اسم تفضيل، أو بمعنى ضرٍّ، ومن سوئه: تطويقه المذكور بقوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ وهو كالتعليل لما قبله، ﴿مَا﴾ مفعول ثان، والأوَّل نائب الفاعل وهو الواو، ﴿بَخِلُواْ بِهِ﴾ من المال، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يصيِّرهم الله يوم القيامة متطوِّقين في أعناقهم ما بخلوا به فيكون لهم دائرة في أعناقهم، يلزمهم وبال ما بخلوا به كلزوم الطَّوق في العنق، وهو طوق الحمامة ونحوها مِمَّا في عنقه نقط مستدير، ويكون أيضا على الحقيقة، كما بيَّن بعض الطوق في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من آتاه الله مالا فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، ثمَّ يأخذ بلهزمتيه ـ أي: شدقيه ـ ثمَّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثمَّ تلَا: ﴿وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الآيَة، رواه البخاري عن أبي هريرة، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما من ذي رحم يأتيه ذو رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إيَّاه فيبخل عليه، إِلَّا خرج له يوم القيامة من جهنَّم شجاع يتلمَّظ حتَّى يطوِّقه)، ثمَّ قرأ الآية، وأخرج عبد الرزاق عن النخعي أنَّه يجعل ما بخلوا به طوقا من النار في أعناقهم، والمشهور أنَّ الآية في الزكاة، وقيل: ليس المراد حقيقة التطويق بل إلزام الوبال، وقيل: المراد تكليفهم أن يأتوا يوم القيامة بالمال الذي بخلوا به، وأخرج الطبريُّ وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس أنَّها في أهل الكتاب، كتموا رسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم التي في التوراة، وفَضْلُ اللهِ: التوراة، وتطويقهم إلزام وبال ذلك لهم، أو تطويقهم بطوق من نار جزاء على ذلك، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كتم علما آتاه الله إيَّاه ألجمه الله بلجام من نار)، ويروى: (إلَّا مُثِّل له يوم القيامة شجاعا أقرع يفرُّ منه وهو يتبعه حتَّى يطوِّقه في عنقه)، وفي رواية: (يجعل ما بخل به من الزكاة حيَّة يطوَّقها يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه، وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك)، والزبيبة: نكتة فوق عينه أو جانب فيه، أو زبد شدَّة وغضب في جانب شفتيه، والأقرع: زائل الشعر، وهو هنا من شدَّة السمِّ، وبسطتُ ذلك في تفسير الحديث والفروع، وليس في ذكر ذلك في الحديث ما يحصر الطوق في ذلك، بل الحديث ذكر لبعض ما تضمَّنته الآية من لزوم الوبال على العموم، بحيث يعمُّ التطويقَ المذكورَ في الحديث، والتطويقَ بالنار وغيرَ ذلك، وغيرَ الزكاة أيضًا.
4. ﴿وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ﴾ ذواتهما مع ما فيهما، ويفنى الْمُلَّاك ولا يبقى مالك إِلَّا الله، والميراث: الإرث، أو المراد: ما يتوارث أهلهما من مال وعزٍّ وإمارة وصحَّة، وسائر ما ينتقل، كالأحوال في مراتب الملائكة والإرسالات، ولا مانع من أن يكون لأهل السماوات أحوال كما سقطت منزلة هاروت وماروت فيما قيل، ومَلَك سقط ريشه لعقاب فشفع فيه نبيء، شبَّه بقاء السماوات والأرض وما فيهما لله بعد فناء أهلهما بالإرث إِلَّا أنَّ الله جلَّ وعلا ملكهما قبل فناء أهلهما وبعده، وإذا كان ذلك فكيف تبخلون بما يُنزع عنكم بموت كلِّ واحد لأَجَله، وبموت الخلق كلِّهم، وتبقى عليهم حسرته والعقاب عليه!؟.
5. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من منع مطلقا، أو عن أهله، وإعطاء لغير أهله أو بلا قَصْدِ تقرُّبٍ إلى الله، ﴿خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/70.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بالغ الله تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان (إيتاء الله تعالى إياه من فضله) للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]
2. ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ لاستجلاب العقاب عليهم، والتنصيص على شريته لهم، مع انفهامها من نفي خيريته، للمبالغة في ذلك، والتنوين للتفخيم.
3. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به، وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق، وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره، وأنه نوع من العذاب الأخرويّ المحسوس، وأيدوه بما روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)، ثم تلا هذه الآية ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ إلى آخرها، وروى أحمد والنسائيّ عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثّل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، ثم يلزمه يطوّقه يقول: أنا كنزك، أنا كنزك)، وروى أحمد والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفرّ منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك)، ثم قرأ عبد الله مصداقه في كتاب الله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قال الترمذيّ: حسن صحيح، وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع، له زبيبتان، يتبعه، فيقول: من أنت ويلك؟ فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده)، قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد قويّ، ولم يخرجوه، وقد رواه الطبرانيّ عن جرير بن عبد الله البجليّ، ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده، فيمنعه إياه، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع)، والشجاع (كغراب وكتاب): الحية مطلقا، أو الذكر منها، أو ضرب منها دقيق، وهو أجرؤها ـ كذا في القاموس وشرحه ـ.
4. ثم أشار تعالى إلي أنهم، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله، فهي راجعة إليه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، فالميراث على هذا على حقيقته، أو المعنى: أنه يفني أهل السماوات والأرض ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه، كما يصير مال المورث ملك الوارث، فجرى ما هنا مجرى الوراثة، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهرا، وإلّا فالكل له، وعلى هذا فهو مجاز، قال الزجاج: أي أن الله تعالى يفني أهلهما، فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا بما يعلمون، لأنهم يجعلون، ما يرجع إلى الإنسان ميراثا، ملكا له ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي فيجازيكم على المنع والبخل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/468.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال محمد عبده: هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر.
2. الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
3. لما انتهى ما أراد الله بيانه في هذا السياق ومنه أنه أيد دينه وأعز حزبه حتى أنه جعل خطأهم في الحرب مقيدا لهم عاد إلى بيان حال اليهود وإقامة الحجة عليهم فقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ قال الرازي: (اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله)، وحسبك ما علمت من وجه اتصال الآيات كلها بما قبلها.
4. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته، فالبخل على هذا هو البخل بالعلم وبيان الحق، وروي عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وغيرهم أنها نزلت في مانعي الزكاة وقال محمد عبده: أكثر المفسرين على أن المراد بما آتاهم الله من فضله المال وأن البخل به هو البخل بالصدقة المفروضة فيه، وعدم التصريح بذلك من ضروب إيجاز القرآن، فكثيرا ما يترك التصريح بالقول لأنه مفهوم من السياق والقرائن دالة عليه، واللبس مأمون، فلا يخطر ببال أحد أن الوعيد هو على البخل بجميع ما يملك الإنسان من فضل ربه عليه، فإن الله أباح لنا الطيبات والزينة في نص كتابه والعقل يجزم أيضا بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون وأن يبقوا جائعين عراة بائسين، وذهب آخرون إلى أن ذلك هو العلم وأن الكلام في اليهود الذين أوتوا صفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكتموها، والأولى أن تبقى على عمومها فإن المال من فضل الله، وكذلك العلم والجاه والناس مطالبون بشكر ذلك، والبخل على الناس به كفر لا شكر.
5. قال محمد عبده: والحكمة في ترك النص على أن البخل المذموم هنا هو البخل بما يجب بذله مما يتفضل الله به على المكلف هي أن في العموم من التأثير في النفس ما ليس للتخصيص، وهذه السورة متأخرة في النزول وكانت أكثر الأحكام إذا أنزلت مقررة فإذا طرق سمع المؤمن هذا القول تذكر فضل الله عليه وأن عليه فيه حقا للناس وأن هذا الخطاب يذكر به سواء منه ما هو معلوم معين وما ليس بمعلوم ولا معين بل هو موكول إلى اجتهاده الذي يتبع عاطفة الإيمان، وإنما نفى أولا كونه خيرا ثم أثبت كونه شرا مع أن الثاني هو الظاهر الذي لا يمارى فيه لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له لما في بقاء المال في اليد مثلا من الانتفاع به بالتمتع باللذات ودفع الغوائل والآفات، وتوهم التمكن من قضاء الحاجات.
6. سؤال وإشكال: إن التحديد كان أوضح وأنفى للإيهام، والجواب: إن القرآن كتاب هداية ووعظ يخاطب الأرواح ليجذبها إلى الخير بالعبارة التي هي أحسن تأثيرا لا ككتب الفقه وغيره من كتب الفنون التي تتحرى فيها التعريفات الجامعة المانعة، وكتاب هذا شأنه لا يجري على السنن الذي لا يليق إلا بضعفاء العقول الذين فسدت فطرهم بالتعاليم الفاسدة (يعني تلك التعاليم التي تشغل الأذهان بعبارتها الضيقة وأساليبها المعقدة فلا ينفذ إلى القلب شيء مما يعتصر منها ولذلك قال) وإن مثل هذه العبارة المطلقة التي تخطر في البال بذل كل ما في اليد ـ وتكاد توجبه لولا الدلائل الأخرى ـ تحدث في النفس أريحية للبذل تدفعها إلى بذل الواجب وزيادة عليه.
7. هذه العبارة الأخيرة من محمد عبده مبنية على القول بأن المراد بما يبخل به هو المال، فإذا جرينا على القول الآخر المختار وهو أنه يعم المال والعلم والجاه وكل فضل من الله على العبد يمكنه أن ينفع به الناس، يمكننا أن نجعلها من قبيل المثال ونقول إن التحديد في بيان ما يجب بذله للناس من الجاه والعلم متعذر؛ إذا فرضنا أن ما يجب تحديد بذله في المال متيسر، وبهذا كانت الآية شاملة لما لا يتأتى تفصيله إلا بصحف كثيرة وكان الجواب أظهر، والإيجاز أبلغ في الإعجاز وأكبر.
8. يؤيد العموم في قوله: ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ العموم في الجزاء على ذلك البخل في قوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ولم يقل سيطوقون زكاتهم أو المال الذي منعوه، أما معنى التطويق فقد يكون من الطاقة فيكون بمعنى التكليف أي سيكلفون ذلك في الآخرة فلا يجدون إليه سبيلا كقوله؛ ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: 42] وقد يكون من الطوق أي سيجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم يوبقون بما يلزمهم من الجزاء عليه فلا يجدون عنه مصرفا، وسيأتي نحو ذلك في المأثور، وقال محمد عبده: إن الآية لم تبينه ولا أشارت إلى كيفيته فإن ورد في صحيح الأحاديث ما يبينه اتبع الوارد بقدره لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ووجب الإيمان به عند من صح عنده على أن من خبر الغيب الذي أمرنا بالإيمان به لمحض الاتباع، وذهب بعض المفسرين إلى أن معناه أنهم يحملون تبعة أموالهم، يقال: طوقني الأمر أي ألزمني إياه فحاصل المعنى على هذا: أن العقاب على البخل لزام لا مرد له.
9. فسر بعضهم التطويق بحديث أبي هريرة عند البخاري والنسائي (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع (ثعبان معروف) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (أي شدقيه) يقول أنا مالك أنا كنزك)، ثم تلا هذه الآية، وفي رواية للنسائي (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أو يطوقه يقول أنا كنزك أنا كنزك) وهناك روايات عند ابن جرير وغيره ليس فيها لفظ التمثيل ولا التخييل وما ذكرناه أصح وابن عباس لا يقول بهذا التفسير لأن الآية عنده في البخل بالعلم لأنها نزلت في بخل اليهود بإظهار صفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تقدم، وروى ابن جرير من طريق محمد بن سعد عنه أنه قال قوله ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: (ألم تسمع أنه قال يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يعني أهل الكتاب يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان) وروي عن مجاهد أنه قال في تفسيرها: (سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة)، ولقول مجاهد وجه في اللغة أشد ظهورا على قول ابن عباس في الآية أي يكلفون بيان ما كتموا، ففي لسان العرب) وطوقتك الشيء كلفتكه، وطوقني الله أداء حقك قواني) وذكر ذلك وجها في الآية وفي حديث بمعناها قبل هذه العبارة فقال بعد أن أورد قولهم تطويقه الشيء بمعنى جعله طوقا له) وقيل: هو أن يطوق حملها يوم القيامة فيكون من طوق التكليف لا من طوق التقليد) أقول: وأما تفسيره طوقني الله أداء حقك بقواني فهو من طاقة الحبل وهي إحدى قواه لا من الطوق والمختار ما قلناه أولا.
10. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي إن له وحده سبحانه جميع ما في السماوات والأرض مما يتوارثه الناس، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى جميع الوارثين والموروثين، ويبقى المالك الحقيقي وهو الله رب العالمين، أو معناه أنه هو الذي ينقل كل ما يورث إلى من يشاء من عباده فقد يدخر المرء مالا لولده فيجعله الله بسننه في نظام الاجتماع متاعا لغيرهم كأن يموتوا قبل والدهم أو يضيعوا ما جمعه لهم بالإسراف فيه ويبقون فقراء، كأنه يقول ما بال هؤلاء الباخلين بما أعطاهم الله من فضله وإحسانه لا يفيضون بشيء منه على عياله مغترين بتصرفهم الظاهر فيه، وملكهم الانتفاع به، ذاهلين عن مصدره الذي جاء منه، وعن مرجعه الذي يعود إليه، فإن لاح في خاطر أحد منهم أنه يموت ويفنى لم يخطر له إلا أن له وارثا يرث ما يتمتع هو به كأولاده وذي القربى، فكأنه يبقى في يده فليعلم هؤلاء أن الوارث الذي ينتهي إليه التصرف فيما يتركه الهالكون، هو المالك الحقيقي الذي أعطى أولئك الهالكين ما كانوا يتمتعون وذلك يشمل المال وغيره.
11. قال محمد عبده: العبارة تبين أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة علم فإنه عرض زائل وصاحبه يفنى ويزول ولا معنى لاستبقاء الفاني ما هو فان مثله بل عليه أن يضع كل شيء في موضعه الذي يصلح له، ويبذله في وجوهه اللائقة به أي فهو بذلك يكون خليفة الله في إتمام حكمته في أرضه، ومحسنا للتصرف فيما استخلفه فيه.
12. ﴿والله بما تعلمون خبير﴾ أي لا يخفي عليه شيء من دقائق عملكم ولا مما تنطوي عليه الصدور من الهوى فيه والنية في إتيانه فيجزي كل عامل بما عمل على حسب تأثير عمله في نفسه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/258.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد في سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم، وهنا شرع يحت على بذل المال في الجهاد ـ والمال شقيق الروح ـ فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائل، وأن مدى الحياة قصير، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده، ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
2. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم، لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفران لا ينبغي أن يصدر من عاقل.
3. المراد من البخل بالفضل البخل به في أداء الزكاة المفروضة، وفي الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا، ففي كل هذه الأحوال يجب بذل المال، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس، وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها، ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين، ومن ثم قال في حق المؤمنين المهتدين ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
4. جاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا في بذل المال بدون تحديد ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي في قلبه، وما تحدثه في النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه، إذا هو تذكر أن في ماله حقا للسائل والمحروم.
5. ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ أي هو شر عظيم لهم، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له، لما في بقاء المال في يده من الانتفاع به في التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل والآفات.
6. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا في أعناقهم، ويلزمهم ذنبه وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا، كما يقال: طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه، وخلاصة هذا: إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه، وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾
7. يرى بعضهم أن التطويق حقيقي، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى في أعناقهم، فقد روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك، أنا كنزك)، ثم تلا الآية.
8. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي ولله وحده لا لأحد سواه، ما في السماوات والأرض ما يتوارث من مال وغيره، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون، ويبقى مالك الملك، وهو الله رب العالمين، فمال هؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله، وابتغاء مرضاته.
9. في الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل، وصاحبه فإن غير باق، فلا ينبغي أن يستبقى الفاني ما هو مثله في الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة لله في أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.
10. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوي عليه جوانحكم، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله في تزكية نفسه أو تدسيتها، ونيته في فعله كما جاء في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)
__________
(1) تفسير المراغي: 4/145.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة، عمن تعنيهم، ومن تحذرهم البخل، وعاقبة يوم القيامة.. ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات، في شأن اليهود، فهم ـ قبحهم الله ـ الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وهم الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾، والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والإنفاق في سبيل الله.
2. نزل هذا التحذير التهديدي، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم، ومن كذب تعلاتهم؛ ونزلت معه المواساة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تكذيبهم، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم، ومنهم أنبياء بني إسرائيل، الذين قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والْأَرْضِ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
3. إن مدلول الآية عام، فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم، يحفظ لهم أموالهم، فلا تذهب بالإنفاق.
4. النص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا.. وهو تهديد مفزع.. والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ﴿يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.. فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم، فقد جاؤوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا.. ولا جلودهم..! فآتاهم الله من فضله فأغناهم، حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم، وبخلوا بالقليل، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم، وهو شر فظيع، وهم ـ بعد هذا كله ـ ذاهبون وتاركوه وراءهم، فالله هو الوارث: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.. فهذا الكنز إلى أمد قصير، ثم يعود كله إلى الله، ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته، فيبقى مدخرا لهم عنده، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/535.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الجهاد في سبيل الله امتحان وابتلاء، فيه تضحية وبذل.. تضحية بالنفس، إذا دعت دواعيها، وبذل للمال حين يطلب المال! وقد أعطى المجاهدون الصادقون ما يطلب الجهاد من نفس ومال، على حين ضنّ أناس بأرواحهم، أن يبيعوها لله في سبيل الله، وبخلو بأموالهم أن يقرضوها الله في سبيل الله.. ثم مع هذا منّتهم أنفسهم أن يكونوا في المؤمنين، ثم أطالوا حبل الأماني فظنوا أنهم في عداد المتقين المجاهدين.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
2. في هذه الآية يكشف الله سبحانه عن هذه الأماني الخادعة، التي يعيش فيها أولئك الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، من قوة أو مال، فلا ينفقون منها في وجوه الحقّ الداعية لها.. وإنّهم لهم الخاسرون في هذا الموقف الذي اتخذوه حيال الحقوق الواجبة عليهم، في أموالهم وأنفسهم.. حياة قصيرة فى كلمح البصر، وإذا هم في موقف الحساب والجزاء.. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها، خصمان يقتتلان، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال، ثقل ما جمعوا وكنزوا: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/658.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ عطف على ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما حكى الله عنهم في سورة النساء بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وكانوا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا، وغير ذلك، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان، ولذلك قال معظم المفسّرين: إنّ الآية نزلت في منع الزكاة، أي فيمن منعوا الزكاة، وهل يمنعها يومئذ إلّا منافق، ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أحد، ومعنى حسبانه خيرا أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قبلت منهم، أمّا شمولها لمنع الزكاة، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس، فبدلالة فحوى الخطاب.
2. قرأ الجمهور: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ ـ بياء الغيبة ـ، وقرأه حمزة ـ بتاء الخطاب ـ كما تقدّم في نظيره، وقرأ الجمهور: تحسبنّ ـ بكسر السين ـ، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم ـ بفتح السين ـ.
3. ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ قال الزمخشري (هو) ضمير فصل، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسما وخبرا، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلا مع المبتدأ والخبر، يعني فلا يصحّ أن يكون هنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين: أحدهما أن يكون (هو) ضميرا واقعا موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب، ولعلّ الذي حسنه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من ﴿يَبْخَلُونَ﴾، مثل ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، ومثل قوله:
çإذا نهي السفيه جرى إليه...وخالف والسفيه إلى خلافé
ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصارا لدلالة ضمير الفصل عليه، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حلّ المضاف إليه محلّه، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيرا وعلى قراءة التحتيّة: ولا يحسبنّ الذين يبخلون بخلهم خيرا.
4. البخل ـ بضم الباء وسكون الخاء ـ ويقال: بخل بفتحهما، وفعله في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع، وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلّا بها، وهو ضدّ الجود، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض، هذا حقيقته، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلّا مجازا، وقد ورد في أثر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (البخيل الذي أذكر عنده فلا يصلّي عليّ)، ويقولون: بخلت العين بالدموع، ويرادف البخل الشحّ، كما يرادف الجود السخاء والسماح.
5. ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ تأكيد لنفي كونه خيرا، كقول امرئ القيس: (وتعطو برخص غير ششن) وهذا كثير في كلام العرب، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ.
6. جملة ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ واقعة موقع العلّة لقوله: ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾، ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة، وهي تحمّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به، أي يكون عليهم وزرا يوم القيامة، والأظهر أنّه مشتقّ من الطّوق، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر، أي تجعل أموالهم أطواقا يوم القيامة فيعذّبون بحملها، وهذا كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من اغتصب شبرا من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة)، والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها (أي الفعلة الذميمة) طوق الحمامة، وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر، ويلزمون عقاب ذلك.
7. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم: بأنّ المال مال الله، وما من بخيل إلّا سيذهب ويترك ماله، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله، فهو يرث السماوات والأرض، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك، وهو يملك ما في ضمنهما تبعا لهما، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله: ﴿خَبِيرٌ﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/296.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بهذا العطاء سيستمرءون الشر، ويوغلون فيه إيغالا، ووراء ذلك العذاب الأليم، والخزي في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآيات يصرح سبحانه بما يكون منهم في النعمة التي اختبرهم سبحانه وتعالى بها؛ إذ إنهم لا يجعلونها سبيلا للخير، بل يحبسونها على أنفسهم حبسا، فتكون شرا لا خير فيه لأحد، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾
2. البخل هو الحرص الشديد فيما يملك الإنسان من مال أو علم أو أي ضرب من ضروب القدرة التي يستطيع أن يعين بها غيره، وعلى ذلك يشمل البخل كل شح، سواء أكان موضوعه المال، أم لم يكن موضوعه المال، وقد فسر بعض العلماء البخل في هذه الآية بكتمان العلم، ذلك أن اليهود كتموا أوصاف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبشير التوراة به، وضنوا بها فلم يعلنوها ليضلوا، أو ليمنعوا الهداية.
3. فسر الأكثرون البخل بمعناه الظاهر المتبادر، وهو البخل في المال، ويتفق هذا مع سياق الكلام، إذ إن الله سبحانه وتعالى قد حكى عن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، أن منهم من يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، ولأن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد بيان بخلهم أن الله سبحانه وتعالى له ميراث السماوات والأرض، والتعبير بكلمة ميراث يومئ إلى أن موضوع البخل هو المال، والنهى عن الظن وأن البخل المالي فيه خير في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ يدل على النفي المؤكد، فالمعنى لا يصح لهم أن يظنوا بأي حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم، بل فيه شر لهم.
4. في الآية الكريمة إشارة إلى أن سبب البخل نسيان أصل المال، إذ أن البخيل يحسب أن ما يأتي إليه من مال إنما هو بجهوده وكسبه فقط، وليس فضلا من الله، وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو المعطى المانع، وأنه يرزق من يشاء بغير حساب، وأن الرجلين يسعيان ويتخذان الأسباب، فتأتى جائحة لهذا تأكل الأخضر واليابس، وينجو مال ذاك، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ولذا بين الله سبحانه أن المال الذي يجيء إليهم إنما هو بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ﴿يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فهو يبين لهم أن المال مال الله تعالى، وأن الله تعالى يعطى من يشاء، ويمنع من يشاء.
5. الضمير في قوله تعالى: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ تأكيد لمعنى البخل المفهوم من قوله تعالى ﴿يَبْخَلُونَ﴾ ونرى أن الضمير ضمير الفصل لتأكيد نفى الظن في الخيرية، وقد بين سبحانه أنه شر لهم، فقال سبحانه: ﴿بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ وفي إعادة الضمير، وذكر الجملة الاسمية تأكيد لمعنى الشر في البخل، والبخل شر في الدنيا وفي الآخرة؛ وذلك لأنه يدفع إلى الحقد في الدنيا، والحقد في الآحاد يؤدى إلى النزاع المستمر، وتقطع العلاقات الأدبية، وهو في الجماعات يؤدى إلى الخراب والدمار، ولقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)
6. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ التطويق إما من الطاقة، والمعنى سيكلفون أقصى ما يطيقون ليخسروا المال الذي بخلوا به يوم القيامة، ولكنهم لا يملكون في هذا اليوم من أمرهم شيئا، فلا يستجيبون لنداء، ولا لكلام، لأنهم لا يستطيعون، وذلك على حد قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم]، وقد يكون وهو الأرجح من الطوق، والمعنى أنه سيكون ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، وغلا فيها يشعرهم بما كان منهم في الدنيا، وهو طوق مؤلم، مثّله النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بثعبان، فقد روى البخاري عن أبى هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له شجاعا يقول: أنا مالك أنا كنزك)، ثم تلا قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
7. النص القرآني والحديث النبوي استعارة تمثيلية لإحاطة البخل بصاحبه يوم القيامة، وإنها إحاطة إيلام، وفيها بيان أن السعادة الوقتية للاكتناز والبخل في الدنيا ستكون يوم القيامة بؤسا شديدا، وشقوة وإيلاما.
8. بهذا النص الكريم تبين قبح البخل، ويتبين مقام الإنفاق في سبيل الله ولكن ما حد البخل؟ وما حد السرف؟ وبهذين الحدين يتبين الإنفاق الحلال والقصد، لقد قرر العلماء:
أ. أن الإنفاق في سبيل الله تعالى لا إسراف فيه قط، ولو كان بكل المال.. وقد اتفقوا أيضا على أن الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله تعالى في عسرة الدولة، ومداهمة الأعداء لها، بخل بل هو أقبح البخل وأشده، ولذلك أجاز الفقهاء فرض ضرائب إذا داهمت الأمة الإسلامية الأعداء وامتنع الأغنياء عن الإنفاق، وهذا النوع من البخل هو المقصود بهذا النص الكريم.
ب. وقد اتفقوا أيضا على أن كل درهم ينفق في معصية هو إسراف، والخلاصة أن الحد ما بين الإسراف والبخل هو الإنفاق في غير ما أمر الله تعالى، ولذلك يقول ابن عباس: إنفاق ألف في سبيل الله لا يكون إسرافا، وإنفاق درهم في معصية يكون إسرافا.
9. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ هذا النص الكريم يفيد أربعة معان تؤكد وجوب الإنفاق في سبيل الخير، والجهاد في سبيل الله تعالى:
أ. الأول: أن المال كله لله تعالى، فهو الذي أعطى كما عبر سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وأن مآل المال إليه سبحانه وتعالى في ضمن ما يؤول إليه كل شيء في هذا الوجود، بلا استثناء مطلقا، ومن يبخل لورثة يرثونه، فليعلم أن الميراث كله لله تعالى، وأنه سيعطيهم إن أراد سبحانه، وإن لم يرد لهم عطاء فسينفقونه إسرافا وبدارا.
ب. الثاني: هو بيان سلطان الله تعالى على كل ما في الوجود، فهو ملكه، وهو الذي يؤول إليه، وفي ذلك بيان كمال سلطانه، وتأكيد لمعنى أنه المعطى الوهاب، والقوى الرزاق المتين، ولذلك لم يعبر عن الميراث بأنه ميراث الأموال التي نعرفها، بل ميراث كل ما حوته السماء وما حوته الأرض.
ج. الثالث: أن العطاء الذي يعطيه الله تعالى بعض عباده، ويختصهم به يوجب عليهم تكليفات مالية فيه، فإذا كان سبحانه وتعالى قد ابتلى الفقراء بالفقر، فقد ابتلى الأغنياء بالمال، وأوجب عليهم أن يعطوا، وهم محاسبون على مالهم، ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر]، وقد فهم هذا من ذكر علم الله تعالى الدقيق العظيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
د. الرابع: أن الجزاء سيكون شاملا كاملا؛ لأن علم الله دقيق لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]، ولذلك عبر سبحانه عن علمه بأعمالنا بأنه خبير، والخبرة هي العلم الدقيق الشامل.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1524.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾، بعد ان حرض سبحانه فيما تقدم على بذل النفس عقبه بالتحريض على بذل المال.. والمقصود بالآية الذين يمتنعون عن إعطاء الزكاة والخمس الواجبين، لا عن بذل الصدقة المستحبة، لأن الوعيد الشديد الذي دلت عليه الآية انما يحسن على ترك الواجب دون المستحب، وقيل: المراد بالآية من كتم اسم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته الواردة في التوراة والإنجيل، وقيل: بل كلّ من بخل بعلمه عمن يحتاج اليه.. ولكن المتبادر من الآية البخل بالمال، لا بالعلم، ويومئ اليه قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، هذا تفسير لقوله ﴿هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾
2. التطويق هنا كناية عن شدة العذاب نظير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾
3. لقد حث الله سبحانه على البذل والإنفاق في العديد من آياته، وفي الكثير منها إيماء إلى أن جميع الأموال ليست ملكا لمن هي في يده، وإنما هي ملك لله وحده، والإنسان أمين عليها، ومأذون بالتصرف فيها ضمن حدود معينة لا يجوز أن يتعداها، تماما كالوكيل على الشيء يتبع ارادة الأصيل في جميع التصرفات ومن تلك الآيات هذه الآية: ﴿يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، والآية 77 من القصص: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾، والآية 47 من سورة يس: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾.. إلى كثير غيرها.. وفي الحديث القدسي: (المال مالي، والأغنياء وكلائي، والفقراء عيالي، فمن بخل بمالي على عيالي أدخلته النار، ولا أبالي)، وأصرح الآيات دلالة الآية 7 من سورة الحديد: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، ومعنى جعله خليفة أقامه مقامه.
4. الآيات والأحاديث تفيد ان الإسلام لا يقر ملكية الإنسان للمال بشتى معانيها، سواء أكانت الملكية فردية مطلقة، كما هي في المذهب الرأسمالي، أو ملكية مقيدة، كما هي في المذهب الاشتراكي، أو ملكية جماعية، كما هي في المذهب الشيوعي.. كل هذه الأنواع للملكية ينفيها الإسلام، ويحصر الملك الحقيقي بالله وحده، ولكنه سبحانه قد أباح للإنسان أن يتصرف في هذا المال، وينفقه على نفسه وأهله بالمعروف، وفي سبيل الخير، على شريطة أن يصل اليه عن طريق ما أحله الله، لا عن طريق ما حرم ونهى، كالغش والخداع، والنهب والسلب، والرشوة والربا والاحتكار والاتجار بالمسكرات والمحرمات، فالاذن بالاستيلاء على المال محدود بحدود، والاذن بالتصرف فيه أيضا محدود ضمن نطاق خاص.
5. سؤال وإشكال: ان بعض الآيات تدل على ان المال ملك للإنسان، مثل: ﴿وجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ﴾، وفي الحديث: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام.. الناس مسلطون على أموالهم) أما البيع والإرث فهما من ضرورات الدين، والشريعة الاسلامية.. اذن، لا مسوغ للقول بأن الإسلام يلغي الملكية بشتى أنواعها؟ والجواب: ان الاضافة تصح لأدنى مناسبة، تقول للضيف: هذا اناؤك، وللضال: هذا طريقك، مع العلم بأن الإناء ليس ملكا للضيف، ولا الطريق ملكا للضال، وإنما القصد ان يسلك الضال الطريق المشار اليه، ويأكل الضيف الطعام الذي في الإناء.. ومثله تماما اضافة المال للإنسان، يقصد منها أن يتصرف فيه على سبيل الاباحة والاذن بالتصرف، لا على سبيل الملك، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾، وقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنت ومالك لأبيك).. وبديهة ان الزوجة ليست ملكا طلقا للزوج، ولا الولد ملكا حقيقيا للوالد، أما البيع والإرث فيكفي لجوازهما حق الامتياز والاختصاص، أي ان الإسلام قد جعل لصاحب اليد امتيازا على غيره في التصرف بالمال، وفي الوقت نفسه أباح له أن ينقل الامتياز إلى الوارث والمشتري.. والفرق بعيد بين الملك الحقيقي والامتياز.
6. الخلاصة ان الإسلام أباح للإنسان حيازة المال بشروط خاصة، وإنفاقه ضمن نطاق معين، وشدد على مراعاة تلك الشروط، وهذا النطاق، وحرم التجاوز عنهما، وهذا وحده كاف وصريح في الدلالة على ان الإنسان وكيل على المال، لا أصيل، والا جاز له التصرف بلا قيد ولا شرط، وخير ما نختم به هذا الفصل قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (المال مال الله وهو ودائع عند عباده، وجوز لهم أن يأكلوا قصدا ـ أي مقتصدين ـ ويلبسوا قصدا، وينكحوا قصدا، ويركبوا قصدا، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، ويلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ويشرب حلالا، ويركب وينكح حلالا، وما عدا ذلك كان عليه حراما)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/217.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله تعالى حال إملاء الكافرين وكان الحال في البخل بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله مثله، فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم وبين أنه شر لهم.
2. في التعبير عن المال بقوله: ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ إشعار بوجه لومهم وذمهم، وقوله: ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم.
3. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ﴾، الظاهر أنه حال من يوم القيامة، وكذا قوله: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ويحتمل على بعد أن يكون قوله: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ﴾ حالا من فاعل قوله يبخلون، وقوله: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/81.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ﴾ الباخلون ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ عن الإنفاق الواجب عليهم، لا يحسبوا بخلهم به ﴿هُوَخَيْرًا لَهُمْ﴾ من إنفاقه وحسبانهم هذا مثل حسبان الذين كفروا أن إملاء الله لهم خير لأنفسهم؛ لأنه غلط عكس الواقع وقوله: ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل و﴿خَيْرًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ لأنه من أفعال القلوب، والمفعول الأول مقدر أي بخلهم، دل عليه قوله: ﴿يَبْخَلُونَ﴾ ﴿بَلْ﴾ البخل ﴿هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾
2. ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بيان لكونه شراً لهم، أي يجعل طوقاً لهم في أعناقهم، فهذا أشبه (آية الكنز): ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ الآية [التوبة:35] وجوزوا أنه مجاز عن لزوم إثم البخل لهم، ولكن كان يكفي لو أريد ذلك، سيطوقونه يوم القيامة، كقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء:13]، فالظاهر الحقيقة، ولا موجب للتأويل؛ لأن أمور الآخرة مخالفة للمعهود في الدنيا، إلا أن الآية تحتمل تطويقهم به يوم القيامة في موقف الحساب تقريعاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بهم في الموقف، لا أنه يبقى في أعناقهم في النار، وهذا قريب إذا كان الذي بخلوا به من الأنعام ونحوها أو من الحبوب ونحوها.
3. ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فهو خير الوارثين لا يبقى إلا هو ويفنى كل ذي مال، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:10] وهو حث على الإنفاق، لأن الذي يبخل به يموت ويرثه غيره، فتكون فائدة البخل أنه لم ينتفع به كأنه لم يكن له، ولذلك جاء في الحديث: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت)
4. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم عليه على قدره وعلى قدر حقيقته ومخبره، فالبخل إذا كان الدافع له حب المال فقط له درجة من العذاب، وإذا كان الباعث عليه عداوة الدين وكراهة الإنفاق في سبيل الله لأنه نصر للدين يكون عذابه أشد وهكذا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/585.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية بداية الحديث عن بعض النماذج البشريّة الموجودة في كل زمان ومكان، وذلك من أجل أن يتعرف الإنسان على ملامح الخيّرين ليعيش بينهم ويتعاون معهم، وعلى ملامح الشرّيرين من أجل أن يبتعد عنهم ويختلف معهم.. وربما كانت النماذج التي تحدّثت عنها هذه الآية من الشخصيات اليهودية الإسرائيليّة التي لم تتبدل في طريقة تفكيرها وأخلاقيتها طيلة القرون، فهم لا يعيشون الدين إلا على أساس عصبية خاصة في داخل مجتمعهم، وليسوا مستعدين للتعايش مع الآخرين من مواقع إنسانية عامة تدفعهم إلى البذل والعطاء، ككل مجتمع أناني منغلق على نفسه.
2. قد تكون هذه الآيات مقدّمة لما يريد القرآن أن يعرضه من النماذج؛ فإن الله يريد أن يوحي بعمق النتائج السيّئة التي تواجه البخلاء في ما يبخلون به ممّا رزقهم الله من مال عندما يدعون إلى الإنفاق في سبيل الله، سواء في ذلك الفئات المحرومة التي تحتاج إلى المساعدة في رعاية أمورها الحياتية الملحّة، أو الدعوات الدينيّة والاجتماعية والسياسيّة التي تبني للأمّة حياتها العامّة والخاصة، أو المشاريع الخيرية التي يحتاجها المستضعفون في قضاياهم الحيويّة وأوضاعهم المأساوية من يتم وحرمان وتشريد وغير ذلك.. فهم يحسبون أن البخل خير لهم لما يوفره لهم من مال يختزنونه، فلا ينقص من رصيدهم شيء، وتلك هي النظرة الساذجة للأشياء التي تنظر إلى الأمور من خلال ظواهرها لا من خلال بواطنها ويواجهون الأعمال فيحكمون عليها من موقع بداياتها لا من موقع النتائج، ولو أنّهم درسوا القضية من مواقعها الحقيقية، لتغيّرت نظراتهم واختلفت حساباتهم، فهذا المال ليس مالهم في الحقيقة، بل هو عطيّة من الله الذي أتاهم إيّاه من فضله لينفقوه على أنفسهم في ما يحتاجونه من أمورهم الحياتية، ولينفقوه على الآخرين في ما يواجههم من حاجات الحياة مما لا يملكون الإنفاق عليه، فإذا بخل الإنسان به، فإن ذلك يوحي بالإساءة إلى الدور الذي أراد الله له أن يقوم به، كما أنه يبعده عن السير مع مصلحته، بما يحصل عليه من نتائج جيّدة لحساب دنياه وآخرته، على تقدير الإنفاق، وبذلك لن يكون البخل خيرا له، لأن قضية الخير والشرّ في أيّ عمل من الأعمال لا تقاس على أساس البدايات، بل على أساس النتائج الإيجابيّة والسلبيّة له.
3. هذا ما أراد الله أن يثيره أمام هؤلاء الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله، في قوله تعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ وقد أطلق القرآن كلمة الشرّ فلم يحدّد مسارها بشكل صريح، ليعيش الإنسان البخيل الآفاق الواسعة التي ينتظر فيها النتائج السلبيّة من عمله في الدنيا والآخرة.. ولكنه تحدّث له عن النتائج الأخروية بما يوحي بضرورة الإحساس بالأهميّة لقضايا الآخرة في عذابها وثوابها، عندما تدعوه شهواته وأطماعه للانحراف عن الخط المستقيم من أجل نتائج الحياة الدنيا، ليدخل الإنسان في عملية مقارنة دقيقة بين ربح العاجلة وخسران الآجلة، في ما يستعجله من نعيم الدنيا، وينتظره من شقاء الآخرة، وذلك هو قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فإن هذه الأموال التي كنزوها ستتحوّل إلى أغلال في أعناقهم يطوّقون بها كما يطوّقون بالأغلال في الدنيا، وقد يكون التعبير استعارة أو كناية عن العذاب، من خلال أن البخل ينطلق من حالة داخليّة يشعر الإنسان معها بما يشبه حالة المثقل بالقيود التي تمنعه عن الحركة في الاتجاه الذي يريده، لأن الأفكار السلبية الداخليّة تتحوّل إلى قيد فكري أو نفسي يمنع الإنسان عن التحركات الخيّرة ليبقى محصورا في المجالات الضيّقة المحدودة.
4. ثم يثير القرآن في هذه الآية الفكرة الحاسمة أمام البخلاء: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ وهي أن هذا المال الذي تحافظون عليه وتحبسونه فلا تنفقونه، لن يبقى لكم بل سوف تفارقونه ليبقى في الأرض من بعدكم، لأن علاقتكم به ـ كعلاقة غيركم ـ هي علاقة طارئة تتحدد بحسب الدور العلمي الذي يمكنكم القيام به، وذلك بأن تحرّكوه في المجالات التي أراد الله لكم أن تحركوه فيها، في بناء الحياة والإنسان على أساس الخير الشامل، لتبقى لكم نتائجه الطيّبة عند الله، فبذلك يتحقق لكم ربحه ودوامه، أما إذا لم تقوموا بدوركم إزاءه، وأهملتم أمره، فسيفارقكم وتفارقونه، وتبقى أمامكم تبعاته ونتائجه السلبيّة، ويبقى الأمر كلّه لله في ما تشتمل عليه السماوات والأرض، وما يقوم الناس به من أعمال لا يغيب عنها علمه فهو خبير بكل ما يعملون، ليجزيهم بما عملوا من خير أو شر.
5. هناك رواية عن ابن عباس أن الآية نزلت في كتمان العلم الذي قام به أحبار اليهود ـ في عصر الدعوة ـ عندما كتموا صفة محمد ونبوته التي جاءت بها التوراة، في ضوء ذلك، فإن الآية تتحدث عن العلم كطاقة معنوية فكرية من طاقات الإنسانية التي وزّعها الله على بني الإنسان، ليقوم كل واحد منهم بتقديمها للناس كافة من خلال حاجاتهم المتنوعة للمعرفة المتصلة بقضاياهم العقيدية والفكرية والعملية، لأنها أمانة الله عندهم، وليست ملكا ذاتيا لهم يتصرفون فيه ـ بحرية ـ كما يتصرفون في خصوصياتهم، وبذلك فإن البخل بالعلم، لا سيّما الذي يتصل بقضية الهدى والضلال، يمثل الخيانة الثقافية للأمانات الإلهية عند الناس، وبالتالي فهي أمانة الناس عندهم، وقد جاءت الآيات المتنوعة التي تحذر الناس من كتمان العلم الذي يتصل بالمسؤولية العقيدية للإنسان، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]؛ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 174].. وهكذا نستوحي من ذلك أن العلم أمانة الله عند العالم، لا سيما في الظروف الصعبة التي يمثل فيها كشف العلم حركة رائدة في مواجهة التحديات المضادة للإسلام وأهله، وهذا ما يوحي به الحديث النبوي المأثور: (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه وإلّا فعليه لعنة الله)
6. لكن الظاهر من سياق الآية ـ بلحاظ ما بعدها من الآيات ـ يدل على أنها واردة في البخل بالمال لا بالعلم، مما يجعل شمولها للبخل بالعلم عملية استيحائية من خلال الانتقال من المادي إلى المعنوي على الطريقة التي جرى بها أئمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير بعض الآيات من استيحاء المعنوي من الحديث عن المادّي، كما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ [عبس: 24] قال علمه، ومن المعلوم أن هذا ليس تفسيرا لكلمة الطعام ـ حتى بنحو المجاز ـ لأن السياق في الآيات التي بعدها لا تتناسب مع ذلك، ولكنه استيحاء لفضل الله على الإنسان بالعلم بالدرجة العليا التي يتقدم بها على الغذاء المادي.
7. حاول بعض المفسرين الذين يلتزمون تجسّم الأعمال في يوم القيامة بالصورة المادية المماثلة لصورتها في الدنيا، أن يجد في الآية دلالة على هذه الفكرة، فذكر أن هذه الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت في سبيل الأهواء الشخصية، سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسّم يوم القيامة، وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه، لكنا نرى أن نظرية تجسّم الأعمال انطلقت ـ في أغلب أدلتها ـ من الفهم الحرفي للنص القرآني، وهو أمر لا يتناسب مع القيمة البلاغية للأسلوب، التي تنفتح على الاستعارة والكناية والمجاز من خلال القرائن المحيطة بالنص، كما في هذه الآية، فإن التطويق بالمال الذي بخلوا به كناية عن حملهم مسئوليته السلبية بإيقاع العذاب بهم لعدم دفعهم لحقوق الله، وذلك بأن يلزموا وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ـ كما جاء في تفسير الكشاف ـ أو يعود عليهم وباله فيصير طوقا لأعناقهم، كقوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]؛ ـ كما عن ابن مسلم ـ قال والعرب تعبّر بالرقبة والعنق عن جميع البدن، ألا ترى إلى قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾؛ والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/412.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة، أولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله، ولصالح عباده.
2. الآية الكريمة وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية، إلّا أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة، ويؤيده التشديد المشهود في الآية، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإنفاق المندوب المستحب.
3. تقول الآية أوّلا: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾ ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقا في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.
4. ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنّها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.
5. إنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسئوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.
6. إنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها، لأن للاستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدودا، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من الأسر الثقيل، والوزر الضّار، اللهم إلّا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.
7. ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهورا في الآخرة، بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسئولية جمع الثّروة مضافة إلى مسئولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله، في حين لا ينتفع بها هو أبدا، وهل الأموال حينئذ إلّا طوق أسر ثقيل لا غير؟ ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: الذي يمنع الزكاة يحول الله ماله يوم القيامة شجاعا من نار.. ثمّ يقال له: ألزمه كما لزمك في الدنيا)
8. الملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية ﴿بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه، وإن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإنّما هو من فضله، ولهذا ينبغي أن لا يبخل، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.
9. بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.
10. ثمّ إنّ الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستفصل في النهاية عن أصحابها، ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها، وحسرتها وتبعتها.
11. ثمّ تختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي أنّه عليم بأعمالكم، يعلم إذا بخلتم، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني، ويجازي كلا على عمله بما يليق.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/22.
98. المفترون وغنى الله وقتل الأنبياء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈98⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: 181 ـ 182]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: كان بنو إسرائيل يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم يقوم سوق بقلهم مع آخر النهار(1).
__________
(1) الدينوري في المجالسة وجواهر العلم: ٦/٣٢٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ما أنا بمعذب من لم يجترم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٠ ولفظه: ما أنا بمعذب من لم يجرم عندي أن أعذبه.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: صك أبو بكر رجلا منهم؛ الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، لم يستقرضنا وهو غني؟ وهم يهود(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٧٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: لما نزلت: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] قالت اليهود: إن ربكم يستقرض منكم، فأنزل الله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٨٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ﴾ الآية، ذكر لنا: أنها نزلت في حيي بن أخطب، لما أنزل الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قال يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغني(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٨٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ معناه سنحفظ(1).
2. روي أنّه قال: ﴿عَذَاب الْحَرِيقِ﴾ يريد النّار(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
ابن أبي نجيح:
روي عن ابن أبي نجيح (ت 131 هـ) أنّه قال: الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، لم يستقرضنا وهو غني؟ قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: ﴿إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، و﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٨٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: قد علمت يا إلهي أنه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك(1).
__________
(1) تهذيب الأحكام: 5/277.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾، فأمر الحفظة أن تكتب كل ما قالوا(1).
2. روي أنّه قال: أي: تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ من الكفر والتكذيب، ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فيعذب على غير ذنب(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن قول الله سبحانه: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، وهذا إخبار من الله عز وجل بقول الفاسقين، الظلمة المتمردين، وما يقولون به في رب العالمين؛ والقائل لذلك فهم: المشركون الجاحدون لله، المنكرون لنبيه صلى الله عليه، من أهل الكتاب اليهود، ومن ساعدهم من الأشرار، وأهل الكفر والارتياب وأمثالهم.
2. ثم قال: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾، والكتاب هو: الحفظ من الله ـ تبارك وتعالى ـ لقولهم، وما كان من سيء لفظهم.
3. معنى ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ هو: الرضى منهم بقتل آبائهم لمن سلف من النبيين؛ فلما أن رضوا بذلك كانوا من القاتلين، ولفعل من سلف من المصوبين، وفي ذلك ـ لا محالة ـ من الداخلين.
4. ثم قال: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، يخبر عز وجل: بما يصيرون إليه، ويجازون به في الآخرة، من عذاب الحريق، والبلاء الشديد؛ جزاء على فعلهم، ومكافاة على أعمالهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/198.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ قيل: لما نزلت: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ الآية [البقرة: 245]، قالت اليهود: ربكم يستقرض منكم ونحن أغنياء، وليس في الآية بيان أن ذلك القول إنما قاله اليهود أو غيرهم من الكفرة، ولكن فيه أنهم قالوا ذلك؛ فلا ندري من قال ذلك، ولا يجوز أن يشار إلى أحد بعينه إلا ببيان.
2. يحتمل ذلك القول منهم وجوها:
أ. يحتمل أن يكون قال ذلك أوائلهم؛ على ما قال في قتل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهؤلاء لم يقتلوا؛ ولكن إنما قتلهم أوائلهم، أضيف ذلك إليهم؛ رضاء منهم بصنيعهم؛ فعلى ذلك القول الذي قالوا يحتمل ما ذكرنا.. فإن قال ذلك أوائلهم؛ فإنه يحتمل وجهين:
• يحتمل أن يكون الله تعالى أعلم ذلك رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ تصبيرا منه إياه وتسكينا؛ ليصبر على أذى الكفار؛ حيث قالوا في الله ما قالوا فكيف فيه!؟
• ويحتمل أن يكون ذلك ليكون ذلك آية من آيات رسالته.
ب. ويحتمل أن يكون هؤلاء قالوا ذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبمشهدهم، أو قالوا ذلك في سر.. وإن كانوا قالوا ذلك بحضرة أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ففيه ـ أيضا ـ وجهان:
• أحدهما: ما ذكرنا من التسكين والتصبير على أذاهم.
• الثاني: ليعلموا أن جميع ما يقولون محفوظ عليهم، ليس بغائب عنه، ولا غافل عنه؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ﴾ الآية [إبراهيم: 42]، لكنه يؤخر ذلك إلى وقت.
3. إن كانوا قالوا ذلك سرّا؛ ففيه ـ أيضا ـ وجهان:
أ. أحدهما: ما ذكرنا أن يكون آية من آيات النبوة؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله، على علم منهم أنه لم يكن فيما بينهم من ينهي الخبر إليه.
ب. الثاني: خرج على التعزية له والتصبير على أذاهم.
4. معنى قوله تعالى: ﴿وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المزمل: 20]، و﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245] ـ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظا في الشاهد ـ فإنه لا يمنّ المقرض عليه؛ بل تكون المنة للذي عنده القرض على المقرض؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء، يكون محفوظا عند الله ليوم حاجتهم إليه؛ فلا منة تكون على الفقير
ب. الثاني: إنباء عن جوده القرض؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم؛ فعلى ذلك الله تعالى إذا طلب من عبده القرض، على علم منه في أنه غني بذاته، لا يجب أن يبخل عليه، وفي ذلك شرفه وعظمه.
5. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾ قال أهل التفسير: قالت اليهود، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم؛ حتى زعموا أن يد الله مغلولة، لكن ليس في الآية بيان القائلين، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب؛ لو لم يكن ذلك منه، لكنهم قالوه، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرّا، يكون في إظهاره آية الرسالة، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يصبر لمثله: يقال بحضرة الصحابة إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم لله، مع عظيم ما سمعوا من القول، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم الله تعالى وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرا إلا بالله تعالى اجترؤوا عليه بمثل هذا القول، وبلغ عتوّهم هذا.
6. الله ـ جل ثناؤه ـ مع قدرته وسلطانه يحلم عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة ـ أحق بالصبر لأذاهم، وإعراض عن مكافأتهم؛ وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ الآية [الجاثية: 14]، وقال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾:
أ. قيل: سنجزيهم جزاء ما قالوا.
ب. وقيل: سنحفظ ما قالوا، وسنثبت، وسألزم، كقوله عزّ وجل: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]
8. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل: إذ قتل أوائلهم؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم؛ كقوله تعالى ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]؛ لرضاه بقتله.
9. سؤال وإشكال: ما الحكمة في قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ والأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يرتكبون ما يجب به قتلهم؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾ الآية [الأحزاب: 57]، أطلق القول فيه من غير ذكر اكتساب شيء يستوجب به ذلك، وشرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به؛ كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ الآية [الأحزاب: 58]، فكيف ذكر هاهنا ـ القتل بغير حق، وهم لا يكتسبون ما يستوجبون به القتل!؟ والجواب: يحتمل وجهين:
أ. يحتمل قوله: بغير حق، أي: بغير حاجة؛ لأنهم كانوا يقتلون بلا منفعة تكون لهم في قتلهم؛ على ما قيل: إنهم كانوا يقتلون كذا كذا نبيّا، ثم يهيج لهم سوق؛ فإذا كان كذلك يحتمل قوله: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: بغير حاجة؛ كقول لوط عليه السلام: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ فقالوا: ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ [هود 78 ـ 79]، أي: من حاجة.
ب. ويحتمل قوله عزّ وجل: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ أي: قصدوا قصد قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فكأن قد قتلوه، أو قتلوا أصحابه فأضيف إليهم.
10. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أي: المحرق، وقد ذكرنا هذا، ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ذكر الأيدي؛ لما بالأيدي يقدم، وإن لم يكن هذا مقدما باليد في الحقيقة؛ وكذلك ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] لما باليد يكتسب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/546.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ الآية: هؤلاء قوم أطغاهم حطام الدنيا وأسكرهم، حتى شتموا الله وقتلوا أنبياءه عبثاً وتلعباً وأشراً وبطراً وكفراً، فوعدهم الله بالخزي واللعنة والعذاب، بما قدمت أيديهم من قبائح الأسباب.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 268.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة وحده (سيكتب) بضم الياء، الباقون بالنون.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾:
أ. ذكر الحسن وقتادة: أن الذين نسبوا الله تعالى إلى الفقر وأنفسهم إلى الغناء وهم قوم من اليهود لما نزل قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قالوا إنما يستقرض الفقير من الأغنياء، فهو فقير ونحن أغنياء، والقائل لذلك حي بن أخطب وفنحاص اليهودي.
ب. وقال أبو علي الجبائي: هم قوم من اليهود، وإنما قالوا ذلك من جهة ضيق الرزق.
ج. وقيل: انهم قالوا ذلك تمويهاً على ضعفائهم لا أنهم اعتقدوا أن الله فقير على الحقيقة.
د. وقيل: انهم عنوا بذلك إله محمد الذي يدعي أنه رسوله دون من يعتقدون هم أنه علي الحقيقة.
3. سؤال وإشكال: كيف الحكاية عنهم بأنهم قالوا ذلك، وإنما قالوه على جهة الإلزام دون الاعتقاد؟ والجواب: لأنه إلزام باطل من حيث لا يوجبه الأصل الذي الزموا عليه، لأنه إنما قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ على وجه التلطف في الاستدعاء إلى الطاعة، وحقيقته أن منزلة ما ينفقون في وجوه البر كمنزلة القرض الذي يرجع إليكم ويضاعف به الأجر لكم مع أنهم أخرجوا ذلك مخرج الاخبار عن الاعتقاد.
4. في الآية دلالة على أن الرضا بقبيح الفعل يجري مجراه في عظم الجرم، لأن اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولوا ذلك في الحقيقة، وإنما ذموا به، لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإثم.
5. في قوله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: انه يكتب في صحائف أعمالهم، لأنه أظهر في الحجة عليهم وأجرى ان يستحيوا من قراءة ما أثبت من فضائحهم ـ على قول الجبائي ـ.. وهو أظهر.
ب. الثاني: قال البلخي سيحفظ ما قالوا حتى يجازوا به أي هو بمنزلة ما قد كتب في أنه لا يضيع منه شيء.
6. ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ يعني المحرق، والفائدة فيه ان يعلم أنه عذاب بالنار التي تحرق، وهي الملتهبة، لأن ما لم يلتهب لا يسمى حريقاً، وقد يكون العذاب بغير النار، وقوله: ﴿ذُوقُوا﴾ يفيد أنكم لا تتخلصون من ذلك كما يقول القائل: ذق هذا البلاء يعني انك لست بناج منه.
7. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ اشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ومعناه بما جنيتموه على أنفسكم، فان الله لا يظلم أحداً من عبيده، ولا يبخسهم حقهم.
8. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنها تدل على أنه لو وقع العقاب من غير جرم سلف من العبد، لكان ظلماً وذلك بخلاف ما يذهبون إليه من أن الله تعالى يعذب الأطفال من غير جرم.
9. سؤال وإشكال: لم نفى كثرة الظلم على وجه لا يدخل فيه القليل، وهلا نفى على وجه العموم كقوله: ﴿لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، وكقوله: ﴿لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾، وقوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ و(نقيرا)؟ والجواب: لأنه خرج مخرج الجواب لمن توهم مذهب المجبرة، فدل على أنه لو كان على ما يذهبون إليه، لكان ظلاماً للعبيد، وما هو بظلام لهم.
10. سؤال وإشكال: لم أضيف التقديم إلى أيديهم وإنما هو لهم في الحقيقة؟ والجواب: لأنه إذا أضيف على هذه الطريقة كان أبعد من توهم الفساد في معنى الاضافة إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان على معنى أنه أمر به ودعا إليه، كما قال: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ وإذا ذكرت اليد دل على تولي الفعل نحو قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾
11. ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ انما فتح ان لأنه معطوف على ما عملت فيه الباء، وتقديره وبأن الله ليس بظلام للعبيد أي ذلك العذاب بما سلف من الاجرام وبامتناع ظلم الله للعباد، فموضع أن جر وموضع الباء في قوله: (بما) رفع، لأنها في موضع خبر ذلك وهي متصلة بالاستقرار كأنه قيل ذلك مستقر بما قدمت أيديكم، كما يقول القائل: عقابك بما كسبت يداك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/65.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. سمِع يَسْمَع سماعًا إذا أدركه بحاسة الأذن، وإن أدركه من غير حاسة فقد سمع، والسميع من هو على حالة يسمع المسموعات إذا وجدت، والسامع: المدرك، ولذلك قال مشايخنا: الله تعالى سميع فيما لم يزل، سامع عند وجود المسموع وله بكونه سامعًا مبصرًا مدركًا أحوالهم سواء كونه حيًا عالمًا وكونه سميعًا بصيرًا ليس بصفة زائدة على كونه حيًا، وعند شيخنا أبي القاسم معنى سميع، أنه يعلم المسموعات وبصير يعلم المبصرات وهو لا يثبت للقديم تعالى صفة الإدراك.
ب. الفقير والمسكين من النظائر، وضده الغني.
ج. ذوق: يقال: ذقت الشيء أذوقه ذوقًا وذقت ما عند فلان أي اختبرته، وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه إلا أنه تَوَسُّعٌ، وفي الخبر: حتى تذوقي عسيلته ويذوق من عسيلتك) كناية عن الجماع، وهذا من ملح الكنايات.
د. الحريق: النار، وكذلك الحرق يصح بالحاء وسكون الراء مصدر حرقت الشيء: بردته بالمبرد، ومنه ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾:
أ. قيل: لما نزل قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قالت اليهود: إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن ابن عباس والحسن ومجاهد، قال الحسن: وهذا القائل حيي بن أخطب.
ب. وقيل: القائل فنحاص اليهودي، وذلك أن أبا بكر دخل بيت مدارسهم وفيها ناس من اليهود اجتمعوا إلى رجل يسمى فنحاص وكان من علمائهم، فقال أبو بكر: يا فنحاص، اتق الله وأسلم فإنك تعلم أن محمدًا نبي تجدونه مكتوبًا في التوراة، فقال: يا أبا بكر، ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقوله حقًا فإن الله فقير ونحن أغنياء، فغضب أبو بكر وضرب وجهه، وقال: لولا العهد لضربت عنقك، فشكا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لأبي بكر: ما حملك عليه؟ فحكى ما قال، فأنكر اليهودي ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقًا لأبي بكر وتكذيبًا لليهودي، وذلك حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضًا حسنًا عن عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق.
3. حكى الله تعالى خصلة أخرى من خصالهم فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾:
أ. قيل: أي أدرك ذلك.
ب. وقيل: سمع بمعنى علمه عن أبي القاسم.
4. اختلف في ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾:
أ. قيل: قوم من اليهود عن الحسن وقتادة ومجاهد.
ب. وقيل: فنحاص اليهودي وحيي بن أخطب.
ج. وقيل: هم قوم من اليهود قالوا ذلك من جهة ضيق الرزق عن أبي علي.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾:
أ. قيل: يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازي به؛ لأنه أظهر في الحجة عليهم وأجدر أن يستحيوا من قراءة ما أثبت في صحائفهم، عن أبي علي.
ب. وقيل: سنحفظ ما قالوا حتى يجازوا به، أي أنه بمنزلة ما كُتِب في أنه لا يضيع شيء منه عن أبي القاسم ومقاتل وأبي عبيدة.
ج. وقيل: ستكتب الحفظة ذلك عليهم بأمرنا، وإنما يُكتب لتقرؤوه وليكون لطفًا لا ليعلم، أوِ لئلا يذهب عنه، لأنه عالم بذاته لم يزل ولا يزال ولا يجوز عليه النسيان.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ الأَنْبِيَاءَ﴾:
أ. قيل: يعني نكتب عليهم قتلهم الأنبياء.
ب. وقيل: يكتب على أسلافهم.
ج. وقيل: يكتب عليهم لرضاهم بما فعل آباؤهم من قتل الأنبياء.
7. ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ أي لهَؤُلَاءِ الكفار، واختلفوا متى يقال ذلك:
أ. قيل: عند الموت.
ب. وقيل: عند المحاسبة وبعد قيام الحجة.
ج. وقيل: عند دخول النار.
د. وقيل: إنما يقال ذلك على وجه الإياس لهم من النجاة.
8. ﴿ذُوقُوا﴾ هذا توسع؛ لأن الذوق في غير المأكول يستعمل مجازًا ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾:
أ. قيل: الحريق، وقيلِ: عذاب النار.
ب. وقيل: الحريق، المحرق، فعيل بمعنى مُفْعِل كأليم بمعنى مؤلم.
9. ﴿ذَلِكَ﴾ أي يقال لهم: ذلك العذاب ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ يعني بما استحققتم على ما سلف منكم من الجرائم، وإنما أضاف إلى اليد، على عادة العرب في إضافة الفعل إلى اليد، ولأن أكثر التصرفات باليد فأضيف إليه.
10. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ يعني لا يظلم أحدًا بأن يعاقبه بغير ذنب أو يمنعه ما استحقه من ثواب، وذكره بلفظ يوجب التكثير تأكيدًا لنفي الظلم عنه.
11. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الأعمال تكتب في الصحف، وقد ورد الكتاب بذلك في مواضع.
ب. أن قتل الرسول يصح ممن لا يعرف التوحيد؛ لأنه تعالى بيّن أنه كما يكتب عليهم الجميل بِاللهِ يكتب عليهم قتل الرسول وتكذيبه.
ج. أن العذاب يستحق بما كسبت يده فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ.
د. أنه لا ظلم في أفعال الله تعالى، فيبطل قولهم في أنه يعاقب الأطفال والمجانين، وأنه يجوز أن يخلق فيهم الكفر ثم يعذبهم؛ لأنه لا ظلم أعظم من ذلك فيبطل قولهم.
هـ. أنه لولا المعاصي لكان العقاب ظلمًا وذلك أيضًا يبطل قولهم.
12. قرأ حمزة (سَيُكْتَبُ) بالياء وضمه على ما لم يسم فاعله، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ برفع اللام على معنى سنكتب قتلهم، وقرأ الباقون بالنون وفتح اللام، النون إضافة إليه تعالى للتفخيم، والقتل مفعول، والنون أولى؛ لأن عليه أكثر الأئمة، ويجري الكلام على تشاكلٍ، وجاز الوجه الآخر للتصرف في الكلام إلا أن التشاكل أحسن.
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿مَا قَالُوا﴾: فعل، و﴿قَتْلَهُمْ﴾: اسم، وجاز عطف الاسم على الفعل، لأن ﴿مَا﴾ مع الفعل بمنزلة المصدر، كأنه قيل: سنكتب قولهم وقتلهم.
ب. موضع الباء في ﴿بِمَا﴾، رفع في موضع خبر ﴿ذَلِكَ﴾ وهو متصل بالاستقرار كأنه قال: ذلك مستقر بما قدمت أيديكم، كما يقال: عقابك بما كسبت يداك.
ج. الموجب لفتح ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بالعطف على ما عملت فيه الباء، تقديره: وأن الله ليس بظلام للعبيد، وموضع ﴿أَنْ﴾ جر على معنى ذلك العذاب بما سلف من الإجرام وبامتناع ظلم الله تعالى للعباد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/479.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. سمع: يقال سمع يسمع سمعا: إذا أدرك بحاسة الأذن، والله يسمع من غير إدراك بحاسة، والسميع: من هو على حالة يسمع لأجلها المسموعات إذا وجدت، والسامع: المدرك لذلك، وقال المحققون: إن الله تعالى سميع فيما لم يزل، وسامع عند وجود المسموع، وكونه سميعا بصيرا، ليس بصفة زائدة على كونه حيا، وكونه مدركا بصفة زائدة على كونه حيا، وكونه سامعا مبصرا عالما بمعناه، وقال أبو القاسم البلخي: فائدة كونه سميعا بصيرا، أنه يعلم المسموعات والمبصرات، وهو لا يثبت للقديم تعالى صفة الإدراك.
ب. ذاق: قال الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه إلا أنه توسع، وجاء في الخبر: حتى تذوقي من عسيلته، ويذوق من عسيلتك كنى بذلك عن الجماع، وهذا من الكنايات المليحة.
ج. الحريق: النار، وكذلك الحرق بفتح الراء، والحرق بسكونه المصدر لقولهم: حرقت الشيء إذا بردته بالمبرد.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾:
أ. قيل: لما نزلت ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، قالت اليهود: إن الله فقير يستقرض منا، ونحن أغنياء، وقائله حي بن أخطب، عن الحسن ومجاهد.
ب. وقيل: كتب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع، يدعوهم إلى إقامة الصلاة، وايتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فدخل أبو بكر بيت مدارستهم، فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا، فدعاهم إلى الاسلام والصلاة والزكاة، فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقا، فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا! فغضب أبو بكر وضرب وجهه، فأنزل الله هذه الآية، عن عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق.
3. ذكر سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾:
أ. قيل: معناه أدرك قولهم.
ب. وقيل: علم ذلك، عن البلخي.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾:
أ. قيل: قالوا ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾ أي: ذو حاجة لأنه يستقرض منا ﴿وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ عن الحاجة، وقد علموا أن الله لا يطلب القرض، وإنما ذلك تلطيف في الاستدعاء إلى الانفاق، وإنما قالوه تلبيسا على عوامهم.
ب. وقيل: معناه قالوا إن الله فقير، لأنه يضيق علينا الرزق، ونحن أغنياء لأنا نوسع الرزق على أهالينا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾:
أ. قيل: معناه سنحفظ ما قالوا وكني بالكتابة عن الحفظ، لأنه طريق إلى الحفظ.
ب. وقيل: نأمر بكتب ذلك في صحائف أعمالهم، وإنما يفعل ذلك مبالغة في الزجر عن المعصية، لأن المكلف إذا علم أن أفعاله وأقواله مكتوبة في الصحائف، وأنه لا بد من عرضها عليه، ومن قراءته على رؤوس الأشهاد يوم التناد، كان ذلك أبلغ له في الزجر عن المآثم، وأمنع عن ارتكاب الجرائم.
6. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي: وسنكتب قتل أسلافهم الأنبياء، ورضى هؤلاء به، فنجازي كلا بفعله، وفيه دلالة على أن الرضا بفعل القبيح، يجري مجراه في عظم الجرم، لأن اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء، لم يتولوا ذلك بأنفسهم، وإنما ذموا بذلك لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإثم.
7. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ يعني المحرق، وإنما الفائدة فيه أن يعلم أن العذاب بالنار التي تحرق، وهي الملتهبة، لأن ما لم تلتهب لا يسمى حريقا، وقد يكون العذاب بغير النار، ويفيد قوله: (ذوقوا انكم لا تتخلصون من ذلك) يقال: ذق هذا البلاء أي: إنك لست بناج منه.
8. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما سبق أي: ذلك العقاب، ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ معناه: بما كنتم عملتموه وجنيتموه على أنفسكم ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي: بأن الله لا يظلم أحدا من عباده.
9. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ إنما أضافه إلى اليد، وإن كانت تكتسب الذنوب بجميع الجوارح، لأن عامة ما يكسبه الانسان إنما يكسبه بيده، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يلابسها الانسان إلى اليد، وإن كان اكتسبها بجارحة أخرى، فجرى خطاب القديم تعالى على عادتهم.
10. في قوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأنه يدل على أنه لو وقع العقاب من غير جرم سلف من العبد، لكان ظلما، وذلك على خلاف ما يذهبون إليه من أنه سبحانه يعذب الكفار من غير جرم سلف منهم، وأنه يخلق فيهم الكفر، ثم يعذبهم عليه، لأنه لا ظلم أعظم من ذلك.
11. إنما ذكر لفظ الظلام ﴿بِظَلَّامٍ﴾، وهو للتكثير، تأكيدا لنفي الظلم عنه.
12. قرأ حمزة: (سيكتب) بضم الياء، (وقتلهم، بالرفع، (ويقول) بالياء، وقرأ الباقون ﴿سَنَكْتُبُ﴾ بالنون، ﴿وَقَتْلِهِمُ﴾ بالنصب، ﴿وَنَقُولُ﴾ بالنون.. الوجه في قراءة من قرأ ﴿سَنَكْتُبُ﴾: أن النون هاهنا بعد الاسم الموضوع للغيبة فهو مثل قوله ﴿بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ﴾ ثم قال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ ولو قال: سيكتب بالياء، لكان في الإفراد كقوله ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ وقوله ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾، وقوله ﴿وَنَقُولُ﴾: معطوف على ﴿سَنَكْتُبُ﴾، والوجه في قراءة حمزة ﴿وَقَتْلِهِمُ﴾ أنه عطف على ما قالوا، وهو في موضع رفع، ومن قال: ﴿وَقَتْلِهِمُ﴾: فإنه عطفه على ما قالوا أيضا، وهو في موضع نصب بأنه مفعول به،
13. مسائل لغوية ونحوية:
أ. موضع (الباء) في قوله ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ رفع، لأنها في موضع خبر المبتدأ، وهو ﴿ذَلِكَ﴾ وهي متصلة بالاستقرار كأنه قيل: ذلك استقر بما قدمت أيديكم.
ب. ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾: إنما فتح إن لأنه معطوف على ما عمل فيه الباء، وتقديره: وبان الله، فموضعه جر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/898.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن أبا بكر دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتّق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمّدا رسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنّه إلينا لفقير، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك، فذهب فنحاص يشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخبره أبو بكر بما قال فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾، هذا قول ابن عباس، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة والسّدّيّ، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه لمّا نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا﴾ قالت اليهود: إنّما يستقرض الفقير من الغنيّ، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة.
2. في الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾، أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهوديّ، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: حييّ بن أخطب، قاله الحسن وقتادة.
ج. الثالث: أن جماعة من اليهود قالوه، قال مجاهد: صكّ أبو بكر رجلا من الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لم يستقرضنا وهو غنيّ!؟
د. الرابع: أنه النبّاش بن عمرو اليهوديّ، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ قرأ حمزة وحده: (سيكتب) بياء مضمومة و(قتلهم) بالرّفع و(يقول) بالياء، وقرأ الباقون: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ بالنّون، و﴿وَقَتْلِهِمُ﴾ بالنّصب و(نقول) بالنون، وقرأ ابن مسعود (ويقال) وقرأ الأعمش وطلحة: (ويقول)
3. في معنى ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل.
4. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ أي: ونكتب ذلك، سؤال وإشكال: هذا القائل لم يقتل نبيّا قطّ! والجواب: أنه رضي بفعل متقدّميه لذلك، كما بيّنا في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾: قال الزجّاج: معناه: عذاب محرق، أي: عذاب بالنّار، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.
5. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى العذاب، والذي قدّمت أيديهم: الكفر والخطايا.
__________
(1) زاد المسير: 1/354.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآيات الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته، فالشبهة الأولى: أنه تعالى لما أمر بإنفاق الأموال في سبيله قالت الكفار: إنه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا، ولما كان الفقر على الله تعالى محالا، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى.
ب. الثاني: في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض، فإنه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في إصلاح دينه إلى أموالنا، بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي، فهذا هو وجه النظم.
2. يبعد من العاقل أن يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، بل الإنسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الإلزام، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود:
أ. روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحد ما قاله، فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر.
ب. وقال آخرون: لما أنزل الله تعالى ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] قالت اليهود: نرى إله محمد يستقرض منا، فنحن إذن أغنياء وهو فقير، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا، وأرادوا قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾
3. ليس في الآية تعيين هذا القائل، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه:
أ. أحدها: أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة: يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية.
ب. ثانيها: ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر.
ج. ثالثها: أن القول بالتشبيه غالب على اليهود، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.
د. الرابع: أن موسى عليه السلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾، فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا: لما كان الإله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا، وكذا هاهنا أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا: لما كان الإله غنيا فأي حاجة به إلى أموالنا فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك، والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعني لو صدق محمد في أن الإله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذه الإخبار، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد.
4. هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ [المجادلة: 1]
5. ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة، لأنه تعالى قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ وظاهر هذا القول يفيد الجميع، وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي، فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك، فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك.
6. ثم قال تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله وقتلهم الأنبياء برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم، والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى، قال الزمخشري: وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء وتسمية الفاعل،
7. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ هذا وعيد على ذلك القول، وهو يحتمل وجوها:
أ. أحدها: أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغى ولا يطرح، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه، والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم.
ب. الثاني: سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة.
ج. الثالث: عندي فيه احتمال آخر، وهو أن المراد: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بكل ما قدروا عليه.
8. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق، والفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصا بهذا الوقت، بل هم منذ كانوا، مصرون على الجهالات والحماقات، وفي إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان:
أ. أحدهما: سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ أي قتلها أسلافكم ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: 49] ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة: 50] والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم.
ب. الثاني: سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
9. ثم قال تعالى: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ قرأ حمزة سيكتب على لفظ ما لم يسم فاعله ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ برفع اللام ﴿وَيَقُولُ ذُوقُوا﴾ بالياء المنقطة من تحت، والباقون ﴿سَنَكْتُبُ﴾ و﴿نَقُولُ﴾ بالنون، والمراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق، كما أذقت المسلمين الغصص، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم، ويحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول.
10. سؤال وإشكال: إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال، فوجب أن يقال: إنه لم يطلب المال من عبيده، وذلك يقدح في كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها؟ والجواب:
أ. إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الأغنياء.
ب. وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد:
• منها: أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، فإنه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة.
• ومنها: أن يتوسل بذلك الانفاق إلى الثواب المخلد المؤبد.
• ومنها: أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فإنه يقوى في حب الله، وذلك رأس السعادات.
• وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مرارا وأطوارا، كما قال: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا﴾ [الكهف: 46] وقال: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17] وقال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72] وقال: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58] فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت، فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد.
11. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا، قال الجبائي: الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب، وفيه بطلان قول المجبرة: ان الله يعذب الأطفال بغير جرم، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا، وإلا لكان الظلم حاصلا، والجواب: إن ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مرارا وأطوارا.
12. سؤال وإشكال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46] يفيد نفي كونه ظلاما، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم، والجواب: أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب إليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين.
13. ذكر الله تعالى الأيدي على سبيل المجاز، لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها على سبيل المجاز، ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10] والكل حسن متعارف في اللغة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/446.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ ذكر تعالى قبيح قول الكفار لا سيما اليهود، وقال أهل التفسير: لما أنزل الله ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة] قال قوم من اليهود ـ منهم حيي بن أخطب، في قول الحسن، وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء ـ إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا، وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا، لأنهم أهل كتاب، ولكنهم كفروا بهذا القول، لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي إنه فقير على قول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه اقترض منا.
2. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ سنجازيهم عليه، وقيل: سنكتبه في صحائف أعمالهم، أي نأمر الحفظة بإثبات قولهم حتى يقرؤوه يوم القيامة في كتبهم التي يؤتونها، حتى يكون أوكد للحجة عليهم، وهذا كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء]، وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم.
3. ﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا قَالُوا﴾ في موضع نصب ب سنكتب، وقرأ الأعمش وحمزة (سيكتب) بالياء، فيكون ﴿مَا﴾ اسم ما لم يسم فاعله، واعتبر حمزة ذلك بقراءة ابن مسعود: ويقال (ذوقوا عذاب الحريق)
4. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بالقتل، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم، وحسن رجل عند الشعبي، قتل عثمان فقال له الشعبي: شركت في دمه، فجعل الرضا بالقتل قتلا،، قلت: وهذه مسألة عظمى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داوود عن، العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة فأنكرها ـ كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)، وهذا نص.
5. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ تقدم معناه في القرة ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أي يقال لهم في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب هذا، ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة، قولان، وقراءة ابن مسعود ويقال)، والحريق اسم للملتهبة من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.
6. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب، وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته، إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [القصص] وأصل ﴿أَيْدِيكُمْ﴾ أيديكم فحذفت الضمة لثقلها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/295.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال أهل التفسير: لما أنزل الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال قوم من اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا، وإنما قالوا هذه المقالة تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك، لأنهم أهل الكتاب، بل أرادوا: أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد فهو فقير، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام.
2. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ سنكتبه في صحف الملائكة، أو سنحفظه، أو سنجازيهم عليه، والمراد: الوعيد لهم، وأن ذلك لا يفوت على الله، بل هو معدّ لهم ليوم الجزاء، وجملة سنكتب على هذا: مستأنفة، جوابا لسؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع؟ فقال: قال لهم: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾
3. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ عطف على ما قالوا، أي: ونكتب قتلهم الأنبياء: أي: قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، جعل ذلك القول قرينا لقتل الأنبياء، تنبيها: على أنه من العظم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء.
4. ﴿وَنَقُولُ﴾ معطوف على ﴿سَنَكْتُبُ﴾ أي: ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار، أو عند الموت، أو عند الحساب، والحريق: اسم للنار الملتهبة، وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة، وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا.
5. الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي.
6. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ معطوف على ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ووجهه: أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب، وجازاهم على فعلهم، فلم يكن ذلك ظلما، أو بمعنى: أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه، وقيل: إن وجهه: أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء ورد: بأن ترك التعذيب مع وجود سببه، ليس بظلم عقلا ولا شرعا؛ وقيل: إن جملة قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا: لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلام المشعر بالكثرة: يفيد ثبوت أصل الظلم، وأجيب عن ذلك: بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/466.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لَمَّا نزل قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245]، وكتب صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، وقال فنحاص بن عازوراء من علماء اليهود لذلك: (إنَّ الله فقير حتَّى استقرض!)، ولطمه أبو بكر لقوله، وقال: لولا العهد بيننا وبينكم لضربت عنقك، وشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحد، فنزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾
2. إنشاء اليمين بحسب قصد المتكلِّم، وأمَّا الإخبار بواقعة فإمَّا باللفظ الذي لفظ به، ومنه: ﴿لَتُبَـيِّـنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 187]، وإمَّا بالغيبة تخبر عن شيء كان، نحو: استحلفتُهُ ليقومنَّ، وإمَّا بلفظ التَّكَلُّم نحو: استحلفتُه لأَقُومنَّ.
3. وروي أنَّ أبا بكر دخل مدرس اليهود فوجد ناسا كثيرا من اليهود، فقال: (يا فنحاص اتَّقِ الله وأسلم، والله لتعلمنَّ أنَّ محمَّدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاءكم بالحقِّ من الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فآمن وصدِّقْ، وأقرض الله قرضا حسنا يدخلْكَ الجنَّة، ويضاعفْ لك الثواب)، فقال: (يا أبا بكر تزعم أنَّ ربَّنا يستقرض من أموالنا على أن يعطي قرضه إيَّانا مع الفضل والربا؟ وما يستقرض إِلَّا الفقير من الغنيِّ، ولو كان غنيًّا لم يستقرض منَّا، ولَمَا أعطى الربا)؛ فغضب أبو بكر ، وضرب وجهه ضربة شديدة، فشكا إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال: (ما حملك يا أبا بكر على هَذَا؟) قال: إنَّه قال كذا وكذا، وجحد فنحاص، فنزل ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ﴾
4. سبب النزول: ونزل في أبي بكر وضربِهِ لفنحاص: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا﴾ إلخ [آل عمران: 186]، يعني فنحاص ومن معه أنَّ محمَّدًا غير صادق في ذلك، فهو غير نبيء؛ لأَنَّ الله لا يفتقر ولا يحتاج ولا يفعل الربا وهو حرام، وليس ذلك احتياجا من الله تعالى ولا ربا، بل جزاء من الجنَّة على العمل، أو قال ذلك لعنه الله عبثا وعنادا واستهزاء.
5. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ نأمر الملائكة تكتبه في ديوان الناس كلِّهم بعدما كتبوه لِكُلِّ قائل في ديوانه الخاصِّ، أو نأمرهم فينسخونه من اللوح المحفوظ على طبق ما كتبوه أوَّلاً، أو نزيد له حفظا، أو نجازيهم عليه، فظهر الاستقبال.
6. ﴿وَقَتْلَهُمُ الَانبِئَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ رضاهم بقتل آبائهم الأنبياءَ، عارفين أنَّه غير حقٍّ، وفخرهم بهم، أنزل هَذَا مع قولهم وكتابته إشارةً إلى أنَّه من عادتهم الفجور، وأنَّه ليس قولهم بأوَّل جرم، وكيف لا يقوله من اجترأ على قتل الأنبياء، وقد علم أنَّه غير محقٍّ؟
7. ﴿وَنَقُولُ﴾ تهكُّما بهم واستهزاء، وإهانة وتحقيرا، تقول ملائكتنا يوم القيامة، أو الإسناد مجاز عقلي؛ لأَنَّ الله يأمر الملائكة بالقول، ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ الذوق إدراك وصف الطعام أو الشراب، وتُوُسِّع فيه باستعماله في إدراك الحال مطلقا، أو إشارة إلى أنَّ ما يصيبهم من العذاب أوَّلاً كالذوق بالنسبة إلى ما يَتَجَدَّدُ به منه، والحريق: الاحتراق، أو الجسم المحرِق، وهو النار، على أنَّ الحريق بمعنى الإحراق، أو متعمد، أو هو ذو حريق، أي: يحصل به الاحتراق، ويقال لهم بعد دخولها: ﴿ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتَ اَيْدِيكُمْ﴾ ذلك العذاب بما قدَّمتم من قتل الأنبياء وغيره، وأسند التقديم للأيدي لأَنَّ أكثر الأعمال تزاول بها، والقتل باليد، والكاف الأولى خطاب لهم على العموم البدليِّ، والثانية للعموم الشموليِّ.
8. ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ وبأنَّ الله ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ كما زعمتم أنَّه ذو ظلم كثير أو عظيم بقولكم باستواء المحسن والمسيء، فإنَّ استواءهما ظلم، أو ليس بذي ظلم، فَفَعَّال للنَّسب كلبَّان، أو يقدَّر: ولا بذي ظلم مَا، أو الآية كقوله: ﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾ [البقرة: 276] لعموم السلب، أو ليس بظلَّام ظلما كثيرا أو عظيما فضلا عن دون ذلك؛ لأَنَّ الظالم يظلم لفائدته، فإذا لم يظلم لكثير الفائدة لم يظلم لقليلها، ويبعد في الصناعة تسليط المبالغة على النفي، وإذا انتفى عنه الظلم فهو عدل، لا يعذِّب بغير ذنب، وعذاب المطيع جور، والإحسان إلى المسيء عبث وسفه، إن لم يتب، وعدم الثواب للمطيع كذلك، وكذا الإهمال عن التكليف.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/73.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان مثل هذا القول، سواء كان عن اعتقاد، أو استهزاء بالقرآن والرسول ـ وهو الظاهر ـ لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية العظم والهول، أشار إلى وعيده الشديد بقوله: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ أي ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة.
2. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ إنما نظم مع ما قبله إيذانا بسوابقهم القبيحة، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا الكلام ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
3. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا، بسبب هتكهم حرمة الله، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له.
4. لطائف:
أ. الأولى: إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحدا، كما روي، لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة.
ب. الثانية: إضافة عذاب الحريق بيانية، أي العذاب الذي هو الحريق.
ج. الثالثة: الذوق إدراك الطعوم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال، أفاده البيضاويّ.
د. الرابعة: تقديم الأيدي عملها، لأن من يعمل شيئا يقدمه، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه.
هـ. الخامسة: إن قيل (ظلّام) صيغة مبالغة من الظلم، تفيد الكثير، ولا يلزم من نفى الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: بظالم، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره، فالجواب عنه من أوجه:
• أحدها: أن الصيغة للنسب من قبيل (بزّاز) و(عطّار) لا للمبالغة، والمعنى لا ينسب إلى الظلم.
• الثاني: أن (فعّالا) قد جاء، لا يراد به الكثرة، كقول طرفة:
çولست بحلّال التّلاع مخافة...ولكن متى يسترفد القوم أرفدé
لا يريد هاهنا أنه قد يحلّ التلاع قليلا، لأن ذلك يدفعه قوله: متى يسترفد القوم أرفد، وهذا يدل على نفي البخل في كل حال، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
• الثالث: أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده، وظلّام لعبيده، فالصيغة للمبالغة كمّا لا كيفا.
• الرابع: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك.
• الخامس: إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ـ اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/469.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول.
2. الظاهر أن هذه المجازفة في القول قد وقعت من غير واحد من يهود وما يقوله البعض ويجيزه الجمع يسند إلى القائلين والمجيزين جميعا والظاهر أنهم قالوا ذلك تهكما بالقرآن ورواية فنحاص ليس لها مناسبة ظاهرة.
3. سمع الله قول هؤلاء المجازفين لم يفته ولم يخف عليه فهو سيجزيهم عليه، فهذا التعبير يتضمن التهديد والوعيد كما يتضمن قوله (سمع الله لمن حمده) البشارة والوعد بحسن الجزاء وكما يتضمن قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1] مزيد العناية وإرادة الإشكاء والإغاثة، ذلك بأن قولك سمعت ما قال فلان يشعر بما لا يشعر به قولك علمت بما قال.
4. السمع هو العلم بالمسموعات خاصة بوجه خاص، وذهب بعض من كتب في علم الكلام إلى أن سمع الباري تبارك وتعالى يتعلق بجميع الموجودات، لا يختص بالكلام أو بالأصوات، وهو رأي تنكره اللغة ولا يعرفه الشرع وليس للرأي أو العقل أن يتحكم في صفات الله تبارك وتعالى بنظرياته وأقيسته، ومن فائدته التعبير بسمع الله لكلام عباده مراقبتهم له في أقوالهم، ولا تتحقق هذه الفائدة بخصوصها على رأي ذلك المتكلم.
5. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ وعيد لهم على ذلك القول قالوه استهزاء بالقرآن، قرأ حمزة (سيكتب) بالياء المضمومة أي سيكتب قولهم هذا ويثبت عند الله تعالى فيعاقبهم عليه لأنه لا يفوته، وقرأ الباقون بالنون، قال محمد عبده: قال مفسرنا كغيره أي نأمر بكتابته وغفلوا عن قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فإنه كان من سلفهم فما معنى التعبير عن كتابته بصيغة الاستقبال؟ لا بد من تفسيره بوجه يصح في الأمرين، ولكن ضعف المسلمين في لغة القرآن هو الذي أوقعهم في هذا الضعف في الفهم والضعف في الدين وتبع ذلك الضعف في كل شيء، ولا يقال ـ كما زعم بعض المجاورين ـ إن الفعل إذا أسند إلى الله تعالى يتجرد من الزمان فإن الكلام في اختلاف التعبير، والمعنى الصحيح لهذه الكلمة (سنعاقبهم على ذلك حتما) فإن الكتابة هنا عبارة عن حفظه عليهم، ويراد به لازمه وهو العقوبة عليه، والتوعد بحفظ الذنب وكتابته وإرادة العقوبة عليه شائع مستعمل حتى اليوم فلا يحتاج إلى دقة نظر، ولفظ الكتابة آكد من لفظ الحفظ لما فيه من معنى الاستتباب وأمن النسيان.
6. إنما ضم قتل الأنبياء ـ وهو أفظع جرائم هذا الشعب ـ إلى الجريمة التي سيق الوعيد لأجلها لبيان أن مثل هذا الكفر والتدهور ليس بدعا من أمرهم فإنه سبق لهم أن قتلوا الهداة المرشدين بعد ما جاءوهم بالبينات، فهم يجرون في هذا على عرق وليس هو بأول كبائرهم، وللإيذان بأن الجريمتين سيان في العظم واستحقاق العقاب (كما قال صاحب الكشاف)
7. أما إضافة القتل إلى الحاضرين فقد تقدمت حكمته في سورة البقرة:
أ. ويشير إليه قول المفسرين إنهم يعدون قتلة لرضاهم بما فعله سلفهم وهذا تحويم حول المعنى الذي أوضحناه هناك، وهو أن الأمم متكافلة في الأمور العامة إذ يجب على الأمة الإنكار على فاعل المنكر من أفرادها وتغييره أو النهي عنه لئلا يعشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها أو عادة من عادتها فتستحق عقوبته في الدنيا كالضعف والفقر وفقد الاستقلال، كما تستحق عقوبته في الآخرة بما دنس نفوسها ولذلك لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بما عصوا وكانوا يعتدون وبين سبب ذلك بقوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 82]، ذلك بأن من أقر فاعل المنكر فلم ينهه ولم يسخط عليه تكون نفسه مشاكلة لنفسه تأنس به ثم لا يلبث أن يفعل المنكر ولو بعد حين ما لم يكن عاجزا عن ذلك بسبب من الأسباب الحسية، كضعف الجسم أو قلة المال أي أن مثل هذا لا يترك المنكر لأنه رذيلة تدنس نفس فاعلها فيكون بعيدا من الخير غير مستحق لرضوان الله عز وجل.
ب. قال محمد عبده: وثم وجه آخر يجعل إسناد المنكر إلى مقره والراضي به إسنادا قريبا من الحقيقة وهو أن عدم النهي عن المنكر هو السبب في انتشاره وشيوعه لأن الميالين إلى المنكر لو علموا أن الناس يمقتونهم ويؤاخذونهم عليه لما فعلوه إلا ما يكون من الخلس الخفية، ولذلك كان الساكت على المنكر شريك الفاعل في الإثم ـ قال ـ كل هذا ظاهر فيمن يفعل المنكر في زمنه ولا ينكره، وأما من يقع المنكر من قومهم قبل زمنهم كاليهود الذين نزلت هذه الآية وأمثالها فيها كقوله ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾؟ فهم يتفقون مع من سبقهم في علة الجريمة ومبعثها من النفس وهو عدم المبالاة بالدين وقد كان هذا الخلف متفقين مع من سبقهم في الأخلاق والسجايا وينتسبون إليهم انتساب حسب وتشرف أي فهم جديرون بأن يكونوا على شاكلتهم.
8. المتأخر ربما كان أضرى بالشر من المتقدم لتمكن داعية الشر من نفسه بالوراثة والقدوة جميعا، وقد حاول غير واحد من اليهود قتله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما كان آباؤهم يفعلون بل هم الذين قتلوه، فإنه مات بالسم الذي وضعته له اليهودية في الشاة بخيبر فقد ورد في الحديث أنه قال لعائشة في مرض موته (يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري) رواه البخاري في صحيحه، وفي رواية لغيره من حديث أبي هريرة (ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري)
9. قال محمد عبده: إن الله تعالى نبهنا بهذا الضرب من التعبير إلى أن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم بعين البصيرة ويطبقه على الشريعة فيستحسن منه ما استحسنت ويستقبح ما استهجنت ويسجل على المسيء من سلفه إساءته وينفر منها، فإنه يعد عند الله تعالى مثله وشريكا له في إثمه ومستحقا لمثل عقوبته فعليكم باتخاذ الوسائل لإزالة المنكرات الفاشية ولا بد في ذلك من بذل الجهد، وإعمال الروية والفكر، وما علينا الآن في مثل هذه البلاد، إلا الحيلة في بذل النصح والإرشاد، بأي ضرب من ضروبه، وكل أسلوب من أساليبه.
10. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ وقرأ حمزة (ويقول)، قال محمد عبده: الذوق عبارة عن الشعور بالألم أو ضده فمعنى ذوقوا تألموا، أما كيفية القول فلا نبحث فيها وإنما نعلم أن الله تعالى يوصل هذا المعنى إليهم.
11. زعم بعض المستشرقين أن هذا الاستعمال لم يكن معروفا عند العرب قبل القرآن وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذه من التوراة، وهو زعم باطل وبمثله يستدلون على اقتباس النبي من كتبهم، فقد روي أن أبا سفيان قال لما رأى حمزة مقتولا: (ذق عقق) أي ذق عاقبة إسلامك أيها العاق لدين آبائك ولمن ثبت عليه من قومك فلم يدخلوا في الإسلام، نعم إن أصل الذوق وهو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام ثم توسعوا فيه فاستعملوه في غير ذلك من المحسوسات كقولهم: (ذقت القوس) إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها، وقولهم ذقت الرمح إذا غمزتها قال ابن مقبل:
çيهززن للمشي أوصالا منعمة...هز الشمال ضحى عيدان يبرينا
أو كاهتزاز رديني تذاوقه...أيدي التجار فزادوا متنه ليناé
كذا في لسان العرب، وفي الأساس (أيدي الكماة) بدل (أيدي التجار) وقال ابن الأعرابي: الذوق يكون بالفم وبغير الفم، ثم استعملوه في المعاني قال ابن طفيل:
çفذوقوا كما ذقنا غداة محجَّرِ...من الغيظ في أكبادنا والتحوُّبِé
ومن هذا القبيل استعماله في معرفة جيد الشعر وأحاسن الكلام، ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ معناه عذاب هو الحريق.
12. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك العذاب الذي تذوقون مرارته أو حرارته بسبب ما قدمتم في الدنيا من الأعمال، عبر عن الأشخاص بالأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، وليفيد أن ما عذبوا عليه هو من عملهم حقيقة لا مجازا، فإن نسبة الفعل إلى يد الفاعل تفيد من إلصاقه به ما لا تفيده نسبته إلى ضميره لأن الإسناد إلى اليد يمنع التجوز، فمن المعهود أن يقال: فلان فعل كذا إذا أمر به أو مكن العامل منه وإن لم يباشره بنفسه ومتى أسند إلى يده تعين أن يكون باشر فعله بنفسه، وإن لم يكن من عمل الأيدي ويدخل في قوله ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ جميع ما كان منهم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.
13. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي، ذلك العذاب إنما يصيبكم بعملكم وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله لا يجور ولا يظلم، فيعاقب غير المستحق للعقاب ولا يجعل المجرمين كالمتقين والكافرين كالمؤمنين، فلو كان سبحانه ظلاما لجاز أن لا يذوقوا ذلك العذاب على كفرهم به واستهزائهم بآياته وقتلهم لأنبيائه بأن يجعلوا مع المقربين في جنات النعيم وإذا لكان الدين عبثا: ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أن نجعل المتقين كالفجار﴾ [ص: 28] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21] ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35] فالاستفهام الإنكاري في هذه الآيات يدل على أن ترك تعذيب أولئك الكفرة الفجرة هو من المساواة بين المحسن والمسيء ووضع الشيء في غير موضعه وناهيك به ظلما كبيرا، فبهذا كله تعلم أن استشكال عطف نفي الظلم على جرائمهم في غير محله والمبالغة في صيغة) ظلام) لإفائدة أن ترك عقوبة مثلهم يعد ظلما كبيرا أو كثيرا، قال محمد عبده: يعني أن هذه العقوبة عدل منه سبحانه وأشار بصيغة المبالغة (ظلام) إلى أن مثل هذه التسوية لا تصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه، وقال غيره: إنه لما كان القليل من الظلم يعد كثيرا بالنسبة إلى رحمته الواسعة عبر في نفيه بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/262.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة، ولم يخف عليه، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء، وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء في نحو ـ سمع الله لمن حمده ـ ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى في نحو ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم في أقوالهم، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.
2. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه، وهذا استعمال شائع في اللغة، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي قتل سلفهم لهم، وإنما نسبه إليهم للإشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه، وهذا يدل على أن الأمم متكافلة في الأمور العامة، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهى عنه، لئلا يفشو فيها، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها، فتستحق العقوبة في الدنيا بالضيق والفقر، والعقوبة في الآخرة بتدنيس نفوسها، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه، ويستهجن ما تستهجنه ـ عدّ شريكا له في إثمه، ومستحقا لمثل عقوبته.
3. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة، ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، كما أذقتم أولياء الله في الدنيا ما يكرهون، والخلاصة ـ ذوقوا ما أنتم فيه، فلستم بمتخلصين منه، وهذا قول يلقى للتشفي الدالّ على كمال الغيظ والغضب ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته، بسبب أعمالكم في الدنيا كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان، وأضاف العمل إلى الأيدي، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.
4. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم، وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله، لا يجور ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين كما قال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وقال: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ وقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾
5. والخلاصة ـ إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشيء في غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/148.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يندد الله تعالى باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال ـ الذي آتاهم الله من فضله ـ فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله ـ وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة إقراضا له سبحانه ـ وقالوا في وقاحة: ما بال الله يطلب إلينا أن نقرضه من مالنا، ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة!؟ وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله.
2. سوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة، ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا.. ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ لنحاسبهم عليه، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل.. وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة ـ وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه ـ فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم.
3. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام.. وهم يزعمون أنهم قتلوه، متباهين بهذا الجرم العظيم..!
﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ والنص على ﴿الْحَرِيقِ﴾ هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه، ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه.. جزاء على الفعلة الشنيعة: قتل الأنبياء بغير حق، وجزاء على القولة الشنيعة: إن الله فقير ونحن أغنياء.
4. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ جزاء وفاقا، لا ظلم فيه، ولا قسوة: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، والتعبير بالعبيد هنا، إبراز لحقيقة وضعهم ـ وهم عبيد من العبيد ـ بالقياس إلى لله تعالى، وهو يزيد في شناعة الجرم، وفظاعة سوء الأدب، الذي يتجلى في قول العبيد: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/538.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في معرض البخل بالمال والحرص عليه، يمثّل اليهود أسوأ صورة، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان في هذا الباب، فالمال عند اليهود ـ كل يهودي ـ هو كل شيء، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شيء، وضاع منه أي شيء.. من دين أو خلق، لهذا، جاءت الآية الكريمة ـ بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل، والعقوبة التي أعدها الله لمرتكبيها ـ جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا في هذا الصنف المحسوب من الناس.. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب، ولم يضنوا عن الإنفاق منه في سبيل الحق والخير وحسب، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى الله به، وإعلان الحرب الوقاح عليه، فكانت قولتهم الآثمة تلك، التي حكاها القرآن عنهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ ـ كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم، في كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق في سبيل الله، وينادون في الناس بقول الله سبحانه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات الله تلك إلا (القرض) الذي يعرفونه، ويتعاملون به ربا فاحشا، يغتال أموال الناس، ويمتصّ ثمرة جهدهم.. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير، وإذ كان الله يطلب قرضا فهو فقير، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربويّ فهم أغنياء.. هكذا منطق المال عند اليهود.. حتى مع الله.
2. قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ وعيد لليهود، ونذير بالعذاب الشديد لهم.. إذ كان ما قالوه تجديفا على الله، ومحاربة له.. والله سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم.. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا.. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى في حسابنا وتقديرنا نحن.. أما علم الله وسمع الله، وما لله من صفات، فهي جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا.
3. قوله سبحانه: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾، هو مبالغة في تغليظ هذا الجرم وتهويله، فقد كتبه الله عليهم ووثّقه، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار، ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق، ومعادلة لها في جرمها وإثمها.
4. سؤال وإشكال: إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء، ولكنّ القتلة هم آباؤهم.. فكيف يكتب القتل عليهم، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟، والجواب: أن اليهود طبيعة واحدة، لا يختلف خلفهم عن سلفهم في شيء مما هم عليه من عناد، وكفر بآيات الله، ومكر بآلائه ونعمه.. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم، هم اليهود الذين خاطبهم داوود، وأيوب، ويوسف، وموسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وفيهم كل ما في آبائهم من عناد وكفر، وأنه لو جاءهم نبيّ لهمّوا بقتله، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه، فإضافة هذا الجرم إليهم ـ وهو قتل الأنبياء ـ هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة، فما مات هؤلاء الآباء، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم، بموتهم، بل هم أحياء في هؤلاء الأبناء، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد.
5. قوله وتعالى: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ هو الجزاء المقابل لقولهم ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، فهم قالوا ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ ونحن ـ أي الله ـ ﴿نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ﴾ فهو قول يقابل قولا.. وشتان بين قول الله وقولهم.. هم قالوا زورا وبهتانا، والله يقول حقّا وعدلا.. هم قالوا أصواتا ضائعة في الهواء، والله يقول نارا تلظّى، وعذابا سعيرا، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
6. قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ردّ عليهم، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم، أو استفظعوه.. فهذا العذاب قد صنعوه هم بأنفسهم لأنفسهم.. إنه صنعة أيديهم، فكيف ينكرونه، أو يردّونه؟.
7. في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ يجيء التعبير بظلام، في صيغة المبالغة هذه، للتشنيع عليهم، والتعريض بظلمهم الذي جاوز الحدود، في أكلهم أموال الناس بالباطل، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء، فهم ـ والأمر كذلك ـ ليسوا ظلمة وحسب، بل هم ظالمون لعباد الله ولأنفسهم، ولو جازاهم الله حسب ما يعاملون به الناس من ظلم غليظ لضاعف عقابهم، ولظلمهم كما يظلمون الناس، فكال لهم الكيل بأضعافه، ولكن الله لا يظلم الناس، وإنما يحزبهم السيئة بالسيئة، أو يعفو عنها إن شاء، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف ذلك لمن يشاء!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/658.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استئناف جملة ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لمناسبة ذكر البخل لأنّهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات، والذين قالوا ذلك هم اليهود، كما هو صريح آخر الآية في قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾، وقائل ذلك: قيل هو حييّ بن أخطب اليهودي، حبر اليهود، لمّا سمع قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245]
2. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ﴾ تهديد، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر، ولذلك قال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ﴾ المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى.
3. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾، والمراد بالكتابة إمّا كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات، وهذا بعيد، لأنّ وجود علامة الاستقبال يؤذّن بأنّ الكتابة أمر يحصل فيما بعد، فالظاهر أنّه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجازون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة، فعلى الأول يكون وعيدا وعلى الثاني يكون تهديدا.
4. قرأ الجمهور ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ﴾ بنون العظمة من (سنكتب) وبنصب اللام من (قتلهم) على أنّه مفعول (نكتب) و(نقول) بنون، وقرأه حمزة: سيكتب ـ بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية ـ مبنيّا للنائب لأنّ فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى، وبرفع اللام من (قتلهم) على أنه نائب الفاعل، (ويقول) بياء الغائب، والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: ﴿إِنَّ اللهُ﴾
5. عطف قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ زيادة في مذمّتهم بذكر مساوي أسلافهم، لأنّ الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ بل هم من أسلافهم، فذكر هنا ليدلّ على أنّ هذه شنشنة قديمة فيهم، وهي الاجتراء على الله ورسله، واتّحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذامّ التي تناط بالقبائل، قال الحجّاج في خطبته بعد يوم دير الجماجم يخاطب أهل العراق: ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمرتم الشرّ واستبطنتم الكفر إلى أن قال: ثمّ يوم الزاوية وما يوم الزاوية.. إلخ، مع أنّ فيهم من مات ومن طرأ بعد.
6. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ عطف أثر الكتب على الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح، ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا﴾ وهو أمر الله بأن يدخلوا النار، والذوق حقيقته إدراك الطّعوم، واستعمل هنا مجازا مرسلا في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون (ذوقوا) استعارة، وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ، وورد في القرآن كثيرا.
7. الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ للعذاب المشاهد يومئذ، وفيه تهويل للعذاب، والباء للسببية على أنّ هذا العذاب لعظم هوله ممّا يتساءل عن سببه، وعطف قوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ على مجرور الباء، ليكون لهذا العذاب سببان: ما قدّمته أيديهم، وعدل الله تعالى، فما قدّمت أيديهم أوجب حصول العذاب، وعدل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدّة حتّى لا يظنّوا أن في شدّته إفراطا عليهم في التعذيب.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/298.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد كان الشح في موضع الإنفاق يسرى إلى المسلمين من اليهود الذين كانوا يجاورونهم، ولذلك ذكر بعض شنائع اليهود لينفر المسلمون منهم، ولا يقلدوهم في خساستهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، لقد كان اليهود يحرضون المؤمنين على الشح وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى بطرق شتى، وكانوا يحاولون أن ينالوا من إيمان أهل الإيمان، فلما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحديد] أخذوا يتهكمون على القرآن، وعلى دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويصفون الله سبحانه بما لا يليق، وذلك ليوهنوا قلوب المؤمنين، ويشككوهم في دينهم، أو ليبعثوا فيهم روح الشح، ويروى في ذلك عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ جاءت اليهود إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد ربك فقير يسأل عباده القرض.
2. يظهر أن ذلك قد تكرر منهم، وتجرؤوا به على ذات الله سبحانه، أو اتجهوا إلى تكذيب ما في القرآن بالتهجم على ما اشتمل عليه في هذا المقام، ولقد بين سبحانه أنه عليم بقولهم علم من يسمع القول، ولذلك قال سبحانه: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ وفي هذا التعبير بيان أن الله تعالى مطّلع عليهم، ومراقب لهم مراقبة من يستمع إليهم، وفي ذلك من التهديد ما فيه، إذ إنه إشعار بأن ذا الجلال القوى القهار القادر على كل شيء والذى يملك الوجود ومن فيه وما فيه، مستمع لما يقال في شأنه، وما يتجرءون به عليه، كما يقول القائل لمن يجده يتجرأ على عظيم: إنه يسمع قولك ويعلم به، فارتقب عواقب ما تفعل، واستشعر الهيبة والمخافة والخشية: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [النحل]
3. وقد عقب سبحانه ذلك بنتائج تلك المراقبة، وصرح بالتهديد الشديد في قوله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ في هذا الكلام تهديد شديد لهم، وذلك لأن المعنى: سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا وتجرّئهم عليه سبحانه، وليس المراد مجرد الكتابة، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها، والجزاء من العذاب الأليم، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته، ولما تضمنته الكتابة من معنى العقاب الرادع الذي لا مناص منه عبر بالمضارع فقال سبحانه:
4. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ والتعبير ب ﴿مَا قَالُوا﴾ فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه.
5. قرن سبحانه ذلك القول الجريء بعمل جرىء من أسلافهم، وقد ارتضوه، فكان من الحق أن ينسب إليهم، وهو ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وذلك لإثبات جرأتهم في الشر، واستهانتهم بالحقائق الدينية، وشرههم إلى الفساد، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى بذلك فساد فعلهم بهذا القتل الشنيع، وفساد قولهم بذلك القول الفاسد الجريء على الله سبحانه وتعالى.
6. هنا تثار ثلاثة أمور نتكلم فيها بإيجاز:
أ. أولها: في قرن هاتين الجريمتين، وقد أشرنا إلى أنهما من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله سبحانه وتعالى، فالقديمة تجرؤ على رسالة الله، والثانية تجرؤ على ذات الله، وبذلك يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا.
ب. ثانيها: أن نسبة القتل إلى الحاضرين صحيحة لأنهم رضوا به، وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضى بجريمة فقد فعلها، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها من غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)
ج. ثالثها: أنه وصف قتلهم للنبيين بأنه بغير حق ـ مع أن هذا النوع من الإجرام لا يمكن أن يكون بحق أبدا، وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وعظم شرهم، وأنهم لا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه.
7. قلنا إن هذه الكتابة هي للعقاب، وقد قال سبحانه بعد ذلك مصرحا بالعقاب: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ الذوق هو الإحساس، وهو هنا الإحساس بالألم، والتأصل في الذوق أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، وهو هنا للألم، فالتعبير فيه تهكم عليهم، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق]، والحريق النار الملتهبة، وهذا الكلام فيه إيجاز حذف، إذ أن السياق تضمن حذف كلمات دل فيها ما ظهر على ما طوى، إذا المعنى سنكتب ما قالوا وما فعلوا ونلقيهم في جهنم وبئس المصير، ونخاطبهم وهم يصلون نارها بقولنا: ذوقوا عذاب تلك النار الملتهبة وآلامها، وذلك مثواهم.
8. وقد صرح سبحانه بالسبب في ذلك العذاب الأليم، وإن كان ما مضى دالا عليه فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي ذلك العذاب الشديد الأليم بسبب ما قدمت أيديكم وما تكلمتم به، والتعبير بـ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾ وتخصيص الأيدي بالذكر؛ للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولأن أكثر الشر يكون ببطش اليد، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به، والاتصال بذاته، وإذا كان ذلك العذاب لأجل هذا العمل، فهو لا ظلم فيه، وفوق ذلك فإنه لو أهمل حسابهم لكان الله ظلاما لعباده بتسوية المحسن بالمسيء، فكان العذاب لينفى عن ذات الله تعالى الظلم، وأبلغه وأقصاه بأن يتساوى المحسن والمسيء، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن ذاته الكريمة تلك التسمية، كما قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص]، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1528.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، لم تذكر الآية أسماء الذين نطقوا بهذا الكفر، ولكن المفسرين نقلوا ان الله حين أنزل على نبيه قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال يهود المدينة الذين كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (انما يستقرض الفقير من الأغنياء.. اذن، الله فقير، ونحن أغنياء).. وليس هذا بمستبعد على اليهود، بخاصة الاثرياء منهم، فان مبادئهم وأعمالهم تدل دلالة واضحة على هذه الروح الشريرة، واللامبالاة بالقيم والانسانية.. ومن تتبع تاريخهم يجد ان ما من بقعة من بقاع الأرض إلا وتركوا فيها أثرا من مفاسدهم ومقاصدهم الطاغية الباغية.. ولا شيء أصدق وأبلغ في تصوير حقيقة اليهود من قوله تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾
2. لست أشك إطلاقا في ان كل من يعترض على حكمة الله، ويقول بلسان المقال أو الحال: ما كان ينبغي لله أن يفعل كذا، وكان عليه أن يفعل كيت، لست أشك في ان هذا يلتقي من حيث يريد أو لا يريد، مع الذين قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾
3. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾، هذا تهديد ووعيد للذين قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لأن كتابة الذنب تستدعي العقوبة عليه، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ونكتب قتل أسلافهم للأنبياء، ونسب اليهم القتل مع ان القاتل أسلافهم، لأن الخلف راض بما فعل السلف.
4. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، وكيف يظلم وقد نهى عن الظلم، واعتبره أكبر الكبائر، وعبر عنه بالكفر في أكثر من آية؟ هذا، إلى ان الظالم انما يظلم لأنه مفتقر إلى الظلم، والله غني عن كل شيء، وبهذا الأصل، وهو غنى الله وعدم افتقاره إلى شيء نثبت عدله سبحانه، وأيضا نثبت انه ليس بجسم، لأن الجسم يفتقر إلى حيز.
5. بهذا يتبين معنا بطلان مذهب القائلين بأن الشر من الله، وانه يخلق المعصية في العبد، ثم يعاقبه عليها.. اللهم الا ان يبرروا مذهبهم بأنه جل وعز قال ان الله ليس بظلّام، ولم يقل ليس بظالم، ومعلوم ان ظلّام من أمثلة الكثرة والمبالغة.. وعليه فإن الله سبحانه نفى عنه كثرة الظلم والمبالغة فيه، لا أصل الظلم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/220.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات مرتبطة بما قبلها، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس وترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وتحذيرهم عن الوهن والفشل والبخل فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، وتقليبهم الأمر على المسلمين، وتكذيبهم آيات الرسالة، وكتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه، وهذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة والصبر والثبات، والتحريض على الإنفاق في سبيل الله.
2. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء وغير ذلك، وإنما قالوا ذلك:
أ. لما سمعوا أمثال قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، ويشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الآية.
ب. أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم فليس إلا فقيرا ونحن أغنياء.
3. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ الآية، المراد بالكتابة الحفظ والتثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، والمآل واحد، والمراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان والعمد دون السهو والخطإ والجهالة، وقد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما، وقوله: ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾، الحريق النار أو اللهب وقيل: هو بمعنى المحرق.
4. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ الآية، أي بما قدمتم أمامكم من العمل ونسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا، ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ عطف على قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾، وتعليل للكتابة والعذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال وفي ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/82.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لا أتصور أن يقولوا ذلك اعتقاداً، والأقرب: أنه استهزاء بأمر الله بالإنفاق في سبيله، أو بتسميتة قرضاً لله، كما روي كفراً وتمرداً وتكذيباً، ولزمهم حكمه وإن أخرجوه مخرج الإلزام، أي إن كان الله اقترض منا فهو فقير ونحن أغنياء لأن شرطه واقع فهو لازم لهم.
2. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ نثبته عليهم لا يلغى ولا يضيع ليجزوا به ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾
3. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ نكتبه عليهم لمشاركتهم فيه بالرضى بما فعل أوائلهم من قتل الأنبياء، ويظهر من هذا أن القائلين: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾ هم من اليهود، ويجوز أن يحمل الكتاب على الحقيقة ليوبخوا به، ولكن الأقرب هنا هو الأول؛ لأن قوله: ﴿سَنَكْتُبُ﴾ للمستقبل وكتابة الحفظة له فيما نتصور عند وقوعه وقد مضى، وهو الذي نفهمه من قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف:80]
4. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يفيد عظم جريمتهم بتصريحه بكونه بغير حق فهو ظلم عظيم؛ وهذه الآية والتي تأتي قريباً ـ إن شاء الله ـ من أوضح الأدلة على أن الرضى بالعمل مشاركة فيه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، واحتج له بقوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ [الشعراء:157] فالمشاركة في قتل الأنبياء إنما هي بالرضى به تعصباً لأسلافهم وتمرداً وعتواً ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ إهانة لهم ودلالة على قصد تعذيبهم ليذوقوه فهو غضب عليهم شديد.
5. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب ﴿بِمَا قَدَّمَتْ﴾ في الدنيا ﴿أَيْدِيكُمْ﴾ أي فعلتموه من الجرائم ونسبتة إلى أيديهم تحقيق لنسبته إليهم وإن كان بعضه قولاً باللسان وبعضه رضى بالقتل، كقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:75] وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ [يونس:71]
6. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد، فإن كانت (الباء) للمصاحبة فمعناها: أن عذابهم مقرون بجرائمهم اللازمة لهم في أعناقهم لا تنفك عنهم أبداً، وبعدل الله في تعذيبهم، وإن كانت للسببية ـ وهو أظهر ـ فمعناها: أن ذلك العذاب بسبب جرائمهم وبسبب أن الله ليس بظلام للعبيد، فلا يترك الظالم دون أن ينتصف منه للمظلوم فمن عدله الانتصاف لأنبيائه الذين قتلتموهم بغير حق، ولا يجوز منه ترك الإنصاف لأنه الذي مَكَّن الظالم من قتل المظلوم بل جزاءه شرط في حسن التمكين وتركه ظلم لا يكون من الله ـ جلّ جلاله ـ لأنه ليس بظلام للعبيد؛ واستعمال صيغة التكثير لكثرة الظلم المنفي من حيث كثرة العبيد الذين يقع منهم ما يوجب عليهم الانتقام.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/586.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه بعض النماذج البشرية في ملامحها الذاتية من خلال كلماتها، وهي نماذج الأغنياء الذين يعيشون المال كقيمة حياتية يرتفعون بها في ميزان أنفسهم، فهم يعانون الضعف النفسي أمام قصة الغنى والفقر، ويحسون بالانسحاق الروحي إزاء المال وبذلك تتحول نظرتهم إلى الأشياء والأشخاص تبعا لمواقعها ومواقعهم من حركة المال في الحياة، لأنهم لا يرون الحياة إلّا من خلاله، فيقفون عنده ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه من آفاق وعقائد.
2. تتعاظم هذه العقدة ـ النظرة لدى هذه النماذج فيحوّلونها إلى مواقف وكلمات لا توحي لسامعها إلا بالسخريّة، وهذا ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ فقد واجهوا الأنبياء الدّاعين إلى الله، ورأوا أنهم لا يملكون المال؛ فخيّل إليهم أن فقرهم يدلّ على أن الله فقير، لأنه لو كان غنيا لتمثل غناه في غنى الذين يؤمنون به ويدعون إليه.. أمّا هم، فإنهم الأغنياء الذين يملكون المال الكثير، الذي يستطيعون من خلاله أن يملكوا السلطة والسيطرة والقوّة، وفي ذلك الجو، لا يبقى هناك مجال لأن يسيروا مع الأنبياء، إذ كيف يخضع الغنيّ للفقير في عالم تتحرك فيه القيم من خلال الغنى والفقر، لأن الفقر يعني الضعف على أساس الحاجة، بينما يعني الغنى القوّة على أساس عدم الحاجة، وهذا هو التفسير الذي يفسرون به دعوة الله لهم للعطاء، فإنها توحي بحاجته إليهم من أجل أن يعينوا عباده، مما يوحي لهم بالشعور بالفوقية التي تمنعهم من الإيمان، وذلك هو أعلى مظاهر الطغيان والتجبر.
3. أثار القرآن الفكرة في أسلوب لا يعمل على مناقشتها كونها الفكرة التي لا تثبت أمام الوهم فضلا عن الفكر، بل أطلق الأسلوب في مجال التهديد، فقد سمع الله قولهم وسيكتب ما قالوا ليواجههم به يوم القيامة ويعاقبهم عليه.
4. ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ فذلك هو الأسلوب الطبيعي الذي يقابل هذا المنطق، لأنه لم ينطلق من قناعة ليقابل بقناعة أخرى، ولم يتحرك من حجّة ليواجه بحجّة أخرى، بل هو ناشئ عن عقدة كبرياء وطغيان، والله لا يسمح للمتجبرين والطغاة أن يأخذوا حريتهم بالحوار، لأنهم لا يفهمون كلمة الحق ولا يريدون أن يفهموها، فقد اختاروا الباطل على أساس موقف لا على أساس علم وفكر؛ فلا بد من مخاطبتهم باللغة التي يفهمونها وهي القوة التي كانوا يخاطبون بها الناس، وذلك من أجل تحطيم كبريائهم وإضعاف زهو القوّة في نفوسهم.
5. ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وهذا دليل على أنهم لا يعيشون مسئولية الكلمة التي يسمعونها ليفكروا بها ويعملوا على أساسها، فقد واجههم هؤلاء الأنبياء بالحقيقة، وبلّغوهم كل ما يتعلق بها ويدعو إليها من آيات الله، وفتحوا أمامهم أبواب الحوار، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك كله، فلم يحاولوا سماع الكلمات الإلهية فضلا عن مناقشتها، بل واجهوهم بالقتل، كما هو أسلوب الطغاة الذين يملكون المال والقوّة والسلطة، فينطلقون منها لإسكات كل أصوات المعارضة بالقوّة، ولا يسمحون لها بالدخول في حوار جدّي معهم ومع بقيّة فئات الأمّة من أجل الوصول إلى القناعات من خلال الحوار، وهكذا يلتقي الأسلوب القديم لطغاة المال والسلطة، بالأسلوب الجديد لأمثالهم، في مواجهة الرسالات بالقوّة، سواء كان الذين يحملونها أنبياء أو كانوا من حملة رسالتهم، لأن القضية ليست موجّهة إلى الشخص لتكون له خصوصيته الذاتية، بل هي موجّهة إلى الفكرة والرسالة.
6. هكذا يجب أن نقرأ هذه الآية، فهي ليست حديثا من أحاديث الماضي، بل هي حديث من أحاديث الحياة التي ينطلق فيها الماضي ليلتقي بالحاضر والمستقبل في كل التحديات التي يواجه فيها الإيمان الكفر، فإن العقلية التي عاشت في الماضي هي العقليّة التي تعيش الآن، وبذلك يجب أن يكون الأسلوب هو الأسلوب والردّ هو الردّ.
7. ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ فليس هناك إلا العذاب المحرق المؤلم، فقد قامت الحجة عليهم واستنفدت كل الوسائل.
8. ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ من خطايا وجرائم وطغيان، فإن الإنسان الذي يقف في خط الانحراف والتمرد على الله في كل أعماله وأقواله وعلاقاته وأوضاعه، لا بد من أن يواجه نتائج كل ذلك عقابا وعذابا من خلال ارتباط نتائج المسؤولية بمقدماتها، فهم قد اختاروها بإرادتهم باختيار أسبابها، فقد حذرهم الله من ذلك كله، وأنذرهم عذابه إذا خالفوا أوامره ونواهيه؛ ولم يخافوا مقام ربهم، وها هم يواجهون الموقف من موقع قانون العدالة الإلهية، فإنه جعل لهم حرية الاختيار، وأراد لهم اختيار خط الاستقامة، فكانت النتائج السلبية من صنع أيديهم، وقد لا تقتصر على ذلك بالنتائج السلبية في الآخرة، بل تتصل ـ إلى جانب ذلك ـ بالنتائج السلبية في الدنيا، لأن لكل عمل آثاره السلبية في حياة الناس الذين يعملونه، وقد أشار القرآن إلى ذلك في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، وقد جاء في حديث الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة أنّه قال: (وأيم الله ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام للعبيد)
9. ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فهو الحكم العدل الذي لا يظلم أحدا، لأنه القويّ الذي لا يحتاج إلى الظلم، إذ لا يحتاج إليه إلا الضعيف، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/418.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار.
2. ثمّ يقول سبحانه: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه، ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء (الطاقة ـ المادة)، بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.
3. ثمّ يقول: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء، يعني أن مجابهة اليهود، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد، فليست هذه هي المرّة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل، فإن لهم في هذا المجال باعا طويلا في التاريخ، وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي، فإن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.
4. سؤال وإشكال: يمكن أن يقال في هذا المقام: إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية، فلما ذا حمل وزرها عليهم؟ والجواب: هذه النسبة إنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسئوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.
5. تسجيل وكتابة أعمالهم لم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس، ولقد نقل عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة أنّه قال: وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد)
6. هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين، وتعمم ـ من جهة أخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية، فتكون جميعا مطابقة للعدالة، وتوضيح ذلك: أنها تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، وتصرّح من جانب آخر بأن ﴿اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وإنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإلهي، وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة)، غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة (وهم الذين يسمّون بالأشاعرة) لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون: إنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا، ولو أدخلهم النّار لم يكن جورا.. فلا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إليه جور، والآية الكريمة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، على أنّ لفظة (ظلام) صيغة مبالغة، وتعني من يظلم كثيرا، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا، لأجل أنّه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما صغيرا فحسب، بل كان (ظلاما)
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/25.
99. المفترون والقربان والعهود الكاذبة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈99⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [آل عمران: 183 ـ 184]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله تعالى، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فينزل الله نارا فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجدا، فيوصي الله تعالى إليه بما شاء(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ يتصدق الرجل منا، فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء، فأكلته(1).
2. روي أنّه قال: أتت اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أنزل الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥]، فقالوا: يا محمد، أفقير ربنا يسأل عباده القرض!؟ فأنزل الله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣١.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ الآية، هم اليهود، قالوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أتيتنا بقربان تأكله النار صدقناك، وإلا فلست بنبي(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾، أي: جاءتكم بالقربان الذي تأكله النار(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فلم كذبتموهم وقتلتموهم إن كنتم صادقين(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعزي نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٥١٩.
(2) ابن جرير: ٦/٢٨٧.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الرجل يشترك في دم الرجل، ولقد قتل قبل أن يولد، ثم قرأ الشعبي: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ فجعلهم هم الذين قتلوهم، ولقد قتلوا قبل أن يولدوا بسبعمائة عام، ولكن قالوا: قتلوا بحق وسنة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لأنهم رضوا عملهم(2).
__________
(1) عَبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره: ص٦٣.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: وكان الرجل إذا تصدق بصدقة، فتقبلت منه، أنزلت عليها نار، فأكلتها(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زَمنين: ١/٣٣٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ كذبوا على الله(1).
2. روي أنّه قال: أمر الله نبيه بالصبر وعزاه، وأعلمه أن الرسل قد لقيت في جنب الله أذى(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٠.
(2) تفسير ابن أبي زَمنين: ١/٣٣٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ معناه أمرنا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالزُّبُرِ﴾ كتب الأنبياء(1).
2. روي أنّه قال: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما، فإنهما يأتيان بغير قربان(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٢.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: نزلت: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أتزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن برسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
__________
(1) أورده الواحدي في أسباب النزول: ص١٣٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قول الله: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: (وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا، ولكن فقد كان هواهم مع الذين قتلوا، فسماهم الله تعالى قاتلين لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل(1).
2. روي أنّه قال: (لعن الله القدرية، لعن الله الحرورية، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة)، قيل له: جعلت فداك، كيف لعنت هؤلاء مرة، ولعنت هؤلاء مرتين؟ فقال: إن هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا كانوا مؤمنين، فثيابهم ملطخة بدمائنا إلى يوم القيامة، أما تسمع لقول الله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿صَادِقِينَ﴾؟ ـ قال ـ: فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول، وبين القاتلين خمس مائة سنة، فسماهم الله قاتلين برضاهم بما صنع أولئك(1).
3. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وقد علم أنهم قالوا: والله ما قتلنا ولا شهدنا ـ قال ـ: وإنما قيل لهم: ابرؤوا من قتلتهم، فأبوا(2).
4. روي أنّه قال: لبعض أصحابه: (تنزل الكوفة)؟ قال نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهركم؟)، قال جعلت فداك ما رأيت منهم أحدا! قال: فإذن أنت لا ترى القاتل إلا من قتل، أو من ولي القتل، ألم تسمع إلى قول الله: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فأي رسول قتل الذين كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى عليهما السلام رسول!؟ إنما رضوا قتل أولئك فسموا قاتلين(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/208.
(2) تفسير العيّاشي: 1/209.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبر عن اليهود حين دعوا إلى الإيمان، فقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾(1).
2. روي أنّه قال: فقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يعني: التبيين بالآيات، ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ من أمر القربان(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ فلم قتلتم أنبياء الله من قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بما تقولون(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يا محمد، يعزي نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ليصبر على تكذيبهم، فلست بأول رسول كذب، فذلك قوله سبحانه: ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾(1).
5. روي أنّه قال: ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾، يعني: بالآيات(1).
6. روي أنّه قال: ﴿وَالزُّبُرِ﴾، يعني: بحديث ما كان قبلهم والمواعظ(1).
7. روي أنّه قال: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾، يعني: المضيء البين الذي فيه أمره ونهيه(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣١٩.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ القربان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ يعيرهم بكفرهم قبل اليوم(1).
3. روي أنّه قال: كان من قبلنا من الأمم يقرب أحدهم القربان، فيخرج الناس فينظرون، أيتقبل منهم أم لا؟ فإن تقبل منهم جاءت نار بيضاء من السماء فأكلت ما قرب، وإن لم يقبل لم تأت تلك النار، فعرف الناس أن لم يتقبل منهم، وإن لم يكن كل القوم يتقرب مخافة أن لا يتقبل منه، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم سأله أهل الكتاب أن يأتيهم بقربان(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٥١٨.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾، هذا قول أهل الكتاب، كذبوا فيه على الله عز وجل، وقالوا زورا وبهتانا عظيما؛ فأكذبهم الله سبحانه في آخر الآية، فقال لنبيه: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم: إن الله عهد إليكم فيما سألتم؛ فلم قتلتم من جاءكم بالبينات وبالقربان الذي طلبتم!؟ فأوقفهم الله سبحانه على كذبهم، وقرعهم بما كان من فعلهم.
2. سؤال وإشكال: ما القربان؟.. والجواب: هو: شيء كان يقربه الأولون، من طريق البر والطاعة لله سبحانه، مثل: الكباش وغيرها من الأطعمات، فتخرج نار، فتأخذ قربان أزكاهم عملا، وأقربهم عند الله عز وجل محلا، وتدع ما ليس بزكي، ولا مقربة بمؤمن رضي، كما فعل أبناء آدم في قربانهما، فتقبل الله من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، وقد قيل: إن الكبش الذي فدى الله به إسماعيل هو: قربان ابن آدم؛ أنزله الله على إبراهيم صلى الله عليه، والله أعلم كيف كان ذلك، فسبحانه العادل في حكمه، المنصف لخلقه، المتعطف عليهم، المنعم بالإحسان إليهم؛ ولكن الخلق في فعلهم كما ذكر عنهم حين يقول: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/198.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ﴾:
أ. قيل: إنهم لما دعوا إلى الإسلام ـ يعنى: اليهود ـ قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾، وكان ذلك آية في بنى إسرائيل؛ فسأل اليهود من [نبينا] محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك.
ب. وقيل: كان من قبلنا، في الأمم الخالية ذلك؛ فسألوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، ولكن لم يكن القربان من آيات النبوة والرسالة إن كان؛ فهو من آيات التقوي؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27] كان القربان من آيات التقوي؛ ألا ترى أنه قال: يا محمد ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ يعنى: القربان.
2. ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: إن كان ذلك من آيات النبوة، لم قتلتم الأنبياء الذين أتوا به!؟ أو لم قتل أوائلكم الأنبياء؛ إذ أتوا بالقربان، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾:
أ. أنه من آيات النبوة.
ب. أو ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنه عهد إليكم ألا تؤمنوا به حتى يأتي بقربان.
3. في قوله عزّ وجل أيضا ـ: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ـ فهو، والله أعلم، ادّعوا أن أوائلهم ادّعوا الذي ذكروا من العهد، وهم تبعوا أولئك، فعرّفهم صنع من بدعواهم احتجوا؛ ليكون لهم فيه آية، أما تكذيبهم بما احتجوا بوصية المتقدمين في ذلك، فبطل عذرهم؛ إذ هم قتلوهم؛ فلا يجوز تصديقهم على العهد الذي ادعوا وذلك صنيعهم، أو يقروا أنهم أخبروا بالعهد من غير أن كان كذبا وباطلا؛ فبطل حجاجهم، على أن في الآية: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، فجعل ذلك آية التّقى لا آية النبوة، والأصل فيه: أنا لما عرفنا آيات الرسل ـ عليهم السلام ـ لا يذكر فيها القرابين؛ ثبت أن هذا الذي ادعوا ليس هو بعهد جاء به الرسل ـ عليهم السلام ـ ولكنه حيل السفهاء بتلقين الشياطين ووحيهم؛ لذلك لم يجب الذي ذكروا.
4. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يا محمد في القول، وما جئت من آيات تدل وتوضّح أنك رسول الله، وأنك صادق في قولك، ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ﴾ يعزي نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ويصبّره؛ ليصبر على أذاهم وتكذيبهم إياه؛ كما صبر أولئك على أذاهم وتكذيبهم؛ كقوله عزّ وجل: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ الآية [الأحقاف: 35]
5. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن يصبّره على ذلك بما له فيه أجر أن صبروا، على عظم ذلك عليهم؛ وذلك قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾
ب. الثاني: على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ؛ فإن ذلك لم يمنع من تقدمه.
ج. الثالث: على الأنبياء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب، لا أن يكذبوا من محنة وظهور؛ فذلك أقل للتأذي، ولتوهم الارتياب في الأنبياء؛ ليستيقن من حضره، وصدقه ـ أن ذلك منهم على الاعتناد والتقليد دون المحنة والظهور
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالزُّبُرِ﴾:
أ. قيل: أحاديث الأنبياء ـ عليهم السلام ـ من قبلهم بالنبوة على ما يكون.
ب. وقيل: الزبر: هي الكتب، أي: جاؤوا بالبينات والزبر، يعني: الكتب.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾
أ. قيل: الزبر والكتاب واحد.
ب. وقيل: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ هو الذي فيه الحلال والحرام، والأحكام المكتوبة عليهم.
8. المنير: هو الذي أنار قلب كل من تمسّك بالهدى؛ كما قيل في الفرقان أنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل، وتسمي كتب الله كلها فرقانا ومنيرا؛ بما تفرق بين الحق والباطل، وتبين السبيلين جميعا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/550.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المعني بقوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ هم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾، ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾، والذين في موضع خفض رداً على قوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾
2. معنى قولهم: ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أي أوصانا في كتبه، وعلى ألسن أنبيائه ألا نصدق لرسول فيما يقوله: من أنه جاء به من عند الله من أمر ونهي، وغير ذلك، فالعهد: العقد الذي يتقدم به للتوثق، وهو كالوصية.
3. ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ معناه حتى يجيئنا بما يقرب به العبد إلى الله من صدقة وبر، وقربان مصدر على وزن عدوان، وخسران تقول قربت قرباناً.
4. ﴿تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ فلأن أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلا على قبول الله له، ودلالة على صدق المقرب فيما أدعى أنه حق فيما نوزع فيه ـ في قول ابن عباس، والضحاك ـ، فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم قل لهم يا معشر من يزعم أن الله عهد إليه ألا يؤمن لرسول حتى يأتيه بقربان تأكله النار، قل: قد جاءكم رسل من الله من قبل، المعنى جاء أسلافكم بالبينات يعني بالحجج الدالة على صدق نبوتهم، وحقيقة قولهم: وقد ادعيتم أنه يدل على تصديق من أتى به والإقرار بنبوته من أكل النار قربانه، فلم قتلتموه إن كنتم صادقين؟ يعني قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذين جاءوكم به من ذلك حجة لهم عليكم إن كنتم صادقين فيما عهد إليكم مما ادعيتموه وأضاف القتل إليهم وإن كان أسلافهم تولوه لأنهم رضوا بأفعالهم فنسب ذلك إليهم كما بيناه فيما تقدم في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ فأراد الله أن يعلم المؤمنين ان هؤلاء معاندون متعنتون، وإلا فهم عالمون بصفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ذكره الله تعالى في التوراة وانه صادق فيما يدعيه، وإنما لم ينزل الله ما طلبوه لأن المعجزات تابعة للمصالح وليست على الاقتراحات والتعنت.
5. سؤال وإشكال: هلا قطع الله عذرهم بالذي سألوا من القربان الذي تأكله النار؟ والجواب: لا يجب ذلك لأن ذلك اقتراح في الأدلة على الله والذي يلزم من ذلك أن يزيح علتهم بنصب الادلة على ما دعاهم إلى معرفته.
6. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ قرأ ابن عامر وحده وبالزبر وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، الباقون بحذف الباء، فمن حذف فلأن واو العطف أغنت عن تكرار العامل ومن أثبتها فإنما كرر العامل تأكيداً، وكلاهما جيدان.
7. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ هذه الآية فيها تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما كان يصيبه من الأذى من اليهود وأهل الشرك بتكذيبهم إياه بأن قال فقد كذب أسلافهم من رسل الله من جاءهم بالبينات والحجج القاطعة، والأدلة الواضحة.
8. الزبر: جمع زبور وهو البينات وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور، ومنه قول امرئ القيس:
çلمن طلل أبصرته فشجاني...كخط زبور في عسيب يمانé
ويقال زبرت الكتاب إذا كتبته، فهو مزبور وزبرت الرجل أزبره: إذا زجرته والزبرة: القطعة العظيمة من الحديد، ومنه قوله: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ والزبير: الحماة، والزبرة مجتمع الشعر على كتف الأسد، وزبرت البئر إذا أحكمت طيها بالحجارة، فهو مزبور وما لفلان زبر أي عقل.
9. الكتاب: المراد به التوراة والإنجيل، لأن اليهود كذبت عيسى، وما جاء به من الإنجيل وحرفت ما جاء به موسى من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبدلت عهده إليهم فيه، والنصارى أيضاً جحدت ما في الإنجيل من نعته وغيرت ما أمرهم فيه به.
10. المنير: معناه الذي ينير، فينير الحق لمن اشتبه عليه، وهو حجة له، وإنما هو من النور، والاضاءة يقال: قد أنار لك هذا الأمر بمعنى أضاء لك وينير انارة فهو منير، وهذا قول الحسن وابن جريج والضحاك، وأكثر المفسرين.
11. سؤال وإشكال: لم جمع بين الزبر والكتاب ومعناهما واحد؟ والجواب: لأن أصلهما مختلف، فهو زبور لما فيه من الزجر عن خلاف الحق، وهو كتاب، لأنه ضم الحروف بعضها إلى بعض، وسمي زبور داوود لكثرة ما فيه من المواعظ والزواجر.
12. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وهم وان لم يكذبوه أيضاً، فقد كذب رسل من قبله؟ والجواب: لأن المعنى فقد جروا على عادة من قبلهم في تكذيب أنبيائهم إلا أنه ورد على وجه الإيجاز كما تقول: إن أحسنت إليّ فقد طالما أحسنت.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/68.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. عهد: يقال: عهد إليه: أوصى، وعهد: أمر، والقربان: كل بر يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وهو فعلان من القربة كالسكران والكفران من السكر والكفر، وفُعْلان قد يكون اسمًا كالبرهان وقد يكون مصدرًا كالعُدْوان.
ب. القربان: مصدر، تقول: قربت قربانًا كالشكران والكفران والخسران والرجحان ثم يسمى به نفس المتقرب به وإنما هو التقرب.
ج. الزُّبُرُ: الكتب واحدها زبور، قال امرؤ القيس:
çلِمَنْ طَلَل أَبْصَرْتُهُ فَشَجَاني... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِيé
وأصل الزبور الزجر، يقال: زبرت الرجل أزبره زبرًا أي زجرته، وسمي الكتاب زبورا لما فيه من الزجر عن خلاف الحق، ومنه: زبور داود، لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ، وكتاب مزبور أي مكتوب.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾:
أ. قيل: نزلت الآية في جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب قالوا: يا محمد إن الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وإن زعمت أن الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي.
ب. وقال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتي بقربان تأكله النار، حتى يأتيكم المسيح ومحمد صلى الله عليهما، فإذا أتياكم فآمنوا فإنما يأتيان بغير قربان.
3. ذكر الله تعالى من أقاويلهم ما يكون حجة عليهم فقال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾:
أ. قيل: أمرنا.
ب. وقيل: أوصانا في كتبه.
4. ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ أي لا نصدق رسولاً ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾:
أ. قيل: ينزل.
ب. قيل: نزلت نار من السماء فأكلته عن ابن عباس والضحاك، وقال أبو علي: كان ذلك علامة، يذبحون شاة أو بقرة فتنزل نار من السماء فتأكل ما للمحق وتدع ما للمبطل.
ج. وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: حتى تأتينا بنار تأكل القربان.
5. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ اليهود ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ وهم رسل بني إسرائيل ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج وبالمعجزات ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ من قربان تأكله النار.
6. إنما خاطب بذلك من كان على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم يجرون مجرى أسلافهم لرضاهم بمذاهبهم واقتدائهم بهم ولزومهم طريقتهم، فمجيء الرسل إلى أسلافهم كمجيئهم إليهم، وتكذيب أسلافهم كتكذيبهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾:
أ. قيل: أراد زكريا ويحيى.
ب. وقيل: جميع من قتلوه من الأنبياء.
8. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني إن صدقتم أن الله عهد إليكم أن تصدقوا من جاء بقربان تأكله النار فلم قتلتم من جاء به!؟ احتج عليهم بأنه قد جاءهم ما سألوه ولم يؤمنوا، كما لم يؤمنوا بك، وإنما لم يأتهم ما اقترحوا لعلمه تعالى بأنه مفسدة لهم.
9. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾:
أ. قيل: تعزية وتسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الحسن والضحاك وابن جريج.
ب. وقيل: أمره أن يصبر كما صبر أولئك الرسل فإن العاقبة له كما كانت لهم.
10. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾:
أ. قيل: كذبوك في هذا الخبر أنهم قتلوا من جاءهم بالقربان عن الأصم.
ب. وقيل: كذبوك بالنبوة عن جل المفسرين.
11. ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ﴾ أي إن كذبوك مع هذه المعجزات فلا يحزنك ذلك؛ فإنهم جروا على عادة من قبلهم من أسلافهم فإنهم كذبوا رسلاً ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كنوح وهود وصالح وغيرهم.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾:
أ. قيل: ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج ﴿وَالزُّبُرِ﴾ أي الكتب ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ المضيء، وسمي منيرًا من النور؛ لأنه به تظهر أمور الدين، وإنما جمع بين الزبر والكتاب وإن كان معناهما واحدًا؛ لأن أصلهما مختلف، فهو زبور لما فيه من الزواجر، وكتاب لأنه مكتوب.
ب. قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذو حكمة.
ج. وقيل: البينات: المعجزات، والزبر الزواجر، والكتاب المنير: الهادي إلى الحق.
د. وقيل: الزبر: أحاديث من كان قبلكم عن عكرمة ومقاتل والواقدي.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. صحة الحجاج في الدين؛ لأنهم لما أتوا بما حكى عنهم وجعلوه شبهة في ترك التصديق أجابهم الله تعالى بالقاطع من إلزامهم المناقضة.
ب. أن ما اقترحوا كانت مفسدة وإلا كان يأتيهم به، فإن آيات الأنبياء تتبع المصالح دون اقتراح الأمم.
ج. أن تكذيبهم وقتلهم للأنبياء فعلُهم؛ لذلك ذمهم به وعاقبهم عليه، ولو كان خلقًا له تعالى لما صح، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
14. قراءات ووجوه:
15. قراءة العامة: القُرْبان بسكون الراء، وعن عيسى بن عمر أنه كان يضم الراء لضمة القاف كظلمة وظلمات، وحجرة وحجرات، والأول كالسلطان والبرهان والعدوان والخسران.
16. قرأ ابن عامر ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ بزيادة باء وهي كذلك في مصاحف الشام كما في فاطر، وفي مصاحف الحجاز والعراق بغير باء وهي قراءتهم.
17. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ محل ﴿الَّذِينَ﴾ يجر بالرد على ﴿الَّذِينَ﴾ الأول على تقدير: وسمع قول الَّذِينَ قالوا: إن الله عهد إلينا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/483.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القربان: مصدر على وزن عدوان وخسران، تقول؟ قربت قربانا، وقد يكون اسما كالبرهان والسلطان: وهو كل بر يتقرب به العبد إلى الله.
ب. الزبر: جمع زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور، قال امرؤ القيس:
çلمن طلل أبصرته فشجاني... كخط زبور في في عسيب يمانé
تقول: زبرت الكتاب: إذا كتبته، وزبرت الرجل: إذا زجرته، والزبرة: مجتمع الشعر على كتف الأسد، وزبرت البئر: إذا أحكمت طيها بالحجارة، فهي مزبورة، والزبر: العقل، وإنما جمع بين الزبر والكتاب، ومعناهما واحد، لأن أصلهما يختلف فهو كتاب بضم حروف بعضها إلى بعض، وزبور: لما فيه من الزجر على خلاف الحق، وإنما سمي كتاب داود زبورا، لكثرة ما فيه من المواعظ والزواجر.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾:
أ. قيل: نزلت الآية في جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهودا، وفنحاص بن عازورا، قالوا: يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إن الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن الله بعثك إلينا، فجئنا به نصدقك، فأنزل الله هذه الآية، عن الكلبي.
ب. وقيل: إن الله أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي، فلا تصدقوه، حتى يأتي بقربان تأكله النار، حتى يأتيكم عيسى ومحمد.
فإذا أتياكم فآمنوا بهما بغير قربان.
3. ذكر الله تعالى قولهم الآخر فقال: ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ لنبيهم ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾:
أ. قيل: أي أمرنا.
ب. وقيل: أوصانا في كتبه، وعلى ألسن رسله.
4. ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ أي: لا نصدق رسولا فيما يقول من أنه جاء به من عند الله تعالى ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ﴾ أي: حتى يجيئنا بما يتقرب به إلى الله من صدقة أو بر، تتقبل منه، ﴿تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ بيان لعلامة التقبل، فإنه كان علامة قبول قربانهم أن تنزل النار من السماء فتأكله، وكان يكون ذلك دلالة على صدق المقرب فيما ادعاه، عن ابن عباس.
5. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء اليهود ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ يعني جاء أسلافكم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالحجج الدالة على صدقهم، وصحة رسالتهم، وحقيقة قولهم كما كنتم تقترحون، وتطلبون منهم ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ معناه وبالقربان الذي قلتم، ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ أراد بذلك زكريا ويحيى، وجميع من قتلهم اليهود من الأنبياء، يعني لم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاؤوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما عهد إليكم مما ادعيتموه، وهذا تكذيب لهم في قولهم، ودلالة على عنادهم، وعلى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لو أتاهم بالقربان المتقبل كما أرادوه، لم يؤمنوا به، كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء الذين أتوا به وبغير من المعجزات.
6. إنما لم يقطع الله عذرهم بما سألوه من القربان الذي تأكله النار، لعلمه تعالى بأن في الإتيان به مفسدة لهم، والمعجزات تابعة للمصالح، ولأن ذلك اقتراح في الأدلة على الله، والذي يلزم في ذلك أن يزيح علتهم بنصب الأدلة فقط.
7. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تكذيب الكفار إياه، وذلك بأنه تعالى أخبر بأنه ليس بأول مكذب من الرسل، بل كذب قبله رسل جاؤوا ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالمعجزات الباهرات ﴿وَالزُّبُرِ﴾ أي: الكتب التي فيها الحكم والزواجر ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ قيل: المراد به التوراة والإنجيل، لأن اليهود كذبت عيسى وما جاء به من الإنجيل، وحرفت ما جاء به موسى من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبدلت عهده إليهم فيه، والنصارى أيضا جحدت ما في الإنجيل من نعته، وغيرت ما أمرهم به فيه، والمنير:
أ. قيل: الذي ينير الحق لمن اشتبه عليه.
ب. وقيل: المنير الهادي إلى الحق.
8. قرأ ابن عامر وحده ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ بالباء، وكذلك هي في مصاحف الشام، كما في فاطر، والباقون بغير باء.. من حذف فلأن واو العطف أغنت عن تكرار العامل، ومن أثبتها فإنما كرر العامل تأكيدا، وكلاهما حسن.
9. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ محله جر ردا على الذين قالوا إن الله فقير على تقدير: وسمع قول الذين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/901.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾، قال ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّيف، وحييّ بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: إنّ الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التّوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدّق رسولا يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النّار.
2. القربان: قال ابن قتيبة: والقربان: ما تقرّب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره، وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدّمين، وكان نزول النّار علامة القبول، قال ابن عباس: كان الرجل يتصدّق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء فأكلته، وكانت نارا لها دويّ، وحفيف، وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبيّ في البيت، ويناجي ربّه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخرّ النبيّ ساجدا، فيوحي الله إليه ما يشاء.
3. قال ابن عباس: قل يا محمّد لليهود ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالآيات، ﴿وَبِالَّذِي﴾ سألتم من القربان.
4. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ معناه: لست بأوّل رسول كذّب، قال أبو عليّ: وقرأ ابن عامر وحده (بالبيّنات وبالزّبر) بزيادة باء، وكذلك في مصاحف أهل الشّام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أنّ الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء.
5. ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ قال أبو سليمان: يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج.
__________
(1) زاد المسير: 1/355.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ ذكر للشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتقريرها أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء، فهذا بيان وجه النظم(2).
2. للعلماء فيما ادعاه اليهود قولان:
أ. الأول وهو قول السدي: أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط، وذلك أنه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام، فإنهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان تأكله النار، قال وكانت هذه العادة باقية إلى مبعث المسيح عليه السلام، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت.
ب. الثاني: إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة، ويدل عليه وجوه:
• أحدها: أنه لو كان ذلك حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان.
• ثانيها: أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر.
• ثالثها: أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار، أو شيء آخر:
● والأول باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن الإتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة.
● وأما الثاني: فإنه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم.
3. في محل ﴿الَّذِينَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: قال الزجاج: الجر، وهذا نعت العبيد، والتقدير: وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا.
ب. ثانيها: أن التقدير: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير، وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا.
ج. ثالثها: أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير: هم الذين قالوا ذلك.
4. القربان: قال الواحدي: القربان البر الذي يتقرب به إلى الله، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا، كالكفران والرجحان والخسران، ثم سمى به نفس المتقرب به، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لكعب بن عجرة: (يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان)، أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه.
أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة فقال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، حيث بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد، بل على سبيل التعنت، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام، وهم أظهروا هذا المعجز، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكريا ويحيى، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت، إذ لو لم يكون كذلك لما سعوا في قتلهم، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم متعنتين، وإذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة.
5. إنما قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه، والمراد بقوله: ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ هو ما طلبوه منه، وهو القربان الذي تأكله النار.
6. لم يقل الله تعالى: قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم، بل قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ والفائدة: أن القوم قالوا: إن الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار، فلو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لهم: إن الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم، لاحتمال أن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الإلزام واردا، أما لما قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ كان الإلزام واردا، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق، ولما أتوا بهذا القربان فقد أتوا بالشرط، وعند الإتيان بهما كان الإقرار بالنبوة واجباً، فثبت أنه لولا قوله: ﴿جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ لم يكن الإلزام وارداً على القوم والله أعلم.
7. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم.
ب. الثاني: ان المراد: فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج.
8. المقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت.
9. البينات هي الحجج والمعجزات، والزبر هي الكتب، وهي جمع زبور، والزبور الكتاب، بمعنى المزبور أي المكتوب، يقال: زبرت الكتاب أي كتبته، وكل كتاب زبور، قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة، وعلى هذا: الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر، يقال: زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل، وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق، وبه سمي زبور داوود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ، وقرأ ابن عباس ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ أعاد الباء للتأكيد وأما (المنير) فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته.
10. المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم، فالتوراة والإنجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة، وهذا أحد خواص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. عطف (الكتاب المنير) على (الزبر) مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر، فحسن العطف كما في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ [الأحزاب: 7]، وقال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة، أو كونه باقياً على وجه الدهر، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر: الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/450.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع خفض بدلا من ﴿الَّذِينَ﴾ في قوله تعالى﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾ أو نعت ﴿لِلْعَبِيدِ﴾ أو خبر ابتداء، أي هم الذين قالوا، وقال الكلب وغيره، نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازوراء وجماعة أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وإنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية، فقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان، وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى بن مريم، وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان، فكان هذا القول دعوى من اليهود، إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دليل قاطع في إبطال دعواهم، وكذلك معجزات عيسى، ومن وجب صدقه وجب تصديقه.
2. ثم قال تعالى: إقامة للحجة عليهم: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ يا معشر اليهود ﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ من القربان ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم، أراد بذلك أسلافهم.
3. القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسك وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة، ويكون اسما ومصدرا، فمثال الاسم السلطان والبرهان، والمصدر العدوان والخسران، وكان عيسى ابن عمر يقرأ ﴿بِقُرْبَانٍ﴾ بضم الراء إتباعا لضمة القاف، كما قيل في جمع ظلمة: ظلمات، وفي حجرة حجرات.
4. ثم قال تعالى معزيا لنبيه ومؤنسا له: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي بالدلالات.
﴿وَالزُّبُرِ﴾ أي الكتب المزبورة، يعني المكتوبة، والزبر جمع زبور وهو الكتاب، وأصله من زبرت أي كتبت، وكل زبور فهو كتاب، قال امرؤ القيس:
çلمن طلل أبصرته فشجاني... كخط زبور في عسيب يمانيé
وأنا أعرف تزبرتي أي كتابتي، وقيل: الزبور من الزبر بمعنى الزجر، وزبرت الرجل انتهرته، وزبرت البئر: طويتها بالحجارة.
قرأ ابن عامر (بالزبر وبالكتاب المنير) بزيادة باء في الكلمتين، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام.
5. ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ أي الواضح المضي، من قولك: أنرت الشيء أنيره، أي أوضحته: يقال: نار الشيء وأناره ونوره واستناره بمعنى، وكل واحد منهما لازم ومتعد، وجمع بين الزبر والكتاب ـ وهما بمعنى ـ لاختلاف لفظهما، وأصلها كما ذكرنا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/296.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين قالوا: وقيل: نعت للعبيد، وقيل: منصوب على الذم؛ وقيل: هو في محل جر بدل من ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾، وهو ضعيف، لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه، وليس الأمر كذلك هنا، والقائلون هؤلاء: هم جماعة من اليهود.
2. هذا المقول: وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان، هو من جملة دعاويهم الباطلة، وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان، فيقوم النبي فيدعو، فتنزل نار من السماء فتحرقه، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه، ولا جعله دليلا على صدق دعوى النبوة.
3. ولهذا رد الله عليهم فقال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ من القربان ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ كيحيى بن زكريا، وشعياء، وسائر من قتلوا من الأنبياء، والقربان: ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة.
4. ثم سلى الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا﴾ بمثل ما جئت به من البينات، والزبر: جمع زبور، وهو الكتاب، وقد تقدم تفسيره ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾: الواضح الجلي المضيء، يقال: نار الشيء، وأنار، ونوره، واستناره، بمعنى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/467.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُواْ﴾ نعت للعبيد، وهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب (بالتصغير)، وفنحاص، وزيد بن التابوت، ووهب بن يهودا، أي: العبيد القائلين: ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ﴾ أمرنا في التوراة ﴿أَلَّا نُومِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَاتِيَنَا بِقُرْبَانٍ﴾ شاة أو بعير أو بقرة بعد ذبح أو غير ذلك من المال مِمَّا لا يُذبح، والآيَة تتضمَّن تعذيب هؤلاء، ومصرِّحة بِأَنَّ تعذيبهم ليس ظلما، وهَذَا على النعت، أو البيان، أو البدل، وقيل: تَمَّ الكلام في (لِلْعَبِيدِ) واستأنف (الَّذِينَ قَالُوا) على الذمِّ، أي: قبَّح الله الذين، أو لعن الذين، أو الذين قالوا.. (يعني (الَّذِينَ) في الآية) مبتدأ خبره جملة محذوفة، وهو قوله: (لهم من العذاب ما لا يفي كلام به)، أو أخبر عنهم بالإنشاء على تقدير الرابط، أي: قل لهم: (قَدْ جَاءَكُم..)، أو ينصب على الاشتغال، أي: ذكِّر الذين، أو نبِّه الذين.
2. ﴿تَاكُلُهُ النَّارُ﴾ نازلة من السماء بعد دعاء النبيء في نزولها وأكلها، فإذا نزلت وأكلت القربان صار ذلك معجزة له، وذلك كذب منهم؛ لأَنَّ الله تعالى لم يحصر المعجزة في ذلك، بل إِنَّمَا كان موجبا للإيمان لأنَّه معجزة، فكلُّ معجزة كذلك، وسمَّى إحراق القربان أكلا بجامع مطلق إتلاف الصورة، ويروى عن عطاء أنَّه كانت بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون القرابين فيضعونها وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبيء في البيت يناجي ربَّه، وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لا دخان لها، لها دويٌّ، فتأكلها فتحرقها، وإن لم تقبل لم تنزل النار، وظاهر كلام بعض أنَّها تنزل ولا تأكله، والله أعلم، وزعم بعض ـ كالسُّدِّيِّ ـ أنَّ شرط أكل النار القربان صحيح لكن مخصوص بمن قبلَ عيسى في التوراة، ولم يصحَّ هَذَا، بل المشروط المعجزة مطلقا، وقيل: أتى هؤلاء المذكورون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أمرنا في التوراة أن لا نؤمن إِلَّا لمن أتى بقربان تأكله النار فإن فعلت آمنَّا بك، فنزلت.
3. وفي الآيَة بلاغة، لأنَّها أخبرت بِأَنَّ الله ليس ظالما لكعب بن الأشرف ومن معه في عذابهم العظيم من غير أن يتقدَّم أنَّ لهم عذابا، بل فاجَأَتْ بذلك الإخبار المرتّب على أنَّ لهم عذابا، فإنَّ قولَه: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُواْ﴾ ليسَ عَيْنَ أَنَّ لكعبٍ ومَن معه عذابا.
4. ﴿قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ﴾ كثيرة عظام، ﴿مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات، ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ من أكل النار القربان، وسائر ما تقترحونه عليهم، ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُم﴾، كزكرياء ويحيى، والسبعين المقتولين في يوم واحد، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم أنَّ توقفكم عن الإيمان انتظار للبيان، لم تكتفوا بالكفر بهم مع المعجزات حتَّى قتلتموهم.
5. وسلَّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تكذيب اليهود وقومه وغيرهم له بقوله: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾، وصيغة الشكِّ تلويح ببعده لظهور الحجَّة مع وقوعه، أو ببعد تأثير تكذيبهم فيك لعظم ثوابك، على أنَّ المعنى: فإن أثَّر فيك تكذيبهم، أي: فإن كذَّبك اليهود وقومك وغيرهم فلا تحزن، أو فاصبر، أو فلست بأوَّل من كُذِّب من الرسل، ﴿فَقَدْ كُذِّبَ﴾ لأنَّه قد كذِّب ﴿رُسُلٌ﴾ كثيرة عظام، فجملة (قَدْ كُذِّبَ) علَّة قامت مقام الجواب المحذوف كما رأيت، ولك جعلها جوابا تحقيقا، أي: فقد كذِّب رسل من قبلك بتكذيبهم إيَّاك، أي: فتكذيبهم تكذيب برسل من قبلك مثبِتين لرسالتك، أو الجواب هو الجملة باعتبار لازمها فإنَّها بمعنى: فتسلَّ، ﴿مِن قَبْلِكَ جَآءُواْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات، ﴿وَالزُّبُرِ﴾ الكتب التي في الوعظ والحكم، من الزَّبْر بمعنى الزجر، أو الكتابة، ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ جنس الكتب التي في الأحكام والحلال والحرام كالتوراة والإنجيل، أو الزُّبُر: الصحف، صحف إبراهيم وموسى، و(الْمُنِير): الواضح كالنور، أو الكتاب المنير: القرآن، جاءت بذكره الرسل، أو جاءت بما فيه، وقد قال الله تعالى : ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الَاوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 196] على وجه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/75.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ نصب بتقدير (أعني) أو رفع على الذم بتقدير (هم الذين قالوا): ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أي أمرنا ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ﴾ أي تبكيتا لهم، وإظهارا لكذبهم ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي المعجزات الواضحة ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ بعينه من تشريع القربان الذي تأكله النار ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.
2. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ أي بعد بطلان عذرهم المذكور ﴿فَقَدْ كَذَّبَ﴾ أي فلا تحزن وتسلّ فقد كذب ﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ جمع زبور أي الكتب الموحاة منه تعالى ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ أي الواضح الجليّ، والزبور والكتاب: واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.
3. القربان (بضم القاف) معناه، لغة، ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته، قال في مرشد الطالبين: (كانت ذبائح العبرانيين عديدة جدا، وكان المستعمل هذه الذبيحة، بتعيين الله، الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام، وكانت الذبائح نوعين عامين: إحداهما كانت تقرب لتكفير الخطايا، والأخرى شكرا لله على مراحمه وبركاته)، ثم قال: (فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جدا، وهي خروف بلا عيب، يقدم وقودا لله كفارة للخطايا، وذلك مرتان صباحا ومساء، طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلا، والتي في المساء عن خطاياهم نهارا، وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم، وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا، وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار، وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت، فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان)، ثم قال: (يوم الكفارة كان ممتازا بالذبيحة السنوية، وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثورا كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب)
4. أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة:
أ. منها سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين، ومنها في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه: (ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلا: خاطب بني إسرائيل وقل لهم: أي إنسان منكم قرب قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر، فذكرا صحيحا يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه، ويضع يده على رأس المحرقة ويترضى به ليغفر له، ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح، وما أحاط به في باب قبة الشهادة ـ يعني التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة ـ ثم يسلخون المحرقة، ويقطعونها قطعا، ثم يوقدون نارا على المذبح، وينضدون الحطب على النار، ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح، ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء، ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقودا وقربانا لرضا الرب)
ب. وفي الفصل السادس من سفر الأحبار: (وكلم الرب موسى قائلا: مر هارون وبنيه، وقل لهم: هذه شريعة المحرقة، تكون المحرقة على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة، ونار المذبح متقدة عليه، ويلبس الكاهن قميصه من الكتان، وسراويلات من الكتان على بدنه، ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح، ويجعله إلى جانب المذبح، ثم يخلع ثيابه ويلبس ثيابا أخر، ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر، وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ، ويضع عليها الكاهن حطبا في كل غداة.. إلخ)
5. قال بعضهم: زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات، وأنها بقيت إلى أيام خراب الهيكل على يد بختنصّر، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك.
6. هذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه: (أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر، فخرجت نار من عند الرب، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا)
7. إذا علمت ذلك، فقوله تعالى ﴿تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ بمعنى أنه يذبح على الكيفية المعروفة، ثم تنزل نار من السماء فتأكله، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة، كما ذكرنا، وفي عهد سليمان أيضا، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني: أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/472.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ أي أولئك هم الذين قالوا في الاعتذار عن عدم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الله عهد إلينا في كتابه التوراة أن لا نؤمن لرسول يدعي أنه مرسل من الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، قال المفسرون: إنهم أرادوا شيئا كان شائعا عندهم، وهو أن يذبح القربان من النعم أو غيرها فيوضع في مكان معين فتأتي نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه أو تحرقه، وروى ابن جرير عن ابن عباس أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة فإذا تقبل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلته، أي أكلت ما تصدق به، هذا ما أورده وردوه بأن هذا القربان إنما كان يوجب الإيمان لأنه معجزة لا لذاته إذ هو كغيره من المعجزات.
2. القربان في عبادة بني إسرائيل كان على قسمين دموي وغير دموي، فالقرابين الدموية كانت تكون من الحيوانات الطاهرة كالبقر والغنم والحمام، وغير الدموية هي باكورات المواسم والخمر والزيت والدقيق، والقرابين عندهم أنواع منها المحرقات والتقدمات وذبائح السلامة وذبائح الخطيئة وذبائح الإثم، وكانوا يحرقون المحرقات بأيديهم، وقد جاء في الفصل الأول سفر اللاويين في ذلك ما نصه: (ودعا الرب موسى، وكلمه من خيمة الاجتماع قائلا، كلم بني إسرائيل وقل لهم إذا قرب إنسان منكم قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم تقربون قرابينكم، إن كان قربانه من البقر فذكرا صحيحا يقرب إلى باب خيمة الاجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب، ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عنه للتكفير عنه، ويذبح العجل أمام الرب ويقرب بنو هارون الكهنة الدم ويرشون الدم مستديرا على المذبح الذي لدى باب خيمة الاجتماع، ويسلخ المحرقة ويقطعها إلى قطعها، ويجعل بنو هارون الكاهن نارا على المذبح ويرتبون حطبا على النار، ويرتب بنو هارون الكهنة القطع مع الرأس والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح، وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقه وقود رائحة سرور للرب)، ثم ذكر تفصيل قربان الغنم بصنفيه الضأن والمعز والطير وهو صنفان أيضا الحمام واليمام بنحو ما تقدم كما بين بقية أنواع القرابين، فمن هنا تعلم إنهم كانوا يوقدون النار بأيديهم ويحرقون بها القرابين المحرقات ولكن اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين أخبارا من خرافاتهم أو مخترعاتهم ليودعوها كتبهم ويمزجوها بدينهم، ولذلك نجد في كتب قومنا من الإسرائيليات الخرافية ما لا أصل له في العهد القديم ولا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن أوائلنا في التفسير وغيره ويرفعه عن النقد والتمحيص ولا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب بني إسرائيل.
3. أما محمد عبده فقد ذكر ما قاله المفسرون في القربان، ثم قال: ويجوز وهو الأظهر أن يكون معنى ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ أن يفرض علينا تقريب قربان يحرق النار، فقد كان من أحكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم فقال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في زعمكم إنكم لا تؤمنون بي لأني لم آمر بإحراق القرابين أي إنكم لم ترضوا بعصيان أولئك الرسل فقط بل قسوتم عليهم وقتلتموهم.
4. قال محمد عبده: لا ريب أن هذا لم يقع منكم إلا لأنكم شعب غليظ الرقبة (بذا وصفوا في التوراة التي في أيديهم) وأنكم قساة غلف القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له، وهذا مبني على ما قلناه من اعتبار الأمة باتفاق أخلاقها وصفاتها وعادتها العامة كالشخص الواحد؛ وكان هذا المعنى معروفا عند العرب فإنهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ويؤاخذونها به ولو بعد موته، ويدلنا هذا على أن الجنايات والجرائم مرتبطة في حكم الله تعالى بمناشئها ومنابعها فمن لم يرتكب الجريمة لأن آلاتها وأسبابها غير حاضرة لديه لا يكون بريئا من الجريمة إذا كان منشؤها والباعث عليها مستقرا في نفسه، وهذا المنشأ هو التهاون بأمر الشريعة وعدم المبالاة بأمر الحق والتحري فيه.
5. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ بعد أن جئتهم بالبينات الناصعة، والزبر الصادعة، والكتاب الذي ينير السبيل، ويقيم الدليل، فلا تأس عليهم، ولا تحزن لكفرهم، ولا تعجب من فساد أمرهم، فإن هذه سنة الله في العباد، وشنشنة من سبق من هؤلاء من آباء وأجداد: ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ فأقاموا على أقوامهم الحجة ببيناتهم، وهزوا قلوبهم بزبر عظاتهم، وأناروا بالكتاب سبيل نجاتهم، فما أغنى ذلك عنهم من شيء لما انصرفت قلوبهم عن طلب الحق وتحري سبيل الخير فالآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبيان لطباع الناس واستعدادهم.
6. الزبر جمع زبور من زبرت الكتاب إذا كتبته مطلقا أو كتابة عظيمة غليظة قاله الراغب أو متقنة كما في لسان العرب، فهو بمعنى الكتب والصحف يقال: زبرت الكتاب بمعنى كتبته، وبمعنى قرأته أو بمعنى المواعظ الزاجرة: قال في اللسان، وزبره يزبره بالضم نهاه وانتهره وفي الحديث (إذا رددت على السائل ثلاثا فلا عليك أن تزبره) أي تنهره وتغلظ له في القول والرد، والزبر بالفتح الزجر والمنع.. وأصل معنى الزبر القطع ومنه زبر الحديد قطعه؛ ويوشك أن تكون الزبر هنا المواعظ والكتاب المنير جنسه أي الكتب الأربعة أو الزبر صحف الأنبياء والكتاب المنير الإنجيل.
__________
(1) تفسير المنار: 4/267.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة، فهو وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي قل موبخا لهم ومكذبا: قد جاءكم رسل كثيرون من قبلي كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم، وبما كنتم تقترحون وتطلبون، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار، فما بالكم لم تؤمنوا بهم، بل اجترأتم على قتلهم؟ وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد، (وبذلك وصفوا في التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا، بل تعنتا وعنادا.
2. نسب هذا الفعل إلى من كان في عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم، لأنهم راضون عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق في ذلك، والأمة في أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها.
3. والخلاصة ـ إن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه.
4. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل، مع استنارة الحجة والدليل ـ فلا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويّتهم، وعظيم تعنتهم، فتلك سنة الله في خليقته، فقد كذّب رسل من قبلك جاؤوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فصبروا على ما نالهم من أذى، وما نالهم من سخرية واستهزاء.
5. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبيان لأن طباع البشر في كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه، ويسفّه أحلام معتنقيه، فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفنّدوا حجتك، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق، وتحرّى سبل الخير.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/150.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هؤلاء الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قتلوا الأنبياء.. هم الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الله عهد إليهم ـ بزعمهم ـ ألا يؤمنوا لرسول، حتى يأتيهم بقربان يقدمونه، فتقع المعجزة، وتهبط نار تأكله، على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل، وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله.
2. هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي.. لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وهي مجابهة قوية، تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر، وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله.
3. هنا يلتفت إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مسليا مواسيا، مهونا عليه ما يلقاه منهم، وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾، فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب، والأجيال المتعاقبة ـ وبخاصة من بني إسرائيل ـ تلقوا بالتكذيب رسلا جاءوهم بالبينات والخوارق، وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية ـ وهي الزبر ـ وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.. فهذا هو طريق الرسل والرسالات.. وما فيه من عناء ومشقة، وهو وحده الطريق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/538.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ هم اليهود، الذين تحدث القرآن عنهم في الآيات السابقة، وأنهم هم ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، (فالذين) هنا، هم (الذين) هم هناك.. وقد سمع الله قولهم هذا، وذاك، وسجّله عليهم ليحاسبهم به، ويجزيهم عليه، وقولهم هنا، هو افتراء من افتراءاتهم، يدفعون به دعوة النبيّ لهم إلى الإيمان به، والتصديق برسالته، على الصفة التي يجدونها في التوراة عنه.. فهم ينكرون هذا الذي في التوراة، ويجيئون بمفتريات من عندهم، ويلقون النبيّ الكريم بقولهم: ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ أي إن آية النبيّ التي يريدون أن يعرضها عليهم ـ كدليل على صدقه ـ هو أن يقدّم لله قربانا، كبقرة، أو شاة، أو نحوها، ثم يدعوهم إلى أن يشهدوا آية لله في هذا القربان، وأن نارا من السّماء ستنزل وتأكل هذا القربان، وهم يشهدون.. فإذا جاءهم النبيّ على تلك الصفة آمنوا به، وصدقوه، وإذ كان ما جاء به (محمد) هو على غير تلك الصفة، فهو ليس بنبىّ، أو ليس ـ على الأقل ـ هو النبيّ وعدوا به.
2. جنّب الله النبيّ الكريم أن يلقى هؤلاء القوم بالمراء والجدل، وأن يردّ فريتهم هذه التي افتروها على الله، وأن يدخل معهم في أخذ وردّ، فذلك طريق يحبّ أن يسلكه اليهود مع النبيّ ويودّون أن يستجيب للسير معهم فيه، حيث ينتهى الطريق، ولا محصّل له إلّا ضياع الوقت في المهاترات والسفسطات، الأمر الذي يريد الله أن يجنّبه النبيّ ليسلك بدعوته الطريق القويم إلى من يتقبّل الخير، ويعطى أذنه وقلبه لدعوة الحق، وكلمة الحق.
3. لقد نأى الله بالنبيّ الكريم عن هذا الطريق، ودعاء إلى أن يلقى اليهود بما يقطع حجتهم؛ ويخرس ألسنتهم، فهم يريدون نبيّا يأتيهم بقربان تأكله النّار، ليصدقوه ويؤمنوا به، وقد جاءهم أنبياء الله بالآيات البينات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكفرق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الحجر الصّلد بها.. فهل آمنوا بهؤلاء الأنبياء واستجابوا لهم؟ وأكثر من هذا.. فقد جاءهم أنبياء بهذا المقترح الذي اقترحوه على النبيّ وتحدّوه به.. جاءهم من كان يقدّم لله قربانا فتأكله النار.. فهل آمنوا به وصدّقوه؟ كلّا، فإنه لم يكن منهم إيمان وتصديق.. بل كان التكذيب والكفران، بل والعدوان، فقتلوا من أنبياء الله من جاءوهم بالآيات التي اقترحوها على النبيّ وبأكثر منها قوة ووضوحا في مجابهة الحسّ، ولو جاءهم النبيّ بهذا الذي طلبوه.. فهل يصدقونه ويؤمنون به؟
4. ذلك ما لا يكون، فقد كذّبوا رسل الله، وقد جاءوهم بهذه الآيات التي كانت مما اقترحوه على الرسل، وتحدّوهم به.. ولكنه التعلل، والتهرب من مواجهة الحق، بهذا المراء الطفولىّ.. والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾
5. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ في هذه الآية الكريمة عزاء كريم من ربّ كريم، لنبيّ كريم، فهذا شأن أصحاب الرسالات وحملة الهدى، مع السفهاء، أصحاب الطبائع النكدة، والضمائر الفاسدة.. لا يلقون منهم إلا التطاول الأحمق، والسّفه اللئيم، وخاصة هذا الصنف من الناس (اليهود) الذين انتظم تاريخهم الأسود، سلسلة مترابطة الحلقات من مواقف الفساد والشر، في مواجهة كل خير! فإنه ليست أمة من الأمم بعث الله إليها مثل ما بعث في نبيّ إسرائيل، من أنبياء ومرسلين، وليس رسول من الرسل حمل إلى قومه ما حمل رسل بنى إسرائيل إليهم من آيات تنطق البكم، وتسمع الصمّ.. فلم ينتفعوا بتلك الآيات، ولم يجدوا فيها شفاء لدائهم الخبيث.
6. ليست كثرة هذه الرسل، ولا توارد هؤلاء الأنبياء، ولا إشراق هذه الآيات التي يحملونها بين أيديهم، إلى هؤلاء القوم ـ ليست هذه كلها إلّا لأن الداء الذي يكمن فيهم، والمرض المتمكن من عقولهم وقلوبهم، قد استشرى حتى أصبح وباء، فكانت نجدة السماء لهم بهؤلاء الأطباء الأساة، يطلعون عليهم من كل أفق، ويغادونهم ويراوحونهم في كل وقت.. ولكن الداء لا يزداد على الزمن إلا استيلاء عليهم، وفتكا بهم.. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
7. ﴿والبيّنات﴾ هي الآيات التي جاءهم بها عيسى عليه السّلام، والتي يشير إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ (والزّبر) جمع زبور، وهو القطعة من الشيء.. و(الزّبور) هنا ما أعطى داوود عليه السّلام من كلمات الله، التي هي بعض من كتاب الله، الذي نزل على الرّسل، كلّ حسب حظه منه، ثم جاء القرآن الكريم، جامعا للكتاب كلّه، وفي هذا يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين في مواجهة الذين كفروا من أهل الكتاب: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ وهو القرآن وما سبقه من كتب، والكتاب المنير هنا، هو القرآن الكريم.. وفيه إشارة إلى موقف اليهود منه، وأنهم كذّبوا بالأنبياء الذين جاءوهم بالبينات ـ أي عيسى ـ وبالزبر ـ أي مجموعات الأنبياء الذين حمل كل منهم بعض كلمات الله إليهم، وبالكتاب المنير، وهو القرآن الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/661.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أبدل ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ﴾ من ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾ [آل عمران: 181] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان، أي حتّى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذبح أوّل قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقته، كما في سفر اللاويين، إلّا أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة، وفي الحديث: (ما من الأنبياء نبيء إلّا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)
2. فقال الله تعالى لنبيّه: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاءوكم بها وقتلتموهم، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقربان تأكله النار على قولهم، وقتلهم آخرا يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فلا عجب أن يأتي خلفهم بمثل ما أتى به سلفهم.
3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة، وإنّما قال: ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ عدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلا عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ إلى قوله: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ [مريم: 77، 80] أي نرث ماله وولده.
4. ثم سلى الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾، والمذكور بعد الفاء دليل الجواب لأنّه علّته، والتقدير: فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تخزن لأنّ هذه سنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك، وليس ذلك لنقص فيما جئت به.
5. البيّنات: الدلائل على الصدق، والزبر جمع زبور وهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول، أي مزبور بمعنى مخطوط، وقد قيل: إنه مأخوذ من زبر إذا زجر أو حبس لأنّ الكتاب يقصد للحكم، وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل، ممّا يتضمّن مواعظ وتذكيرا مثل كتاب داوود والإنجيل، والمراد بالكتاب المنير: إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل، وإن كان للعهد فهو التوراة، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيّن للحق كقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: 44] والعطف منظور فيه إلى التوزيع، فبعض الرسل جاء بالزّبر، وبعضهم بالكتاب المنير، وكلّهم جاء بالبيّنات.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/300.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام مستمر في وصف اليهود وأخلاقهم واستيلاء المادة عليهم، وغلظ قلوبهم وقسوتها، حتى لقد بلغ بهم الجحود أن يقولوا عن الله تعالى وقد سمعوا من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن من يتصدق يقرض الله قرضا حسنا ـ إن الله فقير ونحن أغنياء.
2. وفي هذه الآيات يبين أن من نتائج جحودهم أن يطلبوا معجزة غير المعجزة التي جاء بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيطلبون دليلا غير الدليل الذي قام حجة عليهم، ولقد سألوا موسى من قبل أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة، ومع أنه قد جاء على يد موسى عليه السلام من المعجزات الحسية العدد الكثير كانوا يطلبون غيرها؛ لأنهم معاندون والمعاند لا يزيده الدليل البيّن إلا عنادا وكفرا وجحودا، لقد سألوا النبيّ معجزة، وكذبوا فيها فقال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾
3. تذكر كتب التفسير أن من معجزات بعض الرسل الذين جاؤوا من قبل أن يقدّم القربان، وهو الصدقة من النّعم، فتكون أمارة قبوله أن تنزل نار من السماء بيضاء تأكله، وقد ادعى اليهود أن ذلك عهد من الله عهد إليهم، وهو ادعاء باطل، فهذا الأمر إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، وآيات الله تعالى لإثبات رسالات الرسل متعددة النواحي، مختلفة المناهج، لكل أمة منهاج من الإعجاز يناسبها، وكون هذا كان حجة من الحجج الدالة على الرسالة وصدق الرسول في زمن ـ لا يقتضى أن يكون حجة في كل الأزمان.
4. ولا شك أن ذلك النوع من الإعجاز قد وقع، وذلك لأن الله تعالى يقول: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ والذى قالوه هو أن يأتيهم بقربان تأكله النار.
لتتميم الكلام في النص لا بد أن نتعرض لتفسيرات لفظية لبعض الكلمات، ومن هذه الكلمات كلمة ﴿نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾، وكلمة (قربان)، وكلمة ﴿يَأْتِينَا﴾، وكلمة ﴿تَأْكُلُهُ﴾:
أ. معنى ﴿نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ أي نذعن لما يدعو إليه ونخضع؛ إذ المطلوب منهم هو الإذعان للحق والخضوع له والتسليم به، لا التصديق المجرد الذي يصوره مجرد إيمان، فالفرق بين الإيمان بالرسول والإيمان له أن الأول يتضمن معنى التصديق، وإن لم يكن معه إذعان والتسليم والخضوع لما يدعو إليه.
ب. معنى ﴿يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ أن الرسول هو الذي يأتي بالقربان من النعم وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من النعم، ويقدمه هو، تنزل النار البيضاء من السماء فتأكله، فليسوا هم الذين يقدمون القربان الذي تأكله النار، بل الذي يفعل ذلك هو الرسول إعجازا، ولبيان أنه رسول، ولا يقال حينئذ إنه إذا كان كل قربان تأكله النار لا تكون ثمة فائدة يستفيدها الفقراء من القرابين، بل هذه حال خاصة يأتيها النبيّ من الأنبياء، ويقوم بها فتكون تلك الأمارة التي على التأييد من السماء، كانقلاب العصا حية، وانبجاس الماء من الحجر، وانفلاق البحر اثنا عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم.
5. ولقد بين سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين سألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قوم يتعنتون والمتعنت لا يلتفت إلى مطالبه، وقد ذكر سبحانه الرد مع الدليل على تعنتهم، فقال: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، و﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ المراد منها الحجة المبينة المثبتة لرسالة الرسل، و﴿بِالَّذِي قُلْتُمْ﴾، والمعنى بموضوع القول الذي قلتموه، وهو الإتيان بقربان تنزل عليه نار بيضاء من السماء فتأكله، وقد يطلق القول ويراد منه موضوع القول، كأن يقول قائل: قلت لك إن الأمر سيكون على وجه كذا، وقد كان ما قلت، أي قد كان معنى القول الذي قلت وتحقق موضوعه.
6. والمعنى: إن عليك يا محمد أن تقول في محاجتهم ولبيان تعنتهم قد جاءكم رسل بالبينات من قبل، وتحقق من الأنبياء ما تطلبون، وهو أنهم أتوا بقربان تأكله النار، فلم تؤمنوا ولم تصدقوا، وقد دل على هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إذ إن القتل لا يكون إلا أثرا من آثار التكذيب العنيد، والجحود الشديد، فيكون نسق القول الكريم هكذا: لقد كذبتم وأبلغتم في الكذب بادعائكم أن إيمانكم مرتبط بالقربان تأكله النار، فقد جاءكم هذا ولم تؤمنوا، بل كذبتم وأعنتم حتى بلغ بكم الأمر والاستهانة بالداعى أن قتلتموه، ولو كنتم صادقين في ادعائكم ارتباط الإيمان بالإتيان بقربان تأكله النار فلم كان القتل؟ فالصدق المنفى هو صدق الارتباط بين الإيمان وتلك الحجة التي يطلبونها، والاستفهام إنكاري ينفى أن يكون ثمة مبرر للقتل على أي وجه كان المبرر، وينفى أيضا صدقهم.
7. سياق الخطاب الموجه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو لبيان تعنتهم، وأنهم لا يطلبون حجة لنقص الدليل، بل يتعنتون، وأنهم فعلوا مع من أتوا لهم بهذا الدليل أشد مما فعلوا معك وهنا أمر يجب التنبيه إليه، وهو أن القتل والتكذيب مع هذه الحجة كان من أسلافهم، والخطاب للذين حضروا عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن يجيء بعده ممن على شاكلتهم، ولقد وجهت إليهم جريمة الماضين منهم؛ لأن وصف التعنت الذي أدى إلى ما كان من الأسلاف قائم في الأخلاف، ولأنهم راضون عن أعمالهم، فكان حقا أن يخاطبوا بجريمتهم؛ ولأنهم تكلموا عن الماضين منهم بأنهم منهم فقالوا: إن الله عهد إلينا، مع أن الأمر كان في هؤلاء الماضين لا فيهم، لذلك كان عليهم أن يتحملوا وصف الإجرام الذي وقع من الماضين حتى يتخلصوا من تلك الأمة الخاسرة، ويدخلوا في أمة الإيمان وأهل الإذعان.
8. ولقد بين الله لنبيه أن هؤلاء جنس قائم بذاته تعود التكذيب، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، ولذا قال سبحانه: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ البينات هي الآيات المبينة للحق، الموضحة له، وهى الأدلة التي يتحدى بها النبيّ من الأنبياء قومه ليثبت لهم رسالته، والزبر جمع زبور، وهو الصحيفة أو الكتاب أو هو جمع جمع لزبر، وهو الأمر الشديد، وخص الزبور بالكتاب المنزل على داوود عليه السلام وقال تعالى: ﴿وآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً﴾ [الإسراء] وقرئ زبورا بضم الزاي كقولهم في جمع ظريف ظروف، أو يكون جمع زبر وزبر مصدر سمى به كالكتاب، ثم جمع على زبر كما جمع كتاب على كتب، وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية، وقال بعضهم: الزبور اسم للكتاب المقصور على الحكم العقلية دون الأحكام الشرعية، والكتاب اسم لما يتضمن الأحكام الشرعية.
9. خلاصة القول أن الله تعالى يخفف عن نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم تكذيب أولئك الضالين الجاحدين فيبين أن الأنبياء قبله قد جاؤوا بالمعجزات القاطعة المثبتة للرسالة، ومعهم الأوامر الإلهية المشددة الزاجرة، ومعهم الكتاب المبين التي اشتمل على ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة، ومع ذلك كفروا بآيات ربهم، وأنكروا الرسالة مع قيام الأدلة التي لا مجال لإنكارها، ومع أن ما يدعو إليه معقول في ذاته، وفيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1532.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾، كل مبطل يزعم انه محق، ويبرر أباطيله بالمفتريات والاتهامات، حتى الذين يتاجرون بالحروب، ويوقدون نيرانها هنا وهناك لتشغيل مصانعهم، حتى هؤلاء يزعمون انهم يقتلون الأبرياء والأطفال والنساء ليستتب الأمن والسلم.. هذا هو منطق كل من عاند الحق والعدل خوفا منه على مكاسبه ومنافعه، اذن، فلا بدع أن يفتري اليهود على الله الكذب، ويقولوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا نؤمن لك، لأن الله كان قد أمرنا ان لا نصدق مدعي النبوة الا إذا ظهرت على يده معجزة خاصة، وهي أن نقدم صدقاتنا، فتلتهمها نار تنزل من السماء، واليهود الذين قالوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا القول هم بالذات الذين نطقوا بكلمة الكفر، وقالوا: ان الله فقير، ونحن أغنياء.
2. ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، أمر الله سبحانه نبيه الأكرم بأن يكذبهم، ويجابههم بواقعهم التاريخي، ويقول لهم: ان أسلافكم قد طلبوا من الأنبياء السابقين هذه المعجزة بالذات؛ أي نزول النار من السماء، وأظهرها الله على أيديهم، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم، وقتلوهم، وأنتم راضون بفعل أسلافكم، وشأنكم شأنهم في العناد والعتو.. ولو كنتم طلاب حق لآمنتم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ان قامت الحجة على نبوته.
3. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾، هذا خطاب للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والغرض منه التسلية بالتأسي بمن سبق من الأنبياء، فلقد كانت سيرتهم أن يتلقوا التكذيب والعناد من أهل الفساد كبني إسرائيل، والذين على شاكلتهم، مع انهم أقاموا الحجة على كل مكذب لنبوتهم، ومعاند لدعوتهم.
المراد بالبينات المعجزات الواضحة الدالة على صدقهم، وبالزبر مواعظ الأنبياء وحكمهم، تماما ككتب الحديث، وبالكتاب المنير التوراة، لأن اليهود أحدثوا فيها التحريف، بخاصة فيما يعود إلى محمد وصفاته، ولأن الآيات واردة لبيان شأنهم.. فهم الذين قولوا: ان الله فقير، وانه عهد اليهم أن لا يؤمنوا لرسول، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/221.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ الآية، نعت للذين قبله والعهد هو الأمر، والقربان ما يتقرب به من النعم وغيره، وأكل النار كناية عن إحراقها.
2. والمراد بقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾، أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.
3. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ﴾ الآية، تسلية للنبي ص في تكذيبهم له، والزبر جمع زبور وهو كتاب الحكم والمواعظ، وقد أريد بالزبر والكتاب المنير مثل كتاب نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/83.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ وهذا كذب على الله أضافوه إلى قولهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ﴾، ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ ومع كونه كذباً على الله منع من الإيمان بالرسل الذين لم يأتوا بقربان تأكله النار فهو صد عن الإيمان، مع أنه كذب على الله واضح البطلان؛ لأن الله ﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود:45] لا ينهى عن الإيمان برسله، وهو مضمون دعواهم الكاذبة فهي خرافة مَرْذُولَة لا تقبلها العقول، كيف يرسل الله الرسول وينهى عن الإيمان به، والقربان: ما يتقرب به من الذبائح أو النَّحَائِر ﴿تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ يرسلها الله عليه فتأكله.
2. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ بالآيات البينات، الدالة على أنهم رسل من الله اصطفاهم للرسالة، وإذا جاءت الآيات وجب الإيمان بها وبالرسل؛ لأنها دلت على أنهم رسل من الله، وبانت عن أفعال المخلوقين فتبين أنها من الله لكون المخلوقين لا يقدرون عليها فوجب الإيمان بأنها آية من الله تدل على صدق الرسول، فقد جاءوكم بالبينات التي توجب عليكم الإيمان.
3. ﴿وَ﴾ جاءوكم ﴿بِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ فكل رسول منهم جاء بقربان تأكله النار ولم يكن ذلك إلا زيادة في الحجة عليكم، ودعواكم أنه شرط في الإيمان قول من عند أنفسكم قلتموه كذباً ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ بعد ذلك ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في اعتذاركم عن ترك الإيمان بمحمد بدعوى أن الله عهد إليكم أن لا تؤمنوا أي لم يمنعكم من الإيمان إلا ذلك وأنتم لم تؤمنوا برسل قبله جاؤوا بالبينات وبالذي قلتم، بل قتلتموهم فبان أنكم لا تؤمنون، ولو جاء ما قلتم.
4. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ فلك أسوة رسل من قبلك كذبوا مع أنهم ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج الواضحة الدالة على صدقهم ﴿وَ﴾ جاؤوا بـ ﴿الزُّبُرِ﴾ وهي الكتب فيها هدى وإرشاد ﴿وَ﴾ جاؤوا بـ ﴿الْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الذي يهدي به الله إلى صراط مستقيم؛ لأنه منير يضيء الصراط المستقيم، وهذا الكتاب يمتاز على الزبر بما فيه من الهدى والنور، فلم يكن ينبغي لعاقل أن يكذب رسلاً ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ لأنهم جاؤوا لهداية الناس إلى السعادة الدائمة، وإنقاذهم من عذاب النار، فهم جاؤوا بالخير العظيم لمن قبله واتبعه، فكذبهم الكافرون لغير حجة ولاعذر ولكن ظلماً وانقياداً للشيطان، فتكذيبهم لا يقدح في رسالة الرسل ولا يدل على ضعف الآيات فكذلك تكذيب من كذبك يا محمد فلا يحزنك كفرهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/588.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان من بين أساليب اليهود في التشكيك برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قولهم: إن الله عهد إليهم في ما أنزله عليهم من الكتب السماوية التي تتحدث عن تاريخ الأنبياء وعلامات صدقهم في نبوّتهم، أن علامة ذلك هو أن يقدم الرسول قربانا لله، فتأكله النار السماوية القادمة من السماء؛ ولم يأت محمد بهذا، فكيف يمكن أن نؤمن بصدقه في دعوى النبوّة!؟ وهكذا حاولوا أن يمارسوا عمليّة الإيحاء بالعلم الغامض الذي يعلمونه عن الدين في ما يجهله البسطاء من ذلك كله في مجتمع الرسالة الأوّل، من أجل المزيد من التشكيك والتضليل، فكيف ناقشها القرآن؟
2. إنه لم يناقشهم في طبيعة الفكرة التي أثاروها من حيث سلامتها وعدم سلامتها، لأن ذلك لا يحقق أيّة فائدة في هذا المجال، لأنهم لا ينطلقون فيها ـ أمام البسطاء ـ من منطلق فكري موضوعي، بل انطلقوا فيها من خلال مزاعم خاصة في ما أوحاه الله إليهم من علوم خاصة بهم، مما لم يمنحه لغيرهم، فلا فائدة في الدخول معهم في جدل مفيد.. ولذلك كان الردّ يتجه في اتجاه آخر؛ وهو العمل على تعرية مواقفهم الكاذبة من تاريخهم الأسود الذي عاشوه في تاريخ الأنبياء، فقد جاءهم الأنبياء السابقون الذين أرسلهم الله إليهم بالبيّنات والدلائل الواضحة التي تثبت صدقهم وصحة رسالتهم من ناحية الفكر، وبالقرابين التي تأكلها النّار، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت النتيجة هي أنهم اضطهدوهم وقتلوهم لأنهم رفضوا التخلي عن امتيازاتهم العنصرية في ما تريده حركة الرسالات من ابتعاد الناس عن المشاعر المتعالية ضد الناس الآخرين، وانطلاقهم نحو الالتقاء على خط الإنسانية السائرة في طريق الله.. ومن خلال ذلك، ينطلق الاستفهام الإنكاري الذي يعلّمه القرآن للناس الطيبين ليقولوا لهم: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؟ ويبقى السؤال بلا جواب، لأنهم لا يملكون الجواب عنه، لأنهم ليسوا بصادقين في ما زعموه.
3. هذا هو الأسلوب الذي كان يتبعه اليهود في إثارة التشكيك بالدعوات المضادّة لهم، ثم الهروب بعد ذلك من الدخول في حوار مع الآخرين إذا ما أراد الآخرون اكتشاف الحقيقة في ما أثاروه، لأنهم يريدون أن يخلقوا الجوّ القلق في داخل المجتمع ليعطي نتائجه الآنيّة، وليس من المهمّ بعد ذلك أن تتغيّر الصورة ويتراجع الناس عن صورتهم التي أرادوها، لأنهم يكونون قد فكروا في أسلوب جديد للإثارة من أجل مشكلة جديدة في حركة التشكيك والتضليل.
4. ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ في الخطة المتنوعة الأساليب المتعددة الوسائل في إسقاط الإسلام في وجدان المسلمين بكل مفردات التشكيك التي تناقش الطروحات الإسلامية بالأكاذيب التي تلبس لبوسا دينيا، للإيحاء بأنهم ينطلقون في مواقفهم الرافضة للرسول وللرسالة من المصادر الدينية التي يعترف بها النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مما يجعل من المسألة مسألة إلزام له بما يلتزم به من صدق التوراة التي ينسبون إليها الكلمات الموحية بالتشكيك أو التكذيب للنبي ولرسالته.
5. ﴿إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ في ما عهده في التوراة من علامات النبي الصادق الذي يؤمن به الناس، التي لا بد من الالتزام بها وعدم تجاوزها، بشكل دقيق ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ أيّا كان، وفي أيّ زمن كان، ممن يدعو الناس إلى تصديق نبوّته واتباع مسيرته.
6. ﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ فهذا ـ وحده ـ هو الذي يؤكد لنا ارتباطه بالله، لأن مسألة النبوة من المسائل غير العادية، باعتبار أنها تمثل علاقة الغيب الإلهي بالشهود البشري في نزول الوحي على فرد من البشر، مما يفرض على مدّعي النبوّة أن يحصل على شاهد غير عادي متناسب مع طبيعة الحدث والدور، ولا يبتعد هذا الشاهد المادّي عن حركة التاريخ الرسالي في مسيرة النبوّات؛ فقد كان الصادق والكاذب يتباهلان في تقديم القربان كما فعل هابيل وقابيل، فقدّما قربانا ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ [المائدة: 27]، وليست القضية التي كانت موضع النزاع بين الأخوين بأكثر خطورة من القضية المتصلة بموضوع النبوّة، فإذا كنت ـ يا محمد ـ صادقا في دعواك أن الرسالة من الله، فقدم قربانا إلى الله، فإذا جاءت النار الإلهية وأكلته كان ذلك دليلا على صدقك، وكان ذلك وسيلة لإيماننا بك.
7. ﴿قُلْ﴾ ـ يا محمد ـ لهؤلاء الذين يتحدثون بهذا المنطق الذي يرى أنّ مسألة النبوّة في دعوى النبي، تحتاج إلى دليل حاسم يثبت صدقه، ولكن لماذا هذا التركيز على هذه الوسيلة القربانية كدليل وحيد على ذلك!؟ فلما ذا تنكرون بقية الأدلة التي قد تتصل بالجانب العقلي من المسألة كإعجاز القرآن في مورد، وقد تنفتح على الجانب الغيبي، كالمعجزات التي قام بها الأنبياء الآخرون ـ ومنهم موسى عليه السّلام ـ في مورد آخر، ولعل من المهم التأكيد أن النبي موسى لم يأت بقربان تأكله النار كشاهد على صدقه أمام فرعون، بل كان دليله في معجزة اليد البيضاء وتحوّل العصا إلى ثعبان.. ثم هناك رسل آخرون جاؤوا بالقربان الذي أكلته النار للأجيال التي سبقتكم من اليهود.
8. ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالبراهين والأدلة القاطعة من وسائل الإثبات للنبوّة، ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ أي بالقربان الذي طلبتموه في قولكم هذا، وكان من المفروض، بناء على قولكم، أن تؤمنوا بهؤلاء لأنهم قدّموا الدليل الذي ترونه بالغ الدلالة، ولكنكم كذبتموهم وبالغتم في التكذيب فقتلتموهم، بعد أن أقاموا عليكم الحجة.. فيا أيها اليهود الذين تمثلون في خطة التحرك المنحرف المتمرد على الله ورسالاته ورسله، وحدة بين الجيل القديم والجيل الجديد ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وما هو المبرّر لذلك بعد أن أثبتوا لكم أنهم أنبياء صادقون، كما حدث ذلك لزكريا ويحيى عليهما السّلام وغيرهما ممن قتلهم اليهود، وإن كنتم صادقين في منطقكم الذي تزعمون أن الله عهد به إليكم في التوراة، وفي ضوء ذلك، فإن من الممكن ـ استنادا إلى الواقع التاريخي في تجربتكم السابقة ـ أن تكذبوا النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن يقدم لكم القربان الذي تأكله النار، لتزعموا ـ في أسلوب العناد ـ كما زعم المشركون أنه سحر وليس معجزة، مما يجعل من القضية المطروحة قضية عبث ولعب، والله سبحانه لا يأذن بالعبث برسوله، وباللعب بحركة رسالته بالاستجابة للاقتراحات المقدّمة من الناس بعد إقامة الحجة عليهم بالدليل القاطع الذي يثبت صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. إن هذا الأسلوب لا يزال يطرح نفسه على الساحة في مجتمعاتهم ضد خصومهم، وقد تحوّل إلى أسلوب من أساليب السياسة في عالمنا المعاصر التي درجت على أن تواجه الحركات الثوريّة والإصلاحية بإثارة الأجواء التي تخلق حولها الكثير من الشبهات والشكوك، ثم تهرب من الحوار، لتخلق واقعا جديدا من خلال علامات استفهام جديدة، وقد يكون من الضروري للمسلمين الواعين أن يلتفتوا إلى الأسلوب القرآني، ليهتدوا به من أجل الانطلاق معه في فكرة حاسمة، وهي أن علينا مواجهة قاعدتنا بإثارة الأسئلة المحرجة لهؤلاء لتحقيق هدفين:
أ. الأول: أن تقتنع القاعدة بصحة مسيرتها فلا تخضع لأساليب التزوير والتشكيك.
ب. الثاني: أن نحوّل دور القاعدة من دور سلبيّ يعمل على أن يهتز أمام علامات التساؤل التي تتحدى يقينه إلى دور إيجابي يواجه الآخرين بهجوم مماثل من علامات الاستفهام التي تعمل على تعرية واقعهم من خلال تعرية التاريخ الذي يكمن خلف هذا الواقع، كأسلوب من أساليب تعميق التجربة وتثبيت الخط الصحيح.
10. ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ في هذه الآية التفات إلى الرسول، في ما كان يواجهه من تكذيبهم له، بأن لا يحزن ولا يتعقّد ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ فليس هو أوّل نبيّ كذّبوه، ولا أوّل داعية حقّ وقفوا ضدّه ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ بل هناك القافلة الطويلة من الأنبياء التي واجهت هؤلاء في تاريخهم الطويل، ﴿جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ في ما أنزله الله من التوراة والإنجيل والزبور، فكذبوه من دون حجة ولا دليل.
11. إنها الالتفاتة القرآنية التي تتكرر في كل آية لتربط الرسول في رسالته بالخط الواقعي للعمل الذي يتحرّك بالوعي، من أجل الإيحاء له بأنّ الرسالة لا بدّ لها من أن تعاني في الحاضر ما عانته الرسالات في الماضي من مشاكل وتحدّيات؛ ومهما كثرت المشاكل وكبرت التحديات، فإنها لن تستطيع أن تهزم الرسالة، بل سيزيدها ذلك قوّة وامتدادا وعمقا في داخل النفس الإنسانية، لأن التجربة تزداد عمقا كلما تنوّعت الآفاق التي تتحرك من حولها، والمشاكل التي تعصف في داخلها، مما يجعل من قضية مواصلة التجربة قضية الحياة في مداها الطويل.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/423.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإسلام، ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾، قال المفسرون: إن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أن يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان)، ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب، وكانوا يريدون ـ حقّا ـ مثل هذا الأمر من باب إظهار الإعجاز، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إعذارهم، ولكن تاريخهم الغابر، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم تثبت الحقيقة التالية، وهي أنّهم لم يكونوا أبدا طلاب حقّ وبغاة علم، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية، وذلك فرارا من قبول الإسلام، والانضواء تحت رايته، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإنّهم كانوا يمتنعون عن الإيمان، بدليل أنهم كانوا قد قرؤوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكنهم مع ذلك أبوا إلّا رفض الحقّ، وعدم الإذعان له.
2. يقول الله تعالى في مقام الردّ عليهم: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.
3. هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته: إن مقصودهم لم يكن إن على النّبي أن يذبح قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر (اللاويين) من التوراة (العهد القديم)، إنّهم كانوا يقولون: إنّ الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك فإننا لا نؤمن لك، ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنّه:
أ. أوّلا: إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على (البيّنات) ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا، وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.
ب. وثانيا: إنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.
4. ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقول: إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد، ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم، بل ﴿جاؤوا بِالْبَيِّناتِ والزُّبُرِ والْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾
5. هنا لا بدّ من الانتباه إلى أن (زبر) وهو جمع (زبور) يعني كتابا أحكمت كتابة مواضيعه، لأن الزبر أصلا من الكتابة، لا مطلق الكتابة، بل الكتابة المتقنة المحكمة، وأمّا الفرق بين (الزبر) و(الكتاب المنير) مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب، فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسى عليه السّلام، والثّاني إشارة إلى التوراة والإنجيل، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و46 بالنّور إذ قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾، ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من (الزّبور) هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إلى داوود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن (الكتاب المنير) أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/30.
100. الموت والحياة والفوز الحقيقي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈100⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما توفي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه، ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم، يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فقال الإمام علي: هذا الخضر(1).
2. روي أنّه قال: كان ضحك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التبسم، فاجتاز ذات يوم بفئة من الأنصار وإذا هم يتحدثون ويضحكون بملأ أفواههم، فقال: يا هؤلاء من غرّه منكم أمله وقصّر به الخير عمله، فليطلع في القبور وليعتبر بالنشور، واذكروا الموت فإنه هادم اللذات(2).
3. روي أنه قيل له: بماذا أحببت لقاء الله؟.. قال: لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه، علمت أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحببت لقاءه(3).
4. روي أنّه تبع جنازةً، فسمع رجلاً يضحك، فقال: كأنّ الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأنّ الذي نرى من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون، نبؤّوهم أجداثهم ونأكل تراثهم، قد نسينا كلّ واعظ وواعظة، ورمينا بكل جائحة، وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموت.. ومَن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير(4).
5. روي أنّه قال في خطبة ذكر فيها ملك الموت: هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمه؟ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هو ساكنٌ معه في أحشائها؟ كيف يصف إلهه مَن يعجز عن صفة مخلوق مثله؟(5).
6. روي أنّه نادى أهل القبور من المؤمنين والمؤمنات فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. نخبركم بأخبارنا أم تخبرونا بأخباركم؟ أزواجكم قد تزوجوا وأموالكم قسمها وراثكم، وحُشِر في اليتامى أولادكم، والمنازل التي شيدتم وبنيتم سكنها أعداؤكم، فما أخباركم؟)، فأجابه مجيب: (قد تمزقت الأكفان وانتشرت الشعور وتقطعت الجلود وسالت الأحداق على الخدود، وتنازلت المناخر والأفواه بالقيح والصديد، وما قدماه وجدناه وما أنفقناه ربحناه، وما خلفناه خسرناه، ونحن مرتهنون بالأعمال، ونرجو من الله الغفران بالكرم والامتنان(6).
7. روي عن كميل بن زياد قال: خرجت مع الإمام علي فلما أشرف على الجبان التفت إلى المقبرة فقال: (يا أهل القبور يا أهل البلى يا أهل الوحشة ما الخبر عندكم فإنّ الخبر عندنا، قد قسّمت الأموال وأيتمت الأولاد، واستبدل بالأزواج، فهذا الخبر عندنا فما الخبر عندكم؟) ثم التفت إلي فقال: (يا كميل لو أذن لهم في الجواب لقالوا: إنّ خير الزاد التقوي، ثم بكى وقال لي: يا كميل القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر(7).
8. روي أنّه قال: أكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم اليه أنفسكم من الشهوات، وكفى بالموت واعظاً، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت، فيقول: أكثروا ذكر الموت، فانه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات(8).
9. روي أنّه قال: في مناجاته: اللهم قد وعدني نبيك أن تتوفاني إليك إذا سألتك، اللهم وقد رغبت إليك في ذلك(9).
10. روي أنّه قال: في وصيته لابنه الحسن: (يا بني أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجُمُ عليه، وتفضي بعد الموت اليه، واجعله أمامك حيث تراه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك)، وقال: أحيي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت(10).
11. روي أنّه قال: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير(11).
12. روي أنّه قال: أكثروا ذكر الموت، ويوم خروجكم من القبور وقيامكم بين يدي الله عزّوجلّ تهون عليكم المصائب(12).
13. روي أنّه قال: كم من غافل ينسج ثوباً ليلبسه، وإنما هو كفنه، ويبني بيتاً ليسكنه، وإنما هو موضع قبره(13).
14. روي عن سويد بن غفلة، قال: دخلت على أمير المؤمنين بعدما بويع بالخلافة، وهو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين، بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئا مما يحتاج إليه البيت!.. فقال: يا ابن غفلة، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة، ولنا دار قد نقلنا إليها خير متاعنا، وإنا عن قليل إليها صائرون(14).
15. روي أنّه قال: أيها الناس، ألا إن الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء، فخذوا من ممركم لمقركم(15).
16. روي أنّه قال: عجبت لعامر دار الفناء، وتارك دار البقاء!(16).
17. روي أنّه قال: دار البقاء محل الصديقين، وموطن الأبرار والصالحين(17).
18. روي أنّه قال: إنكم إنما خلقتم للآخرة لا للدنيا، وللبقاء لا للفناء(18).
19. روي أنّه قال: غاية الآخرة البقاء(19).
20. روي أنّه قال: لكل شيء من الآخرة خلود وبقاء(20).
21. روي أنّه قال: الدنيا أمد، الآخرة أبد(21).
22. روي أنّه قال: ينبغي لمن أيقن ببقاء الآخرة ودوامها أن يعمل لها(22).
23. روي أنّه قال: إياك أن تخدع عن دار القرار ومحل الطيبين الأخيار والأولياء الأبرار، التي نطق القرآن بوصفها وأثنى على أهلها، ودلك الله سبحانه عليها ودعاك إليها(23).
24. روي أنّه قال: إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم(24).
25. روي أنّه قال: إنما الدنيا دار ممر، والآخرة دار مستقر، فخذوا من ممركم لمستقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم(25).
26. روي أنّه قال: في صفة أهل الجنة: قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار، وأمنوا نقلة الأسفار(26).
27. روي أنّه قال: الآخرة دار مستقركم، فجهزوا إليها ما يبقى لكم(27).
28. روي أنّه قال: إن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار(28).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٢.
(2) أمالي الطوسي: ص 522.
(3) بحار الأنوار: 6/127.
(4) بحار الأنوار: 6/136.
(5) بحار الأنوار: 6/143.
(6) إرشاد القلوب باب أحاديث منتخبة: 196.
(7) كنز العمال: 3: 697 ح8495.
(8) أمالي الطوسي المجلس الأول: 28 ح31.
(9) مجموعة ورام: 2: 3.
(10) نهج البلاغة كتاب: 31.
(11) كنز الكراجكي: 17.
(12) الخصال حديث الأربعمائة: 616.
(13) عيون أخبار الرضا: 1/297.
(14) إرشاد القلوب: ص 157.
(15) عيون أخبار الرضا: 1/298.
(16) نهج البلاغة: الحكمة: 126.
(17) غرر الحكم: 4/15.
(18) غرر الحكم: 3/96.
(19) غرر الحكم: 4/370.
(20) غرر الحكم: 5/17.
(21) غرر الحكم: 1/10.
(22) غرر الحكم: 6/442.
(23) غرر الحكم: 2/320.
(24) نهج البلاغة: الخطبة: 203.
(25) غرر الحكم: 3/87.
(26) نهج البلاغة: الخطبة: 165.
(27) غرر الحكم: 2/121.
(28) نهج البلاغة: الخطبة: 132.
الحسن:
روي عن الإمام الحسن (ت 50 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل: ما الموت الذي جهلوه؟.. فقال: أعظم سرورٍ يرد على المؤمنين إذا نُقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبورٍ يرد على الكافرين إذا نُقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد(1).
2. روي عن الإمام الصادق أنّه قال: كان للحسن صديقٌ وكان ماجنا، فتباطأ عليه أياماً فجاء يوما، فقال له الإمام الحسن: كيف أصبحت؟.. فقال: يا ابن رسول الله.. أصبحت بخلاف ما أحبّ ويحبّ الله ويحبّ الشيطان، فضحك الإمام الحسن ثم قال وكيف ذاك؟.. قال لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن أطيعه ولا أعصيه ولست كذلك.. والشيطان يحبّ أن أعصي الله ولا أطيعه ولست كذلك.. وأنا أحبّ أن لا أموت ولست كذلك، فقام إليه رجلٌ فقال: يا ابن رسول الله.. ما بالنا نكره الموت ولا نحبه؟.. قال: إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(2).
__________
(1) بحار الأنوار: 6/154.
(2) بحار الأنوار: 6/129.
ابن عباس:
روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس (ت 68 هـ) عن قوله: ﴿فَقَدْ فَازَ﴾، قال سعد ونجا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول عبد الله بن رواحة(1):
çوعسى أن أفوز ثمت ألقى... حجة أتقي بها الفتاناé
__________
(1) الطستي كما في الإتقان: ٢/٨٠.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه، ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه، ابن آدم، إنّ أَجَلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى منزل وحيدا فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه مَلَكاك: منكرٌ ونكيرٌ لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإنّ أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما أفنيته؟.. ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته؟.. فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً تقياً، عارفاً بدينك، متّبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله، لقّاك الله حجّتك، وأنطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب، فبُشّرت بالجنة والرضوان من الله، والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعميت عن الجواب وبُشّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُل من حميم وتصلية جحيم(1).
2. روي أنّه قال: إنّ المؤمن ليقال لروحه وهو يُغسّل: أيسرّك أن تُردّ إلى الجسد الذي كنت فيه؟.. فيقول: ما أصنع بالبلاء والخسران والغمّ(2).
3. روي أنّه قال: في دعائه: اللهم أصلح لي ديني؛ فإنه عصمة أمرى، وأصلح لي آخرتي؛ فإنها دار مقرى وإليها من مجاورة اللئام مفرى(3).
4. روي أنّه قال: في دعائه في صلاة الليل: اللهم وإذ سترتني بعفوك، وتغمدتني بفضلك في دار الفناء بحضرة الأكفاء، فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين، والرسل المكرمين، والشهداء، والصالحين(4).
5. روي أنّه قال: معاشر أصحابي، الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم(5).
6. روي أنّه قال: العجب كل العجب لمن عمل لدار الفناء، وترك دار البقاء!(6).
7. روي أنّه قال: الدنيا سوق الآخرة، والنفس تاجر، والليل والنهار رأس المال، والمكسب الجنة، والخسران النار(7).
__________
(1) بحار الأنوار: 6/224.
(2) بحار الأنوار: 6/243.
(3) البلد الأمين: ص 123.
(4) الصحىفة السجادىة: ص 131 الدعاء: 32.
(5) الأمالي للصدوق: ص 289.
(6) الأمالي للطوسي: ص 664.
(7) أعلام الدين: ص 96.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: يكون الموت أحبّ إليه من الحياة، والفقر أحبّ إليه من الغنى، والمرض أحبّ إليه من الصحة، قيل له: ومَن يكون كذلك؟.. قال كلّكم، ثم قال أيّما أحبّ إلى أحدكم: يموت في حبنا أو يعيش في بغضنا؟.. قيل له: نموت والله في حبّكم أحبّ إلينا، قال: وكذلك الفقر والغنى والمرض والصحة؟(1).
2. روي أنّه قال لعمر بن عبد العزيز: يا عمر، إنما الدنيا سوق من الأسواق؛ منها خرج قوم بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرهم(2).
3. روي أنّه قال: يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود، وهو يسعى لدار الغرور!(3).
4. روي أنّه قال: الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدنيا أهل غفلة(4).
5. روي أنّه قال: فيما وعظ الله عز وجل به عيسى: يا ابن مريم، لو رأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك شوقا إليه، فليس كدار الآخرة دار تجاور فيها الطيبون، ويدخل عليهم فيها الملائكة المقربون، وهم مما يأتي يوم القيامة من أهوالها آمنون، دار لا يتغير فيها النعيم ولا يزول عن أهلها(5).
__________
(1) بحار الأنوار: 6/13.
(2) الخصال: ص 104.
(3) مسند الشهاب: 1/348.
(4) الكافي: 2/133.
(5) الكافي: 8/131 و135.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ هي متاع متروك، أوشكت والله أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٣.
الجمحي:
روي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط الجمحي (ت 118 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ كزاد الراعي، يزود الكف من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٨٨.
الأعمش:
روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ مثل زاد الراعي(1).
__________
(1) هناد في الزهد: ١/٢٩٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ذكر الموت يُميت الشهوات في النفس، ويقلع منابت الغفلة، ويقوّي القلب بمواعد الله، ويرقّ الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفئ نار الحرص، ويحقّر الدنيا، وهو معنى ما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فكر ساعة خير من عبادة سنة، وذلك عندما يحلّ أطناب خيام الدنيا ويشدّها في الآخرة، ولا يشكّ بنزول الرحمة على ذاكر الموت بهذه الصفة، ومَن لا يعتبر بالموت وقلّة حيلته وكثرة عجزه وطول مقامه في القبر وتحيّره في القيامة فلا خير فيه(1).
2. روي أنّه قال: مكتوبٌ في التوراة: نُحْنا لكم فلم تبكوا، وشوّقناكم فلم تشتاقوا، أعلم القتّالين أنّ لله سيفاً لا ينام وهو جهنم، أبناء الأربعين أوفوا للحساب، أبناء الخمسين زرعٌ قد دنا حصاده، أبناء الستين ماذا قدّمتم وماذا أخّرتم؟.. أبناء السبعين عدّوا أنفسكم في الموتى، أبناء الثمانين تُكتب لكم الحسنات، ولا تُكتب عليكم السيئات، أبناء التسعين أنتم أُسراء الله في أرضه)، ثم قال: ما يقول كريم أسر رجلاً؟.. ماذا يصنع به؟).. قيل له: يطعمه ويسقيه ويفعل به، فقال: (ما ترى الله صانعاً بأسيره؟(2).
__________
(1) بحار الأنوار: 6/133.
(2) بحار الأنوار: 6/136.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾، يعني: جزاء أعمالكم: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ يعني: صرف: ﴿عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ يعني: فقد نجا(1).
2. روي أنّه قال: ثم وعظهم، فقال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، يعني: الفاني الذي ليس بشيء(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٠.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه سئل: أخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: (نعم وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء)، قيل له: فإن قوما يقولون: إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقين، فقال: ما أولئك منا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذبنا وليس من ولايتنا على شيء، قال الله عزوجل: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: 43، 44](1).
__________
(1) الأمالي: ص 65.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، فقلت: هل في ذلك متعلق لمن يزعم: أن أهل النار يخرجون منها، ثم يدخلون الجنة؟ والجواب: وأي تعلق ـ يرحمك الله ـ في ذلك لأحد، أو ما فيه من الدليل على خروجهم من النار إلى الجنة!؟ وكيف يزحزح منها من كان من أهلها، فصار بحكم الله فيها، ووصل بقبيح فعله إليها، ووقع في أليم العذاب، وصار بذلك إلى شر مآب!؟
2. إنما المعنى في قوله: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ هو: أبعد من النار، وأزيح عنها، وأزلف الجنة، وأدخل فيها، فأصبح من المؤمنين، وعند الله سبحانه من المقربين.
3. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، بعد من الراحة والسرور، والنعمة والحبور ـ أهل الآثام والشرور، المتقحمون في المعصية، التاركون للطاعة، الكفرة الأشرار، المصيرون إلى شر دار، جهنم يصلونها فبئس القرار؛ قال سبحانه: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾، وقال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾، وقال: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾؛ فأين ـ يرحمك الله ـ ما ذكرت من خلاصهم، مع ما ذكر الله سبحانه وأخبر من دوام حسرتهم، وطول مقامهم في طبقات النيران، ماكثون في الخزي والهوان، ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾، غير خارجين من أليم العذاب، ماكثون فيه طول الأبد، إلى غاية لا تبيد ولا تنفد.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/200.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله عزّ وجل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ دلائل:
أ. أحدها: دليل إثبات الرسالة؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدا، ولا تدوم، ولا فيه آثار فنائها وموتها، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت، والتسليم له، والإقرار منهم أن كل نفس تموت ـ يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي ثم إن كل حي يتلذذ بحياته، وحبّب ذلك إليه، ويتكرّه الموت ويبغضه؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع، ولكن كان بغيره؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة، ويتكره بالموت ويتنغص به؛ إذ لو كان به: لكان يختار ما يتلذذ به، ويدفع ما يتكره به؛ فدلّ أن غيرا فعل ذلك وخلق؛ لما ذكر: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ الآية [الملك: 2]؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع.
ب. وأيضا: أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة، التي من طبعها التنافر ـ لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع؛ دل أن له جامعا، وأيضا: إن كان العالم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كلّ لنفسه أحوالا: أحسن الأحوال وألذها؛ فيبطل به الشرور والقبائح؛ فدلّ وجود ذلك على كونه بغيره، ثم فيه أن ذلك الغير ـ الذي كان به العالم ـ واحد لا عدد، وبالله التوفيق.
ج. ثم الدلالة على حكمته وعلمه: ما لم يعاين شيء ولا يشاهد إلا وفيه حكمة عجيبة، ودلالة بديعة مما يعجز الحكماء عن إدراك مائيته، وكيفية خروجه على ما خرج، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة، والعلم عن إدراك كنه ذلك فيما ذكرنا، وخروج الفعل متقنا محكما ـ دلالة حكمة مبدعه وخالقه، وبالله التوفيق.
د. ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصّة؛ ولكن خلق للعواقب: يتأمّل ويرجى ويخاف ويحذر ـ خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يخرج فعله عن الحكمة؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصّة، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة.
هـ. قال دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس، وترك حكماء البشر الاحتيال ـ في دفعه، على ما ليس في الجوهر دليله، ولا في العقل امتناعه ـ أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم، وبغض الموت عندهم ـ على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم، وفي خروجهم خروج الأموات؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء.
و. ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالة التدبير للواحد؛ إذ لو كان لأكثر لجوز التمانع وإبطال الوارد من الحيّ؛ وفي ذلك ارتياب، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبّرها هيأها على ذلك وطبعها، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها، وعلى ذلك جبلها؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير، أو المعونة في التقدير.
ز. ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كلّ ـ أنه كان للموت أنشأ لا لغير؛ إذ تدبير فعل واحد للفناء خاصّة من حكماء البشر ـ يخرج عن معنى الحكمة، ويدلّ على قصور صاحب ذلك وسفهه؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءا منها، وعقل العقلاء بعضا منها ـ أحق وأولى؛ فثبت أنها أنشئت ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 5 ـ 6]، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، وذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ الآية.
2. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لما ذكرنا أنهم لها خلقوا ـ أعنى: الآخرة ـ للجزاء والثواب، وقوله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ قيل: بعّد ونحّى عنها، ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾:
أ. قيل: فاز: نجا.
ب. وقيل: سعد.
ج. وقيل: الفائز: السابق.
د. وقيل: فاز: غنم.
هـ. أصل الفوز: النجاة، أي: نجا مما يخاف ويحذر، ويظفر بما يتأمّل ويرجو.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾:
أ. قيل: حياة الدنيا للدنيا غرور؛ كقوله عزّ وجل: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: 20] حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور، وللآخرة: ليست بلعب ولا لهو ولا غرور، وأصل الغرور: هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموها؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهرا، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة، نعوذ بالله من الاغترار بها.
ب. وقيل: الحياة الدنيا ـ على ما عند أولئك الكفرة ـ لعب ولهو، وعند المؤمنين حكمة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/552.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾: أي من أزيح عن النار وأبعد منها.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 268.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ معنى الآية إن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود المكذبين برسوله الذين وصفهم، ومصير غيرهم من جميع الخلق إليه تعالى من حيث حتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يحزنك قولهم وتكذيبهم وافتراء من افترى منهم على الله وعليك، وتكذيب من تقدمك من الرسل، فان مرجعهم إلي وأوفي كل نفس منهم جزاء عمله، فقال: توفون أجوركم يعني أجور أعمالكم إن خيراً فخيراً وثواباً، وإن شراً فشراً وعقاباً، وهو نصب على أنه مفعول به.
2. لا يجوز أن يجعل (ما) في (إنما) بمعنى الذي وترفع أجوركم، لأن يوم القيامة يصير من صلة توفون وتوفون من صلة الذين فلا يأتي ما في الصلة بعد أجوركم، وأجوركم خبر.
3. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ معناه نحيي عن النار، وأبعد منها.
4. ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ أي نجا وظفر بعظيم الكرامة، وكل من لقي ما يغتبط به فقد فاز، ومعنى (فاز) تباعد من المكروه، ولقي ما يجب، والمفازة: مهلكة، وإنما سموها مفازة أي منجاة كما سموا اللديغ سيما، والأعمى بصيراً.
5. ظاهر الآية يدل على أن كل نفس تذوق الموت، وإن كانت مقتولة ـ على قول الرماني ـ ونحن وإن قلنا(2): إن الموت غير القتل، فلا بد أن نقول: إن المقتول يختار الله أن يفعل فيه الموت إذا كان في فعله مصلحة.
6. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ معناه وما لذات الدنيا، وشهواتها، وما فيها من زينتها إلا متعة متعكموها الغرور، والخداع: المضمحل الذي لا حقيقة له عند الاختبار والامتحان، لأنكم تلتذون بما يمتعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب، فلا تركنوا إليه، ولا تسكنوا، فإنما هي غرور وإنما أنتم منها في غرور، وقال عكرمة: متاع الغرور، القوارير، وهي في الأصل كل متاع لا بقاء له.
7. إنما وصفت الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور مع كشفها عن حالها، لأنها بمنزلة من يغتر بالمحبوب ويبذل ما فيه الفرح والسرور، ليوقع في بلية تؤدي إلى هلكة، مبالغة في التحذير منها ـ على ما بيناه ـ
8. في الآية دلالة على أن أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها)
9. استدل بهذه الآية على أن القتل هو الموت على الحقيقة، ومنه من قال في المقتول: موت، وقتل وللمخالف أن يقول: يمكن أن تكون الآية مخصوصة بمن يموت، ولا يقتل كما قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ وهي مختصة بالعقلاء البالغين، ويمكن أن يكون المراد كل نفس تعدم الحياة، فيكون ذلك على وجه الاستعارة، ذكره البلخي.
10. قوله تعالى: ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ مجاز، لأن الموت لا يذاق في الحقيقة، لأن ذلك مشهور في كلامهم يقولون: ذاق الموت، وشرب بكأس المنون، لأنه بمنزلة ما يذاق بذوق شدائده، والفرق بين الذوق وإدراك الطعم أن الذوق تقريب جسم المذوق إلى حاسة الذوق، والإدراك للطعم هو وجدانه وإن لم يكن هناك احساس، ولذلك يوصف تعالى بأنه مدرك للطعم ولا يوصف بأنه ذائق له، ويقولون: ذقته فلم أجد له طعماً أي لا بس فمي فلم أحس له طعماً.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/71.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ذاق: تستعمل في المطعوم حقيقة وفي غيره توسعًا، قال أمية بن أبي الصلت:
çمَن لَم يَمُت عَبطَةً يَمُت هَرمًا... لَلمَوتُ كَأسٌ وَالمَرءُ ذائِقُهاé
يقال: ذاق الموت لأنه بمنزلة ما يذاق من شدائده.
ب. زحزح: نحي وبُعِّدَ، ويقال: ما تزحزح وما تَحَزْحَزَ أي ما زال عن مكانه، وتزحزح عن المكان تنحى، قال ابن دريد: يقال: زَحَّهُ يَزُحُّهُ إذا رفعه، وقيل: أصله من زاح يزيح أو من الزوح وهو السوق الشديد، ويقال زحزحته فتزحزح وانزاح أي تباعد، ومنه سمي المزاح؛ لأنه أزيح من الحق، وفي حديث علي قال لسلمان بن صرد يوم الجمل: تزحزحت وتربصت، أي تأخرت.
ج. الفوز: الظفر بالخير بدلا من الوقوع في الشر، وأصله نيل الحظ من الخير، والمفازة المنجاة، ومنه ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي بمنجاة، وسميت المفازة تفاؤلاً، يقال: فاز بطلبته يفوز فوزا إذا ناله.
د. الغرور: بضم الغين، قال أبو عمرو: يجوز أن يكون مصدرًا يقول: غررت فلانًا، غرورًا، ويجوز أن يكون جمع غار أي غافل، فقد يجمع فاعل على فعول كراقد ورقود، وساجد وسجود، وسواء الغارّ والمغترّ في المعنى وإن اختلفا في اللفظ والبناء ككاسب ومكتسب وفارق ومفترق، والغَرور بفتح الغين الشيطان.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما تقدم صفة المؤمن المجاهد المنفق وصفة الكافر الباخل عقب ذلك بخطاب الجميع ونزول الموت بهم، وأن الجزاء يكون بعده تسلية للمؤمنين ووعدًا لهم ووعيدا للكفار عن أبي مسلم.
ب. وقيل: لما حكى تكذيب اليهود إياه وما اقترحوا عليه وما لحقه من أذاهم وأمره بالصبر بيّن أن موعدهم الموت وأنه يوفر عليهم الجزاء وأنه قريب، وبه تسلية له عن الأصم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾:
أ. قيل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ يعني كل نفس حية ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أي ينزل بها الموت لا محالة، فكأنه ذاقه.
ب. وقيل: أراد مقدمات الموت وشدائده كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ يعني مقدماته، وعلى هذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله)
4. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني توفر عليكم جزاء أعمالكم يوم القيامة إذا بعثتم، ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾:
أ. قيل: أي بعّد عن نار جهنم وأدخل الجنة والألف واللام للتعريف ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ أي نجا وظفر ببغيته.
ب. وقيل: من أدخل النار لم ينفعه ماله الذي بخل به، ومن أدخل الجنة لم يضره ما زوي عنه من الدنيا.
5. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي الدنيا وحياتها وزينتها ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾:
أ. قيل: يعني متاعًا يمتع بها ثم يبطل لسرعة زوالها، جعل مثل الغرور الذي لا حاصل له.
ب. وقيل: الغرور الباطل.
ج. وقيل: آيات تزول ولا تبقى كالفأس والقدر والقصعة ونحوها.
د. وقيل: كخضرة النبات عن الحسن.
هـ. وقيل: المبالغة في النهي عن الاغترار بالدنيا والحث على تحصيل الآخرة وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (موضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها)
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن كل حي سيموت، ولولا السمع لكان يجوز أن تتصل حياتهم إلى وقت المجازاة، ولا يقال: عندكم لا بد من قطع بين حال التكليف والمجازاة؛ لأن ذلك القطع يجوز أن يحصل مع بقاء الحياة.
ب. أن المقتول حصل فيه الموت؛ لأن عند أبي علي الموت معنى محله يضاد الحياة، وعند أبي هاشم الموت عدم الحياة، فعلى كلا المذهبين حصل الموت فيه.
ج. أن المكلف وغير المكلف يموت وأن آخر الأحياء يموت وإن اتصل به الفناء لضرب من المصلحة.
د. يدل قوله: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ﴾ أن يجازى بعد الموت فلا بد من انقطاع بين التكليف والجزاء، والمراد بالأجور كل الجزاء أو معظم الجزاء؛ لأنه قد يصل إليه يسير من ذلك قبل يوم القيامة.
هـ. أن الظفر والخير كله في الجنة وأن الدنيا غرور لا يغتر بها إلا جاهل.
7. قراءة العامة ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالإضافة، وعن الأعمش ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالتنوين الموتَ نصبًا، قال: لأنها لم تذق بعد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/486.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. فاز: يقال لكل من نجا من هلكة، وكل من لقي ما يغتبط به: فقد فاز، وتأويل فاز: تباعد عن المكروه، ولقي ما يحب، ومعنى قولهم مفازة للمهلكة التفأل، وإنما المفازة المنجاة كما سموا اللذيع سليما، والأعمى بصيرا.
2. بين سبحانه أن مرجع الخلق إليه، فيجازي المكذبين رسله على أعمالهم، من حيث حتم الموت على جميع خلقه فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾:
أ. أي: ينزل بها الموت لا محالة، فكأنها ذاقته.
ب. وقيل: معناه كل نفس ذائقة مقدمات الموت، وشدائده وسكراته كقوله تعالى ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾، وعلى هذا جاء قوله: لقنوا أمواتكم شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا الظاهر يدل على أن كل نفس تذوق الموت، وإن كانت مقتولة، وإن القتل لا ينفك عن الموت الذي هو فعل الله.
ج. وقيل: إن المراد بالموت هنا: انتفاء الحياة والقتيل قد انتفت الحياة منه، والقتيل فهو داخل في الآية.
3. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ معناه: وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا ﴿يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ إن خيرا فخيرا وثوابا، وإن شرا فشرا وعقابا، فإن الدنيا ليست بدار جزاء، وإنما هي دار عمل، والآخرة دار جزاء، وليست بدار عمل.
4. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ أي: بوعد عن نار جهنم، ونخي عنها، وادخل الجنة ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ أي نال المنية، وظفر بالبغية، ونجا من الهلكة.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾:
أ. قيل: معناه: ما لذات الدنيا وشهواتها وزينتها، إلا متعة متعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لا حقيقة له عند الاختبار، لأنكم تلتذون بها، ثم إنها تعود عليكم بالرزايا والفجائع، ولا تركنوا إليها، ولا تغتروا بها، فإنها هي غرور، وصاحبها مغرور.
ب. وقيل: متاع الغرور القوارير، وهي في الأصل ما لا بقاء له، عن عكرمة.
6. في الآية دلالة على أن أقل نعيم من الآخرة، خير من نعيم الدنيا بأسره، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: موضع سوط في الجنة، خير من الدنيا وما فيها.
7. في الآية دلالة على أن كل حي سيموت، ولولا ورود السمع بذلك، لكان يجوز في العقل أن يتصل حياتهم إلى وقت المجازاة، 8. سؤال وإشكال: أليس من قولكم لا بد من القطع بين حال التكليف، وحال المجازاة؟ والجواب: إن ذلك القطع كان يجوز أن يحصل مع بقاء الحياة.
9. في الآية دلالة على أن المقتول يحصل فيه الموت، وقد اختلف في الموت قول أبي علي، وأبي هاشم:
أ. فعند أبي علي: الموت معنى يضاد الحياة.
ب. وعند أبي هاشم: عدم الحياة.
فعلى كلا المذهبين يجوز حصوله في المقتول.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/903.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجنّ، والطّير، والأنعام، فنزلت هذه الآية.
2. في ذكر الموت تهديد للمكذّبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.
3. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ قال ابن قتيبة: نجّي وأبعد، ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ قال الزجّاج: تأويل فاز تباعد عن المكروه ولقي ما يحبّ، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز.
4. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ يريد أنّ العيش فيها يغرّ الإنسان بما يمنّيه من طول البقاء، وسيقطع عن قريب، قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
__________
(1) زاد المسير: 1/356.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين:
أ. أحدهما: أن عاقبة الكل الموت، وهذه الغموم والأحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه.
ب. الثاني: أن بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء.. وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء.
2. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ سؤال: وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: 116] وأيضاً النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات، وأيضاً قال تعالى: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ﴾ [الزمر: 68] وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء، وهذا العموم يقتضي موت الكل، وأيضاً يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس، والجواب: أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ فإن هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة.
3. ﴿ذَائِقَةُ﴾ فاعلة من الذوق، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر، كقولك: زيد ضارب عمرو أمس، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول: هو ضارب زيد غدا، وضارب زيدا غدا، قال تعالى: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ [الزمر: 38] قرئ بالوجهين لأنه للاستقبال، وروي عن الحسن أنه قرأ ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالتنوين ونصب (الموت) وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بطرح التنوين مع النصب كقوله: (ولا ذاكر الله إلا قليلا)، وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله: ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: 97] إن شاء الله تعالى.
4. زعمت الفلاسفة أن الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفئ الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة، قالوا: وقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن، لأنه جعل النفس ذائقة الموت، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن، وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن، وأيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية، فأما الأرواح المجردة فلا، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك، فإنه روي عن ابن عباس أنه قال لما نزل قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن: 26] قالت الملائكة: مات أهل الأرض، ولما نزل قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ قالت الملائكة متنا(2).
5. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف.
6. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم والسعادة بلا خوف الانقطاع، وكذا القول في جانب العقاب فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه.
7. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ الزحزحة التنحية والابعاد، وهو تكرير الزح، والزح هو الجذب بعجلة، وهذا تنبيه على أن الإنسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدنيا سجن المؤمن)، ولا مقصود للإنسان وراء هذين الأمرين، الخلاص عن العذاب، والوصول إلى الثواب، فبين تعالى أن من وصل إلى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها) وقرأ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى اليه)
8. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ الغرور مصدر من قولك: غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور، وعن سعيد بن جبير: أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع والله أعلم.
9. فساد الدنيا من وجوه:
أ. أولها: أنه لو حصل للإنسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا.
ب. ثانيها: أن الإنسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حصره في طلبها أكثر، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد، فان الإنسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته.
ج. ثالثها: أن الإنسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث قال: (لين مسها قاتل سمها)، وقال بعضهم: (الدنيا ظاهرها مطية السرور، وباطنها مطية الشرور)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/452.
(2) لا يمكن الرد على ما ذكروه بمثل هذه الرواية الواردة ـ في حال صحتها ـ عن غير معصوم
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أخبر جل وتعالى عن الباخلين وكفرهم في قولهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ وأمر المؤمنين بالصبر على أذاهم في قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ [آل عمران] الآية ـ بين أن ذلك مما ينقضي ولا يدوم، فإن أمد الدنيا قريب، ويوم القيامة يوم الجزاء.
2. ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ من الذوق، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان، ولا محيد عنه لحيوان، وقد قال أمية بن أبي الصلت:
çمن لم يمت عبطة يمت هرما...للموت كأس والمرء ذائقهاé
وقال آخر:
çالموت باب وكل الناس داخله...فليت شعري بعد الباب ما الدارé
3. قراءة العامة ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالإضافة، وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالتنوين ونصب الموت، قالوا: لأنها لم تذق بعد، وذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي، والثاني بمعنى الاستقبال، فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده، كقولك: هذا ضارب زيد أمس، وقاتل بكر أمس، لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم، نحو غلام زيد، وصاحب بكر، قال الشاعر:
çالحافظو عورة العشيرة لا...يأتيهم من ورائهم وكفé
وإن أردت الثاني جاز الجر، والنصب والتنوين فيما هذا سبيله هو الأصل، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع فإن كان الفعل غير متعد، لم يتعد نحو قاتم زيد، وإن كان متعديا عديته ونصبت به، فتقول، زيد ضارب عمروا بمعنى يضرب عمروا، ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفا، كما قال المرار:
çسل الهموم بكل معطي رأسه...ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه...في منكب زبن المطي عرندسé
فحذف التنوين تخفيفا، والأصل: معط رأسه بالتنوين والنصب، ومثل هذا أيضا في التنزيل قوله تعالى: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ [الزمر] وما كان مثله.
4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالأحكام الفقهية للميت كتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
5. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب، ولم يعتد بالنعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء، لأنها عرصة الفناء، ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ أي أبعد، ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ ظفر بما يرجو، ونجا مما يخاف(2).
6. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أي تغر المؤمن وتخدعه فيظن طول البقاء وهي فانية، والمتاع ما يتمتع به وينتفع، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه، قاله أكثر المفسرين، قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له، وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع، ولقد أحسن من قال:
çهي الدار دار الأذى والقذى...ودار الفناء ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها...لمت ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود...وطول الخلود عليه ضرر
إذا أنت شبت وبان الشباب...فلا خير في العيش بعد الكبرé
7. الغرور بفتح الغين الشيطان، يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة، قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول، والشيطان غرور، لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء، قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/298.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَائِقَةُ﴾ من الذوق، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
çمن لم يمت عبطة يمت هرما...الموت كأس والمرء ذائقهاé
2. هذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وابن أبي إسحاق: ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ بالتنوين ونصب الموت، وقرأ الجهور بالإضافة.
3. ﴿إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ أجر المؤمن: الثواب، وأجر الكافر: العقاب، أي: أن توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور.
4. الزحزحة: التنحية، والإبعاد: تكرير الزح وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف، وقد سبق الكلام عليه، أي: فمن بعد عن النار يومئذ ونحي فقد فاز، أي ظفر بما يريد ونجا مما يخاف، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه، فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها، ولا نعيم إلا نعيمها، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وارض عنا رضا لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة.
5. المتاع: ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى، كذا قال أكثر المفسرين، الغرور: الشيطان يغرّ الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده، وله ظاهر محبوب وباطن مكروه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/468.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ كلُّ ذي روح أو كلُّ روح، ﴿ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ حتَّى الحور والولدان وما في الجنَّة والنار من الحيوان كحيَّاتها، بناء على وجودهما الآن، والملائكة، وملك الموت، قيل: يقبض روح نفسه بإذن الله، وقيل: يتقلَّب بين الجنَّة والنار فيموت وتموت الأرواح، فانظر قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَن شَآءَ اللهُ﴾ [الزمر: 68]، فلا تضق نفسك بتكذيبهم؛ فالآية تسيلة له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ووعد للمصدِّق، ووعيد للمكذِّب، وذِكْرُ الموت يزيل الهمَّ والحزن، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أكثروا ذكر هادم اللذَّات، فإنَّه ما ذكر في كثير إِلَّا قلَّله، ولا في قليل إِلَّا كثَّره)
2. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ يكمل لكم جزاء أعمالكم من خير أو شرٍّ، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ من قبوركم، وبعض أجوركم في قبوركم كالنور والطعام والشراب والروائح الداخلة على السعيد في قبره، فإنَّه روضة من رياض الجنَّة، وكعذاب القبر الواقع للكافر في قبره، فإنَّه حفرة من حفر النار، كما روى الترمذي عن أبي سعيد والطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: (القبر روضة من رياض الجنَّة، أو حفرة من حفر النار)، وقيل: بعض الثواب والعقاب في الدنيا أيضًا.
3. ﴿فَمَن زُحْزِحَ﴾ زُحَّ، وأصله تكرير الزحِّ، أي: جُبِذَ بعجلة، والتضعيف للمبالغة، وهو ملحق بالرباعيِّ الأصول كدحرج، والمراد: أُبْعِدَ.
4. ﴿عَنِ النَّارِ﴾ يوم القيامة، ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ نال خيرًا لا غاية له ولا لزمانه، ونجا من النار، أو فاز بِكُلِّ ما يريد، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لَموضع سوط أحدكم من الجنَّة خير من الدنيا وما فيها)
5. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلَّا مَتَاعُ﴾ إِلَّا شيء حقير يتمتَّع به، أو إِلَّا تمتُّع ﴿الْغُرُورِ﴾ الخِدَاع، مصدر، أو بمعنى مفعول، أي: المغرور، أو جمع غَار، شُبِّهت بمتاع دُلِّسَ به المشتري وَهُوَ رديء، كما أضافه إلى الغرور، ووجه الخداع أنَّه يُتوهَّم بقاؤُه وهو فانٍ وذاهب، وأنَّه يُتوهَّم حسنه وهو سيِّئ العاقبة دنيا وأخرى، أو في إحداهما، أو تمتُّع الباطل، أي: هو الباطل إذ يفنى، وذلك لمن لم يجعلها مطيَّة لدينه وأخراه، قال عليٌّ: (هي ليِّن مسُّها قاتل سمُّها:
çوإذا امتحن الدنيا لبيب تكشَّفت...له عن عدوٍّ في ثياب صديقé
ظاهرها مظنَّة السرور، وباطنها مطيَّة الشرور، وأمَّا من جعلها لهما فنعمت المطيَّة له، دنيا وأخرى أو في إحداهما، وهي بلاغ له إلى ما هو خير منها)، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من أحبَّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنَّة فلتدركه منيَّته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤتي إلى الناس ما يحِبُّ أن يؤتى إليه) رواه أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/78.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ كقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26 ـ 27]، وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب.
2. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال الزمخشريّ: (فإن قلت فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار! قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور)، وقال الرازيّ: بيّن تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة، لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف الانقطاع، وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه.
3. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ أي أبعد ﴿عَنِ النَّارِ﴾ التي هي مجمع الآفات والشرور ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ الجامعة للّذات والسرور ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ أي حصل الفوز العظيم، وهو الظفر بالبغية، أعني النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد، وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)
4. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي لذاتها ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ المتاع: ما يتمتع وينتفع به، والغرور (بضم الغين) مصدر غره أي خدعه وأطمعه بالباطل، وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنّيه لذاتها من طول البقاء، وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه، قال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول، فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/474.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام في الآيتين مستقل ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تكذيب اليهود وغيرهم له ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة والمعاندة والكفر، وفي هذه تأكيد للتسلية، كما قال الرازي من حيث إن الموت هو الغاية وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل بما يستحق، وقال محمد عبده: إنها تسلية أخرى، كأنه يقول لا تضجر ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين فإن هذا منته، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب فيجازون على أعمالهم ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن وحسبهم ما أصيبوا وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا، واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة.
2. ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين يبخلون﴾ الخ أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين ـ كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم ويوفون أجورهم يوم القيامة ـ وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا، كلا إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.
3. الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولمن اتبعه والتفات إلى خطابهم فإن توفية الأجور متبادرة في الخير، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به.
4. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ والمعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو أن كل حي يموت، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين، لذلك قال محمد عبده: لكلمة (نفس) استعمالات يصح في بعض المواضع منها ما لا يصح في موضع آخر، والمتبادر هنا أن المراد بالنفس ما به الحياة المعروفة في الحيوان، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى الذات أي فيقال: (إنه يدخل في عمومها البارئ تعالى لإضافة لفظ النفس إليه عز وجل) واستشكلوا موت النفس مع أنها باقية لأنها تبعث يوم القيامة وإنما يبعث الموجود ولو عدمت النفس لما صح أن يُقال إنها تبعث، وإنما كان يُقال توجد، وأجابوا عنه بأن كونها باقية لا ينافي كونها تذوق الموت فإن الذي يذوق هو الموجود والميت لا يذوق لأن الذوق شعور فالحالة المخصوصة التي هي مفارقة الروح للبدن إنما تشعر بها النفس، وأما البدن فلا شعور له لأنه يموت، ومن العبث والجهل البحث في تعريف الموت فالموت هو الموت المعروف لكل أحد، وهناك جواب آخر أبسط من هذا واظهر وهو أن الخطاب هنا على العرف المعهود في التخاطب المتبادر لكل عربي وهو أن كل حي يموت.
5. ﴿إنما توفون أجوركم يوم القيامة﴾ وفاه أجره أعطاه إياه وافيا بالعمل لم ينقصه منه شيئا ومهما نال الإنسان من أجر على عمله في الدنيا فإنه لا يوفاه إلا في الآخرة، والقيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الحياة التي بعد الموت.
6. استدل بالآية من ينكر عذاب القبر ونعيمه أي ما تذوقه هذه النفوس في البرزخ الذي بين هذه الحياة القصيرة وتلك الحياة الطويلة وهو ينسب إلى المعتزلة، ولكن الزمخشري وهو من أساطينهم يرد استدلالهم، قال في الكشاف: (فإن قلت فهذا يوهم نفي ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، قلت كلمة التوفية تزيل هذا الوهم لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور)
7. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ زحزح عن النار نحي وأبعد عنها واختطف دونها قبل أن تلتهمه قال في الكشاف الزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعجلة، والذي لا يزال يسبق إلى فهمي من معناها أنه الإزاحة بعد الإزاحة أي التنحية بعد التنحية، جعل الذي يهم بمواقعتها مرة بهد مرة (لما في نفسه من الشوائب التي تجذب إليها) فينحى عنها في كل مرة: (بغلبة تأثير حسناته المضاعفة على سيئاته) إلى أن يدخل الجنة فائزا فوزا عظيما، وذكر الفوز مطلقا غير متعلق به شيء يفيد أنه الفوز العظيم الذي يشمل كل ما يطلبه المرء من سلامة من مكروه، وفوز بمحبوب، وناهيك بالسلامة من النار، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار.
8. قال محمد عبده: ذكر توفية الأجور ثم بين ذلك بأبلغ عبارة موجزة إيجازا معجزا فأعلم أن هنالك جنة ونارا وأن من الناس من يلقى في تلك ومنهم من يدخل في هذه وأبان عظيم هول النار وشدتها بالتعبير عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها وأن مجرد الزحزحة عنها فوز كبير، وفيه إيماء إلى أن أعمال الناس سائق لهم إلى النار لأنها حيوانية في الغالب حتى لا يكاد يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يكون زحزح عما كان صائرا إليه من السقوط في النار أما هؤلاء المزحزحون فهم الذين غلبت في نفوسهم الصفات الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم وفي أعمالهم وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله في عمل من الأعمال.
9. أفاد هذا الإيجاز كل هذه المعاني ولم يحتج في هذه الآية إلى مثل ما ذكر في آيات أخرى من وصف الجنة والنار لما يقتضيه السياق هنالك من الإطناب والتعريف بشيء من أمور عالم الغيب.
10. عبر بالفاء في قوله: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ للترتيب وبيان السبب.. والظاهر أن هذا الفاء عاطفة، وفيها معنى الترتيب دون السبب، وما بعدها تفصيل لتوفية الأجور.
11. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ الدنيا صفة للحياة وهي مؤنث الأدنى والمتاع ما يتمتع به أي ينتفع به زمنا ممتدا امتدادا طويلا أو قصيرا لأنه من المتوع وهو الامتداد يُقال متع النهار ومتع النبات إذا ارتفع وامتد ويُقال للآنية متاع قال تعالى: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ [الرعد: 17] وقال في إخوة يوسف: ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾ [يوسف: 65] وهو الأوعية بما فيها من الميرة والطعام، والغرور الخداع وأصله إصابة الغرة أي الغالة ممن تخدعه وتغشه، قال في الكشاف: شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته.
12. قال محمد عبده: الحياة الدنيا هي السفلى أو القربى، والمراد منها حياتنا هذه أي معيشتنا الحاضرة التي نتمتع فيها باللذات الحسية كالأكل والشرب أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة، هذه الحياة هي أقرب الحياتين وأدناهما وأحطهما وهي على كل حال متاع الغرور، لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها فهو يتعب لما لا يستحق التعب ويشقى لتوهم السعادة ويتعب نقدا ليستريح نسيئة، والعبارة جاءت بصيغة الحصر فهي تشمل حياة الأبرار الذين يصرفون أعمالهم في نفع الناس حبا بالخير وتقربا إلى الله عز وجل من حيث هم متمتعون فيها إما من حيث إن لذتهم فيما هم فيه قهرية وإما على معنى انها لا بقاء لها أو يُقال إن ما كان من عمل الخير والطاعة ليس من متاع الدنيا والحصر بحسب ما عليه الغالب.
13. حاصل معنى الجملة أن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف الحقيقية والأخلاق المرضية التي ترقى بروحه فتعدها لسعادة الآخرة فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها في نفسه فإن أي نوع منه قد يشغله وينسيه نفسه، وإن لم يكن الاشتغال به ضروريا ولا من حاجات المعيشة المعتدلة، أما ترى المغرمين فيها باللعب واللهو كالشطرنج والنرد وما في معناهما وهو كثير في هذا الزمان، كيف يسرفون في حياتهم، ويفنون أعمارهم بين جدران بيوت اللهو كالقهاوي والحانات، وكل حزب بما لديهم فرحون، لأنهم مغرورون مخدوعون، إلا من وفقه الله لصرف معظم زمنه في علم يرقى به عقله وعبرة تتزكى بها نفسه وعمل صالح ينتفع به، وينفع به عباد الله تعالى مع النية الصالحة والقلب السليم، وما أحسن وصية الحلاج الأخيرة لمريده قبيل قتله: (عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك)
14. ليس لمتاع الدنيا غاية ينتهي العامل إليها فتسكن نفسه ويطمئن قلبه بل المزيد منه يغري بزيادة الإسراف في الطلب؛ فلا ينتهي أرب منه إلا إلى أرب قال الشاعر:
çفما قضى أحد منا لبانته...ولا انتهى أرب إلا إلى أربé
فمن هدي الدين تنبيه الناس إلى ذلك حتى لا تغلب عليهم الحيوانية فيكونوا من الهالكين.
__________
(1) تفسير المنار: 4/270.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن سلّى الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرا من الرسل قبلك قد كذّبوا كما كذّبت، ولاقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت، بل أشد مما لاقيت، فقد قتلوا كثيرا منهم كيحيى وزكريا عليهما السلام ـ زاده هنا تسلية وتعزية أخرى، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب فلا تضجر ولا تحزن على ما ترى منهم، وأنهم سيجازون على أعمالهم في دار الجزاء كما تجازى، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء، وحسبهم ما أصيبوا به وما يصابون به من الجزاء في الدنيا، وسيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.
2. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن وتحس به، وفي هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن، لأن الذي يذوق هو الموجود، والميت لا يذوق، فالذوق شعور لا يجس به إلا الحي.
3. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة، وفي ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خيرا وشر قد تصل إليهم في الدنيا جزاء أعمالهم، ويؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا، (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)
4. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الاسمى والغاية التي لا مطلب بعدها، وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)
5. الخلاصة ـ إن هناك جنة ونارا، وإن من الناس من يلقى في هذه ومنهم من يلقى في تلك، وإن هول النار عظيم، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها، لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار، لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها ولا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح، فالزحزحة عنها فوز عظيم، وأولئك المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم، وجاهدوا في الله حق جهاده، ولم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه في عمل من أعمالهم.
6. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أي وما حياتنا القربى التي نحن فيها ونتمتع بلذاتها الحسية من مأكل ومشرب، أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها، تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب، ويشقى لتوهم السعادة.
7. الخلاصة ـ إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغرّ الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة، فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد، إذ ليس للذاتها غاية تنتهى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى:
çفما قضى أحد منها لبانته...ولا انتهى أرب منها إلا إلى أربé
وعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله، أو عمل صالح ينتفع به وينفع عباده، مع إصلاح السريرة، وخلوص النية، وقد قال بعض الصوفية: (عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك)
__________
(1) تفسير المراغي: 4/152.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة؛ يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها؛ ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
2. إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل؛ ثم تأتي نهايتها حتما.. يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن.. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.. الكل يموت.. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾.. كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة.. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع، إنما الفارق في شيء آخر.
3. الفارق في قيمة أخرى، الفارق في المصير الأخير: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق، وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان، القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾
4. لفظ ﴿زُحْزِحَ﴾ بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هيئته، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة.. فقد فاز.
5. صورة قوية، بل مشهد حي، فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته، فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان ـ حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة ـ يظل أبدا مقصرا في العمل.. إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى! وهذه هي الزحزحة عن النار؛ حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار!
6. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ إنها متاع، ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة.. إنها متاع الغرور، المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا، أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق، المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله.. فهو ذاك.. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/539.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية الكريمة تحمل أيضا عزاء كريما إلى النبيّ الكريم، بما تهوّن عليه من أمر الدنيا، وما يلقى في تبليغ رسالة ربّه، من عناد وعنت، وما يعرض له نفسه وأصحابه المجاهدين معه من جهد وبلاء، في ملاقاة الموت، والاستشهاد في سبيل الله، فهذا كلّه هيّن في لقاء الجزاء الحسن، الذي أعدّه الله لرسوله وللمؤمنين، من رضى ونعيم، أما أمر الموت، فهو حكم واقع على كل حيّ ونازل بكل نفس.
2. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وإذا كان ذلك هو الشأن، فالحرص على الحياة، والفرار من مواقف الحق والخير، طلبا للأمن والسلامة ـ أمر لا يكتب الخلود لأحد، فضلا عن أنه لا يمدّ له لحظة واحدة في أجله المقدور له.
3. أما الذي ينبغي الحرص عليه، والبذل من أجله، فهو الآخرة، التي هي دار البقاء والخلود.. وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها، والسلامة فيها.. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/665.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد، وتفنيد المنافقين في مزاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا:
أ. فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلانا من الله وتعجّبهم منه كيف يلحق قوما خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقوله: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ [آل عمران: 155]
ب. ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرّزية فوائد بقول الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [آل عمران: 153] وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 166]
ج. ثم أمرهم بالتسليم لله في كلّ حال فقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران: 166] وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ [آل عمران: 156] الآية.
د. وبيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزنوا لهم إنّما هم أحياء، وأنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فضل ثباتهم.
هـ. وبيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تحزن المؤمنين ولا أن تسرّ الكافرين، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154] وبقوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا﴾ [آل عمران: 168] إلى قوله: ﴿قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [آل عمران: 168]
و. ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لأنّ المصيبة والحزن إنّما نشئا على موت من استشهد من خيرة المؤمنين، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله، ولا يفتنكم المنافقون بذلك، ويكون قوله بعده: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم، منزلة من لا يترقّب من عمله إلّا منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة، ولذلك قال: ﴿تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ أي تكمل لكم، وفيه تعريض، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر، ومنها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة.
2. الذوق هنا أطلق على وجدان الموت، تقدّم بيان استعماله عند قوله آنفا: ﴿وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181] وشاع إطلاقه على حصول الموت، قال تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ﴾ [الدخان: 56] ويقال ذاق طعم الموت.
3. التوفية: إعطاء الشيء وافيا، ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال، ويوم القيامة يوم الحشر سمّي بذلك لأنّه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.
4. الفاء في قوله: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ للتفريع على ﴿تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾، ومعنى: ﴿زُحْزِحَ﴾ أبعد، وحقيقة فعل زحزح أنها جذب بسرعة، وهو مضاعف زحّه عن المكان إذا جذبه بعجلة.
5. إنّما جمع بين ﴿زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾، مع أنّ في الثاني غنية عن الأوّل، للدلالة على أنّ دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين: النجاة من النار، ونعيم الجنّة.
6. معنى ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ نال مبتغاه من الخير لأنّ ترتّب الفوز على دخول الجنّة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلّا لهذا، والعرب تعتمد في هذا على القرائن، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقّق، نحو قول القائل: من عرفني فقد عرفني، وقد يكون عينه بزيادة قيد نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ وقد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية وقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ على أحد وجهين، وقول العرب: (من أدرك مرعى الصّمّان فقد أدرك) وجميع ما قرّر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: 63]
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/301.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذا كانت الطاعة في الدنيا غير ثابتة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الآخرة دار الطاعة والقرار، ودار الجزاء والثواب والعقاب، وما الحياة الدنيا إلا سبيل لما يكون يوم القيامة، ولذا قال سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
2. ذكر سبحانه وتعالى هذه الكلية الثابتة لبيان الجمع الحاشد يوم القيامة الذي يتقدم فيه كل امرئ بما قدم من عمل، إن خيرا فجزاؤه خير، وإن شرا فجزاؤه شر.
3. هنا إشارات بيانية رائعة ككل إشارات القرآن:
أ. وذلك لأنه عبر عن إقبال الموت بذوقه، للإشارة إلى أنه عند ذوق الموت سيكون المذاق إما مرا حنظلا يومئ إلى ما يتبعه من عقاب، وإما أن يكون المذاق حلوا هنيئا، فيكون إيماء إلى ما يكون يوم القيامة من نعيم مقيم.
ب. والتعبير عن حلول الأجل في الدنيا بذوق الموت فيه استعارة بتشبيه الموت عند إقباله الرهيب أو الرغيب بالأمر الذي يذاق فيؤلم، أو يذاق فيسعد.
ج. وهنا إشارة بيانية أخرى رائعة هي أنه أسند ذوق الموت إلى النفس، ولم يسنده إلى الشخص؛ لأن النفس روح، والشخص جزءان جسم ونفس، وإن النفس تبقى بعد مفارقة الجسم، فهي التي تذوق الموت، كما ذاقت الحياة الدنيا، فإسناد الذوق إليها لأنها باقية، وقد تغيرت حياتها من حال إلى حال، فبعد أن كانت في غلاف من جسم من الطين، قد تجردت أبدا منه حتى تلتقى به يوم البعث والنشور.
4. وبعد أن تذوق النفس طعم تلك النقلة من متاع الدنيا الزائل إلى الآخرة، يكون الجزاء من نعيم أو جحيم، ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، والأجر هو العطاء خيرا أو شرا، والقيامة هي قيام الساعة لرب العالمين، وتقويم أعمالهم من خير وشر بالميزان الدقيق، والحساب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
5. يوم القيامة هو الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتقوم أعمالهم من بين أيديهم وتنطق بها جوارحهم، وتقوّم تلك الأعمال بقيمتها الحقيقية، ويذهب الزيف ولا يكون إلا الحق الخالص، ومعنى توفية الأجور إعطاؤها كاملة لا نقص فيها، وإذا قلنا إن الأجر هو العطاء فإن مجازاة المسيء بقدر إساءته هو العطاء العدل.
6. الخطاب هنا للأشخاص لا للنفوس وحدها، فذوق الموت للنفوس، ولكن الجزاء للأشخاص إذ تلتقى الجسوم بالنفوس، ولذلك خاطب الأشخاص فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾
7. السياق الذي ذكرنا عليه أكثر المفسرين وهو أن توفية الأجر تشمل الثواب والعقاب، ولكن أرى أن روح الآية وما اقترن بها من بعد يدل على أن الجزاء هنا هو العطاء الصرف بنعيم يوم القيامة لمن يستحقونه، فالخطاب للمؤمنين تعزية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين عند تكذيب المكذبين، ولذا قال سبحانه إن أول عطاء هو البعد عن النار، فقال سبحانه: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ﴾
8. الزحزحة عن النار الإبعاد عنها، والتنحية عنها، وهو تكرار الزح بمعنى الإبعاد، والمعنى أن من أبعد عن النار بعد تكرار التنحية عنها فقد فاز فوزا مطلقا، والنص يشير إلى أن أعمال الإنسان ترديه ولا تنجيه، وأنه لكى يبعد عن النار ويتجنبها يكون كالمحتاج لمجهود، وتكرر الزح والتنحية كشيء ثابت ملازم لها، لا يبعد عنها إلا بمجهود، وذلك تصوير دقيق لعفو الله ورحمته وغفرانه، وأن المرء لا يبعد عن النار إلا بعد تكرار الرحمة والمغفرة، وأن البعد عن النار ثم دخول الجنة هو أكبر الفوز، وهذا كله على أساس أن الزحزحة والتنحية في الآخرة التي هي دار الجزاء، ويصح أن يكون المعنى في الدنيا، بالأخذ في أسباب التوقي من النار، ودخول الجنة، ويكون السياق هكذا: من غالب شهواته وجاهد أهواءه وإنها لصعبة المراس تحتاج إلى صبر وضبط، فإنما يزحزح نفسه عن النار بتوقى أسبابها، ويدخل نفسه الجنة، واتخاذ الوسائل الموصلة إليها، فالزحزحة هي جهاد الأهواء التي هي أسباب النار، وليس ذلك التفسير ببعيد، وإن كان الأول أوضح وأبين.
9. بين سبحانه أن سبب العذاب هو الغرور في الدنيا، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ومَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾، في هذا النص الكريم قصر الحياة الدنيا على حال واحدة، وهى أنها متاع يستمتع به الإنسان ويغريه حتى ينسيه متاع الآخرة، إن استولى عليه واستغرق حسه ونفسه، والمعنى ليست هذه الحياة القريبة منا التي نشاهدها ونراها، وهى في ذاتها الحد الأدنى للحياة، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها الذي يظن أنها كل شيء، وأما من يؤمن بأنها قنطرة الآخرة، فإنها تكون جهاد النفس، والسيطرة على الأهواء، ولقد قال الزمخشري في تفسير متاع الدنيا: (شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغره حتى يشتريه، ثم يبين له فساده ورداءته، والمدلس هو الشيطان الغرور، وعن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على طلب الآخرة).. اللهم لا تغرنا بهذه الدنيا، ووفقنا لأن نطلب ما عندك، وامنحنا يا ذا الجلال والإكرام رضوانك، فهو أعلى ما يبتغيه المؤمن؛ إذ رضوانك أكبر من كل ما في الوجود يا رب الوجود.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1536.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، كأس تدور على كل انسان نبيا كان أو شقيا، ملكا كان أو صعلوكا.. أبدا لا وسيلة للفرار من الموت، وكل ما فكر فيه الأطباء أن يطيلوا حياة الإنسان، لا أن يدفعوا عنه الموت.
2. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، لا جزاء في الحياة الدنيا من الله سبحانه، وإنما يجزيه على ما عمل جزاء كاملا وافيا يوم القيامة.. وقال كثير من المفسرين: ان الله سبحانه يعطي الإنسان قسطا من الجزاء على عمله بعد الموت، وقبل يوم القيامة، ثم يعطيه القسط الأخير يوم القيامة، وبه يتم الوفاء ويكمل، وادعوا ان لفظ (توفون) يدل على ذلك، أما نحن فلا نفهم من لفظ (توفون) الا ما نفهم من قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾، وهو لا يشعر بالتقسيط من قريب أو بعيد.. أجل، في الحديث: (ان القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار)، ولكن هذا شيء، ودلالة توفون على التوزيع شيء آخر.
3. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، بل من زحزح عن النار، ولم يدخل الجنة فهو من الفائزين.. وقد حدد كثير من الفلاسفة اللذة بدرء الألم، والسعادة بعدم الشقاء.
4. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وصف سبحانه الدنيا بمتاع الغرور، لأن الإنسان يغتر بها وينخدع، أو لأنه إذا ملك شيئا من حطامها أحدثت الغرور بنفسه.. قال الإمام علي عليه السلام: الدنيا تضر وتغر وتمر، ان الله تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، ولا عقابا لأعدائه، وان أهل الدنيا كركب بيناهم حلوا إذا صاح صائح فارتحلوا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/223.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، الآية تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب وقد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس، والتوفية هو الإعطاء الكامل.
2. استدلّ بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء وأن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، وهو استدلال حسن.
3. الزحزحة هو الإبعاد، وأصله تكرار الجذب بعجلة، والفوز الظفر بالبغية، والغرور مصدر غر أو هو جمع غار.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/84.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ولو بلغت في الفضل والدين مبلغاً عظيماً مثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الدنيا ليست دار الجزاء ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لا قبله ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ أي أبعد ﴿عَنِ النَّارِ﴾ المعهودة نار جهنم ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ ظفر بالخير العظيم والنجاة من كل شر، فحسبه ذلك ولا عليه إذا لم يعجل ثوابه في الدنيا الفانية التي هي دار العمل لادار الجزاء.
2. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ﴾ قليل زائل متاع ﴿الْغُرُورِ﴾ مع قلته وكونه يفنى أنه يغتر بها كثير من الناس الذين يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فلذلك لم تكن دار جزاء لأولياء الله و﴿الْغُرُورِ﴾ مصدر غَرَّ أي غرهم متاع الحياة الدنيا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/590.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تلتفت هذه الآية إلى الناس في لفتة روحية إلى المصير الذي ينتظر كل إنسان في هذه الدنيا، وهو الموت، ليواجه حسابه في يوم القيامة على عمله، وليوفّى أجره في كل صغيرة أو كبيرة، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ فليس ثمة فرق بين نفس ونفس، فالجميع يواجهون هذا الحادث البغيض إلى النفس، ويسقطون تحت تأثيره فتخرج الأرواح من الأجساد، وتتحول إلى جثث ميتة هامدة لا تملك حسا ولا حركة، ولكن الموت ليس نهاية الحياة، بل هو نهاية مرحلة منها ـ وهي الحياة الدنيا ـ فهناك مرحلة أخرى للحياة التي لا مجال فيها للموت، وهي الحياة الآخرة، التي يواجه فيها الإنسان عمله.
2. ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لأن الدنيا هي دار المسؤولية وموقع العمل، أمّا الآخرة فهي دار الحساب والحصول على نتائج حركة المسؤولية في الإنسان، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، فسينال كل عامل فيها أجره تبعا لنوعية عمله، وقد جاء في الكشاف التعليق على توسط: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ بين الجملة الأولى ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾.. والجملة الثانية ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ الآية، فقال: (فإن قلت: كيف اتصل به قوله: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾؟ قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون ولا بد لكم من الموت، ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور، فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى: (إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)، قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور)
3. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ وأبعد عنها ونحّي عنها بسرعة فلا يعود إليها ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ من خلال إيمانه وعمله الصالح، ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ فقد حصل له الفوز المطلق الذي لا مجال فيه لأيّة فرصة جديدة للخسارة والسقوط، وهذه اللفتة توحي بالنتائج الطيبة الحاسمة، وتؤكد على أن الفوز كل الفوز هو أن يبتعد الإنسان عن النار ويدخل الجنّة، لأن قضيّة الفوز ترتبط بالمصير النهائي الذي لا تبقى عنده مرحلة منتظرة لتغيير الواقع.
4. ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بكل شهواتها ولذائذها ودرجاتها ومواقعها وحاجاتها ﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ لأنه الربح الذي لا يدوم لصاحبه، بل يفنى بفنائه أو قبل موته عندما يفارقه ذلك في حياته؛ وبذلك كان هذا يمثل حالة خدّاعة لا مجال فيها لأية حقيقة خالدة، أمّا وجه الشبه للحياة الدنيا بالمتاع، فإن المتاع يدلّس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده.. فلا قيمة للفوز في الحياة الدنيا إذا كانت نتيجته الخسارة في الآخرة بدخول النار، لأن هذه الحياة لا تمثّل في واقع الإنسان إلا متاعا، مجرّد متاع لا بقاء له، يعيش معه أجواء الخديعة والغرور من دون حقيقة ثابتة.
5. أمّا إيحاء هذه الفقرة للمؤمنين، فهو أن يواجهوا الموقف في الحياة الدنيا بالصبر على ما يصيبهم من الأذى والشدّة والبلاء المتنوع في أوضاعهم المادية والمعنوية من دون أن يشعروا بالإحباط والسقوط، من خلال الحالات النفسية الصعبة بفعل التعقيدات المزاجية والعاطفية والشعورية والانفعالات السلبية، لأن الدنيا ليست خالدة، فلا دوام لمشاكلها وآلامها، كما لا قيمة للذائذها ولأفراحها؛ أمّا الآخرة، فهي دار الحيوان ودار السعادة الخالدة، فعليهم أن يتحملوا جهد الدنيا للحصول على راحة الآخرة، ليتحركوا في مسيرتهم من القاعدة النفسية الفكريّة للاستعداد للتحمل بأقصى الدرجات، فلا يرهقهم شيء من ذلك الذي يصيبهم من المشاكل والآلام.
6. سؤال وإشكال: قد يخطر في البال سؤال: كيف أقحم الله هذه الآية في أجواء الحديث عن أهل الكتاب، وما هي مناسبته؟ والجواب: ربما يكون الوجه في ذلك، أن الله يريد أن يفرّغ نفس الإنسان من كل المشاعر الضاغطة التي تقوده إلى الانخداع بأساليب اليهود وغيرهم، طمعا في ربح عاجل، أو متعة طارئة فيوحي إليه بأن الموت نهاية ذلك كله، فينبغي له أن يفكر في هذا الاتجاه ليعرف أن الفوز هو فوز الآخرة من خلال عمله الخيّر في الدنيا، وليس فوز الدنيا من خلال الشهوات العاجلة فيها.. وتلك هي قصة الحياة والموت في عمر الإنسان.
7. سؤال وإشكال: قد يطوف في البال خاطر وسؤال: لماذا هذا التركيز على أن الدنيا متاع الغرور؟ هل هو أسلوب قرآني للدعوة إلى رفض الدنيا في كل مجالاتها الحيويّة وطيّباتها ولذائذها العاجلة؟ والجواب: هو أنّ دراسة الآية وأمثالها من الآيات تعطينا الفكرة الحقيقية التي تريد أن تربط الدنيا بالعمل لتجعلها موقع عمل يعيش فيه الإنسان حركة المسؤوليّة في ما يمارسه من طيّبات الحياة وشهواتها، لئلا تنحرف به عن الصراط المستقيم الذي يمثّل مصيره، ولعل أروع الكلمات في هذا السبيل كلمة الإمام علي عليه السلام عن الدنيا: (من أبصر بها بصرّته، ومن أبصر إليها أعمته)، فإذا جعل الإنسان الدنيا طريقا إلى رؤية الحقيقة، وعينا يبصر بها فيحدّق في ما خلفها وفي ما وراءها، فإنه يستطيع أن يحقق المعرفة في كل شيء من خلال ما تكشفه له من خلفيّات الأمور والأشياء، فيعرف من خلال ذلك دوره وحقيقة واقعه، أما إذا وقف أمامها مبهورا مسحورا يتطلع إليها بشغف وانبهار، فإنها تغشي بصره في كل ما تعرضه أمامه من زخارف ومتع وشهوات، وتعميه عن رؤية الواقع الذي لا يمثل إلا متاعا يمارسه كما يمارس الأشياء الطارئة التي تنتقل مع الإنسان فيستهلكها، كما في الغذاء أو اللباس أو نحو ذلك، أما الأرض، أما البيت فلا تطلق عليه هذه الكلمة، لأنها لا تمثّل ثباتا في حياة الإنسان، فكأنّ الله يريد أن يقول لنا: إن الدنيا لا ترتبط بنا ارتباطا عضويا لاصقا غير منفصل عن وجودنا، بل هي مرحلة من مراحل العمر التي تمر به مرورا سريعا فتخدعه وتغريه وتغرّه وتبعده عن الأهداف الأساسية للحياة، فلا بد من أن ننظر إليها كمرحلة ولا نستسلم إليها كنهاية، فنتصرّف بها كما نتصرف بالمتاع الطارئ مع التركيز على طبيعته الذاتية من واقع ما يمثله من حاجة كبقية الحاجات الماديّة التي ينتفع بها قليلا ثم يتركها ليستقبل حاجة جديدة ووضعا جديدا، وعلى هذا الأساس، يستطيع الإنسان أن يضبط وضعه وحياته في نظرة ثاقبة عميقة واسعة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/431.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى قانون (الموت) العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة، ليكون ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، وتحذيرا ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة، فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، والناس، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها، فهي لا تنسانا، ولا تتغافل عنّا، إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة، ولا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّا أن يفارق هذه الحياة.
2. إن المراد من (النفس) في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص (الرّوح) أيضا.
3. التعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إلّا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس الكامل، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.
4. ثمّ تقول الآية بعد ذلك ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب، وبالتالي الجزاء على الأعمال، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.
5. عبارة ﴿تُوَفَّوْنَ﴾ التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافيا وبدون نقيصة، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله، وينال قسطا من الثواب أو العقاب، لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.
6. ثمّ قال سبحانه: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، وكلمة ﴿زُحْزِحَ﴾ تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء، وتخليصها من جاذبيته تدريجا، وأمّا كلمة ﴿فَازَ﴾ فتعني في أصل اللغة (النجاة) من الهلكة، ونيل المحبوب والمطلوب.
7. الجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة، ولقوا ما يحبونه، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها.. حقّا أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.. أليس للشهوات العابرة، واللذات الجنسية الغير المشروعة، والمناصب.. والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟
8. كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف، أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها، وبلغوا بها إلى مرتبة (النفس المطمئنة) كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.
9. ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول: إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلبـ فراغا في فراغ وخواء في خواء، وما متاع الغرور إلّا هذا، هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة، وخالية من كل ما يكدرها، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية، كما أنّ الإنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية، ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنّها سريعة الزوال، قابلة للفناء.
10. إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا، والهدف منها جميعا شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير، ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنساني وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط، بل هو ضروري وواجب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/34.
101. البلاء وأهل الكتاب والمشركون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈101⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أسامة:
روي عن أسامة بن زيد (ت 54 هـ) أنّه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم(1).
__________
(1) البخاري: ٦/٣٩.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾: هم المهاجرون، أخذ المشركون أموالهم ورباعهم، وعذبوهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ من حقيقة الإيمان(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ يعني: هذا الصبر على الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ يعني: من حق الأمور التي أمر الله تعالى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٥.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿الْغُرُورِ﴾، يعني: زينة الدنيا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾، قال: نبتلى ـ والله ـ في أموالنا وأنفسنا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق؛ كالصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ أمر الله المؤمنين أن يصبروا على من آذاهم، زعم أنهم كانوا يقولون: يا أصحاب محمد، لستم على شيء، نحن أولى بالله منكم، أنتم ضلال، فأمروا أن يمضوا ويصبروا(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٣.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٧.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٤.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٤٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة وحولها من عبدة الأوثان وأهل الكتاب جماعات، لم يقاتل أحدا منهم، ولم يتعرض لهم بحرب، وكان يتعرض لقريش خاصة ويقصدهم، وذلك أن الله إنما أمرهم بقتال الذين ظلموهم وأخرجوهم من ديارهم، وكان المشركون أيضا بالمدينة من أهل الكتاب وعبدة الأوثان يؤذونه وأصحابه، فندبهم الله تعالى إلى الصبر على أذاهم والعفو عنهم، فقال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وقال: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: ١٠٩]، وكان ربما أمر بقتل الواحد بعد الواحد ممن قصد إلى أذاه إذا ظهر ذلك وألب عليه(1).
__________
(1) البيهقي في دلائل النبوة: ٢/٥٨٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾، يعني: بالبلاء والمصيبات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ حين قالوا: إن الله فقير، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني: مشركي العرب: ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ باللسان والفعل(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ذلك الأذى، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معصيته، ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، يعني: ذلك الصبر والتقوى من خير الأمور التي أمر الله تعالى بها(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٠.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم، فينظر كيف صبرهم على دينهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ من القوة مما عزم الله عليه، وأمركم به(2).
__________
(1) أخرج ابن جرير: ٦/٢٩٠.
(2) ابن جرير: ٦/٢٩١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل الابتلاء في الأموال والأنفس: أن يبلوا بالنقصان فيها؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ﴾ الآية [البقرة: 155]
ب. ويحتمل: أن يبلوا بما جعل فيها من العبادات، من نحو: الزكاة في الأموال والصدقات والحقوق التي جعل فيها، وفي الأنفس: من العبادات .
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾:
أ. قيل: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: الذين لهم علم بالكتاب ومن غيرهم، ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ أي: تسمعون أنتم من هؤلاء أذى كثيرا، على ما سمع إخوانكم الذين كانوا من قبلكم من أقوامهم أذى كثيرا؛ كقوله عزّ وجل: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [آل عمران: 184]، ﴿وَأنْ تَصْبِرُوا﴾ على أذاهم، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ مكافأتهم، على ما صبر أولئك واتقوا مكافأتهم، ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ قيل: من خير الأمور؛ هذا يحتمل.
ب. وقيل: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ من قولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني: العرب، ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ يعني: نصب الحروب فيما بينهم، والقتال، والسب وغير ذلك، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ذلك والطاعة له، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معاصي الربّ، ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾:، يعني: من حزم الأمور.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/554.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ الذي بلوا به في الأموال النفقة والزكاة والذي بلوا به في أنفسهم الجهاد والقتل.
2. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ والأذى الكثير هو أن كعب بن الأشرف كان يهجو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحرض المشركين عليه، وقد قيل: إن زعيم بني قينقاع لما سئل الإمداد قال احتاج ربكم أن يمده ويجوز أن يكون الأذى ما كانوا يسمعون من قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/160.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾، وفي هذا الأذى ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: ما روي أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين ويحرض عليهم المشركين حتى قتله محمد بن مسلمة، وهذا قول الزهري.
ب. الثاني: أن فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما سئل الإمداد قال احتاج ربكم إلى أن نمده، وهذا قول عكرمة.
ج. الثالث: أن الأذى ما كانوا يسمعونه من الشرك كقول اليهود: عزير ابن الله، وكقول النصارى: المسيح ابن الله، وهذا قول ابن جريج.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/441.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾:
أ. قيل: معناه لتختبرن أي توقع عليكم المحن، وتلحقكم الشدائد في أنفسكم، وأموالكم من قبل الكفار نحو ما نالهم من الشدائد في أنفسهم يوم أحد، ونحو ما كان الله يفعل بهم من الفقر وشدة العسر، وإنما فعله ليصبروا وسماه بلوى مجازاً، لأن حقيقته لا تجوز عليه تعالى، لأنها التجربة في اللغة، ويتعالى الله عن ذلك، لأنه عالم بالأشياء قبل كونها، وإنما فعله ليتميز المحق منكم من غيره ـ هذا قول أبي علي الجبائي ـ
ب. وقال البلخي: معناه لتبلون بالعبادات في أنفسكم كالصلاة والصيام وغيرهما، وفي أموالكم من الإنفاق في سبيل الله والزكوات، ليتميز المطيع من العاصي.
2. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾: اللام لام القسم، والنون دخلت مؤكدة، وضمت الواو لسكونها، وسكون النون، ولم تنصب لأنها واو الجمع فرقا بينها وبين واو الاعراب، ويقال للواحد، لتبلين يا رجل وللاثنين لتبليان، ويفتح الياء في لتبلين في الواحد عند سيبويه لسكونها وسكون النون، وفي قول غيره تبنى على الفتح لضم النون إليها، كما يبني ما قبل هاء التأنيث، وللمرأة لتبلين وللمرأتين لتبليان وللنساء لتبتلينان، وزيدت الالف لاجتماع النونات.
3. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ يعني ما سمعوه من اليهود ومن كفار مكة وغيرهم من تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن الكلام الذي يغمهم ويكثرهم.
4. ثم بين تعالى بقوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ إنكم ان صبرتم على ذلك وتمسكتم بالطاعة ولم تجزعوا عنده جزعاً يبلغ الإثم، ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ومعناه من جزم الأمور، أي ما بان رشده وصوابه، ووجب على العاقل العزم عليه.
5. أذى: مقصور، ويكتب بالياء يقال أذى يأذى أذى: إذا سمع ما يسوءه وقد آذاني فلان يؤذيني إيذاءً وتأذيت به تأذياً.
6. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قال عكرمة وغيره: إن هذه الآيات كلها نزلت في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع حين كتب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه يستمده، فقال فنحاص: قد احتاج ربكم أن نمده، وهو القائل: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ ونزلت فيه أيضاً ﴿لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَشَرٌّ لَهُمْ﴾
ب. وقال الزهري: الآية نزلت في كعب بن الأشرف، وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمؤمنين ويحرض المشركين عليهم حتى قتله محمد بن مسلمة غيلة.
7. البلوى التي ابتلوا بها، قال الحسن: هي فرائض الدين من الجهاد في سبيل الله، والنفقة في طاعة الله، والتمسك بما يجب لله في كلما أمر به ودعا إليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/73.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البلوى في اللغة: التجربة، ولا يجوز ذلك على الله تعالى؛ لأنها طلب المعرفة، ومعناه في صفات الله أنه يكلف ليظهر المعلوم فيعامل معاملة المختبر.
ب. العزم: توطين النفس على الأمر، وقيل: العزم الثبات واللزوم، والعزم والحزم والشدة ألفاظ متقاربة، وعزائم السجود واجباته.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في كعب بن الأشرف وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين ويحرض المشركين عليهم ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من لي بابن الأشرف)؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا، فخرج محمد بن مسلمة وأبو نائلة مع جماعة، فقتلوه غيلة، وأتوا برأسه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الليل وهو قائم يصلي عن الزهري.
ب. وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر إليه يستمده وكتب إليه كتابًا، فلما قرأه قال: قد احتاج ربكم إلى أن نمده، فهمّ أبو بكر أن يضربه، ثم ذكر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تحدث شيئًا حتى ترجع)، فكف، ونزلت هذه الآية عن عكرمة ومقاتل وابن جريج.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما تقدم الوعد للمؤمنين بالنصر والأمر بالصبر بيّن في هذه الآية أن الدنيا دار محنة وابتلاء فقد يلحقهم فيها ما يكرهون وإن كانت العاقبة لهم، فقال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾
ب. وقيل: لما بيّن أن الدنيا دار الغرور بيَّن أنها دار ابتلاء وإنما زوي عن المؤمنين لمصلحة التصبر فليؤجروا عن الأصم.
ج. وقيل: لما بين أن الدنيا دار الغرور بيّن أنها طريق إلى نيل الآخرة ليتزود منها عن القاضي.
4. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتختبرن ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ أي بالمصائب في أموالكم:
أ. قيل: هو ما أوجب عليهم.
ب. وقيل: هو الإنفاق في سبيل الله.
ج. وقيل: هو ما يلحقهم من نقصان المال، وفي أنفسكم بالمصائب والأمراض.
د. وقيل: بموت الأقارب.
هـ. وقيل: هم المهاجرون أخذ الكفار مالهم وباعوا أرياعهم وعذبوهم في الله عن عطاء.
و. وقيل: هو ما فرض في أموالهم وأنفسهم من الحقوق كالصلاة والزكاة والحج والجهاد وكل ما أمر به عن الحسن.
5. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ أيها المؤمنون ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ مشركي العرب.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾:
أ. قيل: الأذى ما كانوا يسمعونه من ألفاظ الشرك والكفر كقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، عن ابن جريج.
ب. وقيل: الأذى: الافتراء على الله وتكذيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ما ينالكم في سبيل الله من الأذى ﴿وَتَتَّقُوا﴾ مخالفة الله.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾:
أ. قيل: أي من الأمور التي ظهر رشدها.
ب. وقيل: من محكم الأمور، وقال عطاء: من حقيقة الإيمان.
ج. وقيل: هو حكمه في أمركم ومن الأمور القوية عن أبي مسلم.
د. وقيل: هو ما ظهر رشده ويجب أن يعزم عليه العاقل عن أبي علي.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الدنيا دار ابتلاء وأن المؤمن قد يلاقي الأذى، وأن المذاهب الفاسدة قد تظهر، وإنما الآخرة دار الجزاء.
ب. وجوب الصبر في الدين؛ لأنه إما أن يصبر على مجاهدة الأعداء إذا أمكنه أو لا يمكنه فيصبر على مكروه مما يسمع، ويدل على وجوبه أنه قال: ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ولا يكون كذلك إلا وخلافه مذموم.
ج. بطلان مذهب الْمُجْبِرَة في المخلوق؛ لأنه تعالى بيّن أن ذلك الأذى من جهة الكفار، وأمرهم بالصبر، ولو كان الجميع خَلْقًا له لم يكن للكلام معنى.
10. اللام في قوله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لام التأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد للقسم، وإنما ضمت الواو في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ ولم تكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنها واو جمع حركت بما كان يجب قبلها من الضم، ومثله ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ ولو كانت حرف الإعراب لفتحت، نحو: هل تعدون زيدًا؛ لأن نون التأكيد كهاء التأنيث في لزوم الفتحة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/488.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في كعب بن الأشرف، وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، ويحرض المشركين عليهم، ويشبب بنساء المسلمين، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة: أنا يا رسول الله، فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة، وأتوا برأسه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الليل، وهو قائم يصلي، عن الزهري.
ب. وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، سيد بني قينقاع، لما بعث رسول الله أبا بكر إليه ليستمده، وكتب إليه كتابا، فلما قرأه قال: قد احتاج ربكم إلى أن نمده! فهتم أبو بكر بضربه، ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تفتاتن بشئ حتى ترجع)، فكف عنه، عن عكرمة ومقاتل.
2. بين تعالى أن الدنيا دار محنة وابتلاء، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا، فقال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ أي: لتوقع عليكم المحن، وتلحقكم الشدائد ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بذهابها ونقصانها (و) في ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ أيها المؤمنون بالقتل والمصاب، مثل ما نالكم يوم أحد، ويقال بفرض الجهاد وغيره من الفرائض، والقرب التي أمرنا بها.
3. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ إنما سماه بلوى مجازا، فإن حقيقة الاختبار والتجربة، لا يجوز على الله، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها، لأنما يفعل ذلك ليتميز المحق من المبطل، عن أبي علي الجبائي.
4. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني كفار مكة وغيرهم ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ يعني ما سمعوه من تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن الكلام الذي يغمه.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ يعني: إن صبرتم على ذلكم، وتمسكتم بالطاعة ولم تجزعوا عنده جزعا يبلغ الإثم ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾:
أ. قيل: أي: مما بان رشده وصوابه، ووجب على العاقل العزم عليه.
ب. وقيل: من محكم الأمور.
5. اللام في قوله ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾: لام التأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد للقسم، وإنما ضمت الواو في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ ولم تكسر لالتقاء الساكنين، لأنها واو الضمير، حركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ومثله ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، ولو كانت الواو حرف الإعراب لفتحت نحو هل تغزون زيدا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/903.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدّابة، فخمّر ابن أبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أبيّ: إنه لا أحسن ممّا تقول، إن كان حقّا فلا تؤذنا في مجالسنا، وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنّا نحبّ ذلك، فاستبّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
ب. الثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية، قال كعب بن مالك الأنصاريّ.
ج. الثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر، وبين فنحاص اليهوديّ.
د. الرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبي بكر، وفنحاص اليهودي.
هـ. الخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزّهريّ.
2. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ قال الزجّاج: معناه: لتخبرنّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقا من غيره، و(النون) دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمّت الواو لسكونها وسكون النّون.
3. في البلوى في الأموال في قوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ذهابها ونقصانها.
ب. الثاني: ما فرض فيها من الحقوق.
4. في البلوى في الأنفس ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: المصائب، والقتل.
ب. الثاني: ما فرض من العبادات.
ج. الثالث: الأمراض.
د. الرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر، وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذّبوهم.
5. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ قال ابن عباس: هم اليهود والنّصارى، و﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾: مشركو العرب ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على الأذى ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله بمجانبة معاصيه، قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.
6. الجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصّبر المذكور منسوخ بآية السّيف.
__________
(1) زاد المسير: 1/357.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما سلى الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185] زاد في تسليته بهذه الآية، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم، من الإيذاء بالنفس والإيذاء بالمال.
2. الغرض من هذا الأعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه، أما إذا كان عالما بأنه سينزل، فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
3. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾، قال الواحدي: اللام لام القسم، والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون، ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم، ومثله ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ [البقرة: 16]
4. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتختبرن، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الرديء، ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر، واختلفوا في معنى هذا الابتلاء:
أ. فقال بعضهم: المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد.
ب. وقال الحسن: المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال، وهي الصلاة والزكاة والجهاد.
ج. قال القاضي: والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما.
5. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ المراد منه أنواع الإيذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وكانوا يطعنون في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بكل ما يقدرون عليه، ولقد هجاه كعب بن الأشرف، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويثبطون المسلمين عن نصرته، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني.
6. ثم قال عطفا على الأمرين: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وللآية تأويلان:
أ. الأول: أن المراد منه أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين، كما قال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44] وقال: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ [الجاثية: 14] والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35] وقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] قال الواحدي: كان هذا قبل نزول آية السيف، قال القفال: الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه، واعلم أن قول الواحدي ضعيف، والقول ما قاله القفال.
ب. الثاني: أن يكون المراد من الصبر والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد، والجري على نهج أبي بكر في الإنكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار، والسكوت عن إظهار الإنكار.
7. الصبر عبارة عن احتمال المكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى، لأن الإنسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي، وفيه وجه آخر: وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الإساءة بالإساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا، وامر بالتقوى تقليلا تقليلا لمضار الآخرة، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة.
8. ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه، فتأخذ نفسه لا محالة به، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه، ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون معناه: فإن ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/454.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء بالإنفاق في سبيل الله وسائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب، وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها.
2. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ إن قيل: لم ثبتت الواو في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ وحذفت من ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾، فالجواب أن الواو في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ قبلها فتحة فحركت لالتقاء الساكنين، وخصت بالضمة لأنها واو الجمع، ولم يجز حذفها لأنها ليس قبلها ما يدل عليها، وحذفت من ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ لأن قبلها ما يدل عليها، ولا يجوز همز الواو في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لأن حركتها عارضة، قاله النحاس وغيره، ويقال للواحد من المذكر: لتبلين يا رجل، وللاثنين: لتبليان يا رجلان، ولجماعة الرجال: لتبلون.
3. كان صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة كان بها اليهود والمشركون، فكان هو وأصحابه يسمعون أذى كثيرا، وفي الصحيحين أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مر بابن أبي وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم على حمار فدعاه إلى الله تعالى فقال ابن أبي: إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، وقبض على أنفه لئلا يصيبه غبار الحمار، فقال ابن رواحة: نعم يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، واستب المشركون الذين كانوا حول ابن أبي والمسلمون، وما زال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يسكنهم حتى سكنوا، ثم دخل على سعد بن عبادة يعوده وهو مريض، فقال: (ألم تسمع ما قال فلان؟) فقال سعد: اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق به، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونزلت هذه الآية.
4. قيل: هذا كان قبل نزول القتال، وندب الله عباده إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور، وكذا في البخاري في سياق الحديث، إن ذلك كان قبل نزول القتال، والأظهر أنه ليس بمنسوخ، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا مندوب إليها، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين، وهذا بين، ومعنى ﴿عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ شدها وصلابتها، وقد تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/304.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة، ليوطنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره، والابتلاء: الامتحان والاختبار، والمعنى: لتمتحننّ، ولتختبرنّ في أموالكم بالمصائب، والإنفاقات الواجبة، وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال.
2. اللام الموطئة ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وهم اليهود والنصارى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ من الطعن في دينكم وأعراضكم.
3. الإشارة بقوله: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بالفعلين، وعزم الأمور: معزوماتها، أي: مما يجب عليكم أن تعزموا عليه، لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها، يقال: عزم الأمر: أي شدّه وأصلحه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/468.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ أيُّها المؤمنون، قيل: والنبي، ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ والله لتُعَامَلُنَّ معاملة المختبر في أموالكم، بإيجاب الإنفاق منها، وإيجاب الصبر عَلَى الآفات فيها، واقتصر بعض عَلَى هَذَا وضعَّفوه، وربَّما تقوَّى بِأَنَّ الواجب في الأموال قد نزل وقبلوه، وليس مستقبلا نزوله، ﴿وَأَنفُسِكُمْ﴾ بإيجاب الجهاد والصبر على الجراح والأسر والمرض والجوع والتعب والهموم، والصبر على موتاكم.
2. الآية تسلية عمَّا يأتي ليقابلوه بحسن الصبر بعد تسلية عمَّا مضى؛ لأَنَّ هجوم البلاء مِمَّا يزيد في اللَّأواء، والاستعداد للكرب مِمَّا يهوِّن الخطب، وقدَّم الأموال ترقِّيا من الشريف إلى الأشرف، ولأنَّ الآفات فيها أكثر.
3. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ اليهود والنصارى والصابئين ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ كُفَّار قريش وغيرهم من العرب، ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ كهجو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والطعن في دينه، وإغراء الكفرة على المسلمين، والتشبُّب بنسائهم، أخبرهم الله بأنَّه سيكون ذلك ليعدُّوا له الصبر ويسهل عليهم بعض سهولة.
4. ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ على ما ذكر من البلاء في أموالكم وأنفسكم والأذى، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ مخالفة أمره ونهيه أثابكم الله ما لا غاية له، أو أحسنتم، أو أصبتم، ﴿فَإِنَّ ذَالِكَ﴾ أي: لأَنَّ ذلك المذكور من الصبر والاتِّقاء، والبُعْد لعلوِّ درجة الصبر والاتِّقاء، أو لعدم ذكر المشار إليه تصريحا، وأفرد الكاف لخطاب من يصلح، أو للعموم البدليِّ بعد الشموليِّ، أو للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم خصوصا بعد العموم، وأمَّا أن يقال: أفرد لأَنَّ المراد بالخطاب مجرَّد التنبيه فلا وجه له لبقاء الخطاب بلا مخاطَب.
5. ﴿مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ﴾ أي: من معزومات الأمور، والعزم: مصدر بمعنى اسم مفعول، أي: من الأمور المعزوم عليها، أي: التي يجب العزم عليها، والعازم: العبد، أي: يجب أن يقصدها ويصمِّم عليها، أو الله، أي: أوجبها الله عليكم إيجابا شديدا، يجوز أن يقال: عزم الله على كذا، وعزم كذا، بمعنى أوجبه، ومن ذلك قولهم (عزمات الله)؛ وقراءة بعض: (فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)، بضمِّ التاء، وأمَّا قول أمِّ عطيَّة: (نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يعزم علينا)، ورواية: (رغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة) فلا دليل فيهما، لإمكان العزم منه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
6. الصبر والاتِّقاء واجبان قبل نزول القتال وبعده، فالقتال واجب مع الصبر والاتِّقاء فلا نسخ في الآية، بل أمره الله بالصبر على أذاهم بالقول والفعل والطعن، ومداراتهم وتحريفهم عن تأويلهم الفاسد، والصبر على قتالهم ومشاقِّ القتال.
7. ركب صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأردف أسامة خلفه عَلَى دَابَّة، فوقها قطيفة فدكيَّة، ليعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، فمرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيٍّ، وفيه اليهود والمشركون والمسلمون، وغشيهم عجاجة الدَّابَّة، فخمر أنفه فقال: لا تغبِّروا علينا، فنزل صلّى الله عليه وآله وسلّم فوعظهم، ودعاهم إِلَى الله سُبْحَانَهُ، وقرأ القرآن، وقال عبد الله بن أبيٍّ: (أيُّها المرء، لا أحسن مِمَّا تقول، إن كان حقًّا فلا تؤذينا في مجالسنا، ارجع إِلَى رحلك، فمن جاءك فاقصص عَلَيه)، فقال عبد الله بن رواحة: (بلى اغشنا يا رسول الله في مجالسنا نحبُّ ذلك)، فكاد القتال يقع، واشتدَّ التسابُّ، فما زال صلّى الله عليه وآله وسلّم يسكِّنهم حتَّى سكتوا، فلمَّا دخل على سعد ذكر ذلك له، فقال: (يا رسول الله، اعف عنه، جئتنا وقد اصطلحوا أن يتوِّجوه ويعصبوه، فزال ذلك بما جئتنا به)، فعفا عنه، وكان كعب بن الأشرف اليهوديُّ يهجو المؤمنين، ويتشبَّب بنسائهم، ويكفر به صلّى الله عليه وآله وسلّم ، هو واليهود والمشركون، ويشتدُّ أذاه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من لي بابن الأشرف!)، فقال محمَّد بن مسلمة: (أنا يا رسول الله)، فخرج هو وأبو نائلة رضيعه وجماعة، فجاؤوا برأسه آخر الليل ورسول الله يصلِّي، ونزلت الآيَة السابقة في ذلك كلِّه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/80.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ أي لتختبرن ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بما يصيبها من الآفات ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155 ـ 156]، إلى آخر الآيتين ـ أي لا بد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده، أو أهله، وفي الحديث: (يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في البلاء)
2. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ بالقول والفعل ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ذلك ﴿وَتَتَّقُوا﴾ أي مخالفة أمره تعالى ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ أي الصبر والتقوى.
3. ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ أي من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون، أي مما يجب أن يعزم عليه كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه، يعني: أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى، لا بد أن تصبروا وتتقوا، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية، من إظهار كمال اللطف بالعبادة، ما لا يخفى ـ أفاده أبو السعود.
4. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر، وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/476.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الإيذاء بالنفس والإيذاء بالمال، والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا نزل البلاء شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
2. عبارة الكشاف: خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
3. قال محمد عبده: يصح اتصال هذه الآية بما قبلها من قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين يبخلون﴾ الآيات فإن فيها ذكر البخل بالمال وذكر حال اليهود وهذه تذكر البلاء بالمال وما سيلاقي المؤمنون من أولئك اليهود وغيرهم، ويصح أن يكون على ما قاله بعضهم متصلا بما هو قبل ذلك من أول واقعة أٌحد إلى هنا، كأنه يقول: إن ما وقع من الابتلاء في الأنفس والأموال والطعن في تلك الواقعة ليس آخر الابتلاء بل لا بد أن تبلوا بعد ذلك بكل هذه الضروب منه وتجري فيكم سنته تعالى في خلقه، فلا تظنوا أنكم جلستم على عرش العزة واعتصمتم بالمنعة وأمنتم حوادث الكون فإنه لا بد أن يعاملكم الله تعالى، كما يعامل الأمم معاملة المختبر المبتلي لا ليعلم ما لم يكن يعلم من أمركم فهو علام الغيوب، بل ليميز الخبيث من الطيب من بعد، كما ماز الكثيرين في واقعة أحد:
أ. الابتلاء في الأموال يفسر بفرض الصدقات وبالبذل في سبيل الله ـ وهو كل ما يوصل إلى الخير ـ وبالحوائج والآفات وهذا الجمع أولى مما ذهب إليه بعضهم من تخصيصه بالأول وبعضهم من تخصيصه بالثاني.
ب. والابتلاء في الأنفس يكون بتكليف بذلها في سبيل الله وبموت من يحب الإنسان من الأهل والأصدقاء، وكذا الابتلاء بالمصائب البدنية كالأمراض والجروح.
ج. والابتلاء بالتكليف هو أهم الابتلاءين، وذلك أن الله تعالى لم يكفل للمسلمين الحفظ والنصر والسيادة لأنهم مسلمون وإنما يكلفهم الجري على سنته تعالى كغيرهم فلا بد لهم من الاستعداد للمدافعة دائما وذلك يقتضي بذل المال والنفس.
4. من هنا تعلم غلط الذين يفسرون الابتلاء بالمال والأمر ببذله والجهاد به ـ كل ذلك بالزكاة وما الزكاة إلا نوع من أنواع الحقوق التي جعلها الله في المال وهي كثيرة تشمل كل ما به صلاح الأمة ورفع شأنها من الأعمال وكل ما يدفع عنها الأعداء، ويرد عنها المكاره والأسواء (يعني كالأعمال التي تعمل للوقاية من الأمراض والأوبئة) ومن ذلك الابتلاء في المدافعة عن الحق سواء كان بالمال أو بالنفس فهو يوطن نفوسهم على الأخذ بالاحتياط في الأمور العامة والاستعانة عليها بالمال وتحمل المكاره ويحذرهم من الشره والطمع في المال حتى إذا طمعوا أو قصروا في الاحتياط كما وقع لهم في أحد علموا أنهم ما أصيبوا إلا بما كسبت أيديهم أو قصرت فيه هممهم فلا يتعللون، ولا يقولون كيف أصبنا ونحن مسلمون.
5. قدّم ذكر المال لأنه هو الوسيلة التي يكون بها الاستعداد لبذل النفس فبذل المال يحتاج إليه قبل بذل النفس أو لأن الإنسان كثيرا ما يبذل نفسه دفاعا عن ماله فالذين قالوا إن المال شقيق الروح لاحظوا الغالب ومن غير الغالب أن يقدم الإنسان ماله على نفسه، علمنا أن فائدة الابتلاء هي تمييز الخبيث من الطيب وأما الإخبار به ففائدته التعريف بالسنن الإلهية وتهيئة المؤمن لها وحمله على الاستعداد لمقاومتها فإن من تحدث له النعمة فجأة على غير استعداد ولا سعي ترجى هي من ورائه تدهشه وتبطره، وربما تهيج عصبه فيقع في داء أو يموت فجأة، وكذلك من تقع به المصيبة فجأة على غير استعداد يعظم عليه الأمر ويحيط به الغم حتى يقتله في بعض الأحيان أما المستعد فإنه يكون ضليعا قويا، يعني أنه يحمل البلاء بلا تبرم ولا سآمة فإن ظفر لا يفرح فرح البطر الفخور، وإن خسر لا يشقى شقاء اليؤوس الكفور، فهذا الإعلام تربية من الله لعباده المؤمنين، فما بالهم في هذا العصر عن التذكرة معرضين ﴿أفلم يدبروا القول أن جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ [المؤمنون: 68]
6. هذا وإن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر الأولى، والظاهر أن هذه الآيات نزلت في السنة الرابعة بعد غزوة بدر الآخرة كما يأتي، فالظاهر أن المراد بالابتلاء فيها بالمال هو الحاجة والقلة كما حصل في غزوة الأحزاب ثم في غزوة تبوك.
7. أما قوله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ فهو ابتلاء آخر وقد نزلت هذه الآية بعد أن كان المشركون وأهل الكتاب ملئوا الفضاء بكلامهم المؤذي للرسول والمؤمنين؛ فلما صرّح الكتاب بهذا وهو ما ألفه المسلمون واعتادوه؟ بل قال محمد عبده: إن مثل هذا يدخل في الابتلاء في الأنفس وإنما خصه بالذكر لأنه من الأهمية بمكان.
8. نبه الله تعالى بهذه العبارة على عظم شأن هذا النبأ وليس عندي شيء عنه في سببه والمراد منه ولا أذكر أنني رأيت ذلك في شيء من الكتب التي اطلعت عليها فيجب الرجوع في ذلك إلى التاريخ، أي سيرة المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا تذكرنا أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر الآخرة التي سبق ما ورد فيها من الآيات بعد الكلام في غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد ـ وتذكرنا أن ذلك كان في شعبان من سنة أربع وتذكرنا ما كان في سنة خمس من حديث الإفك وقذف عائشة برأها الله تعالى ـ ومن تألب اليهود ونقض عهدهم ومحاولتهم قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أجلاهم وأمن شر مجاورتهم إياه بالمدينة ـ ومن تألبهم مع المشركين وجمع الأحزاب من الفريقين وزحفهم على المدينة لأجل استئصال المسلمين ـ وما كان في ذلك من البلاء الشديد والجوع الديقوع والحصار الضيق الذي قال الله فيه كله: ﴿إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا﴾ [الأحزاب: 9] إذا تذكرنا هذا كله علمنا أن الآية تمهيد له وإعداد للمسلمين لتلقيه لعل وقعه يخف عليهم ولذلك قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ يعني إن تصبروا على البلاء الكبير الذي سيحل بكم في أموالكم وأنفسكم وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه في الاستعداد لذلك قبل نزوله ومكافحته عند وقوعه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله أن يكون، أي من عزمات قضائه التي لابد من وقوعها.
9. من تدبر هذا علم ضعف رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس أن الآية نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص وقد سردنا الرواية من عهد قريب فإن هذه الوصية المؤكدة للمؤمنين كافة وما سبقها من التمهيد أكبر من ذلك وإن حسنها من رواها، ويرجح ما اخترناه في الآية السابقة من كونها في المؤمنين لا في الكافرين، وفي رواية عند عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن كعب أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه وهذه أضعف من الأولى فإن كعب ابن الأشرف قتل قبل غزوة أحد وكفى الله المسلمين كيده وقوله.
10. قال محمد عبده: الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع الروية في دفعه ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين دفع الجزع ومحاولة طرده، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه فمن لا يحس به لا يسمى صابرا وإنما هو فاقد للإحساس يسمى بليدا، وفرق بين الصبر والبلادة، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا وتركا عن باعث القلب، وذلك من عزم الأمور أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/274.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بعد أن سلى سبحانه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما سبق آنفا زاد في تسليته بهذه الآية، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء في النفس أو في المال، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم، والابتلاء في الأموال يكون بالبذل في جميع وجوه البر التي ترفع شأن الامة الإسلامية وتدفع عنها أعداءها وتردّ عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة والابتلاء في الأنفس يكون ببذلها في الجهاد في سبيل الله وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق، وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيئ أنفسنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغمّ حتى ليقتله في بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها، وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها، فإنها تحدث له دهشة وتهيجا في الأعصاب، وربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلي أو موت فجائى، والحوادث المشاهدة في هذا الباب كثيرة.
2. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ هذا سبيل آخر من الابتلاء في الأنفس، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود والنصارى والمشركين، ومن ذلك حديث الإفك وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيّقوا عليهم وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء في أموالكم وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف.
4. روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قدم المدينة وأهلها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/154.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس، عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة ـ إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال ـ وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل، عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس، وقد استعدت نفوسهم للبلاء: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
2. إنها سنة العقائد والدعوات، لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام، إنه الطريق إلى الجنة، وقد حفت الجنة بالمكاره، بينما حفت النار بالشهوات، ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون، وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال، وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة، فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها.
3. والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة، وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، وحقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال! ثم.. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير، ولا بد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون.. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها.. أفواجا.. في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات، وما يصبر على ما فيها من مشقة؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد.. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
4. وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام، وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال، من أهل الكتاب من حولها، ومن المشركين أعدائها.. ولكنها سارت في الطريق، لم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها.. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت، وأن توفية الأجور يوم القيامة، وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور.. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو.. والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان، والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها، تتوالى القرون والأجيال؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال.
5. تختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها.. ولكن القاعدة واحدة: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾
6. لقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك، أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحيانا في أصحابها وقيادتها، وهذه الصور تتجدد مع الزمان، وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية، فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق.
7. يبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها.. يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها، وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق، ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة.. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي.. تستبشر بهذا كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل، وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق، ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى؛ وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود.. في صبر وفي تقوى.. وفي عزم أكيد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/540.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذ كانت الحياة الدنيا إلى زوال، وكان متاعها لعبا ولهوا وغرورا، وإذ كان متّجه العقلاء فيها إلى دار خير منها، وإلى متاع أكرم وأهنأ من متاعها ـ وهى الدار الآخرة ـ إذ كان ذلك كذلك، فإن للدار الآخرة عملا، وللجزاء الحسن فيها ثمنا.. إنها ليست أماني يتمنّاها النّاس، ولكنها جهد، وبلاء، ومعاناة، فإذا أرادها المريدون وطلبها الطالبون، فليعملوا لها، وليؤدّوا الثمن المطلوب للحصول على نعيمها، ورضوان الله فيها!
2. وقد أرادها المؤمنون، وطلبوا ما عند الله للمؤمنين فيها.. وإذن فليعملوا لها، وليؤدّوا مطلوبها منهم! إنه ابتلاء في الأموال والأنفس.. الأموال، يبذلونها في سبيل الله، والأنفس، يبيعونها ابتغاء مرضاة الله، وإنه تعرّض للأذى في المشاعر والعواطف، بسماع الكلمات المنافقة، والأكاذيب الملفقة، من الذين كفروا ونافقوا من أهل الكتاب، ومن الذين أشركوا وضلوا من قريش وأحلافها.. إنه أذى مادىّ في الأموال وفي الأنفس، وأذى روحىّ في الشعور والوجدان.. أذى يشتمل على المؤمن كلّه، في مادياته ومعنوياته جميعا.. ونعم.. هو أذى بالغ، وألم شديد، وامتحان قاس مرير!
3. لكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل، وإنه لأكثر قدرا، وأثقل وزنا، في جانب الإحسان والرضوان، والصبر والتقوى، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي، واحتمال آلامه وشدائده.. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.. فإن الأمر جدّ ليس بالهزل.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/666.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة، فأصل ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتبلووننّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان: واو الرفع ونون التوكيد الشديدة، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلا في الكلمة فصار لتبلونّ، وكذلك القول في تصريف قوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ وفي توكيده.
2. الابتلاء: الاختبار، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة، لأنّ في المصائب اختبارا لمقدار الثبات، والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة، والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح، وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أحد وبعده.
3. الأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: 111] كما تقدّم آنفا، ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالبا، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل، فأمرهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتي الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أحد، وهي بعد الأمر بالقتال، قاله القفّال.
4. ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل: فإنّ المذكور، و﴿عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العزم، ووصف الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول، أي من الأمور المعزوم عليها، والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ [آل عمران: 159] والمراد هنا العزم في الخيرات، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35] وقال: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]، ووقع قوله: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ دليلا على جواب الشرط، والتقدير: وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/303.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن محنة أحد كانت فيها العبر، وكانت تمحيصا لقلوب المؤمنين وصقلا لنفوسهم، وبين الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات أيضا أنه سبحانه لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يتبين الخبيث من الطيب، وقوى الإيمان من ضعيفه، وذكر سبحانه ما كان يلقيه المشركون واليهود من أقوال جارحة، وبعضها يمس ذات الله تعالى، كقولهم ـ لعنهم الله ـ إنّ الله فقير ونحن أغنياء.
2. ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المستقبل سيكون من جنس الماضي وأنه سينزل بالمؤمنين ضروب من البلاء كالتي نزلت أو أقوى، وأن واجب التبليغ والإيمان يتقاضاهم أن يتحملوا ذلك بصبر وتقوى واحتياط، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً﴾، ففي هذا النص السامي إخبار لهم بأن البلاء الذي ذاقوا بعضه مستمر، وهو خير لهم، وذلك ليستعدوا لتلقيه من غير فزع ولا جزع، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها، أما الشدة التي تقع من غير توقع، فإنه يصعب احتمالها، وقد ذكر سبحانه وتعالى مواضع الابتلاء، وكلها عزيز يحرص عليه، وهذه المواضع هي المال والنفس، والدين.
3. والمال والنفس قال فيهما سبحانه وتعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ﴾، وقد أكد سبحانه وقوع الابتلاء بالقسم، واللام الموطئة للقسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد بهذه التأكيدات ليكون الوقوع مستيقنا، وليستعدوا بالصبر والمجاهدة، والاعتماد على الله تعالى؛ والابتلاء في المال بإنفاقه في سبيل الله تعالى، وتبديده بغارات الأعداء، وبالتكليفات الكثيرة المتعلقة به، وقد ابتدأ به لأنه أدنى الدرجات، فالترتيب في الابتلاء متدرج يبتدئ من الأدنى، وهو المال، والاختبار فيه شديد قاس، والاحتمال يحتاج إلى صبر وعزم، وقد يكون الاختبار في المال بالجوائح تنزل به، فكل هذا اختبار بالمال، وإنه ليسمى نفسيا؛ لأنه قرين النفس، وإن كان دونها، وهى أغلى منه، والمعنى: ليست أحوال المؤمن رخاء دائما، بل فيها شدة وبلاء يقتضى الصبر، وفيها نعمة وإحسان يقتضى الشكر.
4. الابتلاء في الأنفس يكون بالخوف من مساورة الأعداء، وتربصهم دائما، وبالجوع، وبهلاك النفوس في الحروب، وبالشدائد فيها، والابتلاء في المال والأنفس قد ذكره سبحانه وتعالى بهذه الآية، وفي كثير من الآيات.
5. الدرجة العليا من الابتلاء هي ما يخص الدين، وقد خصها سبحانه وتعالى بالذكر المؤكد، فقال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ والأذى الذي كانوا يسمعونه هو الافتراء على الله تعالى، والتهكم على القرآن، والسخرية من الشرع الإسلامي، من مثل قولهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران] ومثل قول المشركين: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس]، وهكذا مما يمس الحقائق الدينية، وقد جعله الله سبحانه وتعالى في المرتبة العليا من الابتلاء؛ لأن المؤمن يسهل عليه التأذي في ماله ونفسه، ولا يسهل عليه الأذى في دينه، وإنه يحتمل كل شيء في سبيل الدين، فإذا اتخذت الحقائق الدينية ذاتها هزوا ولعبا فإن ذلك فوق الاحتمال.
6. في النص الكريم إشارات بيانية نبينها، فإن في بيانها ذكرا لمرامى النص الكريم:
أ. أولها: أنه عبر عن المخالفين الذين كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يشير بأنهم قسمان: قسم أوتى علم الكتاب الذي نزل على بعض الأنبياء من قبل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والقسم الثاني المشركون الذين لا يؤمنون بكتاب، ولا يهتدون بهدى، وقد جمع القرآن القسمين في أمر واحد، وهو معاداة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد دفعتهم المعاداة إلى الجحود، وما كانت المعاداة لشخصه، بل كانت لما جاء به، وما يدعو إليه، وفي الجمع بين العالم بالكتاب والجاهل به إشارة إلى أنه عند وجود المعاندة يستوى العالم والجاهل، فإن الجاهل يعمه في عمياء جهالته، والعالم يطمس الله تعالى على قلبه، فيكون هو والجاهل سواء.
ب. الثاني: الإشارة إلى أنه إذا كان سبب معاندة المشركين جهلا فسبب معاندة الكتابيين هو الحسد، إذ يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ذلك أنهم بمقتضى كونهم أوتوا الكتاب من قبل ظنوا ذلك اختصاصا اختصوا به، وأنهم أولى أن تكون الرسالة فيهم دون غيرهم، ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام] وبذلك سكن قلبهم الحقد والحسد، وحيث كان الحسد كانت العداوة وكان العمى عن إدراك الحقائق.
ج. الثالث: التعبير عن نزول الأذى بسماعه، وقال سبحانه: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ والذى يسمع هو كلام، وعبر عنه بالأذى لأنه يؤدى إلى أذى، وموضوعه أذى، وهو في ذاته أذى، فكأن الأذى في ذات القول، ولذلك كان مفعولا للسماع، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه أذى كثير، وذلك ليبين لهم ما يوجب استعدادهم لسماعه، من أذى ليس بقليل في مقداره، ولا في نوعه، ولا في موضوعه، فالكثرة ليس المراد منها المقدار فقط، بل الكثرة تشمل المقدار والنوع، والطريقة والموضوع.
7. بين سبحانه وتعالى العلاج في هذا البلاء: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، الصبر ضبط النفس وحبسها عن الجزع، وحبسها على العمل واتخاذ الأهبة، وحبسها أيضا مع أهل الإيمان كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف] فالصبر يتضمن ضبط النفس عن الجزع، وقوة الاحتمال، والتضافر مع الجماعة، وقد وصف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صبر الأنصار فيما روى عنه من أنه قال فيهم: (يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع)
8. ﴿تَتَّقُوا﴾ معناها أن تتخذوا الوقاية بطلب رضا الله تعالى، ورجاء ما عنده، وأن تستعدوا، وتدفعوا الاعتداء بالحق وتعملوا على الخروج من المحنة، فليس شأن المؤمن استسلاما للمصائب تنزل به، بل شأنه صبر من غير جزع، وعمل من غير طمع، وجد وجهاد ودفع للشر.
9. وقد بين سبحانه أن التقوى والصبر هما من الأمور التي أمر الله تعالى بها لأنها تؤدى إلى النجاح، ولذلك قال سبحانه: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ أي إن ذلك مما يعقد الأمور ويربطها ويوثقها ويؤكدها، ويجعلها قوية منتجة مثمرة، فالصبر والتقوى بهما النجاح في الأمور.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1538.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾، هذا هو ثمن الحق والجنة.. صراع مرير مع المبطلين، وصبر على تهمهم وافتراءاتهم، وتضحية بالنفس والمال، وكلما كان الإنسان قويا في دينه اشتد بلاؤه وعظم.. ذلك ان مهمة أهل الحق تحتم عليهم كراهية الباطل وأهله، إذ لا صلح ولا هدنة بين الحق والباطل، وقد كان المبطلون ولا زالوا أكثر عددا وأقوى شوكة.. ومحال ان يسكتوا عن أعدائهم في العقيدة والمبدأ.. ومن الذي يعلم انه مكروه وبغيض لديك، ثم يتقبل ذلك منك، ويسكت عنك؟ الا من عصم ربك.. ومن هنا كان تاريخ الأنبياء والمصلحين تاريخ حرب وجهاد مع المشركين والمفسدين، أما البلوى في النفس والمال وغيرهما فهي نتيجة حتمية لكل حرب.
2. المراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلكم اليهود والنصارى، لأن التوراة والإنجيل نزلا قبل القرآن، والمراد بالذين أشركوا العرب الذين تظاهروا على حرب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على جهاد المبطلين، وما يحل بكم من البلاء (وتتقوا) الله فيما يجب اتقاؤه ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبر على البلاء واتقاءكم المحرمات ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/225.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء والإبلاء على المؤمنين، ثم ذكر قول اليهود وهو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي والأقاويل المؤذية من أهل الكتاب والمشركين ستتكرر على المؤمنين، ويكثر استقبالها إياهم وقرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل والفشل، ويكونوا أرباب عزم وإرادة، وهذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم، ويوطنوا عليه أنفسهم.
2. وضع في قوله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾، الأذى الكثير موضع القول وهو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/85.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتختبرن، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155]
2. ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بما يصيبها من أسباب النقص، وبالنقص من الثمرات وغيرها ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بالنقص من الأنفس، وبالأمراض وبالجراح في سبيل الله وغير ذلك، وفائدة هذا التقديم: أن يتهيئوا ويستعدوا ويعزموا على الصبر والتقوى، فكلما جاءت مصيبة تذكروا الصبر والتقوى عندها.
3. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ اليهود والنصارى أو هم وغيرهم ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ عموما ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ من التكذيب والجدال في آيات الله والسب وغير ذلك، وسمي أذى لأنه يُتأذى منه، قال في (مفردات الأصبهاني): (الأذى: ما يصل إلى الإنسان من الضرر) انتهى، والآية في الضرر المسموع وحده وقال تعالى: ﴿كَثِيرًا﴾ ليوطنوا أنفسهم على تحمله.
4. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على الابتلاء والأذى في الله ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبر والتقوى ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، قال في (لسان العرب): (وعزم ليفعلن: أقسم، وعزمت عليك: أي أمرتك أمراً جداً)، وعلى هذا: فـ (عزم) مصدر، بمعنى (اسم المفعول) أي من معزوم الأمور عليكم، وفي مجموع الإمام زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (عزائم سجود القرآن أربع..) إلى قوله: (.. وسائر ما في القرآن، فإن شئت فاسجد وإن شئت فاترك) فدل على أن العزيمة ما لا خيار فيه، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، زيدت فيها التاء لجريه مجرى الاسم مثل: النطيحة وغيرها.
5. قال الشرفي في (المصابيح): (وللآية تأويلان:
أ. الأول: أن المراد منه أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة، وإنما أوجب الله تعالى ذلك؛ لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين، كما قال سبحانه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:44] وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ [الجاثية:14] والمراد بهذا الغفران: الصبر، وترك الإنتقام، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان:72] وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35] وقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:34] قال الواحدي: (كان هذا قبل نزول آية السيف)، وقال غيره ـ وهو الصحيح ـ: (إن هذا ليس بمنسوخ، والظاهر: أنها نزلت عقيب قصة أحد، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال، والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه، والتأويل.
ب. الثاني: أن يكون أراد من الصبر والتقوى الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم.. الخ)، لأن القتال في سبيل الله امتثال لأمر الله ليس انتقاماً من الأذى بل لكفرهم وصدهم عن سبيل الله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/591.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول، وعلق عليها بقوله: وقد نلاحظ على هاتين الروايتين أن الواقع الذي عاشه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون معه كان واقع البلاء الشديد في أنفسهم وأموالهم على مستوى التهديد المتنوع بالقتل والتشريد والتعذيب في مكة، بحيث إن المسألة لم تكن مفاجئة لهم، ولذلك فقد كانت المعاناة هي ما كانوا ينتظرونه في مستقبل الدعوة بما عاشوه في ماضيها وحاضرها، الأمر الذي لا يجعل لأيّة حادثة مماثلة لمثل هاتين الحادثتين أن تهزّ واقع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين، وتثقل حركتهم، وتدفع بهم إلى الاستنفار الشعوري لتنزل الآية في تأكيد على خط المعاناة وتوجيه إلى مواجهتها بالتقوى والصبر، ليكون ذلك موقف عزم إنساني حازم.
2. إننا لا نريد نفي العلاقة بين هاتين الحادثتين أو إحداهما وبين الآية، بل نريد أن نسجّل ملاحظة استفهامية حول ذلك من حيث تاريخ النزول، مما يرجح أن تكون من الآيات المتحركة في خط التوعية العامة للمسيرة الإسلامية في حركة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين في مواجهة التحديات المضادة من قبل المشركين وأهل الكتاب، لا سيما اليهود، الذين يقفون ضد الرسالة من أجل إسقاطها أو إضعافها، وذلك من خلال الرفض النفسي والفكري والعملي للدعوة، بحيث يمارسون كل الأساليب الضاغطة والمتعسفة والمؤذية ضد الإسلام والمسلمين، ولكن ذلك كله لا يحقق أيّ شيء من أهدافهم إذا كان الصبر على المرحلة الصعبة هو الطابع الحركي للمسلمين، وإذا كانت التقوى التي تدرس كل خطوات الحركة وكل ظروف المرحلة وكل مفردات القضية بمسؤولية المسلم التقي الذي يتحرك من خلال أوامر الله ونواهيه في حركة الوجود والعدم، وبذلك كانت من آيات الخط الكبير الذي يحكم الواقع الطبيعي للمسيرة الكبرى، بحيث يكون الحديث عنه هو حديث المرحلة كلّها لا حديث مناسبة محدودة من مناسباتها المتنوعة.
3. إن الإيمان ـ في حياة المؤمن ـ موقف لا كالمواقف، لأنه يمثل التّحدي الكبير لما تعارف عليه الناس من اتجاهات فكرية وتيارات عمليّة في ما ينطلق فيه من تصوّر شامل للكون والحياة من خلال البداية والنهاية وعلاقة ذلك بالله، وحركة دائبة في أجواء الواقع الإنساني الكبير.. وفي هذا الجوّ سوف يلتقي بالكثيرين الذين يعيشون الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة على أساس التعصّب لبعض الأفكار المنحرفة والتصورات الضالّة والمنطلقات الكافرة، وسيحاول هؤلاء أن يثيروا الصّعوبات والعقبات في الطريق أمام المؤمنين، في ما يواجهونه من الكلمات القاسية، والإهانات الجارحة والأوضاع السيّئة التي تسيء إلى أمنهم واطمئنانهم وتهدر كرامتهم، وتعرّضهم للأخطار الكبيرة في أموالهم المعرّضة للضياع، وفي أنفسهم المعرّضة للموت.
4. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ وتؤكد الآية على أهل الكتاب وعلى المشركين في ما يثيرونه في هذا الاتجاه، باعتبارهم من الفئات البارزة التي تمثّل التحدي الصارخ في التصوّر والعمل للخط الإيماني السليم الذي يتمثّل في الإسلام والمسلمين، أَذىً كَثِيراً فقد يتحركون في اتجاه إثارة الأذى الكثير في وجه المؤمنين من خلال مسيرتهم الإيمانية، والشكوك التي يحرّكونها في الأذهان، والاتهامات التي يطلقونها في الساحة، والتحريفات التي يشوهون بها وجه الحقيقة الأصيل، في ما يبتعدون به عن صفاء الوحي وطهر التنزيل، مما يستهدفون من خلاله إبعاد المسلمين عن الخط المستقيم في الإسلام، وإبعاد الآخرين عن الدخول في الدين الجديد؛ لتبقى لهم حريّة اللعب والعبث بمقدرات أمور الناس في قضاياهم العامة والخاصة.
5. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ويريد القرآن للمؤمنين أن يواجهوا ذلك بالصبر والتقوى، هذين العنصرين اللذين يكون أحدهما نتيجة للآخر، فلا معنى للتقوى بدون صبر لأنها تعني الإرادة الصلبة في حركة الإيمان نحو الله أمام اهتزازات الإغراءات الكثيرة المتنوعة التي تعمل على أن تهزّ مشاعر الإنسان وأعماقه بطريقة شهوانيّة متحركة، ولا بد في ذلك كله من الصبر الذي يتجسّد في داخل الإنسان كقوّة رائدة تمثل العزم الكبير في الأمور، ولا معنى للصبر بدون التقوى، لأنه يعني الخطّ الإيماني الروحي الذي ينطلق في الفكر والشعور، ليثير في الإنسان الفكر الذي يهدي، والعاطفة التي تحرّك، والخشوع الذي يهزّ، ويوحي بانطلاقة العبودية الخاضعة في آفاق الربوبية الواسعة، فيتحوّل الصبر إلى تقوى تتحرك في مواقع الإرادة، وتطوف التقوى بالروح وبالفكر وبالنفس لتزرع في أعماقها غراس الصبر التي تنتج الحركة المنطلقة أبدا في اتجاه الحرية الداخلية في ما تريده من خير وبركة وإيمان.
6. أما كيف نتمثّل الصبر والتقوى في الخط التطبيقي العملي للفكرة المطروحة في الآية؟ فهذا ما نواجهه في نظرة سريعة إلى واقع الحركة من خلال واقع التحدّي؛ فقد نجد ذلك في ما يعيشه الإنسان من المشاعر السلبيّة الذاتية إزاء حالات البلاء الصعبة التي يمرّ بها في حياته العمليّة، فربما تساهم هذه الحالات لدى بعض الناس في هزيمتهم النفسية، لأنهم لا يطيقون الصبر على ذلك كله من خلال الآلام المتنوعة التي تتحدى طاقتهم الروحية والجسدية وقد نواجه ذلك في المواقف الانفعالية التي يقفها الإنسان في مواجهة الكلمات المؤذية التي يسمعها من القوى المضادّة، سواء في ذلك ما يتعلق منها بشخصه أو برسالته، أو بالناس الذين يشاركونه خطوات الرسالة، وقد يخيّل له أن الصبر على هذا أو ذاك يمثل موقف ضعف لا يجوز للمؤمن أن يقفه، وقد يتصور أن التقوى تتحرك في اتجاه الحركة الانفعالية لا في اتجاه الحركة الصابرة العاقلة؛ فكانت هذه الآية إعلانا بأن المسيرة تفرض على المؤمن الصبر على الأذى بإيجابيّة ووعي وانفتاح، وتوحي له بأن ذلك سبيل من سبل التقوى، لأن القضية التي تحكم تصرفات الإنسان المؤمن ومواقفه هي مصلحة الإسلام والمسلمين من خلال ما يثيره الإنسان من ردود الفعل السلبيّة والإيجابية في مواقف التحدّي العمليّة، وفي ضوء ذلك، يستطيع الإنسان أن يعرف كيف يكون الصبر والتقوى من عزم الأمور التي ترتكز على الأسس القويّة الثابتة في شخصية الإنسان المسلم، وذلك من خلال الحسابات الدقيقة المنطلقة من مواجهة النتائج الحاسمة للأشياء، ممّا يبعد المسألة عن أجواء الضعف والانفعال المتحرك من ملاحظة بدايات الأمور والغفلة عن نهاياتها.
7. وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الله والدعاة إليه أن يواجهوه في مسيرتهم العملية في ما يلتقون به من الأذى في القول والعمل من قبل الكافرين من أيّة فئة كانوا، ومن البلاء في أموالهم وأنفسهم، بأن لا يخضعوا للانفعالات الذاتية الطارئة، مما يجعل من تحرّكهم ذلك سبيلا للدخول في معارك متنوّعة خاضعة لتخطيط الأعداء ـ في وقتها ومكانها ـ على أساس ما يتوقعونه من انفعالات العاملين.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/436.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عندما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها، وإيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالجهاء والاستهزاء، وعند ما جاؤوا إلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة، خاصّة (كعب بن الأشرف) الذي كان شاعرا سليط اللسان، فقد كان كعب هذا يهجو النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن، وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن يأمر بقتله، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.
2. الآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إلى هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.
3. ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ أجل إنّ هذه الحياة ـ أساسا ـ ساحة اختبار ودار امتحان، فلا بدّ أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه، وشعره، ولهذا قال سبحانه: ﴿ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً﴾
4. إنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة، لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم، ومن قديم قال الشاعر:
çجراحات السنان لها التيام... ولا يلتام ما جرح اللسانé
5. ثمّ إنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله: ﴿وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.
6. العزم في اللغة هو (القرار المحكم) وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة، وعلى هذا فإن (عزم الأمور) يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه، واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى، ويبدون التبرم بما لقوا، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل ذلك السلوك.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/37.
102. الميثاق والكتاب والبيان والكاتمون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈102⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن أبي عبيدة، قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد، وفيه عبد الله بن مسعود، فقال: إن أخاكم كعبا يقرؤكم السلام، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، فقال له عبد الله: وأنت فأقرئه السلام، وأخبره أنها نزلت وهو يهودي(1).
2. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة لجاما من نار(2).
__________
(1) الثوري في تفسيره: ص٨٣.
(2) ابن عدي في الكامل: ٧/٣٦١.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من كتم علما فكأنّه جاهل(1).
2. روي أنّه قال: ما أخذ الله سبحانه على الجاهل أن يتعلّم حتّى أخذ على العالم أن يعلّم(1).
3. روي أنّه قال: ملاك العلم نشره(1).
__________
(1) غرر الحكم ص44.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾، قال كان أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، وقال: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٨]، فلما بعث الله محمدا قال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠]، عاهدهم على ذلك، فقال حين بعث محمدا: صدقوه وتلقون عندي الذي أحببتم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار(2).
3. روي أنّه قال في الآية: في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فنبذوه(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٩٤.
(2) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٩.
(3) ابن المنذر: ٢/٥٢٦.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ اليهود(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٤١.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ إنهم قد كانوا يقرؤونه، ولكنهم نبذوا العمل به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٩٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ تبديل يهود التوراة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ تبديل اليهود والنصارى صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته في كتبهم ونبوته، يقول: اشتروا به ما كانوا يصيبون من سفلتهم، فبئس ما يشترون(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣٠٠.
(2) تفسير مجاهد: ص٢٦٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هم اليهود والنصارى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ كتموا وباعوا، فلا يبدون شيئا إلا بثمن(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال في الآية: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم علما فليعلمه للناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلفين، كان يقال: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينتفع به، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقال في الحكمة: طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع، هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرا فحفظه ووعاه وانتفع به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٩٦.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية، وقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣](1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٨.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن الذيال بن عباد، أن أبا حازم الأعرج كتب إلى الزهري: انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله تعالى، فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها؟ ولا تحسبن الله راضيا منك بالتغرير، ولا قابلا منك التقصير، هيهات ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ الآية(1).
2. روي عن رواد قال: دخل الحسن بن عمارة على الزهري، وقد امتنع من الحديث، فقال: ما له لا يحدث؟ قالوا: امتنع، قال له الحسن: حدث؛ فإن في القوم من لو يشاء أن يحدث حدث، قال فليحدث، فقال الحسن: حدثنا الحكم بن عتيبة في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾، فقال: ما أتى الله عالما علما إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه، قال فحدث الزهري(2).
3. روي عن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث، فألفيته على بابه، فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك، فقال: حدثني، فقلت: حدثني الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، قال سمعت الإمام علي يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا، قال فحدثني أربعين حديثا(3).
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/٢٤٦.
(2) ابن عدي في الكامل: ٣/٩٩.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٨.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ فنبذوا العهد وراء ظهورهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٧.
بهدلة:
روي عن عاصم بن بهدلة (ت 128 هـ) أنّه قال: اجتمعوا عند الحجاج، فذكر الحسين بن علي، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعنده يحيى بن يعمر، فقال له: كذبت أيها الأمير، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة من مصداق من كتاب الله، أو لأقتلنك، قال: ﴿ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون﴾ إلى قوله: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ [الأنعام: ٨٤ ـ ٨٥]، فأخبر الله تعالى أن عيسى من ذرية آدم بأمه، والحسين بن علي من ذرية محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمه، قال صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال ما أخذ الله على الأنبياء: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، قال الله تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، قال فنفاه إلى خراسان(1).
__________
(1) البيهقي في السنن الكبرى: ٦/١٦٦.
أبو كثير:
روي عن يحيى بن أبي كثير (ت 132 هـ) أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه، قال أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال بل نصيحة تلقيها إلي، قال إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر، فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت، قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾(1).
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/٢٣٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، يعني: أعطوا التوراة، يعني: اليهود(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ بكتمان أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، وذلك أن سفلة اليهود كانوا يعطون رؤوس اليهود من ثمارهم وطعامهم عند الحصاد، ولو تابعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لذهب عنهم ذلك المأكل، يقول الله تعالى: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ يعني: فجعلوه ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، يعني: وجيع(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٠.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ نبذوا الميثاق(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٩٩.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أن تنكر المنكر، وتأمر بالخير، وتحسن الحسن، وتقبح القبيح(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٧.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سئل عن قول الله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 187] ما كان أخذ الميثاق ومتى كان؟ والجواب: أخذُ الله سبحانه لميثاق أهل الكتاب، هو: بلا شك ولا ارتياب، ما أخذ الله منهم على لسان موسى وعيسى صلى الله عليهما، من التصديق بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإيمان به والإقرار بما ينزل عليه من وحيه، والنصر له صلّى الله عليه وآله وسلّم، والقيام معه.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/164.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي: الذين أوتوا العلم بالكتاب، وأخذ الميثاق؛ ليبينوا، أي: يبيّنوا للناس ما في الكتاب من الأمر والنهي، وما يحل وما يحرم، وغير ذلك من الأحكام، ولا يكتموا ذلك.
ب. ويحتمل: أن أخذ عليهم الميثاق: أن بيّنوا للناس بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته، ولا تكتموه بالتحريف وبترك البيان.
2. ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي: لم يعملوا بما فيه، ولا بينوا للناس؛ فهو كالمنبوذ وراء ظهورهم، ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الآية، قد ذكرنا معناه في غير موضع، وعن علي قال: ما أخذ الله ميثاقا على أهل الجهل بطلب العلم، حتى أخذ ميثاقا من أهل العلم ببيان العلم؛ لأن العلم كان قبل الجهل.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/555.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي اليمين والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى أخذ الله عليهم المواثيق أن يبينوا نبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته ولا يكتمونه شيئاً وهذا أيضاً يعم المسلمين في أن يبينوا للناس ما يحتاجون إليه في أمر دنياهم وآخرتهم(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/160.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الميثاق: اليمين، وفي الذين أوتوا الكتاب هاهنا ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم اليهود خاصة، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي.
ب. الثاني: أنهم اليهود والنصارى.
ج. الثالث: أنهم كل من أوتي علم شيء من كتاب فقد أخذ أنبياؤهم ميثاقهم.
2. في قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ليبين نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي.
ب. الثاني: ليبين الكتاب الذي فيه ذكره، وهذا قول الحسن، وقتادة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/442.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، الباقون بالتاء فيهما، فمن قرأ بالياء، فلأنهم غُيب، ومن قرأ بالتاء حكى المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق (ولتبيينه) لجماعة الرجال وللواحد تفتح النون.
2. المعني به اذكروا ﴿إِذْ أَخَذَ اللهُ﴾ منهم الميثاق ليبينن أمر نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يكتمونه ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي رموا به في قول ابن عباس، ولم يعملوا به وإن كانوا مقرين به، ويقال لمن يطرح الشيء ولا يعبأ به رميته بظهر، قال الفرزدق:
çتميم بن قيس لا تكونن حاجتي...بظهر ولا يعيا عليّ جوابهاé
أي لا تتركنها، لا تعبأ بها، فأخبر الله تعالى عما حمل اليهود الذين كانوا رؤساء على كتمان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي قبلوا على ذلك الرشا، وقامت لهم بذلك رئاسة اكتسبوها فذلك حملهم على الكفر بما يخفونه.
3. ثم ذم تعالى أفعالهم بقوله: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ لأن ما يكون عاقبته الهلاك والعقاب الدائم، وان كان نفعاً عاجلا، فهو بئس الشيء.
4. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾:
أ. قال ابن عباس وسعيد ابن جبير وعكرمة والسدي وابن جريج ان المعنى بهذه الآية فنحاص اليهودي، وأصحابه الذين كتموا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما بينه الله في التوراة.
ب. وقال قتادة وكعب وعبد الله بن مسعود هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم كافة، فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم، فان كتمانه هلاك.
ج. وقال الجبائي: المعنى بالآية اليهود والنصارى.
د. وقال الحسن: ﴿لتبيننه ولا تكتمونه﴾ معناه لتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل، والميثاق الذي ذكره الله في الآية هو الأيمان التي أخذها عليهم أنبياؤهم ليبينن ما في كتبهم من الاخبار والآيات الدالة على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يكتمونه.
5. الهاء في (ليبيننه) عائدة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول سعيد بن جبير والسدي، فيعود على معلوم غير مذكور، وقال الحسن وقتادة: هي عائدة على الكتاب فيدخل فيه بيان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه في الكتاب
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/74.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الميثاق من المواثقة وأصله الإحكام، وثقت الشيء أحكمته.
ب. النبذ: الطرح، يقال نبذت الشيء من يدي إذا ألقيته من يدك.
ج. وراء: نقيض قدّام، واشترى افتعل من الشِّرَى ويستعمل في غير الثمن والمثمن.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: حكى عنهم نقض الميثاق كما حكى فيما تقدم أفعالهم الخبيثة.
ب. وقيل: لما تقدم ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ بيّن أنهم كذبوا مع تأكيد العهد عليهم.
3. وَإِذْ أَخَذَ ﴿اللَّهُ مِيثَاقَ﴾ أي اذكرْ أيها الرسول أمر هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أخذ عليهم الميثاق:
أ. قيل: هو اليمين الذي أخذها الأنبياء على أممهم ليبينوا أمر محمد للناس عن أبي علي.
ب. وقيل: هو أمر أهل الكتاب ببيان ما أوتوا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: اليهود عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي.
ب. وقيل: اليهود والنصارى عن أبي علي.
ج. وقيل: كل من أوتي علم شيء من كتب الله فقد أخذ ميثاقه.
5. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ ولا تكتمه عن محمد بن كعب والحسن وقتادة والأصم، قال الأصم: ذكروا أن الحجاج قال للحسن: أنت الذي قلت: إن النفاق كان مقموعًا فأصبح وقد عمم وتقلد سيفًا؟ قال: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قال: الذي أخذ ميثاق الَّذِينَ أوتوا الكتاب لتبيننه ولا تكتمونه.
6. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ لتظهرن لهم ذلك:
أ. قيل: أَمْر محمد؛ لأن في كتابهم أنه رسول وأن الدين هو الإسلام.
ب. وقيل: ما في الكتاب عن الحسن، يعني كل علم أوتي، وروي أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود فقال: إن كعبًا يقرئكم السلام وكان في المسجد ومعه جماعة من الصحابة ويقول: ليست هذه الآية فيكم، فقال ابن مسعود: أقرئه السلام وأخبره أنها نزلت وهو يهودي.
7. ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أي لا تخفونه عند الحاجة ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي طرحوه خلف ظهورهم يعني ضيعوه وتركوه فلم يعملوا به، فبينه بما يرمى وراء ظهره حتى ينساه، وهو مَثَل سائر فيمن يترك شيئًا فلا يعمل به، قال ابن عباس والشعبي: تركوا العمل به وكانوا يقرؤونه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾:
أ. قيل: كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأظهروا اليهودية وأخذوا عليه شيئًا يسيرًا من أتباعهم وعوامهم.
ب. وقيل: تركوا الإسلام لرئاسة لهم خافوا زوالها.
ج. وقيل: أخذوا الرشوة وغيروا الأحكام وأفتوا بغير الحق، فكأنهم بنقض الميثاق وأخذ العوض باعوا ذلك واشتروا ما أخذوه، وهذا توسع.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾:
أ. قيل: يعني تضييعهم الميثاق بما أخذوا.
ب. وقيل: بئس الثمن أن يستحقوا به العقاب الدائم.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب إظهار الحق وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره.
ب. أن هناك أمورًا يختص لمعرفتها أهل الكتاب ويعلم ذلك من جهتهم، وهو يحتمل بيان صفة الرسول ومسائل الأحكام التي يختص بها أهل العلم.
ج. ذم من يترك الكتاب لدنيا يصيبها.
11. قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو عمرو ليبيننه) ولا يكتمونه) بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب.
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الهاء في ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ قيل: تعود على محمد، عن سعيد بن جبير والسدي، فتعود على معلوم غير مذكور، وقيل: على الكتاب، عن الحسن وقتادة، فيدخل فيه بيان أمر النبي؛ لأنه في الكتاب.
ب. ﴿وَإِذْ﴾ العامل فيه محذوف تقديره: واذكر إذ أخذ الله، قال أبو مسلم: وتقدير الكلام: وإذ نبذ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ عليهم من الميثاق، واللام في قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ لام التأكيد ويدخل على اليمين تقديره: استحلفهم ليبينوا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/491.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حكى سبحانه عنهم نقض الميثاق والعهود، بعد حكايته عنهم التكذيب بالرسل فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: أراد به اليهود خاصة.
ب. وقيل: أراد اليهود والنصارى.
ج. وقيل: أراد به كل من أوتي علما بشئ من الكتب.
﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ أي: لتظهرنه للناس، والهاء:
أ. قيل: عائدة إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول سعيد بن جبير والسدي، لأن في كتابهم أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن الدين هو الاسلام.
ب. وقيل: عائدة إلى الكتاب فيدخل فيها بيان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه في الكتاب، عن الحسن وقتادة.
2. ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أي: ولا تخفونه عند الحاجة ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ ومعناه: ضيعوه وتركوه وراء ظهورهم، فلم يعلموا به، وإن كانوا مقرين به، عن ابن عباس، ويقال لمن يطرح الشيء ولا يعبأ به: رماه بظهره، قال الفرزدق:
çتميم بن قيس، لا تكونن حاجتي... بظهر، ولا يعبأ علي جوابهاé
3. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: استبدلوا بعهد الله عليه، ومخالفته وميثاقه، عوضا يسيرا من حطام الدنيا، يعني: ما حصلوه لأنفسهم من المأكلة والرشا والهدايا التي أخذوها من تحوتهم ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ أي: بئس الشيء ذلك إذ يستحقون به العذاب الأليم، وإن كان نفعا عاجلا.
4. دلت الآية على وجوب إظهار الحق، وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات، وغير ذلك من الأمور التي يختص بها العلماء، وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني، فقال: أو ما علمت أني تركت الحديث، فقلت: إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك، فقال: حدثني، فقلت: حدثني الحكم بن عيينة، عن نجم الجزار قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا، قال: فحدثني أربعين حديثا.
5. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم: (ليبيننه) بالياء (ولا يكتمونه) بالياء أيضا، والباقون بالتاء فيهما.. وحجة من قرأ بالتاء قوله: (وإذ أخذ ميثاق النبيين لما آتيتكم)، والاتفاق عليه، وكذلك قوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ﴾ وقد تقدم القول في ذلك، وحجة من قرأ بالياء أن الكلام حمل على الغيبة لأنهم في.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/905.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسّدّيّ، ومقاتل، فعلى هذا، الكتاب: التّوراة.
ب. الثاني: أنهم اليهود والنّصارى، والكتاب: التّوراة والإنجيل.
ج. الثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.
2. ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضّل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيّننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتّاء فيهما.
3. في هاء الكناية في قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ و﴿تَكْتُمُونَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول من قال هم اليهود.
ب. الثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصحّ، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عامّ في كلّ كتاب، وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا.
4. ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ قال الزجّاج: أي: رموا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر، قال الفرزدق:
çتميم بن قيس لا تكوننّ حاجتي...بظهر ولا يعيا عليّ جوابهاé
معناه: لا تكوننّ حاجتي مهملة عندك، مطّرحة.
5. في هاء ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق.
ب. الثاني: إلى الكتاب.
6. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
__________
(1) زاد المسير: 1/358.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والإنجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل: كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته وذينه.
ب. الثاني: أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة إيذائهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر.
2. قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق، أي فقال لهم: لتبيننه، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ﴾ [البقرة: 83] بالتاء والياء وأيضا قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ﴾ [الإسراء: 4]
3. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوردوا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها، فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فذلك التوكيد والإلزام هو المراد بأخذ الميثاق، وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤن ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: 81] فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم، واعلم أن الزام هذا الإظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب.
4. الضمير في قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ إلى ماذا يعود؟ فيه قولان:
أ. قال سعيد بن جبير والسدي: هو عائد إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور.
ب. وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب في قوله: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. اللام لام التأكيد يدخل على اليمين، تقديره: استحلفهم ليبيننه.
6. إنما قال ولا تكتمونه ولم يقل: ولا تكتمنه، لأن الواو واو الحال دون واو العطف، والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين.
7. سؤال وإشكال: البيان يضاد الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان؟ والجواب: المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من التوراة والإنجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة.
8. ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فإنه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه، لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب، حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال: ما الذي بلغني عنك؟ فقال: ما كل الذي بلغك عني قلته: ولا كل ما قلته بلغك، قال أنت الذي قلت: إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً، فقال: نعم، فقال: وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه، قال لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقول: طوبى لعالم ناطق، ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار)، وعن علي: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا)
9. ثم قال تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد، ونقيضه: جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم، أو لجر منفعة، أو لتقية وخوف، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/456.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هذا متصل بذكر اليهود، فإنهم أمروا بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبيان أمره، فكتموا نعته، فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم:
أ. قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شي من الكتاب، فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
ب. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية، وقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل]
ج. وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾
د. وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني، فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك، قال حدثني، قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا، قال: فحدثني أربعين حديثا.
2. الهاء في قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ ترجع إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن لم يجر له ذكر، وقيل: ترجع إلى الكتاب، ويدخل فيه بيان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه في الكتاب، وقال: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ ولم يقل تكتمنه لأنه في معنى الحال، أي لتبيننه غير كاتمين.
3. قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ بالتاء على حكاية الخطاب، والباقون بالياء لأنهم غيب، وقرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه)، فيجيء قوله ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ عائدا على الناس الذين بين لهم الأنبياء، وفي قراءة ابن مسعود (ليبينونه) دون النون الثقيلة، والنبذ الطرح، وقد تقدم بيانه في البقرة، ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مبالغة في الاطراح، ومنه ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ [هود] وقد تقدم في البقرة بيانه أيضا، وتقدم معنى قوله: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ في البقرة فلا معنى لإعادته، ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ تقدم أيضا، والحمد لله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/305.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، أو اليهود فقط، على الخلاف في ذلك ـ والظاهر: أن المراد بأهل الكتاب: كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب، أيّ كتاب كان، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب، قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية.
2. الضمير في قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ راجع إلى الكتاب؛ وقيل: راجع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن لم يتقدّم له ذكر، لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل المدينة: (ليبيننه) بالياء التحتية، وقرأ الباقون: بالمثناة الفوقية، وقرأ ابن عباس: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين ليبيّننّه ويشكل على هذه القراءة قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ فلا بد من أن يكون فاعله الناس، وفي قراءة ابن مسعود: (لتبينونه)، والنبذ: الطرح، وقد تقدّم في البقرة.
3. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مبالغة في النبذ والطرح، وقد تقدّم أيضا معنى قوله: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه، وقوله: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: حقيرا يسيرا من حطام الدنيا وأعراضها، قوله: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ ما: نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، ويشترون: صفة، والمخصوص بالذم: محذوف، أي: بئس شيئا يشترونه بذلك الثمن.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/469.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَ اَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ﴾ أي: ما عهد إليهم في التوراة ﴿الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ العلماء، ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ أي: الكتاب، أي: أحكام الكتاب وأخباره، وهو التوراة والإنجيل؛ فالهاء للكتاب في قوله: ﴿أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾، لا للنبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأَنَّ ردَّ الضمير إلى مذكور بلا تكلُّف ولا ضعف أَوْلى، ولأنَّ التبيين والكتم والنبذ وراء الظهر واشتراء الثمن أنسب بالكتاب، ولو قبلت التأويل مع الردِّ إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ تأكيد لما قبله، ذلك حكاية للخطاب الواقع في وقت أخذ الميثاق، وفي أخذ الميثاق معنى القول، فالمعنى: قال لهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَ اَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ﴾ [البقرة: 83]، ﴿وَإِذَ اَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ لَمَآ ءَاتَيْنَاكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: 81]
ويجوز أن يكون التبيين لألفاظ الكتاب بِأَن تُقرأ وتُشهر، وفيها الدلالة على رسالة نبيئنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والكتمان لمعانيه بأن لا تفسَّر لجاهلها، أو تُحرَّف بالتأويل، أو بزيادة تفسدها، والتبيين للمعنى والكتم للألفاظ.
2. ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ أي: الميثاق أو الكتاب، ﴿وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ شبّه ترك العمل بالميثاق أو الكتاب بإلقاء الشيء وراء الظهر احتقارا له، والواجب عليهم جعلها نصب عيونهم، ﴿وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ استبدلوا به الثمن القليل استبدال بائع ما باعه بثمن قليل تركوه، وأخذوا بدله مالا حقيرا وجاها حقيرا، فكلاهما ثمن قليل، والتنكير للتحقير، فإنَّه ولو عظم، لكنَّه حقير قليل بالنسبة إلى ما تركوه من الدِّين ومن ثواب الآخرة، إذ كتموهما لما يأخذونه من السفلة برئاسة العلم، ويلتحق بهم مَن كَتَمَ أحكام القرآن، أو فَسَّره بما ليس معنى له اتِّباعا لهواه من هَذِهِ الأمَّة، بل هو أولى بالذمِّ، فهو من مفهوم الأولى؛ لأَنَّ القرآن أفضل الكتب، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كتم علما على أهله ألجمه لله بلجام من نار)، وعن عليٍّ: (ما أخذ الله على الجاهل أن يتعلَّم حتَّى أخذ على العالم أن يُعلِّم)، قال أبو هريرة: (لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدَّثتكم)، وقرأ الآيَة، وقال الحسن: (لولا الميثاق الذي أخذ الله تعالى على أهل العلم ما حدَّثتكم بكثير مِمَّا تسألون عنه)، وكان قتادة يقول: (طوبى لعالم ناطق، ولمستمع واع، هَذَا عُلِّم علما فنشره، وَهَذَا سمع خيرا فعمل به)، قال الحسن بن عمارة: قلت للزهري: (حدِّثني) ـ بعد أن ترك الحديث ـ فقال: (ألم تعلم أنِّي تركت الحديث؟) فقلت: (إمَّا أن تحدِّثني أو أحدِّثك)، فقال: (حدِّثني)، فقلت: (حدَّثني ابن عيينة عن نجم الخرَّاز: سمعت عليَّ بن أبي طالب يقول: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتَّى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا)، فحدَّثني الزهريُّ أربعين حديثا)
3. ﴿فَبِيسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ بئس الثمن الذي يشترونه إذ أوردهم النار، أو بئس شراؤهم، هَذَا على أنَّ (مَا) في (بِئْسَمَا) مصدريَّة وهو خلاف المشهور، والمخصوص محذوف، أي: هَذَا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/82.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وهم علماء اليهود والنصارى ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ أي لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي قوله تعالى ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ من النهي عن الكتمان، بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به.
2. ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ أي الميثاق ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي طرحوه ولم يراعوه، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية، كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ أي استبدلوا به ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
3. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب إظهار الحق، وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره، وقد تقدم هذا، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة، ويدخل في الكتم منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها، وقال العلامة الزمخشريّ: (كفى بهذه الآية دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام الدنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم، وعيرة أن ينسب إليه غيرهم)
4. قال العلامة أبو السعود: (في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ، والإعراض عن المعطي، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون، مصحوبا بـ (الباء) الداخلة على الآلات والوسائل ـ من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير، على الشريف الخطير، وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصدا ـ ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/477.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في أهل الكتاب وقد تقدم أنه تعالى ذكر أحوال النصارى منهم ومحاجتهم في أول السورة ثم ذكر بعض أحوال اليهود قبل قصة أحد، ثم عاد إلى بيان بعض شؤونهم بعدها فكان منه ما في هذه الآية، وهو كتمان ما أمروا ببيانه واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله فيهم إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما(2).
2. قال محمد عبده: وجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من البلاء الذي يُصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه ومحافظتهم في الشدائد عليه، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين ووطن عليه نفوسهم ليثبتوا أو يصبروا أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبل إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية، فهو يذكر المؤمنين بذلك كأنه يقول لهم إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعديهم.
3. ﴿وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ أي اذكروا إذ أخذوا الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم، قال محمد عبده: ولا نقول في التوراة لأن القرآن لم يقل بذلك ولا بعدمه، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه ونزيد عليه بغير علم، ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين، وفيه معنى التكثير والتدريج كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين، فيقال له الله لتفعلن كذا، فقراءة من قرؤوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالمثتاة التحتية (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) لأنهم غائبون، وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة.
4. روي عن سعيد بن جبير والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن الحسن وقتادة أنه الكتاب الذي أوتوه، وهو الظاهر المتبادر ويدخل فيه البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال محمد عبده: وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس ولا اضطراب، وههنا أمران: العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان، وعدم العلم به بالمرة وهو نتيجة الكتمان، سؤال وإشكال: قد يُقال إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا ثم يأمر بالبيان، لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس؟ والجواب: عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو الجهل بالدين، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين، وأما الجهل المركب وهو فهمه على غير وجهه فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه، قال محمد عبده: والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا وفي أنفسنا، فإن كتابنا وهو القرآن العزيز لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ ونقل كما نقل ونشر كما نشر، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم وهم يتلونه في كل مكان، حتى أنك تسمعه في الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان وفي كل حال من الأحوال، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا فإنهم فقدوا هدايته حتى أنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر ـ ويعترفون بأن الغش قد عم وطم، ويعترفون بارتفاع الأمانة، وشيوع الخيانة الخ الخ، وكل هذا من نتائج ترك التبيين.
5. قال محمد عبده: ولهذه التعمية وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب، أهمها ما كان الخلاف بين العلماء من قبل، لاسيما في القرن الثالث، فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج بالكتاب، يأخذ ما وافقه منه ويؤول ما خالفه، واتبعهم الناس على ذلك ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين، حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن وتأييد ما يذهبون إليه به وتأويل ما عداه (أقول بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه بل كل فائدته عندهم أن يتبرك به ويتعبد بألفاظه ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح) حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخرافات فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا وحتى أن العلماء يرون المنكرات فلا ينكرونها، بل كثيرا ما يقعون فيها أو يتأولون لفاعليها ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه.
6. إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب وهم المفسرون لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي وكان جمال الدين يقول: (إن القرآن لا يزال بكرا) وأن لي كلمة ما زلت أقولها وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم، وما كان ذلك لبلادة؛ وإنما جاء من أمور أهمها الافتتان بالروايات الكثيرة، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام والأصول والفقه وغير ذلك، ومحاولة نصر المذاهب وتأييدها.
7. إن البيان أو التبيين على نوعين:
أ. أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه.
ب. وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم.
8. كل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء والسؤال، إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك، والقرآن حجة عليهم وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله تعالى في هذه السورة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النساء: 104] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء، فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين وأكد بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ إلا أن التأكيد فيه دون تأكيد أخذ الميثاق عنا وما فيه من معنى القسم ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب وبيعه بثمن قليل.
9. ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ النبذ الطرح وقد جرت كلمة نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء وعدم المبالاة به والاهتمام بشأنه، كما يقال في مقابل ذلك (جعله نصب عينيه) ـ أو ـ (ألقاه بين عينيه) أي اهتم به أشد الاهتمام بحيث كأنه يراه في كل وقت فلا ينساه ولا يغفل عنه، وفيه تنبيه إلى كون هذا هو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا فيه فيجعلوا الكتاب إماما لهم ونصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهر لا ينظر إليه ولا يفكر في شأنه، وكذلك كان أهل الكتاب (منهم) الذين يحملونه كما يحمل الحمار الأسفار فلا يستفيد مما فيها شيئا (منهم) الذي يحرفونه عن مواضعه (ومنهم) الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها أي قراءات يقرؤونها أو تشهيات يتشهونها، وتقدم بيان ذلك في سورة البقرة وسيأتي في مواضع أخرى.
10. ثم بين تعالى جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي أخذوا فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر معشار فوائد بيان الكتاب والعمل به فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين وعكسه كما تقدم في سورة البقرة وفي هذه السورة ومنه ما يتقرب به العلماء إلى الحكام وأجور الفتاوى الباطلة وسيأتي بعض التفصيل فيه والعبرة به.
11. أرجع بعضهم كالزمخشري الضمير في قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ وقوله: ﴿اشْتَرَوْا بِهِ﴾ إلى الميثاق، وجرى مثل ذلك على لسان محمد عبده في الدرس ونقله عنه بعض الطلاب، ولعله سهو، فإن هذه الآية بمعنى آية البقرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ [البقرة: 173] الآية وهي صريحة في الكتاب، فيراجع تفسيرها في الجزء الثاني وفي معناها آيات أخرى منها قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 79] ومنها في خطاب بني إسرائيل: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41] فيراجع تفسيرهما في الجزء الأول.
12. ورد في هذه السورة (آل عمران) بيع العهد والإيمان واشتراء الثمن القليل بهما في الكلام على اليهود، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 77] الآية وتراجع في الجزء الثالث والعهد يأتي بمعنى الميثاق ويطلق بمعنى ما عهد الله به إلى الناس في وحيه من الشرائع كقوله عز وجل: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: 60] الآية، وقوله: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [البقرة: 125] الآية، فالعهد بهذا المعنى يراد به المعهود به فيكون بمعنى الكتاب وهو المراد في الآية المذكورة آنفا [آل عمران: 77] ولذلك أفرد العهد وعطف عليه الأيمان لأن العهد واحد وإن اشتمل على أحكام كثيرة وهو الكتاب والإيمان تعتبر كثيرة بكثرة من أخذت عليهم.
13. جملة القول أن الضمير في قوله: ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ وقوله: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ هو ضمير الكتاب لا الميثاق كما قيل، محمد عبده: نبذوا الميثاق لم يفوا به، إذ تركوا العمل بالكتاب، والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن لأنه ظاهر في نفسه ومعروف من سيرتهم وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب والتزام الشريعة مشقة فيتركه حبا في الراحة وإيثارا للذة، وأما التأويل والتحريف فقد كان لهم فيه أغراض كثيرة:
أ. منها الخوف من الحكام والرجاء فيهم فيحرف رجال الدين النصوص عن مواضعها المقصودة ويصرفونها إلى معان أخرى ليوافقوا ما يريد الحاكم فيأمنوا شره وينالوا بره.
ب. ومنها: إرضاء العامة أو الأغنياء خاصة بموافقة أهوائهم لاستفادة الجاه والمال.
ج. ومنها: وهو الأصل في الأصيل في التحريف، الجدل والمراء بين رجال الدين أنفسهم لا سيما الرؤساء وطلاب الرئاسة منهم فإن الواحد من هؤلاء إذا قالوا قولا أو أفتى فأخطأ فأبان خطأه آخر ينبري لتصحيح قوله وتوجيه فتياه وتخطئة خصمه وتأخذه العزة بالإثم فيرى الموت أهون عليه من الاعتراف بخطأه والرجوع إلى قول أخيه في العلم والدين.
د. ومنها: الجهل فإن المتصدي للتعليم أو الفتيا قد يجهل مسائل فيتعرض لبيانها بغير علم وإذا أبيح لمثل هذا أن يعلم للأسباب التي نعهدها من الرؤساء الذين يجيزون جهلة الطلاب بالتدريس ويعطونهم الشهادة بالعمل محاباة لهم فإنه يربي تلاميذ أجهل منه فيكونون كلهم محرفين مخرفين ويفسد بهم الدين (لا سيما إذا صاروا مقربين من الأمراء والحكام)
هـ. ومنها: انقطاع سلسلة أهل الفهم والتبيين وخبط الناس بعدهم فيما يؤثر عنهم من بيان وتأويل وحمله على غير المراد منه حتى بعدوا عن الأصل بعدا شاسعا.. وانظر في حال المسلمين ـ الذين اتبعوا سنن من قبلهم ـ واعتبر بحال أهل الأزهر منهم ترى بعينيك كما رأينا وتسمع بأذنيك كما سمعنا وتفهم سر ما قصه الله من أنباء أهل الكتاب علينا..
14. ومما سمعه هو وهو العجب العجاب قول شيخ من أكبر الشيوخ سنا وشهرة في العلم في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء (من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق) يعني أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء فقال له محمد عبده: من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق، وقد ذكرنا هذه المسألة في المنار في زمنهما.
15. لا مفسدة أضر على الدين وأبعث على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام لا سيما المستبدين منهم، وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاؤوا من غش العامة باسم الدين وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل، وقد انتهى الأمر بالرتب العلمية في الدولة العثمانية أن صارت توجه على الأطفال بله الجاهلين من الرجال حتى قال فيها أحد علماء طرابلس الشام من قصيدة طويلة في سوء حال الدولة.
çزمن رأيت به العجائب...وذهلت فيه من الغرائب
زمن به الهم السخي...ف على عقول الناس غالب
أفلا تراهم جانبوا...كسب المعارف والمآدب
ورضوا بأوراق تخ...ط خطوطها مثل العقارب
يشهدن زورا أن من...هي باسمه نور الغياهب
علامة العلماء أو...بلاغ دولته المآرب
ويكون أجهل جاهل...ولمالها بالغش ناهب
أو أنه حدث على...فخذيه خرء الليل لازبé
ثم هزأ الناظم بعد ذلك بكساوى التشريف العلمية وشبهها وهي على العلماء بالسروج (المزركشة) على الدواب و(السيور على القباقب) إلى أن قال:
çضحكت عليهم دولة...هرمت وقاربت المعاطبé
على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق والمتزينين بتلك الكساوى الموشاة والمتحلين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلا ويضللون من يطلب إصلاح حال الدولة تضليلا؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرب من المستبدين أو بدينه؟
16. إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات والعقارب، ورووا في ذلك أخبارا وآثار ا كثيرة:
أ. منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض) الحديث رواه الترمذي وصححه النسائي والحاكم وصححه أيضا البيهقي.
ب. وفي معناه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم ويعملون فيسيئون العمل لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحكم وتصدقوا كذبهم فأعطوهم الحق ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد) رواه الطبراني عن أبي سلالة وله طرق أخرى، وإنما أوردناه لقوله فيه (يملكون أرزاقهم)
ج. ومنها حديث أنس المشهور (العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم) رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وكذا الحاكم في التاريخ وأبو نعيم في الحياة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، ونازع السيوطي ابن الجوزي في وضعه فقال: إن له شواهد فوق الأربعين، فيحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن.
د. ومنها حديث ابن عباس (أن أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرؤون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا) قال السيوطي: رواه ابن ماجة بسند رواته ثقات، وكذا ابن عساكر.
هـ. ومن حديثه عن الديلمي (سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون)
و. ومنه أيضا عند أصحاب السنن الثلاثة وحسنه الترمذي (من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن)
ز. ومنها حديث معاذ بن جبل (ما من عالم أتى صاحب سلطان طوعا إلا كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم) أخرجه الحاكم في تاريخه والديلمي.
ح. وأخرج أبو الشيخ في الثواب والحاكم في التاريخ من حديثه أيضا: (إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان تملقا إليه وطمعا لما في يديه خاض بقدر خطاه في نار جهنم) وأخرجه الديلمي من حديث أبي الدرداء بلفظ آخر.
ط. وفي الباب أحاديث أخرى أودها الحافظ السيوطي ي كتاب خاص سماه (الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين)
17. نظم كثيرون من ناظمي الحكم بعض هذه المعاني، ومن أحسن ما نظم في ذلك قول بعضهم:
çقل للأمير مقالة...لا تركنن إلى فقيه
إن الفيقه إذا أتى...أبوابكم لا خير فيهé
18. قال تعالى: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ أي هو ذميم قبيح لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلا من النعيم الباقي في الآخرة، وكذا من سعادة الدنيا الحقيقية التي تحصل للأمة بمحافظة العلماء على الكتاب وتبيينه لها وإرشادها به إلى ما يهذب أخلاقها ويعلي آدابها ويجمع كلمتها ويحول بينها وبين مطامع المستبدين فيها حتى تكون أمة عزيزة قوية متكافلة متضامنة أمرها شورى بين أهل الرأي وأولي الأمر من أفرادها.
__________
(1) تفسير المنار: 4/278.
(2) ذكر هنا ما ذكره الرازي في وجه النظم، سبق ذكره.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حكى سبحانه عن اليهود شبها ومطاعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأجاب عنها بما علمت فيما سلف، أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم، وغريب أمرهم، وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا في نبوته، ولا أن يوجهوا شبها لدينه، ذاك أن اليهود والنصارى أمروا بشرح ما في التوراة والإنجيل وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدق رسالته، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن والشبه وكانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده والذّود عن دينه لما في كتابيهما من البشارة به وتوكيد دعوته، فالعقل قاض بأن يظاهروه، ودينهم حاكم بأن يؤيدوه، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريا، وهل مثل هؤلاء يجدى معهم الحجاج والجدل، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أي واذكروا حين أخذ الله العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى بلسان أنبيائهم، ليبيننّ كتابهم للناس غير كاتمين له، بأن يوضحوا معانيه كما هي ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها، حتى لا يقع اضطراب ولا لبس في فهمه، فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه ولا يكون هذا بيانا ولا كشفا لأغراضه ومقاصده، وإما ألا يبينوه بتاتا ويكون هذا كتمانا له.
3. هذه الآية وإن كانت لليهود والنصارى، فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا، فإنهم مع حفظهم لكتابهم وتلاوتهم إياه في كل مكان، في الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان ـ تركوا تبيينه للناس، ففقدوا هدايته وعميت عليهم عظاته وزواجره، وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر.
4. تبيين الكتاب على ضربين: تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.. وتبيينه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم وهى آكد من قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
5. ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي لم يبالوا به ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه، ولا يفكّر في أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا ـ ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرّفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها وقراءات يقرؤونها.
6. هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم.
7. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا في هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتاب ويحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم.
8. ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها وهديها بإرشاده، وتهذيب أخلاقها بآدابه وجمع كلمتها حول تعاليمه، وبذا تحول بينها وبين المستبدين فيها، وتصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة، أمر أهلها بينها شورى، وقد روى عن على كرم الله وجهه أنه قال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا)
__________
(1) تفسير المراغي: 4/156.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب، ونبذهم له، وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه، حين يسألون عنه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾
2. وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم ـ وبخاصة اليهود ـ وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه، ولبسه بالباطل، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين، وفي صحة الإسلام، وفي وحدة الأسس والمبادئ بينه وبين الأديان قبله، وفي تصديقه لها وتصديقها له.. وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق؛ وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوراة.
3. فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة؛ حين ينكشف أيضا أن الله سبحانه قد أخذ عليهم العهد ـ وهو يعطيهم الكتاب ـ أن يبينوه للناس، ويبلغوه، ولا يكتموه أو يخفوه، وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله ـ والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد؛ فيمثله في حركة: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾! وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة، ابتغاء ثمن قليل: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو عرض من أعراض هذه الأرض، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود! وكله ثمن قليل، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله! ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/542.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا في عداد المؤمنين، بما في أيديهم من كلمات الله، الداعية إلى الحق، الهادية إلى صراط مستقيم، ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا.. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان، ولا يبقى بغيره المؤمن في المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله به، بأن يبيّنوا للنّاس ما في الكتاب الذي معهم من حق وخير، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا، وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير، ومنعوه النّاس، وحجبوه عنهم ـ ليتهم وقفوا عند هذا، فكان لهم في أنفسهم منه خير، ولكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس، فغيّروا وبدلوا، وقلبوا وجه الحق باطلا، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا، فضلّوا وأضلوا.
2. إنهم ـ والأمر كذلك ـ أشبه بمن كان في صحراء، لا شيء فيها من ماء أو طعام، وفي يديه شيء من ماء وطعام، ومعه رفقة مسافرة، لا شيء معها، وكان في هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام، لو أنّه أظهره لها، وأشاعه فيها.. ولكن كزازة طبعه، وشحّ نفسه، وخبث طويته ـ كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل، وأن يفسده، حتى لا ينتفع به أحد، فهلك، وأهلك الرفقة المسافرة معه!
3. هكذا كان شأن اليهود مع كتاب الله الذي في أيديهم.. كتموا الحق الذي فيه، وأفسدوا الخير الذي ينطوي عليه، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول الله، وعلى الكتاب الذي بين يديه، لقاء عرض زائل يعيشون فيه، ودنيا فانية يمسكون بها.. فهلكوا وأهلكوا، وضلّوا وأضلّوا، وفيهم يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/667.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [آل عمران: 186] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]، والقول في معنى أخذ الله تقدّم في قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: 34] ونحوه.
2. ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هم اليهود، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبيائهم، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.
3. جملة ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ بيان للميثاق، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: ليبيّننّه ـ بياء الغيبة ـ على طريقة الحكاية بالمعنى، حيث كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم، وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه: باعتبار كلام الحاكي، وكلام المحكي عنه، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو: أقسم زيد لا يفعل كذا، وأقسم لا أفعل كذا، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه: كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ [النمل: 49] قرئ ـ بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية ـ لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه، إذا جعل تقاسموا فعلا ماضيا فإذا جعل أمرا جاز وجهان: في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية، والقول في تصريف وإعراب ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ كالقول في ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ المتقدّم قريبا.
4. وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين: هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله، وعدم كتمانه أي إخفاء شيء منه، فقوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ عطف على ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما.
5. ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ عطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذ الميثاق، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان، ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه، ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّا كانت كلّ جزئية مأخوذا عليها الميثاق، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء.
6. النبذ: الطرح والإلقاء، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيها للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به، ووراء الظّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد، قال تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.
7. الضميران: المنصوب والمجرور، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله وعوّضوه بثمن قليل، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه.
8. الاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل، وهو ما يأخذونه من الرّشا والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر، وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلّا أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحاد جنس الحكم والعلّة فيه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/304.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه أن أهل الكتاب فيما يصنعون قد خالفوا ما أخذ عليهم من مواثيق، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، الميثاق هو العهد الموثق المؤكد، وقد أخذ الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب العهد المؤكد الذي لا يقبل تأويلا ولا احتمالا أن يبثوا علم الكتاب ويعلنوه، ولا يقصروا العلم به على طائفة من الناس خاصة.
2. الضمير فى ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ يعود إلى الميثاق، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله تعالى هو تعاليمه وشرعه ونوره، وعلى ذلك يكون ثمة احتمالان في عود الضمير، أحدهما أن يعود إلى الكتاب، والثاني أن يعود إلى الميثاق نفسه، والأظهر أنه يعود إلى الكتاب، والالتفات من الغائب إلى الخطاب؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم، ثم فسر الميثاق بالخطاب، لتأكيد أخذ الميثاق بإعلان أنهم ما كانوا غائبين عند أخذه، بل كانوا حاضرين مخاطبين، فالعهد قد أخذ عليهم بألسنتهم، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾
3. سؤال وإشكال: لماذا أكد قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ بعدة توكيدات، بالقسم وبلامه، وبنون التوكيد الثقيلة، ولم يؤكد ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾؟ والجواب: ذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان، ولو أن أدوات التوكيد لحقت ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ لأوهم الأسلوب أن المنفى هو الكتمان المؤكد المبالغ، أما غيره فلا ينفى، فلو قيل: (ولا تكتمنه) لأوهم الأسلوب أن المراد النهى عن المبالغة في الكتمان، فغير المبالغة في موضع الإباحة، وذلك غير معقول، ومع هذا العهد الموثق لم يبينوا؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾
4. ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ النبذ الطرح، والتعبير بوراء ظهورهم كناية عن أنهم لن يعودوا إلى ما نبذوه، والكلام تصوير لعملهم في عدم الوفاء بعهد الله الذي أخذه عليهم، إذ إنهم أهملوه، ولم يفكروا في العودة، وأهملوه إهمال استخفاف واستهانة، كما ينبذ الشيء الحقير.
5. الضمير في (نبذوه) على هذا يعود إلى الميثاق، باعتبار أنه هو موضع الحديث ابتداء، ويصح أن يعود إلى الكتاب؛ لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام والكتاب وعاؤها، فنبذ الكتاب نبذ للعهد، فهم لم يكتفوا بالامتناع عن البيان لغيرهم، بل أضافوا إليه إهمال الكتاب إهمالا مطلقا.
6. هذا النبذ للكتاب وتعاليمه، وللميثاق المؤكد وإعلانه ـ سببه الهوى الدنيوي، وحب السلطان والغلب، والاستطالة على الناس بما عندهم، والإدلال عليهم بالعلم من غير أن يعملوا به، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي تركوا كتاب الله تعالى والعمل به وبشرائعه، وإعلانه، في نظير ثمن تافه قليل، وكل ثمن للإعراض عن كتاب الله تعالى والعمل به هو قليل مهما يكبر في نظر التاركين، ولذا قال سبحانه: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ أي أنه مذموم قبيح ما يطلبون من أعراض الدنيا في نظير إهمال الشريعة والعهد الموثق.
7. هذا الكلام يدل على وجوب إعلان الحقائق الدينية والدعوة إليها، ومجابهة مخالفيها بإثم المخالفة، ومن أحسن ما قرأت في ذلك ما قاله الزمخشري في التعليق على هذا: (كفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارّهم، أو لجرّ منفعة وحطام دنيا، أو لتقية، أو لبخل بالعلم وغيره من أن ينسب إلى غيرهم، وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1542.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، تنشئ الدولة مراكز للموظفين، وتحدد لكل موظف مهمته، وتأخذ عليه عهدا أن يؤديها بأمانة واخلاص، وتشرّع قوانين خاصة لعقوبته إذا تجاوز الحدود المقررة له، وخلق الله الإنسان، وأمره بما يعود عليه بالخير والصلاح، ونهاه عما يفسده ويضرّ به.. واختار الأنبياء لتبليغ أحكامه إلى عباده، وأمرهم أن يأخذوا عهد الله وميثاقه على كل من بلغته هذه الأحكام أن يبلغها هو بدوره ويبينها للناس، فالعالم بالأمور الدينية موظف عند الله سبحانه، لتبيين ما أنزل على رسله، ومن كتم شيئا منه فهو مسؤول أمام الله جل وعلا، تماما كموظف الدولة مسؤول أمامها إذا أخل بمهمته.
2. جاء في ذلك العديد من الآيات والروايات، ذكرها العلماء في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾.. وقال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ فكيف إذا ناصر الباطل؟ ـ وسئل عن أحب الجهاد إلى الله؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر، وقال الإمام علي عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
3. هذا مبدأ عام لا يختص بعالم دون عالم، ولا بأهل دين دون دين، ولا بأصل أو فرع، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ﴾ الخ.. يرادف بعمومه هذا المبدأ، لأن الذين أوتوا الكتاب يشمل اليهود والنصارى والمسلمين، بل القرآن أشرف الكتب إطلاقا، كما ان وجوب التبيين وتحريم الكتمان يشمل نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرها من أصول الدين وفروعه، ولكن كثيرا من المفسرين خصصوا الآية بعلماء اليهود الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال آخرون: انها تشمل اليهود والنصارى دون غيرهم، لأنهم كتموا ما في التوراة والإنجيل من الأدلة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. والاولى التعميم، لعدم الدليل على التخصيص.
4. ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾، ونبذ الشيء وراء الظهر كناية عن عدم الاكتراث به والاهتمام بشأنه، كما ان جعله نصب العين كناية عن شدة الاهتمام به.
5. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، كل من كتم الحق إيثارا للعاجلة على الآجلة فقد باع دينه للشيطان بأبخس الأثمان.. البعض لا يكتفي بكتمان الحق، بل يحرف الكتاب والسنة طبقا لأهواء الوجهاء والأثرياء طمعا بما في أيديهم.. وهؤلاء ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/226.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ﴾، النبذ الطرح، ونبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك وعدم الاعتناء كما أن قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ واللزوم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/87.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ هذه الآية في أهل الكتاب تناسب قوله تعالى فيهم: ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ من حيث دلت هذه الآية على أنهم لا يريدون الحق بل يتبعون أهواءهم، ولذلك نبذوا كتاب الله ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ واستبدلوا به ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو ما ينالونه من الدنيا ليكتموا، أو لأنهم كتموا ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ لأنه سحت يعذبون به استبدلوه بالحق الذي لو اتبعوه سعدوا فهي صفقة خاسرة.
2. (بئس) كلمة ذم تعبر عن ذم ما تقال فيه ضد نِعْمَ في المدح، وقوله تعالى في أول الآية ﴿وَإِذْ﴾ بمعنى: اذكر إذ أخذ الله.
3. في الآية دلالة على: أن الكتاب بيّن الدلالة، بحيث يفهمه أهل الكتاب كلهم، ولذلك كان الكاتمون مذمومين على الكتمان وكان كلهم مكلفاً بالبيان، فدل ذلك على أنه لم يكن خاصاً بإمام أو وصي أو شيخ، فإذا جاز ذلك في التوراة جاز في القرآن أن الخطاب به عام، وأنه بيّن بحيث يفهمه كل مكلف باتباعه ومن قصر عنه فإنه لتركه تعلم العربية أو إعراضه عن إحراز ما يفهمه من معانيه وحفظها، فبطل دعوى من يدعي اختصاص الخطاب به وفهمه بالإمام أو الشيخ.
4. وقوله تعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ معناه تركوه مستخفين به.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/593.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بما عهد إليهم من المسؤوليات الحركية في حركتهم الرّسالية فيه ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ لأن الله أنزله للناس كافة، من أجل أن يتحول إلى فكر في عقولهم، وإلى عاطفة في قلوبهم، وإلى إحساس في مشاعرهم، وإلى واقع في حياتهم العامة والخاصة، مما يفرض على الطليعة الحاملة له أن تقوم بمهمة إبلاغه للناس ودعوتهم إليه وتوجيههم إلى مفاهيمه، لأن الهدف المنفتح على واقع الفكر لا يمكن أن يحصل إلا بأن ينتشر الحق في وعي الناس كلهم، باعتبار أن الوعي هو الخطوة الأولى للحركة.
2. ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ انطلاقا من بعض التعقيدات النفسية، والنوازع الذاتية، والأطماع المادية، والعلاقات الاجتماعية.. وغير ذلك من المؤثرات التي تدفع الإنسان إلى إخفاء الحقيقة، لأنها قد تربك بعض حياته، كما في الحالات التي تعمل على تأييد الظالمين ودعم مواقعهم، وتطييب نفوسهم، وتسهيل أمورهم رغبة في الحصول على بعض امتيازاتهم وأموالهم، لأن الكتاب يشجب ذلك كله، ويدعو إلى حماية المستضعفين من هؤلاء المستكبرين، وإلى اعتبار الإيمان قيمة تتفوق على كل قيم الثروة والجاه ونحو ذلك، وربما يكون الكتمان لبخل في العلم واستئثار به لعقدة نفسية ونحو ذلك.
3. ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي نبذوا الكتاب وطرحوه، لأنهم لا يلتزمون به التزام المؤمن بالنص المقدّس وبالإيمان المسؤول وبالواقع المنفتح على القيم الروحية والأخلاقية، بل كانت المسألة لديهم مجرد انتساب بالاسم، للانتفاع به في مصالحهم الدنيوية ونوازعهم الذاتية، وقد جاء في بعض التفاسير أن الضمير في كلمة ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ يرجع إلى الميثاق ـ كما في تفسير الكشاف ـ حيث ذكر في معناه: (فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه)
4. ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فقد استبدلوا بعهد الله عليهم وميثاقه ومخالفته عوضا يسيرا من حطام الدنيا مما حصلوا عليه من مال أو جاه أو شهوة لا يبقى لهم منه شيء.
5. ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ لأنهم حصلوا على أسوأ النتائج، وأيّ نتيجة أكثر سوءا من عذاب جهنم التي لا يمكن أن يعادلها أيّ نفع عاجل من حطام الدنيا!؟
6. إذا كانت هذه الآية قد تحدثت عن ميثاق الله لأهل الكتاب في تبيانه للناس وعدم كتمانه، فإنها توحي بالخط العريض الذي يشمل العلم كله، مما يحتاج الناس إليه في كل أمور دنياهم وآخرتهم، فإن العلم أمانة الله في عقل العالم ووجدانه، فلا بد له من أن يؤديه إلى كل جاهل يحتاج إليه في حركة وجوده، وهو أمانة الإنسان عند الذين يملكونه، باعتبار أن طاقات الأمة ليست شيئا معلّقا في الفضاء، بل هي موجودة في طاقات الأفراد الذين يتجمعون ليمثلوا طاقة الأمة مجتمعة، ولذلك فإن الذين يحجبون عن الأمة طاقاتهم، فلا يبذلونها لها، هم من الخائنين لأماناتهم العامة، وقد جاء في الحديث عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)
7. خلاصة الفكرة: أن العلم يمثل مسئولية العالم في بذله للناس بالطريقة التي تفتح عقولهم على الله وعلى الرسالة وعلى الحياة، بحيث يكفل لهم ذلك الارتفاع إلى الدرجات العليا في الوعي الشامل وفي مواجهة حاجات الدنيا والآخرة، فلا بد له من أن يقوم بمسؤوليته في ذلك كله على أساس الحساب أمام الله في ذلك كله.
8. من هنا، فإنّ المعرفة مسئولية الأشخاص الذين يملكونها، فقد أخذ الله ميثاقهم على أن يقدموها للناس ويبذلوها، لينطلق الناس في خط الوعي الذي يفتح لهم حياتهم على قضايا الحق والهدى والإيمان، فتتحرك من مواقع النور وتبتعد عن آفاق الظلام، بينما يتحوّل كتمانها واستغلالها لمطامع شخصية أو فئوية، إلى عنصر من عناصر الضلال والضياع والاستسلام للجهل والانحراف، وهذا ما لا يريده الله لعباده، في ما يريده لهم من الانفتاح على ما فيه صلاح أمورهم والابتعاد عما فيه فسادهم.
9. أكّد الله المسؤولية على الذين أوتوا الكتاب في ما حمّلهم من كتابه، واعتبر قضيّة إبلاغه للناس ميثاقا بينه وبينهم، وأراد لهم من خلال ذلك أن لا يتاجروا به ليشتروا به ثمنا قليلا، لأن التجارة إذا دخلت في وعي حملة الكتاب وسيطرت على مسيرتهم، كانت وسيلة من وسائل الإفساد للأمة، ذلك كونها تخضع لقانون العرض والطلب، وأساليب الربح والخسارة، في ما يتعامل به المتاجرون من أوضاع وأساليب.
10. أساء هؤلاء إلى أنفسهم وإلى الناس حين أساؤوا إلى هذا الميثاق الإلهي، فكتموا كتاب الله عن الناس، ولم يبيّنوه لهم ليعرفوا من خلاله قواعد الحق والباطل، فينطلقوا مع الحق ودعاته عن معرفة، ويبتعدوا عن الباطل وأهله عن معرفة.. ونبذوه وراء ظهورهم، فلم يحترموا مفاهيمه، ولم يكترثوا به، ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وخانوا الميثاق، ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، لأن هذه الأموال التي يقبضونها لقاء انحرافهم وتحريفهم لكتاب الله لإرضاء أطماعهم وشهواتهم، سوف تفسد عليهم مصيرهم في الدنيا والآخرة، وتحرق أصابعهم، وتعرّضهم للعنة الأبديّة عند الله، وذلك هو جزاء المفسدين.
11. قد لا نحتاج إلى التأكيد على استيحاء المفهوم الشامل الذي لا يجعل الآية في حدود هؤلاء الذين تحدثت عنهم من أهل الكتاب، بل يمتد إلى كل من حمل كتاب الله وعرف آياته وأحكامه، سواء كان الكتاب توراة أو إنجيلا أو قرآنا، لأن الفكرة هي أن الحقيقة أمانة الله عند أهلها، فلا يجوز لهم أن يخونوها بالتحريف والكتمان والتضليل، ولا يجوز لهم أن يتاجروا بها ليحصلوا ـ من خلال ذلك ـ على ثمن قليل، سواء كان مالا أو جاها أو إرضاء لعقدة ذاتية، لأن الثمن مهما كان كبيرا، فهو قليل أمام ما يخسرون من حياتهم ومصيرهم، ومصير الآخرين.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/442.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر الله تعالى جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم، والملفت للنظر أن عبارة ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ جاءت مع لام القسم، ونون التأكيد الثقيلة، وذلك نهاية في التأكيد، ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإخفاء.
2. ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق، وبيانها، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق، وأخفوا ما أرادوا إخفائه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه، لأن الإنسان إذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكا له، فإن يجعله قدامه، وينظر إليه مرة بعد أخرى، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه، وألقاه خلف ظهره.
3. ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، إن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية، ولكن الآية تقول: أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إلّا ثمنا قليلا، وبئس ما يشترون، ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال: إنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم، ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة)
4. الآية الكريمة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّا أنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية، وتوضيحها وإظهارها بجلاء، وإن ذلك ممّا كتبه الله عليهم، وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.
5. كلمة ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس، وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من دون إبهام، ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أيّة حجب وسدود، فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإلهية وبيانها وتوضيحها للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها لعلماء اليهود وأحبارهم، فقد روى عن النّبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار)
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/40.
103. الفارحون بالحمد الكاذب وجزاؤهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈103⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 188]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أن يقول لهم الناس علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا(1).
2. روي أنّه قال: هم أهل الكتاب، أنزل عليهم الكتاب، فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا أنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل إليه، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ويصومون ويصلون ويطيعون الله، فقال الله لمحمد: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ كفروا بالله، وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من الصلاة والصوم(2).
3. روي أنّه قال: يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة، ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾(1).
4. روي عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا؛ لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس أنّه قال: ما لكم ولهذه الآية!؟ إنما أنزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ الآية، وتلا: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ الآية، قال ابن عباس أنّه قال: سألهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه(3).
__________
(1) ابن إسحاق: ١/٥٥٩.
(2) ابن جرير: ٦/٣٠٣.
(3) البخاري: ٤٥٦٨.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ هو قولهم: نحن على دين إبراهيم(1).
2. روي أنّه قال في الآية: هم اليهود، يفرحون بما آتى الله إبراهيم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ بكتمانهم محمدا(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٤١.
(2) ابن جرير: ٦/٣٠٤.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ ناس من اليهود جهزوا جيشا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ بمنجاة(1).
2. روي أنّه قال في الآية: إن اليهود كتب بعضهم إلى بعض: إن محمدا ليس بنبي، فأجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم، ففعلوا، ففرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
__________
(1) ابن المنذر: ٢/٥٣١.
(2) ابن جرير: ٦/٣٠٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال في الآية: يهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب، وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك، ولن تفعله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣٠٤.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار، يفرحون بإضلالهم الناس، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا بأهل العلم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٢٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: إن اليهود من أهل خيبر قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: قد قبلنا الدين، ورضينا به، فأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا(1).
2. روي أنّه قال: دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدعاهم إلى الإسلام، فصبروا على دينهم، فخرجوا إلى الناس، فقالوا لهم: ما صنعتم مع محمد؟ فقالوا: آمنا به ووافقناه، فقال الله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ فرحوا بما في أيديهم حين لم يوافقوا محمدا(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٠.
(2) ابن أبي حاتم في تفسيره: ٣/٨٤٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: إن أهل خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، فقالوا: إنا على رأيكم، وإنا لكم ردء، فأكذبهم الله(1).
2. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن يهود خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما لم يفعلوا، فأنزل الله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ الآية(2).
__________
(1) عبد الزراق: ١/١٤٤.
(2) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٤٣٠.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: كان في بني إسرائيل رجال عباد فقهاء، فأدخلتهم الملوك، فرخصوا لهم وأعطوهم، فخرجوا وهم فرحون بما أخذت الملوك من قولهم، وما أعطوا، فأنزل الله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٣٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ معناه بمنجاة منه(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم، وليسوا كذلك(1).
2. روي أنّه قال: كتموا اسم محمد، ففرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون: نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم، فأنزل الله فيهم: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ من كتمان محمد: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾(1).
3. روي أنّه قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣٠٢.
(2) ابن جرير: ٦/٢٩٥.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان وهو أمير بالمدينة، فقال مروان: يا رافع، في أي شيء نزلت هذه الآية: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾؟ قال رافع: أنزلت في ناس من المنافقين، كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اعتذروا، وقالوا: ما حبسنا عنكم إلا الشغل، فلوددنا أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فكأن مروان أنكر ذلك، فجزع رافع من ذلك، فقال لزيد ين ثابت: أنشدك بالله، هل تعلم ما أقول؟ قال نعم، فلما خرجا من عند مروان قال له زيد: ألا تحمدني شهدت لك!، قال أحمدك أن تشهد بالحق؟ قال نعم، قد حمد الله على الحق أهله(1).
__________
(1) الطحاوي في شرح مشكل الآثار: ٥/٨٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (إنّ الله تعالى يحبّ الجمال والتجميل ويكره البؤس والتباؤس فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها) قيل: وكيف ذلك؟ قال: ينظف ثوبه ويطيب ريحه ويجصص داره ويكنس أفنيته، حتّى أن السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق(1).
2. روي أنّه قال: نظر الإمام الصادق إلى رجل من أصحابه عليه جبة خزّ وطيلسان خزّ فقال: (البس وتجمّل فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الجمال ما كان من حلال(2).
3. روي أنّه قال: رأى الإمام الصادق قوما يلبسون الصوف والشعر، فقال: (البسوا القطن فإنّه لباس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان أفضل ما يجده صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو لباسنا، ولم يكن يلبس الصوف ولا الشعر فلا تلبسوه إلّا من علّة، فإن الله عزّ وجلّ جميل يحبّ الجمال، وأن يرى أثر نعمته على عبده(3).
__________
(1) أمالي الطوسي 1/281.
(2) دعائم الإسلام 2/153.
(3) دعائم الإسلام 2/155.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين دخلوا عليه: نعرفك، نصدقك، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه، وصدقناه، فقال المسلمون: أحسنتم، بارك الله فيكم، وحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ يا محمد(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: بمنجاة من العذاب، ولا هم ببعيد منه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣٠٨.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ هو: فرحهم بما ارتكبوا وأتوا، من الجرأة على خاتم النبيين، والطعن على المؤمنين، مع قبيح فعلهم، ومستسمج سيرتهم؛ فكانوا يستحسنون ذلك من أنفسهم، ويرونه جائزا عندهم؛ لشرارتهم وشدة كفرهم، وبعدهم من الله وعنادهم، والفرح منهم هو: أشر وازدهاء، وتبع للمعصية والهوى، كفرح قارون إذ يقول له قومه: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾، وإنما كان فرحه جرأة وأشرا، ومعصية لله وتمردا.
2. هذه الآية نزلت في اليهود؛ ذما لهم فيما كانوا يأتون، من الجرأة على الله سبحانه وعلى أوليائه.
3. ثم قال عز وجل: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ هو: ما كانوا يتوسمون، ويذكرونه عن أنفسهم من الفضل والطاعة لله، والمدح لأمر ربهم؛ فأكذبهم الله عز وجل في قولهم، وبين للمسلمين كفرهم، ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾؛ فأخبر أنهم غير فاعلين لما ذكروا، ولا صادقين فيما انتحلوا؛ بل هم كاذبون، وعند الله معذبون.
4. ثم قال: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾، والمفازة فهي: البعد؛ فذكر سبحانه: أنهم من العذاب قريب غير بعيد، فحكم عليهم بأليم العذاب، وأوجب لهم الخزي والعقاب، وصاروا بذلك إلى شر مآب، جهنم يصلونها وبئس المهاد.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/201.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾:
أ. قيل: بما غيّروا من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته في كتابهم وكتموه، وتبديلهم الكتاب، وإعجاب الناس ذلك وحمدهم على ذلك.
ب. وقيل: إن اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك ـ وليس ذلك في قلوبهم ـ فلما خرجوا من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ فيقولون: عرفناه وصدقناه؛ فيقول المسلمون: أحسنتم، بارك الله فيكم: يحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان، وهم يحبون أن يحمدوا على ذلك؛ فذلك تأويل قوله: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾
ج. وقيل: إنهم قالوا: نحن أهل الكتاب الأول والعلم، وأهل الصلاة والزكاة، ولم يكونوا كذلك، وأحبّوا أن يحمدوا على ذلك، والله أعلم بالقصّة.
2. قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ الآية ـ دلّ على ما ذم الله عباده، وأوعدهم عليه أليم عقابه فيما أحبّوا الحمد على ما لم يفعلوا ـ على تعالى الربّ عن قول المعتزلة في قولهم: ليس لله في الإيمان تدبير سوى الأمر، ولا صنع، وقد أحبّ أن يحمد عليه بقوله عزّ وجل: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7]، وبقوله عزّ وجل: ﴿بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 17]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ [النور: 10] في غير موضع من القرآن، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/555.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: معنى يفرحون بما أتوا: أي بما أتوا من الذنوب وفعلوا، ويحبون أن يمدحوا بالكذب، ويرضون بذلك، فذمهم الله على ذلك، وأخبر أنهم ليسوا بمفازة من العذاب، أي ليسوا ببعيد منه.
2. المفازة: هي التنوفة، والمفازة: البعد، كل ذلك بمعنى واحد.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 268.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أي يحمدوا بما ليس منهم ويحتمل أن يكون أهل الكتاب أحبوا القعود وترك الجهاد وأرادوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/160.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإخفاء أمره، وأحبوا أن يحمدوا بما ليس فيهم من أنهم أهل نسك وعلم، وهذا قول ابن عباس، والضحاك.
ب. الثاني: أنهم أهل النفاق فرحوا بقعودهم عن القتال وأحبوا أن يحمدوا بما ليس فيهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول أبي سعيد الخدري، وابن زيد.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/442.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أهل الكوفة ويعقوب ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء وفتح الباء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء، وضم الباء، الباقون بالياء وفتح الباء.
2. ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ الأخير بالتاء بلا خلاف، قال أبو علي من قرأ بالياء، لم يوقع يحسبن على شيء، (والذين) رفع بأنه فاعل (لا تحسبن) قال ووجه قراءة ابن كثير وأبي عمرو في أن لم يعديا (حسبت) إلى مفعولية ان (يحسب) في قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لما جعل بدلا من الأول وعدّي إلى مفعوليه استغنى بها في تعدية الأول إليهما كما استغنى في قول الشاعر:
çبأي كتاب أم بأية سنة...ترى حبهم عاراً علي وتحسبé
فاكتفى بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما.
3. سؤال وإشكال: كيف يستقيم تقدير البدل، وقد دخل الفاء بينهما، ولا يدخل بين البدل والمبدل منه الفاء؟ والجواب: أن الفاء زائدة، يدلك على ذلك أنها لا يجوز أن تكون التي تدخل على الخبر، لأن ما قبل الفاء ليس بمبتدإ، فتكون الفاء خبره، ولا تكون العاطفة، لأن المعنى ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ ويحبون أنفسهم ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ فإذا كان ذلك لم يجز تقدير العطف، لأن الكلام لم يستقل بعد فيستقيم فيه تقدير العطف، وأما قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ فان فعل الفاعل الذي هو يحسبون تعدى إلى ضميره، وحذفت واو الضمير لدخول النون الثقيلة، وقوله: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ في موضع المفعول الثاني، وفيه ذكر المفعول الأول، وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه نحو ظننتني أخاه، لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت (إن) وأخواتها في دخولهن على الابتداء والخبر كدخول هذه الافعال عليهما، وذلك نحو قولك: ظننتني ذاهباً، كما تقول: إني ذاهب، ولو قلت أظن نفسي تفعل، لم يجز كما يجوز أظننتني فاعلا.
4. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس، وسعيد أن الآية نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون باجلال الناس لهم ونسبهم إياهم إلى العلم.
ب. وقال الضحاك، والسدي: نزلت في اليهود حيث فرحوا بما أثبتوا من تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال سعيد بن جبير: فرحوا بما أتى الله آل إبراهيم.
ج. وقال ابن عباس: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سألهم عن شيء، فتكتموه ففرحوا بكتمانهم.
د. أقوى هذه الأقوال أن يكون قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ يعني بها من أخبر الله عنهم أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يكتمونه، لأن قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ في سياق الخبر عنهم وشبيه بقصتهم مع أن أكثر أهل التأويل عليه.
هـ. وقال الجبائي: الآية في المنافقين، لأنهم كانوا يعطون المؤمنين شيئاً يستعينون به على الجهاد لا على وجه القربة إلى الله بل على وجه الرياء ويفرحون بذلك، ويريدون مع ذلك أن يحمدوا على ذلك ويعتقد أنهم فعلوه لوجه القربة، فقال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ بمنزلة المؤمنين الذين يفعلون الافعال لله على وجه القربة إليه، وقال: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ مع ذلك بمنجاة ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ بل ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني مؤلم فحسبان الثاني متعلق بغير ما تعلق به الأول، فلذلك كرر.
و. قال أبو سعيد الخدري، وأبو وهب، والزجاج: هم قوم من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخرجوا من عنده، فذكروا لمن كان رآهم في ذلك الوقت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أتاهم بأشياء قد عرفوها، فحمدهم من شاهدهم من المسلمين على ذلك، وأظهروا خلاف ما أبطنوا، وأقاموا فيما بعد على الكفر، فأعلم الله تعالى نبيه أنهم:
• ليسوا بمفازة أي ليسوا ببعد من العذاب.
• وقيل معناه ليسوا بمنجاة من العذاب.
5. سؤال وإشكال: أين خبر ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ الاولى؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾، لأنها مكررة لطول الكلام، وقيل: الفاء زائدة على هذا، وهو قول الزجاج.
ب. الثاني: ان الخبر محذوف، كأنه قال ناجين، ودل الخبر الأخير عليه.
6. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يذم بالفرح وليس من فعل الإنسان؟ والجواب: ذم بالتعرض له على جهة الأشر والبطر كما قال: ﴿لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
7. وقعت، ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ مكررة لطول القصة كما يقولون: (لا تظنن زيداً إذا جاءك كلمك بكذا وكذا، فلا تظننه صادقاً)، فيعيد فلا تظننه توكيداً، واعلاماً ان ذلك يتعلق بالأول، ولو لم يكرر كان جائزاً، لكن مع التأكيد أوضح.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾:
أ. قال البلخي: إنهم قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وأهل الصوم والصلاة وليسوا بأولياء الله، ولا أحباؤه، ولا أهل الصلاة والصيام، ولكنهم أهل شرك ونفاق، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقال قوم: ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا﴾ على أنهم أبطلوا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكذبوا ما أبطلوه، ولا لهم قدرة على ذلك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/76.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الفرح والمرح من النظائر، وهو أن يستفز حال البشارة صاحبها وذلك مذموم عند العرب يتمادحون بتركه، قال الشاعر:
çفَلاَ فَرِحٌ إن أتاه... وَلاَ جَزعٌ مِنَ الْحَدَثان لاعىé
وقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ وأخرجه مخرج الذم.
ب. المفازة والنجاة والخلاص واحد وهو الفوز، يقول: فاز يفوز فوزا ومفازة أي تخلص، نحو: قال يقول قولاً ومقالةً، وخاف خوفًا ومخافة، وقال أبو مسلم: المفازة والنجاة واحد وهو البعد.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في أهل النفاق؛ لأنهم كانوا يجتمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا رجع اعتذروا، ويحبون أن يقبل منهم ليحمدوا بما ليس هم عليه من الإيمان عن أبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن ثابت وابن زيد.
ب. وقيل: نزلت في أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على التكذيب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتمان أمره فأحبوا أن يحمدوا بما ليس فيهم من أنهم أهل نسك وعلم عن ابن عباس والضحاك والسدي، وروي أن يهود المدينة كتبوا إلى أطراف الأرض بأن محمدًا ليس برسول فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم ففرحوا وقالوا: الحمد لله الذي جعل جمع كلمتنا فنحن أهل العلم وعلى دين إبراهيم.
ج. وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي وأحبار اليهود يفرحون بإضلال الناس وقولهم: إنهم علماء وأئمة وليسوا كذلك عن عكرمة.
د. وقيل: نزلت في اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه عن مجاهد.
هـ. وقيل: أتت يهود خيبر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: نحن نعرفك ونؤمن بك وليس ذلك في قلوبهم، فقال المسلمون: أحسنتم وحمدوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيهم عن قتادة، وعن الأصم قريبًا منه.
و. وقيل: نزلت في ناس من اليهود جهزوا جيشًا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنفقوا عليهم عن إبراهيم، وروي أن ابن عباس سئل فقيل له: إن كان كل امرئ يفرح بما أتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا فكلنا معذب، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شيء فكتموه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم.
3. بيّن تعالى خصلة من خصال اليهود، وهي كتمان الحق وما استحقوا عليه فقال سبحانه: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ أي لا تظنن أيها الإنسان أو أيها السامع أو يا محمد وبالياء لا يحسبن الفارحون.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾:
أ. قيل: هم المنافقون يفرحون بالنفاق ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا﴾ بالإيمان.
ب. وقيل: هم اليهود فرحوا بكتمان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحبون أن يحمدوا بأنهم أئمة وليسوا كذلك.
5. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بالتاء لا يحسب السامع، وبالياء لا يحسبوا أنفسهم ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ بمنجاة من العذاب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ موجع وهو عذاب النار.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. بطلان مذهب الجبر؛ لأنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن عندهم الإيمان والطاعات خلق الله تعالى، ولا يرجع ذلك علينا أنا نحمد الله على الإيمان لأنا نحمده على التمكين والتسهيل والتيسير والألطاف والهداية لا على نفس الإيمان، وهو يحمدنا على الإيمان، وعند القوم يحمدون أنفسهم على الإيمان وهو خلق الله تعالى.
ب. قبح كتمادْ العلم، واستحقاق العقاب عليه.
ج. أن الفرح بغير طاعة الله يقبح، وهو الفرح على طريق الفخر والبطر.
7. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: لا يحسبن الَّذِينَ يفرحون) بالياء وفتح الباء على تقدير لا يحسب الفارح، و﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ على هذا محله رفع؛ لأن الفعل مضاف إليه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء ونصبا الباء على تقدير: لا تحسبن أيها السامع، و﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ على هذا محله نصب لأنه مفعول.
ب. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ الثاني: بالياء وضم الباء ابن كثير وأبو عمرو على تقدير: لا يحسب الفارحون كأنه قيل: لا يحسبوا أنفسهم، وقرأ الباقون بالتاء على تقدير: لا تحسبنهم أيها السامع، وعلى القراءتين محلهم نصب؛ لأنه مفعول.
ج. قراءة العامة ﴿أَتَوْا﴾ وعن إبراهيم ﴿أَتَوْا﴾ بالمد، أي أعطوا من أنفسهم، وعن سعيد بن جبير ﴿أُوتُوا﴾ أعطوا على ما لم يسم فاعله.
8. مسائل لغوية ونحوية:
9. في خبر ﴿لَا تَحْسَبَنَّ﴾ الأولى قولان:
أ. الأول: خبرها ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾؛ لأنها مكسورة لطول الكلام كقولك: لا تظن زيدًا إذا جاءك وكلمك في كذا فلا تظننه صادقًا عن الزجاج، وقيل: الفاء زائدة على هذا.
ب. الثاني: أن يكون الخبر محذوفًا كأنه قيل: أحسبن، ودل الخبر الأخير عليه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/493.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم، ونسبتهم إياهم إلى العلم، عن ابن عباس.
ب. وقيل: نزلت في أهل النفاق، لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا رجعوا اعتذروا وأحبوا أن يقبل منهم العذر، ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان، عن أبي سعيد الخدري، وزيد بن ثابت.
ج. وقيل: أتت يهود خيبر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: نحن نعرفك ونؤمن بك، وليس ذلك في قلوبهم، فحمدهم المسلمون، فنزلت فيهم الآية، عن قتادة.
2. بين سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾:
أ. قيل: أي: الفارحون الذين يفرحون بالنفاق ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أي: بالإيمان.
ب. وقيل: هم اليهود:
• الذين فرحوا بكتمان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأحبوا أن يحمدوا بأنهم أئمة، وليسوا كذلك، وقد عرفت المعنى في القراءة بالتاء والياء في الحجة، فلا معنى لإعادته.
• وقال أبو القاسم البلخي: إن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وأهل الصلاة والصوم، وليسوا أولياء الله، ولا أحباءه، ولا أهل الصلاة والصوم، ولكنهم أهل الشرك والنفاق، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
• وقيل: معناه إنهم يحبون أن يحمدوا على إبطالهم أمر محمد، وتكذيبهم به.
ج. الأقوى أن يكون المعني بالآية من أخبر الله عنهم، أنه أخذ ميثاقهم في أن يبينوا أمر محمد، ولا يكتموه، وعليه أكثر أهل التأويل.
3. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي: لا تظننهم بمنجاة، وبعد من النار ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم موجع.
4. قد ذكرنا اختلاف القراءة في تحسبن، وتحسبنهم فيما قبل.. قال أبو علي: من قرأ (لا يحسبن) بالياء (فلا يحسبنهم)، فالذين في موضع رفع بأنه فاعل ﴿يَحْسَبَنَّ﴾، ولم يوقع ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ على شيء، قال أبو الحسن: لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء، لأنه لم يوقعه على شيء، ويرى أنه لم يستحسن أن لا يعدي حسب، لأنه قد جرى مجرى اليمين في نحو: علم الله لأفعلن، ولقد علمت لتأتين منيتي، وظنوا ما لهم من محيص، فكما أن القسم لا يتكلم به حتى يعلق بالمقسم عليه، فكذلك ظننت وعلمت في هذا الباب، وأيضا فقد جرى في كلامهم لغوا، وما جرى لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة، ومن ثم جاء نحوه:
çوما خلت أبقى بيننا من مودة... عراض المذاكي المسنفات القلايصاé
وإنما هو وما أبقى بيننا، فالوجه في هذه القراءة أنه لم يعد حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما، لأن حسبت في قوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ لما جعل بدلا من الأول وعدي إلى مفعوليه استغنى بهما عن تعدية الأول إليهما، كما استغنى في قوله:
çبأي كتاب، أو بأية سنة... ترى حبهم عارا علي، وتحسبé
بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما، والفاء زائدة، فالتقدير: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب.. وأما قراءة ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بضم الباء، فإن فعل الفاعل الذي هو يحسبن تعدى إلى ضميره، وحذفت واو الضمير لدخول النون الثقيلة، سؤال وإشكال: هلا لم تحذف الواو من تحسبون وأثبتها كما ثبتت في تمود بالثوب، أتحاجوني، ونحو ذلك مما يثبت فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأول من زيادة المد التي تقوم مقام الحركة، والجواب: إنه حذفت كما حذفت مع الخفيفة، ألا ترى أنك لو قلت: لا تحسبن زيدا ذاهب، لم يلزمك الحذف، فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة في هذا، و﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ في موضع المفعول الثاني، وفيه ذكر للمفعول الأول، وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه، نحو: ظننتني أخاك، لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على المبتدأ والخبر، أشبهت أن وأخواتها في دخولها على المبتدأ والخبر، كدخول هذه الأفعال عليهما، وذلك قولك: ظننتني ذاهبا، كما تقول إني ذاهب، ومما يدل على ذلك قبح دخول النفس عليها لو قلت: أظن نفسي تفعل كذا، لم يحسن كما يحسن أظنني فاعلا.. فأما قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر (لا يحسبن) بالياء، فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الياء فمثل قراءة ابن كثير، وأبي عمرو إلا في قوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، والمفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله (لا يحسبن الذين يفرحون) محذوفا لدلالة ما ذكر من بعد عليهما، ولا يجوز البدل هنا كما جاز هناك، لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.. وأما قراءة حمزة بالتاء فيهما فحذف المفعول الثاني الذي يقتضيه ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ لأن ما يجئ من بعد قوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ يدل عليه، ويجوز أن يجعل ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بدلا من ﴿تَحْسَبَنَّ﴾، والفاء زائدة كما في قوله: فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/906.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ ثمانية أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
ب. الثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
د. الرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلّها، أنّ محمّدا ليس بنبيّ، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصّوم والصّلاة، وأولياء الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول الضّحّاك، والسّدّيّ.
هـ. الخامس: أن يهود خيبر أتوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
و. السادس: أن ناسا من اليهود جهّزوا جيشا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النّخعيّ.
ز. والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج.
ح. الثامن: أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدريّ، وهذا القول يدلّ على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدلّ على أنها في اليهود.
2. في الذي أتوا في قوله تعالى: ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ ثمانية أقوال:
أ. أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق.
ب. الثاني: تبديلهم التّوراة.
ج. الثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثّواب.
د. الرابع: إضلالهم النّاس.
هـ. الخامس: اجتماعهم على تكذيب النبيّ.
و. السادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضدّه.
ز. السابع: اتّفاقهم على محاربة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه أقوال من قال هم اليهود.
ح. الثامن: تخلّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال هم المنافقون.
3. في قوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ ستة أقوال:
أ. أحدها: أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه.
ب. الثاني: أحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك.
ج. الثالث: أحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصّلاة والصّيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس.
د. الرابع: أحبّوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير.
هـ. الخامس: أحبّوا أن يحمدوا على قولهم: إنّا راضون بما جاء به النبيّ، وليسوا كذلك، قاله قتادة، وهذه أقوال من قال هم اليهود.
و. السادس: أنّهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدريّ، وهو قول من قال هم المنافقون.
4. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (فلا يحسبنهم)، بالياء وضمّ الباء، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: بالتّاء، وفتح الباء.
5. إنما كررت ﴿تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ قال الزجّاج: لطول القصّة، والعرب تعيد إذا طالت القصّة (حسبت) وما أشبهها، إعلاما أنّ الذي يجري متّصل بالأوّل، وتوكيدا له، فتقول: لا تظنّنّ زيدا إذا جاء وكلّمك بكذا وكذا، فلا تظنّنّه صادقا.
6. ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة.
__________
(1) زاد المسير: 1/359.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا من جملة ما دخل تحت قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران: 186] فبين تعالى أن من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة، ولا شك أن الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمصابرة عليها، وبين ما لهم من الوعيد الشديد.
2. قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت، وكذا في قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾:
أ. أما القراءة الأولى ففيها وجهان: أحدهما: أن يقرأ كلاهما بفتح الباء، الثاني: أن يقرأ كلاهما بضم الباء، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير: لا تحسبن يا محمد، أو أيها السامع، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين: وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني: بمفازة وقوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ تأكيد للأول وحسنت إعادته لطول الكلام، كقولك: لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا.
ب. وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله: لا يحسبن ففيها أيضا وجهان: الأول: بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والباقي كما علمت، والوجه الثاني بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه، ثم أعاد قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ بضم الباء وقوله: (هم) رفع بإسناد الفعل اليه، والمفعول الأول محذوف والتقدير: ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب.
3. وصف الله تعالى هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمفسرون ذكروا فيه وجوها:
أ. الأول: أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الأغمار من الناس، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب، وهو قول ابن عباس، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين.
ب. الثاني: روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس، وطلبوا من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يثني عليهم بذلك، فأطلع الله رسوله على هذا السر، والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء.
ج. الثالث: يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه.
د. الرابع: أنه نزل في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث إنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم.
هـ. الخامس: قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين.
و. السادس: المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالإقرار بنبوته ودينه، ثم إنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
ز. والأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله.
4. ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ قال الفراء: قوله: ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ يريد فعلوه كقوله: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ [النساء: 16] وقوله: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ [مريم: 27] أي فعلت، قال الزمخشري: أتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم: 61] ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ ويدل عليه قراءة أبي يفرحون بما فعلوا.. وقرئ آتوا بمعنى أعطوا، وعن علي ﴿بِمَا أُوتُوا﴾
5. ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان إذا نجا، وقال الفراء: أي ببعد من العذاب، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه، وذكر ذلك في قوله: ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ ثم حقق ذلك بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ولا شبهة أن الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على أذاهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/457.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ الآية.
ب. وفي الصحيحين أيضا أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ و﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾، وقال ابن عباس: سألهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شي فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه، وما سألهم عنه.
ج. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم،﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا، فقال الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله.
د. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة، فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك: هو غير ذلك، فأعطاهم الملوك الخزائن، فقال الله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا.
2. الحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني، ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جوابا للفريقين، وقوله: (واستحمدوا بذلك إليه)، أي طلبوا أن يحمدوا، وقول مروان: (لئن كان كل امرئ منا).. دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة، وأن ﴿الَّذِينَ﴾ منها، وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة.
3. ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين، لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه، وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب، يريدون أن يحمدوا بذلك.
4. ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل بيحسبن بالياء، وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب، وقيل: المفعول الأول محذوف، وهو أنفسهم، والثاني ﴿بِمَفَازَةٍ﴾، وقرأ الكوفيون ﴿تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب، وقوله ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بالتاء وفتح الباء، إعادة تأكيد، ومفعوله الأول الهاء والميم، والمفعول الثاني محذوف، أي كذلك، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول، وقرأ الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ أراد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا يحسبن أنفسهم،﴿بِمَفَازَةٍ﴾ المفعول الثاني، ويكون (فلا يحسبنهم) تأكيدا، وقيل: ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل (بيحسبن) ومفعولاها محذوفان لدلالة (يحسبنهم) عليه، كما قال الشاعر:
çبأي كتاب أم بأية آية...ترى حبهم عارا علي وتحسبé
استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول الثاني، و﴿بِمَفَازَةٍ﴾ الثاني، وهو بدل من الفعل الأول فأغنى لإبداله منه عن ذكر مفعوليه، والفاء زائدة، وقيل: قد تجئ هذه الأفعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر:
çوما خلت أبقى بيننا من مودة...عراض المذاكي المسنفات القلائصاé
المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد مذك، مثل المخلف من الإبل، وفي المثل جري المذكيات غلاب، والمسنفات اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه، وأسنف البعير لغة في سنفه، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى، وكانت العرب تركب الإبل وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقي مودة، وقال كعب بن أبي سلمى:
çأرجو وآمل أن تدنو مودتها...وما إخال لدنيا منك تنويلé
وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم ﴿أَتَوْا﴾ بقصر الألف، أي بما جاءوا به من الكذب والكتمان، وقرأ مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي ﴿أَتَوْا﴾ بالمد، بمعنى أعطوا: وقرا سعيد ابن جبير ﴿أُوتُوا﴾ على ما لم يسو فاعله، أي أعطوا.
5. المفازة المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا، أي ليسوا بفائزين، وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي، وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات، قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة، لأن من قطعها فاز، وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا، قال ابن الأعرابي: لأنه مستسلم لما أصابه، وقيل: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب، لأن الفوز التباعد عن المكروه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/306.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ قرأ الكوفيون: بالتاء الفوقية، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو لكل من يصلح له، وقوله: ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ أي: بما فعلوا، وقد اختلف في سبب نزول الآية، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملا بعموم اللفظ، وهو المعتبر دون خصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب.
2. المفازة: المنجاة، مفعلة، من: فاز، يفوز، إذا نجا، أي: ليسوا بفائزين، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي، وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل: إذا مات، قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال: أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز، وقال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وقيل: المعنى: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب، لأن الفوز التباعد عن المكروه، وقرأ مروان بن الحكم، والأعمش، وإبراهيم النخعي: (آتوا) بالمد، أي: يفرحون بما أعطوا، وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم: (أتوا) بالقصر.
3. أخرج مالك، وابن سعد، والطبراني، والبيهقي في الدلائل عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال لم؟ قال قد نهانا الله أن نحبّ أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحبّ الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحبّ الجمال، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت، فقال: (يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟) فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/469.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ بما أتوه من الضلال والإضلال، أي: فعلوه من الإتيان، وهو ثلاثيٌّ، والخطاب في قراءة: (لا تحسبنَّ) (بالتاء الفوقيَّة) لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكلِّ من يصلح له، وذلك أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل اليهود عن شيء مِمَّا في التوراة فأخبروه بخلاف ما فيها، ففرحوا بالغشِّ، وقد كانوا كتموا صفاته في التوراة صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتخلَّف قوم عن الغزو، واعتذروا بِأَنَّ التخلُّف مصلحة وطلبوا الحمد عليه، وكان المنافقون يفرحون بنفاقهم، ويستحمدون إلى المؤمنين بإيمان لم يفعلوه، وذَكَرَ بعضٌ أنَّ أكثر المنافقين في المدينة اليهود، ونزلت الآية في ذلك كلِّه.
2. ﴿وَيُحِبُّونَ أَن يُّحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من الحقِّ، يحبُّون أن يحمدهم الرسول والصحابة والناس على فعل الحقِّ مع أنَّهم لم يفعلوه، بل بقوا على الضلال، والمفعول الثاني محذوف، أي: (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُّحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) ناجين، أو من أهل الجنَّة، أو يخفى علينا أمرهم، أو يفوتنا عذابهم.
3. ﴿فَلَا تَحْسِبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ﴾ توكيد لِمَا قبله، و(بِمَفَازَةٍ) مفعول ثانٍ لـ (تَحْسِبَ) الثاني، ويجوز في (يَحْسِب) الأوَّل (بالياء) أن يجعل مفعوله الأوَّل محذوفا، تقديره: أنفسَهم، أو (لَا تَحْسِبَنَّهُمْ) توكيد لـ (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ)، ولا مفعول له ثان، وقوله: (بِمَفَازَةٍ) مفعول ثان لـ (يَحْسِبَنَّ) الأوَّل.
4. والمفازة: بُقعة يُنجَى فيها من العذاب، وهو اسم مكان ميميٌّ، بل هم في مكان من النار يعذَّبون فيه، فـ (مِنَ الْعَذَابِ) نعتُه، أو المفازة: الفوز والنجاة، وهو مصدر ميميٌّ، فيتعلَّق به (مِنْ)
5. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ بذلك التدليس والكفر، وفي الآية وعيد لمن يحِبُّ أن يحمد بما لم يَفعَل من هذه الأمَّة أيضا، ولا يختصُّ بأهل الكتاب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/84.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به، فقال: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ أي بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ أي بمنجاة ﴿مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بكفرهم وتدليسهم.
2. هذه الآية، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل، ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة، وفي الصحيحين أيضا: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى.
3. تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور، للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة، وقطع أطماعهم الفارغة، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية، وعليه كان مبنى فرحهم، وأما نهيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فللتعريض بحسبانهم المذكور، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أفاده أبو السعود.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/478.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال عز وجل ﴿لا تحبسن الذين يفحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم﴾ قال محمد عبده: كان الكلام في أهل الكتاب لتحذير المسلمين من مثل فعلهم في سياق الحض على الاستمساك بعروة الحق وحفظه والدعوة إليه إذ أخذ على أولئك الميثاق فقصروا فيه وتركوا العمل بالكتاب وتبيينه للناس واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من الله تعالى، بعد هذا بين في هذه الآية حالا آخر من أحوال أولئك الغابرين ليحذر المؤمنين منه لأنهم عرضة له وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم وهذا فرح بالباطل، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب ومفسروه وعلماؤه ومبينوه والمقيمون له، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه عن الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء سائر الناس يطلبون بذلك حمدهم، بين الله هذه الحال في أسلوب عجيب بين فيه حكما آخر وهو أن هؤلاء الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.
2. إن هذه الآية على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله وكونه بئس الثمن، وهو أمران:
أ. أحدهما: فرحهم بما أوتوه من الأعمال فرح غرور وخيلاء وفخر على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به وعدم تبيينه على وجهه إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام أو أهواء الناس، وإما بالسكوت عنه والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليدا بغير حجة إلا ادعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب وأنهم إن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك.
ب. وثانيهما: حب المدح والثناء بالباطل فإنهم يتبعون أهواء الحكام والناس في الدين ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم فإن الحاكم أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه وشهوته مما يحظره عليه الدين فلجأ إلى العالم فعلمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين وذم المتدينين فلا شك أنه يحمد ذلك العالم ويطريه بأنه العالم التقي المحقق، لا مكافأة له فقط بل يرى من مصلحته أن يعتقد الناس العلم والصلاح في مفتيه ليأخذوا كلامه بالقبول.
3. علمنا من الثقات أن الحكام منذ كانوا يتواطؤون مع كبار شيوخ العلم وشيوخ الطريق المحترمين عند العامة على تعظيم كل فريق منهم للآخر فرؤساء الحكام يظهرون للعامة احترام العلماء والاعتقاد بولاية كبار شيوخ أهل الطريق فيقبلون أيديهم عند اللقاء وربما أهدوا إليهم بعض الهدايا، والمشايخ من العلماء وأهل الطريق يظهرون للعامة احترام أولئك الحكام ويشهدون بقوة دينهم وشدة غيرتهم على الإسلام والمسلمين ووجوب طاعتهم في السر والجهر ـ يقولون ـ وإن ظلموا وجاروا لأنهم مسلطون من الله عز وجل!! فهكذا كان الظالمون المستبدون وما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة رجاله ويتفق الرؤساء من الفريقين على إضاعة حقوق الأمة وإذلالها لهم ليتمتعوا بلذة الرياسة ونعيمها فيفرحون بما أتوا من ضروب المكايد السياسية والاجتماعية، والتأويلات الدينية؛ التي ترفع قدرهم، وتخضع العامة لهم، ويحبون أن يحمدوا دائما بأنهم أنصار الدين وحماته، ومبينو الشرع ودعاته، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتوجهوا إلى كتب أمثالهم وأشباههم، وكانت الأمة لا تزداد كل يوم إلا شقاء بهم؛ حتى سبقتها الأمم كلها بسوء سياستهم، ولو أنهم أقاموا الكتاب كما أمروا بالبيان له والعمل به وإلزام الحكام بهديه لما عم الفسق والفجور وصارت الشعوب الإسلامية دون سائر الشعوب حتى ذهبت سلطتها وتقلص ظلها عن أكثر الممالك التي كانت خاضعة لها؛ وهي تتوقع نزول الخطر بالباقي وهو أقلها.
4. كان الأمراء والسلاطين فمن دونهم من كبراء الحكام هم الذين يخطبون ود العلماء والمتصوفة ويستميلونهم إليهم وهؤلاء يتعززون، فيستجيب للرقية بعضهم ويعتصم بالإباء والتقوى آخرون؛ ثم انعكست الحال، وضعف سلطان التقوى أمام سلطان الجاه والمال، فصار رجال الدين، هم الذين يتهافتون على أبواب الأمراء والسلاطين، فيقرب المنافقون، ويؤذى المحقون المتقون، وتكون مراتب الآخرين، على نسبة قربهم من أحد الطرفين.
5. هذا ما أحببت التذكير به في تبيين العبرة بالآية في سياسة الأمة وعمل رؤساء الدين والدنيا الذين يفرحون بأعمالهم وإن ساءت ويحبون أن يحمدوا بالشعريات الكاذبة التي راجت سوقها في هذا العصر بالصحف المنتشرة المعروفة بالجرائد فالكثير منها قد أتقن هذه الجريمة ـ مدح السلاطين ـ والأمراء والرؤساء بما لم يفعلوا ـ حتى اطمأنوا باعتقاد السواد الأعظم أن سيئاتهم حسنات؛ وحتى بطلت فائدة المحمدة الصحيحة وحب الثناء بالحق والشكر على العمل فانهد بذهاب هذه الفائدة ركن من أركان التربية والإصلاح القومي والشخصي، فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها؛ فإذا كان الإنسان يدرك هذا الثناء الذي يستحقه العاملون بدون أن يكلف نفسه عناء العمل للأمة ونفع الناس بكذب الجرائد في حمده والثناء عليه بالباطل قعدت همته ووهت عزيمته وأخلد إلى الراحة أو اشتغل بالعمل للذته فقط، فإذا كان العالم الذي ينتمي إلى الأمراء والسلاطين وينال الحظوة عندهم لا يوثق بعلمه ولا بدينه ـ كما تقدم بيانه والاستدلال عليه بالأحاديث والآثار ـ فأصحاب الجرائد أولى بعدم الثقة بأخبارهم وآرائهم إذا كانوا كذلك، وأنى للعوام المساكين فهم هذا وإدراك سره والجهل غالب؛ والغش رائج والناصح المخلص نادر؟ وقد صارت حاجة الملوك والأمراء المستبدين إلى حمد الجرائد توازي حاجتهم إلى حمد رجال الدين في غش الأمة أو تزيد عليها ولذلك يغدقون عليهم النعم ويقربونهم ويحلونهم بالرتب وشارات الشرف التي تعرف بالأوسمة أو النياشين، كما يحرص على إرضائهم كل محبي الشهرة بالباطل من الأغنياء والوجهاء.
6. لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله: ﴿بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ولا متوعد عليه وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله تعالى لنبيه: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4] وقوله في القرآن: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44] نعم إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها وهي مرتبة من يعملها حبا بالخير لذاته وتقربا به إلى الله تعالى.
7. على أن المدح بالحق لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه وهذا هو سبب النهي عن المدح في حديث أبي بكرة عند أحمد والشيخين وغيرهم قال: إن رجلا ذكر عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ويحك ـ وفي رواية ويلك ـ قطعت عنق صاحبك ـ بقوله مرتين ـ إن كان أحدكم مادحا لأخيه فليقل أحسبه كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك ـ وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا) وفي رواية عند الطبراني في المعجم الكبير زيادة) والله لو سمعها ما أفلح) نعم يحتمل أن تكون عبارة ذلك المادح مما يستنكر من قبح الإطراء وأن يكون ذلك الممدوح بها ممن يعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استعداده للغرور بما يقال فيه فوقائع الأحوال موضع للاحتمالات لما فيها من الإجمال كما هو مشهور ولكن قل من يسلم من الاغترار بالمدح لا سيما إذا كان إطراء، وقلما يكون الإطراء حقا وقلما يلتزم المطرون الحق ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث المقداد بن الأسود وبعضهم وغيرهم عن أنس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري من حديث ابن عمر.
8. الفرح بالعمل من شأن المغرورين وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود كما فهم مروان، وإنما هو فرح البطر والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر كما أشرنا إلى ذلك، وهو ما نبه عليه القرآن في فائدة المصائب تصيب المؤمنين بقوله عز وجل: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23] ومنه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76] وهذا الإفراط في الفرح بالنعمة الذي يكون من الضعفاء يقابله عندهم المبالغة في الحزن في المصيبة إلى أن يقع المصاب في اليأس والكفر وقد بين تعالى حال الفريقين بقوله: ﴿ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير﴾ [هود: 9 ـ 11] أي لأنهم هم الذين رباهم الله تعالى بحوادث الزمان وغيره مع إرشادهم إلى وجه الاستفادة من ذلك كما تقدم بعد ذكر المصائب ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ وفي معنى الآيتين مع زيادة في الفائدة آية سورة الروم ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: 26]
9. ولما كان هذا هو شأن أصحاب هذا النوع من الفرح ـ فرح البطر والغرور ـ كان مما يتبع ذلك تبع المعلول للعلة والمسبب للسبب ترك الشكر على النعمة باستعمالها فيما ينفع الناس بل يستعملونها فيما يسرهم ويمتعهم بلذاتهم ونعيمهم فيكون ذلك مهلكة للأمة كما قال تعالى في أقوام هذا شأنهم ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44] ولا يعارض ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58] لأن السرور بالنعمة مع تذكر أنها فضل من الله لا يحدث بطرا ولا غرورا وإنما يحدث شكرا وإحسانا في العمل، فإذا فقهت هذا كله علمت أن الذين يفرحون بأعمالهم فرح بطر واختيال وغرور ويكونون مستحقين للوعيد بالعذاب وإن كانت أعمالهم التي بطروا بها وفخروا واغتروا بها وكفروا من الأعمال الحسنة لأن بعض الأعمال الحسنة قد تكون لها عواقب رديئة وبعض الأعمال السيئة قد تكون لها عاقبة حسنة وفي هذا قال ابن عطاء في حكمه: (رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا)
10. ويؤيد هذا المعنى الذي حققته قوله تعالى في صفات الأخيار: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60] وما روي من الحديث المرفوع في تفسيره ففي حديث عائشة عند أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم قالت: يا رسول الله قول الله ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله قال: لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه) فهؤلاء هم الذين قال فيهم بعد ما تقدم ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ بخلاف الذين يفرحون بما أتوا من عمل وما آتوا من صدقة فرح عجب وخيلاء فإنه يغلب عليهم الرياء وحب الثناء والسمعة فيكسلون عن العمل ولا يواظبون عليه.
11. هذا شأن العمل في الدين ومثله العمل في الدنيا وللدنيا كما يفيدنا البحث في أحوال الأمم، فإن الذين استولى عليهم الغرور يفرحون ويبطرون بكل عمل يعملونه ويرون أنه منتهى الكمال فلا تنشط هممهم إلى طلب المزيد والمسارعة في الخيرات ولا يقبلون الانتقاد على التقصير، حدثني محمد عبده قال: حدثني عالم ألماني لقيته في السفينة في إحدى سياحاتي قال: إنه لا يوجد عندنا عمل من الأعمال نحن راضون به ومعتقدون أنه لا يقبل الترقي والإتقان، بل عندنا جمعيات تبحث في ترقية كل شيء وتحسينه من الإبرة إلى أعظم الآلات وأبدع المخترعات، مثال ذلك البندقية يبحثون فيها هل يمكن أن تكون أخف وزنا وأبعد رميا أو أقل نفقة) الخ ما قال، فإذا تدبرت ما قلناه في هاتين الصفتين الذميمتين فرح البطر والغرور والفخر بالأعمال، الذي يدعو إلى الكسل والإهمال، وحب المحمدة الباطلة والقناعة بالثناء الكاذب إذا تدبرت هذا فقهت سر الوعيد الشديد بتعذيب الأمة المتصفة بهما مرتين واحدة في الدنيا وواحدة في الآخرة وهو المراد بقوله عز وجل ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ الخ.
12. أي لا تظن يا محمد أو أيها المخاطب أنهم بمنجاة من العذاب الدنيوي أي متلبسون بالفوز والنجاة منه وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها وكابرت الحق والعدل، وألفت الفساد والظلم، وهو على قسمين، عذاب هو أثر طبيعي اجتماعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري وهو خذلان أهل الباطل والإفساد وانكسارهم وذهاب استقلالهم بنصر أهل الحق والعدل عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد؛ والعدل مكان الظلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102] ـ وعذاب لا يكون أثرا طبيعيا بل يسمى سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بهم وكذبوهم وآذوهم فكان الله يوفق بين أسباب ذلك العذاب المعتادة وأقدارها فينزلها بالقوم عند اشتداد عتوهم وإيذائهم لرسوله فيكونون من الهالكين وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعراف ونحوها إن أحيانا الله تعالى وأمدنا بتوفيقه.
13. سؤال وإشكال: إن ما قررته يشمل استعلاء بعض الأمم الشمالية، على كثير من ممالك المسلمين الجنوبية، فهل كان أولئك الشماليون على الحق والصلاح، وهؤلاء الجنوبيون على الباطل والفساد؟ والجواب: نعم الأمر كذلك فلولا أنهم يفضلونهم أخلاقا وأعمالا وعدلا وإصلاحا واتباعا لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة لما سلطوا عليهم ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117] ولكنه يهلكها وأهلها مفسدون في الأرض كما ثبت في آيات كثيرة، والإيمان قد يكون من جملة أسباب النصر كما تقدم في غير ما موضع من التفسير ولكن لذلك شروطا وسننا بينها الله في علم كتابه وتقدم تفسير بعض الآيات فيها، فتطلب من مواضعها ومنها تتذكر وتعلم أسباب ما عليه المسلمون الآن فإن الله ما فرط في الكتاب من شيء.
14. ثم قال (ولهم عذاب أليم) أي في الآخرة فإن فساد أخلاقهم الفاسدة وفرحهم وبطرهم وصغارهم الذي زين لهم حب الحمد الكاذب بالباطل جعل أرواحهم مظلمة دنسة فهي التي تهبط بهم إلى الهاوية حيث يلاقون ذلك العذاب المؤلم.
15. من مباحث اللفظ في الآية: أن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن قوله تعالى ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ تأكيد لقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ كما هو معهود في الكلام العربي من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله، قال الزجاج: إن العرب إذا أطالت القصة تعيد (حسبت) وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا فلا تظنه صادقا، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا، والفاء زائدة كما في قوله: (فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي)، نقل محمد عبده هذا التوجيه في الدرس عن الكشاف وغيره فقال لولا الفاء لصح ولكن الفاء تمنع منه وهذا بناء على مذهبه في عدم زيادة حرف ما في القرآن بلا فائدة على أن الذين يقولون بزيادة بعض الحروف وبعض الكلمات إنما يعنون زيادتها غالبا بحسب الإعراب لا أنهم يقولون إن إثباتها وتركها سواء، ووجه العبرة هنا بأن المفعول الثاني في قوله: ﴿لا يحسبن الذين يفرحون﴾ محذوف حذف إيجازا لتذهب النفس في تقديره كل مذهب، قال: والقرآن ما أنزل لتحديد المسائل والأخبار والقصص تحديدا يستوي في فهمه كل قارئ وإنما الغرض الأهم منه إصلاح النفوس والتأثير الصالح فيها بترغيبها في الحق والخير وتنفيرها من ضدهما، فإذا قال ههنا: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ بكذا ويحبون كذا تتوجه نفس القارئ أو السامع إلى طلب المفعول الثاني وتذهب فيه مذاهب شتى كلها من النوع الذي يليق بمن هذا حالهم، كأن تقدر لا تحسبنهم مطيعين لربهم أو عاملين بهدايته وعندما يرد عليها بعده ﴿فلا تحسبنهم بمفارة من العذاب﴾ يتعين عندها بهذا التفريع الذي ذكر فيه المفعول الثاني ما حذف من الأول لا بشخصه وعينه بل بنوعه لأننا لو قلنا إن ما حذف من الأول هو عين ما أثبت في الثاني لم يكن للتفريع فائدة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/287.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب وأنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا في ذلك وتركوا العمل به واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم، وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم، ليحذر المؤمنين منها، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء العامة.
2. من عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس، فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه، فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.
3. الخلاصة ـ لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك، ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه، ناجون من العذاب الدنيوي وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها، وألفت الفساد والظلم؛ وهو ضربان:
أ. عذاب هو أثر طبيعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشرى بخذلان أهل الباطل والإفساد، وذهاب استقلالهم ونصرة أهل الحق عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد والعدل مكان الظلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
ب. عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمّرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم وكذبوهم وآذوهم عند اشتداد عتوّهم وإيذائهم لرسلهم.
4. روى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل اليهود عن شيء في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوا واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم.
5. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب عظيم في الآخرة كفاء فساد أخلاقهم وسوء طويتهم وحبهم للحمد الكاذب، وقوله بما أوتوا أي بما فعلوا.
6. قال صاحب الكشاف: أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ وقال: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ وقوله: فلا تحسبنهم تأكيد لقوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾، وقد عهد هذا في الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله، قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننه صادقا، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا، والفاء زائدة كما في قوله: (فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى)
__________
(1) تفسير المراغي: 4/159.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ورد في رواية للبخاري ـ بإسناده ـ عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل اليهود عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وأنه في هذا نزلت آية: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي رواية أخرى للبخاري ـ بإسناده ـ عن أبي سعيد الخدري، أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾
2. مسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا، فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها، فيروى أنها نزلت فيها، أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك: إنها نزلت فيها، ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول:
أ. فأما إذا كانت الأولى، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ثم هم يكتمونه، ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري!
ب. وأما إذا كانت الثانية، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية، وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويوجد في كل جماعة، نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي، وتكاليف العقيدة، فيقعدون متخلفين عن الكفاح، فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم، ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة.. أما إذا انتصر المكافحون وغنموا، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم؛ وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا! إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء، نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين، فإذا ملامحه واضحة للعيان، وسماته خالدة في الزمان.. وتلك طريقة القرآن.
3. هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم لا نجاة لهم من العذاب، وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه ولا معين: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/542.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هذه الآية أيضا تعريض باليهود، وفضح لمساويهم، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم، فقد ذكر في الآيات السابقة قولهم: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ وأنهم بهذا يمسكون المال، ويحادّون الله به، وهنا ـ في هذه الآية ـ يعرضون في معرض الفرحين بما أتوا، وهذا الذي أتوه، ليس مما يحمد ويقبل، حتى يفرحوا به.. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه، وهو الشرّ كلّه.. إنهم إنما فعلوا الافتراء على الله، ونقض الميثاق الذي واثقهم به، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات الله، وما فيها من هدى ونور، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح، فبدّلوا في كلمات الله وغيروا، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة، ودواعيهم الخبيثة.
2. هذا هو الذي فعلوه، وفرحوا به، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم ـ قد استطاعوا أن يفسدوا على (محمد) دعوته، وأن يغروا المشركين به، ويصرفوهم عنه!
3. ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر، من تحريفهم لكلمات الله، بل لقد لبسوا النفاق، وظهروا به في الناس، يظهرون لهم المودة والحب، ويضمرون العداوة والبغضاء، ويرجون لهم النصر بألسنتهم، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم، إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد، ويستوجب الثناء.. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة، إن انطوت على شيء، فإنما تنطوي على الشر والسوء والفساد.
4. قوله تعالى ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ هو بدل من قوله سبحانه: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ وإعادة الفعل (تحسبن) هنا لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره، وإلصاقه بهم، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني، حيث كان مقتضى النظم أن يجيء هكذا: (ولا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب)، فالذين يفرحون هو المفعول الأول، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني، ولكن النظم القرآني وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم.
5. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة في النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآني وفي قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾.. إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب، وأنهم في الوقت نفسه منحرفون في دينهم وكتابهم، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة.
6. هذا هو الحكم الذي يقع في ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين.. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع في مصائر الناس إلا مالك الملك، وصاحب الأمر.. الله ربّ العالمين.. وقد جاء حكم الله فيهم، لتصدق ظنون الناس بهم.. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه، ولكنه العذاب الأليم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/668.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالموصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطلّب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه، ويتطلّب المحمدة عليه، وقيل: نزلت في المنافقين، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيّنون من اليهود أو المنافقين، فمعنى ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمنا قليلا وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا.
2. معنى: ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة وحرّاسها والعالمون بتأويلها، وذلك خلاف الواقع، هذا ظاهر معنى الآية، وهو قول مجاهد، وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين، وفي (البخاري)، عن أبي سعيد الخدري: أنّها نزلت في المنافقين، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير، فيقبل منهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية المجاهدين، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق.
3. المفازة: مكان الفوز، وهو المكان الذي من يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مفازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها، قال النابغة:
çأو أضع البيت في صمّاء مظلمة...تقيّد العير لا يسري بها الساري
تدافع الناس عنّا حين نركبها...من المظالم تدعى أمّ صبّارé
ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله: ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾، وحرف (من) معناه البدلية، مثل قوله تعالى: ﴿لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الغاشية: 7]، أو بمعنى (عن) بتضمين مفازة معنى منجاة.
4. جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾، والتقدير: لا يحسبنّ الذين يفرحون.. أنفسهم، وأعيد فعل الحسبان في قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ [آل عمران: 188] مسندا إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني: وهو ﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [آل عمران: 188] فتنازعه كلا الفعلين، وعلى قراءة الجمهور: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ [آل عمران: 188] ـ بتاء الخطاب ـ يكون خطابا لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب، ويكون قوله: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ اعتراضا بالفاء أيضا والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول، وهو محلّ الفائدة، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/306.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ هذا وصف آخر لليهود في ماضيهم، وفي حاضرهم، فهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويفرحون بما أتوا، وتلك طبيعة الضال دائما، فالضال يفرح بكل ما يعمله، ويزين له سوء عمله فيراه حسنا، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، فيدعى لنفسه من المحاسن ما شاء، وينكر محاسن غيره.
2. النهى موجه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو نهى مؤكد عن حسبان الخير فيهم فالتأكيد في قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ هو تأكيد للنهى، وليس بتوكيد للظن، فليس النهى منصبا على الظن المؤكد، وغيره لا يكون منهيا عنه، بل التوكيد هو لأصل النهى، أي ينهى الله سبحانه وتعالى نبيه نهيا مؤكدا عن أن يظن فيهم خيرا، أو يصيبهم خير.
3. (تحسب) لها مفعولان أصلهما مبتدأ وخبر، والمفعول الأول هو ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ إلى آخره، والمفعول الثاني محذوف دل عليه ما بعده، وتقدير الكلام هكذا: ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين أو مهتدين، أو صالحين، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وليذهب العقل كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذي وصفهم سبحانه به، وهو أنهم يزينون أعمالهم، ويرغبون في المدح الكاذب، فإن ذلك هو الضلال البعيد، وليرتب السامع عليه ما شاء من عدم الهداية وعدم التوفيق، والبعد عن الخير والنفع، فكل ذلك وغيره يتضمنه الكلام المحذوف.
4. صرح سبحانه بهلاكهم، فقال سبحانه: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي إذا كانوا بهذا الوصف الذي وصفوا به، وهو الضلال المبين فلا تحسبنّهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب، والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم بقوله تعالى: ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ الإشارة إلى أن أقصى ما يكون لهم من فوز أن ينجوا من العذاب الأليم أي المؤلم، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا، ولذا أكد النهى بالخبر، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب مؤلم أشد الإيلام، أو بكل ما يتصور العقل من إيلام، ولذلك جاءت كلمة أليم نكرة، فذكر سبحانه عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب، فنفى أولا أنهم بمنجاة منه وأخبر ثانيا بأنهم واقعون فيه.
5. هنا بيان لطرق الشيطان إلى النفس، إنه يجعل الشخص يحمد كل ما يأتيه أي يصدر عنه، ويجعل نفسه هي مقياس الخير والشر، ويحبب إليه الثناء بغير الحق، وذلك هو الغرور، وهو الضلال، وهو الضعف النفسي، والفرح بما لم يفعل، وإن الثناء الكاذب ضار بمن يكون موضع الثناء، وضار بالمجتمع ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)، اللهم اكفنا شر النفاق، وامنعنا من الغرور، وثبت قلوبنا وألسنتنا وأقلامنا على قول الحق، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1544.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفرح بذاته غير محرم.. ومن لا يفرح إذا أصابه خير، أو نجا من شر؟ بل الفرح من أجل خير الناس، يدل على صدق النية، وطيب السريرة، وقد فرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقدوم ابن عمه جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وقبله بين عينيه، وقال: ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟
2. انما يكون الفرج مذموما إذا كان بدافع الحقد والشماتة، والغرور والخيلاء، أو يفرح الإنسان لأنه سلب ونهب، وقتل وأفسد، دون أن يعاقب أو يعاتب، أو لأنه مكر وخادع ليحمد بما ليس فيه، وانطلت حيله على البسطاء، ففرح بتطبيلهم وتزميرهم، إلى غير ذلك من الصور التي نشاهدها هنا وهناك.
3. بعد هذا التمهيد نشير بإيجاز إلى الأقوال في هذه الآية:
أ. قيل: انها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا اسم محمد وصفاته الموجودة في التوراة، وفي الوقت نفسه يحبون أن يمدحوا بالصدق، وانهم على ملة ابراهيم عليه السلام.
ب. وقيل: بل نزلت في المنافقين.. كانوا يتخلفون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حروبه وغزواته، ويتعللون بالأكاذيب، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يظهر القبول، ويفرحون هم بذلك، ويحبون أن يمدحوا بما ليس فيهم من الإيمان.
4. أرجح الأقوال ان الله سبحانه بعد ان ذكر في الآية السابقة الذين أخذ الميثاق منهم الّا يكتموا الحق، فنبذوه واشتروا به ثمنا قليلا، بعد أن وصفهم الله بهذا الوصف فيما سبق ـ ذكرهم في هذه الآية بأنهم قد فرحوا بصنيعهم ذاك، وأحبوا ان يمدحوا ويوصفوا بالحق والصدق، وهم أبعد الناس عنهما، ومهما تمادوا في الغي فإنهم لا يخرجون عن قبضة الله وقدرته، ولا ينجون من عذابه وعقابه.. كيف؟ ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وبهذا التفسير يدخل في الآية اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمنافقون من المسلمين الذين أضمروا الكفر، وأظهروا الايمان.
5. سؤال وإشكال: لماذا قال تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ﴾ الخ، مع العلم بأن فاعل الفعلين واحد، ومفعولهما واحد؟ والجواب: جاء التكرار لدفع الالتباس بعد طول الكلام، وقد شاع اليوم هذا الاستعمال في الكتابة والاذاعة.
6. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه قال: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾، ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، مع ان الجملة الأولى تغني عن الثانية؟ والجواب: فرق بين الجملتين، لأن الأولى أفادت انهم غير ناجين من العذاب دون أن تبين نوع العذاب: هل هو خفيف أو أليم؟ والثانية بينت انه من النوع الأليم، تماما كما تقول: أحبك وأحبك كثيرا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/228.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال ولازمه حب المال والبخل به، والمفازة النجاة وإنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/87.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ قال في (الصحاح): (فرح به: سُرّ به، والفرح ـ أيضاً ـ البطر)، وفي (لسان العرب) الفرح: نقيض الحزن، وقال ثعلب: هو أن يجد في قلبه خِفّة، ثم قال والفرح ـ أيضاً ـ البطر، وقوله تعالى: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76] قال الزجّاج: (معناه: لا تفرح بكثرة المال في الدنيا؛ لأن الذي يفرح بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة، وقيل: لا تفرح لا تأشر، والمعنيان متقاربان لأن إذا سُرّ ربما أَشِرَ)، وفي (تفسير الشرفي): (عن الإمام المرتضى بن الهادي عليهما السلام في تفسير: ﴿لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ معنى ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ فهو فرحهم بما ارتكبوا وأتوه من الجرأة على خاتم النبيئين والطعن على المؤمنين مع قبيح فعلهم ومُسْتَسْمَجِ سيرتهم، فكانوا يستحسنون ذلك من أنفسهم ويرونه جائزاً عندهم لشرارتهم وشدة كفرهم وبعدهم من الله وعنادهم، والفرح: فهو أشر وإزْدِهَاء وتبع للمعصية والهوى، كفرح قارون إذ يقول له قومه: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76] وإنما كان فرحه جرأة وأشَرَاً ومعصية لله وتمرداً، وهذه الآية نزلت في اليهود ذماً لهم فيما كانوا يأتون من الجرأة على الله سبحانه وعلى أوليائه)، أما الراغب ففي (مفرداته): (الفرح: انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية)، وفي (مفردات الراغب) أيضاً: (الأشَرُ: شدة البطر، ثم قال فالأشر أبلغ من البطر والبطر أبلغ من الفرح فإن الفرح وإن كان في أغلب أحواله مذموماً؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76] فقد يحمد تارة إذا كان على قدر ما يجب، وفي الموضع الذي يجب كما قال تعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس:58] وذلك أن الفرح قد يكون من سرور بحسب قضية العقل، والأشَرُ لا يكون إلا فرحاً بحسب قضية الهوى)، وقال في تفسير (البطر): (البطر: دَهَشٌ يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها ـ ثم قال ـ: ويقارب البطر الطّرَبُ وهو خفّة أكثر ما يعتري من الفرح)، قوله: (دَهَشٌ) أي تحير وذلك بإهمال العقل عند السرور، ولعله لما يصاحبه من الثقة بحالة السرور وتخيل بقائها وعدم تدبر العواقب بحيث يعرّض النعمة للزوال لأجل كفرها وعدم تقييدها بالشكر؛ ومن هنا يظهر أن ذم الفرح من حيث يقترن به الإطمئنان إلى ما سُرَّ به فهو مذموم إلا ما كان فرحاً بالحق، أما الفرح بالباطل فلا إشكال في أنه مذموم، وأما الفرح بأغراض الدنيا وما تهوى الأنفس منها فلأنه لا ينبغي الإطمئنان إليها والثقة بها فهو مذموم؛ لأنه إهمال للعقل.
2. معنى ﴿بِمَا أَتَوْا﴾ نحو بما جاؤوا وبما واقعوا فلا يعم العمل الصالح قال تعالى: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان:4] أعنى الذي يراد به فَعَلَ، فأما على معناه الأصلي، فهو يستعمل في إتيان المساجد وإتيان الجمعة وغير ذلك، فعلى هذا صح تفسيره بما أتوا من الباطل خاصة.
3. ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فقال الشرفي في (المصابيح) عن الإمام المرتضى محمد بن الهادي عليه السلام: (ثم قال عزّ وجل: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فهو ما كانوا يتوسمونه ويذكرونه عن أنفسهم من الفضل والطاعة لله والمدح لأمر ربهم فأكذبهم الله عزّ وجل في قولهم، وبيّن للمسلمين كفرهم ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فأخبر أنهم غير فاعلين لما ذكروا ولا صادقين فيما انتحلوا بل هم كاذبون وعند الله معذبون)
4. ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ في (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (معناه: بمنجاة منه)، ومثله في (الكشاف) أما الراغب في (مفرداته) فجعل (مفازة) مصدر فاز، والاسم الفوز، قال أي لا تحسبنهم يفوزون ويتخلصون من العذاب)، والمعنى واحد، وفي (المصابيح) عن المرتضى عليه السلام: (والمفازة: فهي البعد فذكر سبحانه أنهم من العذاب قريب غير بعيد)
5. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فلا ينجون من العذاب وذلك العذاب الأليم فهو عذاب شديد.
6. ظاهر قوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ أن هذا الحب خصلة مذمومة سواء كانت من اليهود أم من المنافقين أم من غيرهم، لكن لا يبعد اعتبار قوله: ﴿بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ قيد للحب أيضاً من حيث هو قيد للمحبوب وذلك يتصور في المنافقين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، من حيث أنهم لم يفعلوا فقيد الحيثية معتبر، فلا يدخل فيه من يحب أن يحمد على الشيء وهو يود أنه فعله، إنما يخص من يحب أن يحمد بما لم يفعل راغباً في كونه لم يفعل لأنه يرى أن نِفَاقه قد نفق، وذلك غاية مراده، وفي ذهني عن بعض الأئمة ـ أظنه المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام ـ أنه حرم الحب للحمد بما لم يفعل على الإطلاق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/594.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في أسباب النزول ـ كما في مجمع البيان ـ أنها (نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم، عن ابن عباس، وقيل: نزلت في أهل النفاق، لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يقبل منهم العذر، ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان، عن الخدري وزيد بن ثابت)
2. ربّما كان ما ذكر في أسباب النزول منطلقا للآية في حركتها في حياة الدعوة أمام خصومها من الكافرين والمنافقين الذين يعيشون الفرح الداخلي في ما أتوا به من أعمال تتناسب مع أهدافهم ومخططاتهم المنحرفة، لأنهم يرضون بذلك نوازعهم المعقّدة في الكيد للإسلام والمسلمين، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يريدون أن لا يعرفهم الناس بذلك لتبقى لهم امتيازاتهم الاجتماعية التي يحصلون من خلالها على الثقة وحرية الحركة.
3. ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ مما لا يمنح الإنسان سعادة أبدية بالعمق، بل تمنحه الكثير من حالات الشقاء النفسي والواقعي على صعيد النتائج، الأمر الذي يجعله في وهم كبير بما يوحي به إلى نفسه من تصوير الأشياء بغير صورتها الحقيقية بحيث يتمثلها في عكس الصورة، فيكون فرحه فرحا بائسا يختزن في داخله الحزن الذي يتحرك ليتجسد في مستقبل حياته عندما تفاجئه النتائج العلمية التي تشغل حياته في مستقبل عمره لتكون عاقبة أمره شرّا.. وهذا هو الفرح الوهمي الذي لا يتصل بالحقيقة من قريب أو بعيد، بل هو متصل بالمنطقة السطحية من النفس، وهو الذي يرفضه الإسلام، فإنه لا يرفض الفرح الحقيقي العميق المنفتح على الله وعلى القيم الروحية والأخلاقية وعلى الحياة في جمالاتها وانطلاقاتها في سنن الله الكونية والإنسانية، بل هو يريد للإنسان أن يعيش مشاعره الطبيعية في الحزن والفرح والألم واللذة بشكل عميق متوازن لا يطغى لينحرف فيتجاوز الحدّ، ولا يسقط ليتجمد الإنسان أمام عناصر الإثارة في الحياة والإنسان؛ وهكذا كانت مشكلة هؤلاء المنحرفين عن الخط، السائرين في الوهم الكبير، أنهم يفرحون بما أتوا من السيّئات والأساليب الملتوية.
4. ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من الإيمان والإخلاص والارتباط بالحق والسير على هداه، فيحصلون بذلك على الأمن والطمأنينة في مجتمعاتهم، ويستسلمون للهدوء النفسي والدعة، ويضحكون في داخل نفوسهم فرحا بما حققوه من الموازنة بين الحصول على ما يريدون من خطط وأهداف، وما وصلوا إليه من امتيازات وأرباح ومواقع، ويظنون أنهم بمفازة ونجاة من العذاب، ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ فإن الله قد يمهلهم ويملي لهم في الدنيا ليزدادوا إثما، لينتظرهم في الآخرة الخزي والهوان ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
5. لكن الآية لا تتجمد عند هؤلاء، بل تتحرك في الاتجاه الواسع للحياة لتجعل من هؤلاء نموذجا حيّا لهذه الفئة من الناس، التي تعيش الانحراف العملي فكرا وممارسة وتحب أن تذكر بالاستقامة، وتواجه الواقع بالتآمر والعدوان، وتريد أن تمدح بالإخلاص والمحبّة، وتتحرك في طريق الضلال وترجو أن يذكرها الناس بالهدى.. وهكذا تنطلق هذه الفئة في مجالات الزيف والنفاق، لتظل في لعبها وعبثها وعدوانها من دون أن تفقد شيئا من امتيازاتها، ويريد القرآن تعرية هؤلاء أمام الناس ليكتشف الناس أمرهم وواقعهم، فيبتعدوا عنهم ويحذروهم، ولا يحقّقوا لهم ما يريدون من الحمد والثناء لئلا يسيئوا للحياة باسم الإحسان؛ وذلك بالتدقيق في شخصياتهم في ما يختبئ وراءها من خلفيّات، والالتفات إلى ألاعيبهم في ما يتحركون به من أعمال، والتأكيد على الموازنة في قضايا المدح بين مدلول الكلمة وصدق الواقع، على أساس أن يعيش الناس أساليب التقييم من موقع الحق والصدق لا من موقع المجاملة والمداراة، فإن ذلك هو الكفيل بإبعاد المنافقين عن ساحة الواقع، لأنها لن تحتضن اللاعبين على الحبال، بل السائرين على الخطوط الواضحة بقوّة وثبات وإيمان.
6. وهكذا يتحوّل الموقف من هؤلاء إلى قاعدة صلبة للتعامل مع الناس في مجال العلاقات الإنسانية، فلا مجال للمدح إلّا من خلال الفعل الذي يقوم به الإنسان في حياته بالحجم الطبيعي من دون تكبير أو تصغير لأن القضية ليست كلمة تقال ثم تتبخّر في الهواء، بل هي صورة الواقع في صورة الإنسان، في ما يمثله من قيمة الحقيقة في حركة الحياة في جانبها السلبي أو الإيجابي، فإن للزيف تأثيرا عكسيا يختلف اختلافا كبيرا عن تأثير الصدق والإخلاص في طبيعة الموقف والإنسان.
7. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نجد في هذا النموذج من الناس، صورة الكثيرين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، من الشخصيات الدينيّة والسياسية والاجتماعية، التي تحب أن تعطي لنفسها حجما أكبر من حجمها الحقيقي وتريد للناس أن يطلقوا عليها ألقابا كبيرة لا تتناسب مع دورها الطبيعي في الحياة، وذلك من أجل أن ترضي زهو العظمة الفارغة في داخل ذواتها، لتأخذ لنفسها ـ في نظر الناس ـ مركزا بارزا ينسجم مع ما توحيه الألقاب من مشاعر وامتيازات، من دون أن تقدم للحياة أي شيء في هذا الاتجاه.
8. إننا نستطيع أن نجد في هؤلاء النموذج المعاصر للصورة التي تريد أن تواجهها الآية بالرفض والإنكار، لأن الإساءة إلى صورة الواقع في قيمه الحقيقية، لا تقل شأنا عن الإساءة إلى المبادئ التي تمثلها هذه القيم، مما يكشف عن زيف ما يمثلونه من عظمة دينية أو سياسية أو اجتماعية.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/447.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر المحدّثون والمفسرون أسبابا عديدة لنزول هذه الآية، منها أن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظنا منهم بأنّهم يحصلون من وراء ذلك على نتيجة، وفي الوقت نفسه كانوا يحبّون أن ينسبهم الناس إلى العلم، ويعتبرونهم من حماة الدين فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطئ هذا، وقال آخرون أنّها نزلت في شأن المنافقين، لأنهم كانوا يجمعون ويتفقون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نشبت حرب من الحروب الإسلامية، متذرّعين لذلك بمختلف المعاذير والحجج، فإذا عاد المجاهدون من القتال اعتذروا وحلفوا لهم بأنّهم كانوا يودّوا المشاركة لولا بعض الأعذار، وأحبوا بالتالي أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان وبما لم يفعلوه من أفعال المجاهدين الصادقين، فنزلت هذه الآية ترد على هذا التوقع غير المبرر وغير الوجيه.
2. المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين:
أ. طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها إلى قبح ما فعلت، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إلّا لطغيان غرائزها، وهيجان شهواتها، وهذه الطّائفة سهلة النّجاة جدا، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه، وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.
ب. بيد أنّ هناك طائفة أخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء ممّا ارتكبت من الإثم، بل هي على درجة من الغرور والإعجاب بالنفس بحيث تفرح بما فعلت، بل تتبجح به وتتفاخر، بل وفوق ذلك تريد أن يمدحها الناس على ما لم تفعله أبدا من صالح الأعمال وحسن الفعال.
3. إنّ الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي لا تحسبن أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إنّما النجاة لمن يستحون ـ على الأقل ـ من أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئا من الأعمال الصالحة.
4. إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحرّموا من الخلاص، بل ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ينتظرهم.
5. يمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإنسان بما وفق لفعله وإتيانه من صالح الإعمال ليس مذموما (إذا كان ذلك لا يتجاوز حد الاعتدال، ولم يكن سببا للغرور والعجب)، وهكذا الحال في رغبة الإنسان في التشجيع والإجلال على الأفعال الحسنة إذا كان ـ كذلك ـ في حدود الاعتدال، ولم يكن الإتيان بتلك الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك، لأن كل ذلك من غريزة الإنسان ومقتضى فطرته، ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإيمان بعيدون حتى من مثل هذا الابتهاج المباح وحبّ التقدير الغير المذموم، إنّهم يرون أعمالهم دائما دون المستوى المطلوب، ويشعرون أبدا بالتقصير تجاه ربّهم العظيم، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.
6. على أنّه ينبغي أن لا نتصور أنّ الآية الحاضرة ـ مورد البحث ـ تختص بأهل النفاق في صدر الإسلام أو من شاكلهم ـ في كل عصر وزمان ـ وفي جميع الظروف والمجتمعات المختلفة، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.
7. إنّ مثل هؤلاء مضافا إلى العذاب الأليم في الآخرة، سيصيبهم ـ في هذه الحياة ـ غضب الناس وسخطهم، وسيؤول أمرهم إلى الانفصال عن الآخرين وإلى غير ذلك من العواقب السيئة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/43.
104. قدرة الله والآيات وأولو الألباب
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈104⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 189 ـ 190]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم عظم الله نفسه، فقال: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما بينهما من الخلق عبيده، وفي ملكه، ﴿والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خلقين عظيمين، ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يعني: أهل اللب والعقل، ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يشبه أن يكون هذا جوابا لقولهم: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ أي: كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة، وله ملك ما في السماوات وما الأرض!؟ ونسبة الغنى إلى أنفسكم، وأنتم عبيده وإماؤه، وما في يد العبد يكون لمولاه!؟.
ب. أو أن يكون جوابا لقولهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا﴾ [البقرة: 116] أي: كيف يجوز أن يتخذ ولدا، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض، كلهم عبيده وإماؤه!؟ والولد في الشاهد إنما يتّخذ لأحد وجوه ثلاثة: إمّا لوحشة أصابته فيستأنس به، أو لحاجة تبدو له فيدفع به، أو لقهر وغلبة عن أن يصيبه شيء من ذلك؛ كيف جاز لكم أن تقولوا: اتخذ ولدا!؟ وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولدا من عبيده!؟.
2. ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يقدر على خلق فعل العبد، وعلى قولهم: غير قادر على أكثر الأشياء، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير.
3. ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ امتدح ـ جل ثناؤه ـ بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته، وبه خوّف من عاند نعمته، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته، لاضمحل الخوف عما خوّفه، والرجاء فيما أطمعه؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله: ﴿وهُوَعَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 120]، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه، أو يزول به قدرته؛ لما فيه ما ذكرت؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة الله، وامتناعه عن تدبيره، ولا قوة إلا بالله.
4. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله عزّ وجل: ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾: أخبر الله تعالى أن فيما ذكر آيات لمن ذكر، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمّل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللبّ دخولها تحت الحواس ـ عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاء العلم في القلوب بحقيقة ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال الله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية [آل عمران: 191]، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعمله، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرا مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل.
5. في ذلك دليل لزوم التوحيد باللبّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوّل درجات الآيات أن يعرف منشئها وجاعلها آيات ثم دلّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما، حتى قام بها وحي جميع من دب على وجه الأرض وانتفع بشيء، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضادّ ما بينهما؛ حتى صارا كالشكيلين، والسماء والأرض كالقرينين ـ على أن منشئ ذلك كله واحد، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير، وبطل وجوه النفع، وأن الذي أنشأ ذلك علم الحكمة التي صارت الحكمة جزءا منها، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه.
6. ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غير داخل في الحكمة؛ ثبت أن ذلك غير مقصود؛ فصار المقصود من ذلك وجها يبقى؛ فثبت أن مع هذه دارا أخرى تبقى، فهي المقصود، وجعلت خلق الممتحن بالذي ذكرت؛ فصار جميع الخلائق للمحن.
7. ثم لا بدّ من ترغيب وترهيب؛ إذ على مثله جبل محتملو المحن؛ فلزم به القول بالدار الأخرى، وهو البعث؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم، والأخرى: بحق استحقاق الجزاء، وإن كان لله التكليف بلا، جزاء سابق النعم، ولا قوة إلا بالله، والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران، وبالله التوفيق.
8. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه خلق السماوات والأرض للبشر ومنافعهم، لا أنه خلقهما لأنفسهما: لا منفعة لهما بخلقه إياهما؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة ـ عبث، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما ـ دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر، وسخرهما لهم، ثم جعل منافع السماء مع بعدها من الأرض متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر؛ فيصيرهما كالمتصلين؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد.
ب. وكذلك: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ هما مختلفان: أحدهما ظلام والآخر نور، يفنيان الأعمار ويقربان الآجال، وليس بينهما في رأي العين تشابه ولا تشاكل؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام، وهما متضادان، لكن خلقهما لمنافع البشر، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسهم، على ما ذكرنا أن لا منفعة لهم في خلقهم، ثم صيّرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين؛ لاتصال منافع بعضها ببعض؛ دل أن منشئهما واحد، وأنه عليم حكيم؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيّرهما كالشكلين؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار، وبين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق ـ لا بدّ من أمر ونهي: يأمر بأشياء، وينهى عن أشياء؛ يمتحنهم على ذلك؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر؛ فإذا كان ما ذكرنا، لا بد ـ أيضا ـ من دار أخرى للجزاء، يكرم المطيع له فيها والولي، ويعاقب العدو فيها والعاصي، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/557.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ معنى الآية الاخبار من الله تعالى بأنه مالك ما في السماوات، وما في الأرض بمعنى أنه يملك تدبيرهما، وتصريفهما على ما شاء من جميع الوجوه ليس لغيره الاعتراض عليه في ذلك وانه المقتدر على جميع ذلك ﴿وَهُوَعَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ﴾
2. وفي الآية تكذيب لمن قال: ﴿إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ لأن من ملك ما في السماوات والأرض لا يكون فقيراً.
3. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تنبيه على أنه قادر على إهلاك من يقول هذا القول جهلا منه وعناداً، لكنه يحلم عنه ويؤخر عذابه لضرب من المصلحة، وقوله: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ خرج مخرج المبالغة، وهو أخص من قوله: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لأن أفعال العباد لا توصف بالقدرة عليها، وفرق الرماني بين أن يقال هو قادر على أفعال العباد، وبين قادر على فعلهم، فقال: قادر عليها يحتمل ما لا يحتمل قادر على فعلهم لأنه يفيد أنه قادر على تصريفه كما يقولون فلان قادر على هذا الحجر أي قادر على رفعه، ووضعه، وفلان قادر على نفسه أي قادر على ضبطها، ومنعها مما تنازع إليه، فعلى هذا جائز أن يقال انه قادر على أفعال العباد بمعنى أنه قادر على المنع منها، والتمكين منها دون ما يستحيل من القدرة على إيجادها.
4. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ـ آية ـ في هذه الآية دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من الخلق والاستدلال على الله تعالى، ومدح لمن كانت صفته هذه، ورد على من أنكر وجوب ذلك، وزعم أن الايمان لا يكون إلا تقليداً وبالخبر، لأنه تعالى أخبر عما في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار من الدلالات عليه:
أ. وعلى وحدانيته، لأن من فكر في السماوات وعظمها وعجائب ما فيها من النجوم والأفلاك، ومسير ذلك على التقدير الذي تسير عليه، وفكر في الأرض وما فيها من ضروب المنافع، وفي اختلاف الليل والنهار ومجيئهما بالأوقات والازمنة التي فيها المصالح، واتساق ذلك وانتظام بعضها إلى بعض، وحاجة بعضها إلى بعض حتى لو عدم شيء منه لم يقم ما سواه مقامه علم أن ذلك لا يكون إلا من مدبر قادر عليم حكيم واحد، لأنه لو كان قادراً، ولم يكن عالماً بالعواقب لما أغنت القدرة شيئاً، ولو كان عالماً غير حكيم في فعله لما أغنى العلم شيئاً، ولو كانا اثنين ما انتظم تدبير، ولا تم خلق، ولعلا بعضهم على بعض، كما قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ فكيف ينسب إلى الفقر من كان جميع ما في السماوات والأرض بيده، أم كيف يكون غنياً من كان رزقه بيد غيره إذا شاء رزقه وإذا شاء حرمه.
ب. ويدل على أن خالق الجسم لا يشبهه، لأنه لو أشبهه، لكان محدثاً مثله.
ج. ويدل على أنه قديم، لأنه لو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث ولأدى ذلك إلى ما لا يتناهى.
د. ويدل أيضاً على أنه قادر على جميع الأجناس، لأنه من قدر على الجسم يقدر على سائر الأجناس.
5. وجه الدلالة من خلق السماوات والأرض على الله هو ان الإنسان إذا فكر ورأى عظمها، وثقل الأرض، ووقوفها على غير عمد يقلها، وحركة السماوات حولها لا على شيء يدعهما، علم أن الممسك لذلك هو الذي لا يشبه الأجسام ولا المحدثات، لأنه لو اجتمع جميع الخلق على أن يمسكوا جسما خفيف المقدار، ويقوله في الجو من غير أن يدعموه لما قدروا عليه، فعلم حينئذ ان الذي يقدر عليه مخالف لجميع الأشياء وعلم أيضاً أنها لو كانت السماوات والأرض معتمدة على غيرها لكان ذلك الغير يحتاج إلى ما يعتمد عليه وفي ذلك اثبات ما لا يتناهى من الأجسام، وذلك محال فهذا أحد وجوه دلالة السماوات والأرض، وهو أحد ما قال: ﴿إن في ذلك لآيات لاولي الألباب﴾
6. وجه الدلالة من اختلاف الليل والنهار هو أن جميع الخلق لو اجتمعوا على أن يأتوا بالليل بدلا من النهار، أو النهار بدلا من الليل أو ينقصوا، أو يزيدوا من أحدهما في الآخر لما قدروا عليه، كما قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية.
7. ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ معناه لذوي العقول، واللب: العقل سمي به لانه خير مافي الانسان واللب من كل شئ خيره، وخالصه.
8. سؤال وإشكال: ما وجه الاحتجاج بخلق السماوات والارض على الله ولم يثبت بعد انها مخلوقة؟ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:
أ. أولها: على تقدير اثبات كونها مخلوقة قبل الاستدلال به لأن الحجة به قامت عليه من حيث أنها لم تنفك من المعاني المحدثة.
ب. الثاني: أن الغرض ذكر ما يوجب صحة الذي تقدم ثم يترقى من ذلك إلى تصحيح ما يقتضيه على مراتبه، كالسؤال عن الدلالة على النبوة فيقع الجواب بذكر المعجزة دون ما قبلها من الرتبة.
ج. الثالث: أن تعاقب الضياء والظلام يدل على حدوث الأجسام.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/78.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اللب: العقل، سُمِّيَ به لفضله على غيره مما في العبد، كفضل اللب على القِشْر، وقيل: لأنه أصل كل علم وهادٍ إلى كل خير، كما أن اللب أصل كل شيء.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. عن ابن عباس أن مشركي العرب جاؤوا إلى اليهود وقالوا: ما جاءكم به موسى؟ قالوا: العصا ويده البيضاء، فأتوا النصارى وقالوا: ما جاءكم به عيسى؟ فقالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: ادع لنا ربك يجعل الصفا ذهبًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ الآية.
ب. وعن عطاء عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قام بالليل يصلي وأصبح وهو يبكي، فقال بلال: أليس قد غفر لك؟ فقال: أفلا أكون عبدًا شكورا)، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد نزل عليَّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ) ثم قال: ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها)
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: الآية تتصل بقوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ كذبهم في ذلك بأن من له ملك السماوات والأرض لا يكون فقيرًا.
ب. وقيل: القادر على تعجيل عقوبة هَؤُلَاءِ الكفار الَّذِينَ تقدم ذكرهم من له ملك السماوات والأرض.
ج. وقيل: يتصل بما قبله كأنه قيل: لهم عذاب أليم ممن له ملك السماوات والأرض فكيف يكونون بمنجاة وهو معذبهم!؟ عن أبي مسلم.
د. وقيل: هو قادر على أن يورثكم أرضهم وديارهم؛ لأن له ملك السماوات والأرض.
4. يتصل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ بما قبله: لما بيّن أن له ملكهما بيّن الدلالة على ذلك بأنه من خلقه ودال على صفاته لمن تفكر فيه.
5. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني يصرفهما كيف يشاء وذكر الأرض لا بلفظ الجمع لأنه أراد الجنس ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر على كل شيء، وأراد ما يصح كونه مقدورًا له وأطلق للمبالغة؛ لأنه تعالى شيء وإن كان غير مقدور، ثم دل على ذلك فقال سبحانه ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ في إيجادها وألوانها وتركيبها ورفعها وإمساكها وتزيينها بالنجوم ﴿وَالْأَرْضِ﴾ أي في خلقها وبسطها وما فيها من العجائب والنبات والجبال ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾:
أ. قيل: في الظلمة والضياء والزيادة والنقصان.
ب. وقيل: تعاقبهما، أحدهما يجيء خلف الآخر.
6. ﴿لَآيَاتٍ﴾ لحجج ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ لذوي العقول.
7. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب النظر.
ب. أن المعارف مكتسبة.
ج. أن في خلق السماوات والأرض لآيات على الصانع وصفاته، وقد مر في سورة البقرة كيفية دلائلها.
د. أن التكليف يتوجه إلى العقلاء وأن من لم يكمل عقله لا يؤخذ بشيء، فيدل أن الأطفال لا يؤاخذون خلاف ما تقوله الْمُجْبِرَة في أطفال المشركين.
هـ. أنه تعالى قادر على كل شيء، فيتناول المعدوم؛ لأنه يقدر على إيجاده، ويتناول الموجود لقدرته على إعدامه بإيجاد ضده، سؤال وإشكال: هل يدخل فيه أفعال العباد ومقدوراتهم؟ والجواب: يدخل في عمومه من حيث يقدر على أن يُمَكِّن منها وعلى المنع، فأما أن يقال إنه مقدور له من حيث يحدثه فلا؛ لأنه يؤدي إلى مقدور بين قادرين، وهذا لا يجوز، والآية، وإن كانت عامة فالمراد بها الخصوص.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/496.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في فضل هذه الآيات الكريمة:
أ. روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قام من الليل استاك، ثم ينظر إلى السماء ثم يقول ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وقد اشتهرت الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لما نزلت الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكيه، ولم يتأمل ما فيها.
ب. وورد عن الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس، وقت القيام بالليل للصلاة، وفي الضجعة بعد ركعتي الفجر.
ج. وروى محمد بن علي بن محبوب، عن العباس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام وذكر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه، ويوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره إلى السماء وتلا الآيات من آل عمران ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآيات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات، على قدر قراءته ركوعه، يركع حتى يقال متى يرفع رأسه، ويسجد حتى يقال متى يرفع رأسه، ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد، فيصلي أربع ركعات، كما ركع قبل ذلك، ثم يعود إلى فراشه، فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران، ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر، ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي ركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة.
2. شرح مختصر للكلمات:
أ. اللب: العقل سمي به لأنه خير ما في الانسان، واللب من كل شيء: خيره وخالصه.
3. لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة من فرح بمعصية ركبها، وأحب أن يحمد بما لم يفعله، وأخبر أنه لا نجاة لهم من عذابه قال: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: هو مالك ما في السماوات والأرض، بمعنى أنه يملك تدبيرهما، وتصرفهما على ما يشاء من جميع الوجوه، ليس لغيره الاعتراض عليه، فكيف يطمع والحال هذه في الخلاص منه.
4. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيه تنبيه على أنه قادر على إهلاك من أراد إهلاكه، وعلى الانشاء والإفناء كما يشاء.
5. لما بين سبحانه بأن له ملك السماوات والأرض، عقبه ببيان الدلالات على ذلك، فقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: في إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: تعاقبهما، ومجئ كل واحد منهما خلف الآخر.
﴿لَآيَاتٍ﴾ أي: دلالات على توحيد الله، وصفاته العلى ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي: لذوي البصائر والعقول، ووجه الدلالة:
أ. في خلق السماوات والأرض: إن وجودهما متضمن باعراض حادثة، وما لا ينفك عن الحادث، فهو حادث مثله، والمحدث لا بد من محدث يحدثه، وموجد يوجده، فدل وجودهما وحدوثهما على أن لهما محدثا قادرا، ودل ابداعهما بما فيهما من البدائع والأمور الجارية، على الإنتظام والاتساق، على أن مبدعهما عالم، لأن الفعل المحكم المنتظم، لا يصح إلا من عالم كما أن الإيجاد لا يصح إلا من قادر، ودل ذلك أيضا على أن صانعهما قديم لم يزل، لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث، فيؤدي إلى التسلسل.
ب. ووجه الدلالة في تعاقب الليل والنهار أن في ترادفهما على مقدار معلوم، لا يزيدان عليه ولا ينقصان منه، ونقصان كل واحد منهما عن الآخر في حال، وزيادته عليه في حال، وازدياد أحدهما بقدر نقصان الآخر، دلالة ظاهرة على أن لهما صانعا قادرا حكيما، لا يدركه عجز، ولا يلحقه سهو.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/908.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير، وفي قوله تعالى: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تهديد لهم، أي: لو شئت لعجّلت عذابهم.
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ قريشا قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء، وقالوا للنّصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: ادع ربّك يجعل لنا الصّفا ذهبا، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
ب. الثاني: أن أهل مكّة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنه لمّا نزل قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قالت قريش: قد سوّى بين آلهتنا، ائتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضّحى، واسمه: مسلم بن صبيح.
__________
(1) زاد المسير: 1/361.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السماوات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب.
2. علاقة قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ بما قبله هي أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية.
3. قال ابن عمر: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي، فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، ثم قال ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وروي: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها، وعن علي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ويقول: إن في خلق السماوات والأرض، وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى من فتيانهم فما أظلته السحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك، قال ما أذكر، قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر قال نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك.
4. سؤال وإشكال: ذكر الله تعالى هذه الآية في سورة البقرة، وذكرها هنا أيضا، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] وختمها هاهنا بقوله: ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وهاهنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السماوات والأرض، والليل والنهار، فهذه أسئلة ثلاثة:
أ. الأول: ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين؟
ب. الثاني: لم اكتفى هاهنا بإعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية؟
ج. الثالث: لم قال هناك: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] وقال هاهنا: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
والجواب: أقول والله أعلم بأسرار كتابه(2):
أ. إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر، فكذلك هاهنا إذا حدق الإنسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والإدراكات أكثر، فعلى هذا: السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل، فإذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله، فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل، حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله، واليه الإشارة بقوله: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: 12] والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما، وقيل له: إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل.
ب. إذا عرفت هذه القاعدة، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه.
ج. ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الأرضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد.
د. ثم ختم تلك الآية بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ وختم هذه الآية بقوله: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/459.
(2) وضعت الإجابة على شكل عناصر ليتيسر الفهم، مع التنبيه إلى أن هذه الإجابات تدخل ضمن الإشارات واللطائف
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتكذيب لهم، وقيل: المعنى لا تظن الفرحين ينجون من العذاب، فإن لله كل شي، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفا على، الكلام الأول، أي إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء، ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي ممكن ﴿قَدِيرٌ﴾
2. قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تقدم معنى هذه الآية في البقرة في غير موضع، فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته، إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سلام غني عن العالمين، حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد.
3. ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل، وروي عن عائشة أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قام يصلي، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرءاه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله علي الليلة آية ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
4. قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل.. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/309.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها، والمراد: ذات السماوات والأرض وصفاتهما ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: تعاقبهما، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر، وتفاوتهما طولا وقصرا، وحرا وبردا، وغير ذلك.
2. ﴿لَآيَاتٍ﴾ أي: دلالات واضحة، وبراهين بينة، تدل على الخالق سبحانه، وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة، والمراد باولي الألباب: أهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه، ولا تدفعه التشكيكات.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/471.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ﴾ فهو يملك أمرهما وما فيهما، من خزائن المطر والرزق والنبات، ويملك أمر الخلق، فبطل قولهم: (إنَّ الله فقير)، ﴿وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يقبض ويبسط، ويعاقب الكفرة.
2. قالت قريش لليهود: ما كان فيكم موسى؟ قالوا له: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وقالوا للنصارى: ما كان فيكم عيسى؟ قالوا: يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فقالوا له صلّى الله عليه وآله وسلّم : ادع الله أن يجعل لنا (الصفا) ذهبا، فدعا ربَّه فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ وما فيها من النيِّرات السبعة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآيَة هَذِهِ: (ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها)، ورآه صلّى الله عليه وآله وسلّم ابنُ عبَّاس إذ بات عند خالته ميمونة قام في نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، فمسح النوم عن وجهه بيديه، ثمَّ قرأ العشر الأواخر من آل عمران، وكذلك كان يقوم من الليل ويتسوَّك وينظر إلى السماء ويقرأ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ الآية، ﴿وَالَارْض﴾ وما فيها من مياه وأشجار وجبال.
3. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالمجيء والذهاب، والنور والظلمة، والنقصان والزيادة في غير يومي الاعتدال، والحرِّ والبرد، يبرد الليل ويحرُّ النهار أحيانا، والسماوات والأرض ساكنات، والكواكب والشمس والقمر متحرِّكات في أفلاك غير السماوات، أو في غير أفلاك، قال ابن عربي: (كلُّ سماء وأرض أكبر مِمَّا تحته وقبَّة عليه)
4. ﴿لَآيَاتٍ﴾ دلائل عَلَى وجود الله وقدرته، ومخالفته للخلق بصفاته وأقواله وأفعاله وذاته، قال ابن عبَّاس: سأل أهل مكَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم آيَة فنزلت هذه الآية، والآيات والألباب من جموع القِلَّة استعملا في الكثرة، إِلَّا أنَّ (ال) للحقيقة، وحكمة (ءَايَات) بصورة القِلَّة الإشارة إِلَى أنَّ ما خفي من الآيات كثير، ﴿لأُوْلِي الَالْبَابِ﴾ العقول الخالصة.
5. ذكر الله ثلاثة دلائل: سماويًّا بقوله: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، وأرضيًّا بقوله: ﴿وَالَارْضِ﴾، ومركَّبا منهما بقوله: ﴿وَاخْتِلَافِ﴾ إلخ؛ لأنَّه يتحقَّق الاختلاف بدوران الشمس عَلَى الأرض، ولا قادر على ذلك إِلَّا هو، فعلمناه أنَّه هو الإله، والمخلوقات متضادَّة طبعًا، كالحرِّ والبرد والرطوبة واليبوسة، ومع ذلك جعلت كالمتماثلات في اتِّصَال بعض ببعض، والانتفاع، فعلمنا أنَّه حكيم عليم لا إله إِلَّا هو، وأنَّه لا يعبث، فخلق السماوات والأرض لحكمة، كاستدلال الناس ومنافعهم، ينادى يوم القيامة: أين أولوا الألباب؟ فيقال: أيُّهم؟ فيقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ إلخ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/85.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو قادر على عقابهم.
2. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار، ونبات وزروع، وثمار وحيوان، ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص.
3. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفة للآخر، بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده.
4. ﴿لَآيَاتٍ﴾ أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته، وباهر حكمته، والتنكير للتفخيم كمّا وكيفا، أي كثرة عظيمة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي لذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائما كما قال القول في تأويل قوله تعالى: [آل عمران: آية 191]
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/480.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قال محمد عبده: عطف هذه الآية على ما قبلها لاتصالها بالآيات التي قبلها، فالواو فيها عاطفة للجملة المستقلة على مثلها، كأنه يقول: (لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا واصبروا واتقوا ولا تخورن عزائمكم، بينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولا تفرحوا بما علمتم، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا فإن الله تعالى يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فإن ملك السماوات والأرض كله له يعطي منه ما يشاء وهو كل شيء قدير لا يعز عليه نصركم على الذين يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين، وإليه ترجع الأمور لأنه هو الذي يدبرها بحكمته وسننه في خلقه)
2. في هذا التذييل حجة على كون الخير في اتباع ما أرشد إليه تعالى وتسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين ووعد لهم بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين الذين سبق وصفهم في الآيات التي قبل هذه الآية وهو أنهم لا يؤمنون بالله تعالى إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم وإلا لما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا، فإن هذا لا يكون إلا من عدم الثقة بوعده تعالى والخوف من وعيده واليقين بقدرته وتدبيره.
3. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ قال محمد عبده في بيان وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنها جاءت بعد أفاعيل أهل الكتاب وغيرهم مع المؤمنين فهي تدل على أن أولئك المجاهدين لو كانوا يتفكرون في خلق السماوات والأرض لكفوا من غرورهم ولعلموا أنه يليق بحكمته تعالى أن يرسل إلى الناس رسولا من أنفسهم، ولكنه جعل الآية مطلقة موجهة إلى أولي الألباب ليطلق النظر لكل عاقل، وقال الرازي: (اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق، إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية)
4. بينا في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها عند الابتداء بتفسيرها أن كلا منها مفتتحة بذكر الكتاب وشؤون الناس فيه ومختتمة بالثناء على الله عز وجل ودعائه.
5. ذكروا سببا لنزول هذه الآيات على عدم تعلقها بالحوادث، فقد أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات؟ فقالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فليتفكروا فيها.. وأنت لا ترى المناسبة قوية بين الاقتراح وبين الآية إلا من حيث إن مراد القرآن الاستدلال بآيات الله في الكائنات على حقية ما يدعو إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من عبادة الله وحده دون الخوارق والآيات الكونية، وقد ورد الرد على هؤلاء المقترحين في كثير من السور المكية، وسيأتي تفسيرها في مواضعه إن شاء الله تعالى.
6. تقدم تفسير ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات على وحدانية الله تعالى بوحدة النظام في ذلك، وعلى رحمته بما فيها من المنافع والمرافق للعباد، وقال محمد عبده هنا: السماوات ما علاك مما تراه فوقك، والأرض ما تعيش عليه، والخلق التقدير والترتيب لا الإيجاد من العدم، كما اصطلح عليه في علم الكلام، فذلك لا يتضمن معنى النظام والإتقان وهو ما هي عليه في الواقع ونفس الأمر، وبعد ما ذكر خلق السماوات والأرض لفت العقول إلى أمر مما يكون في الأرض وهو اختلاف الليل والنهار، فإن هذا الاختلاف قائم بنظام في طول الليل والنهار وقصرهما وتعاقبهما، وهذا أمر عظيم سواء كان سببه ما كانوا يعتقدون من أنه حادث من حركة الشمس أو ما يعتقدون الآن من أن سببه حركة الأرض تحت الشمس، ومن الحكم في ذلك ما نراه في أجسامنا وعقولنا من تأثير حرارة الشمس ورطوبة الليل وكذا في تربية الحيوان والنبات وغير ذلك ولو كان الليل سرمدا والنهار سرمدا لفاتت.
7. هذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره فأما علماء الهيئة فإنهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل، وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة والأجرام الرفيعة وما فيها من الحسن والروعة.
8. خص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولي ألباب لأن من اللبّ ما لا فائدة فيه كلب الجوز ونحوه إذا كان عفنا، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما، وإنما سمي العقل لبا لأن اللب هو محل الحياة من الشيء وخاصته وفائدته، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله وحكمته ولكن بعضهم لا ينظر ولا يتفكر وإنما العقل الذي ينظر ويستفيد ويهتدي هو الذي وصف أصحابه بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/297.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن لله ملك السموات والأرض يعطى من يشاء، وهو على كل شىء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.
2. في هذا إيماء إلى أن الخير في اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره في أخلاقهم وأعمالهم، إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا.
3. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي إن في نظام السماوات والأرض وبديع تقديرهما وعجيب صنعهما، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق طوال العام، نرى آثاره في أجسامنا وعقولنا بتأثير حرارة الشمس وبرد الليل، وفي الحيوان والنبات وغير ذلك ـ لآيات ودلائل على وحدانية الله وكمال علمه وقدرته.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/161.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
الذي يتوعدهم به هو الله، مالك السماوات والأرض، القادر على كل شيء، فأين المفازة إذن؟ وكيف النجاة؟ ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
1. هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه: من مقوّمات التصور الإسلامي، وتقرير هذه المقوّمات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب، ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين، وبيان طبيعة هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في الأنفس والأموال، وتعليم الجماعة المسلمة كيف تنهض بهذه التكاليف، وكيف تستقبل الابتلاء بالسراء والضراء، وكيف تتجرد لهذه العقيدة وتكاليفها الضخمة في الأنفس والأموال.. إلى آخر ما ضمه سياق السورة، واستعرضناه في الجزأين الثالث والرابع من هذه الظلال.
2. فالآن يجيء هذا الإيقاع الأخير في السورة ـ أو هذه الإيقاعات الأخيرة ـ متناسقة في موضوعها وفي أسلوبها مع ذلك الحشد من الإيقاعات من ناحية الموضوع ومن ناحية الأداء تجيء بحقيقة عميقة: إن هذا الكون بذاته كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته؛ ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة؛ ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة، وحسابا وجزاء.. إنما يدرك هذه الدلائل، ويقرأ هذه الآيات، ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ من الناس، الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح، وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين! وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا (الكون) والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة (الإنسان) والتفاهم الداخلي الوثيق بين فطرة الكون وفطرة الإنسان؛ ودلالة هذا الكون بذاته على خالقه من جهة؛ وعلى الناموس الذي يصرّفه وما يصاحبه من (غاية) و(حكمة) و(قصد) من جهة أخرى.. وهي ذات أهمية بالغة في تقرير موقف (الإنسان) من (الكون) و(إله) الكون سبحانه وتعالى، فهي ركيزة من ركائز التصور الإسلامي للوجود.
3. يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب، وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح، ويتأملون ما ينطق به من الآيات، وما يوحي به من الغايات.. استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر، والنهوض بتكاليف هذا الإيمان، الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح.. مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة، وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي، التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار.
4. وعطفا على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين، يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن، وجزاؤه المناسب، ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع، التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح، ودعائهم الخاشع المنيب، وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وتقدم وصفهم في السورة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/543.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد، والأحداث التي جرت فيها، وما تكشّف في تلك الأحداث من وجوه المنافقين، وصبر المؤمنين، وكيد الكافرين ـ في هذه الآيات طال وقوف المسلمين في دخان هذه المعركة.. وفي التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم في (بدر)، كما طال الوقوف أيضا في مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم، وفي هذا الجوّ كانت تهبّ من الله نفحة رحمة وعزاء للمسلمين، فتلقاهم بين الفينة والفينة، وهم في هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها ـ فتهدأ أنفسهم وتطيب خواطرهم، وتتجه قلوبهم، وتشخص أبصارهم إلى الله، بالحمد والشكران، لما منّ الله عليهم به من الإيمان، وهداهم إليه، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى الله، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء.. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء.. بين معركة أحد وأرضها، وبين رحمة الله ورضوانه، فكان من تمام رحمة الله بالمسلمين، ورضوانه عليهم، أن ختم هذا الموقف، وأنهى تلك الأحداث، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع الله، في آفاق سماوية عالية، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها.
2. ولقاء هنا مع الله، والنفوس مهتاجة، والقلوب مضطربة، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا في الاتصال بالله، وملء القلب، والنفس، ولاء وخشية لجلاله وعظمته.. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا بالله، ويقينا بحكمته، ورضى بحكمه، وولاء لأمره ونهيه، وفي هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد الله بهم من خير، أشرنا إلى بعضه، الذي هو قليل من كثير!.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ مواجهة مشرقة بين المسلمين، وبين ملكوت السماوات والأرض.. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق الله، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!.. وفي هذه المواجهة المطلقة، تنطلق مشاعر المؤمنين، وتتفتح قلوبهم وعقولهم، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/670.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا غرض أنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة، انتقل به من المقدّمات والمقصد والمتخلّلات بالمناسبات، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات.
2. مثل هذا الانتقال يكون إيذانا بانتهاء الكلام على أغراض السورة، على تفنّنها، فقد كان التنقّل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عامّ: وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتّعاظ بذلك، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقّها إلى غرض آخر إيذانا بأنّه أشرف على الانتهاء، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة، كما وقع في ختام سورة البقرة.
3. حرف (إنّ) للاهتمام بالخبر، والمراد بـ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ هنا: إمّا آثار خلقها، وهو النظام الذي جعل فيها، وإمّا أن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللهِ﴾ [لقمان: 11]، وأولو الألباب أهل العقول الكاملة لأنّ لبّ الشيء هو خلاصته، وقد قدّمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ﴾ [البقرة: 164]
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/308.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أنذر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة وبشّر، وأرشد وزجر، وبين غرور الذين كفروا بزخارف الدنيا، والتمكين لهم فيها مما دلاهم بغرور، وجعلوا يعتقدون أن السلطان فيها دليل السلطان في الآخرة، وفي هذه الآية الكريمة يبين سلطانه سبحانه، وهو الذي وعد وأوعد، وهدد وحرض، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي لله وحده سبحانه ملك السماوات والأرض بما فيهما ومن فيهما، وتقديم لفظ الجلالة لإفادة الاختصاص والانفراد، وفي ذلك إشارة إلى أنه وحده المتصرف، وهو الذي يعطى ويمنع ويحاسب ويعاقب، وقد أعطى من أعطى في الدنيا ليتمتعوا حتى حين، وأبقى ما أبقى في الآخرة ليجزى الصابرين، وينال عهده المتقون، وإن عطاءه لحكمة، ومنعه لحكمة، وفيه إشارة إلى كمال قدرته، وأنه إن أوعد بالعقاب، ووعد بالثواب فهو القدير على تنفيذ ما وعد وأوعد.
2. بعد أن بين سبحانه ملكه للسماوات والأرض أشار إلى ما فيهما من عبر، فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقد قال فخر الدين الرازي في علاقة هذه الآيات بما قبلها: (اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما أطال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآيات)
3. في الحق، إن هذه الآيات تدعو إلى التدبر والتفكر في هذا الكون العظيم، وصانعه الحكيم، ومبدعه ومنشئه من العدم، والآيات: الأمارات الواضحة الدالة على قدرة الصانع وسلطانه وكمال حكمته، واختلاف الليل والنهار هو تعاقبهما، مع تخالف مظاهرهما، فهذا نور ساطع، وذلك ظلام حالك، وفي النهار الشمس التي تمد الأرض بحرارتها وأشعتها، وبها يحيا النبات ويحيا الإنسان، وفي الليل النجوم الزاهرة، والقمر الباهر، وأولو الألباب هم أهل العقول المدركة التي تنفذ إلى لب الأشياء، ولا تكتفى بظواهرها.
4. ما أحسن ما قاله الزمخشري في وصف أولى الألباب: (الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عن عجائب الفطرة، وفي النصائح الصغار: (املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلهما في جملة هذه العجائب، متفكرا في قدرة مقدرها متدبرا في حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر)
5. ليس كل أولى الألباب يفهمون الآيات، بل لا بد من قلب خاشع، وعقل متفكر، ولذلك ذكر لأولى الألباب أوصافا أخرى لهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1546.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ان أفضل الطرق لمعرفة الله سبحانه هو الطريق الذي استدلّ به جل وعلا على وجوده، ويتلخص بأن ينظر العاقل إلى الكون، ويتفكر بإمعان في عجائبه وأسرار ما فيه من إتقان وإبداع، فيرى ان كل ما فيه ينبئ عن قصد وغاية، حيث وضع في المكان اللائق به، وقام بدور فعال في تنظيم الكون وسير الحياة، ومن هذين الأساسين معا، وهما الحس والعقل يتوصل حتما إلى معرفة علة أولية، تتصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة البالغة.
2. سمعت أكثر من واحد يقول ـ وكأنه قد أتى بجديد ـ: كل الناس، حتى الملحدين يعترفون بوجود علة أولى، سوى أن المؤمنين يسمونها الله، وغيرهم يسمونها المادة أو الطبيعة، اذن، الخلاف في التسمية فقط.. وهذا اشتباه وخطأ محض، لأن المؤمنين يؤمنون بوجود علة أولى تدرك بالعقل لا بالحس، وتوصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة والعدل، أما غيرهم فيقولون: انها ترى بالعين، وتلمس باليد، وانها عمياء صماء، فالفرق بين القولين أبعد مما بين الأرض والسماء.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/230.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات والأرض، وقدرته على كل شيء، وهذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.
2. الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب في هذه السورة، بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، والتفكر في آياته والاستجارة بالله من عذاب النار، وسؤال المغفرة والجنة، وأن الله استجاب لهم وسيرزقهم ما سألوه ـ هذه عامة حالهم ـ وأن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم، وقد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.
3. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، كان المراد بالخلق كيفية وجودها وآثارها وأفعالها من حركة وسكون وتغير وتحول فيكون خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة وقد تقدم بيانها في سورة البقرة، وتقدم أيضا معنى أولي الألباب.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/87.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فله الأمر والحكم له وحده لا شريك له، يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، وإليه يرجع أمر المختلفين المذكورين في هذه السورة وغيرهم كله ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو الغالب على أمره، له الخلق يخلق ما يشاء فكما خلق آدم من تراب خلق عيسى من غير أب؛ لأنه على كل شيء قدير.
2. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ في (مفردات الراغب): (الخلق أصله: التقدير المستقيم)، ويظهر: أنه المراد هنا، وتقدير السماوات والأرض: جعلها واسعة عظيمة تسع العالمين، وإتقان صنعها لتصلح لهم ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ هو أن كل واحد يخلف الآخر على الاستمرار بنظام محكم محدد حتى لا يطول أحدهما بحيث يختل حال الناس والشجر والدواب، أو يقصر كذلك، ففي النهار فوائد الشمس والضياء، وفي الليل فوائد توفير الرطوبة والتبريد وراحة النوم حتى يعتدلا وينفعا، فهي نعمة ينبغي أن تشكر وهي كذلك آيات.
3. ﴿لَآيَاتٍ﴾ بمعنى دلالات يُهْتَدَى بها، ولم يحدد هاهنا، وإنما يأتي الإشارة إلى وجه واحد من وجوه الدلالة فهي آيات تدل على قدرة الله تعالى وعلمه، وأنه رب كل شيء له الملك لا إله إلا هو كما هو مفصل في علم أصول الدين.
4. ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أهل العقول، والمراد هنا: الذين يستعملون عقولهم في طلب الحق، لا من يهمل عقله ويلفق من الشبه ما يحول بينه وبين المعرفة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/597.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا يعجزه أحد من هؤلاء لأنهم ملكه، ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فلا حدّ لقدرته في كل مجال يمكن للقدرة أن تتحرك فيه، فما قيمة هؤلاء؟ وما أثرهم في الساحة؟ وما تأثير ألاعيبهم الصبيانيّة؟ إن قدرة الله تنتظرهم لتقضي على ذلك كله.
2. سؤال وإشكال: ما هو المنهج الأصيل الذي يمكن للإنسان أن يكتشف به الحقيقة في وجود الله، وفي اللقاء به، وفي الشعور بعظمته التي تستولي على الفكر والقلب والشعور؟ هل هو الفلسفة في أسلوبها التحليلي الذي يغرق الإنسان معه في الآفاق التجريديّة، وفي فرضيّاتها التي تقترب من الخيال أو تعيش معه؟ والجواب: إنّ الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يحدّد المنهج في الفكر الذي يلاحق الظواهر الكونيّة في عملية تأمّل وتدبّر وتفكير، فليس للإنسان أن يحدّق في كتب الفلسفة، بل عليه أن يحدّق في كتاب الكون، ليفكر في خلق السماوات والأرض وما يتمثل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار، وتربطهما بالحكمة في كلّ الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلق بهما، وليرصد حركة الليل والنهار، وكيف تختلف في الزيادة والنقصان حسب اختلاف الفصول والأزمنة، فيعرف أن هناك سرّا عميقا وراء ذلك كله، فيكتشف أن هناك عقلا واسعا كاملا يخطّط للكون ونظامه، وإرادة قويّة فاعلة قادرة تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار والضياع، فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آية للعقول التي تفكر في كل ما حولها ومن حولها، ولأصحابها الذين لا يتحركون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلبا أو إيجابا إلّا من خلالها؛ وبهذا يلتقي العلم والدين في وجود الله، وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود، على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته، لأن الدين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ في ما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خط الإيمان المنفتح الواعي المبنيّ على التفكير والتحليل الدقيق.
3. في ضوء ذلك، نستوحي الفكرة التي تنطلق لتؤكد احترام الإسلام للعقل في ما يريد له أن يقوم به من أدوار تتصل بالعقيدة الأساس فيه، فلولا ثقته بالعقل في ما يحلل وما يستنتج لما اعتبره السمة للناس الذين يتحركون في اتجاه اكتشاف الحقيقة، ليوحي إليهم بأن عظمة الإنسان في عقله، كما أن عظمة العقل في حركته في معرفة الحق من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله، في ما يحيط به، وفيمن يحيطون به.. فإذا كان العقل هو القاعدة الأساس في أصل العقيدة، فكيف يمكن أن ينسب إلى الدين انطلاقه من الخرافة والأسطورة والخيالات المثاليّة التي لا ترجع إلى قاعدة ولا تعود إلى محصل؟ إن أولي الألباب لا ينطلقون في عقائدهم إلّا من خلال ألبابهم وعقولهم التي تلاحق الظاهرة الكونية في عملية حساب، كما تلاحق الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ربطها بأسبابها وأوضاعها، لتكون العقيدة محسوبة، كما يكون الواقع العملي محسوبا في مقدماته ونتائجه.
4. ليست العقيدة بالله في شخصية الإنسان المؤمن حالة ذهنية مترفة مجرّدة، بل هي حالة فكريّة واقعية ترتبط بالله لتحس به في حركة الفكر والشعور، كما لو كان ماثلا أمامها في الحسّ والصورة؛ ولهذا فإنها تشعر به يحيط بها من جميع جوانبها وفي جميع حالاتها، مما يجعلها تذكره في كل صعيد ومع كل وضع.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/452.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنّ الله سبحانه يقول في آية لاحقة: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين، وتهديدا للكافرين، فهي تقول: إنّه لا داعي لأن يسلك المؤمنون لإحراز التقدم طرقا وسبلا منحرفة، وأن يحمدوا على ما لم يفعلوه، ذلك لأنّهم يقدرون أن يواصلوا تقدمهم، ويحرزوا النجاحات بالاستفادة من السبل المشروعة والصحيحة وفي ظل قدرة الله خالق السماوات والأرضين، كما أنّه على المنافقين والعصاة أن لا يتصوروا أنّهم قادرون على إحراز شيء أو على الخلاص والنجاة من عقاب خالق الكون وربّ السماوات والأرضين بسلوك هذه السبل المنحرفة واستخدام هذه الأساليب غير المشروعة!.
2. آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التّلاوة والقراءة إلّا مقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وبهذا يحثّ الناس على التفكر في هذا الخلق البديع والعظيم، ليصيب كلّ واحد منهم ـ بقدر استعداده، وقدرته على الإستيعابـ من هذا البحر العظيم الذي لا يدرك له ساحل ولا قعر، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.
3. حقّا أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من نظام متقن وبديع، ونقوش رائعة، ولوحات خلابة كتاب بالغ العظمة، كتاب في كلّ حرف من حروفه، وكل سطر من أسطره دليل ساطع على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرّده.. إنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إلى نفسه فؤاد كلّ لبيب وعقله شدّا ـ يجعله يتذكر خالقه، في جميع الحالات، قائما أو قاعدا، وحين يكون في فراشه نائما على جنبه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/46.