...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

95. الإيمان والهجرة والجهاد والرجاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈95⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

عروة:

روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنّه قال: أنزل الله تعالى القرآن بما أنزل من الأمر، وفرج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ـ يعني: في قتلهم ابن الحضرمي ـ، فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فوقفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٦٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ إلى المدينة: ﴿وَجَاهَدُوا﴾ المشركين: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ يعني: جنة الله، نظيرها في آل عمران قوله سبحانه: ﴿وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمت الله﴾ يعني: ففي جنة الله؛ لقولهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: هل لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لاستحلالهم القتل والأسر والأموال في الشهر الحرام(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تضمن قوله تعالى: ﴿آمَنُوا﴾ الإيمان بالله، والإيمان بجميع ما جاء به الرسل من الرسالات وغيرها.

2. تضمن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾، الهجرة، وتكون على وجهين:

أ. أحدهما: الهجرة المعروفة التي كانت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، وهو كقوله: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100]، ثم روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (لا هجرة بعد فتح مكة)

ب. والهجرة الثانية: هجرة الآثام والإجرام، فهي لا ترتفع أبدا، وقال الحسن: أن يهجر قومه وداره ويخرج لله.

3. قوله تعالى: ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المجاهدة تكون على وجوه: مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس.

4. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر الله.

5. قوله تعالى: ﴿رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين: الرحمة: الجنة، والرحمة: المغفرة.

6. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/116.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ سبب نزولها أن قوماً من المسلمين قالوا في عبدالله بن جحش ومن معه أنهم أصابوا في سفرهم وزراً فليس لهم فيه أجر فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي بالله ورسوله، وهاجروا من دورهم ومساكنهم التي كانت بين المشركين خرجوا من سلطانهم إلى سلطان الإسلام ﴿وَجَاهَدُوا﴾ أي قاتلوا وأصل المجاهدة من جهد فلاناً الأمر إذا كربه وشق عليه، وأما ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فطريقه وطريقه دينه.

2. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ ورحمة الله مستحقة؛ والجواب: عن ذلك: أنهم راجون رحمة الله فأقام الفعل المستقبل مقام الماضي، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التواضع والخشوع كما يقول الأنبياء وصالح العباد: اغفر لنا، وإن كانوا يعلمون أنه قد غفر لهم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/104.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ الآية، وسبب نزولها أن قوما من المسلمين قالوا في عبد الله بن جحش ومن معه: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزرا فليس فيه أجر، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني بالله ورسوله.

2. ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ يعني عن مساكنة المشركين في أمصارهم، وبذلك سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مهاجرين لهجرهم دورهم ومنازلهم كراهة الذل من المشركين وسلطانهم.

3. ﴿وَجَاهَدُوا﴾ يعني قاتلوا، وأصل المجاهدة المفاعلة من قولهم جهد كذا إذا أكّده وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة قيل فلان يجاهد فلانا، وأما ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فطريق الله، وطريقه: دينه.

4. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟ والجواب: فيه جوابان:

أ. أحدهما: أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجو الرحمة خوفا أن يحدث من مستقبل أمورهم ما لا يستوجبونها معه.

ب. الثاني: أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/275.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر جندب بن عبد الله، وعروة بن الزبير: أن هذه الآية نزلت في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد التميمي بن الحضرمي، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجره، فأنزل الله الآية فيهم ـ بالوعد ـ.

2. خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الجملة التي هي قوله: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ أولئك ابتداء، ويرجون خبره، والجملة خبر (إنّ)

3. ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ فالهجر ضد الوصل، تقول: هجره يهجره هجراً، وهجراناً: إذا قطع مواصلته، والهجر: ما لا ينبغي من الكلام، تقول: هجر المريض يهجر هجراً، لأنه قال ما لا ينبغي أن يهجر من الكلام، وما زال ذلك هجيراه أي دأبه‏، والهاجرة: نصف النهار، وهجر القوم تهجيراً: إذا دخلوا في الهاجرة، وسمي المهاجرون لهجرتهم قومهم، وأرضهم، وأهجرت الجارية إهجاراً: إذا شبت شباباً حسناً، فهي مهجرة، ويقال ذلك للناقة، والنخلة، والهجار: حبل يشد به يد الفحل الى إحدى رجليه، لأنه يهجر بذلك التصرف وأصل الباب الهجر: قطع المواصلة.

4. ﴿وَجَاهَدُوا﴾ تقول: جهدت الرجل جهداً: إذا حملته على مشقة، وجاهدت العدّو مجاهدة إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله، واجتهدت رأيً: إذا حملت نفسك على المشقة في بلوغ صواب الرأي، والجهاد: الأرض الصلبة، وأصل الباب الجهد: الحمل على المشقة.

5. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني قتال العدوّ، ويدخل في ذلك مجاهدة النفس.

6. ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ﴾ فالرجاء الأمل، رجا يرجو رجاءً، وترجّى‏ ترجياً، وارتجى ارتجاء، والرجا ـ مقصوراً ـ ناحية كل شيء، ويثنى رجوان وجمعه أرجاء، ومنه أرجاء البئر نواحيه، وقوله تعالى‏ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ أي لا تخافون، قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها...وخالفها في بيت نوب عواسل‏

أي لم يخف، وذلك أن الرجاء للشيء الخوف من أن لا يكون، فلذلك سمي الخوف باسم الرجاء، وأصل الباب الأمل، وهو ضد اليأس.

7. في الآية دلالة على أن من مات مصراً على كبيرة لا يرجو رحمة الله لأمرين:

أ. أحدهما: أن ذلك دليل الخطاب، وذلك غير صحيح عند أكثر المحصلين.

ب. الثاني:أنه قد يجتمع ـ عندنا(2) ـ الايمان والهجرة والجهاد مع ارتكاب الكبيرة، فلا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية له.

8. إنما ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وإن كانت هي لهم لا محالة لوجوه:

أ. لأنهم لا يدرون ما يكون منهم من الاقامة على طاعة الله أو الانقلاب عنها الى معصيته، لأنهم لا يدرون كيف تكون أحوالهم في المستقبل.

ب. وقال الجبائي: لأنهم لا يعلمون أنهم أدّوا كما يجب لله عليهم، لأن هذا العلم من الواجب، وهم لا يعلمونه إلا بعلم آخر، وكذلك سبيل العلم في أنهم لا يعلمونه إلا بعلم غيره، وهذا يوجب أنهم لا يعلمون إذاً كما يجب لله عليهم.

ج. وقال ابن الأخشاد: لأنه لا يتفق للعبد التوبة من كل معصية، واستدل على ذلك بإجماع الأمة على أنه ليس لأحد غير النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن شهد له عليه، فلا.

د. ويمكن في الآية وجه آخر ـ على مذهبنا ـ وهو أن يكون رجاءهم لرخصة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة عنها، واخترموا دونهم، فهم يرجون أن يسقط الله عقابها عنهم تفضلا.

9. الوجه الأول (3) إنما يصح على مذهب من‏ يجوز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه أو يفعل في المستقبل كبيرة يحبط ثواب إيمانه، وهذا لا يصح على مذهبنا في الموافاة، وما قاله الجبائي (4) يلزم عليه وجوب ما لا نهاية له، لأنه إذا وجب عليه أن يعلم أنه فعل ما وجب عليه بعلم آخر، وذلك العلم مما وجب عليه أيضاً فيجب ذلك بعلم آخر، وفي ذلك التسلسل.

10. إنما ضم الى صفة الايمان غيره في اعتبار الرجاء للرحمة ترغيباً في كل خصلة من تلك الخصال، لأنها من علامات الفلاح، فأما الوعد، فعلى كل واحدة منها إذا سلمت مما يبطلها.

11. قال الحسن: الرجاء، والطمع هاهنا على الايمان إذا سلم العمل، وذكر الجبائي: أن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد لنفسه بالجنة، لأن الرجاء لا يكون إلا مع الشك، وقد بين الله تعالى: أن صفة المؤمن الرجاء للرحمة، لا القطع عليها لا محالة.

12. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر في الأولى العذاب، ذكر بعدها آية الرحمة، ليكون العبد بين الخوف والرجاء إذ ذلك أوكد في الاستدعاء، وأحق بتدبير الحكماء.

13. كتبت‏ ﴿رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ بالتاء في المصحف على الوصل، والأقيس بالهاء على الوقف، كما كتب‏ ﴿يَدْعُ الدَّاعِ﴾ و﴿يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا﴾ كل ذلك على الوقف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/209.

(2) يقصد الإمامية

(3) هو أنهم لا يدرون كيف تكون أحوالهم في المستقبل

(4) أنهم لا يعلمون أنهم أدّوا كما يجب لله عليهم

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الهجر: ضد الوصل، هجر هجرًا، وسمي المهاجر؛ لهجرته قومه وأرضه، وأصله: قطع المواصلة، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة، وأطلق اللفظ الذي يقع على الاثنين على هَؤُلَاءِ؛ لأن كل واحد من هَؤُلَاءِ المهاجرين فعل مثل فعل صاحبه، وترك ما ترك اختيارًا لصحبة الرسول ومساعدته.

ب. الجهاد: من الجهد، وهو الحمل على المشقة في الحقيقة، وفي التعارف: هو بذل الجهد في القتال في سبيل الله، وجاء على المفاعلة؛ لأن كل واحد يفعل مثل فعل صاحبه، وقيل: لأنه بينه وبين غيره.

ج. الرجاء: الأمل، ونقيضه اليأس.

2. نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه على ما تقدم، قاتلوا في رجب، وقتل واقدُ الليثي ابنَ الحضرمي، فظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فلا أجر لهم، فنزلت الآية بالوعد، عن عروة بن الزبير.

3. لما تقدم الوعيد للكفار عقبه بالوعد للمؤمنين؛ ليكون المكلف بين الرجاء والخوف، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقو الله ورسوله، ﴿وَهَاجَرُوا﴾: قطعوا عشائرهم وفارقوا منازلهم وتركوا أموالهم، ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله﴾ أي قاتلوا الكفار في نصرة الدين، وطاعة الله تعالى التي هي سبيله المشروع لعباده.

4. ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ﴾ يأملون: ﴿رَحْمَةِ الله﴾ سبحانه: نعمه في الدنيا والدين، وهو النصرة في الدنيا والمثوبة في الآخرة: ﴿وَالله غَفُورٌ﴾ يغفر ذنوبهم: ﴿رَحِيمٌ﴾ يثيبهم برحمته.

5. سؤال وإشكال: لم ذكر المؤمنين برجاء الرحمة، وهي لهم لا محالة؟ والجواب: فيه وجوه:

أ. منها: أنه لا يعلم أحواله في مستقبل عمره، أيقيم على توبته ودينه أم لا؟

ب. ومنها: أنهم لا يعلمون أنهم أدوا كل ما يجب عليهم، عن أبي علي.

ج. ومنها: أن العبد متى ينظر في نفسه، ويرى تقصيره يخاف، ومتى يفكر في رحمته يرجوه، فيتردد بين الخوف والرجاء.

د. ومنها: أن الرجاء ههنا على الإيجاب، عن الحسن.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. وعد من جمع بين هذه الخصال، وإنما خص هذه دون غيرها مقابلة بحال المشركين من قتالهم وإخراجهم وكفرهم، وهذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر، وكذلك كل وعد في كتابه.

ب. بطلان قول المرجئة؛ لأنهم يرجون الرحمة لمن مات مصرًّا على فسقه، وهو خلاف الآية، عن أبي القاسم.

ج. بطلان من يقول: أنا مؤمن مطلقًا؛ لأنه لو علم ذلك قطعًا لما كان الوعد معلقًا بالرجاء؛ لأن مع العلم لا حكم للرجاء والظن.

د. أن الهجرة عبادة عظيمة، والهجرة بعد الفتح فيمن فتن في دينه يستحق بها الثواب العظيم، وإن لم يبلغ درجة المهاجرين، وما روي: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن مكة صارت دار الإسلام.

7. ﴿وَرَحْمَةً﴾ كتبت في المصحف بالتاء على الوصل، والأقيس بالهاء على الوقف، كما يكتب يقضي بالحق ونحوه.

8. مسائل نحوية:

أ. خبر ﴿إِنَّ﴾ الجملة في قوله: ﴿أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله﴾، فأولئك ابتداء، ويرجون خبره، والجملة خبر: ﴿إِنَّ﴾

ب. موضع الكاف من ﴿أُولَئِكَ﴾: لا موضع لها من الإعراب؛ لأنها حرف الخطاب، وهو ككاف ذاك.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/874.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الهجر: ضد الوصل، يقال هجره يهجره هجرانا، وهجرا وهجرة: إذا قطع مواصلته، وهجر المريض يهجر هجرا: إذا قال ما ينبغي أن يهجر من الكلام، وسموا المهاجرين: لهجرتهم قومهم وأرضهم، وإنما أطلق على هؤلاء اللفظ الذي يقع على الاثنين، لأن كل واحد من هؤلاء فعل مثل فعل صاحبه، وترك ما تركه اختيارا لصحبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وجاهدت العدو مجاهدة وجهادا: إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.

ب. الرجاء: الأمل، وقوله: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ أي: لا تخافون، وقال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها،...وخالفها في بيت نوب عوامل

أي: لم يخف، وذلك أن الرجاء للشئ معه الخوف من أن لا يكون، فلذلك سمي الخوف باسم الرجاء.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ أي: قطعوا عشائرهم، وفارقوا منازلهم، وتركوا أموالهم ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: قاتلوا الكفار في طاعة الله التي هي سبيله المشروعة لعباده، وإنما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلها، والترغيب فيها، لا لأن الثواب لا يستحق على واحد منها على الانفراد.

3. ﴿أولئك يرجون رحمة الله﴾ أي: يأملون نعمة الله في الدنيا، والعقبى: وهي النصرة في الدنيا، والمثوبة في العقبى ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يغفر ذنوبهم ﴿رَحِيمٌ﴾ يرحمهم.

4. إنما ذكر لفظ الرجاء للمؤمنين، وإن كانوا يستحقون الثواب قطعا ويقينا:

أ. لأنهم لا يدرون ما يكون منهم في المستقبل: الإقامة على طاعة الله، أو الانقلاب عنها إلى معصية الله.. وهذا إنما يصح على مذهب من يجوز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه، أو يفعل في المستقبل كبيرة تحبط ثواب إيمانه، وهذا لا يصح على مذهبنا(2) في الموافاة.

ب. ووجه آخر وهو الصحيح وهو: أن يرجوا رحمة الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة منها، واخترموا دونها، فهم يرجون أن يسقط الله عقابها عنهم، تفضلا.

5. قال الحسن: أراد به ايجاب الرجاء والطمع على المؤمنين، لأن رجاء رحمة الله من أركان الدين، واليأس من رحمته كفر، كما قال: ﴿ولا ييأس من روح الله﴾ الآية، والأمن من عذابه خسران كما قال: ﴿ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾ فمن الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته، وأن لا يأمن من عقوبته، ويؤيده قوله تعالى ﴿يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، وقوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾

6. ليس في الآية دلالة على أن من مات مصرا على كبيرة لا يرجو رحمة الله لأمرين:

أ. أحدهما: إن الدليل المفهوم غير صحيح عند أكثر المحصلين.

ب. والآخر: إنه، قد يجتمع عندنا الإيمان والهجرة والجهاد مع ارتكاب الكبيرة، ولا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية له.

7. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما ذكر في الأولى العذاب، ذكر بعدها الثواب، ليكون العبد بين الخوف والرجاء إذ ذاك أحق بتدبير الحكماء، وأوكد في الاستدعاء.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/549.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه لما نزل القرآن بالرّخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرميّ، قال بعض المسلمين: ما لهم أجر، فنزلت هذه الآية، وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، عن جندب بن عبد الله.

ب. الثاني: أنه لما نزلت لهم الرّخصة قاموا، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

2. ﴿هَاجَرُوا﴾ من مكة إلى المدينة، ﴿وَجَاهَدُوا﴾ في طاعة الله ابن الحضرميّ وأصحابه، و﴿رَحْمَتِ اللَّهِ﴾: مغفرته وجنّته، قال الشّعبيّ: أوّل لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وأول مغنم قسم في الإسلام: مغنمه.

__________

(1) زاد المسير: 1/183.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في تعلق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بما قبله وجهان:

أ. الأول: أن عبد الله بن جحش قال يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت هذه الآية، لأن عبد الله كان مؤمنا، وكان مهاجرا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا.

ب. الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد.

2. ﴿هَاجَرُوا﴾ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح: هجر، لأنه مما ينبغي أن يهجر، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين، وهو أيضا هجرهم بهذا السبب، فكان ذلك مهاجرة.

3. المجاهدة: أصلها من الجهد الذي هو المشقة، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهة في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذلك فتصير مفاعلة.

4. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ قولان:

أ. الأول أن المراد منه الرجاء، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالفوز والثواب في عمله، بل كان يتوقعه ويرجوه.

ب. الثاني: أن المراد من الرجاء: القطع واليقين في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 46]

5. سؤال وإشكال: لم جعل الوعد مطلقا بالرجاء، ولم يقع به كما في سائر الآيات؟، الجواب: من وجوه:

أ. أحدها: أن مذهبنا(2) أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلا، بل بحكم الوعد، فلذلك علقه بالرجاء.

ب. ثانيها: هب أنه واجب عقلا بحكم الوعد، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع.

ج. ثالثها: أن المذكور هاهنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفقه لهذه الثلاثة، فلا جرم علقه على الرجاء.

د. رابعها: ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]

6. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح، وأنه غفور رحيم، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/395.

(2) يقصد الأشاعرة وأهل السنة

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ الآية، قال جندب ابن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ثم هي باقية في كل‏ من فعل ما ذكره الله عز وجل، وقيل: أن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ إلى آخر الآية.

2. الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، والهجر ضد الوصل، وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة، والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الاولى للثانية، والتهاجر التقاطع، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله.

3. ﴿وَجَاهَدُوا﴾ مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا، والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود، والجهاد (بالفتح): الأرض الصلبة.

4. ﴿وَيَرْجُونَ﴾ معناه يطمعون ويستقربون، وإنما قال ﴿يَرْجُونَ﴾ وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين: أحدهما: لا يدرى بما يختم له، والثاني:لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاؤه، يقال: ما أتيتك إلا رجاؤه الخير، وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته:

فرجي الخير وانتظري إيابي‏...إذا ما القارظ العنزي آبا

وما لي في فلان رجيه، أي ما أرجو، وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها...وخالفها في بيت نوب عوامل‏

أي لم يخف ولم يبال، والرجا ـ مقصور: ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا، والعوام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/50.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿هَاجَرُوا﴾ الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى‏ موضع، وترك الأوّل لإيثار الثاني، والهجر: ضدّ الوصل، والتهاجر: التقاطع، والمراد بها هنا: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

2. المجاهدة: استخراج الجهد، جهد مجاهدة وجهادا، والجهاد والتجاهد: بذل الوسع.

3. ﴿يَرْجُونَ﴾ معناه: يطمعون، وإنما قال يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة؛ ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، والرجاء: الأمل، يقال: رجوت فلانا، أرجو رجاء ورجاوة، وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ أي: لا تخافون عظمة الله.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/249.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بحرمة الشهر في نفسه وجواز قتال المخرجين أهل المسجد الحرام منه‏ ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ فتركوا مكة وعشائرهم إذ أخرجوا من المسجد الحرام‏ ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولو في الشهر الحرام للدفع عن أنفسهم‏.

2. ﴿أُولَئِكَ﴾ وإن باشروا القتال في الشهر الحرام‏ ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ أي: جنّته على إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، وإنما ثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوّ للإيذان بأنهم عالمون بأنّ العمل غير موجب للأجر، وإنما هو على طريق التفضّل منه سبحانه، لا لأنّ في فوزهم اشتباها ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لهتكهم حرمة الشهر ﴿رَحِيمٌ﴾ بما تجاوز عن قتالهم، مع قيام دليل الحرمة فلم يعاقبهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/109.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ أوطانَهم أي فيه، أي: في سبيل الله ﴿وَجَاهَدُواْ﴾ بلغوا جهدهم في قتال أهل الشرك.

2. ﴿فِي سَبِيلِ﴾ أي: لسبيل، أي: لإعلاء سبيل ﴿اللهِ﴾ أي دينه، هم السَّرِيَّة، والأولى: العموم فيدخلون به، وكلٌّ من الإيمان والمهاجرة والجهاد في سبيل الله صفات لهم، ولكن أعاد لفظ (الَّذِينَ) إعظامًا لشأن الهجرة والجهاد كأنَّهما مستقلَّان بِرَجَاء رحمة الله لهم، ظنُّوا هم أو غيرهم أنَّهم آثمون في القتل والأسر والغنم، وأنَّهم إنْ لم يأثموا فلا أجر لهجرتهم وجهادهم، فأخبرهم الله أنَّهم أهلٌ للرَّجاء للرَّحمة، وأهل للرَّحمة والغفران، تفضُّلاً من الله جلَّ وعلا، كما قال: ﴿أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ﴾ إنعامه، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لكلِّ أحدٍ، إلَّا من هرب بالإصرار.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/25.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى حال المشركين وحكم المرتدين ناسب أن يذكر جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين؛ لأن الذهن يتوجه إلى طلبه فقال: ﴿إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله﴾

2. المهاجرة: مفارقة الأوطان والأهل، وهي من الهجر، ضد الوصل، ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة ـ فرارا بنفسه وبقومه من أذى قريش وفتنتهم ـ إلى المدينة التي عاهده من آمن من أهلها على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وجب على كل مسلم أن يتبعه في هجرته ليعتز الإسلام بأهله، ويقدر المؤمنون باجتماعهم على الدفاع عن أنفسهم، واستمر وجوب الهجرة على من قدر إلى فتح مكة، إذ خذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى، وكلمة الله هي العليا.

3. اختلف الفقهاء في حكم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام في مثل عصرنا هذا، ويؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان؛ فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن بها عن دينه بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده أو عمل بما يجب عليه، وإن كان حكام تلك البلاد من صنف المسلمين، ومن ذلك ألا يقدر المسلمون على التصريح ـ قولا وكتابة ـ بكل ما يعتقدون، ولا يمكنوا من القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجمع عليه منهما.

4. المجاهدة من الجهد وهو المشقة، وليس خاصا بالقتال، والرجاء هو توقع المنفعة من أسبابها، فالمؤمنون الذين هاجروا مع الرسول أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الحق، والذين بذلوا جهدهم في مقاواة الكفار ومقاومتهم، هم الذين يرجون رحمة الله تعالى وإحسانه رجاء حقيقيا، وهم أجدر بأن يعطوا ما يرجون، وأما طلب المنافع ودفع المضار من غير أسبابها العادية في العاديات، والشرعية في الدينيات فلا يسميان رجاء، بل تمنيا وغرورا.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها... إن السفينة لا تجري على اليبس

5. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين، ولا سيما المهاجرين المجاهدين، يغفر لهم ما عساه يفرط منهم من تقصير ويتغمدهم برحمته ورضوانه، ونعم المصير.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/313.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى حال المشركين وحكم المرتدين، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾، أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين ـ هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا فعلوها، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة، وقد هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة فرارا بنفسه وقومه من أذى قريش وفتنتهم في دينهم، بعد أن عاهده أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وتبعه المؤمنون في هجرته ليعتزّ الإسلام بأهله، ويقدروا على الدفاع عن أنفسهم إذا هم اجتمعوا، واستمروا على ذلك حتى فتح مكة، وخذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هي العليا.

2. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين، يحقق لهم رجاءهم إن شاء، بعميم فضله، وعظيم طوله، قال قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة، قد جعلهم الله أهل رجاء، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/137.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله؛ لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾..

2. رجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا.. ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق، فجاهدوا وصبروا، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة، وكلاهما خير، وكلاهما رحمة، وفازوا بمغفرة الله ورحمته: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.. وهو هو طريق المؤمنين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/229.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية تفرد الذين آمنوا وثبتوا على إيمانهم، واجتازوا المحنة، ونجوا من الفتنة ـ تفردهم بذكر خاص، وتنوّه بهم، وتدنيهم من رحمة الله ورضوانه، وذلك في مواجهة أولئك الذين واجهوا المحنة فلم يصبروا ولم يصابروا، ففروا من ميدان المعركة تاركين دينهم الذي ارتضوه سلبا ملقى في ساحة الحرب!

2. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فصل بين الذين آمنوا وبين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فلم يجعلهم نسقا واحدا داخلا في صلة الموصول الأول، بل أفردهم بذكر خاص، فكأن الذين آمنوا صنف، والذين هاجروا وجاهدوا صنف آخر.. ولو كانوا صنفا واحدا لجاء النظم هكذا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾، ولكن هكذا جاء نظم القرآن بجلاله وروعته وإعجازه، ليضع موازين الحق فيما يقول.. فالمؤمنون ـ مطلق الإيمان، بلا هجرة ولا جهاد ـ هم صنف وحدهم في المؤمنين، والمؤمنون المهاجرون المجاهدون، هم صنف آخر يختلف عن الصنف الأول بميزات وفضائل.. ويحق لهم بهذه الميزات وتلك الفضائل أن ينوه بهم، ويرفع شأنهم بين المؤمنين، إذ الإيمان بلا عمل نبات لا ظل له، ولا ثمر فيه.

3. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ وضع الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله موضع الرجاء من رحمة الله، ولم يعطهم الثواب والمغفرة والرضوان على القطع والتحقيق، وذلك ليقيمهم من هذا الرجاء على عمل دائم، وجهاد متصل، وهذا على خلاف ما إذا سوّى حسابهم بعد الهجرة وبعد كل موقف من مواقف الجهاد، فقد يقعد بهم هذا عن أن يضيفوا جديدا، أو يخفّوا للجهاد، مرة بعد مرّة.

4. ثم إنه من جهة أخرى يرى الذين آمنوا ـ مجرد إيمان ـ ولم يهاجروا ولم يجاهدوا ـ يريهم شناعة موقفهم ومغبّة تقصيرهم بتخلفهم عن ركب المهاجرين والمجاهدين، ويرفع لأعينهم بعد ما بينهم وبين مواقع رحمة الله ورضوانه، إذ يرون المهاجرين المجاهدين ولمّا يلمسوا بأيديهم مواقع الرحمة والرضوان، وأنهم ما زالوا على رجاء! فكيف بالذين آمنوا، ولم يهاجروا ولم يجاهدوا؟ إن المدى بعيد بينهم وبين أن يصلوا إلى جانب الأمن والسّلامة، وإن عليهم أن يحثّوا المطيّ إلى ميدان الهجرة والجهاد، ليلحقوا بركب المهاجرين المجاهدين، وليكونوا بمعرض من رحمة الله ورضوانه!.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/243.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الفخر في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:

أ. أحدهما: أن عبد الله بن جحش قال يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا؟ فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا (يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة)

ب. الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216] أتبع ذلك بذكر من يقول به.

2. الذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد، وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.

3. ﴿الذين هاجروا﴾ هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، مشتق من الهجر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا، قال عبدة بن الطيب:

إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة...بكوفة الجند غالت ودّها غول‏

4. المجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.

5. ﴿فِي﴾ للتعليل، و﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية الإسلامية.

6. كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء، وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.

7. الرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/320.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى حال المؤمنين ومنزلتهم من ربهم ليزول ندمهم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

2. هذه أوصاف ثلاثة لأولئك المقربين الصديقين:

أ. أولها ـ أنهم آمنوا، والإيمان تصديق للحق، وإذعان لحكمه، وتنفيذ لأوامره، وإخلاص فى القلب، ونور فى البصيرة، وذلك وحده كاف للجزاء إن قام المؤمن به، وحقق لوازمه وخواصه، وصار شعاره ومظهره، وسريرته وحقيقته.

ب. ثانيها ـ الهجرة، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ وكرر الموصول هنا للإشارة إلى أن الهجرة وحدها عمل زائد على الإيمان يستحق وحده الثواب لأنه ترك للمال والأهل، وطلب للعزة وإعزاز الدين، بدل البقاء فى الذلة والرضا بحياة المستضعفين وقد أمر الله بالهجرة عند الاستضعاف، ونهى عن البقاء تحت نير غير المسلمين؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ومَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وسَعَةً ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ [النساء]

ج. ثالثها ـ الجهاد فى سبيل الله تعالى، وهو باب الجنة، وهو رهبانية هذه الأمة، فإن النبى صلى اللّه عليه وسلم يقول: (رهبانية هذه الأمة فى الجهاد فى سبيل الله عزّ وجل)«رواه أحمد(13306) فى مسنده.».

3. بين سبحانه جزاءهم فقال: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ أى إن أولئك المتصفين بهذه الصفات ليس من شأنهم أن يخافوا العذاب لخطأ غير مقصود فى الجهاد، بل إنهم يرجون الرحمة والثواب، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب، فلا تخافوا فى الجهاد إلا الله، ومن أخطأ فله أجر.

4. ثم ذيل سبحانه الجملة الكريمة بقوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لبيان أنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده فيقبل إسلام الكافرين والإسلام يجب ما قبله، وكما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال‏] ويقبل توبة العاصى ويدنيه، وإن غفران الذنوب تشجيع على الطاعات وهجر المنكرات، وعند اليأس تموت النفس ولا يقدع الهوى، وإن ذلك كله برحمة الله تعالى لعباده آحادا وجماعات، فمن مصلحة الآحاد أن يهجروا المعاصى ويكونوا عاملين فى بناء الفضيلة، ومن مصلحة الجماعة تكثير العاملين على الخير وإقامة الحق والعدل، والله من ورائهم محيط.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/681.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، بعد ان ذكر الله جل جلاله حال المشركين والمرتدين وعقابهم ناسب أن يذكر المؤمنين وثوابهم، والذين هاجروا هم الذين هاجروا من مكة الى المدينة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والمجاهدون هم الذين بذلوا جهدهم في نصرة الإسلام، ومقاومة أعدائه.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/323.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ فهم يرجون رحمة الله التي لا تنال الكافرين البعيدين عن أجواء الإيمان، فإذا أخطأ هؤلاء المؤمنون في بعض ممارساتهم وكلماتهم، فإنهم يرجون ـ في عمق إيمانهم ـ أن يرحمهم الله، ويغفر لهم ذنوبهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، انطلاقا من إيمانهم بالحقيقة الإلهية ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/177.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ﴾ لأنهم يعلمون أنهم بإيمانهم وهجرتهم وجهادهم مظنة أن يرحمهم الله فيصرف عنهم عذاب جهنم، فهم لكونهم في سبيل الله يرجون رحمة الله مع كونهم يحذرون الآخرة ويخافون سوء الخاتمة.

2. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فقد أصابوا في رجائه من حيث أن سببه صحيح، ومن حيث أنهم يرجون رحمة الغفور الرحيم؛ الذي هو أهل أن يرجى لأنه أهل أن يغفر ويرحم، وهذا الرجاء الصحيح المحمود إذا حصل للمؤمن المهاجر في سبيل الله المجاهد في سبيل الله حصل له به فرح وسرور، ورغبة في الاستمرار على سببه، ونشاط في العمل، بخلاف المتمني المخادع لنفسه المتبع لهواه العامل عمل النار وهو يدّعي أنه يرجو رحمة الله فإنه يزداد فجوراً وبعداً عن التوبة، وإني لأظن أن الرجاء القلبي خاص بالمؤمن، وأن الفاجر بفقده للإيمان الصادق غافل عن الآخرة لا يدخل قلبه رجاء كما لا يدخله خوف لعدم إيمانه بالآخرة إيماناً يبعث على الإستعداد لها فادّعاؤه للرجاء إنما هو قول بلسانه أما قلبه فهو غافل عن الآخرة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/322.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الكريمة تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

2. هذه الطائفة الّتي يتحلّى أفرادها بهذه الصّفات الثلاث المهمّة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأ بسبب جهلهم وعدم اطّلاعهم (كما صدر ذلك من عبد الله بن جحش الوارد في سبب النزول) إلّا أنّ الله تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/102.

96. الخمر والميسروالإنفاق والعفو

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈96⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: 219]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

عمر:

روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) أنّه قال اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ التي في سورة البقرة، فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في سورة النساء [٤٣]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فكان منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم، بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة [٩٠ ـ ٩١]، فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، قال عمر: انتهينا انتهينا(1).

__________

(1) أحمد: ١/٤٤٢ ـ: ٤٤٣

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال ـ في حديث الأربعمائة ـ: ومن شرب الخمر وهو يعلم أنها حرام سقاه الله من طينة خبال وإنْ كان مغفورا(1).

2. روي أنّه سئل: إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة، قال: نعم، إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا، وسرق، وقتل النفس التي حرم الله، وترك الصلاة(2).

3. روي أنّه قال: كلّما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر(3).

__________

(1) الخصال: 621/10

(2) الكافي: 6/403/8

(3) أمالي الطوسي 1/345

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كل شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز(1).

2. روي أنّه قال: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن العفو، فقال: العفو على ثلاثة أنحاء: نحو تجاوز عن الذنب، ونحو في القصد في النفقة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، ونحو في الإحسان فيما بين الناس: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧] (2).

3. روي أنّه قال: أول ما نزل تحريم الخمر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ الآية؛ قال بعض الناس: نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم، ثم نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فقال بعض الناس: نشربها، ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] فانتهوا، فنهاهم، فانتهوا(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٨/٥٥٣

(2) الدرّ المنثور: ابن المنذر

(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ قال الميسر: القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ يعني: ما ينقص من الدين عند شربها، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ يقول: فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها، ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ يقول: ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها؛ فأنزل الله بعد ذلك: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها، فما يأتي الظهر حتى يذهب عنهم السكر، ثم إن ناسا من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضا، وتكلموا بما لا يرضى الله من القول؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ﴾ [المائدة: ٩٠]، فحرم الخمر، ونهى عنها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، يعني: ما ينقص من الدين عند شربها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ ما يذهب من الدين، والإثم فيه أكبر مما يصيبون من فرحتها، ولذتها(4).

5. روي أنّه قال: نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن التحريش بين البهائم(5).

6. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ الآية نسختها ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩١] (6).

7. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعد ما حرما (7).

8. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ هو ما لا يتبين في أموالكم(8).

9. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم(9).

10. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ ما يفضل عن أهلك، وفي لفظ: قال الفضل عن العيال(10).

11. روي أنّه قال: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ لم تفرض فيه فريضة معلومة، ثم قال ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة(11).

12. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها(12).

13. روي أنّه قال: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا ما يأكل، حتى يتصدق عليه(13).

14. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ كان هذا قبل أن تفرض الصدقة(11).

__________

(1) النحاس في ناسخه: ص١٨٦

(2) ابن جرير: ٣/٦٧٦

(3) ابن جرير: ٣/٦٧٨

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٢

(5) الترمذي: 1708

(6) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٩

(7) ابن جرير: ٣/٦٧٩

(8) ابن جرير: ٣/٦٨٨

(9) ابن جرير: ٣/٦٨٩

(10) سعيد بن منصور: ٣٦٥ ـ تفسير

(11) ابن جرير: ٣/٦٩٤

(12) ابن جرير: ٣/٦٩٧

(13) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨١

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزل في الخمر ثلاث آيات؛ فأول شيء نزل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية، فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله، دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله، لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠]، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (حرمت الخمر(1).

2. روي عن ابن جبير قال: مر ابن عمر بفتيان من قريش نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحبها كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعن من اتخذ الروح غرضا(2).

__________

(1) أبو داوود الطيالسي: ٣/٤٦٢

(2) البخاري: 5514

ابن عمرو:

روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخمر والميسر والمكوبة والغبيراء وقال: (كل مسكر حرامٌ(1).

2. روي أنّه قال: نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخمر والميسر والمكوبة والغبيراء وقال: (كل مسكر حرامٌ(1).

__________

(1) أبو داوود: 3685

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كنا نشرب الخمر؛ فأنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية، فقلنا: نشرب منها ما ينفعنا؛ فأنزلت في المائدة [٩٠]: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الآية، فقالوا: اللهم، قد انتهينا(1).

2. روي أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٩ ـ: ٣٩٠

(2) الترمذي: 1295

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الخمر من ستة أشياء: التمر، والزبيب، والحنطة، والشعير والعسل، والذرة(1).

2. روي أنّه سئل عن النبيذ؟ فقال: قد شربه قوم، وحرمه قوم صالحون، فكان شهادة الذين دفعوا بشهادتهم شهواتهم أولى أن تقبل من الذين جروا بشهادتهم شهواتهم(2).

3. روي أنّه قال: الذنوب التي تهتك العصم: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب(3).

__________

(1) تفسير العياشي: 1/106/313

(2) الاحتجاج: ص315

(3) معاني الأخبار: ص270

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية؛ كرهها قوم لقوله: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، وشربها قوم لقوله: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، حتى نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فكانوا يدعونها في حين الصلاة، ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الآية، فقال عمر: ضيعة لك، اليوم قرنت بالميسر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾؛ لأن في شرب الخمر والقمار ترك الصلاة، وترك ذكر الله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لأحرجكم(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٨٠ ـ: ٦٨١

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩١

(3) ابن المنذر ـ كما في فتح الباري: ٥/٣٩٤

أبو القموص:

روي عن أبي القموص زيد بن علي (ت 101 هـ) أنّه قال: أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث مرات: فأول ما أنزل قال الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان، فدخلا في الصلاة، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو؛ فأنزل الله تعالى فيهما: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣]، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها ـ فيما زعم أبو القموص ـ رجل، فجعل ينوح على قتلى بدر:

تحيي بالسلامة أم عمرو... وهل لك بعد رهطك من سلام

ذريني أصطبح بكرا، فإني... رأيت الموت نقب عن هشام

وود بنو المغيرة لو فدوه... بألف من رجال أو سوام

كأي بالطوي طوي بدر... من الشيزي يكلل بالسنام

كأي بالطوى طوي بدر... من الفتيان والحلل الكرام

فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل ـ فرفع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا كان بيده ليضربه ـ قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله، والله، لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩٠ ـ ٩١]، فقال عمر بن الخطاب: انتهينا، انتهينا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٨٢

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ المنافع قبل التحريم(1).

__________

(1) النحاس في ناسخه: ١/٥٧٥

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الميسر: القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ هذا أول ما عيبت به الخمر(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ثمنها، وما يصيبون من السرور(3).

4. روي أنّه قال: العفو: صدقة عن ظهر غنى(4).

5. روي عن ابن أبي نجيح قال: كان مجاهد يقول: العفو: الصدقة المفروضة(5).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٨٨

(2) تفسير مجاهد: ص٢٣٢

(3) ابن جرير: ٣/٦٧٧

(4) ابن جرير: ٣/٦٩٠

(5) تفسير مجاهد: ص٢٣٣

القاسم:

1. روي أنّ القاسم بن محمد (ت 106 هـ) سئل عن النرد، أهي من الميسر؟ قال: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٤/١١٩٧

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: العفو: اليسر من كل شيء(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٣

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ ذلك ألا تجهد مالك، ثم تقعد تسأل الناس(1).

2. روي أنّه قال: العفو: الفضل، ولا لوم على الكفاف(2).

3. روي أنّه قال: يعني: ما فضل عن نفقتك، أو نفقة عيالك(3).

4. روي عن الصعق بن حزن التميمي: شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قال: هي والله لمن تفكر فيها، ليعلمن أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وليعلمن أن الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء(4).

__________

(1) عبد بن حميد، تفسير ابن كثير: ١/٥٨٣

(2) عبد بن حميد

(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٢٠

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٤

ابن سيرين:

روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنرد على القيام، والصياح، والريشة يجعلها الرجل في رأسه(1).

2. روي أنّه قال: كل شيء له خطر فهو من الميسر(2).

__________

(1) ابن جرير الطبري: ٣/٦٧٢

(2) ابن جرير: ٣/٦٧٢

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها وحاملها، والمحمولة إليه، وبايعها، ومشتريها، وآكل ثمنها(1).

2. روي أنّه قال: يأتي شارب الخمر يوم القيامة مسودا وجهه، مدلعا لسانه، يسيل لعابه على صدره، وحق على الله أن يسقيه من بئر خبال، قيل: وما بئر خبال؟ قال بئر يسيل فيها صديد الزناة(2).

3. روي أنّه قال: حرم الله الخمر لفعلها وفسادها(3).

4. روي أنّه قال: من شرب الخمر فسكر منها لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن ترك الصلاة في هذه الأيام ضوعف عليه العذاب لترك الصلاة(4).

5. روي أنّه قال: إن الله جعل للمعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر(5).

6. روي عن إسماعيل الكاتب، قال أقبل الإمام الباقر في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش، فقالوا: هذا إله أهل العراق، فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم فسأله، فأتاه شاب منهم فقال: يا عم! ما أكبر الكبائر؟ قال شرب الخمر، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا له: عد إليه فعاد إليه، فقال له: ألم أقل لك يا ابن أخ شرب الخمر؟ فأتاهم، فأخبرهم، فقالوا له: عد إليه، فلم يزالوا به حتى عاد إليه، فقال له: ألم أقل لك: شرب الخمر!؟ إن شرب الخمر يدخل صاحبه في الزنا والسرقة وقتل النفس التي حرم الله وفي الشرك بالله، وأفاعيل الخمر تعلو على كل ذنب، كما تعلو شجرتها على كل شجرة(6).

7. روي أنّه قال: الغناء عش النفاق، والشرب مفتاح كل شر، ومدمن الخمر كعابد وثن، مكذب بكتاب الله، لو صدق كتاب الله لحرم ما حرم الله(7).

8. روي أنّه قال: من شرب المسكر ومات وفي جوفه منه شيء لم يتب منه، بعث من قبره مخبلا مائلا شقه، سائلاً لعابه، يدعو بالويل والثبور(8).

9. روي أنّه سئل عن النبيذ؟ فقال: حرم الله الخمر بعينها، وحرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من الأشربة كل مسكر(9).

10. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا اخمر فهو خمر، وما أسكر كثيره وقليله فحرام.. فأنزل الله تحريمها بعد ذلك، وإنما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر، فلما نزل تحريمها خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقعد في المسجد، ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلها، وقال: هذه كلها خمر حرمها الله، فكان أكثر شيء أكفي ذلك اليوم الفضيخ، ولم أعلم اكفئ يومئذ من خمر العنب شيء، إلاّ إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا، فأما عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شيء، وحرم الله الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها(10).

11. روي أنّه سئل عن النبيذ، أخمر هو؟ فقال: ما زاد على الترك جودة فهو خمر(11).

12. روي عن أبي البلاد، قال: كنت عند الإمام الباقر، فقلت: يا جارية اسقيني ماء، فقال لها: اسقيه من نبيذي، فجاءت بنبيذ مريس في قدح من صفر، قلت: لكن أهل الكوفة لا يرضون بهذا، قال فما نبيذهم؟ قلت: يجعلون فيه القعوة، قال وما القعوة؟ قلت: الداذي، قال وما الداذي؟ قلت: ثفل التمر يضرى به الاناء حتى يهدر النبيذ، فيغلى ثم يسكن فيشرب، قال ذاك حرام(12).

روي عن محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر، قال: سألته عن نبيذ قد سكن غليانه، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كل مسكر حرام، قال وسألته عن الظروف؟ فقال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الدباء والمزفت، وزدتم أنتم الخثم، يعني الغضار، والمزفت يعني: الزفت الذي في الزّق، ويصير في الخوابي يكون أجود للخمرة، وسألته عن الجرار الخضر والرصاص؟ فقال: لا بأس بها(13).

13. روي أنّه قال: من فعل خمسة أشياء فلا بدّ له من خمسة: ولا بدّ لصاحب الخمسة من النار، الأولى: من شرب المثلث فلا بدّ له من شرب الخمر ولا بدّ لشارب الخمر من النار، الثاني: من لبس الثياب الفاخرة فلا بدّ له من الكبر ولا بدّ لصاحب الكبر من النار، الثالث: من جلس على بساط السلطان فلا بدّ أن يتكلّم بهوى السلطان ولا بدّ لصاحب الهوى من النار، الرابع: من جالس النساء فلا بدّ له من الزنا ولا بدّ للزاني من النار، الخامس: من باع واشترى من غير فقه فلا بدّ له من الربا ولا بدّ لآكل الربا من النار(14).

14. روي أنّه قال: العفو: ما فضل عن قوت السنة(15).

__________

(1) الكافي: 6/429/4

(2) الكافي: 6/396/3

(3) من لا يحضره الفقيه: 3/218/1009

(4) من لا يحضره الفقيه: 3/373/1764

(5) الكافي: 6/403/6

(6) الكافي: 6/429/3

(7) علل الشرائع: 476/3

(8) الكافي: 6/398/13

(9) الكافي: 6/408/5

(10) تفسير القمي: 1/180

(11) الكافي: 6/412/5

(12) الكافي: 6/416/4

(13) الكافي: 6/418/1

(14) إرشاد القلوب: ص194

(15) مجمع البيان: 2/558

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الميسر: هو القمار كله، ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فذمهما ولم يحرمهما، وهي لهم حلال يومئذ، ثم أنزل هذه الآية في شأن الخمر، وهي أشد منها، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فكان السكر منها حراما، ثم أنزل الآية التي في المائدة [٩٠]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فجاء تحريمها في هذه الآية؛ قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا(2).

3. روي أنّه قال في الآية: من تفكر في الدنيا والآخرة عرف فضل إحداهما على الأخرى؛ عرف أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء، ثم دار جزاء، فكونوا ممن يصرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة(3).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(2) عبد الرزاق: ١/٨٨

(3) ابن جرير: ٣/٦٩٨

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ كان أنزل قبل ذلك في سورة بني إسرائيل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤]، فكانوا لا يخالطونهم في مطعم ولا غيره، فاشتد ذلك عليهم؛ فأنزل الله الرخصة: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لو شاء الله لأعنتكم؛ فلم تؤدوا فريضة، ولم تقوموا بحق(2).

3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، فذمهما ولم يحرمهما، وهي لهم حلال يومئذ(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٠

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٩ ـ

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الميسر: كانوا يشترون الجزور، فيجعلونها أجزاء، ثم يأخذون القداح فيلقونها، وينادى: يا ياسر الجزور، يا ياسر الجزور، فمن خرج قدحه أخذ جزءا بغير شيء، ومن لم يخرج قدحه غرم ولم يأخذ شيئا(1).

2. روي أنّه قال: نزل أربع آيات في تحريم الخمر: أولهن التي في البقرة، ثم نزلت الثانية: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٦٧]، ثم أنزلت التي في النساء [٤٣]، بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي بعض الصلوات إذ غنى سكران خلفه؛ فأنزل الله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ الآية، فشربها طائفة من الناس، وتركها طائفة، ثم نزلت الرابعة التي في المائدة [٩٠]، فقال عمر بن الخطاب: انتهينا، يا ربنا(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الميسر: القمار(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ والعفو: فضل المال، ما يفضل عن الأهل والعيال، ولا تجهد مالك ثمّ تحتاج أن تسأل النّاس(1).

3. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ معناه لعلّكم تتفكرون في الدّنيا فتعرفون فضل الآخرة على الدّنيا(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 98

(2) تفسير الإمام زيد، ص 99

ابن قيس:

روي عن محمد بن قيس (ت 126 هـ) أنّه قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة أتاه الناس، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوه عن ذلك؛ فأنزل الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخصة؛ نأكل الميسر، ونشرب الخمر، ونستغفر من ذلك، حتى أتى رجل صلاة المغرب، فجعل يقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ١ ـ ٣]، فجعل لا يجوز ذلك، ولا يدري ما يقرأ؛ فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣]، فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة، فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون، فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩٠ ـ ٩١]، فقالوا: انتهينا، يا رب(1).

__________

(1) ابن جرير: ٨/٦٥٨

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إثم الخمر: أن الرجل يشرب فيسكر؛ فيؤذي الناس، وإثم الميسر: أن يقامر الرجل؛ فيمنع الحق، ويظلم(1).

2. روي أنّه قال: أما منافعهما فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار(2).

3. روي أنّه قال: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ هذا نسخته الزكاة(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٧٥

(2) ابن جرير: ٣/٦٧٨

(3) ابن جرير: ٣/٦٩٤

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: في سورة النساء [٤٣]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وقال في سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فنسخت في المائدة [٩٠]، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ علوم القرآن: ٣/٧٠

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ يقول: الطيب منه يقول: أفضل مالك وأطيبه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٨٩

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله نفقة سنة أمسكه، وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك، وتصدق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة، فنسخت هذه الآية، وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٥٣

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في وصيته للإمام علي، قال يا عليّ من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم، فقال الإمام علي: لغير الله؟ فقال: نعم والله، صيانة لنفسه، فيشكره الله على ذلك(1).

2. روي أنّه سئل عن الخمر، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن أول ما نهاني عنه ربي جل جلاله عن عبادة الأوثان، وشرب الخمر، وملاحاة الرجال(2).

3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من شرب الخمر بعد أن حرمها الله على لساني فليس بأهل أن يزوج إذا خطب، ولا يصدق إذا حدث، ولا يشفع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فأكلها أو ضيعها فليس للذي ائتمنه على الله أن يأجره، ولا يخلف عليه(3).

4. روي أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الجلوس على مائدة، يشرب عليها الخمر(4).

5. روي أنّه سئل عن الدن يكون فيه الخمر ثم يجفّف، يجعل فيه الخل؟ قال: نعم(5).

6. روي أنّه سئل عن الرجل إذا باع عصيرا، فحبسه السلطان حتى صار خمرا، فجعله صاحبه خلا، فقال: إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس به(6).

7. روي أنّه سئل: يكون لي على الرجل الدراهم، فيعطيني بها خمرا، فقال: خذها ثم أفسدها.. قال علي: واجعلها خلا(7).

8. روي أنّه سئل عن الخمر يجعل فيها الخل؟ فقال: لا، إلا ما جاء من قبل نفسه(8).

9. روي عن بصير، عن الإمام الصادق، انه سئل عن الخمر تعالج بالملح وغيره لتحول خلا قال: لا بأس بمعالجتها، قلت: فإني عالجتها، وطينت رأسها، ثم كشفت عنها، فنظرت إليها قبل الوقت، فوجدتها خمرا، أيحل لي إمساكها؟ قال لا بأس بذلك، إنما أراد تك أن تتحول الخمر خلا، وليس إرادتك الفساد(9).

10. روي أنّه قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وقد علم الله أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، إن الدين إنما يحول من خصلة ثم أخرى، فلو كان ذلك جملة قطع بالناس دون الدين(10).

11. روي أنّه قال: شارب الخمر يأتي يوم القيامة مسودا وجهه، مائلا شفته مدلعا لسانه، ينادي العطش، العطش(11).

12. روي أنّه قال: من شرب جرعة من خمر لعنه الله وملائكته ورسله والمؤمنون، وإن شربها حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده وركبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة(12).

13. روي أنّه قال: من ترك المسكر صيانة لنفسه سقاه الله من الرحيق المختوم(13).

14. روي عن الصحاري النخاس، عن الإمام الصادق أنّه قال: قلت: الرجل يشرب الخمر، قال: بئس الشراب الخمر، فكرّر ذلك ثلاث مرات ثم قال تريد ماذا؟ قلت: يقبل الله صلاته؟ قال إن علم الله أنه إذا قام منها استغفره، ولم ينو أنه يعود إليها قبل الله صلاته من ساعته، وإنْ كان غير ذلك فذاك إلى الله متى شاء قبله، ومتى شاء رده(14).

15. روي أنّه سئل عن شارب الخمر، فقال: لا يقبل الله منه صلاة مادام في عروقه منها شيء(15).

16. روي أنّه قال: ثلاثة لا يدخلون الجنة: السفاك للدم، وشارب الخمر، ومشاء بالنميمة(16).

17. روي عن المفضل بن عمر قال: قلت للإمام الصادق: لم حرم الله الخمر؟ قال: حرم الله الخمر لفعلها وفسادها، لان مدمن الخمر تورثه الارتعاش، وتذهب بنوره وتهدم مروته، وتحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم، وسفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه، وهو لا يعقل ذلك، ولا يزيد شاربها إلا كل شر(17).

18. روي أنّه قال: يقول الله عزّ وجلّ: من شرب مسكرا أو سقاه صبيا لا يعقل سقيته من ماء الحميم مغفورا له أو معذباّ، ومن ترك المسكر ابتغاء مرضاتي أدخلته الجنّة، وسقيته من الرحيق المختوم، وفعلت به من الكرامة ما فعلت بأوليائي(18).

19. روي أنّه سئل عن الرجل يكون مسلما عارفا، إلا أنه يشرب المسكر: هذا النبيذ، فقال: إن مات فلا تصل عليه(19).

20. روي أنّه قال ـ في حديث شرائع الدين ـ: والشراب فكل ما أسكر كثيره فقليله حرام(20).

21. روي أنّه قال: شارب الخمر إن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوه، وإن شهد فلا تزكوه، وإن خطب إليكم فلا تزوجوه، فإن من زوج ابنته شارب خمر فكأنما قادها إلى النار، ومن زوج ابنته مخالفا على دينه فقد قطع رحمها، ومن ائتمن شارب خمر لم يكن له على الله ضمان(21).

22. روي أنّه قال: لا تجالسوا شارب الخمر، ولا تزوجوه، ولا تتزوجوا إليه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشيعوا جنازته، إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، دالعا لسانه من قفاه(2).

23. روي أنّه قال: ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة، ويثب على امه وابنته واخته وهو لا يعقل(22).

24. روي أنّه سئل: أشرب الخمر شر أم ترك الصلاة؟ فقال: شرب الخمر، لأنه يصير في حال لا يعرف ربه(23).

25. روي أنّه قال: الشراب مفتاح كل شرّ، ومدمن الخمر كعابد وثن، وإن الخمر رأس كل إثم، وشاربها مكذب بكتاب الله، لو صدق كتاب الله حرم حرامه(24).

26. روي أنّه قال: إن الله جعل للشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب(25).

27. روي أنّه قال: إن الخمر رأس كل إثم(26).

28. روي أنّه قال: لم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها؟ قال حرمها لأنها أم الخبائث، ورأس كل شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه، فلا يعرف ربّه، ولا يترك معصية إلا ركبها، ولا يترك حرمة إلا انتهكها، ولا رحما ماسة إلاّ قطعها، ولا فاحشة إلا أتاها، والسكران زمامه بيد الشيطان، إن أمره أن يسجد للأوثان سجد، وينقاد حيثما قاده(27).

29. روي أنّه قال: من شرب النبيذ على أنه حلال خلد في النار، ومن شربه على أنه حرام عذب في النار(28).

30. روي أنّه قال: شارب المسكر لا عصمة بيننا وبينه(29).

31. روي أنّه قال: من شرب مسكرا فلم تقبل منه صلاة أربعين صباحا، فإن مات في الاربعين مات ميتة جاهلية، وإن تاب تاب الله عليه(30).

32. روي أنّه قال: إن أهل الري من المسكر في الدنيا يموتون عطاشا، ويحشرون عطاشا، ويدخلون النار عطاشا(31).

33. روي عن فضيل بن يسار، عن الإمام الصادق، قال: قلت له: كيف كان يصنع أمير المؤمنين بشارب الخمر؟ قال كان يحدّه، قلت: فإن عاد؟ قال كان يحدّه، قلت: فان عاد؟ قال كان يحده ثلاث مرّات، فان عاد كان يقتله، قلت: كيف كان يصنع بشارب المسكر؟ قال مثل ذلك، قلت: فمن شرب شربة مسكر كمن شرب شربة خمر؟ قال سواء.. حرم الله الخمر، وحرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كل مسكر، فأجاز الله ذلك له(32).

34. روي أنّه قال: ليس مدمن الخمر الذي يشربها كلّ يوم، ولكنه الموطّن نفسه، أنه إذا وجدها شربها(33).

35. روي أنّه قال: مدمن المسكر الذي إذا وجده شربه(34).

36. روي أنّه قال: لا يدخل الجنة العاق لوالديه، والمدمن الخمر، ومنّان بالخير إذا عمله(35).

37. روي أنّه قال: المضطر لا يشرب الخمر، فإنها لا تزيده إلا شراً، ولأنه إن شربها قتلته، فلا يشرب منها قطرة(36).

38. روي أنّه قال: لا تجالسوا شرّاب الخمر، فإن اللعنة إذا نزلت عمت من في المجلس(37).

39. روي أنّه سئل عن رجلين نصرانيّين، باع أحدهما من صاحبه خمرا أو خنازير، ثم أسلما قبل أن يقبض الدراهم، هل تحل له الدراهم؟ قال لا بأس(19).

40. روي أنّه سئل عن رجل يشرب الخمر فبزق، فأصاب ثوبي من بزاقه، قال ليس بشيء(38).

41. روي أنّه سئل عن الرجل أصابه عطش حتى خاف على نفسه، فأصاب خمرا، قال يشرب منه قوته(19).

42. روي أنّه سئل عن قول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، فقال: (عنى بذلك القمار، وأما قوله‏ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29] عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ على المشركين وحده يجيء في منازلهم فيقتل فنهاهم اللّه عن ذلك(39).

43. روي أنّه قال في قول اللّه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29] ‏: نهى عن القمار، وكانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم اللّه عن ذلك(40).

44. روي أنّه سئل عن اللعب بالشطرنج، قال: إنّ المؤمن لفي شغل عن اللعب(41).

45. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، العفو: الوسط(42).

46. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: 219]: ﴿الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً﴾ نزلت هذه بعد هذه، هي الوسط(43).

47. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، الكفاف، وفي رواية: (القصد(44).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 4/255/821

(2) أمالي الصدوق: 339/1

(3) الكافي: 6/397/9

(4) من لا يحضره الفقيه: 4/4/1

(5) الكافي: 6/428/2

(6) التهذيب: 9/117/507

(7) التهذيب: 9/118/508

(8) التهذيب: 9/118/510

(9) مستطرفات السرائر: 60

(10) الكافي: 6/395/1

(11) الكافي: 6/397/8

(12) الكافي: 6/399/16

(13) الكافي: 6/420/9

(14) التهذيب: 9/110/479

(15) عقاب الاعمال: 290/7

(16) الخصال: 180/244

(17) علل الشرائع: 476/2

(18) الكافي: 6/397/7

(19) التهذيب: 9/116/502

(20) الخصال: 609/9

(21) من لا يحضره الفقيه: 4/41/133

(22) الكافي: 6/403/7

(23) الكافي: 6/402/1

(24) الكافي: 403/4

(25) الكافي: 6/403/5

(26) الكافي: 6/402/2

(27) الاحتجاج: ص346

(28) الكافي: 6/398/11

(29) الكافي: 6/398/12

(30) الكافي: 6/400/2

(31) الكافي: 6/400/17

(32) بصائر الدرجات: ص400/12

(33) الكافي: 6/405/2

(34) الكافي: 6/405/3

(35) المحاسن: 125/142

(36) علل الشرائع: 478/1

(37) من لا يحضره الفقيه: 4/41/132

(38) التهذيب: 9/115/498

(39) تفسير العيّاشي 1/235

(40) تفسير العيّاشي 1/236

(41) قرب الإسناد: ص81

(42) الكافي: 4/52

(43) تفسير العيّاشي: 1/106

(44) تفسير العيّاشي: 1/106 و317

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر الله تعالى، وركوب المحارم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، يعني بالمنافع: اللذة، والتجارة في ركوبهما قبل التحريم، والمنفعة في الميسر: أن بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، يعني: المقامر(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لآثمكم في دينكم ـ نظيرها في براءة قوله سبحانه: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم﴾ [التوبة: ١٢٨] يقول: ما أثمتم، فحرم عليكم خلطتهم في الذي لهم؛ كتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ فلم تنتفعوا بشيء منه(2).

4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في ملكه، ﴿حَكِيمٌ﴾ يعني: ما حكم في أموال اليتامى(2).

5. روي أنّه قال:: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾، يعني: [فضل قوتك، فإن كان الرجل من أصحاب الذهب والفضة أمسك الثلث، وتصدق بسائره؟]، وإن كان من أصحاب الزرع والنخل أمسك ما يكفيه في سنته، وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه يومه ذلك، وتصدق بسائره، فبين الله تعالى ما ينفقون في هذه الآية، فقال: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾، يعني: فضل القوت(3).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٨

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٩

(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٣

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية كلها قال: نسخت ثلاثة: في سورة المائدة، وبالحد الذي حد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وضرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يضربهم بذلك حدا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدا مسمى وهو حد، وقرأ: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ [المائدة: ٩٠] (1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه، ولا يتركون عيالهم جوعا، ويتصدقون به على الناس(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٨٦

(2) ابن جرير: ٣/٦٨٧

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن عبد الحميد بن سعيد قال: بعث الإمام الكاظم غلاما يشتري له بيضا فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلمّا أتى به أكله فقال مولى له: إنّ فيه من القمار، فدعا بطشت فتقيّأه(1).

2. روي أنّه سئل عن اللّعب بأربعة عشر وشبهها، هل يصلح؟ فقال: لا نستحبّ شيئا من اللّعب غير الرهان والرمي(2).

__________

(1) الكافي 5/123

(2) مسائل عليّ بن جعفر: ص162

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في سياق كلام عن الأشربة: (وأما قول الله عز وجل: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فإن المنافع هو: ما كان ينتفعون به في الجاهلية قبل الاسلام من: بيعها، والانتفاع بثمنها، والربح فيها؛ فحرمها الله تبارك وتعالى عليهم، وأعلمهم أن اثمها أكبر من الانتفاع بثمنها وربحها(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/98

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ بعد الحرمة ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قبل الحرمة، ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ بعد الحرمة ﴿أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ قبل التحريم، والمنفعة في الميسر: بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، وهو القمار، وذلك أن نفرا كانوا يشترون الجزور فيجعلون لكل رجل منهم سهما، ثم يقترعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل، فيكون ثمن الجزور عليه وحده، ولا حق له في الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم، وقيل: يقسم بين الفقراء؛ فذلك الميسر.

2. ثم قال ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر الله، وركوب المحارم والفواحش، ثم قال ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ يعنى التجارة، واللذة، والربح، ثم اختلف فيه:

أ. قال قوم: إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ والإثم محرم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ﴾ [الأعراف: 33]

ب. وقال قوم: لم تحرم بهذه الآية؛ إذ فيها ذكر النفع، ولكن حرمت بقوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ﴾ [المائدة: 90]، والرجس محرم، وقال الله تعالى: ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: 90]، وعمل الشيطان محرم، ثم أخبر في آخرها أنه: ﴿يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 91]، وذلك كله محرم.

3. الأصل عندنا(2) في هذا: أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجة والمعونة لهم؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء، فإذا حرم الله هذا ثبت أن المقرون به أحق في الحرمة مع ما فيه من الضرر الذي ذكرنا، والله أعلم.

4. في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ ولم يبين في السؤال أنه عن أي أمرهما كان السؤال؟ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ كأن السؤال كان (عما فيهما)؟ فقال: فيهما كذا، وعلى ذلك قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ [البقرة: 220] كأن السؤال عما يعمل في أموال اليتامى، من المخالطة وأنواع المصالح، وكذلك قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222]، كأنه قال عن غشيان في المحيض، إذ في ذلك جرى الجواب فلم يبين‏ في السؤال لما في الجواب دليله، أو لما كان الذين سألوا معروفين يوصل بهم إلى حقيقة ذلك.

5. اختلف هل حرمتهما بهذه الآية الكريمة:

أ. قيل: هذه الآية تدل على حرمتهما بما قال ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ إلى قوله: ﴿وَالْإِثْمَ﴾ [الأعراف: 33]، ثبت أن الإثم محرم.

ب. أكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية، ولكن بقوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ﴾ [المائدة: 90]

6. ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ يبلغ أمر الخمر التي جاءت الآثار على كون أمثالها في حكم الربا، وفى الخمر ما لا يتخذ للمنافع وإنما يتخذ للهو والطرب، وكل ذلك مما نهينا عنه، مع ما في ذلك من ذهاب العقل الذي هو أعز ما في البشر، وغلبة السفه في أهله، فحقيق لمن عقل اتقاه لو كان حلالا؛ لما في ذلك من التبذير، فكيف وقد ظهرت الحرمة.

7. ثم كان معلوما علة حرمة الخمر إذا سكر منها الشارب، ثم جاء به القرآن، وليست تلك العلة في شرب القليل منه، فلم يلحق بحق القليل غيرها، وألحق بالكثير كل شراب يعمل ذلك العمل، لما فيه المعنى الذي ذكره، إذ كانت الخمر لا تتخذ في المتعارف للمصالح ولا لأنواع المنافع، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب، ولا يستعمل شربها إلا المعروفون بالفسق، فتكون حرمة الخمر بعينها، لا ما ذكرت من قصد العواقب بها، وكل جوهر لا يتخذ لا يقصد باتخاذ ذلك فهو غير محرم بعينه.

8. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾: ﴿الْعَفْوَ﴾ هو الفضل عن القوت، وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما يفضل عن قوت سنة، وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم، ثم نسخ ذلك بما روى عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: الزكاة نسخت كل صدقة كانت، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان، والأضحية نسخت كل دم كان)، فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا، وروى عن ابن عباس، قال كان هذا قبل أن تفرض الصدقة، دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها في الصحابة، إلى يومنا لم يخرجوا من أملاكهم، ولا تصدقوا بها، ولا أنكر عليهم؛ فثبت أن الأمر في ذلك منسوخ، أو هو على الأدب.

9. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قيل‏: أما في الدنيا: فتعلمون أنها دار بلاء وفناء، وأما الآخرة: دار جزاء وبقاء، فتفكرون فتعملون للباقية منهما، وقال الحسن‏: إي ـ والله ـ ومن تفكر فيهما ليعلمن أن الدنيا دار بلاء، وأن الآخرة دار بقاء، وعن ابن عباس: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يعنى في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها، بل يعلم بالتفكر أن الدنيا للزوال، علم أنها هي للتزود لدار القرار، فيصرف سعيه إلى التقديم، وجهده في فكاك‏ رقبته وإعتاقها، ولا قوة إلا بالله.

10. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ دلالة جواز تأخير البيان؛ لأنه أمر بالتفكر والتدبر، وجعل لهم عند الفكر الوصول إلى المراد في الخطاب، فدل أنه يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/117

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾: أما الميسر: فهو القمار، وفيه وفي الخمر منافع للناس من حطام الدنيا وزينتها وربحها، وأثمهما أكبر عند الله من نفعهما.

2. معنى قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾: أي قل أنفقوا العفو، وهو ما فضل عن كفايتكم.

3. سؤال وإشكال: سألت عن معنى قول الله سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، والجواب: أن هذا أمر من الله سبحانه لرسوله لمن سأله عما ينفق ـ بالعفو؛ لما علم الله سبحانه فيه من الفضيلة على النفقة، وأنه يصلح من الأحوال ما لا يصلحه بالأموال، والدليل على ذلك: قول الله سبحانه: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، والأجر هو: النفقات والعطاء والمودة، والمودة فهي: المحبة؛ فعرفنا الله سبحانه هاهنا: أن المودة أعود صلاحا من العطية، والعفو فقد يوجب المودة للعافي التي لا يجلب مثلها في النفقة؛ فاعلم ذلك(2).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 284

(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/99

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ أي يسألك أصحابك يا محمد، وهذه أول آية نزلت فيها والخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطاه وهو من قولهم: خمّرت الإناء، إذا غطيته، ويقال هو في خمار الناس وغمارهم يراد أنه دخل بينهم فاستتر بهم ومن ذلك: خمار المرأة لأنه يسترها ومنه قيل: فلان يمشي خمراً أي مستخفياً قال العجاج: (في لامع العقبان لا تأتي الخمر)، أي لا تأتي مستخفياً لكن ظاهراً بجيوش ورايات.

2. أما الميسر فهو القمار وهو من قول القائل: يسر هذا الشيء يسراً وميسراً ثم قال للضارب بالقداح المقامر ياسر قال الشاعر:

فبت كأنني يسر عنين... بقلب بعد اختلع القداحا

3. الإثم الكبير الذي هو في الخمر إنما هو ما يزول من عقل شاربها حتى تذهب منه معرفة الله عز وجل، ويستوي عنده الحسن والقبيح هذا مع ما ينال غيره من الأذى والإثم في القمار أنه يأخذ ما ليس له ويظلم وما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة كما ذكر الله عز وجل في كتابه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة:91]..

4. منافع الخمر ما كانوا يأخذون من أثمانها، ومنافع الميسر من أخذ الأموال من غير كد ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ بعد ما حرمهما الله عز وجل أكبر وأعظم من نفعهما.

5. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ والعفو ما كان يفضل من الأموال بعدما كان الرجل يأخذ قوت سنة وكفايته فما فضل عن ذلك تصدق به حتى نسخته آية الزكاة.. وروينا عن آبائنا، عن زيد بن علي أنّه قال لما نزلت هذه الآية في الخمر والميسر شرب بعد ذلك رجل يقال له أبو القموص فجعل ينوح على قتلى بدر وجعل يقول:

تحيا بسلامة أم بكره... وهلك بغدر من سلام

ذريني أصطبح بكراً فإني... رأيت الموت نفث عن هشام

وكائن بالطوى طوى بدر... من الفتيان والحلل الكرام

قال فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فجاء فزعاً يجر رداءه من الغضب حتى انتهى إليه فلما عاينه الرجل قال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله والله لا أطعمها أبداً قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة:90].. إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة]

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/107

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية: يعني يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها، وهذه أول آية نزلت فيها.

2. الخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه، من قولهم خمّرت الإناء إذا غطيته، ويقال هو في خمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عرضهم فاستتر بهم، ومن ذلك أخذ خمار المرأة لأنه يسترها، ومنه قيل هو يمشي لك الخمر أي مستخفيا، قال العجاج:

في لامع العقبان لا يأتي الخمر...يوجّه الأرض ويستاق الشّجر

يعني بقوله لا يأتي الخمر أي لا يأتي مستخفيا لكن ظاهرا برايات وجيوش.

3. الميسر هو القمار من قول القائل يسر لي هذا الشيء يسرا وميسرا، فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر ياسر ويسر كما قال الشاعر:

فبت كأنني يسر غبين‏...يقلب بعد ما اختلع القداحا

4. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ﴾ قرأ حمزة والكسائي.. كثير بالثاء، وفي إثمهما تأويلان:

أ. أحدهما: أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس، وإثم الميسر: ان يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم، وهذا قول السدي.

ب. الثاني: أن إثم الخمر زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغرب عنه معرفة خالقه، وإثم الميسر: ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 90] وهذا قول ابن عباس.

5. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾:

أ. منافع الخمر أثمانها وربح تجارتها، وما ينالونه من اللذة بشربها، كما قال حسان بن ثابت:

ونشربها فتتركنا ملوكا...وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

وكما قال آخر:

فإذا شربت فإنني‏...ربّ الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني‏...ربّ الشويهة والبعير

ب. في منافع الميسر قولان:

أحدهما: اكتساب المال من غير كدّ.

الثاني: ما يصيبون من أنصباء الجزور، وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشارا على عدة القداح، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:

وجزور أيسار دعوت إلى الندى‏...أوساط مقفرة أخف طلالها

وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي.

6. في قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما، وهو قول سعيد بن جبير.

7. في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ ستة تأويلات:

أ. أحدها: بما فضل عن الأهل، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافا أو إقتارا، وهو قول الحسن‏.

ج. الرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير، وهو قول مروي عن ابن عباس أيضا.

د. الخامس: أنه الصدقة عن ظهر غنى، وهو قول مجاهد.

هـ. السادس: أنه الصدقة المفروضة، وهو مروي عن مجاهد أيضا.

8. اختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت؟

أ. فقال ابن عباس نسخت بالزكاة.

ب. وقال مجاهد هي ثابتة.

9. اختلفوا في هذه الآية هل كان تحريم الخمر بها أو بغيرها؟

أ. فقال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية.

ب. وقال قتادة وعليه أكثر العلماء: أنها حرمت بآية المائدة، وروى عبد الوهاب عن عوف عن أبي القلوص‏ زيد بن علي قال أنزل الله عزّ وجل في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاما لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقّونها عند الصلاة، حتى شربها ـ فيما زعم أبو القلوص ـ رجل فجعل ينوح على قتلى بدر، وجعل يقول:

تحيي بالسلامة أم بكر...وهل لي بعد قومي من سلام‏

ذريني اصطبح بكرا فإني‏...رأيت الموت نبّث عن هشام‏

وود بنو المغيرة لو فدوه‏...بألف من رجال أو سوام‏

وكائن بالطويّ طويّ بدر...من الشيزي تكلّل بالسنام‏

وكائن بالطويّ طويّ بدر...من الفتيان والحلل الكرام‏

فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا كان بيده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، لا أطعمها أبدا، فأنزل الله في تحريمها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 90 ـ 91] فقالوا: انتهينا.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/276

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الكوفة إلا عاصم (إثم كثير) بالثاء، الباقون بالباء، وقرأ أبو عمرو وحده (قل العفو) بالرفع، الباقون بالنصب.

2. الخمر: قال أكثر المفسرين: الخمر عصير العنب إذا اشتدّ، وقال جمهور أهل المدينة: ما أسكر كثيره فهو خمر، وهو الظاهر في رواياتنا(2)، وأما اشتقاقه في اللغة: تقول خمرت الدابة أخمرها خمراً إذا سقيتها الخمر، وخمرت العجين والطين أخمره خمراً: إذا تركته فلم تستعمله حتى يجود، وأخمر القوم إخماراً: إذا تواروا في الشجر، ويقال لما سترك من شجر: خمرى‏، مقصوراً، واختمرت المرأة، وخمرت إذا لبست الخمار: وهي المقنعة، وخامره الحزن مخامرة إذا خالطه، وخمر الأناء وغيره تخمراً: إذا غطّيته، واستخمرت فلاناً: إذا استعبدته، والخمار بخار يعقبه شرب الخمر، والمخامرة: المقاربة، والخمر: ما وارك من الشجر، وغيره، والخمر: شبيه بالسجادة، والمخمرة من الغنم: سوداء ورأسها أبيض، ودخل في خمار الناس: إذا دخل في جماعة، فخفي فيهم، وأصل الباب الستر.

3. الميسر: قال ابن عباس، وعبد الله بن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن سيرين: هو القمار كله وهو الظاهر في رواياتنا، واشتق الميسر من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، من قولهم: يسر لي هذا الشيء: إذا وجب لي، فهو تيسر لي يسراً، وميسراً، والياسر: الواجب بقداح وجب لك أو غير ذلك، وقيل للمقامر: ياسر، ويسر، قال النابغة:

أو ياسر ذهب القداح بوفره‏...أسِف تآكله الصديق مخلّع‏

يعنى القامر، وقيل أخذ من التجزئة، لأن كل شيء جزّأته، فقد يسرته، والياسر: الجازر، والميسر: الجزور، وقيل الميسر مأخوذ من اليسر، وهو تسهل الشيء، لأنهم ـ كانوا ـ مشتركون في الجزور، ليسهل أمرها إلا أنه المعنى الجهة: القمار.

4. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فالنفع التي في الخمر: ما كانوا يأخذونه في أثمانها، وربح تجارتها، وما فيها من اللذة بتناولها: أي فلا تغترّوا بالنفع فيها، فالضرر أكثر منه.

5. اختلف في دلالة هذه الآية على تحريم الخمر:

أ. قال الحسن، وغيره: هذه الآية تدل على تحريم الخمر، لأنه ذكر أن فيها إثماً، وقد حرم الله الإثم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ على أنه قد وصفها بأن فيها إثماً كبيراً والكبير يحرم بلا خلاف، وقال قوم: المعنى وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما، وقال آخرون: المعنى إن الإثم بشرب هذه، والقمار بها أكبر وأعظم، لأنهم كانوا إذا استكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضاً.

ب. وقال قتادة: لا تدل الآية على تحريمهما، وإنما تدل الآية التي في المائدة في قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الى آخرها، ووجهه قتادة على أنه قد يكثر فيهما ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾

6. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾:

أ. قال السدي: نسخته آية الزكاة.

ب. وقال مجاهد: هو فرض ثابت.

ج. وقال قوم: هو أدب من الله ثابت غير منسوخ، وهو الأقوى، لأنه لا دليل على نسخها.

7. اختلف في معنى ﴿الْعَفْوَ﴾ هنا على أقوال:

أ. قال ابن عباس، وقتادة: هو ما فضل عن الغنى.

ب. وقال الحسن، وعطا: هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار.. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أن العفو هاهنا: الوسط.

ج. وقال مجاهد: هو الصدقة المفروضة.

د. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن العفو: ما فضل عن قوت السنة، فنسخ ذلك بآية الزكاة.

8. اختلف في العفو:

أ. قيل: مأخوذ من الزيادة ومنه قوله: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ أي حتى زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال الشاعر:

ولكنا نُعضُّ السيف منها...باسبق عافيات الشحم كوم‏

أي زائدات الشحم.

ب. وقيل: هو مأخوذ من الترك من قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي ترك له، فيكون العفو المتروك غنى عنه، ومن رفع معناه ما الذي ينفقون، وفي الأول كأنه قال أي شيء ينفقون، فقالوا: العفو.

9. إنما وحد الكاف في كذلك، وإن كان الخطاب لجماعة، لأحد أمرين:

أ. أحدهما: في تقدير كذلك أيها السائل.

ب. الثاني:أن يكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ويدخل فيه الأمة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾

10. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي لكي تتفكروا، وهي لام الغرض، وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى أراد منهم التفكر سواء تفكروا أو لم يتفكروا.

11. العامل في الظرف من قوله تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يحتمل أمرين: أحدهما: (يبين) على قول الحسن، والثاني:(يتفكرون) في قول غيره، وأجاز الزجاج الوجهين معاً.

12. كيفية فكرهم في الدنيا والآخرة، قال قتادة: يتفكرون في أن الدنيا دار بلاء، وفناء، والآخرة دار جزاء وبقاء.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/212

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الخمر: أصله الستر، خمرت الإناء: غطيته، ومنه يسمى الخمار؛ لأنه يغطي الرأس.

ب. الميسر: القمار، وقيل: أخذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، من قولهم: تيسر لي هذا الشيء، والياسر الواجب بقداح، وقيل: يسمى ميسرًا؛ لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة لكل، وكل ما جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر، كأنه يجزئ لحم الجزور، وقيل: أخذ من اليسر بضم الياء، وهو تسهيل الشيء، ومنه سمي الميسر الجزور؛ لأنهم كانوا يشتركون في الجزور لتسهيل أمرها إلا أنه على جهة القمار، وذلك أنهم كانوا يجعلونها أقسامًا يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم في ذلك، وذكر أبو مسلم أنهم كانوا يبتاعون جزورًا ثم يجيلون القداح عشرة، لسبعة منها أنصباء معروفة، وعليها علامات مختلفة، وثلاثة يكثر بها القداح، فمن خرج له قدح منها فله من اللحم مثل نصيب ذلك القدح، وعليه من ثمنه مثله، ومن خاب فلم يخرج له قدح، أو كان قدح من التي لا نصيب لها لم يكن له في اللحم شيء، ولا عليه من الثمن قسط، ثم يطعمون من ذلك اللحم من لا يدخل في الميسر، ولا يتسع حاله لذلك، ويسمون هَؤُلَاءِ القوم أيسارًا، واحدهم يَسَرٌ، ومن لا يدخل معهم بَرَمًا، وقال غيره: كانوا يجزئونها عشرة أجزاء، عن أبي عمرو، وقيل: ثمانية وعشرين جزءًا، ويسهمون عليها بعشرة قداح، ويسمون تلك القداح الأزلام، فأما السبعة فأولها: الفَذُّ، وله نصيب واحد، والتوأم، وله نصيبان، والرقيب وله ثلاثة، والحَلِس بفتح الحاء وكسر اللام، وقيل: بكسر الحاء وسكون اللام، وله أربعة، والنافس، وله خمسة، والمُسْبِلُ، وله ستة، والمُعَلَّى، وله سبعة، وأما الثلاثة التي لا أنصباء لها فهي: المَنِيحُ، والسَّفِحُ والوَغْدُ، واختلفوا فيمن يخرج له سهم من الثلاثة فقيل: كان لا يأخذ شيئًا، ويغرم ثمن الجزور كله، وقيل: لا يأخذ ولا يغرم، فأما في الشرع فالميسر أنواع القمار كلها.

ج. العفو قيل: أُخِذ من الزيادة، حتى عفوا: زاد عددهم، وقيل: من الترك، والتفكر: تصرف في القلب، تفكر تفكرًا.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ب. وقيل: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حثهم على الصدقة، ولم يكن حتمًا فسألوه: كيف نتصدق؟ وعلى من نتصدق؟ فنزلت الآية.

ج. وقيل: لما أوجب الزكاة سألوه أينفقون جزءًا منها أو كلها؟ فنزلت الآية، وبَيَّنَ قدرها في السنة، عن أبي مسلم.

3. عاد الكلام إلى بيان الشرائع فقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد: ﴿عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ القمار: ﴿قُلْ فِيهِمَا﴾ في الخمر والميسر ﴿إِثْمٌ﴾ وزو ﴿كَبِيرٌ﴾ عظيم، وكثير من الكثرة، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أما في الخمر فما يحصل من اللذة بشربها، والأثمان بمبايعتها، وفي القمار ما يصيبهم من الأموال من غير كد ولا نصب.

4. علق الإثم بنفس الخمر والميسر، ولا شبهة أن الإثم غيرهما، فلا بد من إضمار:

أ. قيل: في شربها، وهو أصح؛ لأنه علق الإثم به لا بما يحدث عنده، ولأنه قد ينفك من تلك الأمور، والإثم ثابت على الإطلاق فصار تقديره: في شرب الخمر وفعل القمار إثم كبير.

ب. وقيل: فيما تؤدي إليه من ترك الصلاة وقول الفحش والعداوة والبغضاء الذي يحدث عند شربه.

ج. وقيل: المنافع قبل التحريم، والإثم بعد التحريم، عن الربيع والضحاك.

د. وقيل: في حالة واحدة، وتحريمه ثانية، وإن كان لو شرب انتفع كالماء للصائم.

5. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ بما يلزم عليه من العقوبة، وكذلك حال كل قبيح إثمه أكبر من نفعه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾:

أ. قيل: الفضل عن النفس والعيال؛ ليكون عن ظهر غنى، عن ابن عباس وقتادة وعطاء والسدي.

ب. وقيل: الوسط من غير سرف ولا تقتير، عن الحسن وعطاء.

ج. وقيل الصدقة المفروضة، عن مجاهد.

د. وقيل: الطيب، عن الربيع.

7. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ الحجج، واختلفوا:

أ. قيل: في أمر النفقة والخمر والميسر.

ب. وقيل: في سائر شرائع الإسلام.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. قيل: تنظرون في أمر الدنيا والآخرة فتحبسون ما يصلحكم من معاشكم، وتنفقون الباقي لآخرتكم.

ب. وقيل: لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها، وما يشوبها من الهموم، والمضار، وفي إقبال الآخرة وبقائها وخلوصها من الشوائب، فترغبون فيها بالتمسك بطاعته، والانتهاء عن معاصيه.

ج. وقيل: في نعيم الدنيا وثواب الآخرة، عن أبي مسلم.

9. لا شبهة في تحريم الخمر؛ لأنها كانت حلالاً ثم حرمت، وعلم ذلك من دينه ضرورة حتى يكفر جاحده، ويفسق شاربه، واختلفوا:

أ. فقال الحسن وجماعة: حرمت بهذه الآية، وهو اختيار القاضي؛ لأنه بين أن فيه إثمًا كبيرًا، لا لأنه يحمل على ما يحصل منه؛ لأنه خلاف الظاهر، والإثم الكبير لا يحصل إلا من شيء محرم.

ب. وقال قتادة وأبو علي: إنما حرمت بآية المائدة، ورووا عن بعض المتقدمين ذلك، وأن السكر حرم بقوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، ورووا في ذلك حديثًا طويلاً، وتوقفًا عن بعض الصحابة، قال القاضي: وهذا لا يصح؛ لأن ما فيه إثم كبير لا يكون إلا محرمًا، ولأنه أبلغ في التحريم من النهي، ولو ثبت لتوقع توقف الصحابة، وإن ثبت فيحتمل النهي [على] أنه لتوقع نزول ما هو آكد.

10. اختلف في ماهيه الخمر:

أ. قيل: هو عصير العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد عن أبي حنيفة وجماعة من العلماء، وهو خمر بالإجماع، وهو أصح لحديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب) ولأن ما قلناه إجماع، وما عداه لم يثبت بدليل.

ب. وقيل: ما أسكر كثيره فقليله خمر، وهو مذهب الشافعي.

11. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالأشربة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

12. تدل الآية الكريمة على تحريم الميسر، وهو القمار، واختلفوا:

أ. قيل: يدخل فيه كل لعب يدخل فيه الرهان، لما فيه من أخذ المال بالباطل، وكل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، عن عطاء ومجاهد.

ب. وقيل: النرد والشطرنج من الميسر، عن علي، وأما السبق في الخف والحافر والرمي على ما ورد به الشرع فليس بقمار؛ لأنه تقوية على أمر الجهاد، والذي يحل منه المسابقة على الأقدام، وفي الخف وفي الحافر بعوض وبغير عوض، وللشافعي قولان:

أحدهما: يجوز بغير عوض، والآخر مثل قولنا، وهذا في الأقدام، وفي الخف والحافر اتفاق، وإذا شرط العوض من الجانبين لم يجز بالاتفاق، فأما بدل العوض في الصراع فعندنا جائز، وعند الشافعي لا يجوز، وفيه وجه آخر أنه يجوز، وهل يلزم العوض بالعقد أو بوجود السبق؟ عندنا بوجود السبق، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قولنا.

والثاني: أنه عقد لازم كالإجارة إذا شرط في عقد المسابقة شرطًا فاسدًا عندنا يصح العقد، ويبطل الشرط، وعند الشافعي يفسد العقد.

13. اختلف في النفقة:

أ. فقيل: إنها في التطوع، وهو ثابت.

ب. وقيل: هو فرض ثابت وهو الزكاة، عن مجاهد والأصم وأبي مسلم.

ج. وقيل: هو فرض منسوخ بآية الزكاة، عن السدي، ولا مانع من حمله على الزكاة، فلا يصح القول بنسخه.

14. تدل الآية الكريمة على:

أ. تحريم الخمر والميسر.

ب. بطلان التمييز بالقرعة؛ لأنها كالقمار فيبطل قول الشافعي فيمن أعتق عبيدًا في مرضه، ولا مال له غيرهم أنه يستعمل فيه القرعه، وعندنا(2) يعتق من كل واحد ثلثه، ويسعى في ثلثيه.

ج. الترغيب في الصدقة.

د. وجوب التفكر في الدلالات.

هـ. إثبات تكليف المعرفة لولاه لم يكن للأمر بالتفكر معنى فيبطل قول أصحاب المعارف.

و. أنه ينبغي للمكلف أن يتفكر في أمور آخرته التي هي العبادات فيؤديها على وجوهها، ويتفكر في أحوال الآخرة وثوابها وعقابها؛ ليرغب فيها، ويعمل لها ويتفكر في الدنيا وزوالها؛ ليزهد فيها، ويتفكر في أمور دنياه فينفق ويتصدق على وفق الشرع، وعلى ما يعود عليه نفعه في الدارين.

ز. أن للعبد فعلاً لولاه لما منعه عنه.

ح. أن هذا السؤال قبل نزول الفرائض واستقرار الشرع، فكانوا يسألون حرصًا على الصدقة، وبيان الأمور الشرعية، وعلم الله تعالى أن بيانها عقيب سؤالهم أصلح لهم وأقرب إلى القبول، فأخره إلى ذلك الوقت.

15. قرأ حمزة والكسائي: ﴿كَثِيرٍ﴾ بالثاء، والباقون بالباء، وهو الاختيار لقوله: ﴿أَكْبَرُ﴾، ولقوله: ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ ولأن أكثر القراء عليه، وقرأ أبو عمرو ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ بضم الواو، والباقون بالنصب، ووجه الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو، ووجه النصب على معنى: قل أنفقوا العفو.

16. مسائل نحوية:

أ. في توحيد كاف: ﴿كَذَلِكَ﴾ وجهان: أحدهما: على تقدير كذلك أيها القبيل، الثاني: أن يكون خطابًا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾

ب. ﴿مَاذَا﴾ يحتمل وجهين: الرفع والنصب، فالرفع على تقدير: ما الذي ينفقون؟ والنصب على تقدير: أي شيء ينفقون؟ على ما تقدم من بيانه.

ج. عامل الإعراب في الظرف في قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾: ﴿يُبِينُ﴾ في قول الحسن، و﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ في قول غيره، وأجاز الزجاج كلا الوجهين.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/876

(2) يقصد الزيدية

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الخمر: أصله الستر، والخمر: ما واراك من الشجر وغيره، ومنه الخمار: للمقنعة، ودخل في خمار الناس أي: في الكثير الذي يستتر فيهم،ويقال: خامره الداء: إذا خالطه، قال كثير:

هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة...من أعراضنا ما استحلت

وخمرت الإناء أي: غطيته، وفي الحديث: أكان النبي يسجد على الخمرة، وهي السجادة الصغيرة من الحصير، سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض، قال الزجاج: وقد لبس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له: إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال، فظن أن ذلك كما قيل له، ثم رده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد، فقال له:

دع الخمر تشربها الغواة فإنني...رأيت أخاها مجزيا بمكانها

فإن لا يكنها، أو تكنه،...فإنه أخوها غذته أمه بلبانها

وأصل الباب الستر.

ب. الميسر: القمار، إشتق من اليسر: وهو وجوب الشئ لصاحبه من قولك يسر لي هذا الشئ ييسر وميسرا: إذا وجب لك، والياسر الواجب بقداح وجب لك أو غيره، وقيل للمقامر: ياسر ويسر، قال النابغة:

أو ياسر ذهب القداح بوفره...أسف تأكله الصديق مخلع

أي: قامر، وقيل: أخذ من التجزئة، لأن كل شئ جزأته فقد يسرته،والياسر: الجازر، والميسر: الجزور، وقيل: أخذ من اليسر وهو السهولة، لأنهم كانوا يشتركون في الجزور ليسهل أمرها إلا أنه على جهة القمار.

ج. العفو: مأخوذ من الزيادة، ومنه قيل: حتى عفوا أي: زادوا على ما كانوا عليه من العدد، قال الشاعر:

ولكنا يعض السيف منا...بأسوق عافيات الشحم كوم

أي: زائدات الشحم، وقيل: هو مأخود من الترك من قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي: ترك، ومنه قوله: (عفوت لكم عن صدقة الخيل)، أي: تركتها، فيكون العفو المتروك غني عنه.

2. نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال؟ فنزلت الآية.

3. ثم عاد سبحانه إلى بيان الشرائع والأحكام، فقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد ﴿عَنِ الْخَمْرِ﴾:

أ. وهي كل شراب مسكر مخالط للعقل، مغط عليه، وما أسكر كثيره فقليله خمر، هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا(2)، وهو مذهب الشافعي.

ب. وقيل: الخمر عصير العنب إذا اشتد وغلى، وهو مذهب أبي حنيفة.

4. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾: وهو القمار كله، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والحسن، وهو المروي عن أئمتنا حتى قالوا: إن لعب الصبيان بالجوز هو القمار.

5. ﴿قُلْ فِيهِمَا﴾ أي: في الخمر والميسر ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أي: وزر عظيم، وكثير من الكثرة ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾:

أ. منفعة الخمر: ما كانوا يأخذونه في أثمانها، وما يحصل من اللذة والطرب والقوة بشربها.

ب. ومنفعة القمار: هو أن يفوز الرجل بمال صاحبه من غير كد ولا مشقة ويرتفق به الفقراء.

6. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ أي: ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع، لأن نفعهما في الدنيا وما يحصل من الإثم بهما، يوجب سخط الله في الآخرة، فلا يظهر في جنبه إلا نفع قليل لا بقاء له.

7. قال الحسن: في الآية تحريم الخمر من وجهين:

أ. أحدهما قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ﴾ فإنه إذا زادت مضرة الشئ على منفعته، اقتضى العقل الامتناع عنه.

ب. الثاني: إنه بين أن فيهما الإثم، وقد حرم في آية أخرى الإثم، فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾

8. قيل: إن الخمر يسمى إثما في اللغة قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي،...كذاك الاثم يصنع بالعقول

على أنه قد وصف الإثم بأنه كبير، والكبير محرم بلا خلاف، وقال الضحاك: معناه وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما، وقال سعيد بن جبير: كلاهما قبل التحريم، يعني أن الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما،وقال قتادة: هذه آية لا تدل على تحريمهما، وإنما تدل الآية التي في المائدة من قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى آخرها.

9. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: أي شئ ينفقون؟ والسائل: عمرو بن الجموح، سأل عن النفقة في الجهاد، وقيل: في الصدقات.

10. في قوله تعالى: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إنه ما فضل عن الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى، عن ابن عباس وقتادة.

ب. ثانيها: إن العفو الوسط من غير إسراف ولا اقتار، عن الحسن وعطا، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.

ج. ثالثها: إن العفو ما فضل عن قوت السنة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة، وبه قال السدي.

د. رابعها: إن العفو أطيب المال وأفضله.

11. ﴿كَذَلِكَ﴾ إنما وحد الكاف لأن الخطاب للنبي، ويدخل فيه الأمة، وقيل: إن تقديره كذلك أيها القبيل.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾:

أ. قيل: أي: الحجج في أمر النفقة والخمر والميسر.

ب. وقيل: في سائر شرائع الإسلام.

13. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: لكي تتفكروا ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: أي: في أمر الدنيا، وأمر الآخرة، فتعلمون أن الدنيا دار بلاء وعناء وفناء، والآخرة دار جزاء وبقاء، فتزهدوا في هذه وترغبوا في تلك.

ب. وقيل: إنه من صلة ﴿يُبِينُ﴾ أي: كما يبين لكم الآيات في الخمر والميسر، يبين لكم الآيات في أمور الدنيا والآخرة، لكي تتفكروا في ذلك، دلالة على أن الله أراد منهم التفكر، سواء تفكروا أو لم يتفكروا.

14. قراءات وحجج:

أ. قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (إثم كثير) بالثاء، والباقون بالباء:

قال أبو علي: حجة من قرأ بالباء أن يقول: الباء أولى، لأن الكبر مثل العظم، ومقابله الصغر، والكبير: العظيم، قال تعالى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾، وقد استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبيرة، كقوله: ﴿كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ و﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ فلذلك ينبغي أن يكون قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ بالباء، لأن شرب الخمر والميسر من الكبيرة، وقالوا في غير الموبق: صغير وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، ومقابل الكثير القليل، كما أن مقابل الكبير الصغير، ويدل على ذلك أيضا قوله ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ واتفاقهم هنا على أكبر، ورفضهم لأكثر.

ووجه قراءة من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهما: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ وفي الحديث: (لعن الرسول في الخمر عشرة: مشتريها والمشتراة له، وعاصرها والمعصورة له، وساقيها والمستقي لها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) فهذا يقوي قراءة من قرأ كثير.

ب. قرأ أبو عمرو وحده: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ بالرفع، والباقون بالنصب:

وجه قول من نصب ﴿الْعَفْوَ﴾ هو أن قولهم ماذا يستعمل على ضربين أحدهما: أن يكون ما مع ذا اسما واحدا، والآخر: أن يكون ذا بمعنى الذي، فالأول قول العرب عما ذا تسأل أثبتوا الألف في ما لما كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد، فإن الحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخرا، ومن ذلك قول الشاعر:

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم...لا يستفقن إلى الديرين تحنانا

أي: ما بال نسوتكم، فإذا كان ما مع ذا بمنزلة اسم واحد، كان قوله ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ في موضع نصب بمنزلة ما ينفقون أي: أيا ما ينفقون، فجواب هذا العفو بالنصب.

وجه قول من رفع هو أن يجعل ماذا على الضرب الآخر، فيكون تقديره ما الذي ينفقون؟ فجوابه: العفو، على أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: الذي ينفقون العفو، ومثله في التنزيل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، وسيبويه لا يجوز أن يكون ذا بمنزلة الذي إلا في هذا الموضع، لما قامت الدلالة على ذلك، والكوفيون يجيزون في غير هذا الموضع ويحتجون بقول الشاعر:

عدس! ما لعباد عليك إمارة،...نجوت، وهذا تحملين طليق

وبقوله سبحانه: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾، ولا دلالة لهم في الآية، فإن قوله ﴿بِيَمِينِكَ﴾ يجوز أن يكون ظرفا في موضع الحال، فلا يكون صلة، وكذلك تحملين في البيت، والعامل في الحال في الموضعين، ما في المبهم من معنى الفعل.

15. العامل في الظرف من قوله ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قوله: ﴿يُبِينُ﴾ أي: يبين لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، ويجوز أن يكون ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ أيضا أي: تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/555

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن عمر بن الخطّاب قال اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية.

ب. الثاني: أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وفيهم عمر، ومعاذ، فقالوا: أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية.

2. في تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها سمّيت خمرا، لأنها تخامر العقل، أي: تخالطه.

ب. الثاني: لأنها تخمر العقل، أي: تستره.

ج. الثالث: أنها تخمّر، أي: تغطّى، ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم.

3. الخمر: قال الزجّاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمّي خمارا لأنه يغطّي، قال: والخمر هاهنا في المجمع عليها، وقياس كلّ ما عمل عملها أن يقال له: خمر، وأن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كلّه حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كلّه قياسا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة.

4. الميسر: قال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة في الآخرين: هو القمار، قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح، ويقال للضّارب بالقداح: ياسر ويأسرون، ويسر وأيسار، وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ويجزّئونها أجزاء ثم يضربون عليها بالقداح فإذا قمر القامر، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو النفع الذي ذكره الله تعالى، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح، ويتسابّون بتركها ويعيبون من لا ييسر.

5. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، قرأ الأكثرون (كبير) بالباء، وقرأ حمزة والكسائيّ بالثاء.

6. في إثم الخمر ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن شربها ينقص الدّين، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنه إذا شرب سكر فآذى الناس، رواه السّدّيّ عن أشياخه.

ج. الثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز، قاله الزجّاج.

7. في إثم الميسر قولان:

أ. أحدهما: أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق، رواه السّدّيّ عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك.

8. منافع الخمر من وجهين:

أ. أحدهما: الرّبح في بيعها.

ب. الثاني: انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس.

9. منافع الميسر: إصابة الرجل المال من غير تعب.

10. في قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله سعيد بن جبير والضحّاك ومقاتل.

ب. الثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضا، لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما، وهذا منقول عن ابن جبير أيضا.

11. اختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين:

أ. أحدهما: بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾، قاله ابن جبير.

ب. الثاني: بالشريعة الأولى، وأقرّ المسلمون على ذلك حتى حرّمت.

12. اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنها تقتضي ذمّها دون تحريمها، رواه السّدّيّ عن أشياخه، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، ومقاتل، وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة.

ب. الثاني: أن لها تأثيرا في التحريم، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كلّه محرّم بقوله: ﴿وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ﴾، هذا قول جماعة من العلماء، وحكاه الزجّاج، واختاره القاضي أبو يعلى للعلّة التي بيّناها، واحتجّ لصحته بعض أهل المعاني، فقال: لما قال تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، وقع التساوي بين الأمرين، فلما قال: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ صار الغالب الإثم، وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق، فغلب جانب الخطر.

13. القول في الميسر مثل القول في الخمر، إن قلنا: إن هذه الآية دلّت على التحريم، فالميسر حكمها حرام أيضا، وإن قلنا: إنها دلّت على الكراهة؛ فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر.

14. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، قال ابن عباس: الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح، قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصّدقة والعطاء.

15. ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾، قرأ أبو عمرو برفع واو ﴿الْعَفْوَ﴾، وقرأ الباقون بنصبها، قال أبو عليّ: ﴿مَاذَا﴾ في موضع نصب، فجوابه العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ماذا أنفقت؟ درهما، أي: أنفقت درهما، هذا وجه نصب العفو، ومن رفع جعل (ذا) بمنزلة الذي، ولم يجعل (ماذا) اسما واحدا، فإذا قال قائل: ماذا أنزل ربّكم؟ فكأنه قال ما الذي أنزل ربّكم؟ فجوابه: قرآن.

16. العفو: قال الزجّاج: (العفو) في اللغة: الكثرة والفضل، يقال: قد عفا القوم: إذا كثروا، و(العفو): يأتي بغير كلفة، وقال ابن قتيبة: العفو: الميسور، يقال: خذ ما عفاك، أي: ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقّة.

17. للمفسّرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس.

ب. الثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطيّة عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه القصد من الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير.

د. الرابع: أنه الصّدقة المفروضة، قاله مجاهد، و.

هـ. الخامس: أنه ما لا يتبيّن عليهم مقداره، من قولهم: عفا الأثر إذا خفي ودرس، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسّرين.

18. تكلّم علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية:

أ. روى السّدّيّ عن أشياخه أنها نسخت بالزّكاة.

ب. وأبى نسخها آخرون.

ج. وفصل الخطاب في ذلك:

أنّا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدّق بفاضل المال، أو قلنا: أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزّكاة، فالآية منسوخة بآية الزّكاة.

ومتى قلنا: إنها محمولة على الزّكاة المفروضة كما قال مجاهد، أو على الصّدقة المندوب إليها، فهي محكمة.

19. قال: ﴿كَذَلِكَ﴾، وهو يخاطب جماعة في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾:

أ. قال الزجّاج: إنما قال كذلك، وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها: القبيل، كأنه قال كذلك يا أيها القبيل.

ب. وجائز أن تكون الكاف للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، كأنه قال كذلك يا أيّها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمّته.

ج. وقال ابن الأنباريّ: الكاف في (كذلك) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق، فكأنه قال مثل ذلك الذي بيّنه لكم في الإنفاق يبين الآيات.

د. ويجوز أن يكون (كذلك) غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه: هكذا، قاله ابن عباس.

20. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فتعرفون فضل ما بينهما، فتعملون للباقي منهما.

__________

(1) زاد المسير: 1/184

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعا عن الحل والحرمة.

2. نزلت في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل فيها قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم، فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، فنزلت: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43] فقل من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا يا رب.

3. الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب(2) أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج، وهذا الرفق، ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر، فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

4. اختلف في معنى الخمر:

أ. قال الشافعي، ومن وافقه: كل شراب مسكر فهو خمر.

ب. وقال أبو حنيفة، ومن وافقه: الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد.

5. احتج من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر من الأحاديث والآثار بوجوه:

أ. أحدها: ما روى أبو داوود في (سننه): عن الشعبي عن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمر ما خامر العقل، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن عمر أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمرا.

ثانيها: أنّه قال حرمت الخمر يوم حرمت، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة.

ثالثها: أن عمر ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب، ولا شك أن عمر كان عالما باللغة، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره.

ب. الثانية: روى أبو داوود عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا)، والاستدلال به من وجهين:

أحدهما: أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر.

الثاني: أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب، فوجب أن يكون ثابتا في هذه الأشربة، قال الخطابي: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان، فكل‏ ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة، فحكمها حكم هذه الخمسة، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.

ج. الثالثة: روى أبو داوود أيضا عن نافع عن ابن عمر، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، قال الخطابي: قوله عليه السلام‏ (كل مسكر خمر) دل على وجهين:

أحدهما: أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر، وكان مسمى الخمر مجهولا للقوم حسن من الشارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية، أو على سبيل أن يضع اسما شرعيا على سبيل الأحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما.

الآخر: أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة، وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمرا فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازا على المشابهة في الحكم، الذي هو خاصية ذلك الشيء.

د. الرابعة: روى أبو داوود عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن البتع، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، قال الخطابي: البتع شراب يتخذ من العسل، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد لقول من قال إن القليل من المسكر مباح، لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس، فيدخل فيه القليل والكثير منها، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله.

هـ. الخامسة: روى أبو داوود عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)

و. السادسة: روي أيضا عن القاسم عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فمل‏ء الكف منه حرام)، قال الخطابي: (الفرق) مكيال يسع ستة عشر رطلا، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب.

ز. السابعة: روى أبو داوود عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن كل مسكر ومفتر، قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر، وهو حرام.

6. احتج من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر بالاشتقاقات، قال أهل اللغة: أصل هذا الحرف التغطية، سمي الخمار خمارا لأنه يغطي رأس المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، من وهدة وأكمة، وخمرت رأس الإناء أي غطيته، والخامر هو الذي يكتم شهادته، قال ابن الأنباري: سميت خمرا لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، يقال: خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير: (هنيئا مريئا غير داء مخامر)، ويقال خامر السقام كبده، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساترا للعقل، كما سميت مسكرا لأنها تسكر العقل أي تحجزه، وكأنّها سميت بالمصدر من خمره خمرا إذا ستره للمبالغة، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس، وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتا للغة بالقياس، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات، ومسمى الصوم هو الإمساك، ويثبتونه بالاشتقاقات.

7. احتج من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر بأن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة، اثنان منها وردا بلفظ الخمر، أحدهما: هذه الآية والثانية: آية المائدة والثالثة: وردت في السكر وهو قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43] وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.

8. احتج من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر بأن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذا قالا: يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل، مذهبة للمال، فبين لنا فيه، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل، فوجب أن يكون كل ما كان مساويا للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمرا وإما أن يكون مساويا للخمر في هذا الحكم.

9. احتج من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر بأن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 91] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر، وهذا التعليل يقيني، فعلى هذا تكون هذه الآية نصا في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر، وكل من أنصف وترك العناد، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب.

10. احتج من ذكر أن الخمر هي عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد بوجوه:

أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67] من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن، وما نحن فيه سكر ورزق حسن، فوجب أن يكون مباحا لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.

ب. الثانية: ما روى ابن عباس أنه صلّى الله عليه وآله وسلم‏ أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها، وقال: اسقوني، فقال العباس: ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا؟ فقال: ما تسقي الناس، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه، فقطب وجهه ورده، فقال العباس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم، فقال: ردوا عليّ القدح، فردوه عليه، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب، وقال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متنها بالماء، وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص، ولأن اغتلام الشراب شدته، كاغتلام البعير سكره.

ج. الثالثة: التمسك بآثار الصحابة.

11. أجاب من ذكر أن كل شراب مسكر هو خمر على من ذكر أن الخمر هي عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد:

أ. أن قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ نكرة في الإثبات، فلم قلتم: إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة، أو مخصصة لها.

ب. أما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة، وطبعه صلّى الله عليه وآله وسلم كان في غاية اللطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم، فلذلك قطب وجهه، وأيضا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.

ج. أما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

12. تدل هذه الآية على تحريم الخمر من وجوه:

أ. الأول: أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم، والإثم حرام لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ﴾ [الأعراف: 33] فكان مجموع هاتين الآيتين دليلا على تحريم الخمر.

ب. الثاني: أن الإثم قد يراد به العقاب، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم.

ج. الثالث: أنه تعالى قال ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ صرح برجحان الإثم والعقاب، وذلك يوجب التحريم.

13. سؤال وإشكال: الآية الكريمة لا تدل على أن شرب الخمر إثم، بل تدل على أن فيه إثما، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم: إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما؟، والجواب: لأن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر، فلما بين تعالى أن فيه إثما، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات، فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرمة، ومستلزم المحرم محرم، فوجب أن يكون الشرب محرما.

14. من ذكر أن هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر، احتج عليه بوجوه:

أ. أحدها: أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة.

ب. الثاني: لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة؟

ج. الثالث: أنه تعالى أخبر أن فيهما إثما كبيرا، فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلا ما داما موجودين، فلو كان ذلك الإثم الكبير سببا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.

15. أجاب من ذكر أن هذه الآية تدل على حرمة الخمر بما يلي:

أ. عن الأول: أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرما، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعا من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.

ب. عن الثاني: أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر، والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونا وطمأنينة.

ج. عن الثالث: أن قوله: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إخبار عن الحال لا عن الماضي، وعندنا أن الله تعالى‏ علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة.

16. الميسر: القمار، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، يقال يسرته إذا قمرته، واختلفوا في اشتقاقه على وجوه:

أ. أحدها: قال مقاتل: اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، كانوا يقولون: يسروا لنا ثمن الجزور، أو من اليسار لأنه سبب يساره، وعن ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله.

ب. ثانيها: قال ابن قتيبة: الميسر من التجزئة والاقتسام، يقال: يسروا الشيء، أي اقتسموه، فالجزور نفسه يسمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، والياسر الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور، ثم يقال لضاربين بالقدح والمتقاربين على الجزور: إنهم يأسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزءون لحم الجزور.

ج. ثالثها: قال الواحدي: إنه من قولهم: يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسرا إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القداح، هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة.

17. صفة الميسر: قال الزمخشري: كانت لهم عشرة قداح، وهي الأزلام والأقلام الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، بفتح الحاء وكسر اللام، وقيل بكسر الحاء وسكون اللام، والمسبل، والمعلى، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء، وقيل: ثمانية وعشرين جزءا إلا ثلاثة، وهي: المنيح والسفيح، والوعد، ولبعضهم في هذا المعنى شعر:

لي في الدنيا سهام‏...ليس فيهن ربيح‏

وأساميهن وغد...وسفيح ومنيح‏

فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة، وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.

18. اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين، أو هو اسم لجميع أنواع القمار:

أ. روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم)، وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.

ب. أما الشطرنج‏، فروي عن علي عليه السلام أنّه قال: (النرد والشطرنج من الميسر)، وقال الشافعي: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان، لم يكن حراما، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قمارا ولا ميسرا.

ج. أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه.

19. في الإثم الكبير أمور:

أ. أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور، وتقريره أن العقل إنما سمي‏ عقلا لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعا له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم، ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا، وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم.

ب. ثانيها: ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ج. ثالثها: أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى بخلاف سائر المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر، كان نشاطه أكثر، ورغبته فيه أتم، فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقا في اللذات البدنية، معرضا عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وبالجملة فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (الخمر أم الخبائث)

20. الإثم في الميسر أنه يفضي إلى العداوة، وأيضا لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضا يورث العداوة، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجانا أبغضه جدا، وهو أيضا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة.

21. المنافع المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾:

أ. فمنافع الخمر أنهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة، فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب، ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه، ويسلي المحزون، ويشجع الجبان، ويسخي البخيل ويصفي اللون، وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء.

ب. ومن منافع الميسر: التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور، وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب منه المدح والثناء.

22. قرأ حمزة والكسائي كلمة ﴿أَكْبَرُ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ بالثاء المنقوطة من فوق، والباقون بالباء المنقوطة من تحت:

أ. حجة حمزة والكسائي، أن الله وصف أنواعا كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [المائدة: 91] فذكر أعدادا من الذنوب فيهما ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعن عشرة بسبب الخمر، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما، ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال فيهما إثم ومنافع، وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة.

ب. حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيرا يدل عليه قوله تعالى: ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ [النجم: 32]، ﴿كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: 31]، ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2] وأيضا القراء اتفقوا على قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ﴾ بالباء المنقوطة من تحت، وذلك يرجح ما قلناه.

23. الحكم الرابع في الإنفاق‏، وهو قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، وهذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف، وأعيد هاهنا فأجيب عنه بذكر الكمية، قال القفال: قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا؟ فيقول: هو رجل من مذهبه كذا، ومن خلقه كذا.. إذا عرفت هذا فنقول: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول.

24. أصل العفو(3) في اللغة الزيادة، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: 199] أي الزيادة، وقال أيضا: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: 95] أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال: العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية يقال: خذ ما عفا لك، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعا إلى التيسر والتسهيل، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم)، معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق، ويقال: أعفى فلان فلانا بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة، وهو راجع إلى التخفيف ويقال: أعطاه كذا عفوا صفوا، إذا لم يكدر عليه بالأذى، ويقال: خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر، ومنه قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: 199] أي ما سهل لك من الناس، ويقال للأرض السهلة: العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه.

25. جملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26، 27]، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف)، وعن جابر بن عبد الله قال:‏ بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله خذها صدقة فو الله لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضبا فأخذها منه، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته، ثم قال يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ أنه كان يحبس لأهله قوت‏ سنة، وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ ومدار شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل.

26. قرأ أبو عمرو (العفو) بضم الواو والباقون بالنصب، فمن رفع جعل (ذا) بمعنى (الذي) وينفقون صلته كأنه قال ما الذي ينفقون؟ فقال: هو العفو ومن نصب كان التقدير: ما ينفقون وجوابه: ينفقون العفو.

27. اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع:

أ. الأول: القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب، ولهم قولان.

الأول: قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها هاهنا على سبيل الإجمال، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة.

الثاني: أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم، ثم ينفقوا الباقي، ثم صار هذا منسوخا بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.

ب. الثاني: أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضا لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض، وأجيب عنه: بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئا على سبيل الإجمال، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.

28. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ معناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون.

29. في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ وجوه:

أ. الأول: قال الحسن: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون.

ب. الثاني: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا.

ج. الثالث: يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا.

30. لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولا عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/396

(2) الكلام هنا للقفال

(3) الكلام هنا للواحدي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ السائلون هم المؤمنون، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شي غطى شيئا فقد خمره، ومنه خمروا آنيتكم فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر (بفتح الميم) لأنه يغطى ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر:

ألا يا زيد والضحاك سيرا...فقد جاوزتما خمر الطريق‏

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره، وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف:

في لامع العقبان‏ لا يمشى الخمر...يوجه الأرض ويستاق الشجر

ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك، وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه، وخمر الرأي أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهى المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم، فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر، والخمر: ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لان إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

2. اختلف في معنى الخمر:

أ. الجمهور من الامة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب.

ب. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال‏، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في المائدة والنحل‏ إن شاء الله تعالى.

3. قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الامة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر، وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، ثم قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، ثم قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾

4. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ الميسر: قمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله واهلة، فنزلت الآية، وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية ابن صالح وطاووس وعلى بن أبى طالب وابن عباس أيضا: كل شي فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب‏، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، قال على بن أبى طالب: الشطرنج ميسر العجم، وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء.

5. الميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا، والياسر: اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر:

فأعنهم وأيسر بما يسروا به‏...وإذا هم نزلوا بضنك فانزل‏

وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شي جزأته فقد يسرته، والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور، قال وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك، وفى الصحاح: ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها، قال سحيم بن وثيل اليربوعي:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني‏...ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم‏

كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام، ويقال: يسر القوم إذا قامروا، ورجل يسر وياسر بمعنى. والجمع أيسار، قال النابغة:

أني أتمم أيساري وأمنحهم... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

وقال طرفة:

وهم أيسار لقمان إذا... أغلت الشتوة إبداء الجزر

وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر:

وناجية نحرت لقوم صدق‏...وما ناديت أيسار الجزور

6. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالميسر، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

7. ﴿قُلْ فِيهِمَا﴾ يعنى الخمر والميسر ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك:

أ. روى النسائي عن عثمان قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا، قال زيدوني، فلم يرم‏ حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب.

ب. وروى أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة، فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء، فقال: اصطناع المعروف واجب، فقيل له: إنه ينهى عن الزنى، فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه، فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر، فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات.

ج. وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول:

رأيت الخمر صالحة وفيها... خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا... ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي... ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها... وتجنيهم بها الأمر العظيما

د. قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبدا، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك، وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا، وذكر الهيثم بن عدى أنه أخبره من رأى قبر أبى محجن باذر بيجان، أو قال في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهى معروشة على قبره، ومكتوب على القبر هذا قبر أبى محجن قال فجعلت أتعجب وأذكر قوله: (إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة)

هـ. ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رئي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورئي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله.

8. أما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل.

9. ذكروا في قوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾:

أ. أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشترى طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوى الضعف، وتعين على الباه، وتسخى البخيل، وتشجع الجبان، وتصفى اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها، وقد قال حسان بن ثابت:

ونشربها فتتركنا ملوكا...وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها، وقال آخر:

فإذا شربت فإنني‏...رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني‏...رب الشويهة والبعير

ب. ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخرا كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شي، وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين.

10. سهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهى: (الفذ وفية علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب، الثاني: التوأم وفية علامتان وله وعليه نصيبان، الثالث: الرقيب وفية ثلاث علامات على ما ذكرنا، الرابع: الحلس وله أربع، الخامس ـ النافز والنافس أيضا وله خمس، السادس ـ المسبل وله ست، السابع ـ المعلى وله سبع، فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي، وبقي من السهام أربعة، وهى الاغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهى: (المصدر و(المضعف و(المنيح و(السفيح)، وقيل: الباقية الاغفال الثلاثة: (السفيح و) المنيح) و) الوغد) تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام، قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء، والربابة (بكسر الراء): شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه‏...يسر يفيض على القداح ويصدع‏

والربابة أيضا: العهد والميثاق، قال الشاعر:

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي... وقبلك ربتني فضعت ربوب

وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم، ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم، ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا... والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر:

بأيديهم مقرومة ومغالق... يعود بأرزاق العفاة منيحها

و المنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الاغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل‏ بقوله:

ولقد عطفن على فزارة عطفة...كر المنيح وجلن ثم مجالا

وفي الصحاح: (والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا)، ومن الميسر قول لبيد:

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم‏...فواحش ينعى ذكرها بالمصائف‏

فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل.

11. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم، وقرا حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها، وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و(كثير بالثاء المثلثة يعطى ذلك، وقرا باقي القراء وجمهور الناس ﴿كَبِيرٌ﴾ بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق، وأيضا فاتفاقهم على ﴿أَكْبَرُ﴾ حجة لـ ﴿كَبِيرٌ﴾ بالباء بواحدة، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبد الله بن مسعود فإن فيه قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر بالثاء مثلثة في الحرفين.

12. قال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية، لان الله تعالى قد قال ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام، قال ابن عطية: (ليس هذا النظر بجيد، لان الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر)، وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي‏...كذاك الإثم يذهب بالعقول‏

وهذا أيضا ليس بجيد، لان الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ ولم يقل: قل هما إثم كبير.. وقد قال قتادة: إنما في هذه‏ الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهى آية المائدة وعلى هذا أكثر المفسرين.

13. ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ قراءة الجمهور بالنصب، وقرا أبو عمرو وحده بالرفع، واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبى إسحاق، قال النحاس وغيره: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب، وإن جعلت ما و(ذا) شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو، وجاز الرفع، وحكى النحويون: ماذا تعلمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب.

14. قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح ـ كما تقدم ـ فإنه لما نزل ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ قال: كم أنفق؟ فنزل ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر:

خذي العفو منى تستديمي مودتي‏...ولا تنطقي في سورتي حين أغضب‏

فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبى ليلى وغيرهم، قالوا: العفو ما فضل عن العيال، ونحوه عن ابن عباس، وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى، وكذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة ما أنفقت عن غنى)، وفى حديث‏ آخر: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)، وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة، وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع، وقيل: هي منسوخة، وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها، وقال قوم: هي محكمة، وفى المال حق سوى الزكاة، والظاهر يدل على القول الأول.

15. قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفى إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/52

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السائلون في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ هم المؤمنون، والخمر: مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه: خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه (خمّروا آنيتكم) وسمي خمرا: لأنه يخمر العقل، أي: يغطيه ويستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم، لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض: كثر خمرها، قال الشاعر:

ألا يا زيد والضّحاك سيرا...فقد جاوزتما خمر الطّريق‏

أي: جاوزتما الوهد؛ وقيل: إنما سميت الخمر خمرا: لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي: بلغ إدراكه، وخمر الرأي: أي: ترك حتى تبين فيه الوجه؛ وقيل: إنما سميت الخمر خمرا: لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر، لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته، أي: سترته.

2. الخمر: ماء العنب الذي غلا واشتدّ وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور، وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن عكرمة، وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيرة من غير خمر العنب فهو حلال، أي: ما دون المسكر فيه، وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور.

3. الميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال يسر لي كذا: إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا، والياسر اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر:

فأعنهم وأيسر كما يسروا به‏...وإذا هم نزلوا بضنك فانزل‏

وقال الأزهري: الميسر: الجزور التي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا: لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر: الجازر، قال وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنهم جازرون، إذ كانوا سببا لذلك، وقال في الصحاح: ويسر القوم الجزور: إذا اجتزروها، واقتسموا أعضاءها؛ ثم قال ويقال يسر القوم: إذا قامروا، ورجل ميسر وياسر بمعنى، والجمع أيسار، قال النابغة:

إني أتمّم أيساري وأمنحهم‏...مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

4. المراد بالميسر في الآية: قمار العرب بالأزلام، قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قومر به فهو ميسر.

5. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ يعني: الخمر والميسر:

أ. فإثم الخمر: أي: إثم تعاطيها، ينشأ من فساد عقل مستعملها، فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه، وأما إثم الميسر: أي: إثم تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل، والعداوة وإيحاش الصدور، وأما منافع الخمر: فربح التجارة فيها؛ وقيل: ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوّة القلب وثبات الجنان، وإصلاح المعدة، وقوّة الباءة وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال:

فإذا شربت فإنّني‏...ربّ الخورنق والسّدير

وإذا صحوت فإنّني‏...ربّ الشّويهة والبعير

وقال آخر:

ونشربها فتتركنا ملوكا...وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء

وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد والمصالح:

رأيت الخمر صالحة وفيها...خصال تفسد الرّجل الحليما

فلا ـ والله ـ أشربها صحيحا...ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي‏...ولا أدعو لها أبدا نديما

ب. ومنافع الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كدّ، وما يحصل من السرور والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح، وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ:

الأول: الفذّ، بفتح الفاء بعدها معجمة، وفيه علامة واحدة، وله نصيب، وعليه نصيب.

الثاني: التّوأم، بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وفتح الهمزة، وفيه علامتان، وله وعليه نصيبان.

الثالث: الرقيب، وفيه ثلاث علامات، وله وعليه ثلاثة أنصباء.

الرابع: الحلس بمهملتين، الأولى مكسورة واللام ساكنة، وفيه أربع علامات، وله وعليه أربعة أنصباء.

الخامس: النّافر، بالنون والفاء والمهملة، ويقال: النّافس، بالسين المهملة مكان الراء، وفيه خمس علامات، وله وعليه خمسة أنصباء.

السادس: المسبل، بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح الباء الموحدة، وفيه ست علامات، وله وعليه ستة أنصباء، السابع، المعلّى، بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد اللام المفتوحة، وفيه سبع علامات، وله وعليه سبعة أنصباء، وهو أكثر السهام حظا، وأعلاها قدرا، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فردا، والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءا، هكذا قال الأصمعي.

وبقي من السهام أربعة أغفالا لا فروض لها، وهي: المنيح، بفتح الميم، وكسر النون، وسكون الياء التحتية، وبعدها مهملة، والسّفيح، بفتح المهملة، وكسر الفاء، وسكون الياء التحتية، بعدها مهملة، والوغد، بفتح الواو، وسكون المعجمة، بعدها مهملة، والضّعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء، وإنما ادخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ويضرب بها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا.

وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب، ويحثو على ركبتيه، ويخرج رأسه من الثوب، ثم يدخل يده في الرّبابة، بكسر المهملة، وبعدها باء موحدة، وبعد الألف باء موحدة أيضا، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام، فيخرج منها باسم كل رجل سهما، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه، ومن خرج له سهم لا فرض له، لم يأخذ شيئا وغرم قيمة الجزور، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، وقد قال ابن عطية: إن الأصمعي أخطأ في قوله إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءا، وقال: إنما تقسم على عشرة أجزاء.

6. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ أخبر سبحانه: بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر؛ وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم، وقرأ حمزة والكسائي: كثير بالمثلثة، وقرأ الباقون بالباء الموحدة، وقرأ أبي: وإثمهما أقرب من نفعهما.

7. ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ قرأه الجمهور: بالنصب، وقرأ أبو عمرة وحده: بالرفع، واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قرأه الحسن وقتادة، قال النحاس: إن جعلت ذا بمعنى: الذي، كان الاختيار الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو، وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب على المعنى: قل ينفقون العفو.

8. العفو: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب؛ والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا فيه أنفسكم؛ وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال، وقال جمهور العلماء: هو نفقات التطوّع؛ وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة؛ وقيل: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة.

9. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: في أمر النفقة، وقوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ متعلق بقوله: ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: تتفكرون في أمرهما، فتحسبون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم، وتنفقون الباقي في الوجوه المقرّبة إلى الآخرة؛ وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة؛ لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها، وفي الآخرة وبقائها، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة؛ وقيل: يجوز أن يكون إشارة إلى قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ أي: لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، وليس هذا بجيد.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/253

المتوكل على الله:

قال الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ): قول الله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾: وهذا تحريم عام، وتشديد، وتغليظ، والله لا ينقض ما أكد، ولا يحل ما حرم، وقوله: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ليس المراد به: منافع للناس فيهما، ولا في ثمن الخمر، وإنما المراد بالمنافع هاهنا: أن الجلد الذي يكون على فاعلهما هو المنافع للناس؛ لأن شارب الخمر إذا جلد ازدجر هو وغيره، فكان جلده نافعا للناس كما قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:179]، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/99

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ هذه الآية أول آية نزلت في الخمر، على ما قاله ابن عمر والشعبيّ ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية في المائدة.

2. حقيقة الخمر ما أسكر من كلّ شيء روى (الشيخان) عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال‏: كل مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يد منها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة.

3. الميسر هو القمار ـ بكسر القاف ـ مصدر من يسر ـ كالموعد والمرجع من فعلهما يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من (اليسر) لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كدّ ولا تعب، أو من (اليسار) لأنه سلب يساره، وصفته: أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام(2).

4. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أي: عظيم ـ وقرئ بالمثلثة ـ وذلك لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع، من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر، وفي تقديم بيان إثمه، ووصفه بالكبر، وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصها بالناس، من الدلالة على غلبة الأول ـ ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ أي: المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من‏ الفوائد المترتبة عليه، أي: لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين، وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى، ولهذا كانت هذه الآية ممهّدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرّضة؛ ولهذا، قال عمر لمّا قرئت عليه: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا! حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:

5. ألّف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرّات المسكرات، ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات، وعيافها، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأوراح، وما ينشأ عنها من الخسران الماليّ، وممّا قرره خمسون طبيبا منهم هذه الجمل:

أ. إنّ المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده.

ب. إنها لا تفيد شيئا في قضاء الأعمال.

ج. إنها توقف النمو العقليّ والجسديّ في الأولاد.

د. إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات، وتجرّ إلى الفقر والشقاء هي من المسكنات كالبنج والإيثر.

هـ. إنها تعدّ للأمراض المعدية.

و. إنها تعدّ بنوع خاص للتدرّن والسلّ.

ز. إنها تضرّ في ذات الرئة والحمّى التيفودية أكثر مما تنفع.

ح. إنها تقرّب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت، وتطيل مدّة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة.

ط. إنها تعدّ لضربة الشمس والرعن في أيام الحرّ.

ي. إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد.

ك. إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية.

ل. إنها كثيرا ما تسبب التهاب الأعصاب، والآلام المبرّحة.

م. إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم.

ن. إنّ المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحّتهم.

س. إنّ الامتناع عنها مما يفضي إلى صحة وسعادة الجنس البشريّ.

6. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: يتصدقون به من أموالهم ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ وهو ما يفضل عن النفقة، أي: الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه، وفي (الصحيحين) عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأبدأ بمن تعول، وأخرج مسلم عن جابر: إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، وروى أبو داوود والنسائي عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: عندي دينار، قال أنفقه على نفسك، قال عندي آخر، قال أنفقه على ولدك، قال عندي آخر، قال أنفقه على أهلك، قال عندي آخر، قال أنفقه على خادمك، قال عندي آخر، قال أنت أعلم.

7. ﴿كَذَلِكَ﴾ ـ أي: كما بيّن لكم ما ذكر ـ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: الأمر والنهي وهوان الدنيا ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا﴾ أنها فانية ـ والآخرة ـ أنها باقية، وفي أمورهما لتصلحوها ولا تتحملوا مفسداتهما، فلا تتركوا اللذائذ الباقية للذائذ الفانية.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/110

(2) ذكر ما سبق ذكره من الأزلام وأنواعها

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، نزل في مكَّة: ﴿وَمِن ثَـمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالَاعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ إلخ [النحل: 67]، وكان المسلمون يشربون الخمر حلالاً.

2. قال في المدينة عمر ومعاذ وجماعة من الأنصار: (يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر، فإنَّهما يذهبان العقل والمال) فنزل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، فَتَرَكَهُمَا قوم لقوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، وبقي عليهما قوم لقوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، ثمَّ أطعم عبد الرحمٰن بن عوف ناسًا من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم وسقاهم الخمر، وصلَّى أحدهم بهم المغرب وقرأ: (قل يا أيُّها الكافرون أعبُد ما تعبُدون) فنزل: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ الآية [النساء: 43]، فكانوا يشربوها حين يصحون قبل وقت الصلاة، وأطعم عثمان بن مالك رجالاً منهم سعد بن أبي وقَّاص رأس بعير مشويًّا، وسقاهم خمرًا، فافتخروا وأنشدوا وتسابُّوا، وأنشد أحدهم قصيدة في مدح قومه وهجاء الأنصار، فشجَّ رجل من الأنصار رأس سعد بلحي بعير موضِحةً، فشكاه سعد إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال عمر: (اللهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا)، فنزل ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالَانصَابُ وَالَازْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الآية [المائدة: 90]، فقال عمر: (انتهينا يا ربَّنا) وذلك بعد الأحزاب بأيَّام.

3. والتدريج ليتركوا ما أَلِفوا، والخمر: ما اشتدَّ من عصير العنب لغةً، وأُلحِق بحُكمه كلُّ ما أسكر، (وما أسكر كثيره فقليله حرام، وما أسكر الفرق منه فمِلْءُ الكفِّ منه حرام).

4. وتسميته خمرًا حقيقة في اللغة أو مجاز، وسمِّيت خمرًا لأنَّها تخمر العقل، أي: تغطِّيه كخمار المرأة لِمَا يستر وجهها أو رأسها، وكالخامر وهو كاتم الشهادة، أو لأنَّ أصلها يغطَّى حتَّى يشتدَّ، ولأنَّها تخالط العقل، يقال: خامره داءٌ أي خالطه، أو أنَّ أصلها يُترك حتَّى يدرك كما يقال: اختمر العجين، أي: بلغ إدراكه، أو لتغيُّر ريحها، واللَّفظ في الأصل مصدر وليس بمعنى اسم الفاعل، ولا بمعنى اسم مفعول، ولا باقيًا على المعنى المصدريِّ، بل هو اسم لذلك المائع المسكر، كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي: (كلُّ مسكر خمر)، ورووا: (إنَّ الخمر ما خامر العقل)، وهي ما اشتد ثمَّ سكن، وقيل: ما اشتدَّ فهو خمر ولو أخذ قبل السكون، وقيل: إنْ سكن بنحو ماء صبَّ فيه فهو حلال، (وكلُّ مفتِّر حرام)، وعن ابن عمر: (لو أدخلت إصبعي فيها لم تتبعني) يعني يقطعها، وعن عليٍّ: (لو وقعت قطرة من خمر في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذِّن عليها، ولو وقعت في بحر ثمَّ جفَّ فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابَّتي).

5. والميسر: أنواع المخاطرة، كاللعب بالكعاب والجوز والنرد والشَّطرنج، وإلقاء السهام على أنَّه من خرج سهمه نحر جزورًا أو غيرها فتُؤكَل، أو يحضر كذا طعامًا يؤكل، سمِّي [ميسرًا] لأنَّه أخذُ مالٍ بيسر، من الثلاثيِّ، أو هو مِن (أَيْسَرَ): صار ذا يسرٍ بمال غيره، أو من (أَيْسَرَ) بمعنى: سلب اليسار عمَّن أخذ ماله، فبني بحذف الزَّائد، أو مِن (أيسروا الشيء) إذا اقتسموه، أو من (يَسَر) بمعنى وجب بسبب القِدح، تجعل الأزلام والأقلام: الفذُّ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبِّل والمعلّى والمنيح والسفيح والوغد في خريطة، تكون بيد عدل يجلجلها ثمَّ يدخل يده فيخرج قدحًا فيه اسم رجل، وكلُّ من خرج اسمه فله نصيب من جزور مقسومة على ثمانية وعشرين، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئًا وغرم ثمن الجزور، ولا يأكلون من أنصبائهم بل كلُّ الجزور للفقراء، واللاتي لا نصيب لها: المنيح والسفيح والوغد.

6. ﴿وَإِثْمُهُمَآ﴾ مِن تضييع المال ووقوع الفتنة والشَّتم وقول الفحش والضَّرب والزنى وترك الصَّلاة والصوم ﴿أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ وهو تصفية اللون، وزوال الهمِّ، وهضم الطعام، وتقوية الجِماع والفَرَح، والحمل على الشجاعة والكرم، إلَّا أنَّه يُعقِب الضعفَ، وتثقب العظم.

7. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ سأله معاذ بن جبل وثعلبة وغيرهما، وقيل: عمرو بن الجموح، سأله فيما مضى عن نوع ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ وسأله هنا: كم ينفق؟ وكان الرجل ينفق ماله كلَّه حتَّى لا يجد ما يأكل هو وعياله، ﴿مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ أي أقليلاً أم كثيرًا؟ بدليل قوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي ما تيسَّر بلا مشقَّة، كالفاضل عن الحاجة من نفقة العيال.

8. روى البزَّار أنَّ رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمثل بيضة الحمامة من ذهب، أي: بمثل بيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي، فقال: (خذها منِّي صدقة وأعطها من يستحقُّها)، وفي رواية: أصابها في بعض المعادن، وفي رواية أبي داود وابن حبَّان ورواية للبزَّار: في بعض المغانم، وعلى كلِّ حال أعرض عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حتَّى كرَّر مرارًا من يمينه ثمَّ من يساره ثمَّ من خلفه فقال: (هاتها) مغضبًا، فأخذها فحذفها حذفًا لو أصابته لشجَّته، أو لعقرته، أو لأوجعته، ثمَّ قال: (يأتي أحدكم بماله كلِّه يتصدَّق به، ويجلس يتكفَّف الناس! إنَّما الصدقة على ظهر غِنًى)، علم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه ليس له إلَّا ذلك، وعلم أنَّه لا يصبر عن السؤال بكفِّه، أو أرشد إلى الأصلح، فحصل الجمع بينه وبين قوله: (خير الصدقة جهد المقلِّ)، أي: إذا كان يصبر ولا يتكفَّف، كما قبِل عن أبي بكر في أحيانٍ جميع ما ملك غير بيته وما يستره، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: أنفق عليَّ أو طلِّقني، ويقول مملوكك: أنفق عليَّ أو بعني، ويقول ولدك: إلى من تكلني).

9. ﴿كَذَالِكَ﴾ كما بيَّن لكم أنَّ الأصلح صدقة العفو، أو مع ما مرَّ من الأحكام من قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [الآية: 215] إلى هنا، ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الَايَاتِ﴾ سائر الآيات التي تنزل بعد، أو مطلقًا، أي: من شأنه التبيين، والكاف الأولى: لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لمن يصلح مطلقًا، وفي هذا الوجه الجمع مأصدقا، والثَّانية للمؤمنين، كما يقول الأمير لنائبه: (أقول لك افعلوا كذا)، أي قل لهم: (افعلوا)، أو أراد بالأولى: الفريق.

10. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: في أمرهما، فتأخذون ما يصلح لكم ولا يضرُّكم ﴿فِي الدُّنْيَا وَالَاخِرَةِ﴾ أو في أيِّهما أحقُّ فتجدونه الآخرة، ويجوز أنْ يتعلَّق بـ (يبيِّن)، أو بمحذوف حال من (الآيَاتِ)، وقدَّم التفكُّر على طريق الاهتمام، أو يتنازع (يبيِّن) ويتفكَّر في قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾، والتكرار بالتنازع لا ركَّة فيه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/26.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ـ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ذكر هنا بعض الآثار في سبب النزول التي سبق ذكرها.

2. لا يتوقف فهم معنى الآيات على شيء من هذه الروايات، ويظهر من مجموعها أن القطع بتحريم الخمر والنهي عنها كان بعد تمهيد بالذم والنهي عن السكر في حال قرب الصلاة، وأوقات الصلوات متقاربة فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران، فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وهو الذي تدل عليه الجملة الحالية ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ التي قيد بها النهي كما سنبينه في تفسير الآية من سورة النساء، وفي هذا من الحكمة في التدرج بالتكليف ما لا يخفى، قال القفال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم أن استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق، والذي كان يتبادر ـ لولا الروايات ـ أن آية سورة النساء هي التي نزلت أولا، فكانوا يمتنعون عن الشرب في أكثر الأوقات لئلا تفوتهم الصلاة، وأما آية المائدة فلا شك أنها آخر ما نزل؛ لأنها أكدت النهي، وبينت علة التحريم بالتعيين، على أن السورة برمتها من آخر السور نزولا.

3. ذهب بعض الأئمة إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية، وأن ما أتى بعدها فهو من قبيل التوكيد؛ لأن لفظ الإثم يفيد المحرم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، ولكن ذهب الجمهور إلى أن التحريم كان تدريجيا كما تقدم، ووجهه محمد عبده بأنه المنقول والمعهود في حكمة التشريع، وقال: إن الإثم هو الضرر، فتحريم كل ضار لا يقتضي تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى؛ لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنه يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها، فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها، ولو فوجئوا بالتحريم مع ولوع الكثيرين بها واعتقادهم منفعتها لخشي أن يخالفوا أو يستثقلوا التكليف، فكان من حكم الله أن رباهم على الاقتناع بأسرار التشريع وفوائده ليأخذه بقوة وعقل.

4. لفظ الخمر منقول من مصدر خمر الشيء بمعنى ستره وغطاه، يقال: خمرت الشيء إذا سترته وخمرت الجارية ألبستها الخمار، وهو النصيف الذي تغطي به وجهها، وتخمرت هي واختمرت، والوجه في النقل أن هذا الشراب يستر العقل ويغطيه، أو هو من خامره بمعنى خالطه، يقال: خامره الداء؛ أي: خالطه، وهو ما صرح به عمر في خطبة له على منبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أو بمعنى التغير، يقال: خمر الشيء ـ كعلم ـ إذا تغير عما كان عليه، والعصير يتغير فيكون خمرا، أو بمعنى الإدراك، من خمر العجين ونحوه فاختمر؛ أي: بلغ وقت إدراكه، وقال ابن الأعرابي: إنه يقال سميت الخمر خمرا؛ لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها.

5. جميع هذه المعاني ظاهرة في هذه الأشربة المسكرة كلها كما قال ابن عبد البر، فيصح إطلاق اسم الخمر لغة على كل مسكر، وهذا ما ذهب إليه أشهر علماء اللغة كالجوهري وأبي نصر القشيري وأبي حنيفة الدينوري والمجد صاحب القاموس، والظاهر أن هذا الإطلاق حقيقي ولا وجه للعدول عنه إلا أن يصح أن العرب كانت تسمي نوعا خاصا من المسكرات خمرا لا تطلق اللفظ على مسكر سواه، وهو ما زعمه بعض الناس.

6. الحنفية على أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وقذف بالزبد، زاد بعضهم ثم سكن، وقيل إذا اشتد فقط، ويرده أن الصحابة ـ وهم صميم العرب ـ فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره؛ بل قال أهل الأثر: إن الخمر حرمت بالمدينة ولم يكن شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر، فهو الذي تناوله نص القرآن ابتداء، وأخرج أبو داود: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة: من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والخمر ما خامر العقل) وكأن هذا كل ما يعرف، ولا شك أن غيره مثله، والأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك، ومنها حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي: (كل مسكر خمر) وروي بزيادة: (وكل خمر حرام) وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والخلفاء يجلدون كل من سكر، ويعبرون عن ذلك بحد الخمر أو عقوبته، يقول المخصصون: إن ما ورد في الحديث اصطلاح شرعي لا لغوي، ونقول: إن الذي أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما نزل عليهم قد بين لهم أن الخمر التي نهى الله عنها في كتابه هي كل مسكر، فلا فرق في حكمها بين مسكر وآخر، وهذا البيان قطعي متواتر لأن العمل عليه، وفي حديث أبي داود وغيره (ما أسكر كثيره فقليله حرام)

7. الميسر هو القمار، واشتقاقه من يسر إذا وجب، أو من اليسر بمعنى السهولة؛ لأنه كسب بلا مشقة ولا كد، أو من اليسار وهو الغنى؛ لأنه سببه للرابح، أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام، يقال: يسروا الشيء إذا اقتسموه، قال الأزهري: الميسر الجزور ـ الجمل ـ كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا؛ لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر أي: لأنه يجزئ لحم الجزور، ثم صار يقال للمتقامرين جازرون؛ لأنهم سبب الجزر والتجزئة، هذا هو الأصل.

8. كيفيته عند العرب هي أنه كان لهم عشرة قداح (جمع قدح بالكسر) وتسمى الأزلام والأقلام، وهي الفذ، والتوءم، والرقيب، والحلس (ككتف) والمسبل، والمعلى، والنافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءا، وليس للثلاثة الأخيرة شيء، فللفذ سهم، وللتوءم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة وهو أعلاها؛ ولذلك يضرب به المثل لمن كان أكبر حظا أو نجاحا من غيره في كل شيء مفيد له، فيقال: صاحب القدح المعلى، وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الربابة، وهي الخريطة، ويضعونها على يد عدل يجلجلها ويدخل يده فيخرج منها واحدا باسم رجل، ثم واحدا باسم رجل إلخ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم ـ بالتحريك ـ وهو في الأصل ثمر العضاه لا ينتفع به، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال: كل سهام الياسرين عشرة فأودعوها صحفا منشرة لها فروض ولها نصيب الفذ والتوءم والرقيب والحلس يتلوهن ثم النافس وبعده مسبلهن السادس ثم المعلى كاسمه المعلى صاحبه في الياسرين الأعلى والوغد والسفيح والمنيح غفل فما فيها يرى ربيح.

9. اختلفوا: هل الميسر ذلك النوع من القمار بعينه، أم يطلق على كل مقامرة؟ ولكن لا خلاف بين الفقهاء في أن كل قمار محرم إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد، وليس منها سباق الخيل المعروف في عصرنا؛ فإنه من شر القمار الذي ترجع جميع أنواعه إلى كونها من أكل أموال الناس بالباطل.

10. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿كَثِيرٍ﴾) بالمثلثة من الكثرة وقرأ الباقون ﴿كَبِيرٌ﴾) من الكبر، والإثم: كل ما فيه ضرر وتبعة من قول وعمل؛ أي: قل أيها الرسول: إن في تعاطي الخمر والميسر إثما كثير المفاسد وذنبا كبير الضرر، وإنما كان إثم الخمر كبيرا؛ لأن مضراتها والتبعات التي تعقبها كبيرة، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال، ويكون في التعامل وارتباط الناس بعضهم ببعض، ولا يوجد إثم من الآثام كالخمر يدخل ضرره في كل شيء من الأفعال ومن الأقوال.

11. أنواع الضرر المرتبطة بصحة الجسم والعقل كثيرة:

أ. فمن مضرات الخمر الصحية إفساد المعدة والإقهاء ـ فقد شهوة الطعام ـ وتغيير الخلق، فالسكارى يسرع إليهم التشوه، فتجحظ أعينهم، وتمتقع سحنتهم، وتعظم بطونهم؛ بل قال أحد أطباء الألمان: إن السكور ـ كثير السكر ـ ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، ويكون كالهرم جسما وعقلا، ومنها مرض الكبد والكلى، وداء السل الذي يفتك في البلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بقوانين الصحة، ولكن لا وقاية من شرور السكر إلا بتركه، وقد قيل: إن نحو نصف الوفيات في بعض بلاد أوربا بداء السل، ولم يكن هذا الداء معروفا أو منتشرا في مثل هذه البلاد ـ مصر ـ قبل شيوع السكر فيها، فهو من الأدواء التي حملها إليها الأوربيون، وقد كثر كثرة فاحشة في مصر على أن جوها لا يساعد على انتشاره.

ب. أما ضرر الخمر في العقل فهو مسلم عند الناس، وليس ضرره فيه خاصا بما يكون من فساد التصور والإدراك عند السكر؛ بل السكر يضعف القوة العاقلة، وكثيرا ما ينتهي بالجنون، ولأحد أطباء ألمانيا كلمة اشتهرت كالأمثال وهي (اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ ـ التكايا ـ والسجون)، وقد قال الأطباء: إن المسكر لا يتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية بعد الهضم، بل يبقى على حاله، فيزاحم الدم في مجاريه فتسرع حركة الدم، وتختل موازنة الجسم، وتتعطل وظائف الأعضاء أو تضعف، وتخرج عن وضعها الطبيعي المعتدل.

ج. فمن تأثيره في اللسان إضعاف حاسة الذوق، وفي الحلق الالتهاب، وفي المعدة ترشيح العصارة الفاعلة في الهضم حتى يغلظ نسيجها وتضعف حركتها، وقد يحدث فيها احتقانا والتهابا، وفي الأمعاء التقرح، وفي الكبد تمديده وتوليد الشحم الذي يضعف عمله، وكل هذا يتعلق بما يسمونه الجهاز الهضمي.

د. ومن تأثيره في الدم أنه بممازجته له يعوق دورته وقد يوقفها أحيانا فيموت السكور فجأة، ويضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تنسد أحيانا فيفسد الدم، ولو في بعض الأعضاء، فتكون الغنغرينا التي تقضي بقطع العضو الذي تظهر فيه لئلا يسري الفساد إلى الجسد كله فيكون هالكا، وتصلب الشرايين يسرع الشيخوخة والهرم.

هـ. ومن تأثيره في جهاز التنفس إضعاف مرونة الحنجرة، وتهييج شعب التنفس، وأهون ضرر ذلك بحة الصوت والسعال، وأعظمها تدرن الرئة؛ أي: السل الفاتك بالشبان والقاطع لجميع لذات الإنسان.

و. وأما تأثيره في المجموع العصبي فهو الذي يولد الجنون ويهلك النسل، فولد السكور لا يكون نجيبا، وولد ولده يكون شرا من ولده وأضعف بدنا وعقلا، وقد يؤدي تسلسل هذا الضعف إلى انقطاع النسل ألبتة، ولا سيما إذا جرى الأبناء على طريق الآباء كما هو الغالب.

12. ومن مضرات الخمر في التعامل:

أ. وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع بعض، وبينهم وبين من يعاشرهم ويعاملهم، تثير ذلك أدنى بادرة من أحدهم، فيوغلون فيه حتى يكون عداوة وبغضاء، وهذه العلة في التحريم من أكبر العلل في نظر الدين؛ ولذلك ورد بها النص في سورة المائدة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾

ب. ومنها إفشاء السر، وهو ضرر يتولد منه مضرات كثيرة، ولا سيما إذا كان السر يتعلق بالحكومة وسياسة الدولة ومصالحها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس.

ج. ومنها الخسة والمهانة في أعين الناس؛ فإن السكران يكون في هيئته وكلامه وحركاته بحيث يضحك منه ويستخف به كل من يراه، حتى الصبيان؛ لأنه يكون أقل منهم عقلا، وأبعد عن التوازن في حركاته وأعماله، والضبط في أفكاره وأقواله، وينقلون عن السكارى من النوادر الغريبة ما يكفي في ردع من له شرف وعقل عن الخمر، فيراجع ذلك في كتب الأدب والمحاضرة، ومما ذكر عن المحدثين: أن ابن أبي الدنيا مر بسكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا، وعرض بعضهم شرب الخمر على أحد فصحاء المجانين فقال له المجنون: أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟

د. ومنها أن جريمة السكر تغري بجميع الجرائم التي تعرض للسكران وتجرئ عليها، ولا سيما الزنا والقتل، وبلغني أن جميع الذين يختلفون إلى مواخير الزنا لا يذهبون إليها إلا وهم سكارى؛ لأن غير السكران تنفر نفسه من هذه القاذورات المبتذلة مهما تكن خسيسة؛ ولذلك سميت الخمر أم الخبائث كما ورد في الحديث، فهذه إشارة إلى مضراتها في النفس من حيث الأخلاق والآداب.

13. ومن مضراتها المالية أنها تستهلك المال وتفني الثروة كما قال عنترة:

فإذا شربت فإنني مستهلك..، مالي وعرضي وافر لم يكلم

ولم تكن الخمر مذهبة للثروة في زمن من الأزمنة كزماننا هذا، ولا في مكان كهذه البلاد؛ فإن أنواع الخمر كثرت فيها، ومنها ما هو غالي الثمن جدا، ثم إن المتجرين بها كثيرا ما يقرنون بينها وبين القيادة إلى الزنا، وفي مصر القاهرة بيوت للفسق تجمع بين الخمر والنساء والراقصات والمغنيات، يدخلها الرجال زرافات وأفذاذا، ويتبارون ثم في النفقة حتى ليخسر الرجل في ليلته المئين والألوف، وإن الخمار الرومي الفقير ليفتح في إحدى القرى والمزارع من هذه البلاد حانة صغيرة فلا تزال تتسع بما تبتلع من ثروة الأهالي وغلات أرضهم حتى تبتلع القرية كلها، فتكون أموالها وغلاتها وقطنها وتجارتها في يد (الخواجة) صاحب الحانة، وقد عم البلاء بالخمر هذا القطر بما لأهله من الاستعداد للتقليد حتى قيل: إن ما يصرف في مصر على الخمر يعدل ما يصرف في فرنسا كلها.

14. ومن مضرات الخمر في الدين من حيث روحه ووجهة العبد إلى الله تعالى أن السكران لا تتأتى منه عبادة من العبادات ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين؛ ولذلك قال تعالى في آية المائدة بعد ما تقدم آنفا: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ وسيأتي إيضاح هذا المعنى في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

15. هذا شيء من البيان لكون إثم الخمر كبيرا بمعنى أن كبره بكبر ضرره، أو كونه كثيرا لكثرة أنواعه، وقد يشتبه بعض المبتلين بشرب الخمر في بعض تلك المضرات الصحية، أو يتوهمون أنه يسهل عليهم التوقي منها، وهيهات هيهات لما يتوهمون؛ فإن المزاج الذي يتحمل سم الخمر ـ الذي يسمى الكحول أو الغول ـ زمنا طويلا بحيث يغتر الناس بحسن صحة صاحبه قليل في الناس، ولكن هؤلاء المبتلين يقيسون على النادر ويجهلون الأصل الغالب، وهو أنه لا يكاد يسلم مدمن السكر من ضرره في جسمه أو عقله ومداركه أو ولده وذريته، بل تجتمع كلها في الغالب، وأما المضرات المعنوية فيقل في معتادي السكر من يحفل بها، على أن منهم من يرى أنه يسهل عليه تجنبها.

16. أما كون إثم الميسر كبيرا أو كثيرا فقد جاء فيه ما جاء في الخمر من كونه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا ظاهر في ميسر العرب، وفي جميع أنواع القمار المعروفة في عصرنا إلا ما يسمونه (اليانصيب) فإنه على كونه ميسرا لا شك فيه لا يظهر جميع مفاسده في بعض أنواعه.

17. ميسر اليانصيب: هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار ـ جنيه ـ مثلا تجعل جزءا كبيرا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلا يقسم بينهم بطريقة الميسر وتأخذ هي الباقي؛ ذلك بأن تطبع أوراقا صغيرة كأنواط المصارف المالية (بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارا واحدا مثلا يطبع عليها، وتجعل العشرة آلآلاف التي تعطي ربحا لمشتري هذه الأوراق مائة سهم أو نصيب تعرف بالأرقام العددية وتسمى النمر ـ جمع نمرة ـ ويطبع على الورقة المشتراة عددها وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعا صغيرة من المعدن ينقش في كل واحدة منها عدد من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحدة إلى مائة ألف إذا كان المبيع من الأوراق مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كروي الشكل كخريطة الأزلام (القداح) التي بيناها آنفا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولا سمي النمرة الأولى مهما يكن عددها، وهي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند العرب، وما خرج منها ثانيا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده وكان الباقي خاسرا.

18. أما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون عند السحب، وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له عملا آخر فيشغلهم عن الصلاة أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا يعرف الخاسر منهم فردا أو أفرادا أكلوا ماله فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب وقمار الموائد ونحوه، وكثيرا ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات الحربية، والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال الخيرية العامة أو الدولية، ولكن فيه مضار القمار الأخرى، وأظهرها أنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل؛ أي: بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، هذا محرم بنص القرآن كما تقدم في محله.

19. قد يقال: إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة المرضى أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه معنى أكل أموال الناس بالباطل إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية المال من جمعية أو حكومة، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن الصلاة.

20. من مضرات الميسر ما نبه إليه محمد عبده ـ ولم يسبقه إليه أحد من المفسرين ـ:

أ. إفساد التربية بتعويد النفس الكسل وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.

ب. ومنها ـ وهو أشهرها ـ تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز، وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك.

21. أما المنافع في الخمر:

أ. فأهمها التجارة، فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للثروة ومادة عظيمة للتجارة، ولولا ذلك لغلب علماء الإفرنج على جهالهم وأبطلوا عمل الخمور وبيعها حتى لا يبقى منها إلا ما يعمل سرا كما هو شأن الناس في اللذات الممنوعة، وقد كانت العرب تسخو في شراء الخمر ما لا تسخو في غيرها، وكانوا يعدون ترك المماكسة فيها مكرمة وفضيلة، فيكثر ربح مجتلبها وبائعها.

ب. ومنها أنها قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل، ولكن الدواء يؤخذ بمقدار قليل قد يعينه الطبيب بالنقط، فإذا زاد كان شديد الضرر كسائر الأدوية ولا سيما السامة منها، فالتداوي بالخمر لا يتفق مع شربها للنشوة واللذة.

ج. ومنها أنها تسلي الحزين على أن ما يكون بعدها من رد الفعل يزيد في الحزن والكآبة.

د. ومنها أنها تسخي البخيل، ولكن هذا السخاء قد صار ضررا كله؛ لأنه يذهب بثروة البلاد فيضعها في أيدي شرار الأجانب، وقد كان في الجاهلية نافعا؛ لأن الرجل كان يبذل ماله في قومه.

هـ. ومنها أنها تثير النخوة وتشجع الجبان وربما كان هذا أعظم منافعها عند العرب في الجاهلية، وهو من أكبر مضراتها في هذا الزمان، ومثل هذه البلاد؛ لأن هذه الحمية هي السبب فيما يكون بين السكارى من التنازع والتخاصم والاعتداء، ولا حاجة إليها في الحرب الآن بل هي ضارة فيها؛ لأن الحرب صارت صناعة دقيقة وفنا من العلم لا بد فيها من حضور العقل وجودة النظر؛ فرب غلطة من قائد تذهب بجيشه وتظفر به عدوه، فالضباط مدبرون والجنود آلات عاقلة في أيديهم لا نجاح لها إلا بالسمع والطاعة مع الفهم، والسكر قد يحول دون حسن التدبير من الضباط وسرعة الامتثال من الجنود، وقد اتفقت الحكومات التي تبيح الخمر على منعها عن الجيوش في زمن الحرب.

و. ويعدون من منافع بعض الخمور القليلة التأثير كالجعة (البيرة) التغذية والتحليل، ويعجبني جواب سؤال في ذلك ذكر في مجلة عربية وهو أن لقمة من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرة، وأن كوبا من الماء أشد تحليلا من كوب منها، على أنه ليس في الخبز والماء ضرر ما، ومن الجعة ما لا يسكر كما يقال.

22. من منافع الميسر:

أ. مواساة الفقراء كما علمت من عادة العرب التي لا وجود لها الآن، وإلا فيما ذكر آنفا من النوع الذي يسمونه (يانصيب) لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس، وغير ذلك من البر الذي هو أنفع للفقراء من لحم الجزور الذي كان العرب يخصونهم به، ومنها سرور الرابح وأريحيته، ويقابله كدر الذين يخسرون وهم الأكثرون؛ لأن أكثر ربح القمار في هذا العصر يغتاله الذين يديرون أعماله.

ب. ومنها أن يصير الفقير غنيا من غير تعب ولا نصب، ولكن هذا من أشد ضرره في الأمة، أو أشده كما تقدم.

23. زعم بعض الناس أن المنافع التي كانت في الخمر والميسر قد سلبها الله تعالى منهما بعد التحريم وهو قول غير معقول ولا دليل عليه، بل الحس ينبذه ولا حاجة إليه في التنفير عن الجريمتين بعد ما بين الله تعالى الأصل في التنفير بقوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ وهذا القول إرشاد للمؤمنين إلى طريق الاستدلال، فكان عليهم أن يهتدوا منه إلى القاعدتين اللتين تقررتا بعد في الإسلام: قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقاعدة ترجيح ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما، ولكن لم يهتد إلى ذلك جميعهم، إذ ورد أن بعضهم ترك الخمر عند نزول الآية وبعضهم لم يترك كما تقدم.

24. هذا ما كنت كتبته ونشرته في تفسير الآية في المرة الأولى، ثم فطنت بعد ذلك إلى قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي بينتها في المنار وفي التفسير واستدللت عليها بهذه الآية، وهي أن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، وإنما يعمل فيه كل واحد باجتهاده، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة، ودلالة هذه الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية، ولذلك عمل فيها الصحابة باجتهادهم ـ على اختلافهم فيه ـ وأقرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وبقي عمر بن الخطاب يدعو الله أن يبين للأمة في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية سورة المائدة كما تقدم آنفا، فترك جميع الصحابة الخمر والميسر؛ لأن دلالتها قطعية لا مراء فيها، ولا سيما قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ لأنه استفهام بمعنى النهي المؤكد، وأما كون إثم هاتين الفعلتين؛ أي: ضررهما أكبر من نفعهما مع إثبات المنافع لهما فلا يدل على ذلك دلالة قطعية.

25. مضرة الخمر لا يجهلها أحد، ولذلك كان في الجاهلية من حرمها على نفسه ومنهم العباس بن مرداس، قيل له في الجاهلية: ألا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم.

26. أطباء الإفرنج وعلماؤهم مجمعون على أن ضرر الخمر، وكذلك الميسر ـ بالأولى ـ أكبر من نفعهما، وقد ألفت جمعيات في أوربا وأمريكا للسعي في إبطال المسكرات، فهم يتعاهدون على عدم الشرب، وعلى الدعوة إلى ذلك والسعي لدى الحكومات بالتشديد على بائعي الخمور، فالأيام والأجيال كلما تقدمت وارتقت تؤيد قول القرآن بأن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما، فإن أطباء هذا العصر يصفون من مضرات الخمر ما لم يكن معروفا عند الأطباء المتقدمين، وهو ما أطلقه الله تعالى لعباده ليبحثوا فيه ويتبينوا صدقه بأنفسهم؛ لتكون عقولهم مؤيدة لكتابه بوجوب اجتنابه.

27. لكن لدينا من أهل الذكاء والفطنة وأدعياء العلم والمدنية من استعبدهم سلطان اللذة فصرفهم عن النظر والبحث في هذه المضرات، كما صرفهم عن هداية الدين، وصرف آباءهم عن تربيتهم عليه، فأسرفوا في معاقرة الخمر حتى غيض معين حياة بعض الشبان، وانكسفت شموس عقول آخرين قبل الاكتهال فحرموا من سعادة الحياة، وحرمت بيوتهم وأمتهم مما كانت ترجوه من ذكائهم واستعدادهم، بدت فتنة السكر في طائفة من الكبراء والمتعلمين، وصارت تعد من علامات المتفرنجين الذين يسمون المتمدينين، وسرت عدواها إلى غيرهم من المقلدين، حتى قلد فيها شيوخ القرى وعمد البلاد فكانوا شر قدوة للفلاحين والعمال والأجراء، وعم خطر هذه الآفة التي تتبعها آفة الزنا حيث سارت، ويتبع الزنا داء الزهري الذي هو من أسباب انقطاع النسل، فأية منفعة توازي هذه الآفات القاتلة والجوائح المصطلمة؟!

28. نوه محمد عبده في الدرس بهذه العبرة وقال: إنني كنت أقول إن المصريين لايفنون في جنس آخر، وإن استولى عليهم قرونا طويلة، ولكن غيرهم قد يفنى فيهم؛ لأنهم يرضون بكل سلطة، ويدينون لكل قوة، فلا يؤثر فيهم الذل والفقر كما يؤثر في غيرهم، بل يظلون ـ ما وجدوا قوتا ـ يتناسلون ويكثرون، والعامل لا يعدم في أرض زراعية كمصر قوتا؛ ولذلك تقلبت الأمم على المصريين ثم زالت أو زال سلطانها عنهم، وبقي المصريون مصريين، لهم سحنتهم وصفاتهم وأخلاقهم وعاداتهم، ولكنني رجعت عن هذا القول بعد ما رأيت من انتشار الخمر والزنا في البلاد، ولا سيما هذه الخمور الإفرنجية التي تباع للفقراء والفلاحين وما هي بخمر جعلت للشرب، وإنما هي المادة المحرقة السامة التي تسمى (السبرتو) يضاف إليها شيء من الماء والسكر أو غير ذلك مما يمكن من تناولها، فإذا استمر السكر والفحش على سريانهما هذا فلا يبعد أن تنقرض الأمة المصرية بعد جيلين أو ثلاثة كما انقرض هنود أمريكا فلا يبقى منهم إلا بقية من الخدم والأجراء عند من يخلفهم في الأرض، فإن السكر والزنا كالمقراضين يقرضان الأمم قرضا.

29. أما كون إثم الميسر أكبر من نفعه فهو أظهر مما تقدم في الخمر ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعم ضررها، حتى إن الحكومات الحرة التي تبيح تجارة الخمر تمنع أكثر أنواع القمار وتعاقب عليها، على احترامها للحرية الشخصية في جميع ضروب التصرف التي لا تضر بغير العامل، فمنفعة القمار وهمية ومضراته حقيقية؛ فإن المقامر يبذل ماله المملوك له حقيقة على وجه اليقين لأجل ربح موهوم ليس عنده وزن ذرة لترجيحه على خطر الخسران والضياع، والمسترسل في إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره ويضعف عقله؛ ولذلك ينتهي الأمر بكثير من المقامرين إلى بخع أنفسهم ـ قتلها غما ـ أو الرضى بعيشة الذل والمهانة، قال محمد عبده: إنني أعرف رجلا كانت ثروته لا تقل عن ثلاثة آلاف ألف جنيه ملايين، فما زال شيطان القمار يغريه باللعب فيه حتى فقد ثروته كلها وعاش بقية حياته فقيرا معدما حتى مات جائعا، وذكر أنه ربح في ليلة تسعمائة ألف فرنك، فقال: لا أبرح حتى أتمها مليونا، فلم يبرح حتى خسرها إلى مليون آخر، وهكذا شأن أكثر المقامرين يغترون بالربح الذي يكون لهم أو لغيرهم أحيانا فيسترسلون في المقامرة حتى لا يبقى لهم شيء.

30. لبيوت القمار في مصر طرق في استدراج الأغنياء لا يعقلها المصريون على ما يرون من آثارها في تخريب بيوت من اصطيدوا بأحابيلها من إخوانهم، ويحكى أن رجلا عاقلا رأى من ولده ميلا إلى المقامرة لمعاشرته بعض أهلها، فلما حانت وفاته وخاف أن يضيع ولده ما يرثه عنه، وعلم أن النهي لا يكون إلا إغراء، قال له: يا بني أوصيك إذا شئت أن تقامر بأن تبحث عن أقدم مقامر في البلد وتلعب معه، فطفق الولد بعده يبحث ويسأل، وكلما دل على واحد علم منه أن هناك من هو أقدم منه حتى انتهى به البحث إلى شيخ رث الثياب، ظاهر الاكتئاب، فعلم من حاله ومقاله أن مآل المقامر إلى أسوأ مآب، وأن والده قد اجتهد بنصيحته فأصاب، وأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ورجع هو إلى رشده وأناب، فلم يدخل بيت المقامرة من طاق ولا باب.

31. يشترك الميسر مع الخمر في أن متعاطيهما قلما يقدر على تركهما والسلامة من بلائهما؛ لأن للخمر تأثيرا في العصب يدعو إلى العود إلى شربها والإكثار منها، فإن ما تحدثه من التنبيه يعقبه خمود وفتور بمقتضى سنة رد الفعل، فيشعر السكران بعد الصحو أنه مضطر إلى معاودة السكر، ليزول عنه ما حل به، فإذا هو عاد قويت الداعية، وأما الميسر فإن صاحبه كلما ربح طمع في الزيادة، وكلما خسر طمع في تعويض الخسارة، ويضعف الإدراك حتى تعز مقاومة هذا الطمع الوهمي، وهذا شر ما في هاتين الجريمتين.

32. جملة القول أن الله تعالى قد هدانا لأن نعلم مضرات الخمر والميسر ببحثنا لنكون على بصيرة في تحريمهما علينا، وأننا نرى الأمم التي لا تدين بالإسلام ولم تخاطب من الله تعالى بهذه الهداية قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من تلك المضار، وأنشأت تؤلف الجمعيات للسعي في إبطال هاتين الجريمتين، ونحن الذين منحنا تلك الهداية منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف أنشأنا نأخذ عن تلك الأمم ما أنشأت هي تقاومه وتذمه، حتى إن السكر قد غلب في رؤساء دنيانا، والميسر قد انتشر في أمرائنا وكبرائنا، ثم فشا فيمن دونهم تقليدا لهم.

33. نبه محمد عبده لهذه العبرة وقال: انظروا إلى من أنعم الله عليهم بهذه النعمة كيف صاروا يكفرونها، وكيف حل بهم غضب الله تعالى فسلبوا معظم ما وهبوا، ويخشى أن يمتد ذلك حتى يعز تداركه والعياذ بالله تعالى.

34. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ قال السيوطي في كتاب أسباب النزول: أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا فما ننفق منها؟ فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ وأخرج أيضا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله هذه الآية، وليس المعنى أن السؤال الأول عن الخمر والميسر نزل وحده ثم نزل هذا السؤال بعده، بل المراد أن هذه الأسئلة كانت مما يقع من الصحابة فأنزل الله هذه الآيات بيانا لهذه الأحكام، وإجابة للسائلين عندما استعدوا للأخذ بها.

35. ما ورد يدل على أن المراد أي جزء من أموالهم ينفقون، وأي جزء منها يمسكون، ليكونوا ممتثلين لقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ومتحققين بقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وما في معنى ذلك من الآيات التي تنطق بأن الإنفاق في سبيل الله من آيات الإيمان وشعبه اللازمة له على الإطلاق، الذي يشعر أن على المؤمن أن ينفق كل ما يملك في سبيل الله، وقد قضت الحكمة بهذا الإطلاق في أول الإسلام وبمدح الإيثار على النفس؛ لأن المسلمين كانوا فئة قليلة في أمم وشعوب وقبائل تناصبهم العداوة وتبذل في ذلك الأموال والأرواح، فإذا لم يتحدوا حتى يكونوا كشخص واحد، ويبذل كل واحد ما بيده لمصلحتهم العامة، لا تستقيم لهم حال ولا تقوم لهم قائمة، وهذه هي السنة العامة في كل دين عند ابتداء ظهوره وأول نشأته، ثم بعد أن تعتز الملة وتكثر الأمة، ويصير يكفي لحفظ مصلحتها ما يبذله كل ذي غنى من بعض ماله، ويفرغ الجمهور للأعمال الخاصة بحيث يتمكن ذو العمل أن يفيض من كسبه على أهله وولده، بعد أن كان مستغرقا في السعي لتعزيز دينه ووقايته من المحو والزوال، بعد هذا كله تختلف الحال فلا يسهل على كل واحد أن يؤثر كل محتاج على نفسه وأهله وولده؛ ولذلك توجهت النفوس بعد استقرار الإسلام إلى تقييد تلك الإطلاقات في الإنفاق، فسألوا ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأن ينفقوا العفو، وهو الفضل والزيادة عن الحاجة، وعليه الأكثر، وقال بعضهم: إن العفو نقيض الجهد؛ أي: ينفقون ما سهل عليهم وتيسر لهم مما يكون فاضلا عن حاجتهم وحاجة من يعولون.

36. قرأ أبو عمرو ﴿الْعَفْوَ﴾ بالرفع والباقون بالنصب، والإعراب ظاهر، والزيادة أمر مجمل يحتاج إلى بيان، فهل المراد حاجة اليوم أو الشهر أو السنة؟ رجح بعضهم الأخير؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ادخر لأهله قوت سنة، وقال محمد عبده: إن القرآن أطلق العفو ليقدره كل قوم في كل عصر بحسب ما يليق بحالهم؛ لأنه خطاب عام ليس خاصا بأهل جزيرة العرب، ولا بحال الناس في زمن البعثة، والمراد بهذا الإنفاق ما وراء الزكاة المفروضة المحدودة كصدقة التطوع على الأفراد وعلى المصالح العامة، وإن كان لفظ العفو يصدق على الزكاة؛ لأنها لا تكون إلا من الزائد على الحاجة الذي لا جهد ولا مشقة فيه.

37. ورد في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد هذا، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وأخرج ابن خزيمة من حديثه أيضا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: أنفق علي أو طلقني، ويقول مملوكك: أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك: إلى من تكلني؟)

38. نوه محمد عبده في هذا المقام بالإنفاق في حفظ مصالح الأمة وأعمالها الخيرية، فقال ما مثاله: إن الأمة المؤلفة من مليون واحد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة، كإعداد القوة وتربية النابتة على ما يؤهلها لاستعمالها ويقرر الفضيلة في أنفسها تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضول أموالهم في مثل ذلك؛ ذلك بأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة؛ لأن أمته عون له، تعده جزءا منها ويعدها كلا له؛ والأمة الثانية كلها لا تعد بواحد؛ لأن كل جزء من أجزائها (أي أفرادها) يخذل الآخر ويرى أن حياته بموته فيكون كل واحد منها في حكم الميت، وفي الحقيقة إن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة؛ لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم التي تحقق معنى الأمة فيهم، وإنه لم تنهض أمة ولا ملة إلا بمثل هذا التعاون، وهو مساعدة الغني للفقير، وإعانة القوي للضعيف، وبذل المال، والعناية في حفظ المصلحة العامة؛ بهذا ظهر القليل على الكثير وكانت لهم السيادة، وبترك هذا انحلت الأمم الكبيرة، وفقدت الملك والسعادة.

39. قال محمد عبده: إن النكتة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة هي المقارنة بين حال فريقين من الناس: فريق ينفق المال بغير حساب في سبيل الإثم، إما للتفاخر والتباهي فيما لا فخر فيه ولا شرف في الحقيقة، وإما لمجرد اللذة وإن ساءت عواقبها، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه المساكين والضعفاء، ويرفع به من شأن أمته بما يجعله للمصالح العامة وأعمال الخير، وأعظم المصالح والأعمال في هذا العصر هو التعليم والتربية، ولو بذل المصريون عشر ما ينفقون في الخمر والميسر ـ ولا سيما ما يسمونه المضاربة ـ على التعليم، لتيسر لهم تعميم المدارس في بلادهم، وتوجيه التعليم فيها إلى ما يجدد ملتهم ويعيد إليهم ما فقدوا من كرامتهم.

40. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ معناه: مثل هذا النحو وعلى هذه الطريقة من البيان قد قضت حكمة الله بأن يبين لكم آياته في الأحكام المتعلقة بمصالحكم ومنافعكم، وذلك بأن يوجه عقولكم إلى ما في الأشياء من المضار والمنافع.

41. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فيظهر لكم الضار منها أو الراجح ضرره فتعلموا أنه جدير بالترك فتتركوه على بصيرة واقتناع بأنكم فعلتم ما فيه المصلحة، كما يظهر لكم النافع فتطلبوه، فمن رحمته لم يرد أن يعنتكم ويكلفكم ما لا تعقلون له فائدة إرغاما لإرادتكم وعقلكم، بل أراد بكم اليسر فعلمكم حكم الأحكام وأسرارها، وهداكم إلى استعمال عقولكم فيها، لترتقوا بهدايته عقولا وأرواحا، لا لتنفعوه سبحانه أو تدفعوا عنه الضر؛ فإنه غني عنكم بنفسه، حميد بذاته، عزيز بقدرته.

42. ثم بين جل شأنه أن هذا البيان المعد للتفكر ليس خاصا بمصالح الدنيا وحدها، ولا بطلب الآخرة على انفرادها، وإنما هو متعلق بهما جميعا فقال: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي: تتفكرون في أمورهما معا، فتجتمع لكم مصالح الجسد والروح فتكونون أمة وسطا، وأناسي كاملين، لا كالذين حسبوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها ومصالحها بالمرة فخسروها وخسروا الآخرة معها؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات الجسدية كالبهائم ففسدت أخلاقهم وأظلمت أرواحهم، وكانوا بلاء على الناس وعلى أنفسهم فخسروا الآخرة والدنيا معها، وهذا الإرشاد إلى التفكر في مصالح الدنيا والآخرة جميعا هو في معنى ما جاء في الدعاء بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾، فالله تعالى يبين في مثل هذه الآيات أن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين.

43. قدم الدنيا في الذكر لأنها مقدمة في الوجود بالفعل، وكل ما أمرنا الله تعالى به وهدانا إليه فهو من ديننا؛ ولذلك قال علماؤنا: إن جميع الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليه، كانت كلها عاصية لله تعالى مخالفة لدينه، إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه، فأولئك هم المعذورون بالتقصير.

44. على هذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء بسبب التوسع في العمران يتوقف عليه حفظه وتعميم دعوته النافعة قاموا به حق القيام، وعدوا القيام به من الدين عملا بمثل هذه الآية وغيرها من الآيات، ومضوا على ذلك قرونا كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمرانا، وبرا وإحسانا، إلى أن غلا أقوام في الدين واتبعوا سنن من قبلهم في إهمال مصالح الدنيا، زعما أن ذلك من الزهد المطلوب، أو التوكل المحبوب، وما هو منهما في شيء، وكان من أثر ذلك أن أهملت الشريعة فلا توجد حكومة إسلامية على وجه الأرض تقيمها؛ لأنه لا يوجد من أهلها من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات بالتوسع في العلوم والصناعات وارتباط العالم بعضه ببعض، ثم صار علماء المسلمين أنفسهم يعدون الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا صادة عن الدين مبعدة عنه، بل يوجد فيهم من يقول: إنها مفسدة لعقائده مفضية إلى الخروج منه، وهذا هو دخول جحر الضب الذي دخله من قبلنا، وهو كما ترى خروج عن هدي القرآن.

45. قد يقال: إذا كان المنقطع لعلوم الدين لا يأمن على عقيدته أن تذهب ودينه أن يفسد إذا هو تفكر في مصالح الدنيا وعرف العلوم التي لا تقوم هذه المصالح بدونها، فكيف يكون حال من يدرسون هذه العلوم الدنيوية من المسلمين وليسوا على شيء يعتد به من العلوم الدينية؟ لا جرم أن هذا قضاء على الإسلام بأنه آفة العمران، وعدو العلم والنظام، وهو قضاء جائر يبطله القرآن، وتنقضه سيرة السلف الصالحين الذين سبقونا بالإيمان، ولكن أين من يتبعهما الآن؟! وقد قام فريق من الذين لم ينظروا في كتاب الله مرة نظرة معتبر، ولم يتلوا منه آية تلاوة مفكر متدبر، يقسمون المسلمين إلى قسمين: قسم لا تجب المبالاة بدينه، ولا يهتم به في شكه أو يقينه، فله أن يتعلم ما يشاء صحت عقيدته أو فسدت، صلحت أعماله أو خسرت، وقسم آخر يجب أن يصان عقله عن كل فكر، ويحاط بجميع الوسائل التي تمنعه من النظر فيما عليه الناس من خير وشر، وما يعرض في الكون من نفع وضر، كيلا يفسد النظر عقيدته، ويضل الفكر السليم بصيرته، وهذا القسم هو الذي تفوض إليه الرياسة الدينية، ويعهد إليه بقيادة الأمة في صلاح الأعمال وانتظام الأحوال، وأعظم قسم في الأمة هو القسم الأول بحكم الضرورة، بل هو الأمة كلها بالتقريب، وقد صار بيده زمام جميع أمورها وقوة الحكم فيها؛ إذ لا يمكن أن يتيسر لهذا القسم الثاني، وهو خلو من العلم بحالها، ودون كل واحد منها في العقل، وفوقه في الغباوة والجهل، أن يقود واحدا منها، بله قيادتها كلها؟ فهل يتفق مثل هذا للخلف، مع شيء من سنة السلف؟ ألا عاقل يقول لهؤلاء المشعوذين: كيف ساغ في عقولكم أن يسلم إلى الجاهل قيادة العاقل؟ وكيف يتيسر حفظ الدين بالعدول عن سنن المرسلين، ومخالفة سير السلف الصالحين؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/322

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: مجموع الروايات يدل على أن النهى القطعيّ عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهى عن قرب الصلاة حال السكر، وأوقات الصلاة متقاربة، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولاتّباعه أطوع، قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم‏ أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.

2. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ أي يسألونك عن حكم تناول الخمر، إحلال هو أم حرام؟ ومثل هذا بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع ـ وعن حكم استعمال الميسر وفعله.

3. كلمة (الخمر) يراد بها عند الشافعي كل شراب مسكر، ويراد بها عند أبي حنيفة ما اعتصر من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، حجة الأول أن الصحابة وهم صميمو العرب فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره، وما رواه أبو داوود والترمذي من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: كل مسكر خمر، وما رواه النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البرّ خمرا، وإن من الشعير خمرا، وما أخرجه البخاري عن أنس قال حرّمت الخمر حين حرمت، وما يتخذ من خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرنا من البسر والتمر.

4. قال بعض العلماء: جرى ذكر هذه الأشياء لكونها معهودة في ذلك العصر، فكل ما في معناها من ذرة أو عصارة شجر أو تفاح أو بصل أو نحو ذلك مما يستخرج منه الخمر الآن فحكمه حكم هذه الأصناف.

5. اتفق العلماء على أن كل قمار حرام كالقمار على النّرد والشّطرنج وغيرهما، إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد.

6. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي قل لهم: إن في تعاطى الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة، ومفاسد عظيمة.

7. أما الخمر فلها مضار في البدن والنفس والعقل والمال وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض، فمن ذلك:

أ. مضارها الصحية ـ بإفساد المعدة وفقد شهوة الطعام وجحوظ العينين وعظم البطن وامتقاع اللون، ومرض الكبد والكلى، والسل الذي يفتك بالبلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بالقوانين الصحية، وقد استطار شره في مصر بعد انتشار المسكرات بها، مع أن جوها لا يساعد على انتشاره، وإسراع الهرم إلى السكير حتى قال بعض الأطباء الألمان: إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، وقال آخر: إن المسكر يعطل وظائف الأعضاء أو يضعفها، فهو يضعف حاسة الذوق ويحدث التهابات في الحلق وتقرّحات في الأمعاء وتمددا في الكبد ويولد الشحم فيه فيضعف عمله، ويعيق دورة الدم وقد يقفها أحيانا فيموت السكّير فجأة، كما يضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تفسد أحيانا فيفسد الدم ولو في بعض الأعضاء فتحدث (الغرغرينا) التي تقضى بقطع العضو الذي تظهر فيه حتى لا يسرى الفساد إلى الجسم كله فيكون الموت، وكذلك يضعف مرونة الحنجرة ويهيج شعب التنفس ويحدث بحة في الصوت ويكثر السعال.

ب. وانقطاع النسل، فولد السكير يكون ضعيفا وحفيده أشد ضعفا وأقل عقلا وهكذا يسرى الضعف إلى أولاده طبقة بعد أخرى حتى ينقطع النسل، ولا سيما إذا سار الأبناء على سنة الآباء وذلك هو الغالب فيهم، حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لي نصف الخانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات.

ج. مضارها العقلية ـ إنها تضعف القوة العاقلة لتأثيرها في المجموع العصبي، وكثيرا ما ينتهى الأمر بالسّكور إلى الجنون.

د. مضارها المالية ـ تفنى الثروة وتستهلك المال، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أصناف الخمور وغلا ثمن الكثير منها ـ وافتنّ تجرها في ترويج بضاعتهم بوسائل شتى حتى لقد يجمعون بينها وبين القيادة والزنا، فكم رأينا من خمار رومي فقير يفتح حانة في إحدى القرى فلا يلبث إلا قليلا حتى يبتلع ثروة أهلها ويصير سيد القرية، وقد قيل: إن ما ينفق في مصر ثمنا للخمر يربو على ما ينفق في فرنسا كلها.

هـ. مضارها في المجتمع ـ وقوع النزاع والخصام بين بعض السكارى وبعض، وبينهم وبين من يعاشرهم لأدنى بادرة تصدر من واحد منهم، وذلك ما أشار إليه الكتاب الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾

و. والخسة والمهانة في عيون الناس، فقد يأتي السكّير في كلامه وحركاته بما يضحك منه ويكون موضع السخرية من الناس، ويعبث به الصبيان، إذ يكون أقل منهم‏ عقلا، وقلما يضبط أقواله وأفكاره، وللسكارى من النوادر ما يكفى كل ذي شرف وعقل أن يكفّ عن الخمر، وتجرّئ على ارتكاب الجرائم وتغرى بها، ولا سيما الزنا والقتل، ومن ثم سميت أم الخبائث.

ز. مضارها النفسية ـ إفشاء السر وهو ذو أضرار خطيرة، ولا سيما إذا كان متصلا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا لها.

ح. مضارها الدينية ـ إن السكران لا تتأتى منه عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، ومن ثم قال ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ أي يصدكم الشيطان بتناولها عن الذكر والصلاة.

8. أما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فمنها:

أ. أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين.

ب. أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ج. أنه يفسد الأخلاق بتعويد الناس الكسل بانتظار الرزق من الأسباب الوهمية وتركهم الأعمال الجالبة للكسب كالزراعة والصناعة والتجارة وهى أساس العمران خراب البيوت بغتة وضياع أموال أربابها فجأة بالخسارة في لعب الميسر، فكم رأينا من أسرة نشأت بين إحصان الثروة والغنى، وانحصرت ثروتها في واحد من أفرادها، فلم يكن منه إلا أن أضاعها بين غمضة عين وانتباهتها، وأصبحت هذه الأسرة في فقر مدقع لا تملك ما تعيش به عيش الكفاف.

9. أما منافع الخمر فكثيرة منها:

أ. الاتجار بها فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للغنى والإثراء.

ب. قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل والمقدار الذي يعطى حينئذ يكون قليلا لا يكفى للذة والنشوة.

ج. تسلّى الحزين على ما يكون بعدها من رد الفعل الذي يزيد في الكآبة والحزن.

د. تثير النّخوة والشجاعة، وهذا من أعظم منافعها عند العرب، وإن كان هذا مضرة في العصر الحاضر، فإن هذه الحميّة هي التي تثير الشحناء والبغضاء بين السكارى ولا حاجة إليها الآن في الحرب، لأنها أصبحت فنا لا بد فيه من حضور العقل وجودة النظر.

هـ. تجعل البخيل سخيّا، وقد يكون هذا نافعا في الأزمنة القديمة حين كان الرجل ينفق ماله بين أهله ـ أما الآن فإنه كثير الضرر، لأنه يذهب بثروة البلاد ويضعها في أيدى الأشرار من الأجانب.

10. ومن منافع الميسر:

أ. مواساة الفقراء كما في النوع المسمى (يا نصيب) الذي يعمل لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغيرها من أعمال البر.

ب. سرور الرابح وأريحيته.

ج. أنه يصيّر الفقير غنيّا بدون تعب ولا نصب.

11. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ في هذا إرشاد إلى القاعدة العظيمة التي دوّنها علماء الإسلام فيما بعد وهى: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، وإلى القاعدة الأخرى (ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما)

12. لما كانت دلالة الآية على التحريم ليست صريحة لم تجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، بل عمل فيها كل واحد باجتهاده، فمن فهم منها التحريم امتنع منها، ومن لم يفهم ذلك جرى على أصل الإباحة، ومن ثم عمل الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه، وأقرّهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وصار عمر يدعو الله أن يبين في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية المائدة التي تقدمت: إنما الخمر والميسر إلخ، فتركهما الصحابة جميعا.

13. لما للخمر من مضارّ كثيرة تركها في الجاهلية كثير من العرب، منهم العباس‏ ابن مرداس فقد قيل له: ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفى، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسى سفيههم، وقد ألّفت الجماعات في أوربا وأمريكا للسعى في إبطال المسكرات، وحمل الدول على تشديد العقوبة على بائعي الخمور، ولا تزال الأيام تظهر من مضارّ الخمر والميسر ما لم يكن معروفا من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم‏ ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ ولكن الهوى وسلطان اللذة صرفا كثيرا من أدعياء المدنية عن النظر في هذه المضار، فأسرفوا في معاقرتها حتى غيض معين الشباب، وحرموا من سعادة الحياة، وحرمت منهم أمتهم وأهلوهم، وهم أحوج ما يرجون من ذكائهم ورجاحة عقولهم، وبدت فتنة السكر بين ذوى الثراء والجاه من المتعلمين، وانتقلت منهم العدوى إلى غيرهم من الفلاحين، والعمال والأجراء، وعم خطر هذه الآفة وتبعها انتشار الزنا بما له من مضارّ لا تحصى كداء الزهري والسيلان وغيرهما مما يوجب انقطاع النسل.

14. إذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء فهي موادّ سامة محرقة (سبيرتو) يضاف إليها قليل من الماء والسكر، فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، ولا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم قرضا، وقد شاع حديثا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور وأقتل لها، وهو بعض السموم التي تستعمل حقنا تحت الجلد أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين.

15. أما كون إثم الميسر أكثر من نفعه فواضح مما تقدم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعمّ ضررها، وقد تنبهت لذلك حكومات كثيرة فمنعت أكثر أنواعه وشددت في العقوبة عليه، مع احترامها للحرية الشخصية، علما منها بأن منفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله المملوك له لربح موهوم، والمسترسل في إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ومن ثم انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم أو الرضا بعيشة الذل والمهانة، وكم من أرباب الثراء ما زال الشيطان يغريه حتى فقد ثروته وعاش بقية حياته فقيرا معدما، ولبيوت القمار وسائل في استدراج الأغنياء وتخريب بيوتهم بأجابيلهم وشركهم التي ينصبونها.

16. قلما يقدر متعاطى الخمر والميسر على تركهما، لأن للخمر تأثيرا في الأعصاب يدعو إلى شربها والإكثار منها، وما تحدثه من التنبيه يعقبه الخمود والفتور، فيشعر السكران بعد صحوه أنه مضطر إلى معاودة السكر، فإذا هو عاد قويت الداعية إليه.

17. أما صاحب الميسر فإذا ربح طمع في المزيد، وإذا خسر طمع في تعويض الخسارة وقصارى القول ـ إن الله قد هدانا لأن نبحث عن مضار الخمر والميسر بأنفسنا لنكون على بصيرة في تحريمهما، وإنا لنرى الأمم التي لا تدين بالإسلام قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من المضار، فأنشأت تؤلف الجماعات للسعى في إبطال هاتين الجريمتين.

18. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي أيّ جزء من أموالهم ينفقون، وأيّ جزء منها يمسكون، ليكونوا ممتثلين لقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

19. أطلق القرآن العفو والزيادة ليقدّره كل قوم بحسب عصرهم، وما يليق بحالهم والمراد بهذا الإنفاق فيما زاد على الزكاة المفروضة من صدقات التطوع على الأفراد والمصالح العامة.

20. قضت الحكمة بمجيء الإنفاق مطلقا أول الإسلام، وبمدح الإيثار على النفس، لأن المسلمين كانوا فئة قليلة بين أمم وشعوب تناصبهم العداوة وتبذل في سبيل ذلك الأموال والأرواح، فلا تستقيم لهم حال إذا لم يتّحدوا ويكونوا كرجل واحد ويجودوا بالمال لخدمة المصالح العامة.

21. تلك سنة الله في كل دين حين بدأ ظهوره، حتى إذا ما اعتز وكثرت الأمة، وصار يكفى لمرافقها العامة ما يبذله كل ذي غنى من ماله ـ اختلفت الحال ودعا الأمر إلى تقييد الإنفاق، ومن ثم سأل المسلمون ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة على حاجة من يعولونهم، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)، وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: أنفق علىّ أو طلقني، ويقول مملوكك: أنفق علىّ أو بعني، ويقول ولدك: إلى من تكلني؟)، وأخرج ابن سعد عن جابر قال قدم أبو الحصين السلمى بمثل بيضة الحمامة من الذهب، فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، ثم قال يأتي أحدكم بما يملك، فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفّف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول.

22. الحكمة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة ـ الموازنة بين حال فريقين من الناس: فريق ينفق المال بغير حساب في الإثم تفاخرا ومباهاة فيما لا خير فيه، أو لمجرد اللذة وإن ساءت العاقبة، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه ذوى الحاجة، أو يرفع به شأن أمته بالإنفاق في مصالحها العامة وأعمال الخير فيها كالتعليم وإنشاء الملاجئ والمستشفيات.

23. الأمة التي يكون أفرادها مليون نسمة إذا بذلوا في مصالحها العامة كتربية النشء وإعداد القوة الحربية ونحو ذلك مما يرقى شئونها ـ تكون أعز وأقوى من أمة عدّتها مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضل أموالهم في مثل ذلك، فكل امرئ من الأولى يكون كأمة، لأن أمته عون له، تعده جزءا منها ويعدها كلّا له، والأمة الثانية كلها لا تعدّ بواحد، لأن كل واحد منها يخذله الآخرون، ويرى أن حياته بموته، فيكون‏ كل واحد منها في حكم الميت، ومثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد يعيش وحده وإن كان مع غيره على ظهر الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم، وبها تتكون الأمة الناجحة في الحياة، فالأمم لا تنهض إلا بمثل هذا التعاون ومساعدة الغنى للفقير وإعانة القوى للضعيف، وبهذا يظهر القليل على الكثير وتكون له السيادة.

24. ثم ذكر الله تعالى مننه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي على هذا النحو من البيان قضت الحكمة بأن يبين لكم الأحكام التي فيها مصالحكم ومنافعكم، ويوجه عقولكم إلى ما فيها من منافع ومضارّ.

25. ثم ذكر الله تعالى الحكمة في شرع هذه الأحكام فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي لتتفكروا في شئونهما معا، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم، وصاروا كالبهائم، وخسروا الآخرة والدنيا.

26. هذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين معا، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم ـ من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه.

27. على هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى، فكانت إذا احتاجت إلى شيء مما يستدعيه التوسع في العمران، عدّت القيام به من فروض الدين ـ إلى أن غلا أقوام في الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب، وما هو منهما في شيء، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات، بل قد أصبح كثير من العلماء يعد الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا، صادّا عن الدين مبعدا عنه.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/138

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يمضي السياق، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار.. وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها، يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾

2. إلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر، ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما، إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها، وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية، أمس واليوم وغدا! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة.

3. هذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم، فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا، فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع، وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.

4. هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم، وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر.

5. عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى، ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.

6. فعند ما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى، في ضربة حازمة جازمة، لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق، لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام، فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج:

أ. فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى.

ب. ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾.. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها.

ج. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾..

7. أما في الرق مثلا، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل‏ تعديل ظواهرها وآثارها، والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى، ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي، ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا، يأخذ به المحاربون جميعا.. فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل، وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله ـ مع الزمن ـ إلا الإلغاء، دون إحداث هزة اجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها، وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة:

أ. بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء.. ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان، وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض، ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيّئ في عالم الرق هناك، وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.. ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ.. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.. ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم، وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها، فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.

ب. وبتجفيف موارد الرق الأخرى ـ وكانت كثيرة جدا ومتنوعة ـ يقل العدد.. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية، فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده، ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته ـ أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا ـ ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة، والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته.. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة، كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار.. وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه.

ج. أما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئا فشيئا، وهذه حقيقة.. ولكن مبادئ الإسلام ليست هي المسئولة عنه.. ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه، قليلا أو كثيرا.. ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا.. لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك، فالإسلام لم يتغير، ولم تضف إلى مبادئه مبادئه مبادئ جديدة، إنما الذي تغير هم الناس، وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم، ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه، وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ، إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة..

8. هذه الحقيقة مهمة جدا، سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي، ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي، ومن شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي، ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة، وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي، ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطئ في فهم هذا التاريخ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين!

9. ثم نمضي مع السياق في تقرير المبادئ الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.. لقد سألوا مرة: ماذا ينفقون؟ فكان الجواب عن النوع والجهة، فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة..

10. العفو: الفضل والزيادة، فكل ما زاد على النفقة الشخصية ـ في غير ترف ولا مخيلة ـ فهو محل للإنفاق، الأقرب فالأقرب، ثم الآخرون على ما أسلفنا.. والزكاة وحدها لا تجزئ، فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى: فالزكاة لا تبرئ الذمة إلا بإسقاط الفريضة، ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما، إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله، وتنفقها في مصارفها المعلومة، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله، والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح؛ ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (في المال حق سوى الزكاة).. حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله ـ وهذا هو الأكمل والأجمل ـ فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة، كيلا يضيع في الترف المفسد، أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل.

11. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.. فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة، فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها، ولا ينشئ تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين، فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر، وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح.. ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة، فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه، وزكاة لمشاعره، كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما، ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد، وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء، وما فيها من قيم وموازين، مرجحا لكفة الإنفاق، تطمئن إليه النفس، وتسكن له وتستريح، ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/229.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا عدة قضايا عرضت لها هذه الآيات، وقضت فيها بأحكام إلهية، كانت سكنا لوساوس السائلين، وطمأنينة لحيرة الحائرين.. فهنا قضية الخمر والميسر، وقضية القدر الواجب إنفاقه من مال ذوى المال، ثم قضية اليتامى وحقهم في المجتمع ومكانهم فيه.

2. يلاحظ أن هناك قضية كانت مثارة من قبل، وهى قضية الأشهر الحرم وما يقع فيها من قتال، وأن هذه القضايا قد انعزلت عنها، فلم تعطف عليها، ولم تدرج معها في سجل واحد، ولهذا جاءت منقطعة عنها، فلم يقع بينهما حرف عطف، وفيما يبدو لنا أن هذه القضايا الثلاث تختلف في موضوعها عن قضية الأشهر الحرم، ولهذا كان لها هذا الوضع الخاص الذي سمح لها بأن تنحاز جانبا، وتنظر في غير مواجهه سابقتها، فموضوع الأشهر الحرم يتناول رفع الحرج والحظر عن أمر كان محرما محظورا، ولكنه رفع مؤقت، جاء نتيجة لعارض عرض، فإذا زال هذا العارض زال رفع الحرج، وعادت الحرمة والحظر، أما موضوع الخمر والميسر فعلى عكس هذا، إذ هو يعرض لأمر كان مباحا ديانة وعرفا في حياة الجاهلية، فيؤثّمه ويجرّمه، فالخمر والميسر مما كانت الجاهلية تعيش فيهما، وتشتغل بهما في غير تحرج أو تأثم من أمردين أو ناموس مجتمع، وأما قضية النفقة الواجبة في مال ذوى المال فهي في المباح المطلق، ويراد له هنا أن تحدد حدوده، وتوضح معالمه.. وكذلك الشأن في اليتامى وحقهم في المجتمع.. إذ كان هذا الحق مجهّلا، فرفعت جهالته وعرف وجهه، فهناك ـ في حرمة الأشهر الحرم ـ حرام ترفع حرمته، وهنا ـ في القضايا الثلاث ـ حلال يحرّم، أو تقام حدوده، أو ترفع جهالته.. ولهذا كان القطع، وعدم التعاطف بين الأمرين.

3. ننظر في هذه القضايا الثلاث فنجد قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، هذه إشارة حادّة من إشارات السماء، إلى أمرين من أمور الجاهلية، كانت حياتهم متلبسة بهما، دائرة في فلكهما، وهما الخمر والميسر، وقد كان هذان المنكران متلازمين، لا يكاد يفترق أحدهما عن الآخر.. فحيث كان خمر كان معه ميسر، وحيث كان قمار ومقامرة دارت كؤوس الخمر ودارت معها رؤوس النّدمان.. ولهذا قرنهما الله سبحانه في هذا المقام.. الخمر والميسر، ودمغهما بالإثم، والحكم ـ كما ترى ـ أنهما يحملان في كيانهما قدرا كبيرا من الإثم، إلى جانب ما يحملان من نفع.. وإن كفة الإثم فيهما ترجح عن كفة النفع.

4. يلاحظ أن التعبير بالإثم جاء في مقابله لفظ النفع، والنفع لا يقابل الإثم، وإنما يقابل الضرّ.. وهذا يعنى أن الإثم ليس مجرد ذنب ومعصية، يضاف حسابهما إلى الحياة الآخرة، بحيث لا يجد من يقترفهما ممن لا يؤمن بهذه الحياة ما يضيمه أو يضيره، بل إن هذا الإثم هو ذنب ومعصية يترصد صاحبه في الآخرة، ثم هو ضرر وشر يصيب مقترفة في الدنيا.. ومعنى هذا أن صاحب الخمر والميسر إن كان لا يؤمن بالحياة الآخرة ولا يخاف مأثما منهما، فإنّ ما فيهما من ضرر يصيبه في حياته الدنيا.. في جسده وماله، جدير به أن يخيفه ويزعجه، ويقيمه منهما على حذر وتخوف، فكيف بصاحب الدّين الذي ينظر إلى هذين المنكرين وقد أصاباه في دينه وفى دنياه جميعا؟

5. هذا، وليس جمع (المنافع) بالذي يرجّح كفة الشر على الخير، في جانب الخمر والميسر، فإن هذا الجمع لا يتجه إلى النفع في ذاته وقدره، وإنما هو لتعدد وجوه الناس في التماس الكسب منهما.. فمن صانع للخمر، إلى جالب لها، إلى بائع، إلى ساق، إلى مغنّ في حانها.. إلى غير ذلك ممن يعملون للخمر وفى طريقها.. وكذلك الميسر وأصناف الناس الذين يجتمعون عليه، ويعملون في ميدانه!

6. أما الإثم فهو الإثم، وإن تعددت مصادره، واختلفت موارده، والوصف الذي يلحقه هو الذي يفرق بين إثم وإثم، فيقال إثم كبير، أو عظيم، أو غليظ، أو يسكت عنه فلا يوصف بوصف ما.. ويكفى في وصفه في هذه الآية أن يقال: (إثم كبير) فيكون وصفا جامعا لكل منكر.

7. يتفق المفسرون على أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ونحن.. على رأينا في موضوع النسخ.. لا نرى في هذا نسخا للآية الكريمة، بل هي محكمة عاملة، وكذلك كل الآيات التي جاء فيها للخمر ذكر أو حكم، كما أوضحنا ذلك من قبل في مبحث (النسخ)

8. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾.. العفو: ما زاد عن حاجة الإنسان، في قصد واعتدال، بلا سرف ولا تقتير، وحيث كفى الإنسان حاجته فإن واجبا عليه ـ ديانة وإنسانية ومروءة ـ أن يسمح بما زاد عن هذه الحاجة، فيدفع به حاجة المحتاجين.. إذ كيف يكون الإنسان إنسانا بارّا بإنسانيته، وفى يده فضل مال أو متاع، وفى الناس من أهله وجيرانه، وقومه، من هو في حاجة إلى بعض هذا المال أو المتاع؟ لهذا جاءت شريعة الإسلام بهذا التوجيه الإنساني الكريم، الذي يصل الناس بالناس، بصلات المودة والرحمة، ويجعل منهم كيانا واحدا متكافلا تتوزع فيهم خيرات الأرض وأرزاق السماء بحكمة وعدل، كما يتوزع الدم من القلب على سائر أعضاء الجسد عضوا عضوا!.

9. إنفاق العفو الذي لا يضر الإنسان ولا يجور على مطالبه، هو من البرّ بالمنفق والرحمة له، حتى لا يحمله الدافع الإنساني على أن يجاوز الحد فيتحيّف حقّه في ماله، ويجوز على نفسه فيما آتاه الله، فيخرج مما في يده جملة، ويصبح في جبهة المحتاجين بعد أن كان في جماعة المنفقين، وتلك حال لا يرضاها الإسلام من المسلم، إذ الإسلام يريد بهذه المواساة الكريمة أن يستنقذ بعض ذوى الحاجات ليقلّ عددهم، وتضمر أعدادهم.. وصاحبنا بفعلته هذه، قد أضاف إلى المحتاجين محتاجا، وربما لم يكن بما فعل قد استنقذ واحدا منهم، وإن كان قد أعطى الدواء المسكن لآلام الكثيرين.

10. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي بمثل هذا البيان الواضح الشافي يبين الله لكم أحكامه في آياته المحكمة، لتكونوا على رجاء من التعرف على مواقع الخير والشر، فتقبلوا على الخير وأهله، وتجتنبوا الشر ودواعيه، ولتفرقوا بين ما هو للدنيا وما هو للآخرة، فذلك هو الذي يقيمكم على الصراط المستقيم.

11. فى الانتهاء بفاصلة الآية عند قوله تعالى: ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ ثم بدء الآية بعدها بقوله سبحانه: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ـ في هذا تحريض على استحضار العقل دائما، ودعوته إلى النظر المطلق في رحاب هذا الكون، وفى كل ما يدور في فلك الحياة.. ثم يجيء بعد هذا، النظر إلى أمور الدنيا في مواجهة الآخرة، وما يدّخر منها لهذا اليوم العظيم، وعندئذ يجيء النظر صائبا، ويقع متمكنا، بعد أن يكون العقل قد دار دورته الشاملة في هذا الكون الرحيب!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/244

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر، وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، والمشروع في بيانها من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178] إلى آخر السورة، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطا للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ، وقد تناسقت في هذه الآية.

2. السائلون هم المسلمون؛ قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال، فنزلت هذه الآية، قال في (الكشاف): فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة [90]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾

3. شرب الخمر عمل متأصل في البشر قديما لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها، فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم، على أن مراعاتها درجات.

4. لا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحا شرب الخمر حتى سكر، وأن لوطا شرب الخمر حتى سكر سكرا أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع، والأخير من الأكاذيب؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء، والذي يجب اعتقاده: أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنها يشربونها لقصد التقوي لقلة هذا القصد من شربها، وفي سفر اللاويين من التوراة (وكلم الله هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلّل وبين النجس والطاهر)

5. شيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم، وقصارى لذّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم، قال طرفة:

ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى‏...وجدك لم أحفل متى قام عوّدي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة...كميت متى ما تعل بالماء تزبد

وعن أنس بن مالك: (حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر)، فلا جرم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبة إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنان بذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67] على تفسير من فسر السّكر بالخمر، وقيل السّكر: هو النبيذ غير المسكر، والأظهر التفسير الأول، وآية سورة النحل نزلت بمكة، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب، والصحيح الأول، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكرا من الثمرات التي خلقها لهم.

6. ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج، فقيل: إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم، وأن سبب نزولها ما تقدم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيها لهم، إذ كانوا لا يذكرون إلّا محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم، قال البغوي: إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تقدّم في تحريم الخمر)، أي ابتدأ يهيئ تحريمها يقال: تقدمت إليك في كذا أي عرضت عليك، وفي (تفسير ابن كثير): أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزها، وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داوود، وروى أيضا عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43]، ونسخت آية ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، ونسب لابن عمر والشعبي‏ ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم.

7. ذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقا بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها، وأن معنى‏ ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم، وهذا هو الأظهر من الآية؛ إذ وصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلّا مؤكدة للتحريم ونصا عليه؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناسا شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاما لا يدرى ما هو، وشربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فجاءه فزعا ورفع شيئا كان بيده ليضربه فقال الرجل: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى: لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة.

8. الخمر اسم مشتق من مصدر خمر الشيء يخمره من باب نصر إذا ستره، سمي به عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكرا؛ لأنه يستر العقل عن تصرفه الخلقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر، أو هو اسم جاء على زنة المصدر وقيل: هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أو عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وترك حتى يختمر ويزبد، واستظهره صاحب (القاموس)، والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه، وأن غيره يطلق عليه خمر ونبيذ وفضيخ.

9. وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ، والنقيع، والسّكركة، والبتع، وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر: نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب، معناه ليس معدودا في الخمسة شراب العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة، وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عمرو ابن كلثوم: (ولا تبقي خمور الأندرين‏)، وأندرين بلد من بلاد الشام.

10. انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعا وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذا بمسمى الخمر عندهم، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب.

11. قال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري: يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقا حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئا، ويزيد ذلك إيهاما قاعدة أن المأذون فيه شرعا لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس:

أباح العراقي النبيذ وشربه‏...وقال حرامان المدامة والسّكر

12. الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان:

أ. أحدهما محرم شربه وهو أربعة: (الخمر) وهو النيء من عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، (والطلاء) بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكرا، (والسّكر) بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكرا، (والنقيع) وهو النيء من نبيذ الزبيب، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.

ب. الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة، ونبيذ العسل والتين والبرّ والشعير والذّرة طبخ أم لم يطبخ، والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة (كذا) أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر، وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار، على أنه يلزم ألّا يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه.

13. تمسك الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور، وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاق غيره به إثبات اللغة بالقياس، وهذا باطل، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام، فإن قالوا: إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السّكر فتلك هي محل النظر، قلنا: هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات، على أنه‏ قد ثبت في (الصحيح) ثبوتا لا يدع للشك في النفوس مجالا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة) رواه النعمان بن بشير وهو في (سنن أبي داوود) وقال: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة) رواه أبو هريرة وهو في (سنن أبي داوود)، وقال: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) رواه ابن عمر في (سنن الترمذي)، وقال أنس: لقد حرّمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلا، وعامة شرابنا فضيخ التمر، كما في (سنن الترمذي)، وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ، فهو تشويه للفقه ولطخ، وما ذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجودا.

14. وصف الله الخمر بأن فيها إثما كبيرا ومنافع، والإثم: معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف: الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في‏ الشرع، فهو ضد القربة فيكون معنى‏ ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر.

15. إطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير: الشديد في نوعه كما تقدم آنفا، وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما المعتاد، واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة.

16. قرأ الجمهور ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ بموحّدة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي (كثير) بالثاء المثلثة، وهو مجازا استعير وصف الكثير للشديد تشبيها لقوة الكيفية بوفرة العدد.

17. المنافع: جمع منفعة، وهي اسم على وزن مفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدرا ميميا قصد منه قوة النفع، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى، ويحتمل أن يكون اسم مكان دالا على كثرة ما فيه كقولهم مسبعة ومقبرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مصلحة ومفسدة، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع.

18. الإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية، وفيها ذهاب المال في شربها، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي:

ولسنا بشرب أمّ عمرو إذا انتشوا...ثياب الندامى عندهم كالمغانم‏

ولكننا يا أمّ عمرو نديمنا...بمنزلة الريّان ليس بعائم‏

وقال عنترة:

وإذا سكرت فإنني مستهلك‏...مالي وعرضي وافر لم يكلم‏

وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيبا، قال لبيد:

أغلي السّباء بكل أدكن عاتق‏...أو جونة قدحت وفضّ ختامها

19. ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضرارا في الكبد والرئتين والقلب وضعفا في النّسل، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قيس بن عاصم المنقري بسبب أنه شرب يوما حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم معه كلاما، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمرا ما عاش، وقال:

رأيت الخمر صالحة وفيها...خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا...ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي‏...ولا أدعو لها أبدا نديما

فإنّ الخمر تفضح شاربيها...وتجنيهم بها الأمر العظيما

وفي (أمالي القالي) نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية، ومنهم عامر بن الظّرب العدواني، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس، وصفوان بن أمية الكناني، وأسلوم البالي، وسويد بن عدي الطائي، (وأدرك الإسلام) وأسد بن كرز القسري البجلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة، وعثمان بن عفان، وأبو بكر، وعباس بن مرداس، وعثمان بن مظعون، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن جدعان.

20. أما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر، وفيها منافع من اللذة والطرب، قال طرفة:

ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى‏...وجدك لم أحفل متى قام عوّدي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة...كميت متى ما تعل بالماء تزبد

وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فرارا من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت.

21. ذكر في هذه الآية الميسر عطفا على الخمر ومخبرا عنهما بأخبار متحدة فما قيل في مقتضى هذه الآية من تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يلهون به، وكثيرا ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشّواء عند شرب الخمر، فهم يتوسلون لنحر الجزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر، قال طرفة يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سكره:

فمرّت كهاة ذات خيف جلالة...عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

يقول وقد ترّ الوظيف وساقها...ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد

وقال ألا ماذا ترون بشارب‏...شديد علينا بغيه متعمّد

فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب، ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشّرب، قال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل:

نحابي بها أكفاءنا ونهينها...ونشرب في أثمانها ونقامر

وذكر لبيد الخمر، ثم ذكر الميسر في معلقته فقال:

أغلى السّباء بكل أدكن عاتق‏...أو جونة قدحت وفضّ ختامها

ثم قال:

وجزور أيسار دعوت لحتفها...بمغالق متشابه أجسامها

وذكرهما عنترة في بيت واحد، فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب:

ربذ يداه بالقداح إذا شتا...هتّاك غايات التّجار ملوّم‏

فلأجل هذا قرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال.

22. الميسر: اسم جنس على وزن مفعل مشتق من اليسر، وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الإعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يسر ييسر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المحل وكلب الشّتاء، وقال صاحب‏ (الكشاف): هو مصدر كالموعد، وفيه أنه لو كان مصدرا لكان مفتوح السين؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر.

23. الميسر: قمار كان للعرب في الجاهلية، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعاد من قبل، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عاد ويقال لقمان العادي، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام، وهو غير لقمان الحكيم، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعبا بالميسر حتى قالوا في المثل (أيسر من لقمان) وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه‏ هم من سادة عاد وأشرافهم، ولذلك يشبّهون أهل الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأيسار لقمان قال طرفة بن العبد:

وهم أيسار لقمان إذا...أغلت الشّتوة أبداء الجزر

أراد التشبيه البليغ.

24. أصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطردا لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا...والجاعلو القوت على الياسر

ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامى ومن يلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم، قال لبيد:

أدعو بهن لعاقر أو مطفل‏...بذلت لجيران الجميع لحامها

فالضّيف والجار الجنيب كأنما...هبطا تبالة مخصبا أهضامها

فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد، وقال عنترة كما تقدم:

ربذ يداه بالقداح إذا شتا...هتّاك غايات التّجار ملوح‏

أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء، وقال عمير ابن الجعد:

يسر إذا كان الشتاء ومطعم‏...للّحم غير كبنّة علفوف‏

الكبنّة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي.

25. فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنيّة وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنّرد، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (إيّاكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم) يريد النرد، وعن علي: النرد والشطرنج من الميسر، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي: إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراما وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه.

26. الناس مراد به العموم لاختلاف المنافع، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة (في) المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: 69]، وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: 15]

27. سؤال وإشكال: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع؟ والجواب: إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين دينا دائما وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرّعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ [الحجرات: 12] ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلّا صلاحهم دون نكايتهم كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، وهنالك أيضا فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: 187]

28. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلا مع سؤالهم‏ ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، فعطفت الآية التي فيها جواب سؤالهم‏ ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها، ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق.

29. روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غنمة، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: 215] إلخ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه، ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف.

30. العفو: مصدر عفا يعفو إذا زاد ونمى قال تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: 95]، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فضل بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله، فالمعنى أن المرء ليس مطالبا بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني، وفي الحديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول) فإن‏ البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء، وفي الحديث: (إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، أي يمدون أكفهم للسؤال، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم، ولذلك‏ جاء في الحديث: (وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك)، ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو، لأنها لعموم المنفقين، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته.

31. (أل) في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيين ما يحتاجه المنفق والناس في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كلّه منفقا ترغيبا في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذر، إذ كان يرى كنز المال حراما وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة(2)، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون (أل) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب.

32. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيّن لنوع‏ ﴿يُبِينُ﴾، وقد تقدم القول في‏ وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إلى قوله‏ ﴿الْعَفْوَ﴾، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيما لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾

33. اللام في‏ ﴿لَكُمْ﴾ للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين، وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله‏ ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بيانا للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب‏ وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له: (الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها إلخ)، ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾

34. يجوز أن تكون الإشارة بقوله‏ ﴿كَذَلِكَ﴾ لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجا لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور.

35. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ غاية هذا البيان وحكمته، والقول في لعل تقدم، وقوله‏ ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يتعلق بتتفكرون لا بيبين، لأن البيان واقع في الدنيا فقط، والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شئون الدنيا والآخرة، وما سوى هذا تكلف.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/321

(2) ذكرنا في محال مختلفة مظلومية أبي ذر، وكونه على الحق، ويكفيه في ذلك ما ورد من الثناء عليه

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أسئلة ثلاثة وإجابتها، وكلها يتصل بإصلاح المجتمع، وتقوية بنيانه، وكل واحد منها يتجه إلى ناحية إصلاحية، وكلها يتلاقى نحو مقصد واحد، وهو إقامة بناء المجتمع على دعائم من الفضيلة والمودة والتعاون على الخير، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وقد جاءت هذه المعاني الإصلاحية التي توثق الوحدة، وتقوى الروابط بعد الأمر بالجهاد مع بعض أحكام القتال؛ لأن القتال حماية للدولة من أن‏ يلتهمها العدو الخارجي، والإصلاح في هذه المسائل الثلاث يتناول حماية الأمة من أن تأكلها نيران العدو الداخلي، وهو التنابذ، وأن تنظر كل طائفة للأخرى نظر العدو المترصد، لا نظر العضو المتعاون والأخ المتودد، ولأن الوحدة الداخلية والاتحاد المكين عدة القتال، وذخيرة الحرب، فقوة الحرب تستمد من السلم، ولأن مقصد الإسلام الاسمى هو إيجاد جماعة متآخية متحابة على أسس من الفضيلة والخلق الكريم ولكنه ما إن دعا بدعايته، حتى خرج عليه إخوان الشيطان يحاولون أن يبيدوه وأن يقضوا عليه في مهده، وفتن المسلمون في دينهم، وعذبوا في إيمانهم عذابا شديدا فأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وساروا على سنة الوجود، وهو أن يدافعوا ذلك العدو المعتدى الذي يريد الفتك بهم، حتى إذا دفعوه وأمنوا شره، أو فلوا قوته، وخضدوا شوكته، اتجهوا إلى إقامة مدينتهم الفاضلة، وإرساء قواعدها وحققوا بهذا القصد الأول، ومكنوا لأنفسهم وأعدوا بالفضائل عدة أقوى لمنازلة الأعداء.

2. ابتدأ القرآن الكريم في إصلاح المجتمع الإسلامي بهذه المسائل والإجابة عنها؛ لأنها هي التي تنفى الأذى وتدفع الخطر الاجتماعي، ومن المقرر عند علماء الإسلام أن التخلية مقدمة على التحلية، أي أن نفى الإثم مقدم على جلب النفع، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة، إذ إنه لا منفعة مع أن الفساد يشيع، والداء يستشرى، والأذى يستمكن، ومثل الجماعة في علاجها من أدوائها، كمثل الجسم الإنساني في علاجه من أمراضه، فإن الطبيب النطاسى‏ لا يبادر بتقوية الجسم ويترك الجراثيم تفتك به بل يجتهد أولا وبالذات في محاربة هذه الجراثيم والقضاء عليها، ثم يقوى الجسم، وإن عمد إلى التقوية في أثناء العلاج فلتقوى المقاومة، ولتزداد الحصانة، ولتشتد المناعة وغرضه الأول محاربة الآفات، وكذلك الأمر في إصلاح الأمم: يبتدئ بإماطة الأذى الذي يفتك بها، ثم يثنى بأعمال الإنشاء، التي تقيم البناء.

3. هذه الأسئلة الثلاثة ـ هي السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن مقدار ما ينفق والسؤال عن اليتامى وإصلاحهم، أما السؤال الأول، فقد جاء فيه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ السؤال عن الخمر والميسر هو بلا شك عن الحل والتحريم لا عن الحقيقة والذات، فإنهم يعرفونهما بلا شك، وكان الأغنياء وذوو المقدرة فيهم منغمسين فيهما، ولذلك كان الجواب مشيرا إلى عدم رضا الشارع عنهما أو مشيرا إلى تحريمهما؛ لأن ما غلبت مضرته على منفعته ـ

4. كما هو حكم الإسلام ـ يكون حراما، ولا يكون حلالا، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك، فكان يحق على المؤمن النقي النفس، الذي خلص من أدران الهوى أن يكتفى بذلك ويجتنبهما، وكذلك فعل خواص المؤمنين، والعلية من أصحاب الرسول الأمين.

5. لما ذا كان السؤال عن الخمر والميسر، وممن كان السؤال؟ إن السؤال بلا ريب من المؤمنين، ولم يكن من غيرهم؛ لأنهم رأوا الخمر تذهب الرشد، وتضعف العقل، وتجعل المرء يقع فيما لا يحسن.. فما كان المؤمنون الأولون وقد أرهف الإيمان قلوبهم وزكت أرواحهم، وطهرت نفوسهم ليرضوا عن الخمر، وإن لم يصرح القرآن بالتحريم، ولذلك كثر سؤالهم عنها، ليكون القطع في أمرها.

6. نزل في الخمر أربع آيات من القرآن الكريم:

أ. أولها: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل‏]

ب. الثانية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾

ج. الثالثة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء]

د. الرابعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة]

7. اتفق العلماء على أن الآية الأولى أول ما نزل في القرآن خاصا بالخمر، مشيرا إليها، لأنها نزلت بمكة، إذ إنها من سورة النحل وهى مكية، وقد اتفقوا أيضا على أن آية المائدة وهى الرابعة آخر آية نزلت في الخمر، لأنها القاطعة في التحريم؛ ولذا قال عمر عندما سمع قوله تعالى في آية المائدة: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة]: انتهينا، وشفى ذلك ما في نفسه من الخمر، والأكثرون على أن قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ سبقت في النزول آية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء] ولكن يميل بعض المتأخرين‏ إلى أن آية ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ مقدمة على آية ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ لأن هذه فيها إشارة إلى التحريم المطلق لأنه من المقررات الشرعية أنه إذا كان الضرر أكبر من النفع، فإن الحكم هو التحريم، وكذلك كل المحرمات ضررها أكبر من نفعها، ولا يكاد يوجد أمر يكون ضارا ضررا محضا، إذ إنه ما من ضار إلا فيه نفع، وما من شر إلا كان فيه بعض الخير، وما من نفع إلا تأشب به بعض الضرر، والعبرة في التحريم بالغالب فإن غلب النفع كانت الإباحة، وإن غلب الضرر كان التحريم، فإذا كانت آية ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ قد صرحت بعلة التحريم فقد أومأت إلى التحريم المطلق، أما آية ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فهي لم تصرح بالتحريم المطلق، بل أومأت إلى التحريم المؤقت أو المعلل بكونه لأجل الصلاة، وإذا كان الترتيب في النزول لأجل التدرج في المنع، فالمنطق يوجب أن يكون ما فيه إشارة إلى التحريم المطلق مؤخرا عما فيه إشارة إلى التحريم المؤقت، والمعلل بكونه لأجل الصلاة.

8. قبل أن نترك الكلام في آيات الخمر عامة إلى الكلام في هذه الآية الخاصة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ لا بد أن نشير إلى معنى خاص بالآية الأولى، وهو قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل‏]، فقد فهم بعض الناس أنها تبيح الخمر، ومن المقررات العلمية في الإسلام أن ما أباحه الله لا يرد نص صريح بإباحته، بل يكون متروكا لا نص فيه بالإباحة ولا بالمنع، ولذا يقول علماء الأصول أنه لا يكون مباحا، بل يكون في مرتبة العفو لأن ما فيه من أسباب التحريم قائم، ولكن لا نص يمنع، فيكون محل عفو الله، إذ لا عقوبة من غير نص، فكيف تكون هذه الآية مشيرة بالإباحة؟ والجواب عن ذلك أن ذا الفهم المستقيم لا يأخذ من الآية الأولى دلالة على الإباحة لا بالإشارة ولا بالعبارة، بل إنها تدل على التحريم بالإشارة، وإن لم تكن قريبة كالإشارة في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ ووجه الإشارة إلى التحريم في تلك الآية أن الله سبحانه وتعالى يمن عليهم بنعمه وذكرها لهم، فذكر أنه سبحانه وتعالى رزقهم ثمرات النخيل والأعناب فاتخذوا منه سكرا، ورزقا حسنا، أي أنهم أخذوا منه نوعين متقابلين: أحدهما مسكر والآخر شراب حسن وطعام جيد سماه رزقا حسنا، فتسميته أحد النوعين بأنه رزق حسن معنى ذلك أن مقابله ليس رزقا حسنا، بل هو استعمال سيئ لما أنعم الله به، وفى ذلك بلا ريب إشارة إلى أنه مبغض غير مستحسن، ولا يقر من يتخذه كذلك على ما يفعل، فليس في هذه الآية إذن إشارة إلى الإباحة بل فيها إشارة إلى التحريم أو تصريح بعدم الاستحسان أو ما هو في حكم التصريح من حيث الدلالة اللغوية.

9. أصل كلمة خمر تستعمل بمعنى الستر، وبمعنى الترك، وبمعنى الاختلاط فيقال خمر بمعنى ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها، ومنه: خمروا آنيتكم أي غطوها، ويقال للشجر الملتف (خمرا) لأنه يستر بعضه بعضا ومنه قول القائل: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي اختفى فيهم وستر بهم، ومن استعمالها بمعنى الترك قولهم: اختمر العجين، أي ترك حتى بلغ إدراكه، وقولهم خمر الرأي واختمر أي تركت حتى تبين وجه الحق فيه ومن استعمالها بمعنى المخالطة أن يقول القائل: ما خامرني شك، أي خالطني شك.

10. الخمر التي تسكر فيها المعاني الثلاثة، فهي تستر العقل، وهى لا تكون كذلك مسكرة إلا إذا تركت مدة طالت أو قصرت حتى تتكون منها المادة المسكرة، وهى تجعل الشارب لها يختلط عقله، ويغلب صوابه، فلا يعرف الحق من الباطل، واللائق من غير اللائق، والضار من النافع.

11. اختلف الفقهاء في مدلول كلمة خمر التي نص عليها القرآن بالتحريم مع أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما، إنما موضع الخلاف في الأمر الذي حرم بنص الآية أيشمل المسكرات كلها، فيدخل في عموم التحريم بالنص كل الأنبذة وكل المواد التي من شأنها أن تسكر، وإن لم يسكر المتناول فعلا سواء أكانت تلك المواد من عصير العنب أم كانت من غيره.. أم أن النص الوارد بالتحريم في الخمر هو فيما كان من عصير العنب، وغيره من المحرمات ثبت تحريمه بالقياس عليه لتحقق علة التحريم فيه، ولعموم النص في الحديث (كل مسكر حرام)؟

أ. قال الجمهور الأول، وهو أن كلمة خمر تشمل كل مسكر، وحجتهم في قولهم أصل الاشتقاق لأن كل مسكر يتلاقى مع أصل الاشتقاق في الكلمة، لأنه يستر العقل، ويجعل الشارب مختلط الفكر مضطرب النظر لا يعرف الحق من الباطل، وقد تبين من قبل أصل الاشتقاق، وقد روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ قال: كل مسكر خمر) فكان هذا تبيينا من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لمعنى كلمة خمر، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم هو المبين الأول للقرآن الكريم، فلا تفسير وراء تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلم، ولقد روى أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إن من العنب خمرا وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا) فلم يقتصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في تفسيره على عصير العنب، بل شمل أكثر المواد التي كان يتخذ العرب منها خمورهم، ولقد فهم الصحابة، وهم من العرب الذين أوتوا علم هذه اللغة، تحريم كل مسكر عندما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة]؛ ولذلك أراقوا كل الأنبذة التي كانوا يتناولونها، وليس فيها شيء من عصير العنب، ولقد روى البخاري عن أنس أنّه قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمرا من الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر.

ب. هذا تفسير الجمهور لكلمة خمر الواردة في القرآن الكريم، ولقد خالف أبو حنيفة وأصحابه الجمهور في تفسير كلمة خمر التي ورد بها النص القرآني فقالوا: إنها النيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، وما عدا ذلك لا يسمى خمرا، وإن كان مسكرا محرما، وترى أنهم لا يعدون حتى كل عصير العنب من الخمر، فلا يدخل في كلمة الخمر المطبوخ من ماء العنب، إنما كلمة خمر مقصورة على النيئ منه غير المطبوخ، ويستدلون لقولهم هذا بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أتى بنشوان فقال: (أشربت خمرا؟) فقال: ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله، قال: (فماذا شربت)؟ قال الخليطين، فحرم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الخليطين)، فنفى الشارب اسم الخمر عن‏ الخليطين بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فلم ينكره عليه، ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقره صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع، وقد سئل عن الأشربة: (حرام الخمر بعينها والمسكر من كل شراب)

12. مهما يكن من الاختلاف في تفسير كلمة خمر، فقد اتفق الفقهاء على أن كل مادة من شأنها الإسكار تكون حراما وتأخذ حكم الخمر تماما، وإنما موضع الخلاف هو في أن كل المسكرات داخلة في النهى بنص الآية أم داخلة بالقياس وبالحديث؟ قال الجمهور الأول، وقال الحنفية الثاني.

13. الأحاديث الصحيحة تثبت أن علة تحريم الخمر إسكارها أو تخديرها على حد تعبير العلماء اليوم، فقد ورد أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)، وإذا توافرت هذه العلة في شراب كان حراما قليله وكثيره؛ لأنه يكون حرام التناول في الكثير لذاته، وفى القليل لسد الذريعة، ولأنه إذا كان مسكرا فإنه لا يكون عند الأكثرين طاهرا، ولأنه إذا كان مسكرا في ذاته فإن قليله مهما قل يكون مخدرا.

14. فى الحقيقة أن المسكر حرام، لا لأنه مسكر فقط، بل لأنه يميت الضمير، أو يخفت صوت الوجدان الخلقي، ويضعف صوت النفس اللوامة، وإن ذلك يحدث في القليل والكثير، ويحدث لكل الناس، حتى أولئك الذين لا تظهر عليهم أمارات السكر من اضطراب القول واختلاط مظاهر التفكير، وتعجبني كلمة في هذا قالها الفيلسوف تولستوي فقد قال في كتابه الآفات الاجتماعية: (إن النبيّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم حرم الخمر لأنها تميت الوجدان أو تضعفه)، والخمر كذلك حقيقة، لأن الرجل يؤنبه ضميره على فعل، فلا يتناول الكأس حتى يزول تأنيب الضمير، والرجل يهم أن يقدم على الشر فيستيقظ وجدانه، ويقف حائلا بينه وبين فعله، فلا يلبث أن يتناول الكأس أو بعضه حتى تزول محاجزات الضمير، ويندفع في الشر اندفاعا لا يقف فى‏ سبيله واعظ من ضمير، أو زاجر من نفس لائمة، ويستوى في ذلك قليل الخمر وكثيره، كما يستوى في ذلك من لا يسكر ومن يسكر من الشرب.

15. الإثم في أصل معناه: اسم لكل فعل معوق مبطئ لا يوصل إلى الأغراض والنتائج، ثم أطلق في لغة القرآن على أفعال الشر؛ لأن الشر يعوق الإنسان عن الوصول إلى الغاية الإنسانية الكاملة، ويبطئ عن الوصول إلى الثواب في الآخرة، وقد تطلق كلمة إثم في لغة القرآن الكريم ويراد منه العذاب والعقاب ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان‏]، والمراد من الإثم في الآية الكريمة ما يقابل النفع وهو الضرر، وفى الحقيقة أن الخمر فيها ضرر لا شك في ذلك، وضررها أكبر من نفعها بلا ريب، وحسبها ضررا أمران لا شك في وجودهما، ولا ريب في أنهما يترتبان عليها:

أ. أولهما ـ إضعاف صوت الضمير، ولا شيء يضر في الاجتماع أكثر من صوت الضمير أو إضعافه؛ لأن الخلق الاجتماعي الذي يترتب عليه الإلف، والائتلاف بين الناس أساسه الحياء، والإحساس بسلطان الجماعة لائمة ومهذبة، وتبادل الشعور بينه وبين غيره، ثم النفس اللوامة، وإن الكأس تذهب بكل هذا: تذهب بالحياء والحياء خير كله، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، ويندفع الشخص في مخالفة الجماعة غير هياب ولا وجل، وكثيرا ما يكون القصد الأول من الشرب خرق حجاب الحياء، لينطلق بالقول والفعل بما لا يليق، وإن ذلك الأمر يعم كل شارب، سواء أكان ممن تقرب سكرتهم، أم كان ممن تبعد، وسواء أكان المقدار قليلا، أم كان كثيرا، فلا يكاد يكون شارب بعد شربه في حيائه الذي كان عليه من قبل، وفى قوة وجدانه وضميره التي كانت له قبل أن يتناول ذلك السم الخلقي الذي يفتك بالأخلاق والفضيلة؛ ولذلك سميت الخمر بحق‏ أم الخبائث؛ لأنها بعد تناولها تسهل كل خبيثة كانت مستعصية لا تقبلها النفس ويعافها الشارب.

ب. ثاني الأمرين اللذين يترتبان على الشرب بلا مراء: ذهاب الرشد، أو إضعاف الإدراك ووزن الأمور وزنا صحيا، وإنا والله لنعجب لأولئك الذين يرضون الضلال بدل الرشد، والغفلة بدل الصحو، وقد كان في الجاهلية رجال عافوا ذلك، ولم يرتضوه لأنفسهم، وقد قيل للعباس بن مرداس، وكان لا يشرب: (ألا تشرب الخمر، فإنها تزيد في حرارتك؟) فقال: (ما أنا آخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفى، ولا أرضى بأن أصبح سيد القوم وأمسى سفيههم)

16. الفوضى الخلقية التي صار عليها الناس اليوم جعلتهم يغفلون عن هذه الحقائق المقررة الظاهرة، ولا يلتفتون إليها، بل لقد ذهب بعضهم إلى المغالاة فزعم أنها ضرورية للمدنية اليوم، فإن الآلام النفسية قد اشتدت، والمحن قد كثرت، ولا دواء لهذا الداء إلا الخمر، فهي اليوم دواء لا داء، وإنها علاج المجتمع! ذلك قولهم بأفواههم، وذلك تفكيرهم في أهوائهم، ونحن نقول: إنها تناسب مدنيتهم، وهى خاصة من خواصها؛ لأنها مدنية اتسمت بالرذيلة، وصارت شعارها، فكان من المناسب أن تكون الخمر دواءها؛ لأن الدواء يكون من جنس الداء، وأم الخبائث هي التي ترأم الخبائث، وتكنفها وتحوطها وترعاها، فلا عجب إذا رأينا التفكير المعكوس هو الذي يدافع عن الخمر، ولا بد أن قائله قاله ورائحتها تنبعث من فيه!.

17. من ذا الذي يقول إن تفاقم الرذائل داع للانغمار فيها؟ إنه كلما تفاقم الشر وجب جمع العزائم لمحاربته، وإن المحن النفسية إذا اشتدت وجب تقوية الوجدان الخلقي، والضمير الخلقي، وتربية الناس على ضبط النفس والصبر الجميل، وإيقاظ النزوع الديني، والعزاء الروحي، أما إذا تألمت النفس وقوى الضمير، واشتد اللوم النفسي فأخذ المتألم الكأس ليخفى الألم وليضعف صوت الضمير، فإنه كالجندي يفر من مواطن الجهاد، وميدان العمل إلى أن يكون في موضع الهمل، فهل يرضى كريم‏ لإنسانيته بتلك المنزلة الهون فيميت آدميته ويقتل خلقه، ويذهب بمروءته ورشده، ويكون ملهى الصبيان، يتلعب بكرامته الغلمان، أو على الأقل يعمل على أن يفسد تقديره ووزنه للأمور؛ لأن معرفتها على حقيقتها تؤلمه! وهل يذهب بأسباب المحن غفلته عنها وابتعاده عن الإحساس بها! كلا إنه يتردى بالخمر من محنة إلى محنة فغفلته عن المحنة، بالخمر تدفعه إلى ثانية ثم إلى ثالثة، وهكذا تتوالى عليه المحن بها، حتى يضيع نفسه، وأهله، وأولاده، وأصحابه ولا يبقى معه إلا إخوان الشر، ودعاة الفساد!

18. هذه إشارة إلى مضار الخمر المعنوية والاجتماعية، أما مضارها الجسمية، فيكاد العلم الحديث يثبت أنه لا شيء يدخل الجسم أضر عليه من الخمر، فهي تأكل الكبد وتضخمه، وتفسد الكلية، وتضعف أنسجة الجسم وتنهك الأعضاء الداخلية العاملة، وتفقد الشهية للطعام، وتفسد المعدة وتحدث تصلبا في الشرايين وتمددا فيها، وأحيانا يموت السكير فجأة لهذا الداء، والخمر تضعف الحنجرة، وشعب التنفس، وتكثر السعال، وقد أثبت التحليل الطبي أن الجسم لا يستفيد منها أية فائدة، فإنها وإن كانت فيها مواد غذائية، يذهب السم الذي صاحبها بفائدتها فهي في جملتها عقاقير سامة، وما يحدث من نشاط في الجسم ونشوة عند شربها سببه أنها مواد غريبة على المزاج الجسمي فعناصر الجسم تقاومها وتدافعها وبهذه المقاومة والمدافعة يتولد الإحساس بالنشاط، وإذا كانت الخمر في أحيان قليلة تقى من بعض الأمراض التي لا خطر منها، فالضرر الناشئ عنها أشد من الأضرار الناشئة عما تدفعه!.

19. قد يقول قائل: إنها تتخذ دواء أحيانا؛ ولذلك يتساهل بعضهم في ذلك، ولكن وجدنا طبيبا إنجليزيا يصرح في قوة قائلا: (أنا لا أعلم مرضا قط شفى من الخمر)! ويقول آخر أسكتلندى: (الخمر لا تشفى شيئا) ويقول ثالث: (إن الخمر تدخل الجسم وتخرج منه ولا أثر لها إلا ما تحدثه من أضرار)، وهكذا تتوارد أقوال الأطباء في أنها لا تصلح شفاء وإن كانت تقى في حالات قليلة من بعض أمراض لا خطر فيها، وبهذا يصح الأثر عن السلف: (لا دواء في محرم)، ولقد روى مسلم أن طارق بن سويد سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إني أصنعها للدواء، فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنه ليس بدواء ولكنه داء) فما أصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنه المبلغ عن ربه، وكفى ذلك تصديقا.

20. ليست أضرار الخمر الجسمية والعقلية مقصورة على المتناول، بل إنها تنتقل إلى ذريته من بعده، إذ يكون النسل ضعيفا ضاويا، في جسمه وعقله، حتى يكون أقرب إلى الجنون، وأشد استعدادا له، فإن تناولها يجعل السكير ضعيف العقل، إذ تضعف قواه العقلية شيئا فشيئا حتى يصير كالأبله، وينتقل ذلك إلى ورثته، ولقد قال بنتام في كتاب (أصول الشرائع) ما نصه: (النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله، وفى الأقاليم الجنوبية يصير كالمجنون، وقد حرمت ديانة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم جميع المشروبات، وهذه من محاسنها)

21. علم الأوربيون مضار الخمر علما يقينا، ووجدوا أن الإكثار منها بين أمم أفريقيا والشرق قد يبيدها، أو يفسد العناصر الصالحة فيها؛ ولذا جاء في كتاب (الإسلام خواطر وسوانح) في عجز المدنية الأوربية عن إبادة المسلمين: (إن المسكرات التي استعملها بعض الفاتحين لا تؤثر في أهالي الجزائر لكونهم يمقتونها مقتا شديدا)، ولكن المسلمين قد أصبح قادة الفكر فيهم لا يمقتونها اليوم، فهل فتحت أبواب الفناء، وزالت حواجز البقاء؟ اللهم أصلح الأحوال، وقوّ العزائم، وهيئ لنا من أمرنا رشدا!.

22. هذه بعض آثار الخمر، فما منافعها؟ والله العلى القدير لولا أن القرآن الكريم ذكر أن فيها منافع للناس ما ظننت أن فيها نفعا ولو بطريق الشبهة، ولكن هكذا قال‏ القرآن، وليس لنا إلا الإيمان، ولقد ذكر بعض العلماء منافع ظاهرية لها، منها أنها وقاية أحيانا من بعض جراثيم الأمراض بما فيها من كحول، ومنها أنها قد تثير النخوة، ومنها أنها تسلى، ومنها أنها تسخى البخيل أحيانا، وأن ما يكنف هذه الأمور التي يكون ظاهرها نفعا من أضرار يجعل النفع لا جدوى فيه، بل يكون الضرر في هذه الأحوال نفسها أكثر من النفع.

23. الميسر هو قمار العرب، ويطلق على كل قمار اسم الميسر، فكل ما يتخاطر فيه الناس من معاملة فيها خطر الكسب المطلق أو الخسارة المطلقة يعد ميسرا أو قمارا، وأصل اشتقاق كلمة ميسر إما من الميسر بمعنى السهولة؛ لأن المال يجيء للكاسب عفوا من غير جهد، وإما من يسر بمعنى وجب؛ لأن اللاعب إذا آل إليه الكسب يصير واجبا، وإما من يسر بمعنى جزأ، وقد اختار ذلك الأزهري، فقال: (الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا، لأنه يجزأ، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجزار، لأنه يجزئ لحم الجزور.. وهذا الأصل في الياسر، ثم قيل للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور يأسرون؛ لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك)

24. هذا هو الأصل في استعمال كلمة ميسر، وقد أطلقت على كل قمار، وقمار العرب الذي أطلقوا عليه كلمة ميسر هو أنهم كانوا يقسمون البعير المذبوح إلى ثمانية وعشرين قسما، ويوضع عشرة أقداح، ثلاثة منها غفل لا علامة عليها تسمى: السفيح، والمنيح، والوغد، ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئا، وقد تزاد الغفل على هذا العدد، أما السبعة الأخرى فهي الكاسبة وهى: الفذ وله سهم واحد، والتوأم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسل وله ستة، والمعلى وله سبعة، والمجموع ثمانية وعشرون، ولا شك أن هذا من قبيل ما نسميه اليوم (ورق اليانصيب)، وقد كانت عادة العرب أن يفعلوا ذلك عند اشتداد الضائقة ليتبرعوا بنتائج الكسب على الفقراء، وما أشد الشبه بين هذا وبين عمل الجماعات التي تجمع التبرعات بهذه الطريقة!.

25. جاءت النصوص الصريحة بتحريم كل قمار، وقد ورد أن رجلا قال إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا، فارتفعا إلى علىّ فقال: ذلك قمار!.

26. الميسر مضاره كثيرة، فهو يؤدى إلى إتلاف المال وإهمال الأعمال، وهو أكل لمال الناس بالباطل، ويفسد الأخلاق، وقد يترتب عليه خراب البيوت، وهو فوق ذلك يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويورث العداوة والبغضاء، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة]

27. منافع الميسر ضئيلة أيضا بجوار مضاره، ومنها إعطاء الفقراء، كما يرى فيما تصنع جماعات الإحسان، وأن الحكومات التي تعنى بتربية شعوبها وتهذيب نفوسهم تحارب انتشار القمار، وتقطع السبل المؤدية إليه، ولو كانت تبيحه في النوادي الخاصة فبعض الأمم الأوربية يحرم قانونها بيع أوراق اليانصيب، ولو كانت للبر؛ لأنها تربى في الشعب روح المقامرة، مع أن هذه الأمم تبيح فتح النوادي للقمار، فهي لا تمنع فتحها للحرية الشخصية في زعمها، ولكنها تمنع ما يبعث في الشعب روح المقامرة.

28. يلاحظ في الكلمات السامية: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أنه أطلق الإثم ولم يضفه فلم يقل إثم على الناس أو للناس، وقيد المنافع بأنها للناس، وهذا يدل على أن الإثم في الخمر والميسر ذاتي فهما في ذاتهما رجس كبير، وخطر وبيل، وأن ما فيهما من منافع فهي ضئيلة وهى بالنسبة لبعض الناس، فهي منافع إضافية، لا منافع ذاتية، فجوهر الخمر والميسر شر لا خير فيه، وما يكون من نفع فيهما في بعض الملابسات، كما يلاحظ في بيع الأوراق لتمويل بعض جماعات البر، فليس ذلك لأن في الميسر خيرا أو نفعا، بل لأن النفوس فسدت، وشحت بالخير، فلا تجود إلا من هذا الطريق الفاسد، فما فيه من نفع إضافي سببه فساد الناس، وهو نفع ضئيل للناس ومشتق من أحوالهم.

29. السؤال الثاني جاء في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ومناسبته للسؤال الأول أنهم كانوا يتخذون من الخمر والميسر طريقا لتسخية نفوس الأشحة على الخير الذين لا يجودون من تلقاء أنفسهم، فكان السؤال عن الإنفاق على البر، عقب السؤال عن الأمر الآثم الذي كانوا يحسبونه برا وهو إثم لا بر فيه، وفى الإجابة عن هذا السؤال بيان طريق العطاء المنظم المعلوم الخالي من الإثم، بدل العطاء المجهول غير المنتظم للتأشب بالإثم الذي أحاط به.

30. العفو معناه: السهل، أو الزائد فإن كلمة عفو لها ثلاثة إطلاقات أولها الترك، كما قال تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾ [المائدة] أي تركه وتجاوز عنه، وبمعنى السهل، كما قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف‏]، وبمعنى الزيادة، والمعنى هنا السهل الزائد عن الحاجة، سألوا عما ينفقون من مال في البر، فقال لنبيه‏ ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي السهل الزائد عن حاجتكم الأصلية الذي لا يشق عليكم بذله، إن استقامت النفوس، وامتلأت القلوب بالإيمان، وعمرت بالرحمة وأجابت نداء الرحمن، والعفو يشمل الزكاة المفروضة؛ لأنها ليست إلا فضلا قليلا من المال، كما يشمل صدقة التطوع، وكما يشمل الصدقات التي يتعين أداؤها إذا كان شخص في مخمصة ولا يدفع غائلة الجوع إلا شخص واحد يعرفه، ولا يعرفه سواه، فإنه يتعين عليه الأداء، وأنه في وقت الحاجات يفيض الغنى على الفقير بكل ما يسد حاجته، ولقد روى عن أبى سعيد الخدرى أنّه قال بينما نحن في سفر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له) فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل‏.

31. الآية كما تدل على ذلك توجب على المتصدق أن يبقى لنفسه ولعياله ما يكفيهم؛ ولذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وروى أن رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال: خذها منى صدقة فأعرض عنه حتى كرر عليه مرارا.. فردها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: (يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس ويتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)

32. ختم الله سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي يبين سبحانه وتعالى في كل الأحوال بيانا كهذا الذي ذكره في الإنفاق وفى الخمر والميسر لكى تتفكروا وتتدبروا في مصالحكم في الدنيا والآخرة، فتسيروا على الطريق المستقيم في الدنيا، وتتكون منكم الجماعة الفاضلة المتعاونة المتآزرة، ويحسن جزاؤكم في الآخرة، وتحظوا برضوان الله، وذلك هو الفوز العظيم، و(لعل) للرجاء، وهو من الله سبحانه وتعالى في معنى التعليل، لأنه لا رجاء من الله، إنما الرجاء من العبيد فهذا التمثيل والتصريف في آيات الله البينات ليرجوا التفكر والتدبر، ويسيروا فيه ليصلوا إلى الغاية الصالحة.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/689

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر والقمار، وكان السؤال في المدينة، أي بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة من تاريخ الدعوة الاسلامية.. ويدل هذا على ان حكمهما كان مسكوتا عنه أمدا طويلا، كما سكت عن حكم بعض المحرمات الى وقت البيان حسبما تقتضيه المصلحة، وقد تستدعي الحكمة الرفق والتدريج في بيان الحكم، وقيل: ان بيان حكم الخمر كان من هذا الباب، لأن المسلمين كانوا قد ألفوها في الجاهلية، فلو منعوا عنها دفعة واحدة لشق ذلك عليهم.. بل ان الله سبحانه قد ذكّر الناس بأن من جملة نعمه عليهم انهم يتخذون من النخيل والأعناب سكرا ورزقا، حيث قال عز من قائل في سورة النحل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾

2. سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر والقمار، فأمر الله نبيه الأكرم أن يجيبهم بأن‏ ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، وهذا الجواب بمفرده لا يدل على تحريم الخمر صراحة، لأنه لم يقل: الخمر حرام.. ولكنه يدل عليه بالالتزام، لقاعدة: درء المفسدة اولى من جلب المصلح لأهم مقدم على المهم، غير انه إذا لحظنا الآية 32 من الأعراف: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، وعطفنا هذه الآية على الآية التي نحن بصددها، وجمعناهما في كلام واحد تكون الدلالة على التحريم‏ صريحة وقطعية أيضا، حيث تأتي النتيجة هكذا: الخمر إثم، وكل إثم حرام، فالخمر حرام، هذا، بالإضافة الى الآية 90 و91 من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ والْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فقوله: فاجتنبوه أمر بالاجتناب، والأمر يدل على الوجوب، وقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، ظاهر في النهي، لأن معناه انتهوا، والنهي يدل على التحريم، ولذا قال المسلمون بعد سماع هذه الآية: انتهينا، أما الآية 43 من النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، أما هذه الآية فقد نزلت قبل آية المائدة التي هي أشد وأغلظ، وأشرنا ان الحكمة ربما تستدعي التدريج في بيان التحريم، على ان لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى لا دلالة فيها على حليّة الخمر في غير الصلاة.

3. هذا، الى أن المسلمين منذ الصدر الأول الى اليوم قد أجمعوا كلمة واحدة على ان الخمر من الكبائر، وان من استحلها فليس بمسلم، ومن ارتكبها متهاونا فهو فاسق، ويحد بثمانين جلدة، وقد تواتر عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم انه لعن غارسها، وعاصرها، وبائعها وشاريها وساقيها وشاربها، وفي بعض الأخبار أو الآثار: ان ما من شريعة سماوية إلا ونهت عن الخمر، وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق، باب الأطعمة والأشربة.

4. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ والمراد بالإثم هنا الضرر، ويظهر ضرر الخمر في الجسم والعقل والمال، وفي الصد عن ذكر الله، وفي الخصومات والمشاحنات، وفي ارتكاب المحرمات، فلقد روى أهل السير ان بعض السكارى نزا على بنته.. وكان العباس بن مرداس رئيسا في قومه في الجاهلية، وقد حرم الخمر على نفسه بفطرته، ولما قيل له في ذلك قال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فادخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم، وامسي سفيههم، وقال طبيب ألماني شهير: اقفلوا نصف الحانات، اضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والمارستانات والسجون.

5. أما القمار فإنه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، كما أشارت الآية الكريمة.. ويفسد الأخلاق بالتعويد على الكسل، وطلب الرزق من أسباب وهمية، ويهدم البيوت العامرة، وينتقل بالإنسان من الغنى الى الفقر فجأة في ساعة واحدة.. ويكفي لتحريم القمار انه أخذ للمال بلا عوض ومقابل.

6. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، أي أنفقوا ما زاد عما تحتاجونه أنتم وعيالكم، والأمر بالإنفاق هنا للاستحباب، لا للوجوب، وإنما يجب البذل إذا تحققت شروط الخمس والزكاة، وسنتكلم عنهما مفصلا ان شاء الله.. ومهما يكن، فان هذه الآية تجري مجرى الآية 29 من الاسراء: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾، وفي الحديث ان رجلا جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بمثل البيضة من ذهب، وقال له: يا رسول الله خذها صدقة، فو الله لا أملك غيرها، فأعرض الرسول عنه، ثم أتاه من بين يديه، وأعاد القول، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: هاتها مغضبا، فأخذها منه، ثم حذفه بها، وقال: يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره، ويجلس يتكفف الناس، انما الصدقة عن غنى، خذها لا حاجة لنا فيها.. وفي الحديث أيضا ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يحبس لأهله قوت سنته.

7. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أي ان الله سبحانه بيّن لنا حكمه في الخمر والقمار، وحكمه فيما ينبغي أن نتصدق به من أموالنا على أساس مصلحتنا نحن، فهو لا يأمر إلا بما فيه مصلحة دنيوية وأخروية، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة كذلك، وعلينا أن نتدبر هذه الحقيقة، ونراعيها، ولا نعصي الله في شيء من أوامره ونواهيه، فالقصد من قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ان نعمل لهما معا، ولا ننصرف الى إحداهما دون الأخرى.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/328

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمي به لأنه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في أقسامه‏ تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمر.

2. الميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضا: الأزلام والأقلام.

3. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، وقرئ إثم كثير بالثاء المثلثة، والإثم‏ يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى وهذان على هذه الصفة.

4. أما شرب الخمر:

أ. فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرايين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما وحديثا، ولهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.

ب. وأما مضراته الخلقية: من تشوية الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل، وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في‏ الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا ونغصت عيشة الإنسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.

ج. وأما مضرته في الإدراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الآخر.

5. الشريعة الإسلامية وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، والميسر، والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال، فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الإنسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة إلا وهي أمر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء إلا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.

6. لم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجري على نواميس السعادة الإنسانية، ولذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلفهم بالرفق والإمهال، ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، والآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، وفي الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو وأن في الخمر إثما كبيرا، ولعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾، والآية أيضا مكية، وكان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد، والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس، ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ وتقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.

7. من هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة، فإن قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ لا يدل على أزيد من أن فيه إثما والإثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾

8. وجه الفساد:

أ. أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الإثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.

ب. وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.

ج. وأما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية! على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ النساء ـ 48، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم، ثم نزلت آيتا المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، وذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.

9. أما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.

10. ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، مر الكلام في معنى الإثم، وأما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولا صغر كما لا يكون كثرة ولا قلة، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾، وقال تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، وقال تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾، والعظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.

11. النفع‏ خلاف الضرر ويطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير والشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشري والعمل والتفكه والتلهي، ولما قوبل ثانيا بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.

12. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.

13. الكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الآية.

14. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾ إلى قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، الظرف أعني قوله‏ تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، متعلق بقوله: ﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ وليس بظرف له، والمعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وفي الآية:

أ. أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدإ والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدإ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.

ب. وثانيا: أن القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد، غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسري، وكان المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح أصول المعارف والعلوم.

15. أحاديث وآثار، وفوائدها، والموقف منها:

أ. في الكافي، عن علي بن يقطين: قال سأل المهدي أبا الحسن عليه السلام عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها ـ فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة ـ فقال: في أي موضع هي محرمة ـ في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، إلى أن قال: فأما الإثم فإنها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين ـ الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال فوالله ما صبر المهدي إن قال لي: صدقت يا رافضي.

ب. في الكافي، عن أبي بصير عن أحدهما عليه السلام قال إن الله جعل للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر، وفيه، أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الخمر رأس كل إثم، وفيه، عن إسماعيل قال أقبل أبو جعفر عليه السلام في المسجد الحرام ـ فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم ـ فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال عليه السلام: شرب الخمر، وفيه، أيضا عن أبي البلاد عن أحدهما عليه السلام قال ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة ـ ويثب على أمه وابنته، وأخته وهو لا يعقل، وفي الاحتجاج،: سأل زنديق أبا عبد الله عليه السلام: لم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها؟ قال حرمها لأنها أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبهـ فلا يعرف ربه ولا يترك معصية ـ إلا ركبها.. الحديث، والروايات تفسر بعضها بعضا، والتجارب والاعتبار يساعدانها.

ج. في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبايعها، ومشتريها وآكل ثمنها، وفي الكافي، والمحاسن، عن الصادق عليه السلام قال قال رسول الله ص: ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.. وتصديق الروايتين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة ـ 3.

د. في الخصال، بإسناده عن أبي أمامة قال قال رسول الله ص: أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر، وفي الأمالي لابن الشيخ، بإسناده عن الصادق عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا ـ إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم ـ معذبا بعد أو مغفورا له، ثم قال إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه، وفي تفسير القمي، عن أبي جعفر عليه السلام قال حق على الله أن يسقي من يشرب الخمر ـ مما يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه.. ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾، وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

هـ. في الكافي، عن الوشاء عن أبي الحسن عليه السلام قال سمعته يقول: الميسر هو القمار، والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

و. في الكافي، وتفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط، وفي تفسير العياشي، عن الباقر والصادق عليه السلام: الكفاف، وفي رواية أبي بصير: القصد، وفيه، أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية: ﴿الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ـ وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً﴾، قال هذه بعد هذه، هي الوسط، وفي المجمع، عن الباقر عليه السلام: العفو ما فضل عن قوت السنة.. والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق، والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الإحصاء.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/192

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْخَمْرِ﴾ عصير من العنب أو التمر يغطى أياماً نحو سبعة أو أكثر أو أقل حتى يصير مسكراً وحينئذ يكون خمراً، وقد جاءت روايات تفيد تحريم كل مسكر وفي بعضها: (كل مسكر خمر)

2. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ هو القمار، وحاصله: طائفتان يحضران مالاً، ثم يستعمل كل فريق ما يأخذ به المالين من العمل المصطلح عليه أو يستعملا القرعة أو نحوها فيأخذ أحدهما المالين ويخسر الآخر ماله بدون عوض، وكانت الجاهلية يفتخرون بشرب الخمر وإتلاف المال فيه ويفتخرون بالميسر وكانوا يأخذون ما أخذوه بالقمار ويقسمونه للفقراء فيفتخرون بالميسر لذلك، ولعلهم هم الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لينظروا ما هو حكم الإسلام في الخمر والميسر.

3. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ على من استعملها؛ لما في الخمر من تحريمها، ولعنها، ولعن شاربها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه؛ وذلك لأنها أم الخبائث تجر إلى السكر وما يكون مع السكر من الخبائث، ويستعان بها على الزنا واللواط، كما قال الشاعر: (لها محبان لوطي وزنّاء)، وقد يزني السكران بأخته، وقد يقتل ابنه أو غيره لسكره؛ فيؤدي إلى العداوة، ومع فرط خبثها يولع بها صاحبها حتى كأنه مضطر إليها فيستمر عليها حتى يموت إلا من وفقه الله وأعانه على تركها.

4. أما إثم الميسر فلأن الله حرمه وفيه ظلم للغارم لأخذ ماله بالباطل وتسبيبه للعداوة والبغضاء لأنه يجحف بالغارم ويغيظه إذا عظمت غرامته، وقد بين الله مفاسدهما بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة:91]

5. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ والمنافع: أصغر من الإثم لا تعادله كالتجارة في الخمر، وإطعام المساكين في الميسر، فهذا لا يعادل تحريمهما وما فيهما من المفاسد، وفائدة ذكر أن فيهما منافع الرد على من يجادل عنهما من الكفار، فكأنه قيل: إنهما وإن كان فيهما منافع فـ ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ لا تعادله المنافع، فلا تعارض تحريمهما

6. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ سبق الجواب على هذا السؤال بذكر ما يفيد أن المنفَق أيّ خير وأن الإنفاق للوالدين ومن ذكر معهما، وهنا زيادة جواب لتحديد المنفَق وهو العفو وهو ما يفضل عن الحاجة الصادقة لا الحاجة النفسية التي هي حاجة الشحيح والطامع في الشهوات ويقدم الأوجب فالأوجب، وأما الإيثار على نفسه فهو فضيلة

7. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فآيات الله مبيَّنات للمكلفين لا تخص الشيخ ولا الإمام وبالتفكر فيها يهتدي قارؤها للمعنى؛ ومن التفكرِ، التفكرُ فيما أشارت إليه من مفاسد الخمر والميسر، والتفكر في رحمة الله بعباده حيث لم يكلفهم الإنفاق المجحف، وفي رحمة الله بمن أوجب الإنفاق عليهم، وفي رحمته بالأمر بالإنفاق في سبيل الله لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولإعلاء كلمة الله ليسعد الناس في الآخرة ويدفع الظلم ويسود العدل كما أن إنفاق المال للظلمة المفسدين في الأرض عكس ذلك، ومن التفكر في آيات الله التفكرُ في هدايته للخير العاجل والآجل، كما تدل عليه في مواضع عديدة من القرآن، فهي تهدي إلى الخير للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة فآياته مبينات.

8. ﴿فِي﴾ شئون ﴿الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ﴾ إذا تفكرتم فيها اهتديتم إلى خير الدنيا والآخرة، ألا ترى أن الناس لو عملوا بها في الإنفاق في سبيل الله والجهاد في سبيل الله والإنفاق على من أمر الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى ساد الحق والعدل وطاعة الله وذهب التظالم والخمر والميسر والربا وأرجعت المظالم ولم يبق في الأرض مستضعف يمنع ما يستحقه من الإنفاق ومن الحرية والإنصاف لكان الناس في سعادة عاجلة في الدنيا وعمل صالح للآخرة.

9. وبهذا تبين: بطلان دعايات الكفار الجاهلين بالدين ومنافعه والمكابرين للحق، من قولهم: أن القرآن حجر عثرة في طريق التقدم، وكذبوا وخابوا وخسروا، بل هو طريق السلامة والكرامة، وهو لا يمنع من تعلم العلوم الحديثة في مختلف الجوانب، ومنها: صناعة الطائرات ونحوها، بل هو يدعو إلى إعداد القوة ويحل لهم أخذ ما أعد لعباده من منافع البحر والبر.

10. قال الشرفي في (المصابيح): (وفي أحكام هذه الآية يقول إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على تحريم الخمر والميسر للنص الجلي على حصول الإثم الكبير فيهما، وتدل على أن ارتكابهما من الكبائر، وعلى أن النفقة بما فضل عن الكفاية، وهذا إجمال وهو مبين في الزكاة بالأنصباء في المواشي والذهب والفضة وفي المكيل كذلك؛ كما جاءت به السنة المعلومة، وفي نفقة النافلة قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا صدقة إلا عن ظهر غنَى) وقوله سبحانه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر:9] في مثل الوجبة والوجبتين مشروع حسن)، وكلامه عليه السلام لم يستوعب الإنفاق الواجب؛ لأن منه الإنفاق في سبيل الله ولم يذكره هنا وغيره كما مر.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/323

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْخَمْرِ﴾: أصله الستر، ومنه: الخمار للمقنعة، ودخل في خمار الناس، أي: في كثير الذي يستتر فيهم، ويقال: خامرة الداء: إذا خالطه، وخمرت الإناء: إذا غطيته، وفي الشرع: كل مائع مسكر، سواء أخذ من العنب أو الزبيب أو التمر، وكل مشروب كحولي، وربما كان إطلاق الخمر على المسكر بلحاظ تغطيته على العقل وسلبه القدرة على التمييز بين الضرر والنفع.

2. ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾: القمار، اشتق من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، من قولك: يسر لي هذا الشيء، ييسر يسرا وميسرا إذا وجب ذلك، والياسر: الواجب بقداح وجب لك أو غيره، يقال: يسرته، إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد أو تعب، أو من اليسار، لأنه سلب يساره.. وكانت صفة على الميسر، في الجاهلية، أنهم كانت لهم عشرة أقداح، وهي الأزلام والأقلام.. وقد تطورت آلات القمار وتنوعت وسائله، وقد عدّ منها الشطرنج والنرد اللذان كان الناس يلعبون بهما بطريقة القمار، بحيث كان للرابح فيهما عوض معيّن، وهكذا نجد أن مفهوم الميسر يلتقي مع كل لون من ألوان اللعب بالآلات القديمة والجديدة، على أساس أن يكون للرابح عوض يدفعه الخاسر، وجاء عن ابن سيرين: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.

3. ﴿إِثْمٌ﴾: الإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى، وهو حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات، فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى، ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى، قال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.. وقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات‏، وأصل الإثم البطء والتأخر.

4. ﴿الْعَفْوَ﴾: مأخوذ من الزيادة، ومنه قيل: حتى عفوا، أي: ازدادوا على ما كانوا عليه من العدد، والمراد به: ما يسهل إنفاقه فلا يبلغ الجهد ـ وهو التوسط في الإنفاق ـ وقيل: هو مأخوذ من الترك من قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: 178] أي: ترك، ومنه: عفوت لكم عن صدقة الخيل، أي: تركتها، فيكون العفو لمتروك لغني عنه.

5. جاء في المجمع: إن الآية: (نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت الآية)، قد نستوحي من هذه الرواية أن التحريم لم يكن واردا في التشريع ـ آنذاك ـ وأنهم كانوا يعيشون في وجدانهم الشرعي أجواء التحريم من خلال طبيعة النتائج السلبية التي يعرفونها في الخمر والميسر مما يختزنانه من فساد للعقل والمال، وذلك من جهة ما عرفوه من دروس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ما كانوا يسمعونه منه من آيات الله وأحاديثه، أن الله يريد بالناس الخير في تشريعاته الإلزامية على أساس المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال، فهم يتحسسون حرمة الأشياء المضرة في وجدانهم الديني، فيتطلعون إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم سائلين عن الحرام في هذا أو ذاك.

6. هناك رواية في الكافي توحي بأن تحريم الخمر بشكل صريح حاسم سابق على هذه الآية، فقد جاء عن علي بن يقطين، قال‏: سأل المهدي أبا الحسن ـ موسى الكاظم عليه السّلام ـ عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله ـ عز وجل ـ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن عليه السّلام: بل هي محرّمة في كتاب الله عز وجل يا أمير المؤمنين، فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله عز وجلّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: 33].. إلى أن قال وأما الإثم، فإنها الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسر وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى.. الحديث‏.

7. ذكر صاحب تفسير الميزان: أن آية الأعراف سابقة في النزول على آيتي البقرة وآيتي المائدة، فإنهما تدلان على النهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات، فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس‏، لكننا لا نجد في رواية الكافي دلالة على سبق آية الأعراف على آية البقرة، بل قد تدل على تأخرها عنها وذلك لأن الإمام، في الرواية، استشهد بآية البقرة على انطباق عنوان الإثم بشكل واضح على الخمر، مما يجعل كلمة الإثم في آية الأعراف متعلقا للتحريم، بدلالة على أن المراد به الخمر، فكأن آية البقرة مهدّت لبيان تحريم، من حيث كون الخمر مصداقا للإثم.

8. سؤال وإشكال: التعبير عن الخمر بالإثم لا يخلو من غموض في فهم المعنى المعيّن من اللفظ، وربما يقال: إن الخمر يسمى إثما في اللغة، كما قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي‏...كذاك الإثم يصنع في العقول‏

والجواب:

أ. أولا: إن الإمام استدلّ على إرادة الخمر من الإثم ـ في آية الأعراف ـ بآية البقرة التي وصف فيها الخمر والميسر بالإثم، ولم يستشهد بكلام أهل اللغة في تسمية الخمر بهذا الاسم، مما يوحي بأن ذلك ليس معروفا في زمن الإمام الكاظم عليه السّلام.

ب. ثانيا: من الممكن أن يكون هذا الشاعر قد استوحى القرآن في هذا التعبير، أو استوحى الكلمة الدالة على أن مضمون الإثم هو حالة في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات، فأطلقها عليه من باب إطلاق المفهوم على المصداق، لاشتمال الخمر على ما يوجب فساد العقل، لا من باب إطلاق الكلمة على معناها.

ج. ثالثا: إن ملاحظة صاحب الميزان في إثبات سبق آية الأعراف غير دقيقة، لأن النهي المطلق في آية البقرة وآيتي المائدة كان واردا بالأسلوب الذي يركز على الأساس السلبي للخمر في العناوين المذكورة التي توحي بالحرية وتأمر بالاجتناب، بحيث يعيش فيها القارئ الجو الفكري في الخط التشريعي، بينما لا توحي آية الأعراف إلا بالتشريع فقط في الحديث عن تحريمه إلى جانب المحرمات الأخرى، فلا مانع من أن تكون تلك الآية مقدمة لآية الأعراف، باعتبار أنها جاءت حاسمة في بيان الحرمة بلفظها من دون لبس أو إشكال بعد إعداد الجو النفسي المتنوع للمسلمين في هذه المسألة، ويؤيد ما ذكرناه الرواية الأخرى الواردة في الكافي، بطريق مرسل، فقد روى عن بعض أصحابنا مرسلا قال‏: إن أول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فلما نزلت هذه الآية أحسّ القوم بتحريمها وتحريم الميسر، وعلموا أن الإثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل الله عز وجل عليهم من كل طريق، لأنه قال ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ثم أنزل الله عز وجل آية أخرى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] فكانت هذه الآية أشد من الأولى، وأغلظ في التحريم، ثم تلت آية أخرى فكانت أغلظ من الأولى والثانية وأشد، فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] فأمر عز وجل باجتنابها، وفسر عللها التي لها ومن أجلها حرّمها، ثم بين الله ـ عز وجل ـ تحريمها، وكشفه في الآية الرابعة مع ما دلّ عليه في هذه الآية المذكورة المتقدمة بقوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف: 33] وقال الله عز وجل في الآية الأولى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ثم قال في الآية الرابعة: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ فخبر الله عز وجل أن الإثم في الخمر وغيرها، وأنه حرام، وذلك أن الله عز وجل إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء، حتى يوطن الناس أنفسهم عليها، ويسكنوا إلى أمر الله ـ عز وجل ـ ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل الله عز وجل على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخذ بها، وأقل لنفارهم منها.. وإذا كانت هذه الرواية مرسلة، فإن مضمونها يتناسب مع مضمون الآيات، مما يبعث على الثقة بصدورها، فتكون حجة على أساس المبنى الذي قررناه في علم أصول الفقه، وهو أن السيرة العقلائية ـ التي هي الأساس في حجية الأخبار ـ جارية على اعتبار الخبر الموثوق به لا خبر الثقة بالخصوص، بل إن اعتباره من أجل كونه سببا للوثوق.

9. في هاتين الآيتين معالجة لعدة قضايا دار الحوار حولها بين المسلمين وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور التشريعية مما كان يبتلى به الناس، فقد سألوا عن الخمر والميسر، وهما من العادات المتأصلة الجذور في حياة الناس آنذاك، مما يجعل من تحريمهما، أو الاتجاه نحوه، مشكلة اجتماعية صعبة، وكانوا يعتقدون، أو يخيّل إليهم، أن التحريم لا يخضع لمصلحة الناس الحياتية، لأن شرب الخمر يخفف كثيرا من أثقال النفس وهمومها، ويبعد بها عن أجزائها وواقعها السّيئ، وربما يجدون في أنفسهم بعض الحاجة إلى الهروب من الواقع المرير إلى واقع لا أثر فيه للمرارة أو للمشاكل، تماما كما هو النوم في حياة الإنسان، حيث تستريح فيه الأعصاب، ويهدأ معه الفكر، وتتجدد فيه القوى.

10. حاول القرآن الكريم ـ في جوابه عن ذلك ـ أن لا يتنكر لهذه التصورات، ولا يتعسّف في توجيه الحكم الشرعي إليهم، فبدأ بإثارة الجوانب السلبية بإزاء الجوانب الإيجابية ليفكروا فيها بهدوء، ليتحقق لهم التوازن في تصورهم للأشياء وحكمهم عليها، لأن ذلك هو السبيل القويم في سلامة المعرفة من الانحراف تحت ضغط العادة أو المنفعة أو الشهوة، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 49] فإنه يضع أمامهم التأثيرات السلبية في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة، وفي الحياة الروحية التي يعيش فيها الناس مع الله في لحظة العبادة والتأمل، لأن الخمر يذهب بالعقل، فيتصرف الإنسان ـ معها ـ بفعل الغريزة التي تجمع الأحقاد وتفجرها في طريقة لا شعورية، بينما يساهم القمار في شعور الخاسر بالحقد تجاه الرابح، لأنه قد أخذ منه ماله دون مقابل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يشارك الخمر والقمار من خلال الإدمان عليهما، في إبعاد الإنسان عن الذكر وعن الصلاة، وعلى هذا وجّه القرآن الكريم سؤالا، يقصد منه الاستنكار وطلب الكف عن هاتين العادتين بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] كإيحاء خفيّ بأن العاقل هو الذي يبادر بنفسه، من دون حاجة إلى تعليمات خارجية، لترك ما يفسد عليه أمر حياته وقضية مصيره.

11. ثم أراد القرآن الكريم أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، فيحضرهما في وعي الناس في البداية، ثم يرشدهم إلى الحقيقة الموضوعية، وهي زيادة نسبة الجوانب السلبية في ممارستهما على الجوانب الإيجابية، ويترك للعقل الواعي عملية استخلاص النتيجة التي ستكون إلى جهة التحريم، لأن العقل لا يقبل للإنسان أن يرتكب الفعل الذي يضره بنسبة كبيرة، لتحصيل منفعة ليست بذاك المستوى من الأهمية، أما كيف ذلك؟ فإننا قد نجد إلى جانب منفعة الخمر والقمار مفاسد لا تمثل المنفعة القليلة ـ معها ـ شيئا:

أ. فهناك المشاكل الصحية والمشاكل الاجتماعية التي قد تحدث كنتيجة طبيعية لغياب العقل في بعض الحالات مع بقاء الإنسان جزءا من الحياة الاجتماعية في تصرفاته وحركاته، مما يسبّب كثيرا من الجرائم والانحرافات العامة والخاصة، إذ ليس في المجتمع محاجر عقلية تحجر على المدمن حريته في حال سكره، فلا تدعه‏ يمارس قيادة السيارة أو غيرها، أو يحمل السلاح، أو يعيش في بيته مع أطفاله، ليتجنّب المجتمع من نزوات السكّير وانحرافاته، كما تفعله مع الذين يفقدون عقلهم نهائيا، في مدة قليلة أو كثيرة، هذا في الخمر.

ب. وأمّا القمار، فقد نجد فيه ـ إلى جانب ما ذكرته الآية السابقة ـ انحرافا اجتماعيا خطيرا، عندما يتحول الإنسان إلى كسب قوته من طريق القمار تاركا العمل وراء ظهره، مما يفقد المجتمع معه طاقة كبيرة أو صغيرة نافعة، ويؤدي ـ بالتالي ـ إلى تدمير حياة المقامر وحياة أسرته، لأنها لا ترتكز على أساس متين لاعتمادها على (الشطارة الذهنية) للمقامر أو على غباء ملاعبه، وهكذا تنتهي عملية التوازن بين الربح والخسارة إلى انخفاض نسبة الربح بشكل كبير جدا، بإزاء ارتفاع نسبة الخسارة بشكل مماثل أو أكبر.

12. يضع القرآن الناس أمام الحقيقة الكبيرة التي غفلوا عنها، تماما كما يفعل الذين يتذوقون حلاوة السم، فينشغلون بلذّة الحلاوة عما في السم من خطر مميت على الحياة، ثم يوحي ـ من خلال ذلك ـ إليهم، بأن التشريع، في ما يخطط من تحريم وتحليل، لا ينطلق من نقطة العبث والالتذاذ بتقييد حرية الآخرين، بل تبدأ انطلاقته وتنتهي في حدود مصلحة الإنسان الخاصة والعامة، فلا تحريم إلا عندما تكون المفسدة أقوى من المصلحة، ولا تحليل إلا عندما تكون القضية على العكس، سواء في ذلك ما اعتاده الناس وما لم يعتادوه، لأن الحرية في التشريع الإلهي ليست مزاجية تخضع لانفعالات المزاج في حالات اللذة والألم، بل هي واقعية أساسية تخضع للمصالح والمفاسد الحيوية للإنسان في حركة الحياة وقاعدتها الرئيسية، وعلى ضوء ذلك، فإن القرآن لم يزد شيئا على تقرير هذه الحقيقة الواقعية في الخمر والميسر، فلم يقل لهم ما يجب عليهم أن يفعلوه بل ترك الأمر للإحساس الفكري الصافي ببداهة النتيجة التشريعية التي تلتقي بالحكم‏ الإسلامي الحاسم بتحريم الخمر والقمار بشكل أساسي ونهائي، في هذه الآية الكريمة.

13. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ هل للإسلام موقف محدّد منهما؟ وهل هذا الموقف سلبي ينطلق في خط التحريم، أو إيجابي في خط التحليل؟ لأن هناك عادة عامة في أوساط الناس في الأخذ بهما، في الوقت الذي يتحسسون حدوث أكثر من مشكلة اجتماعية منهما، ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فهما يختزنان في خصوصياتهما الذاتية معنى الذنب، في مضمونه الذي يوحي بالنتائج السيئة التي تؤدي إلى فساد في العقل أو في المال يعطّل الوضع الطبيعي المتوازن في الحياة، من خلال الضرر الذي يحدثه في واقع الإنسان في التعقيدات السلبية التي تصيب روحه وعقله، فتقعد به عن الحصول على النمو العقلي والروحي والتوازن في حركته في الحياة:

أ. فإن الخمر يترك تأثيراته على عمر الإنسان، من خلال الأضرار التي يحدثها في الجسد، وقد يؤدي إلى الضرر على الجنين الذي يولد من أبوين مدمنين، وإلى الكثير من المفاسد الأخلاقية والأضرار الاجتماعية والاقتصادية، حسب الدراسات الطبية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.

ب. كما أن القمار يترك تأثيره الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي على واقع المدمنين له، فيبعدهم عن العمل المنتج، الذي يحرّك طاقة الإنسان نحو الإنتاج في المجالات التي تمثل حاجات الناس في حياتهم العامة والخاصة.

14. في ضوء ذلك، فإن كلمة الإثم تختزن في داخلها معنى الضرر، والظاهر أن المراد بها الضرر الدنيوي لا الأخروي، لأنه تابع للتحريم الذي تستوجب مخالفته العقاب في الآخرة، وهذا مما لم يكن معهودا قبل الآية، ليتحدث الله عنه كشيء وجداني معلوم للناس في ذهنيتهم الشرعية، لأن الغرض أنهم في موقع السؤال عن التحريم كموقف إسلامي فيه الأمر الذي يجعل الضرر الأخروي نتيجة للآية، لا تحليلا للمسألة وتقريبا للصورة، وربما يستفاد ذلك من مقابلة في قوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، فإن النفع ـ في مفهومه ـ يقابل الضرر، فهما يتواردان في الأشياء التي يتطلبها الناس لخصائصها الإيجابية أو يكرهونها لخصائصها السلبية، مما يجعل من ذكر أحدهما في مورد قرينة على إرادة مقابلة في مجال المقارنة بين الخصائص الكامنة في الشيء.

15. ربما كان المراد من المنافع حالة الفرج النفسي الذي يحدث في حالة السكر عندما يدخل الإنسان في غيبوبة ذهنية ضبابية، توحي له بالمرح واللهو والعبث، بحيث يتخفف من قيوده الاجتماعية التي يفرضها عليه عقله، فيبتعد بذلك عن ضغط المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية ونحوها، مما يجعل من الخمر سببا في الهروب من الواقع، بدلا من أن يكون حلا للمشكلة وتركيزا للواقع، أما في القمار، فقد تكون المنافع متمثلة في الأرباح التي يحصل عليها المقامر ـ في بعض الحالات ـ بيسر وسهولة، فلا يتكلف في سبيل الحصول عليها أي جهد أو تعب مما يتكلفه الناس في حركتهم المعاشية في الأسفار البعيدة والأخطار الكثيرة، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من الحالة النفسية المرحة في حركة اللعب الذي يؤدّي إلى الربح.

16. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ فإن الأضرار التي تحدث للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية في جميع مجالاتها، في الخمر والميسر، أكبر من المنافع الحاصلة منهما، لأن الهروب من الواقع، ونسيان المشاكل في لحظات السكر، قد يخدّر الآلام الكامنة في الواقع، من خلال مشاكل الإنسان الخاصة والعامة، ولكنه لا يلغيها، بل قد تعود ـ بعد الإفاقة منه ـ بقسوة أكبر وألم أعمق، تماما كما يحدث للمريض الذي يصرخ من الألم ثم يهدأ بتناول المخدرات، ليعود إلى آلامه بإحساس أكثر قسوة عند انتهاء مفعول التخدير، كما أن النتائج السلبية الصحية والعقلية والاجتماعية الناتجة من السكر تدخله في أكثر من مشكلة تتعب حياته، وتدمرها، وتؤدي بها إلى الهلاك في بعض الحالات، وهكذا نجد القمار، في قضية المنفعة التي يحصل عليها المقامر في الأرباح الطارئة، فإنها لا بد من أن تلتقي في التجربة الثانية والثالثة وغيرها في اللعب بالخسائر المدمّرة التي تجعل الربح ـ الذي حصل عليه ـ لا معنى له أمام خسارته الجديدة التي قد لا يبقى له معها أي شيء.

17. إذا كانت المضار أكبر من المنافع، فمن الطبيعي أن يحرّمهما الله، ولا يمكن له أن يحللهما من خلال لطفه بعباده الذي يقرّبهم إلى ما يصلح أمرهم في الحياة، ويبعدهم عما يفسدها في أوضاعهم العامة والخاصة، لأن التشريع وسيلة من الوسائل لإدخال الإنسان في ما يحبه الله من الخير وابعاده عما يبغضه من الشر، ويتصل بالسلامة العقلية والروحية والجسدية للإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي، فالشريعة هي عناوين المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال الإنسان، فلا يأمر الله إلا بما فيه صلاح الإنسان، ولا ينهى إلا عما فيه فساد حياته.

18. لعل هذه المسألة، وهي تغليب الجانب الأقوى على الجانب الأضعف في مسألة التشريع في التحريم والتحليل، هي الطريقة العقلائية التي يجري عليها العقلاء في قضاياهم السلبية والإيجابية، فإذا كانت المصلحة أقوى من المفسدة في الفعل، كان الموقف إيجابيا لحساب المصلحة، وإذا كانت المفسدة أقوى من المصلحة، كان الموقف سلبيا لحساب المفسدة، ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنهم يقبحون للإنسان اختيار ما كان ضرره أكبر من نفعه، ويذمونه على ذلك، ويعتبرونه سفيها، ولهذا يحجرون على أموال السفيه وعلى تصرفاته العقدية، لأنه لا يدرك الفاصل بين المضار والنفع، ولا يتحرك في اتجاه اختيار النفع على الضرر.

19. في ضوء ذلك، نستفيد من هذه الفقرة، أن الله، سبحانه، أراد بيان التحريم بهذه الطريقة، انطلاقا من الارتكاز العقلائي الذي يتحرك تلقائيا لتقرير النتيجة من خلال هذه القاعدة بتحريم ما يتمثل فيه ذلك في حركة الواقع أو في خصائصه الذاتية.

20. ذكر بعض المفسرين، فيما نقله العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة، فإن قوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ لا يدل على أزيد من أن فيه إثما، والإثم الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها، فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها، فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 90 ـ 94] إلى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 90 ـ 94]، وقد ردّه العلّامة الطباطبائي:

أ. أوّلا: إنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا، وليس الإثم هو الضرر، ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة، لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [المائدة: 29]، وقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ [النور: 11]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [النساء: 111]، إلى غير ذلك من الآيات.

ب. وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلّل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنها تعلّل فعلية الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.

ج. وأمّا ثالثا: فإن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة، لكنها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحا، فما عذر من سمع التحريم في آية مكية، حتى يجتهد في آية مدنية!؟.

21. نوافق العلامة الطباطبائي على تأكيده على دلالة الآية على‏ التحريم، ولكن بطريقة إيحائية بلحاظ الفقرة الأخيرة ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ بالتقريب الذي ذكرناه، ولكننا لا نوافقه على إنكاره إرادة الضرر من كلمة الإثم، باعتبار أن مقابلته بالنفع لا يصلح أن يكون قرينة على ذلك، مع عدم إمكان إرادته من الآيات التي ذكرها، فإننا لا ندعي أن كلمة الإثم مرادفة للضرر ولكنها ـ كما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسير الآية ـ: (حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات)، وبذلك فإن مصداقها يختلف حسب اختلاف موارد استعمالاتها، فقد يراد منها الضرر كما في هذه الآية، وقد يكون المراد منها المعصية أو الذنب الذي يستحق العقوبة ونحو ذلك، فالمعنى واحد، ولكن حركته في الموارد متنوعة، وقد بينا في ما ذكرناه آنفا، الوجه في حمل الكلمة على معنى الضرر، كما أننا لا نوافقه في تقدم آية الأعراف تاريخيا على آية البقرة، بل الظاهر العكس، كما ذكرناه.

22. الآية توحي بالتحريم ولكنها لا تدل عليه بشكل صريح، فهي أسلوب تربوي من أساليب إعداد النفس لتقبل التحريم، بإثارة الأجواء الفكرية الداخلية للانفتاح عليه، كما لو كان أمرا طبيعيا يختاره الإنسان بنفسه.

23. قد نستطيع استيحاء هذه الفقرة، لتكون قاعدة فقهية تقتضي تحريم كل ما كان ضرره أكبر من نفعه، حتى لو لم يرد فيه نص، باعتبار أن القضية قد تكون عقلية يحكم العقل بها، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها، لقبح ارتكاب ما يكون ضرره أكثر من نفعه، لأنه ظلم للنفس على‏ مستوى الحالة الفردية، وقد يكون ظلما للمجتمع بما يحدثه من الأضرار الاجتماعية، كما أنها عقلائية من خلال السيرة العقلائية الجارية في أمورهم العامة على الخاصة على ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه، فإذا كان ما يحكم به العقل يحكم به الشرع، وإذا كانت السيرة العقلائية محترمة لدى الشارع في القضايا العامة التي لا تخضع للتعبد من خلال الخصوصيات الخفية التي لا يدركها الناس، بل تخضع للمصالح والمفاسد المعروفة لديهم، وإذا كانت الآية قد أكدت المسألة بحيث يمكن القول بأنها تؤكد حكم العقل وتمضي سيرة العقلاء وبناءهم، فإن النتيجة لا بد من أن تكون في مستوى القاعدة لا في مستوى الحكم الخاص، وإذا كان البعض يثير احتمال أن الآية واردة على نحو الحكمة لا على نحو العلة، فإننا نرّد عليه بأن الحكمة النوعية تمثل علة للتشريع العام، على أساس تحقيق المصالح الكبرى للإنسان وإبعاد المفاسد النوعية المهمّة عن الواقع، بحيث تنعدم المصالح أو المفاسد الصغيرة أمام ذلك.

24. في ضوء ذلك، نستطيع استيحاء ما ذكر في حكمة تشريع العدة، أنه عدم اختلاط المياه في عملية النكاح من حيث التناسل والتوالد، لأن الزواج بعد الطلاق قد يؤدي إلى الحيرة في إلحاق الولد بالزوج الأول أو الثاني، فإذا كانت هذه الحكمة واردة في التشريع، فيمكن أن تسري إلى كل ما كان من هذا القبيل، وربما نستوحي ذلك في مسألة تعليل حرمة الخمر بالإسكار، فإنها واردة على أساس المسألة النوعية، من جهة الإسكار الفعلي، ولذلك قرر الفقهاء بأن (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، كما قرروا حرمة شرب الخمر في الموارد التي يملك الإنسان فيها المناعة من السكر، لاعتياده عليه بالمستوى الذي لا يؤثر فيه كما في بعض المدمنين ونحو ذلك.

25. على هذا، فيمكن الحكم بتحريم التدخين الذي ثبت علميا بأن ضرره أكثر من نفعه، بل ربما يكون مما لا نفع فيه، وقد يتحدث الأطباء الاختصاصيون بأنه، في المسألة النوعية، يؤدي إلى التهلكة لعلاقته بالسرطان أو ببعض أمراض الرئة ونحوها بالدرجة التي يغلب فيها الموت، ويمكن الحكم بتحريم المخدرات كالأفيون والحشيشة والهيرويين ونحوها مما ثبت علميا وحسيا أنها تدمر حياة الإنسان، لأنها تقود إلى الإدمان الذي يتحول فيه الإنسان في أغلب الحالات إلى إنسان مشلول الفكر والحركة والإنتاج، وقد نجد أن أضراره من الناحية النفسية والعملية والاجتماعية أكبر من أضرار الخمر بكثير، وهكذا نستطيع ـ بفضل هذه القاعدة ـ أن نحكم بتحريم الكثير من الأشياء والأفعال التي تشتمل على هذه الخصوصية التي قررها القرآن في هذه الآية.. إننا نثير هذه الملاحظة الفقهية للمناقشة العملية، لما تمثله من نتائج مهمة في الشريعة.

26. قد نستطيع استيحاء هذا الأسلوب في حركة الدعوة، بأن نثير أمام الناس إيجابيات القضايا بالإضافة إلى سلبياتها، سواء كان ذلك في المسائل التي يطرحها الإسلام في مفاهيمه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو التي يؤمن بها الآخرون مما لا يؤمن به الإسلام في شريعته، فإن التأكيد على الإيجابيات في جانبنا، والسلبيات في جانب الآخرين، يوحي بالتعصب للموقع الذاتي ضد مواقع الآخرين، بينما يمثل التوازن بين الخطين الاعتدال والموضوعية والعدالة في النظرة إلى مواقع الخلاف، الأمر الذي يجتذب الناس‏ إلى الإسلام، انطلاقا من أسلوبه العقلائي الموضوعي القائم على احترام عقل الآخر وموقعه وانتمائه بحيث تكون قضية الصراع قضية تجاذب فكري، وحركة إنسانية في دارسة الأفكار المختلفة ومناقشتها، والتأكيد على أن الحوار الموضوعي هو الأسلوب المنتج في إيصال الناس إلى مواقع الحق في قناعاتنا الفكرية، وهو أسلوب تربوي لا بد من تحريكه في خط المنهج التربوي، الذي يربي الإنسان المسلم على أن لا ينظر إلى الأمور من جانب واحد، لتكون الحياة دائرة بين الأبيض أو الأسود بشكل مطلق؛ فلننظر إليها من كل جوانبها، فهناك الواقع الذي يحمل اللونين معا، اللذين قد يلتقي أحدهما مع الآخر بدرجة متساوية، وقد يغلب أحدهما الآخر فيعطي للفعل أو للشيء صورته الغالبة، الأمر الذي يفرض على الإنسان أن يوازن بين الجوانب، ليكون اختياره منطلقا من دراسة مقارنة، فلا يخضع للحالات الانفعالية السريعة ولا للنظرة الارتجالية العابرة، بل يخضع للعمق الفكري الذي ينفذ إلى جوهر الشيء ولا يقتصر على سطحه، فيكون اختياره خاضعا للنتيجة الحاسمة في هذه الموازنة بين الأمور.

27. هذه الآية توحي بفكرة عامة وهي أنه ليس هناك إيجاب مطلق أو سلب مطلق في الحياة، لأن كل ما في الكون من موجودات وأفعال هو محدود بحدوده الذاتية والزمانية والمكانية، والله ـ وحده ـ هو المطلق، لذلك ليس هناك خير لا شر فيه، ولا شر لا خير فيه، فقد يختزن الخير بعض الشر في ذاته، وقد يختزن الشر بعض الخير في مورده، لأن طبيعة الحدود تفرض ذلك، فتكون خيرية الشيء برجحان جانب الخير فيه كما تكون غلبة الشر برجحان جانب الشر فيه، ولا قيمة للعنصر المغلوب أو الضعيف هنا في مسألة التشريع.

28. إن هذه النقطة لا بد من التركيز عليها في ما يواجهه المسلمون من النقد الذي قد يوجهه الكافرون من إثارة النقاط السلبية في بعض المفاهيم أو التشريعات الإسلامية، مما قد يجعل الدعاة والمبلغين في موقف حرج شديد الصعوبة، عندما يجدون صحة هذا النقد في واقع الإسلام في مفاهيمه وأحكامه، ولكننا ـ أمام الملاحظة المذكورة ـ نجد أن اعترافنا بوجود السلبيات في التشريع أو في المفهوم الإسلامي، لا يعني سقوط التشريع أو خطأ المفهوم، لأن ذلك يمثل واقع الحياة في كل حقائقها الفكرية أو العملية، ولذلك فإن علينا مواجهة المسألة بالحديث عن الإيجابيات الكامنة في داخل الحقيقة الإسلامية، مع غلبة هذا الجانب الإيجابي على الجانب السلبي، وبهذا نتفادى الكثير من المآزق الجدلية ومن ضعف الموقف، لنحوّله إلى مأزق للآخرين وإلى موقع قوة يرتكز على النظرة العلمية الموضوعية للأشياء والمواقف.

29. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾: جاء في الدر المنثور في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ عن ابن عباس: (أن نفرا من الصحابة، حين أمروا بالنفقة في سبيل الله، أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله‏ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به)، وسألوه عما ينفقون من أنواع الأطعمة والألبسة والأموال، فلم يحدد لهم شيئا في الجواب، لأن تعيين ذلك لا يمثل شيئا في حساب القيمة الأخروية عند الله، ما دامت القضية ترتكز على حل مشكلة الفقير من خلال التكافل الاجتماعي من جهة، وعلى تربية المؤمن على روح العطاء من جهة أخرى، ولذلك اكتفى بكلمة ﴿الْعَفْوَ﴾ التي تعني الفضل.

30. ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾، اختلف المفسرون في تطبيق هذه الكلمة على الواقع العملي، فقال بعضهم: إنه ما فضل عن الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى، وقال بعضهم: إنه الوسط من غير إسراف ولا إقتار، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، وقال بعضهم: إنه ما فضل عن قوت السنة، وهو المروي عن الإمام محمد الباقر صلّى الله عليه وآله وسلم وقد تلتقي هذه المعاني حول معنى واحد، وهو أن لا يترك تأثيره على حاجاته الأساسية مما يتصل بمسؤولياته عن نفسه وعياله على النحو المتعارف.

31. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ الدالة على حقائق الأشياء مما يتعلق بالتشريع في مسئولياتكم العامة والخاصة، فتتعرفون حكمة الله في تشريعاته في أقوالكم وأفعالكم، ليظهر لكم كيف يريد صلاحكم، كما يبين لكم الآيات المنتشرة في الكون في كل مخلوقاته الجامدة والنامية والحية التي تكشف لكم عن عظمة الإبداع وسر الخلقة.

32. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ وتهتدون بالفكر المتحرك الباحث عن كل حقيقة في الأرض وفي السماء وفي الحياة والإنسان، فتحصلون على الثقافة العلمية التي تنمّي مدارككم وفهمكم وانفتاحكم على حقائق العقيدة والإيمان، ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ ليتعرفوا كيف هي الدنيا في نطاق مسئولياتكم من حيث هي دار ممر لا دار مقر، وساحة عمل لا ساحة لهو وعبث، ومزرعة للآخرة لا غاية في ذاتها، لتتحركوا فيها في ما تفعلون وتتركون في هذا الاتجاه لتحقيق تلك الغاية، ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ التي هي دار الحيوان والخلود، فسعادتها هي السعادة وشقاؤها هو الشقاء، فلا بد لكم من الاستعداد لها لتواجهوا نتائج المسؤولية بين يدي الله، وهذا هو الإيحاء الإيماني الدائم، الذي يوحي به الله للإنسان، ليكون على وعي دائم لنفسه ولحركته في الحياة في الدنيا والآخرة، بعيدا عن أية حالة غفلة أو نسيان.

33. هناك نقطة ثانية، لا بد من الانتباه إليها، وهي أن الدعوة إلى التفكير التي تشمل العمل على أساس الوصول إلى معرفة حكمة التشريع وعلل الأحكام، توحي بأن الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن السعي للتعرف على المفاهيم الإسلامية والعقائد الإيمانية والأحكام الشرعية، وذلك كي يصل إلى حقائقها وأسرارها بالفكر العميق، ليزداد بذلك إيمانا وهدى، فلا يكلف الإنسان الإنفاق من ضرورياته المعاشية، بل يكفيه ـ في إطاعة هذا التشريع ـ أن ينفق مما يزيد عن حاجاته الأساسية، وبذلك كان الإسلام منسجما مع الطبيعة البشرية التي قد لا تستجيب للإيثار دائما، وإن كانت قد تسير معه في بعض مراحل الحياة، وقد كان ختام الآية دعوة للتفكير في آيات الله التي يبينها للإنسان، ليفكر فيها فيهتدي بها إلى سواء السبيل.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/211

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الكريمة تجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، (الخمر) في اللّغة بقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يخفي شيئا وراءه هو (خمار) بالرّغم من أنّ الخمار يستعمل في الاصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة، وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة (الخمر) هو الدلالة على التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر، لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح، أمّا في الاصطلاح الشرعي فيأتي (الخمر) بمعنى كلّ مايع مسكر، سواء أخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر، بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة، و(الميسر) من مادّة (اليسر) وإنّما سمّي بذلك لأنّ المقامر يستهدف الحصول على ثروة بيسر ودون عناء.

2. ثمّ تقول الآية في الجواب‏ ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، ومع الالتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقا في الخمر والقمار، ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل، كما نرى من اللّين والمداراة والأسلوب الهادئ في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه.

3. في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع، ولا شكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحيانا يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار، أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان، الّا أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّا بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والاجتماعيّة والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين، وبناء على ذلك، فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيرا من أجل نفع ضئيل.

4. (الإثم) كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البطء والتأخّر، وبما أنّ الذنوب تؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات، ولذلك أطلقت هذه الكلمة عليها، بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل‏ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى، وعلى كلّ حال، فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يؤثّر تأثيرا سلبيّا في روح وعقل الإنسان ويعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات، فعلى هذا يكون وجود (الإثم الكبير) في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوي والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها.

5. السؤال الثالث المذكور في الآية هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، ورد في تفسير (الدّر المنثور) في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا ينفقون؟ أينفقون كلّ أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية (العفو)، ولكن ما المراد من (العفو) في الآية؟ (العفو) في الأصل ـ كما يقول الرّاغب في المفردات ـ بمعنى القصد إلى أخذ شيء، أو بمعنى الشيء الّذي يؤخذ بسهولة، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّا ويطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر الحد الوسط بين شيئين، المقدار الإضافي لشيء، وأفضل جزء من الثروة، فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال.

6. هذا المعنى وارد أيضا في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال العفو الوسط (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط)، وورد في تفسير علي بن إبراهيم‏ (لا إقتار ولا إسراف)، وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السّلام‏ (العفو ما فضل عن قوت السّنة)

7. يحتمل أيضا أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق، ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، وخاصّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الكامل لهذا المعنى، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعا أهم، ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.

8. أخيرا يقول تعالى في ختام الآية: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾، ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكّر ويقول‏ ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أجل، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان الماديّة والمعنوية في الحياة مشفوعة بالفكر والتدبّر، ويتّضح من هذه العبارة أمران:

أ. الأوّل: إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يطيع هذه الأوامر عن تفكّر وتعقّل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة أخرى على الإنسان المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر والقمار، بل في جميع المجالات ولو إجمالا، ولا يعني هذا الكلام أنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة مشروطة بإدراك فلسفتها وحكمتها، بل المراد أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطّاعة العمليّة أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهيّة.

ب. الثاني: إنّ على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادّة وحده أو عالم‏ المعنى وحده، بل عليه أن يفكّر في الإثنين معا، لأنّ الدنيا والآخرة مرتبطتان وكلّ خلل في أحدهما يخلّ بالآخر، وأساسا لا يمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم صورة صحيحة عن الواقعيّات في هذا العالم، لأنّ كلّا منهما هو قسم من هذا العالم، فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم، فمن حصر فكره في أحدهما فإنّه لا يمتلك تفكيرا سليما عن العالم.

9. رأينا أنّ الآيتين ذكرتا أربعة مسائل عن الخمر والقمار والإنفاق والأيتام مع أجوبتها، ويمكن أن يكون ذكر هذه الأسئلة والأجوبة الأربعة مع بعضها لأنّ الناس كانوا مبتلين بهذه المسائل واقعا، ولذلك كانوا يسألون الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الأسئلة تباعا (مع الالتفات إلى أنّ يسألونك فعل مضارع ويدلّ على الاستمرار)، ويحتمل أنّ هذه المسائل ترتبط مع بعضها باشتراكها في الأمور الماليّة فالخمر والقمار هما سبب لتلف الأموال والإنفاق على العكس من ذلك سبب لنماء الأموال، وأمّا مسئوليّة اليتامى فيمكن أن تكون مفيدة أو مخرّبة، والآخر أنّ: الإنفاق له جنبة عموميّة شاملة وجنبة اخرويّة، والخمر والقمار لهما طابع شخصي ومادّي مخرّب وإصلاح أمر اليتامى له جنبتين عموميّة وخصوصيّة، وبهذا الترتيب يكون مصداق للتفكّر في الدنيا والآخرة، ومن هنا يتّضح الارتباط الوثيق بين الخمر والقمار، لأنّ كلّا منهما يؤدّي إلى تلف الأموال وفساد المجتمع وانتشار الأمراض البدنيّة والروحيّة.

10. أضرار المشروبات الكحولية:

أ. أثر الكحول في العمر ذكر أحد علماء الغرب المشهورين أنه لو كان عدد الوفيات بين الشباب المدمنين البالغة أعمارهم بين 21 إلى 23 سنة يصل إلى 51 شابّا، فإنّ عدد الوفيات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ 10 أشخاص، وقال عالم مشهور آخر: الشباب في سنّ العشرين الذين يتوقّع أن تطول‏ أعمارهم إلى خمسين عاما، لا يعمّرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة وثلاثين عاما.. التجارب التي أجرتها شركات التأمين على الحياة أثبتت أنّ أعمار المدمنين على الكحول أقلّ من أعمار غيرهم بنسبة 25 ـ 30 بالمائة، وتذكر إحصائيات أخرى أنّ معدّل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي 35 ـ 50 سنة، بينما معدّل العمر الاعتيادي مع رعاية القواعد الصحية يبلغ ستين عاما فصاعدا.

ب. أثر الكحول على النسل 35 بالمائة من عوارض الإدمان الحادّة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه ـ حين انعقاد النطفة ـ سكرانا، وإن كان الوالدان سكرانين فتر تفع نسبة هذه العوارض إلى مائة في المائة، وهذه إحصائيات تبيّن آثار الإدمان على الجنين: الأطفال الذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطبيعي: من أبوين مدمنين 45 بالمائة، ومن أمّ مدمنة 31 بالمائة، ومن أب مدمن 17 بالمائة.. الأطفال الذين ولدوا وهم لا يحملون مقوّمات استمرار الحياة: من أب مدمن 6 بالمائة، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.. الأطفال الذين لا يتمتّعون بطول طبيعي: من والدين مدمنين 75 بالمائة، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.. وأخيرا الأطفال الذين يفتقدون القوّة العقلية والروحية الكافية: من أمّهات مدمنات 75 بالمائة، ومن آباء مدمنين 75 بالمائة أيضا.

ج. أثر الكحول في الأخلاق العاطفة العائلية في الشخص المدمن تضعف، ويقلّ انشداده بزوجته وأبنائه، حتّى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.

د. أضرار الكحول الاجتماعية حسب الاحصائيّة التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة (نيون) عام 1961، كانت الجرائم الاجتماعية للمدمنين على النحو التالي: القتلة: 50 بالمائة، المعتدون بالضرب والجرح بين المدمنين: 8، 77 بالمائة، السرقات بين المدمنين: 5، 88 بالمائة، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين: 8، 88 بالمائة، هذه الإحصائيات تشير إلى أنّ الأكثرية الساحقة من الجرائم ترتكب في حالة السكر.

هـ. الأضرار الاقتصادية للمشروبات الكحوليّة أحد علماء النفس المشهورين يقول: من المؤسف أنّ الحكومات تحسب ما تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات، فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من المشروبات الكحولية، مثل زيادة الأمراض الروحية، وإهدار الوقت والاصطدامات الناتجة عن السكر، وفساد الجيل، وانتشار روح التقاعس والتحلّل، والتخلّف الثقافي، والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء المخمورين، وما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائيّة وسجون، وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة عن تعاطي الخمور، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت أنّ الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر، هذا إضافة إلى أنّ الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار، لأنّ موت الأعزّاء وتشتّت العوائل وتبدّد الآمال وفقدان الأدمغة المفكّرة لا يمكن حسابه بالمال.

11. أضرار المشروبات الكحولية فظيعة للغاية، حتّى أنّ أحد العلماء قال لو أنّ‏ الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات ودور المجانين.

12. ممّا تقدّم يتّضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر، فلو كان في الخمرة فائدة تجارية، ولو كان السكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السكر فائدة له، فإنّ الأضرار التي تترتب عليها أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدى من فوائدها، حتّى لا يمكن المقارنة بين الاثنين.

13. آثار القمار المشؤومة أضرار القمار لا تخفى على أحد، ولمزيد من التوضيح نذكر باختصار جانبا من المآسي المترتّبة على هذه الظاهرة الخطرة:

أ. القمار أكبر عوامل الهياج والانفعال يجمع علماء النفس على أنّ الهياج هو النفسي هو العامل الأساسي في كثير من الأمراض، مثل: نقص الفيتامينات، وقرحة المعدة، والجنون، والأمراض العصبية والنفسية الخفيفة والحادّة، والقمار أكبر عامل على إثارة الهياج، حتّى أنّ عالما أمريكيا يقول: في أمريكا يموت ألفا شخص سنويا نتيجة هياج القمار، وقلب لاعب البوكر (نوع من القمار) تزيد عدد ضرباته على مائة ضربة في الدقيقة، وقد يؤدّي القمار إلى سكتة قلبيّة ودماغيّة أيضا، ومن المؤكّد أنّه يدفع إلى شيخوخة مبكّرة، إضافة إلى ما سبق فإنّ المقامر ـ كما يقول العلماء ـ يصاب بتوتّر روحي، بل أنّ جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائيّة، كأن يزداد ضربان القلب وتزداد نسبة السكّر في الدم، ويختلّ ترشّح الغدد الداخلية، ويشحب لون الوجه، وتقلّ الشهية، ويمرّ المقامر بعد اللعب بفترة حرب أعصاب وحالة أزمة نفسية، وقد يلجأ إلى الخمور والمخدّرات لتهدئة أعصابه، فيزيد في الطين بلّة وتتضاعف بذلك أضرار القمار.. ويقول عالم آخر: المقامر إنسان مريض يحتاج إلى إشراف مريض يحتاج إلى إشراف نفسي مستمر، ويجب تفهيمه بأنّ الفراغ الروحي هو الذي يدفعه لهذا العمل الشنيع، كي يتّجه لمعالجة نفسه.

ب. علاقة القمار بالجرائم إحدى مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت: أنّ 30 بالمائة من الجرائم ناتجة مباشرة عن القمار، و70 بالمائة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن القمار أيضا.

ج. الأضرار الاقتصادية للقمار الملايين بل المليارات من ثروات الأفراد تبدّد سنويات على هذا الطريق، إضافة إلى المقدار الهائل من الوقت ومن الطاقات الإنسانية، وجاء في أحد التقارير: في مدينة (مونت مونتيكارلو) حيث توجد أكبر دور القمار في العالم، خسر شخص خلال مدّة 19 ساعة من اللعب المستمر أربعة ملايين دولار، وحين أغلقت دار القمار اتّجه مباشرة إلى الغابة، وانتحر بإطلاق رصاصة على رأسه، ويضيف التقرير: أنّ غابات (مونتيكارلو) تشهد باستمرار انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.

د. الأضرار الاجتماعية للقمار القمار يصدّ أصحابه عن التفكير بالعمل الجادّ الإنتاجي المثمر في الحقل الاقتصادي، ويشدّهم دائما إلى أمل الحصول على ثروة طائلة بدون عناء عن طريق القمار، وهذا يؤدّي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين وبالتالي إلى ضعف الإنتاج على قدر نسبتهم.. المقامرون وعوائلهم يعيشون عادة حياة طفيلية في الجانب الاقتصادي ولا ينتجون، بل يجنون ثمار الآخرين، وقد يضطرّون في حالات الإفلاس إلى السرقة.. أضرار القمار فادحة إلى درجة دفعت حتّى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى إعلان منعه، كما حدث في بريطانيا عام 1853، وأمريكا عام 1855، والاتحاد السوفيتي عام 1854، والمانيا عام 1873، ولا بأس أن نشير في الخاتمة إلى إحصائية أجراها بعض المحقّقين تذكر أنّ القمار وراء 90 بالمائة من السرقات، و10 بالمائة من المفاسد الخلقية، و40 بالمائة من الاعتداءات بالضرب والجرح، و15 بالمائة من الجرائم الجنسية، و30 بالمائة من الطلاق، و5 بالمائة من عمليات الانتحار.

14. لو أردنا أن نعرّف القمار تعريفا شاملا علينا أن نقول: إنّه إهدار للمال والشرف، للحصول على أموال الآخرين بالخدعة والتزوير، وللترويج عن النفس أحيانا، ثمّ عدم الحصول على كلا الهدفين.

15. استعرضنا الأضرار الفادحة المترتّبة على (الخمر والميسر)، وتلزم الإشارة إلى مسألة أخرى في هذا المجال وهي سبب إشارة الآية الكريمة إلى منافع الخمر والميسر، عندما تعرّضت إلى ذمّهما، بينما نعلم أن منافعهما تافهة بالنسبة إلى أضرارهما، قد يكون السبب هو أنّ سوق الخمرة والقمار كانت رائجة في الجاهلية مثل عصرنا هذا، ولو لم تشر الآية إلى مسألة المنافع لظنّ ذووا الأفق الفكري الضيّق أنّ القرآن تناول المسألة من جانب واحد، أضف إلى ما سبق أن أفكار الإنسان تدور عادة حول محور المنفعة والضرر، وتجب الاستفادة من هذا المنطق لإنقاذ الفرد من المفاسد الأخلاقية الكبرى.

16. الآية تجيب ضمنيا على بعض أقوال الأطباء بشأن إمكان الاستفادة من المشروبات الكحولية لمعالجة قسم من الأمراض، وتؤكّد أنّ الأضرار المترتّبة عليها أكبر بكثير من نفعها، أي إذا كان لها أثر إيجابي على الشفاء من مرض معيّن، فإنّها منشأ لأمراض خطرة أخرى، وقد تكون هذه الحقيقة هي التي تشير إليها الروايات القائلة: إن الله لم يجعل الشفاء في الخمر.

17. الاعتدال في مسألة الإنفاق بالرغم من أنّ الإنفاق من أهم المسائل أكّد عليها الإسلام والقرآن الكريم إلّا أنّه لم يتركها بدون حساب لتؤدّي إلى الإفراط الشديد بحيث تشلّ حياة الإنسان، فالآية محل البحث ناظرة إلى هذا المعنى كما ذهب إليه بعض المفسّرون، ويمكن أن تكون إشارة إلى أنّ بعض الأشخاص يتذرّعون باحتياجاتهم الشخصيّة للتخلّص من هذا الحكم الإسلامي المهم، فالقرآن الكريم يقول: أنّكم تتمتّعون في الحياة بالكثير من الأمور الزّائدة عن الحاجة فعليكم بانتخاب مقدار منها وإنفاقه.

18. التفكّر في كلّ شيء جملة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ عبارة عن درس مهم للمسلمين في أنّهم لا يخوضون في جميع أمورهم الماديّة والمعنويّة بدون تفكّر وتدبّر حتّى تبين الآيات الإلهيّة إلى النّاس لبعث روح التفكّر والتدبّر فيهم، فما أسوأ حال الأشخاص الّذين لا يتفكّرون في أمورهم وأعمالهم الدينيّة ولا في أعمالهم الدنيويّة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/112

97. اليتامى والإصلاح والمخالطة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈97⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 220]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلت سورة النساء عزل الناس طعامهم، فلم يخالطوهم، ثم جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنا يشق علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا، فنزلت: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ (1).

2. روي أنّه قال: لما نزل في اليتامى ما نزل اجتنبهم الناس، فلم يؤاكلوهم، ولم يشاربوهم، ولم يخالطوهم؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الآية، فخالطهم الناس في الطعام، وفيما سوى ذلك(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٢

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ إلى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وإن الناس كانوا إذا كان في حجر أحدهم اليتيم جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية؛ مخافة الوزر، وإنه أصاب المؤمنين الجهد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدما لليتامى؛ فقال الله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُم﴾ إلى آخر الآية(1).

2. روي أنّه قال: لما أنزل الله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤]، و: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: ١٠] الآيتين؛ انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيجلس له حتى يأكله، أو يفسد فيرمى به، فاشتد عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾، فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم(2).

3. روي أنّه قال: إن الله لما أنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠]؛ كره المسلمون أن يضموا اليتامى، وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فأنزل الله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ (3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ المخالطة: أن تشرب من لبنه ويشرب من لبنك، وتأكل من قصعته ويأكل من قصعتك، وتأكل من ثمرته ويأكل من ثمرتك(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم، ومن يتحرج منه ولا يألو عن إصلاحه(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لو شاء ما أحل لكم ما أصبتم مما لا تتعمدون(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا(6).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٣ ـ: ٧٠٤

(2) أبو داوود: ٤/٤٩٣

(3) القاسم بن سلام في ناسخه: ١/٢٣٨

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٥

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٦

(6) ابن جرير: ٣/٧٠٩

ابن عمرو:

روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) أنّه قال: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه يقول: لأقومنّ اللّيل ولأصومنّ النّهار ما عشت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنت الّذي تقول ذلك؟)، فقلت له: قد قلته يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (فإنّك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشّهر ثلاثة أيّام، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدّهر) قلت: فإنّي أطيق أفضل من ذلك، قال (صم يوما وأفطر يومين) قلت: فإنّي أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال (صم يوما وأفطر يوما، وذلك صيام داوود عليه السّلام: وهو أعدل الصّيام) قال قلت فإنّي أطيق أفضل من ذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا أفضل من ذلك قال عبد الله بن عمرو: لأن أكون قبلت الثّلاثة الأيام الّتي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحبّ إلى من أهلي ومالي)(1).

__________

(1) البخاري: 1976

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: كان أهل البيت يكون عندهم الأيتام في حجورهم، فيكون لليتيم الصرمة من الغنم، ويكون الخادم لأهل البيت، فيبعثون خادمهم فيرعى غنم الأيتام، أو يكون لأهل اليتيم الصرمة من الغنم، ويكون الخادم للأيتام، فيبعثون خادم الأيتام فيرعى غنمهم، فإذا كان الرسل وضعوا أيديهم جميعا، أو يكون الطعام للأيتام، ويكون الخادم لأهل البيت، فيأمرون خادمهم فيصنع الطعام، ويكون الطعام لأهل البيت، ويكون الخادم للأيتام، فيأمرون خادم الأيتام أن يصنع الطعام، فيضعون أيديهم جميعا، فلما نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠]؛ قالوا: هذه موجبة، فاعتزلوهم، وفرقوا ما كان من خلطتهم، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إن الغنم قد بقيت ليس لها راع، والطعام ليس له من يصنعه، فقال: (قد سمع الله قولكم، فإن شاء أجابكم)، فنزلت هذه الآية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، ونزلت أيضا: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ [النساء: ٣]، فقصروا على أربع، فقال: كما خشيتم ألا تقسطوا في اليتامى، وتحرجتم من مخالطتهم، حتى سألتم عنها؛ فهلا سألتم عن العدل في جمع النساء(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ يعني بالمخالطة: ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشرب اللبن(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لو لم يبين لكم لأثمتم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٤

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٧

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ فمن خالط يتيما فليتوسع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعل(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ اجتنب الناس الأيتام، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه، فاشتد ذلك على الناس؛ فنزلت: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، فمن خالط يتيما فليتوسع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٨

(2) ابن جرير: ٣/٧٠١

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: عزلوا طعامهم عن طعامهم، وألبانهم عن ألبانهم، وأدمهم عن أدمهم، فشق ذلك عليهم؛ فنزلت: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ (1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ مخالطة اليتيم في المراعي، والأدم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، يعني: أن الله لا يخفى عليه الذين يريدون منكم الإصلاح لهم، والإفساد عليهم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾: لحرم عليكم المرعى، والأدم(4).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٢

(2) ابن جرير: ٣/٧٠٣

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٦

(4) ابن جرير: ٣/٧٠٨

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ هذا إذا كان طعامك أفضل من طعامه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٥

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أخي هلك، وترك أيتاما ولهم ماشية، فما يحل لي منها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن كنت تليط حوضها، وترد نادتها، وتقوم على رعيتها، فاشرب من ألبانها غير مجتهد للحلب، ولا ضار بالولد ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾، فقال: تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، وخرج من مالك قدر ما يكفيك، قيل: أرأيت أيتاما صغارا وكبارا، وبعضهم أعلى في الكسوة من بعض؟ فقال: أما الكسوة فعلى كل إنسان من كسوته، وأما الطعام فاجعله جميعا، فأما الصغير فإنه أوشك أن يأكل كما يأكل الكبير(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/107

(2) تفسير العياشي: 1/107

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ معناه لأهلككم.. ويقال: لشدّد عليكم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 99

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ فترى أن خيرا لهم أن يصلح مالهم معزولا على حدته، ولا يلبس بغيره، ومن كان يرى أن خلط أموالهم بماله أزيد لهم، وصلح للقيام على أموالهم، فيرى أن يفعل ذلك بهم إن كان خيرا لهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٥

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾: يصلح له ماله، وأمره له خير، وإن يخالطه فيأكل معه، ويطعمه، ويركب راحلته، ويحمله، ويستخدم خادمه، ويخدمه، فهو أجود، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ (1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لشدد عليكم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٣

(2) ابن جرير: ٣/٧٠٩

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُم﴾، فذكر لنا: أنه أنزل في بني إسرائيل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الإسراء: ٣٤]، فكبرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك، فاشتد ذلك عليهم؛ فأنزل الله الرخصة، فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾ (1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٠

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سألني عيسى بن موسى عن القيّم للأيتام في الإبل وما يحل له منها؟ فقلت: إذا لاط حوضها، وطلب ضالتها، وهنأ جرابها، فله أن يصيب من لبنها في غير نهك لضرع، ولا فساد لنسل(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: (ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف، إذا كان يصلح لهم أموالهم فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا)، قيل: أرأيت قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾؟ قال: تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك، ثم تنفقه)، قلت: أرأيت إن كانوا يتامى صغارا وكبارا، وبعضهم أعلى كسوة من بعض، وبعضهم آكل من بعض، ومالهم جميعا؟ فقال: أما الكسوة، فعلى كل إنسان منهم ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فإن الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير(1).

3. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾، فقال: (يعني اليتامى، إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر ما يحتاج إليه، على قدر ما يخرجه لكل إنسان منهم، فيخالطوهم، ويأكلون جميعا، ولا يرزأن من أموالهم شيئا، إنما هي النار(2).

4. روي أنّه سئل: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا من الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا ـ وقال ـ: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ وأنتم لا يخفى عليكم، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾(3).

5. روي أنّه قال: أنه لما نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ خرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في إخراجهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220](4).

6. روي أنّه قال: (لا بأس بأن تخلط طعامك بطعام اليتيم، فإن الصغير يوشك أن يأكل كما يأكل الكبير، وأما الكسوة وغيرها فيحسب على كل رأس صغير وكبير كما يحتاج إليه(4).

7. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُم﴾، فقال: يعني اليتامى، يقول: إذا كان الرجل يلي يتامى وهو في حجره، فليخرج من ماله على قدر ما يخرج لكل إنسان منهم، فيخالطهم، فيأكلون جميعا، ولا يرزأن من أموالهم شيئا، فإنما هو نار(5).

روي عن الكاهلي، قال: كنت عند الإمام الصادق، فسأله رجل ضرير البصر، فقال: إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام معهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى، أصلحك الله؟ فقال: قد قال الله: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ فأنتم لا يخفى عليكم، وقد قال الله: ﴿وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ إلى لَأَعْنَتَكُمْ﴾، ثم قال: إن يكن دخولكم عليهم فيه منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر فلا(6).

8. روي أنّه سئل عن رجل بيده الماشية لابن أخ له يتيم في حجره، أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال: فإن كان يليط حوضها، ويقوم على هنائها، ويرد نادتها، فليشرب من ألبانها غير مجتهد للحلاب، ولا مضر بالولد)، ثم قال ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ (7).

9. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾،؟ قال: تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك، ثم تنفقه(7).

10. روي أنّه سئل عن قول الله في اليتامى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم﴾، قال: يكون لهم التمر واللبن، ويكون لك مثله، على قدر ما يكفيك ويكفيهم، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح(7).

__________

(1) الكافي: 5/130

(2) التهذيب: 6/340

(3) التهذيب: 6/339

(4) تفسير القمي: 1/72

(5) تفسير العياشي: 1/107

(6) تفسير العيّاشي: 1/107

(7) تفسير العيّاشي: 1/108

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ الله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم﴾ لشق عليكم في الأمر، ذلك العنت(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٠٧

(2) ابن جرير: ٣/٧٠٩

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل: يكون لليتيم عندي الشيء وهو في حجري أنفق عليه منه، وربما أصبت مما يكون له من الطعام، وما يكون مني إليه أكثر؟ فقال: لا بأس بذلك، إن الله يعلم المفسد من المصلح(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/108

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ كأن في السؤال إضمارا؛ لأنه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ ولم يبين في أي حكم، وإضماره أن يقال: يسألونك عن مخالطة اليتامى، يبين ذلك قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أن السؤال كان عن المخالطة، وكذلك قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219]، ولم يبين في أي حكم، فكأنه قال يسألونك عن شرب الخمر والعمل بالقمار والميسر، ثم قال ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ دل قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أن السؤال كان عن شرب الخمر والعمل بالميسر، وهذا جائز في اللغة، وفى القرآن كثير أن يكون في الجواب بيان السؤال أنه عما كان وإن لم يذكر في السؤال؛ كقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]، دل ما ذكر من الفتيا أن الاستفتاء كان عن الميراث، وكذلك قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 127]

2. دل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أن السؤال كان عن نساء اليتامى، وهذا جائز، وربما يخرج الجواب على إثر نوازل، فيعرف مراده بالنوازل دون ذكر السؤال.

3. السؤال يحتمل وجهين (2): يحتمل: أن يكون عن مخالطة الأموال والأنفس جميعا بقوله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فإنما حملهم على سؤال المخالطة، ما قيل: لما نزل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10]، وقوله: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ [النساء: 6]، أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا لهم بيتا، وعزلوا طعامهم وخدمهم وثيابهم، فشق ذلك عليهم جميعا، فسألوا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه‏ الآية: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الآية.

4. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز المناهدات والمؤاكلات في الأسفار وغيرها حيث أباح لهم المخالطة بأموال اليتامى، فإذا احتمل ذلك مال الصغار من اليتامى فاحتماله في مال الكبير أشد؛ إذ مال الكبير يحتمل الإباحة والإذن، ومال الصغير لا.

ب. جواز القليل من المعروف واليسير منه في ملك الصغير، واحتماله ذلك؛ لأنه ـ جل وعزّ ـ أباح لهم المخالطة مع اليتامى على العلم في الاستيفاء مبلغ الكبير بل يقصر عنه.

ج. أن علة الربا ليس هو الأكل، على ما قاله بعض الناس، ولكن هو الكيل والوزن؛ لأنه أباح لهم المخالطة في المأكول من الطعام والمشروب من الشراب، على غير كيل ولا وزن، على العلم بقصور الصغير عن الاستيفاء قدر الكبير وبلوغه مبلغه، فلو كان علته الأكل لكان لا يبيح لهم أكل الربا؛ فدل أن علته ليس الأكل، ولكن هي الفضل عن الكيل أو الوزن في الجنس.

د. جواز بيع الثمرة بالثمرتين لخروجه عن الكيل، وهكذا كل شيء خرج عن الكيل والوزن، لترك للناس مكايلته وموازنته، وإن كان كيليّا يجوز بيع واحد باثنين.

هـ. أن لا بأس بأن يؤدب الرجل اليتيم بما هو صلاح له، وذلك كما يؤدب ولده وأن يعلمه بما فيه الاعتياد لمحاسن الأخلاق والتوسيع، كما أمر بالصلاة إذا بلغ سبعا، والضرب عليها إذا بلغ عشرا اعتيادا، ألا ترى أنه روى في الخبر: (شر الناس الذي يأكل وحده ويشرب وحده)، وفى المخالطة التخلق بالأخلاق الحسنة، وفى تركها التخلق بالأخلاق السيئة، والاعتياد بعادة السوء.

و. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ دليل إضمار، وهو طلب الصلاح لهم: إما بالتولي لهم في أموالهم والنظر لهم بما يعقب نفعا لهم، وطلب التخلق بالأخلاق الحسنة والاعتياد بالعادة المحمودة؛ فذلك (إصلاح) خير، بطلبكم الصلاح لهم، أو خير لهم بما يعود نفع ذلك إليهم، وإلا فظاهر الصلاح حسن لكل أحد، فلا وجه لتخصيصهم به؛ فدل أنه على طلب النفع والنظر لهم، والله أعلم.

ز. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فيه دليل الترغيب؛ كقوله: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ [الأحزاب: 5]، رغبهم عزّ وجل بما أخبر أنهم‏ ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ بطلب الصلاح والنظر والنفع لهم، إذ يستوجب بعضهم قبل بعض المعونة لهم والحفظ والصلاح، كقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ دل قوله: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ على أن الصغير قد يعق والديه في أمر الدين، ويجوز منهم التدين إذا عقلوه وإن لم يكونوا بلغوا.

5. ثم أوعدهم عزّ وجل بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، أي يعلم طالب النفع والنظر لهم من طالب الفساد والإسراف في أموالهم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾:

أ. قيل‏: يضيق عليكم، ولم يأذن لكم بالمخالطة معهم.

ب. وقيل: لأعنتكم، فلم يرض لكم في الخلطة.

ج. وقيل: لأحرجكم، وهو واحد.

7. أصل العنت: الإثم، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128]، يعنى: أثمتم، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فيه وعيد لهم على ما ذكرنا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/121

(2) ذكر هذا لكنه ذكر احتمالا واحدا

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ قيل لما نزل قوله في بني إسرائيل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام:152]، ونزلت في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عليه من الأيتام وكانوا يعزلون طعامهم عن طعامهم وشرابهم عن شرابهم فشق ذلك عليهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ يعني في الطعام والشراب والمساكنة وركوب الدابة واستخدام الخادم.

2. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أي حين تخالطونهم أتريدون أن توفروا عليهم أو تنقصوا عنهم ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي شدد عليكم ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات، حكيم فيما يصنع من تدبيره وتركه الإعنات.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/108

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ قال المفسرون: لمّا نزلت سورة بني إسرائيل، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وفي سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام، وكانوا يعزلون طعامهم عن طعامهم، وشرابهم عن شرابهم، حتى ربما فسد طعامهم، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، يعني في الطعام، والشراب، والمساكنة، وركوب الدابة، واستخدام العبد قال الشعبي: فمن خالط يتيما، فليوسع عليه، ومن خالط بأكل فلا يفعل.

2. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ قال ابن زيد: الله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق.

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: لشدّد عليكم، وهو قول السدي.

ب. الثاني: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا، وهو قول ابن عباس.

4. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات، حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/280

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، هو جمع يتيم، والفعل منه يتم ييتم يتماً، كقولك: نكر نكراً، وحكى الفراء: يتم ييتم يتماً، كشغل شغلا.

2. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ فالمخالطة: مجامعة يتعذر معها التمييز، كمخالطة الخل للماء، والماء للماء وما أشبه ذلك، تقول: خلط يخلط خلطاً، وخالطه خلاطاً ومخالطة، واختلاطا، وتخالطوا تخالطاً، وخلطه تخليطاً، وتخلّط تخلطاً، وأخلط الفرس: إذا قصّر في جريه، واستخلط الفحل: إذا خالط ثيله حياء الناقة، والخلاط: الجنون، لاختلاط الامور على صاحبه، والخليطان: الشريكان، لاختلاط أموالهما، والخليط: القوم أمرهم واحد والخلاط: داء في الجوف، ورجل خلط: متحبب إلى الناس، لطلبه الاختلاط بهم.

3. معنى ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ الاذن لهم فيما كانوا متحرجون منه من مخالطة الايتام في الاموال: من المأكل، والمشرب والمسكن، ونحو ذلك، فأذن الله لهم في ذلك إذا تحروا الاصلاح بالتوفير على الايتام في قول الحسن، وغيره وهو المروي في أخبارنا.

4. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ رفع على فهم أخوانكم خالطموهم أو لم تخالطوهم، كقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ نصب على فصلّوا بالمحال، وهو حال الصلاة خاصه لاحال معنى فأنتم رجال أو ركبان، كيف تصرفت الحال، ويجوز في العربية فإخوانكم على النصب على تقدير: فاخوانكم تخالطون، والوجه الرفع، لما بيناه.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ معناه: التذكير بالنعمة في التوسعة على ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه أعظم المشقة، والاعنات: الحمل على مشقة لا تطاق فعلا، وعنت العظم عنتا اذا أصابه وهن أو كسر، وأعنته إعناتا إذا عسفه بالحمل على مكروه لا يطيقه، وعنت عنتا إذا اكتسب مأثما، وتعنته تعنتا إذ لبس عليه في سؤاله له، والاكمة العنوت: هي الطويلة من الاكام، وأصل الباب المشقة.

6. قال البلخي: في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إنه تعالى لايقدر على الظلم، لان الاعنات ـ بتكليف ما لا يجوز في الحكمة ـ مقدور له، إذ لو يشاء لفعله، وقال الجبائي: لوأعنتهم لكان جائزا حسنا، لكنه تعالى وسع على العباد، لما في التوسعة من تعجيل النعمة.

7. في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة في البدل، وتكليف ما لا يطاق، أما البدل، فلانهم يذهبون إلى النهي عن الكفر الموجود في حالة بأن يكون الايمان بدلا منه، وهذا أعظم ما يكون من الاعنات، لانه أمر له بالمحال، هو ليكن منك الايمان بدلا من الكفر الموجود فيوهو ليكن منك الايمان بدلا من الكفر الموجود في‏ الحال، وكذلك النهي فيما لم يكن منك ما هو كائن من الكفر الموجود في الحال كل ذلك محال، وكذلك الأمر بالإيمان، من لم يقدر على الايمان، فإذا لم يفعله عُذّب بأشد العذاب، وإذا لم يكلف من الممكن ما فيه مشقة وشدة، للمظاهرة على عباده بالنعمة، لم يجز أن يكلف ما ليس عليه قدره، لأنه أسوء تناقض المظاهرة بالنعمة.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي يفعل بعزته ما يحب، لا يدفعه عنه دافع، ﴿حَكِيمٌ﴾ ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/216

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. اليتيم: من لا أب له، وإنما يطلق هذا الاسم على الأطفال، يقال: يَتِمَ يُتْمًا، كنَكِرَ نُكْرًا، وَيتَمَ يَتْمًا، كَشَعَلَ شَعْلا.

ب. المخالطة مفاعلة من الخلط، وهو الجمع بين الشيئين بحيث يعسر تمييزه.

ج. أصل العنت المشقة والشدة، وأعنته: حمله على مشقة لا تطاق، والعنت:

د. المأثم؛ لما يؤدي إليه من المشقة.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قال الضحاك والسدي: كانت العرب في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم، ويشددون في أمره فلما جاء الإسلام سألوا عن ذلك؟ فنزلت الآية.

ب. وقيل: لما نزلت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فاجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، وكانوا لا يؤاكلونهم، واشتد عليهم ذلك، فسألوا عنه فنزلت الآية، عن قتادة والربيع.

3. ثم بَيَّنَ تعالى شريعة أخرى فقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد، واختلفوا في الضمير في: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾، قيل: يرجع إلى القوم عن الأيتام، عن أبي مسلم.

4. ﴿عَنِ الْيَتَامَى﴾ لا بد في الكلام من إضمار؛ لأن السؤال لم يقع عن أشخاصهم، ولا ورد الجواب عنها، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: يسألونك عن القيام عليهم، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: عن التصرف في مالهم ومخالطتهم.

ج. وقيل: عن تدبير أمره في نفسه وماله، عن القاضي.

5. ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ المخاطب به ولي اليتيم، يعني:

أ. قيل: إصلاح لأموالهم بغير عوض.

ب. وقيل: إصلاحهم بتأديبهم وتقويمهم مثل ما يفعله بولده، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: إصلاح لهم فيما يرجع إلى صلاح نفسه وماله.

6. ﴿خَيْرُ﴾ يعني أعظم في الأجر ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: تشاركوهم في مؤاكلتهم ونفقاتهم ومساكنتهم ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي فهم إخوانكم، وهذا إذن من الله تعالى في مخالطتهم، عن الحسن.

ب. وقيل: تخالطوهم بأن تنكحوا منهن وتُزَوِّجوا منهم، عن أبي مسلم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾:

أ. قيل: المفسد لأموالهم من المصلح لها.

ب. وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ﴾:

أ. قيل: يعني كما وسع عليكم بهذه الرخصة، ولو شاء شدد عليكم وضيق في مخالطتهم.

ب. وقيل: ولو شاء لأوبقكم فيما أتيتم في أموالهم.

9. ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ قادر لا يجوز عليه المنع: ﴿حَكِيمٌ﴾ في أفعاله مع قدرته، وقيل: عليم، عن أبي علي.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز قَيِّمِ يقوم بأمر اليتيم، وذلك إذا لم يكن لهم ولي ولا وصي، فينصب القاضي من يقَوم بأمره؛ لأنها تدل على وجوب الإصلاح، وذلك لا يتم إلا بِقَيِّمٍ، وما لا يتم الواجب إلا به وجب كوجوبه.

ب. أن ما يرجع إلى صلاح مال اليتيم ونفسه فالقيم مندوب إليه، وتنفذ عقوده؛ لأن بها يتم الصلاح، فتدل على أن بيع القيم وشراءه وإجارته جائز إذا كان فيه غبطة للطفل.

ج. جواز المشاركة ومخالطة ماله بماله؛ لأن الإصلاح قد يكون به.

د. جواز التجارة في مال اليتيم، ودفعها بضاعة ومضاربة وشركة؛ لأن كل ذلك من الإصلاح.

هـ. أن له أن ينفق عليه حتى يعلمه ويؤدبه، ويتعلم العلوم الدينية؛ لأنه من الإصلاح، وإنما ينفق عليه حتى يتعلم الحرف فكذلك، فأما إن أنفق ليتعلم البدع أو نحوها كالفلسفة فيضمن؛ لأنه ليس من الإصلاح.

و. جواز التزويج والتزوج من اليتامى؛ لأنه من الإصلاح.

ز. جواز اسم الأخوة فيمن له حكم الإسلام، وإن لم يكن مسلمًا؛ لأنه إنما يكون يتيمًا قبل البلوغ، وله حكم الإسلام.

ح. يدل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ﴾ على أنه خفف في أمر اليتيم وغيره ولم يشدد.

ط. بطلان مذهب الجبر؛ لأنه إذا لم يشأ إعناتهم فكيف يصح أن يشأ تكليف ما لا يطاق، وكيف يكلف ما لا سبيل له إليه، ويأمر بما لا يتصور من جهته!؟ وأي عبث أعظم من هذا؟ وتدل من وجه آخر، وهو أنه إذا لم يرد العنت، وهو دون ما لا يطاق فكيف يريده؟

ي. أن العبد فاعل؛ لأنه لو خلق أفعاله فقليله وكثيره لا يدخله الإعنات.

ك. بطلان قولهم في البدل؛ لأن النهي عن شيء وقع، والأمر بما لم يقع، ووقع ضده من أعظم العنت؛ لأنه مستحيل.

ل. قال أبو القاسم: وتدل على فساد من يحيل القدرة على الظلم؛ لأن الإعنات تكليف ما لا يجوز في الحكمة مقدور له، ولو شاء لفعله، وقال أبو علي: لو أعنتهم لكان جائزًا حسنًا؛ لأنه تشديد، ولكنه وسع على عباده رحمة منه وفضلاً.

11. قراءات وحجج:

أ. قراءة العامة: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾، وعن طاووس (إصلاح إليهم)

ب. قراءة العامة: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ برفع النون، وعن أبي مخلد بالنصب على معنى تخالطوا إخوانكم.

12. مسائل نحوية:

أ. عامل الإعراب في الظرف في قوله: ﴿الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ﴾: ﴿يُبِينُ﴾ في قول الحسن، و﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ في غيره.

ب. رفع: ﴿إِخْوَانِكُمْ﴾ ونصب ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ رفع على معنى فهم إخوانكم خالطتموهم أو لم تخالطوهم، وأما: ﴿رِجَالًا﴾ فتقديره: فصلوا رجالاً أو ركبانًا؛ لأنه حال الصلاة لا على معنى: وأنتم رجال.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/876

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المخالطة: مجامعة يتعذر معها التمييز، كمخالطة الخل للماء وما أشبهه، والخليطان: الشريكان لاختلاط أموالهما، والخليط: القوم أمرهم واحد.

ب. الإعنات: الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا، وعنت العظم عنتا: أصابه وهن أو كسر بعد جبر، وعنت عنتا: إذا اكتسب مأثما، وتعنته تعنتا: إذا لبس عليه في سؤاله له، والأكمة العنوت: الطويلة، وأصل الباب: المشقة والشدة.

2. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ قال ابن عباس: لما أنزل الله ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ الآية، و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ انطلق كل من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، واشتد ذلك عليهم فسألوا عنه، فنزلت هذه الآية.

3. لا بد من إضمار في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ لأن السؤال لم يقع عن أشخاص اليتامى، ولا ورد الجواب عنها، فالمعنى: يسألونك عن القيام على اليتامى، أو التصرف في أموال اليتامى.

4. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ يعني إصلاح لأموالهم من غير أجرة، ولا أخذ عوض منهم، خير وأعظم أجرا ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ أي: تشاركوهم في أموالهم، وتخلطوها بأموالكم، فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم.

5. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا، ويصيب بعضهم من مال بعض، وهذا إذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك، ورخصة لهم في ذلك إذا تحروا الصلاح بالتوفير على الأيتام، عن الحسن، وغيره، وهو المروي في أخبارنا(2).

6. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ معناه: والله يعلم من كان غرضه من مخالطة اليتامى إفساد مالهم، أو إصلاح مالهم.

7. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي: لضيق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم، وألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم، وقال الزجاج: معناه لكلفكم ما يشق عليكم فتعنتون، ولكنه لم يفعل، وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة، لأنه سبحانه إذا لم يشأ اعناتهم، ولو أعنتهم لكان جائزا حسنا، لكنه وسع عليهم لما في التوسعة من النعمة، فكيف يصح أن يشاء تكليف ما لا يطاق؟ وكيف يكلف ما لا سبيل للمكلف إليه ويأمره بما لا يتصور إحداثه من جهته؟ وأي عنت أعظم من هذا؟ قال البلخي: وفيه أيضا دلالة على فساد مذهب من قال إنه تعالى لا يقدر على الظلم، لأن الإعنات بتكليف ما لا يجوز في الحكمة، مقدور ولو شاء لفعله.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ يفعل بعزته ما يحب، لا يدفعه عنه دافع ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره وأفعاله، ليس له عما توجبه الحكمة مانع.

9. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره فهم إخوانكم، ويجوز في العربية: فإخوانكم على النصب، على تقدير فإخوانكم يخالطون، والوجه الرفع.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/555

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾، انطلق من كان عنده مال يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروه للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل.

ب. الثاني: أن العرب كانوا يشدّدون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادما، فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن مخالطتهم، فنزلت هذه الآية، ذكره السّدّيّ عن أشياخه، وهو قول الضحّاك.

2. في السائلين للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قولان:

أ. أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاريّ، قاله مقاتل.

ب. الثاني: عبد الله بن رواحة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

3. ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾، قال ابن قتيبة: معناه: تثمير أموالهم، والتّنزّه عن أكلها لمن وليها خير، ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، أي: فهم إخوانكم، حكمهم في ذلك حكم إخوانكم، قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك، وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك، وتأكل في قصعته.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، يريد: المتعمّد أكل مال اليتيم، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾، قال ابن عباس: أي لأحرجكم، ولضيّق عليكم، وقال ابن الأنباريّ: أصل العنت: التّشديد، تقول العرب: فلان يتعنّت فلانا ويعنته، أي: يشدّد عليه، ويلزمه المشاقّ، قال ثم نقلت إلى معنى الهلاك، واشتقاق الحرف من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة المصعد، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدّة.

__________

(1) زاد المسير: 1/187

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده، ثم إن الله تعالى أنزل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]، وأنزل في الآيات: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3]، وقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 127]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152]، فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، والمقاربة من أموالهم، والقيام بأمورهم، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم، فثقل ذلك على الناس، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم، استعدوا للوعيد الشديد، وإن تركوا وأعرضوا عنهم، اختلت معيشة اليتامى، فتحير القوم عند ذلك.

2. هاهنا يحتمل أنهم سألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عن هذه الواقعة، ويحتمل أن السؤال كان في قلبهم، وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ويروى‏ أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا وطعاما وشرابا، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله مالكنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يفردهما لليتيم، فنزلت هذه الآية.

3. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ وجوه:

أ. أحدها: قال القاضي: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: 2]، ومعنى قوله: ﴿خَيْرُ﴾ يتناول حال المتكفل، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم، ويتناول حال اليتيم‏ أيضا، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث إنه يتضمن صلاح نفسه، وصلاح ماله، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.

ب. ثانيها: قول من قال الخبر عائد إلى الولي، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا له.

ج. الثالث: أن يكون الخبر عائدا إلى اليتيم، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم.

4. القول بأن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما، أولى، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي، وإلى اليتيم في إصلاح النفس، وإصلاح المال، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه، واليتيم في ماله وفي نفسه، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية.

5. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم، والجواب: ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحا له، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع.

6. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز، ومنه يقال للجماع: الخلاط ويقال: خولط الرجل إذا جن، والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله.

7. في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وجوه:

أ. أحدها: المراد: وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم، والمعنى: أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين، والاجتماع في المسكن الواحد، كما يفعله المرء بمال ولده، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز.

ب. ثانيها: أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنيا أو فقيرا، ومنهم من قال إذا كان القيم غنيا لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وأما إن كان القيم فقيرا فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم، وروي عن عمر أنّه قال أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضا بالمعروف ثم قضيت، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيرا وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه.

ج. الثالث: أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي.

د. الرابع: وهو اختيار أبي مسلم: أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح، على نحو قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾ [النساء: 3]، وقوله عز من قائل: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 127]، قال: وهذا القول راجح على غيره من‏ وجوه:

أحدها: أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله.

ثانيها: أن الشركة داخلة في قوله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ والخلط من جهة النكاح، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب.

ثالثها: أن قوله تعالى: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلما، فوجب أن تكون الإشارة بقوله: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ إلى نوع آخر من المخالطة.

رابعها: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221] فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك.

8. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي فهم إخوانكم، قال الفراء: ولو نصبته كان صوابا، والمعنى فإخوانكم تخالطون.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾:

أ. قيل: المفسد لأموالهم من المصلح لها.

ب. وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح، يعني: إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضا آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم، وهذا تهديد عظيم، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحد يراعيها فكأنه تعالى قال لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه.

ج. وقيل: والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئا من غير إصلاح منكم لمالهم.

10. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾: (الإعنات) الحمل على مشقة لا تطاق يقال: أعنت فلان فلانا إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتا إذا لبس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل العنت من المشقة، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدودا، ومنه قوله تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128] أي شديد عليه ما شق عليكم، ويقال: أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا، وقال عطاء: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم، وقال الزجاج: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم.

11. احتج الجبائي بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾، فقال: (إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه، لأن قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف، ولو كان مكلفا بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق)، ووجه هذا الاستدلال أن كلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم، وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا فولي هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح، لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه، ولا سبيل له إلى فعله، وأيضا فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق، فأما من لا يتمكن ألبتة فذلك لا يصح فيه، وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد، وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه‏ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾، والجواب عنه: المعارضة بمسألة العلم والداعي.

12. احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل، لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات، فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/405

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ إلى قوله‏ ﴿حَكِيمٌ﴾ الآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الامر بحفظ أموال اليتامى، وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة، وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية.

2. لما أذن الله عز وجل في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لان الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة، لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

3. تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفى جواز خلط ماله بماله، دلالة على جواز التصرف في مال بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا، واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشترى لها، وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضى، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب‏ فيكون أحسن لليتيم، قال محمد بن عبد الحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا، قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله، قال وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز، ودل الظاهر على أن ولى اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات، وإذا وهب لليتيم شي فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح.

4. لما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان: حالة يمكنه الاشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة، وحالة لا يمكنه الاشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة، قال ابن خويز منداد: ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الاشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الاشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعى الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطى الام أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الام أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالزواج من اليتيمة ونحوها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

6. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازى كلا على إصلاحه وإفساده.

7. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ قال لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا، وقيل: ﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ لأهلككم، عن الزجاج وأبى عبيدة، وقال القتبي: لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم، وقيل: أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وإثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم، والعنت: المشقة، وقد عنت وأعنته غيره، ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شي فهاضه: قد أعنته، فهو عنت ومعنت، وعنتت الدابة تعنت عنتا: إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جرى، وأكمة عنوت: شاقة المصعد، وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك، والأصل ما وصفنا.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ أي لا يمتنع عليه شي‏ ﴿حَكِيمٌ﴾ يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/63

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ وقد كان ضاق على الأولياء الأمر، فنزلت هذه الآية.

2. المراد بالإصلاح هنا: مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم، وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع، والمضاربة، والإجارة، ونحو ذلك.

3. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ اختلف في تفسير المخالطة لهم:

أ. فقال أبو عبيدة: مخالطة اليتامى: أن يكون لأحدهم المال ويشقّ على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدّا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان، فدلت هذه الآية على الرخصة، وهي ناسخة لما قبلها.

ب. وقيل: المراد بالمخالطة: المعاشرة للأيتام، وقيل: المراد بها: المصاهرة لهم.

4. الأولى: عدم قصر المخالطة على نوع خاص، بل تشمل كل مخالطة، كما يستفاد من الجملة الشرطية.

5. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم في الدين، وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ تحذير للأولياء، أي: لا يخفى على الله من ذلك شيء، فهو يجازي كل أحد بعلمه، ومن أصلح فلنفسه، ومن أفسد فعلى نفسه.

6. ﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي: ولو شاء لجعل ذلك شاقا عليكم، ومتعبا لكم، وأوقعكم فيما فيه الحرج والمشقة، وقيل: العنت هنا: معناه الهلاك، قاله أبو عبيدة، وأصل العنت: المشقة، وقال ابن الأنباري: أصل العنت: التشديد، ثم نقل إلى معنى الهلاك.

7. ﴿عَزِيزٌ﴾ أي: لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب‏ ﴿حَكِيمٌ﴾ يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته وحكمته، وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/255

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾‏ أخرج أبو داوود والنسائي والحاكم وغيرهم، عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾‏.. الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

2. ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وإنما أقيم غاية المداخلة ـ أعني الإصلاح ـ مقامها، تنبيها على أنّ المأمور به مداخلة يكون ترتب الإصلاح عليها ظاهرا، كأنها عين الإصلاح.

3. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ تعاشروهم ولم تجانبوهم ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فهم إخوانكم في الدين ـ الذي هو أقوى من العلاقة النسبية، ومن حقوق الإخوة: المخالطة بالإصلاح والنفع، قال الأصبهانيّ: وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعا، كان في غيرهم أوسع، وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار، يخرجون النفقات بالسوية، ويتباينون في قلة المطعم وكثرته.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ﴾ لأموالهم ﴿مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ لها، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحرّوا غير الإصلاح.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ لحملكم على‏ العنت ـ وهو المشقة ـ وأحرجكم، فلم يطلق لكم مداخلتهم، ولا يمنعه من ذلك شيء، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ أي: غالب على ما أراد ﴿حَكِيمٌ﴾ أي: فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس الطاقة.

6. حمل القاضي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ على جهات المصالح والخيرات العائدة إلى الوليّ واليتيم، قال: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأنّ هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل أيضا معنى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: 2]

7. معنى قوله ﴿خَيْرُ﴾ يتناول حال المتكفّل، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم، ويتناول حال اليتيم أيضا، أي: هذا العمل خير لليتيم من حيث إنّه يتضمّن صلاح نفسه وصلاح ماله، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والوليّ، وروى البخاريّ عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/115

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ نزل ﴿اِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: 10]، ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ﴾ إلخ [الأنعام: 152] فتركوا تعهُّد أموالهم ومؤاكلتهم، حتَّى إنَّهم ليصنعون طعامًا لليتيم من ماله وإنْ فضُلت فَضلة لم يأكلوها ولم يبيعوها، إذ لا تشترى أيضًا لذلك، ولأنَّها لا تصلح للبيع، ويحبسونها ليأكلها حتَّى تفسد فيريقونها، ويجعلون لطعامه قِدرًا وحطبًا وغير ذلك على حدة، وتضرَّر بذلك اليتامى وشقَّ على قُوَّامهم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ إلخ، أي عن خلطة أموالهم، رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وصحَّحه من حديث ابن عبَّاس _ .

2. ﴿قُلِ اِصْلَاحٌ﴾ مبتدأ خبره: (خَيْرٌ)، ﴿لَهُمْ﴾ متعلِّق بـ (إِصْلَاحٌ)، أو نعته أي إصلاح أموالهم، ﴿خَيْرٌ﴾ لكم ثوابًا ولهم نفعًا، أو أفضل من تركها، وفي تركها تحرُّجا ثوابٌ على نيَّتكم، أو الإصلاح لهم أنْ يوسِّعوا في أموال أنفسهم لليتامى، أو أنْ تخالطوهم في الطعام والخدمة والسكنى بأموالكم وأموالهم، وخدمكم ودوابِّكم فتصيبوا في أموالهم عوضًا من قيامكم بأموالهم، أو أنْ تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم، أو تصلحوا أموالهم بلا أجرة ولا عوض، قال الزجَّاج: (كانوا يتزوَّجون من اليتامى الموسرات ويأكلون أموالهنَّ، فشدَّد عليهم في أمر اليتامى تشديدًا خافوا معه التزوُّج باليتامى ومخالطتهم، فأعلمهم الله أنَّ الإصلاح خير الأشياء، وأنَّ مخالطتهم بالتزوُّج مع تحرِّي الإصلاح جائز).

3. ﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ﴾ بالمال والمصاهرة فهو خير لكم في الدَّارين، أو فلكم ذلك، ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فهم إخوانكم، أي: لأنَّهُم إخوانكم في الدِّين، ومن حقِّ الأخ مراعاة الأصلح له والصبر، ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ﴾ لأموالهم بالأكل أو التضييع ولغيرها وفي شأن غيرهم، ولا يخفى عليه من أراد الخلطة للخيانة، ومن الخيانة أنْ يُسلفها تنمية لمال نفسه واتِّجارًا بها لنفسه بلا حاجة، بل يتَّجر بها لليتيم بالمضاربة وغيرها بنفسه أو بغيره، وإنْ ضاعت بلا تقصير في تجره لم تلزمه؛ لأنَّهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بالتَّجر بها، ﴿مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ لأموالهم وفي شأن غيرهم، وذلك وعيد للمفسد ووعدٌ للمصلح.

4. ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ﴾ إعناتكم ﴿لأَعْنَتَكُم﴾ ألقاكم في العنَت، أي: المشقَّة، بتحريم المخالطة، و(لَوْ) مانعةٌ، فالله لم يُعْنِتْنا، فيجوز لنا مراعاة صلاحهم، حتَّى إنَّه يجوز لنا فداء أموالهم ببعضها ولو بنصف أو أكثر من جائر أو أمر متلف، وإجبارهم على كسب لائق بهم ولهم غلَّته، وشراء عقار لهم إنْ لم يُخف عليه جائر أو خراب أو خراج لا تبقى معه لهم فائدة، وإطعامهم الرقائق وإلباسهم بحسب أموالهم، وخلط أموال يتامى بحفظ وإصلاح، ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ لا يكون مغلوبًا ولا غير متقن للأمر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/30.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نعم إن آيات الوصية في اليتامى كثيرة، ومنها ما نزل في مكة كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ في سورة الإسراء، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ في سورة الضحى، وقوله عز وجل: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ في سورة الماعون، جعل دع اليتيم ـ وهو دفعه وجره بعنف ـ أول آيات التكذيب بالدين، وأجمع ما ورد في ذلك وآكده آيات سورة النساء وهي مدنية كسورة البقرة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ ولكن سورتها نزلت بعد سورة البقرة، وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله تعالى، ويأخذون القرآن بقوة؛ لأنهم لبلاغتهم يفهمون الوعيد في مثل هذه الآية، فتحدث لهم من الذكرى والعظة ما لا يجد مثله من لم يؤت بلاغتهم، وليس المراد ببلاغتهم أنهم قرؤوا علم المعاني والبيان فحفظوا في أذهانهم عللا كثيرة للتقديم والتأخير في المسند والمسند إليه ونحو ذلك، وإنما هي مقاصد الكلام ومغازيه تغوص في أعماق القلوب كما يغوص الماء في الإسفنج، فلا تدع فيها مكانا يتعاصى على تأثيرها كما قال محمد عبده، هذا الاتعاظ والاعتبار بوصايا الكتاب العزيز في اليتامى قد ملك نفوس المؤمنين فتركهم في حيرة وحرج من أمر القيام عليهم واستغلال أموالهم؛ خوفا أن ينالهم شيء من الظلم المذكور في آية سورة النساء.

2. لأن الظلم يتناول كل ما نقص من الحق، وشاهده قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ فإذا اختلط اثنان في النفقة وأكل أحدهما مما اشترى بمالهما أكثر من الآخر تكون الزيادة من مال الآخر، فإن كان راشدا فرضاه ولو بالعرف أو القرينة إذن يبيح هذا التناول، وأما إذا كان الخليط يتيما فإن الزيادة تكون مظنة الظلم أو هي منه حتما؛ ولذلك تأثم الصحابة من مخالطة اليتامى بعد نزول آية النساء، وإن كانت العادة جارية بتسامح الناس في مؤاكلة الخلطاء والشركاء من غير تدقيق، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده، ثم إنهم فطنوا إلى أن هذا ـ على ما فيه من الحرج عليهم ـ لا مصلحة فيه لليتيم بل هو مفسدة له في تربيته ومضيعة لماله، وفيه من القهر المنهي عنه ما لا يخفى؛ فإنه يكون في البيت كالكلب، أو الداجن في مأكله ومشربه، ومن هنا جاءت الحيرة واحتيج إلى السؤال عن طريق الجمع بين الأمرين، والتوحيد بين المصلحتين، بأن يعيش اليتيم في بيت كافله عزيزا كريما كأحد عياله، ويسلم الكافل من أكل شيء من ماله بغير حق.

3. وكان من فضل الله تعالى ورحمته أن أنزل الوحي في إزالة الحيرة وكشف الغمة، فقال لنبيه: ﴿قُلْ﴾ لهؤلاء السائلين عن القيام على اليتامى وكفالتهم، وعن المصلحة في عزلهم أو مخالطتهم ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ يعني أي إصلاح لهم خير من عدمه فلا تتركوا شيئا مما تعلمون أن فيه صلاحا لهم في أموالهم وأحوالهم من تربية وتهذيب، هذا ما أفاده تنكير ﴿إِصْلَاحٍ﴾ وإن تخالطوهم لرؤيتكم الخير لهم في المخالطة في المعيشة فهم إخوانكم في الدين، وإنما شأن الإخوان المخالطة في المعاشرة.

4. أزالت الكلمة الأولى من هذا الجواب الوجيز شبهة المتأثمين من كفالتهم، وكشفت الكلمة الثانية شبهة القوام المتحرجين من مخالطتهم، ومن هذا الجواب عرفنا حقيقة السؤال، وهذا من ضروب الإيجاز التي لم تعرف إلا من القرآن.

5. أما معنى كون الإصلاح لهم خيرا فهو أن القيام عليهم لإصلاح نفوسهم بالتهذيب والتربية، وإصلاح أموالهم بالتثمير والتنمية، هو خير من إهمال شأنهم وتركهم لأنفسهم تفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم، خير لهم لما فيه من صلاحهم، وخير للقوام والكافلين لما فيه من درء مفسدة إهمالهم، ومن المصلحة العامة في صلاح حالهم، ولما في ذلك من حسن القدوة في الدنيا، وحسن المثوبة في الأخرى، قال في التفسير الكبير: قال القاضي: هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرها لكي ينشأ على علم وأدب وفضل؛ لأن هذا الصنع أعظم تأثير فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾

6. أما قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فمعناه أنه لا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والمكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء وشركاء في الملك والمعاش، ولا ضرر على أحد منهم في ذلك، بل هو نافع لهم؛ لأن كل واحد منهم يسعى في مصلحة الجميع، والمخالطة مبنية بينهم على المسامحة لانتفاء مظنة الطمع وتحقق الإخلاص وحسن النية، كأنه يقول: وإن تخالطوهم فعليكم أن تعاملوهم معاملة الإخوة في ذلك، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته بقدر الإمكان، ويتحرى أن يكون في كفته الرجحان، وقيل: إن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأخوة الإسلام علة لحلها، وقد أطال أبو مسلم في ترجيح هذا الوجه.

7. هذا الذي هدانا إليه الكتاب العزيز في شأن اليتامى من معاملتهم كالإخوان مبني على ما أودع الفطرة السليمة من الحب والإخلاص للأقربين، وقد طرأ الفساد على هذه الرابطة النسبية في بلاد كثيرة بما أفسدت السياسة في الأمة، فصار الأخ يطمع في مال أخيه، ويحفر له من المهاوي ما لعله هو يقع فيه، وأمثال هؤلاء الذين فسدت طباعهم واعتلت خلائقهم لا يوكل إليهم الرجوع إلى الفطرة وتحكيمها في معاملة اليتامى كالإخوة؛ لذلك لم يكتف القرآن بذلك حتى وضع للضمير والوجدان قاعدة يرجع إليها في هذا الشأن، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أي: إنه لم يكل أمر مخالطة اليتامى إلى حكم نزعة القرابة وعاطفة الأخوة من قلوبكم إلا وهو يعلم ما تضمر هذه القلوب من قصد الإصلاح لهم أو الإفساد، فعليكم أن تراقبوه في أعمالكم ونياتكم، وتعلموا أن سيحاسبكم على مثقال الذرة مما تعملون لهم.

8. المصلح: هو من يأتي بالإصلاح عملا، والمفسد: هو من يأتي بالإفساد فعلا، وحال كل منهما ظاهرة للعيان، وإنما أيقظ الله تعالى القلوب إلى ذكر علمه بذلك لتلاحظ اطلاعه على العمل، وتتذكر جزاءه عليه فتراقبه فيما خفي منه، لعلها تأمن من مزالق الشهوة، وتسلم من مزال الشبهة؛ فإن شهوة الطامع تولد لصاحبها شبهة أكل مال اليتيم، كما يأكل صاحبها مال أخيه الضعيف، ولا عاصم من ذلك إلا بمراقبة الله تعالى وتقواه، وإلا فإننا نرى أكثر الأوصياء على الأيتام في هذا الزمان يظهرون للملأ إصلاح أحوالهم، وتثمير أموالهم، مع العفة والزهادة فيها، وهم في الباطن يأكلونها أكلا لما، حتى إن واحدهم يصبح غنيا بعد فقر ولا عمل له إلا القيام على اليتيم، والأجرة المفروضة له على الوصاية لا غناء فيها فيكون غنيا بها، وكل من يطلب أن يكون وصيا على يتيم ويسعى لذلك سعيه فهو موضع للظنة، وقلما يوجد فيهم من يرضى بما يفرض له على عمله، وسيأتي ما يحل للوصي من مال اليتيم وما يحرم في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

9. ثم بين لنا سبحانه وتعالى منته علينا ورحمته بنا بما أذن لنا من مخالطة اليتامى فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي: أوقعكم في العنت، وهو المشقة وما يصعب احتماله، بأن يكلفكم القيام بشئون اليتامى وتربيتهم وحفظ أموالهم، ولا يأذن لكم بمخالطتهم ولا بأكل لقمة واحدة من طعامهم، ولكنه لسعة رحمته لا يكلف نفسا إلا وسعها، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ولذلك أباح لكم مخالطة اليتامى على أن تعاملوهم معاملة الإخوة، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، وقد عفا عما جرى العرف على التسامح فيه لعدم استغناء الخلطاء عنه، ووكل ذلك إلى ذمتكم وأمركم بمراقبته فيه، وهو الرقيب المهيمن الذي لا يخفى عليه شيء من عملكم ولا من قصدكم ونيتكم، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فلو شاء إعناتكم لعز على غيره منعه من ذلك؛ إذ لا عزة تعلو عزته، ولكن مضت حكمته بأن تكون شريعته جامعة لمصالح عباده، جارية على سنن الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها.

10. هكذا جعل محمد عبده ذكر ﴿الْعَزِيزِ﴾ في هذا المقام لتقرير إمكان تعلق المشيئة بالإعنات، وذكر ﴿الْحَكِيمُ﴾ لتقرير التفضل بعدم تعليق المشيئة به، وكل من الأمرين مفهوم من قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾

11. يحتمل أن يكون ذكر الاسمين الكريمين تقريرا لعزته وحكمته تعالى في المسائل الثلاث في الآيتين: مسألة الخمر والميسر، ومسألة الإنفاق، ومسألة اليتامى، فإنها وردت في الآيات معطوفا آخرها على أولها، ولله العزة بمنع الناس بعض الشهوات، وبتكليفهم الإنفاق من فضول أموالهم، وبتكليفهم تحري الإصلاح للأيتام مع الإذن بمخالطتهم، ومن حكمته أن منعهم ما يضرهم من ذلك، وكلفهم ما فيه مصلحتهم، وأن هداهم إلى وجه منفعة النافع ومضرة الضار.

12. النكتة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر(2) أنه لما كان ذانك السؤالان مبنيين لحال فريقين من الناس في الإنفاق وبذل المال ـ على ما تقدم ـ ناسب أن يذكر بعدهما السؤال عن صنف هو من أحق أصناف الناس بالإنفاق عليه وبذل المال في سبيل تربيته وإصلاح شأنه وهو صنف اليتامى، وليس الترغيب بالإنفاق عليهم ببعيد من هذه الآية، وقد تكرر في غير هذه السورة، كأنه سبحانه وتعالى يذكرنا عند الإذن بمخالطة اليتامى والترغيب في الإصلاح لهم بأن النفقة عليهم من أموالنا مندوب إليها، وأنهم من المستحقين لما ننفقه من العفو الزائد عن حاجاتنا؛ فلا يليق بنا أن نعكس القضية ونطمع في فضول أموالهم؛ لأنهم ضعفاء قاصرون لا يستطيعون دفاعا عن حقوقهم، ولا ذودا عن مصالحهم، فجمع الأسئلة الثلاثة في الآيتين وعطف بعضها على بعض في غاية الإحكام والالتئام.

13. ترون من هذا السؤال وجوابه كيف كانت عناية المؤمنين في حفظ أحكام الله واتقاء اعتداء حدوده، وكيف شدد الله تعالى الأمر في شأن اليتامى، فلم يأذن بالقيام عليهم إلا بقصد الإصلاح، ولا بمخالطتهم إلا مخالطة أخوة، وكيف وجه القلوب مع هذا إلى مراقبته، والتذكر لإحاطة علمه، ثم ترون كيف اتخذ الناس هذه الآيات وسيلة للتلذذ بنغمات قارئيها، أو للتعبد بألفاظها دون الاهتداء بمعانيها، ومن أخذته هزة عند سماع مثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ فإنها لا تلبث أن تزول، ثم هو لا يزول عن إفساده ولا يرجع إلى رشاده، ومنهم من يتزيا بزي المتقين، ويظهر في صورة الصالحين، ويكثر من التسبيح والتلاوة، وحضور صلاة الجماعة، حتى إذا ما جعل وصيا على يتيم لا ترى لذلك التحنث أثرا في عمله، ولا ذلك السمت حائلا دون زلله، فهو إن أصلح شيئا يفسد أشياء، ولا يراقب الله ولكن يراقب الحسبة والقضاء؛ ذلك أن الإسلام قد صار تقاليد صورية، وحركات بدنية، ليس له منبع في القلوب، ولا أثر صالح في الأعمال، وإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأبدان، ولا يعبأ بالحركات والأقوال ولكن ينظر إلى القلوب والأرواح، وما ينشأ عن صلاحها من خير وإصلاح.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/322

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ أي ويسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو عن مخالطتهم وكفالتهم.. وأشد ما ورد في الوصية باليتامى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله ويأخذون القرآن بقوة، فتحدث لهم ذكرى وعظة لا يجد مثلها من بعدهم ممن لم يفهم القرآن كما فهموا.

2. هذه الوصايا باليتامى ملكت على المؤمنين نفوسهم فتركتهم في حيرة وحرج من أمر القيام على اليتامى واستغلال أموالهم خوفا من أن ينالهم شيء من الظلم، وتأثّم الصحابة من مخالطة اليتامى، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله، فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده، ثم فطنوا إلى ما في هذا من الحرج مع عدم المصلحة لليتيم، بل فيه مفسدة له في تربيته وضياع لماله، إلى ما في ذلك من الاحتقار والإهانة له، فيكون كالكلب أو كالداجن في مأكله ومشربه، ومن ثم احتاجوا إلى السؤال عما يجمع بين المصلحتين: مصلحة اليتيم ليعيش في بيت كافله عزيزا كأحد عياله، ومصلحة الكافل فيسلم من أكل شيء من ماله بغير حق، فأجيبوا بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي قل لمن يسأل عن المصلحة في معاملة اليتامى من عزل أو مخالطة ـ إن كل ما فيه صلاح لهم فهو خير، فعليكم أن تصلحوا نفوسهم بالتربية والتهذيب، وأموالهم بالتنمية والتثمير، ولا تهملوا شئونهم فتفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم، ولا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء في الملك والمعاش، وفي ذلك منفعة لهم لا ضرر عليهم، إذ كل واحد منهم يسعى في خير الجميع، والمخالطة مبنية على المسامحة، لانتفاء مظنّة الطمع، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته، ويتحرى له رجحان كفته.

3. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أي والله يعلم ما تضمره القلوب، وتميل إليه من قصد الإفساد أو الإصلاح في هذه المخالطة، وسيحاسبكم على الدقيق والجليل من الأمور وإنما نبه القلوب إلى ذكر علمه تعالى، لتلاحظ ذلك حين العمل، وترقب الجزاء على ما تعمل، حتى تأمن الزلل، وتبتعد عن مواطن الشبهة، فشهوة الطمع كثيرا ما تسوّل للإنسان أكل مال اليتيم، كما تزين له أكل مال أخيه الضعيف ولا وازع ولا زاجر إلا تقوى الله، ومراقبته في السر والعلن، وكثير من الأوصياء على الأيتام يظهرون العفّة والزهد في أكل أموالهم، وهم يلتهمونها التهاما، فتراهم بعد قليل أصبحوا من ذوى الثراء، وأجرهم المفروض ليس فيه الغناء.

4. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي ولو شاء الله أن يكلفكم ما لا تطيقونه من القيام بشئون اليتامى وحفظ أموالهم دون أن يأذن لكم في مخالطتهم لفعل، لكنه لواسع رحمته لا يكلف النفس إلا ما تطيق كما قال ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ومن ثم أباح لكم مخالطتهم ومعاملتهم معاملة الإخوة، وعفا عما جرى العرف به من‏ المسامحة فيه، إذ ذلك لا يستغنى عنه الخلطاء، ووكل أمر ذلك إلى ضمائركم، مع مراقبة من لا تخفى عليه خافية، العليم بالسر والنجوى.

5. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي لو شاء إعناتكم لعزّ على غيره أن يمنعه، ولكن جرت سنته أن يجعل شرائعه جامعة لمصالح عباده، جارية على ما توحى به الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها.

6. الحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر ـ أن السؤالين الأولين بينا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم للمال فناسب أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هي أحق الناس بالإنفاق عليها، وبذل المال في تربيتها وإصلاح شئونها، وهى جماعة اليتامى، كأنه تعالى يذكرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من أموالنا، وأنهم من الأصناف التي تستحق أن ينفق عليها من العفو الزائد على حاجتنا، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع في فضول أموالهم.

7. مما تقدم تعلم، كيف كانت عناية المؤمنين بأحكام دينهم وحفظ حدوده، وكيف شدد سبحانه في الأمر بشأن اليتامى، فلم يأذن في القيام عليهم إلا بقصد الإصلاح ولا بمخالطتهم إلا مخالطة الإخوة، مع توجيه القلوب إلى مراقبته، والتذكير بإحاطة علمه، ومع كل هذا لا نرى من الأوصياء على اليتامى إلا الفساد والإفساد، دون مراقبة لله في أعمالهم، ومراجعة نفوسهم في أفعالهم، غير ناظرين إلى الوعيد الشديد الذي تقشعر من هوله الصمّ الجلاميد.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/149

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي، والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها، واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها، رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم.

2. لقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم، وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى، فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام، عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم، فكان الرجل يكون في حجره اليتيم، يقدم له الطعام من ماله، فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام، فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم، فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته، فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم، والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم، فاليتامى إخوان للأوصياء، كلهم إخوة في الإسلام، أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة، والله يعلم المفسد من المصلح.

3. ليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله، ولكن نيته وثمرته، والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم، ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت، ولكنه لا يريد، وهو العزيز الحكيم، فهو قادر على ما يريد، ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح.

4. وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة.. وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة، فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/232

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾.. خير ما يؤدّى‏ لليتيم من إحسان إليه وبرّ به، هو أن يربّى تربية طيبة، تبلغ به مبلغ الكمال والرشد، حتى يستقل بشئون نفسه، ويتولى رعاية أموره، وتلك هي الأمانة التي جعلها الله في عنق من يقومون على اليتامى، من أولياء وأوصياء، فإذا قصروا فيها كان حسابهم عليها بين يدى الله على قدر ما قصروا.

2. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي وإن تضموهم إليكم وتتولوا عنهم رعاية أمورهم فهم إخوانكم، لهم مكان الأخوة بينكم، وما لهذه الأخوة من حقوق، وفى التعبير عن الإشراف على اليتامى بالمخالطة، إشارة إلى أن هذا الإشراف ينبغي أن يقوم على صلات روحية ونفسية، تمتزج فيها مشاعر الأوصياء على اليتامى بمشاعر هؤلاء اليتامى، ويختلط إحساسهم بإحساسهم، حتى لكأنهم كيان واحد، وذلك هو الذي يعطى اليتيم مكانا متمكنا في قلب الوصيّ وفى أهله الذين يعيش معهم، مختلطا وممتزجا، لا منفصلا ومعتزلا.

3. فى التعبير عن اليتامى بقوله تعالى: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ بدلا من (فأولادكم) كما يقتضيه ظاهر الأمر، إذ اليتيم لا يكون يتيما إلا في حال صغره، الأمر الذي يجعله من الوصيّ بصفة الابن لا الأخ ـ في هذا التعبير تنويه بما ينبغي أن تكون عليه نظرية الوصيّ على اليتيم إلى اليتيم، وهو أن ينظر إليه على أنه مثله وفى درجته، وإن كان في مدارج الصّبا.. فهذه النظرة جدير بها أن تقيم الوصيّ دائما على شعور يقظ، بأنه إنما يتعامل مع إنسان رشيد، يرقب أعماله، ويرصد تصرفاته في شئونه، وهذا الشعور يجعل الوصيّ حذرا في تصرفاته، حريصا على أن يظهر بمظهر الأمين الحريص على مصلحة اليتيم.. ثم إنه من جهة أخرى، سيعمل هذا الشعور عمله عند الوصيّ في الوصول باليتيم إلى مرحلة الرشد في أقصر زمن ممكن، بحكم هذه الأخوة الملازمة له، والمستقرة في شعوره، وهذا شعور معاكس تماما لما يشعر به الأوصياء نحو اليتامى من أنهم لن يكبروا أبدا، حتى يظلوا أكبر زمن ممكن تحت أيديهم! فانظركم أعطت هاتان الكلمتان المباركتان: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ من ثمرات طيبة، وكم تعطيان هكذا أبدا من ثمر طيب مبارك لكل طالب ومريد؟

4. فى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ حماية لهذا الشعور الذي أثاره قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وتغذية دائمة له من أن يضعف، إذ يجد الوصي على اليتيم عين الله ترقبه، وعلمه يحيط بكل ما يعمل لليتيم الذي في يده، من خير أو شر، ومن إصلاح لأمره، ليرشد ويستقلّ بشئونه، أو ليفسد ويظل هكذا تحت يده!

5. فى قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ إشارة إلى أن ما قضت به حكمة الله من تكاليف في شريعة الإسلام، هو مما لا إعنات فيه ولا إرهاق، بل هو مما تحتمله النفوس في متوسط مستوياتها.. فأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها ملتزمة هذا الموقف الوسط، الذي جمع أطراف الناس جميعا، من أقوياء وضعفاء، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكلف بما هو فوق احتمال الناس، أو بما يصيبها بالجهد والإعياء لما كان لأحد أن يعترض، ولكان ذلك شريعة ملزمة، يحلّ العقاب بمن خرج عليها، كما فعل الله سبحانه وتعالى ذلك باليهود، وذلك من باب الابتلاء والفتنة، التي عافى الله سبحانه وتعالى منها هذه الأمة الإسلامية، ورحمها من هذا البلاء.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/248

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان بابا واسعا للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال:

ويكلّلون إذا الرياح تناوحت‏...خلجا تمدّ شوارعا أيتامها

أي تمد أيديا كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾

2. روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة، وأخرج أبو داوود عن ابن عباس لما نزل قول الله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 34] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله‏ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء [34] ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ففي (تفسير الطبري) بسنده إلى ابن عباس: لما نزلت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت‏ ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء.

3. أيا ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان‏ العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالا، وكان جمهور أموالهم حاصلا من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم، فكان جمهور العرب إما زارعا أو غارسا أو مغيرا أو صائدا، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغارا لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالا وإن كثر، وتغلّب ذلك على ملاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيرا مدحورا، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازما لمعنى الخصاصة والإهمال والذل، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: 6]، فلما جاء الإسلام أمرهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية.

4. الإصلاح جعل الشيء صالحا أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر، وصلاح المال نماؤه المقصود منه، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة.

5. ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾ مبتدأ ووصفه، واللام للتعليل أو الاختصاص، ووصف الإصلاح بـ ﴿لَهُمْ﴾ دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله: ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 59] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخا معهودا عنده، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها، ولقد أبدع هذا التعبير، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب.

6. ﴿خَيْرُ﴾ في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطابا للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال:

إن السلامة من سلمى وجارتها...أن لا تحل على حال بواديها

فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثوابا وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطابا لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مرادا من الآية على هذا: التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي.

7. جملة ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ عطف على جملة ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعا يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة.

8. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف (إخوانكم) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم، وهو على معنى التشبيه البليغ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح، ونقل الفخر عن الفراء (لو نصبته كان صوابا بتقدير فإخوانكم تخالطون) وهو تقدير سمج، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به، ولعل الفراء كان جريئا على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية.

9. المقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخوانا كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة، لأنهم لما كانوا إخوانا وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث‏ (حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم، قال تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع.

10. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ وعد ووعيد، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضا ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذ لا يهتمون إلّا بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر.

11. (من) في قوله: ﴿مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في (التسهيل) قائلا (وللفصل) وقال في (الشرح): (وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ و﴿حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبُ﴾ [آل عمران: 179])، وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في (الكشاف) عند قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ في سورة الشعراء وجعله وجها ثانيا فقال: (أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة)، فجعل معنى (من) معنى من بين، وهو لا يتقوم إلّا على إثبات معنى الفصل، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط، وبحث فيه ابن هشام في (مغني اللبيب) أن الفصل حاصل من فعل‏ ﴿يَمِيزَ﴾ ومن فعل‏ ﴿يَعْلَمُ﴾ واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن.

12. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ تذييل لما دل عليه قوله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ على ما تقدم، والعنت: المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقا عليكم وعنتا، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من إخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذرا وتنزها فليس كل ما يبتدئ المرء فعله يستطيع الدوام عليه.

13. حذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه، وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: 20]

14. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تذييل لما اقتضاه شرط (لو) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه، وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبّر عنه بالقضاء والقدر.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/354

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ والإجابة فيه وأساسها أيضا إماطة الأذى عن الجماعة الإسلامية، فإنه إذا كان الإنفاق على الفقراء يحمى المجتمع من الفقر وأهواله وغوائله، فحماية اليتامى وكلاءتهم تحمى المجتمع من أن يكون منهم شريرون يبغضون المجتمع، ويجلبون له الويلات وهم في كنف المجتمع ورعايته، لقد سألوا عن اليتامى أيضمونهم إليهم ويأكلون معهم أم يدعونهم وأموالهم، وكيف يرعونها، وكيف يقومون عليها؟ سألوا هذه الأسئلة وما يشبهها، وقد قرؤوا قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى‏] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام‏] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء] فكانوا من أمرهم في حيرة: إن قاربوهم وأموالهم يخشون على أنفسهم أن ينالوا إثما، وإن تركوهم ضاعوا وهم في كفالة المجتمع كله، فأمر الله نبيه أن يقول لهم أن المطلوب إصلاحهم، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ أي أن المطلوب إصلاحهم وإصلاح مالهم، وذكر إصلاحهم؛ لأنه المقصد الأول، ولأن إصلاح مالهم إصلاح لهم، وخير لكم ولهم، وإصلاح حالهم بالتهذيب والتربية والعطف والمحبة، والرأفة، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم؛ لأن الغلظة معهم تربى فيهم الجفوة، وتنشأ عنها القسوة، فينشئون وهم يبغضون الناس، ويتربصون بهم الدوائر.

2. أثبت علم النفس الجنائي أن روح الإجرام تنبعث عند النشأة الأولى في الغلمان الذين يحسون بأن المجتمع يجفوهم، ويغلظ عليهم فيخافونه ويبغضونه، ويترقبون الفرصة السانحة ليستلبوا المال أو الأرواح، أو ما يمكنهم أن يصلوا إليه، فكان لا بد من تربية اليتيم بالإصلاح والتهذيب، وألا يقهر نفسه حتى لا يجفو فيكون من وراء ذلك الشر المستطير والخطر الكبير.

3. إذا كان المطلوب هو الإصلاح بكل وسائله، وهو الغاية المطلوبة فإن كان الإصلاح بمخالطتهم وضمهم إليهم من غير أن تؤكل أموالهم، فالمخالطة سائغة جائزة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي عند المخالطة استشعروا أنهم إخوانكم في الدين والإنسانية وأبناء إخوانكم، وعاملوهم بتلك الأخوة الرحيمة الرابطة، ولا تنظروا إليهم شذرا، وتؤكلوهم نزرا،؛ لأنهم غرباء عن بيتكم، بل أشعروهم بأنهم دائما في بيت أهلهم وذويهم، حتى لا تتربى نفوسهم على الجفوة فيبغضوا الناس، ويتربصوا بهم الدوائر، ويكون ذلك في طبعهم إذا كبروا وبلغوا أشدهم.

4. ثم قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ وهذا ترغيب في الإصلاح، وترهيب من الفساد؛ لأنه إذا كان يعلم المؤمن أن الله مطلع على ما يفعل، تجنب الشر، وآثر الخير، فتجنب إهمال اليتيم لكيلا يفسد وعمد إلى تهذيبه لكى يكون عضوا عاملا في الجماعة يبنى كما يبنى غيره، وتقوم الجماعة على سواعد قوية يشترك الجميع في إقامتها، ثم إنه إذا علم الله المصلح فسيجزيه خير الجزاء، وما دام يعلم المفسد، فحسابه وعقابه بمقدار فساده.

5. ثم قال سبحانه‏ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ العنت المشقة، وأعنتكم: أوقعكم في المشقة، وذلك بأن يترككم تهملون أيتامكم، فيكونون إلبا عليكم في قابل حياتهم، وشوكة في جنب الدولة، ويكون منهم قطاع الطريق واللصوص والمنتكهون لحرمات المنازل، ويفتكون بمجتمعكم، وينزلون الأذى بكم ولكن الله سبحانه كان من رحمته أن دعاكم إلى العناية باليتامى ليكونوا عاملين بدل أن يكونوا هادمين، وليكونوا قوة للجماعة بدل أن يكونوا قوة عليها هادمة في بنائها.

6. ثم ذيل الله سبحانه الآيات بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ للإشارة إلى ثلاثة أمور:

أ. أولها: أن الله سبحانه عزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء فمن أذل يتيما أذله الله، ومن أعزه أعزه الله سبحانه.

ب. ثانيها: أن الله سبحانه وتعالى هو الغالب على كل شيء، فهو الذي سيجزى القوامين على اليتامى بما يفعلون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

ج. ثالثها: أن هذا التنظيم هو من حكمته ورحمته، فمن رحمته بخلقه أن حثهم على معاونة اليتيم وإصلاحه، والقيام على شئونه، وليكون التراحم بين الناس، وليضعف الشر فيهم، ويكثر الخير والإنتاج، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/711

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، اعتاد أهل الجاهلية أن ينتفعوا بأموال اليتامى، وربما تزوج الرجل اليتيمة أو زوجها من ابنه طمعا في مالها، وبعد الإسلام أنزل الله على نبيه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والقيام بأمورهم، فاختلت مصالحهم، وساءت معيشتهم، وسأل بعض المسلمين عن ذلك، فجاء الجواب من الله: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾، والمعنى لا تحرموا على أنفسكم مخالطة اليتامى، ومقاربة أموالهم إذا قصدتم الإصلاح في تربيتهم وتهذيبهم وادارة أموالهم، بل في ذلك أجر لكم وثواب، وإنما المحرم هو استغلالهم وأكل أموالهم بالباطل.

2. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، قال جماعة من المفسرين: هذا اذن من الله لمن يتولى أمر اليتيم أن يشركه مع عياله في المأكل والمشرب ان كان ذلك أيسر على المتولي، ويستوفي من مال اليتيم بقدر ما أنفق عليه.

3. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، المفسد هو الذي يلي أمر اليتيم ليستغل أمواله، والمصلح من يليها لمصلحة اليتيم بالذات.. وقوله: والله يعلم المفسد تهديد عظيم لمن يبتغي الاستغلال والفساد.

4. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾، الاعنات الضيق في التكليف، والقصد ان الله أباح مخالطة اليتامى مع عيال المتولي، وان يأخذ عوض ما ينفقه عليه من ماله، كي لا يقع المتولي في المشقة والحرج، لأن الله سبحانه يريد بالناس اليسر، ولا يريد بهم العسر.

5. تجدر الاشارة الى انه لا تشترط الدقة والمساواة التامة بين ما يأكله القاصر مع عيال المتولي، وبين ما يستوفيه هذا من مال القاصر، فان الله سبحانه يعفو عما جرى به العرف من المسامحة في التفاوت الذي يتعذر أو يتعسر اجتنابه، بل للمتولي الفقير أن يأكل من مال القاصر بالمعروف، وليس له ذلك ان كان غنيا، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/331

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإن هاهنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ما ورد في سبب نزول الآية.

2. في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾، حيث نكر الإصلاح، دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحا في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: ﴿إِصْلَاحٍ﴾ لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى ـ ذيلا ـ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾

3. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي، وبين الغني المثري والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، وهذه المحاذاة من الشواهد على أن في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، وكما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، فالمعنى: أن المخالطة إن كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت‏ هو الكلفة والمشقة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/198

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ لكم ولهم ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي فهم إخوانكم، عليكم أن تنصفوهم، ولا تستبدوا عليهم.

2. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ فعليكم أن تراقبوه في معاملتكم لليتامى وقيامكم عليهم وعلى أموالهم.

3. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ لشق عليكم في التكليف، وكلفكم ما فيه الوجع الشديد عليكم ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالب لا ينال ﴿حَكِيمٌ﴾ فأمره ونهيه على ما فيه الحكمة.

4. قال الشرفي في (المصابيح): (وفي أحكام هذه الآية يقول إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على وجوب إصلاح اليتامى في أموالهم وتعليمهم فيما يصلح لهم، وتدل على جواز مخالطتهم ومشاركتهم في طعامهم وسائر تصرفاتهم ولا يجب مع ذلك العلم بالتساوي، وأن الله لم يُعنت المسلمين أي لم يحملهم مشقة في ذلك وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ تهديد من الله سبحانه لمن أفسد اليتامى في أموالهم وتعليمهم ما لا يليق بهم وأن ذلك حرام)، وقوله عليه السلام: ولا يجب مع ذلك العلم بالتساوي، يعني عليه السلام مع تحري التساوي وإنما لم يجب تيقن التساوي تيسيراً على العباد، فأما تحري الحق فلا بد منه لئلا يأكل مال اليتيم بغير حق، وقوله التساوي يعني لليتيم بقدره المساوي لما يحتاج الواحد مثله من العائلة، أو ما يحتاج القائم بالإنفاق عليه في مثل حاجة اليتيم وليس مقصوده التساوي بين ما ينفق عليه وما ينفق على غيره على كل حال لأن الإنفاق على قدر الحاجة وهي تختلف باختلاف الناس، فحاجة الصبي في المهد خلاف حاجة الشباب، وحاجة الشيخ خلاف حاجة الشباب، وحاجة المريض خلاف حاجة الصحيح، وحاجة من تحدث به علة يحتاج لأجلها إلى اجتناب ما يضره من المأكولات والإدامات وغيرها واستعمال ما يدفع علته من الدواء والدفء وتخفيف العمل وبعض المأكولات التي لا يحتاجها الصحيح كحاجة ذي العلة، فالتساوي أن يكون لكل بقدر حاجته، وأراد عليه السلام أن ذلك ليس كالمعاوضة في الربويات التي يشترط في جوازها تيقن التساوي.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/325

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ كيف تكون علاقاتهم معهم، في ما يفعلونه في أموالهم وتربيتهم ورعايتهم؟ فقد كانوا يمثلون مشكلة أساسية في الضمير الديني للإنسان المسلم، فقد يتحرّج الكثيرون من التعامل معهم خوفا من الإثم، فقد جاء في الدر المنثور، قال ابن عباس: لما أنزل الله‏ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152]، و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: 10] الآيتين، انطلق كل من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم‏.

2. كان الجواب تحديدا للخط العام والإطار الشامل لذلك: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ فلا بد من دراسة كل أمورهم في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم، لأنهم أمانة الله لدى المجتمع، فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم، كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية في ما يتعلق بحفظها ورعايتها، وقد تكون القضية أبعد عمقا وتأثيرا في جانب اليتامى، لأن إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها قد يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمل والإيمان، لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه، أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد إفساده.

3. ثم أكد القضية من جهة أخرى، فأثار أمامهم موضوع المخالطة لهم‏: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم إخوة في الدين، كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره، وحفظه لماله على هدى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحّة إليهم، فإن ذلك يثقل على نفوسهم، ويهدّم معنوياتهم، ويعقّد حياتهم، ويعطّل نموهم الطبيعي في الحياة، وربما كانت هذه الفقرة واردة في الإذن لهم في ما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو ذلك، ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام، وعن الحسن وغيره، وهو الوارد والمروي في أخبارنا ـ كما في مجمع البيان‏ ـ.

4. تختم الآية الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، وذلك بالإيحاء بأن الله يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها، ويعلم المفسد من المصلح في ما يقومان به من الإفساد والإصلاح، ويحاسب كلا منهما على ما عمله من خير أو شر.

5. ثم أكّد عليهم بأن الله يريد للناس من خلال تشريعاته أن يحقق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة، فتلك هي مشيئته في ما يريد للناس من حياة، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ لأوقعهم في العنت، وهو المشقة، وفي ضوء ذلك، لا بد للإنسان من أن يفهم التشريع في كل ما يحلّله وما يحرّمه من أمور الحياة، حتى في الأمور التي يشعرون معها بالتعب والمعاناة، فإن نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية.

6. كانت خاتمة الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ باعتبار أن عزته توحي بقوة مشيئته، كما أن حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان.

7. قد يستوحي الفقيه من قوله سبحانه: ﴿قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ أن التصرف في أمر اليتيم، سواء كان متعلقا بماله أو بحياته الخاصة والعامة، لا بد أن تكون فيه مصلحة له، لأن ذلك هو الذي يتبادر من قوله: ﴿إِصْلَاحٌ لَهُمْ﴾ كما يتبادر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152] فلا يكفي في شرعيته أن لا يكون ذلك مفسدة له، ولا بد من التأمل في ذلك، وفي‏ كل مورد من موارد الولاية الشرعية المجعولة للإنسان على القاصر الذي لا يملك إدارة شؤون نفسه وتدبير أموره، فإن القضية تتصل بإصلاح أمره، وتنمية ماله، وتوجيه حياته نحو النتائج الجيدة التي تحقق له المصلحة في كل أموره.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/232

الشيرازي:

لم يفصل ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع، واكتفى بالإشارة إليه، كما ذكرنا في المقطع السابق، وبقوله: تذكر الآية الكريمة السؤال الرابع وجوابه وتقول: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾(1)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/117

98. الزواج بين المسلمين والمشركين ومعايير الكفاءة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈98⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) ـ في حديث طويل ـ انه قال لامرأة: ألك ولي؟ قالت: نعم هؤلاء إخوتي فقال لهم: أمري فيكم وفي أختكم جائز؟ قالوا: نعم، فقال الإمام علي: أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أنّي قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام بأربعمائة درهم والنقد من مالي(1).

__________

(1) الكافي: 7/423/6

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا من غني ـ يقال له: مرثد بن أبي مرثد، حليفا لبني هاشم ـ إلى مكة؛ ليخرج ناسا من المسلمين بها أسراء، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته، فقالت: ويحك يا مرثد، ألا نخلو! فقال لها: إن الاسلام قد حال بيني وبينك، وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استأذنته في ذلك، ثم تزوجتك، فقالت له: أبي تتبرم!؟ ثم استغاثت عليه، فضربوه ضربا شديدا، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم راجعا، وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق، وما لقي في سببها، فقال: يا رسول الله، أيحل أن أتزوجها؟ فأنزل الله ينهاه عن ذلك قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ (1).

2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾، فحجز الناس عنهن، حتى نزلت الآية التي بعدها: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ [المائدة: ٥]، فنكح الناس نساء أهل الكتاب(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وإنه غضب عليها، فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبره خبرها، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما هي، يا عبد الله؟) قال تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: (يا عبد الله، هذه مؤمنة)، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق، لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمة! وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم؛ فأنزل الله فيهم: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ (3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، فقال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: ٥] (4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ نسخت، وأحل من المشركات نساء أهل الكتاب(5).

6. روي عن شهر بن حوشب أنّه قال: سمعت ابن عباس يقول: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: ٥]، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى هم بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلق، يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء أنتزعهن(6).

__________

(1) الواحدي في أسباب النزول: ص ١٨٨

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٧

(3) الواحدي في أسباب النزول: ص٧٣

(4) ابن جرير: ٣/٧١٢

(5) البيهقي في سننه: ٧/١٧١

(6) ابن جرير: ٣/٧١٤

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه نكاح نساء أهل الكتاب، ويتأول: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ (1).

2. روي أنّه كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية، قال حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى، أو عبد من عباد الله(2).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٤/١٥٨

(2) البخاري: ٥٢٨٥

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ يعني: أهل الأوثان(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧١٣ ـ: ٧١٤

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنه سئل عن تزويج اليهودية والنصرانية، فقال: لا بأس به، فقلت: أليس الله يقول: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾!؟ قال: إنما ذاك المجوسيات، وأهل الأوثان(1).

__________

(1) ابن الجوزي في نواسخ القرآن: ص٢٠٢ ـ: ٢٠٣

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ نساء أهل مكة من المشركين، ثم أحلّ منهن نساء أهل الكتاب(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٣

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ برفع التاء(1).

2. روي عن ابن مهزيار قال كتب علي بن أسباط إلى الإمام الباقر في أمر بناته وأنه لا يجد أحدا مثله، فكتب إليه الإمام الباقر أنّه قال: فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحدا مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير(2).

3. روي عن الحسين بن بشار الواسطي قال كتبت إلى الإمام الباقر أسأله عن النكاح؟ فكتب إليّ: من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير(3).

4. روي أنّه قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يستأمره في النكاح، فقال: نعم، انكح وعليك بذوات الدين تربت يداك(4).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧١٩

(2) الكافي: 5/347/2

(3) الكافي: 5/347/1

(4) التهذيب: 7/401/1600

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ لا يحل لك أن تنكح يهوديا أو نصرانيا ولا مشركا من غير أهل دينك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ إلى: ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾ ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (والذي نفس محمد بيده، لتدخلن الجنة إلا من أبى(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية(3).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢٦٧٨

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٩

(3) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٨٩

حماد:

روي عن حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾: أهل الأوثان: المجوس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٩٧

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ معناه ممّن لسن من أهل الكتاب(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 99

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُم﴾، فنسخ منها ما أحل من المشركات من نساء أهل الكتاب من اليهود والنصارى في النكاح(1).

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للزهري: ص٢١

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُم﴾، فنسخ، واستثنى منها؛ فأحل من المشركات نساء أهل الكتاب في سورة المائدة [٥]، قال الله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ (1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٣/٦٧

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من ولد يكون عليّ ربا، ومن مال يكون عليّ ضياعاً، ومن زوجة تشيبني قبل أوان مشيبي، ومن خليل ماكر(1).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 3/246/1166

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية:

أ. فقال قائلون‏: الحظر على كل مشرك ومشركة ـ كتابيّا كان أو غير كتابي ـ ثم نسخ بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، فالإماء على الحصر؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5]

ب. وقال آخرون: هو على المشركات خاصة دون الكتابيات، والكتابيات مستثنيات، فدخلت كل كتابية ـ حرة كانت أو أمة ـ تحت الاستثناء؛ لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدين دون بعض، والذى يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ فجعل الأمة المؤمنة خيرا بالنكاح من المشركة، ومن قوله إنه بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة، فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله على أن الإماء يدخلن تحت قوله عزّ وجل: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ دليله قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، فثبت أنهن قد يتعففن فيستوجبن اسم الإحصان، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان، وقوله أيضا: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور: 33]، وقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 24]، مستثنيا الإماء من جملة المحصنات؛ دل أنهن دخلن في الخطاب، وقد أجمع على أنهن تحل لنا بالسبي، وكل مذكور في الكتاب يستوى الحل فيه إلا من جهة العدو، فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن كالحرائر، ثبت أنه محكوم بحكمهن في النكاح، فبطل قول من أبطل نكاح الإماء؛ إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال وبالله التوفيق.

2. الآية تضمنت أحكاما:

أ. منها: أن من قول أصحابنا(2): أن المناهي بحيث النهى لا توجب الحرمة.

ب. الثاني: أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ومخرج الخطابين واحد.

ج. الثالث: أن في الآية ذكر المنع، لعلة وهى الدعوة إلى النار، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجب الحرمة على وجوده؟ وهذا هو الأصل: أن تحفظ الأحكام المعللة بالعلل ما دامت توجد العلل.

د. الرابع: البيان في تولى النكاح؛ إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾

3. أما قولنا في النهى: فإن النهى يوجب الانتهاء، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهى، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة، فلو كان‏ نفس النهى موجبا ذلك لوجب أن يوجب في كل ذلك، فلما لم يوجب ذلك، دل أن نفسه لا توجب الحرمة، ولكن الدليل هو الموجب للحرمة.

4. أما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم: فذلك جائز عندنا، خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص، وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه، ومن ذلك قوله عزّ وجل: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ [المائدة: 12]، عقل إيجاب تعظيم الرسل [والأنبياء والإيمان لهم على العموم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض‏]، وكذا قوله: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [التوبة: 120]، فالتخلف غير موجود في بعض الأحيان، وإنّ حق النهى عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع، فعلى ذلك هاهنا يجوز خروجه عامّا يخص بالعقول.

5. أما قولهم: وجوب الحكم لعلة، وهو الدعاء إلى النار، فله وجهان:

أ. أحدهما: أن الكتابى أقر بكتاب‏ بمثله.

ب. الثاني: أن علة الحظر قوله: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء، وهم الأمراء على الزوجات، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم؛ لذلك أبيح، ثم الأصل: أن النكاح جعل لأمرين: إما لإبقاء النسل، وإما للتحصن والتعفف عن السفاح، ثم قد ينكح من لا نسل فيه، فما بقى إلا وجه المنع عن السفاح، ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح، بهذا لم يبح النكاح.

6. ثم الدلالة على تخصيصها على وجهين:

أ. أحدهما: قول الخصوم بالنسخ: أنه ورد على بعض دون بعض، وما ذلك إلا الخصوص.

ب. الثاني: أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجر بحيث إظهار ما يحل وما يحرم، إذ شرط نكاحهن إنما هو عند العجز عن الحرائر، فجرى الذكر فيهن، إذ هن الأصل في عقود النكاح، وأن الإماء دخيلات في حق النكاح، وإنما جرى الذكر في حلهن بملك اليمين؛ لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء في قوله: والْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5]؛ لما أوجب لهن العفة والتحصن بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25]، وبقوله: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء: 25]

7. أما قولهم: خاطب الأولياء في النهى بقوله: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، وخاطب الأولياء أيضا في الأمر بإنكاح الأيامى بقوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ فدل أن الولي شرط في جواز النكاح، فجوابنا:

أ. أنه إنما خاطب الأولياء في النهى عن النكاح، وفى الأمر بالنكاح، لما العرف في الأمة ألّا يتولى النساء النكاح] بأنفسهن، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضائهن وأمرهن وتدبيرهن؛ لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص الأولياء بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح، ألا ترى أنه ذكر في الآية (الصلاح) بقوله: ﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ لم يصر ذلك شرطا في الجواز، فعلى ذلك الأولى، وهذا يدل أيضا على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة، نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين المشركات من غير الكتابيات، فإذا كان محتملا ما ذكرنا، لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾:

أ. قال قوم: هو في غير الكتابيات، يبين ذلك قوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، فنسق الكتابيات بالإحلال على ما لم يختلف فيه أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ولا من قبل ذلك نحو الطيبات من الطعام ـ من طعام المؤمنين‏ وأهل الكتاب ونحو المحصنات من المؤمنات، فمثله الكتابيات، إذ نسق نكاحهن على من ذكر، ولو كان التأويل هذا، كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات؛ فلا يكون في الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب، ولا النهى عن ذلك، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا، بدليل آخر سوى هذه الآية.

ب. وقال قوم: الآية في جميع المشركات والكتابيات، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة، وكان النسخ بشرط الإحصان، فبقيت الإماء على الحرمة، دليل ذلك وجوه:

أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، أنه يدخل في ذلك الكتابى وغيره؛ فكذا في الأول.

الثاني: قوله تعالى: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ.. الآية.

الثالث: أن الكتابى مشرك في الحقيقة، إذ هو بما لا يغفر له، والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء؛ فلذلك كان على ما ذكرت.

9. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالزواج من أهل الكتاب، وانتصاره لما يقوله الحنفية، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

10. قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير الله، وذلك دعاء إلى النار، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك، إذ هو المقصود من الثاني، وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذي له الجزاء.

ب. ويحتمل: ﴿يُدْعَوْنَ﴾ في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة الله تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح، والله يدعو الى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته.

11. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ يعنى: يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ يعنى يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/123

(2) يقصد الحنفية

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ هذه الآية محكمة عندنا وليس للمسلم أن يتزوج المشركة من أهل الكتاب أو من غيره، وقد روي أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب لذلك وكان النكاح في ولايته حتى هم أن يسطو عليهما فقالا: نحن نطلق يا أبا حفص فلا تغضب فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن انتزعوهن منكم صغرة وقمأة.

2. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ المراد: ولنكاح أمة مؤمنة خير من مشركة من أهل الكتاب وإن شرف نسبها وعظم أصلها وهذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن رواحة كانت له أمة فحطت عليه حرة مشركة ذات شرف وجمال فلم يقبلها وأعتق أمته وتزوجها فطعن عليه ناس فأنزل الله تعالى هذا فيه قوله: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ ولذلك لا يجوز نكاح المشرك.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/108

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنها في جميع المشركات الكتابيات وغير الكتابيات، وأن حكمها غير منسوخ، فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة أبدا، وذكر أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية، ونكح حذيفة نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى كاد يبطش بهما، فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن ينزعن منكم صغرة قمأة.

ب. الثاني: أنها نزلت مرادا بها مشركات العرب، ومن دان دين أهل الكتاب، وأنها ثابتة لم ينسخ شيء منها، وهذا قول قتادة، وسعيد بن جبير.

ج. الثالث: أنها عامة في جميع المشركات، وقد نسخ منهن الكتابيات، بقوله تعالى في المائدة: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾

2. المراد بالنكاح التزويج، وهو حقيقة في اللغة، وإن كان مجازا في الوطء، قال الأعشى:

ولا تقربن جارة إنّ سرّها...عليك حرام فانكحن أو تأبّدا

أي فتزوج أو تعفف.

3. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ يعني ولنكاح أمة مؤمنة، خير من نكاح حرة مشركة من غير أهل الكتاب وإن شرف نسبها وكرم أصلها، قال السدي: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، فلطمها في غضب، ثم ندم، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: (ما هي يا عبد الله) قال تصوم، وتصلّي، وتحسن الوضوء، وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله: (هذه‏ مؤمنة)، فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى هذا.

4. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ يعني جمال المشركة وحسبها ومالها، ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ هذا على عمومه إجماعا، لا يجوز لمسلمة أن تنكح مشركا أبدا، روى الحسن عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا).. وفي هذا دليل على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/281

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نكح ينكح نكحاً ونكاحاً: إذا تزوج، وأنكح غيره إنكاحاً، إذا زوّجه وتناكحوا تناكحاً، وناكحه مناكحة قال الأعشى:

ولا تقربنَّ جارة إن سرّها...عليك حرام فانكحن أو تأبدا

أي تعفف وأصل الباب التزويج.

2. هذه الآية على عمومها ـ عندنا(2) ـ في تحريم مناكحة الكفار، وليست منسوخة ولا مخصوصة، وقال ابن عباس في رواية شهر بن حوشب عنه قال فرق‏ عمر بين‏ طلحة وحذيفة وبين إمرأتيهما اللتين كانتا عندهما، وقال غيره: عن ابن عباس، وإليه ذهب الحسن، ومجاهد والربيع: هي عامة إلا أنها نسخت بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، وقال قتادة، وسعيد بن جبير: هي على الخصوص، وإنما اختير ما قلناه لانه لا دليل على نسخها، ولا على خصوصها، وسنبين وجه الآية في المائدة اذا انتهينا إليها، فأما المجوسية، فلا يجوز نكاحها إجماعا، والذي لايجوز: أن يتزوج مسلمة إجماعا، وامراحا واجبارا.

3. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ الامة: المملوكة، يقال أقرت بالاموة أي بالعبودية وأميت فلانة، وتأميتها اذا جعلتها أمة قال الراجز: يرضون بالتعبيد والتآمي وجمع أمة إماء وأآم وأصل الباب العبودية، وأصل أمة فعلة بدلالة قولهم إماء واآم في الجمع نحو أكمة وآكام وآكم.

4. الفرق بين ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وبين إن أعجبكم: أن لو للماضي وإن للمستقبل وكلاهما يصح في معنى الآية، ولا يجوز نكاح الوثنية إجماعاً، لأنها تدعو الى النار كما حكاه الله تعالى، وهذه العلة بعينها قائمة في الذمية من اليهودية والنصارى، فيجب أن لا يجوز نكاحها.

5. في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول، لقوله:‏ ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ فأما الآية التي في النساء، وهي قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا﴾ فإنما هي على التنزيه دون التحريم، ومتى أسلم الزوجان معاً ثبتا على النكاح ـ بلا خلاف ـ وبه قال الحسن، وإن أسلمت قبله طرفة عين، فقد وقعت الفرقة ـ عند الحسن، وكثير من الفقهاء، وعندنا ينتظر عدتها فان أسلم الزوج بنينا أن الفرقة لم تحصل، ورجعت إليه، وإن لم يسلم بنينا أن الفرقة وقعت حين الإسلام غير أنه لا يمكن من الخلو بها، فان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف، وإن كانت وثنية انتظر إسلامها ما دامت في العدة، فان أسلمت ثبت عقده عليها، وإن لم تسلم بانت منه.

6. سؤال وإشكال: كيف قيل للكافر الموحد مشرك! والجواب: فيه قولان:

أ. أحدهما: أن كفره نعمة الله بمنزلة الاشراك في العبادة في عظم الجرم.

ب. والآخر ذكره الزجاج ـ وهو الأقوى ـ، لأنه إذا كفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقد أشرك فيما لا يكون إلا من عند الله، وهو القرآن بزعمه أنه من عند غيره.

7. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ معناه أحد أمرين:

أ. أحدهما: بإعلامه.

ب. والآخر ـ بأمره، وهو قول الحسن، وأبي علي وغيرهما.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/218

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النكاح: اسم يقع على العقد والوطء، واختلفوا في أصله، فقيل: أصله العقد، وقيل: أصله الوطء، ثم كثر حتى قيل للعقد: نكاح، كما تسمى الحرب غدرة، وهي اسم للمعنى، والذبيحة: عقيقة، وهي اسم للشعر عن المفضل.

ب. الأمة: المملوكة، ووزنه فعلة نحو أكمة.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾:

أ. قيل: نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسًا من المسلمين، وكان رجلا قويًّا شجاعًا فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى، وكانت خليلة في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي، فقال: حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع استأذن في تزويجها، فنزلت الآية.

ب. وقيل: إن قوله: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ نزلت في أمة سوداء تسمى خنساء لحذيفة، فقال حذيفة: يا خنساء ذكرك الله في كتابه مع دمامتك، وأعتقها وتزوج بها.

ج. وقيل: نزلت في أمة لعبد الله بن رواحة سوادء ضربها، ثم سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: وما هي؟ فقال: هي تشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء وتصلي، فقال: هذه مؤمنة، فقال عبد الله: أعتقها وأتزوج بها، ففعل فلاموه، وعرضوا عليه نكاح مشركة، فنزلت الآية.

3. لما تقدم ذكر المخالطة بين من يجوز مخالطته بالنكاح، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾:

أ. قيل: لا تتزوجوا.

ب. وقيل: حرم الوطء والعقد.

4. ﴿الْمُشْرِكَاتِ﴾ يعني النساء المشركات ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ يصدقن الله ورسوله ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ مملوكة مصدقة مسلمة ﴿خَيْرٌ مِنْ﴾ حرة ﴿مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ مالها وجمالها وحسنها.

5. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ يعني لا تُزوِّجوا المسلمة من المشرك حتى يؤمن ويسلم: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ مطيع لله مؤمن به ﴿خَيْرٌ مِنْ﴾ حر ﴿مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ ماله وحاله وجماله.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني المشركين ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ يعني إلى الكفر والمعاصي التي هي سبب دخول النار ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ إلى الإيمان والطاعة التي هي موجبة للجنة ﴿وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾:

أ. أي بما يأمر ويأذن فيه من الشرائع والأحكام، عن الحسن وأبي علي.

ب. وقيل: بإعلامه.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ﴾:

أ. قيل: حججه.

ب. وقيل: أوامره ونواهيه، وما يحظره ويبيحه، عن أبي مسلم.

8. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لكي يتذكروا ويتعظوا.

9. اختلف في معنى المشركة:

أ. منهم من قال: المراد به الثنوية والمجوسية دون أهل الكتاب، ولأن الشرك متى أطلق لم يقع على أهل الكتاب؛ ولذلك قال: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ ففصل بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ابتدأ ببيان لتحليل نكاحهن، ولا نسخ ولا تخصيص في الآية.

ب. ومنهم من قال: إن الآية تتناول كل الكفار؛ لأن الشرك من حيث الشرع ينطلق على الكل، ثم اختلف هَؤُلَاءِ على ثلاثة أقوال:

فزعم بعضهم أن الآية منسوخة في الكتابيات بالآية في المائدة، عن ابن عباس والحسن ومجاهد والربيع.

وزعم بعضهم أنها مخصوصة بها، عن سعيد بن جبير وقتادة.

وزعم بعضهم أنها على ظاهرها في تحريم نكاح كافرة كتابية كانت أو مشركة، روي ذلك عن ابن عمر ومحمد بن علي، وهو مذهب يحيى الهادي والقاسم، وتأول الهادي في الأحكام آية المائدة إذا أسلمت بعد أن كانت كتابية، إلا أنه يبطل فائدة تخصيص الكتابيات بالذكر.

10. أكثر الصحابة والفقهاء على جواز نكاح الكتابيات، قال القاضي: والصحيح أن تحريم الكتابيات منسوخ؛ لأن هذه الآية متقدمة، وآية المائدة متأخرة، ولا يحمل على التخصيص؛ لأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الخطاب.

11. اختلفوا في نكاح الأمة الكتابية، فعندنا يجوز أن يتزوج بها، وقال الشافعي: لا يجوز، وإذا جاز وطْؤُها بملك اليمين جاز بعقد النكاح كالمسلمة، وعكسه الوثنية.

12. سؤال وإشكال: كيف علل بأن المشرك يدعو إلى النار، والكتابية كذلك؟ والجواب: فيه وجوه:

أ. أحدها: أنه تعليل لمنع نكاح المسلمة من الكافر، والغالب أنه يدعوها إلى دينه، وأن الرجل لا يتبعها في دينها.

ب. ثانيها: أنها تدعو بما هي عليه من الكفر إلى التقصير في الجهاد، وأهل الكتاب متى كانوا ذمة يسقط فيهم فرض القتال.

ج. ثالثها: أن ذلك على العموم وكان في ابتداء الإسلام حيث أمر بمناصبة الحرب والعداوة للكفار فمنع من النكاح لئلا يؤثر ألفة النكاح فيما يجب من العداوة، فلما قوي الإسلام، وصار أهل الكتاب ذمة لنا أبيح التزويج بهن؛ لأن الفساد مأمون.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. تحريم نكاح المشركة.

ب. جواز نكاح الأمة مع القدرة على طَوْلِ الحرة؛ لأن من قدر على طَوْلِ حرة كتابية قدر على طَوْلِ مسلمة؛ لأن حكم المهر لا يختلف، عن أبي علي.

ج. تحريم تزويج الكافر بالمسلمة، وهي عامة بالإجماع: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ﴾ تعليل لهذا؛ لأن الغالب أن الزوج يدعو زوجته إلى دينه.

د. يدل قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أنه أراد من عباده التذكر، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في الإرادة.

هـ. أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك، والظاهر أن المراد بالإيمان التصديق لجواز نكاح الفاسق والفاسقة، ولأن حقيقة المؤمن المستحق الثواب لا تعلم، فلا يجوز أن يقف عقد النكاح عليه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/888

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النكاح: اسم يقع على العقد والوطء، وقيل: إن أصله الوطء ثم كثر حتى قيل للعقد نكاح، كما أن الحدث يسمى عذرة وهي اسم للفناء، ويسمى غائطا وهو اسم للمكان المطمئن، يقال: نكح ينكح نكاحا: إذا تزوج، وأنكحه غيره: زوجه.

ب. الأمة: المملوكة، يقال: أمة بينة الأموة، وأميت فلانة وتأميتها: إذا جعلتها أمة، وأصل أمة فعلة بدلالة قولهم في جمعها إماء وآم، نحو أكمة وإكام وآكم.

2. نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان قويا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها، فأبى وكانت خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ حنى استأذن رسول الله، فلما رجع استأذن في التزوج بها، فنزلت الآية.

3. لما تقدم ذكر المخالطة، بين تعالى من يجوز مخالطته بالنكاح، فقال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ أي: لا تتزوجوا النساء الكافرات ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ أي: يصدقن بالله ورسوله، وهي عامة عندنا(2) في تحريم مناكحة جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وليست بمنسوخة، ولا مخصوصة، واختلفوا فيه:

أ. فقال بعضهم: لا يقع اسم المشركات على أهل الكتاب، وقد فضل الله بينهما فقال ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾، ﴿وما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين﴾، وعطف أحدهما على الآخر فلا نسخ في الآية ولا تخصيص.

ب. وقال بعضهم: الآية متناولة جميع الكفار، والشرك يطلق على الكل، ومن جحد نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقد أنكر معجزه، وأضافه إلى غير الله، وهذا هو الشرك بعينه، لأن المعجز شهادة من الله له بالنبوة،ثم اختلف هؤلاء:

فمنهم من قال: إن الآية منسوخة في الكتاب بالآية التي في المائدة: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

ومنهم من قال: إنها مخصوصة بغير الكتابيات، عن قتادة وسعيد بن جبير.

ومنهم من قال: إنها على ظاهرها في تحريم نكاح كل كافرة، كتابية كانت أو مشركة، عن ابن عمر وبعض الزيدية، وهو مذهبنا، وسيأتي بيان آية المائدة في موضعها إن شاء الله.

4. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ معناه: مملوكة مصدقة مسلمة، خير من حرة مشركة ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ ولو أعجبتكم بمالها أو حسبها أو جمالها،وظاهر هذا يدل على أنه يجوز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول، فأما قوله: ﴿فمن لم يستطع منكم طولا﴾ الآية، فإنما هي على التنزيه دون التحريم،﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ معناه: ولا تنكحوا النساء المسلمات جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، حتى يؤمنوا، وهذا يؤيد قول من يقول إن قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ يتناول جميع الكافرات.

5. ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ أي: عبد مصدق مسلم، خير من حر مشرك، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ ماله أو حاله أو جماله، والفرق بين ولو أعجبكم وبين وإن أعجبكم أن لو للماضي، وإن للمستقبل، وكلاهما يصح في معنى الآية، وهو من العجب الذي هو بمعنى الاستعظام، وليس من التعجب.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني المشركين ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ يعني إلى الكفر والمعاصي التي هي سبب دخول النار، وهذا مثل التعليل، لأن الغالب أن الزوج يدعو زوجته إلى دينه ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ أي: إلى فعل ما يوجب الجنة ﴿وَالْمَغْفِرَةِ﴾ من الإيمان والطاعة.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾:

أ. قيل: أي: بأمره يعني: بما يأمر ويأذن فيه من الشرائع والأحكام، عن الحسن والجبائي.

ب. وقيل: بإعلامه.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾:

أ. قيل: أي: حججه.

ب. وقيل: أوامره ونواهيه، وما يحظره ويبيحه للناس.

9. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: لكي يتذكروا، أو يتعظوا.

10. مسائل نحوية:

أ. ﴿يُؤْمِنْ﴾: في محل النصب بأن مضمرة، وأن يؤمن: في موضع جر بحتى، وحتى: يتعلق بتنكح، و﴿مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾: من يتعلق بخير، والجار والمجرور في محل النصب بأنه مفعول به.

ب. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾: جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره ولو أعجبتكم أمة مشركة لأمة مؤمنة خير منها، ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾: المفعول الثاني محذوف تقديره ولا تنكحوا المشركين الأزواج حتى يؤمنوا.

ج. إعراب قوله ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾، وقوله ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ مثل ما قلنا في ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/560

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن رجلا يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد، ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئت تزوّجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، استأذنته في ذلك، فقالت: أبي يتبرّم!؟ واستغاثت عليه، فضربوه ضربا شديدا، ثم خلّوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فسأله: أتحلّ لي أن أتزوّجها؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنويّ.

ب. الثاني: أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبره خبرها؛ فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (وما هي يا عبد الله)؟ فقال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء، وتشهد أنّ لا إله إلّا الله، وأنك رسول الله، فقال: (يا عبد الله، هذه مؤمنة)، فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوّجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين، وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية، رواه السّدّيّ عن أشياخه.

2. ذكر بعض المفسّرين أن قصة عناق وأبي مرثد كانت سببا لنزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾، وقصة ابن رواحة كانت سببا لنزول قوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾

3. النّكاح: قال المفضّل: أصل النّكاح: الجماع، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح، وقد حرّم الله عزّ وجلّ نكاح المشركات عقدا ووطأ، وفي (المشركات) هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه يعم الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين‏.

ب. الثاني: أنه خاصّ في الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنّخعيّ، وقتادة.

4. في المراد بالأمة قولان:

أ. أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون المعنى: ولنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرّة مشركة، وهو أصحّ.

ب. الثاني: أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، هذا قول الضحّاك.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: بجمالها وحسنها.

ب. الثاني: بحسبها ونسبها.

6. اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية:

أ. فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات: هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله، وإن جحدوا بنبوّة نبيّنا، قال شيخنا: وهو قول فاسد من وجهين:

أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقّهم حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.

الثاني: أن كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند الله، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك.

ب. فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك قولان:

أحدهما: أن بعض حكمها منسوخ بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكما.

الثاني: أنها ليست بمنسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع المشركات، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة؛ فدليل خاصّ، وهو قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فهذه خصّصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا عامّة الفقهاء، وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، وابن عباس‏.

7. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، أي: لا تزوّجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا؛ والكلام في قوله تعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾، مثل الكلام في أول الآية.

8. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾، قرأ الجمهور بخفض (المغفرة) وقرأ الحسن، والقزّاز، عن أبي عمرو، برفعها.

__________

(1) زاد المسير: 1/188

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ هذه الآية نظير قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10] وقرئ بضم التاء، أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن.

2. اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلق بما تقدم:

أ. فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم.

ب. وقال أبو مسلم: بل هو متعلق بقصة اليتامى، فإنه تعالى لما قال ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: 220] وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف.

3. اختلف الناس في لفظ النكاح:

أ. فقال أكثر أصحاب الشافعي: إنه حقيقة في‏ العقد، واحتجوا عليه بوجوه:

أحدها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشهود) وقف النكاح على الولي والشهود، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء.

الثاني: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح) دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء، فلو كان النكاح اسما للوطء لامتنع كون النكاح مقابلا للسفاح.

ثالثها: قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور: 32] ولا شك أن لفظ ﴿أَنْكِحُوا﴾ لا يمكن حمله إلا على العقد.

رابعها: قول الأعشى، أنشده الواحدي في (البسيط):

فلا تقربن من جارة إن سرها...عليك حرام فانكحن أو تأيما

وقوله: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ﴾ لا يحتمل إلا الأمر بالعقد، لأنه‏ قال: (لا تقربن جارة) يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء.

ب. وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة: إنه حقيقة في الوطء، واحتجوا عليه بوجوه:

أحدها: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح، والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء.

ثانيها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون) أثبت النكاح مع عدم العقد.

ثالثها: أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء، يقال: نكح المطر الأرض إذا وصل إليها، ونكح النعاس عينه، وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى، وقال الشاعر:

التاركين على طهر نساءهم‏...والناكحين بشطي دجلة البقرا

وقال المتنبي:

أنكحت صم حصاها خف يعملة...تعثرت بي إليك السهل والجبلا

ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد، فوجب حمله عليه.

ج. ومن الناس من قال النكاح عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعا، قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرقت العرب في الاستعمال فرقا لطيفا حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة: أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا غير المجامعة، لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة، فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث، وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح.

4. اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب، فأنكر بعضهم ذلك، والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار، ويدل عليه وجوه:

أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30] ثم قال في آخر الآية: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31] وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب‏ بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن كفرهما شرك.

ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73] فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة، والأول باطل، لأن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه قادرا ومن كونه حيا، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة مستقلة، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك، وقول بإثبات الآلهة، فكانوا مشركين، وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك؛ وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

د. رابعها: ما روي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلم أمر أميرا وقال: إذا لقيت عددا من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، سمى من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك، فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك.

هـ. خامسها: ما احتج به أبو بكر الأصم فقال: كل من جحد رسالته فهو مشرك، من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر، وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى، بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين، لأنهم كانوا يقولون فيها: إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين، فالقوم قد أثبتوا شريكا لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر، فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادرا على خلق هذه الأشياء، واعترض القاضي فقال: إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من الأمور الخارجة عن قدرة البشر، فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركا، أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركا بسبب ذلك إلى غير الله تعالى، والجواب: أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا، إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر، فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركا، كما أن إنسانا لو قال إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركا فكذا هاهنا.

5. احتج من ذكر أن اليهودي والنصراني لا يدخلان تحت اسم المشرك، بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر، وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك، وإنما قلنا إنه تعالى فصل لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [الحج: 17]، وقال أيضا: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 105]، وقال: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: 1]، ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر، وذلك يوجب التغاير، والجواب: أن هذا مشكل بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ [الأحزاب: 7]، وبقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيها على كمال‏ الدرجة في ذلك الوصف المذكور، قلنا: فههنا أيضا إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيها على كمال درجتهم في هذا الكفر.

6. القائلون بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين:

أ. فقال قوم: وقوع هذا الاسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك.

ب. وقال الجبائي والقاضي هذا الاسم من جملة الأسماء الشرعية، واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسمى كل من كان كافرا بالمشرك، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلها أصلا أو كان شاكا في وجوده، أو كان شاكا في وجود الشريك، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكرا للبعث والقيامة، فلا جرم كان منكرا للبعثة والتكليف، وما كان يعبد شيئا من الأوثان، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون: إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم، بل كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية، بل من الأسماء الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرهما، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم.

7. بناء على الاختلاف في إطلاق الشرك وقع الخلاف في أهل الكتاب:

أ. الذين قالوا: إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا: إن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ نهي عن نكاح الوثنية.

ب. أما الذين قالوا: إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا: ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلا، سواء كانت من أهل الكتاب أو لا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا:

فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية.

وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام.

8. احتج القائلون بأنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية بما يلي:

أ. قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد منه: من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب؟ قلنا: هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أولا أحل المحصنات من المؤمنات، وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر، ومن كن على الإيمان من أول الأمر، ولأن قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 101] يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة، ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات، وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك، فكان هذا إجماعا على الجواز.

ب. نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام؟ فقال: لا ولكنني أخاف.

ج. وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا)

د. ويدل عليه أيضا الخبر المشهور، وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزا لكان هذا الاستثناء عبثا.

9. احتج القائلون بأنه لا يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية بأمور:

أ. أولها: أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ صريح في تحريم نكاح الكتابية، والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر، فوجب المصير إليه، ثم قالوا: وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ والوصف إذا ذكر عقيب الحكم، وكان الوصف مناسبا للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار، وهذه العلة قائمة في الكتابية، فوجب القطع بكونها محرمة.

ب. الثانية: لهم: أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل، ووجه الاستدلال أن الأصل في الأبضاع الحرمة، فلما تعارض دليل الحرمة تساقطا، فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين، فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا هاهنا.

ج. الثالثة: لهم: حكى محمد بن جرير الطبري في (تفسيره) عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات، واحتج بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5] وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها.

د. الرابعة: التمسك بأثر عمر: حكي أن طلحة نكح يهودية، وحذيفة نصرانية، فغضب عمر عليهما غضبا شديدا، فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال: إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم.

10. احتج القائلون بأنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية على ما ذكره المخالفون بما يلي:

أ. أن من قال اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط، ومن سلم ذلك قال إن قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5] أخص من هذه الآية، فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ ناسخا، وإن لم تثبت جعلناه مخصصا، أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه.

ب. أن قولهم (تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار، وهذا المعنى قائم في الكتابية)، غير صحيح، فالفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة، فلعل الزوج يحبها، ثم إنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذمية، لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة، فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة.

ج. أن قولهم (إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا)، فنقول: لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع، فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر، فلم يحصل سبب الترجيح فيه، أما قوله هاهنا: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5] أخص من قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ مطلقا، فوجب حصول الترجيح.

د. أما التمسك بقوله تعالى: ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5]، فجوابه: أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضا في هذا الحكم؟.

هـ. أما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنّه قال ليس بحرام، وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال.

11. اتفق الكل على أن المراد من قوله: ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام، وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار، وقالوا: إن الله تعالى جعل الإيمان هاهنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم هاهنا الإقرار، فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار، واحتج المخالفون، وهم جمهور الأمة على فساد هذا المذهب بوجوه:

أ. أحدها: أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3] أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله تعالى: ﴿ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏﴾ كذبا.

ج. ثالثها: قوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [الحجرات: 14] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ كذبا، ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الاطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب.

12. نقل عن الحسن أنّه قال هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي: كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة، لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين، أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتا من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة.

13. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ قال أبو مسلم: اللام في قوله: ﴿وَلَأَمَةٌ﴾ في إفادة التوكيد تشبه لام القسم، والخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن الشركة لو كانت ثابتة في المال والجمال والنسب، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة، وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين:

أ. أحدهما: أن اللفظ مطلق.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ يدل على صفة الحرية، لأن التقدير: ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها، فكل ذلك داخل تحت قوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾

14. سؤال وإشكال: في الآية إشكال وهو أن قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ يقتضي حرمة نكاح المشركة، ثم قوله: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الصفة ولأحدهما مزية، والجواب: نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعا، إلا أن نفعا، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فاندفع السؤال.

15. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ لا خلاف هاهنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة.

16. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ هذه الآية نظير قوله: ﴿مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [غافر: 41] وإنما قال: ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ وربما لم يؤمنوا بالنار أصلا لوجوه:

أ. أحدها: أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار، فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه، فإن قيل: احتمال المحبة حاصل من الجانبين، فكما يحتمل أن يصير المسلم كافرا بسبب الألفة والمحبة، يحتمل أيضا أن يصير الكافر مسلما بسبب الألفة والمحبة، وإذا تعارض الاحتمالان وجب أن يتساقطا، فيبقى أصل الجواز، قلنا: إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة، وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة، والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع، وبين أن يلحقه ضرر عظيم، وفي مثل هذه الصورة يجب الاحتراز عن الضرر، فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق.

ب. الثاني: أن في الناس من حمل قوله: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقا بين الذمية وبين غيرها، فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق.

ج. الثالث: أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار، فهذا هو الدعوة إلى النار ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلما من أهل الجنة.

17. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ قولان:

أ. الأول: أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة، فكأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى، وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة.

ب. الثاني: أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها، قال ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة.

18. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ المعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة، ونظيره قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [يونس: 100]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]، وقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102]، وقرأ الحسن‏ ﴿وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/408

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ قراءة الجمهور بفتح التاء، وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه.

2. لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفى مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح، وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبى مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبى مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها عناق فجاءته، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهى مشركة.

3. اختلف العلماء في تأويل هذه الآية:

أ. فقالت طائفة: حرم الله نكاح المشركات في سورة البقرة ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة المائدة، وروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.

ب. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول العموم قط الكتابيات، وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم، وهذا مذهب مالك، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم.

ج. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية، قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما روي عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الاشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!، قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاووس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه، وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة لان البقرة من أول ما نزل بالمدينة، والمائدة من آخر ما نزل، وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لان ابن عمر كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفى أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل.

د. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روى عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في المائدة وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: ولا أعلم أشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة ابن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة، قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن، وروى عن ابن عباس نحو هذا.

هـ. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس، وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.

و. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقال: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضى مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بعد قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل، فإن قيل: أراد بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ الآية، قيل له: هذا خلاف نص الآية في قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين، فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار، والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ لان المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين.

4. أما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى قوله: ﴿صَاغِرُونَ﴾، قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه، وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير.

5. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره، ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملا الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها، وقال السدى: نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: (ما هي يا عبد الله قال تصوم وتصلى وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (هذه مؤمنة)، فقال ابن رواحة: لاعتقنها ولا تزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية.

6. اختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك: لا يجوز نكاح الامة الكتابية، وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما، وقال أبو حنيفة وأصحابه، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب.

7. قال ابن العربي: درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال احتج أصحابنا بقوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾، ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الامة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الامة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما، لان المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين، والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا: لان الله سبحانه قال ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾، وقال عمر في رسالته لابي موسى: (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل)، جواب آخر: قوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ﴾ لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني.

8. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالزواج من أهل الكتاب، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

9. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا﴾ أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الامة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، والقراء على ضم التاء من ﴿تَنْكِحُوا﴾

10. في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي، قال محمد بن على ابن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله، ثم قرأ ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لا نكاح إلا بولي) وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولى:

أ. فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي، روى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن مسعود وابن عباس وأبى هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وسفيان الثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمة وابن المبارك والشافعي وعبيد الله ابن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، قلت: وهو قول مالك وأبى ثور والطبري، ومن أدلتهم على ذلك:

قال أبو عمر: حجة من قال: (لا نكاح إلا بولي) أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد ثبت عنه أنّه قال: (لا نكاح إلا بولي)، روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبى إسحاق عن أبى بردة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مرسلا، فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضا، لان الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة، وممن وصله إسرائيل وأبو عوانة كلاهما عن أبى إسحاق عن أبى بردة عن أبى موسى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وإسرائيل ومن تابعه حفاظ، والحافظ تقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضدها أصول.

قال الله عز وجل: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل‏ أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري، ولو أن له حقا في الإنكاح ما نهى عن العضل.

ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ وقول: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن.

وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ﴾ على ما يأتي بيانه في سورة القصص، وقال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾

فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي، قال الطبري: في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها) أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها.

وروى الدارقطني عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)، قال حديث صحيح، وروى أبو داوود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له)، وهذا الحديث صحيح، ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنّه قال سألت عنه الزهري فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو ثقة إمام‏ وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك، لان النسيان لا يعصم منه ابن آدم، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (نسى آدم فنسيت ذريته)، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسى، فإذا روى الخبر ثقة فلا يضره نسيان من نسيه، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليها، وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي في المسند الصحيح له ـ على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقلها ـ عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له، قال أبو حاتم: لم يقل أحد في خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري هذا: (وشاهدي عدل) إلا ثلاثة أنفس: سويد بن يحيى الأموي عن حفص بن غياث وعبد الله بن عبد الوهاب الجمحي عن خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن يونس الرقى عن عيسى بن يونس، ولا يصح في الشاهدين غير هذا الخبر.

وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بولي، فلا معنى لما خالفهما.

ب. وقد كان الزهري والشعبي يقولان: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر، وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما، قال ابن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم، وبالخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نقول، وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي، وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا، ولا خلاف بين أبى حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز، وقال الأوزاعي: إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى، وهذا نحو مذهب مالك، وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبي حنيفة والشعبي قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلا بولي) على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، واستدلوا على هذا:

بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

وبما روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال: جاء رجل إلى علي، فقال: امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني؟ فقال علي: ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك.

وفي الموطأ أن عائشة زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، الحديث، وقد رواه ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة أنها أنكحت رجلا هو المنذر بن الزبير امرأة من بنى أخيها فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت: ليس على النساء إنكاح، فالوجه في حديث مالك أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح، وتولى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها.

11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالولاية، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾

أ. قيل: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ أي مملوك‏ ﴿خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ أي حسيب، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أي حسبه وماله، حسب ما تقدم.

ب. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولا امرأة مؤمنة، كما بيناه، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل رجالكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله) وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) وقال تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف.

13. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة للمشركين والمشركات، ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ أي إلى عمل أهل الجنة، ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بأمره، قاله الزجاج.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/67

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) (1):

1. قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ قرأه الجمهور بفتح التاء، وقرئ في الشواذ بضمها؛ قيل والمعنى: كأن المتزوج لها أنكحها من نفسها، وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات، فقيل: المراد بالمشركات الوثنيات؛ وقيل: إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية:

أ. فقالت طائفة: إن الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة فخصصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس، ومالك، وسفيان بن سعيد، وعبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي.

ب. وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات، وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم، ويجاب عن قولهم: أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة: بأن سورة البقرة من أوّل من نزل وسورة المائدة من آخر ما نزل.

2. القول الأوّل هو الراجح، وقد قال به ـ مع من تقدم ـ عثمان بن عفان، وطلحة، وجابر، وحذيفة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاووس وعكرمة، والشعبي، والضحاك، كما حكاه النحاس، والقرطبي، وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك، وقال بعض أهل العلم: إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقال: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة.

3. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ أي: ولرقيقة مؤمنة، وقيل: المراد بالأمة: الحرة، لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه، والأول أولى، لأنه الظاهر من اللفظ، ولأنه أبلغ، فإنّ تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى.

4. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي: ولو أعجبتكم المشركة، من جهة كونها ذات جمال، أو مال، أو شرف، وهذه الجملة حالية.

5. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: لا تزوجوهم بالمؤمنات‏ ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من: تنكحوا.

6. ﴿وَلَعَبْدٌ﴾ الكلام فيه كالكلام في قوله: ﴿وَلَأَمَةٌ﴾ والترجيح كالترجيح، ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى المشركين والمشركات‏ ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي: إلى الأعمال الموجبة للنار، فكان في مصاهرتهم ومعاشرتهم ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له، ويدخلوا فيه‏ ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ أي: إلى الأعمال الموجبة للجنة، وقيل: المراد: أن أولياء الله هم المؤمنون يدعون إلى الجنة، وقوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بأمره، قاله الزجاج؛ وقيل: بتيسيره وتوفيقه، قاله صاحب الكشاف.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/257

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عزّ وجلّ على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مرادا، وأنّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خصّ من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [المائدة: 5]، وقد بسط العلّامة الرازيّ هاهنا الكلام على أنّ لفظ (المشرك) هل يتناول الكفار من أهل الكتاب؟ فانظره.

2. التحقيق: أن المشرك لا يتناول الكتابيّ، لأن آيات القرآن صريحة في التفرقة بينهما، وعطف أحدهما على الآخر في مثل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة: 6]، وسرّ ذلك، أن المشرك هو من يتدين بالشرك، أي: يكون أصل دينه الإشراك؛ والكتابيّ ـ وإن طرأ في دينه الشرك ـ فلم يكن من أصله وجوهره.

3. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ تعليل للنهي عن مواصلتهنّ، وترغيب في مواصلة المؤمنات؛ أي: ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرقّ وقلة الخطر خير من مشركة مع ما لها من شرف الحرية ورفعة الشأن، فإن نقصان الرّقّيّة فيها مجبور بالإيمان الذي هو أجلّ كمالات الإنسان، ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي: المشركة بحسنها ونسبها وغيرهما، فإن نقصان الكفر لا يجبر بها.

4. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ بضمّ التاء ـ من الإنكاح وهو التزويج أي: لا تزوّجوا الكفار ـ بأيّ كفر كان ـ من المسلمات‏ ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ ويتركوا ما هم فيه من الكفر ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ مع ما به من ذلّ الرّقيّة ﴿خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ بداعي الرغبة فيه الدنيوية، فإن ذهاب الكفاءة بالكفر غير مجبور بشيء منها، وأفهم هذا خيرية الحرّة والحرّ المؤمنين من باب الأولى، مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما، إعلاما بأن خيريّتهما أمر مقطوع به، وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدّونه دنيّا فشرّفه الإيمان، ومن يعدّونه شريفا فحقّره الكفران، ولذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدلّ على أنه ـ وإن كان دنيّا ـ موضع التفضيل لعلوّ وصفه، وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصرا عليه لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه ـ أفاده البقاعيّ.

5. ثم أشار الله تعالى إلى وجه الحظر بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: المذكورون من المشركات والمشركين‏ ﴿يُدْعَوْنَ﴾ من يقارنهم ويعاشرهم‏ ﴿إِلَى النَّارِ﴾ أي: إلى ما يؤدي إليها من الكفر والفسوق؛ فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكلّ ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو﴾ أي: بما يأمر به على ألسنة رسله‏ ﴿إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ أي: العمل المؤدّي إليهما، وتقديم الجنة هنا على المغفرة مع سبقها عليها، لرعاية مقابلة النار ابتداء ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بأمره‏ ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ﴾ أمره ونهيه في التزويج‏ ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ لكي يتعظوا وينتهوا عن تزويج الحرام، ويوالوا أولياء الله ـ وهم المؤمنون ـ بالمعاشرة والمصاهرة فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران.

6. هذا وقد قيل: معنى‏ ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو﴾ وأولياء الله يدعون، وهم المؤمنون، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، تشريفا لهم، وتفخيما لشأنهم، حيث جعل فعلهم فعل نفسه صورة، وملحظة رعاية المقابلة، كأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار، وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة، إلا إنّ فيه فوات رعاية تناسب الضمائر، فإن الضمير في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ﴾ لله تعالى، فيلزم التفكيك.

7. سؤال وإشكال: حقيقة التذكّر، الاستدراك عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب.. فإلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟ والجواب(2): إن الله عزّ وجلّ ركّب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه، والإنسان ـ باستفادة العلم ـ يتذكّر ما ذكر فيه، فهذا معنى التذكر.. وقد قيل: الرجاء من الله واجب، بمعنى أنه إذا رجانا حقّق رجانا، وهذه مسألة لا يمكن تصوّرها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى، فلذلك صعب إدراكها لنا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/116

(2) الكلام هنا للراغب

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنكِحُواْ﴾ لا تتزوَّجوا أيُّها المؤمنون، ﴿الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُومِنَّ﴾ ولو كتابيَّات ذمِّـيَّات، جروا على تحريم الكتابيَّات الذمِّـيَّات كغيرهنَّ ثمَّ نزل نسخ تحريمهنَّ بقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5]، وبقيت الكتابيَّات المحارِبات وسائر المشركات على التحريم، ولو اقترنت الآيتان لقلتَ: إنَّ ذلك تخصيص للعموم كما شهر في المذهب، وعند الشافعيَّة من أنَّ ذلك من تخصيص العامِّ، ومن جواز تأخير دليل الخصوص في العموم ولو كانت المعارضة بين العامِّ والخاصِّ، ولك أنْ تقول: لا نسخ ولا تخصيص، بل المشركات في الآية غير الكتابيَّات؛ لأنَّه كثير في الآيات مقابلة المشركات بالكتابيَّات، كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ﴾ [البيِّنة: 1]، ولو كان أهل الكتاب أيضًا مشركين لقوله: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]، وأجاز بعض قومنا نكاح الحربيَّات الكتابيَّات لعموم ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5]، وليس بشيءٍ، ونصَّ ابن عبَّاس على المنع، وهو الصَّحيح.

2. ﴿وَلأَمَةٌ﴾ أمَةٌ وزنه فَعَة بحذف اللَّام، وأصله: أمَوٌ، بفتح الميم أو إسكانها قولان، اختار الأكثرون الفتح، وتجمع على إماء بوزن فِعال بكسر الفاء، وهو الأكثر، وعلى أَأْمٍ بوزن أَفْع بفتح الهمزة وإسكان الفاء وكسر العين، وأصله: أَفعُل، بفتح الهمزة وإسكان الفاء وضمِّ العين هكذا: أَأْمُوٌ، بفتح الهمزة الأولى: وإسكان الثَّانية، وضمِّ الميم، قُلبت الثانيةُ ألفًا، وضمَّةُ الميمِ كسرةً، والواوُ ياءً حُذِفت للتنوين بعدها، وقلبت الواو ياء لئلَّا يُختم اسم عربيٌّ معرَّب بواو ساكنة قبلها ضمَّة لازمة، فيقال آمٍ جَرًّا ورفعًا، وآميًا نصبًا.

3. ﴿مُّومِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ﴾ حرَّة ﴿وَلَوَ اَعْجَبَتْكُمْ﴾ لجمالها ومالها وعزِّها ونسبها فكيف الحرَّة المؤمنة، ولا خير في المشركة، إلَّا أنَّ المشاركة باعتبار الاعتقاد لا الوجود، واسم التفضيل لا يخرج عن التفضيل مع وجود (مِن)، والمشاركة هنا موجودة، ففي كلٍّ من الأمَة والمشركة الحرَّة تمتُّعٌ بالأنوثة، وفي المشركة الحرِّيـَّة، وفي الأمة الإيمان، وكلُّ ذلك حسن، وفضَّل الله حسن الإيمان على حسن الحرِّيـَّة، وخيريَّة الحرَّة المؤمنة على المشركة الحرَّة معلوم بالأَولى، ولا حاجة إلى جعل الأمَة مملوكة الله الشاملة للحرَّة، ولا تعسُّف في ذلك، بل التعسُّف في دعوى أنَّ الأمة بمعنى مملوكة الله؛ لأنَّ هذا ولو كثر استعماله حقيقة أو مجازا، لكن في مقام الوعظ ونحوه لا في مقام الأحكام كما هنا.

4. روي عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث مرثد الغنوي إلى مكَّة ليخرج منها ناسًا من المسلمين سرًّا، وكان يهوى امرأة في الجاهليَّة اسمها عناق، فأتته فقالت له: ألا تخلو؟ فقال: ويحك إنَّ الإسلام حال بيني وبينك وحرَّم الزنى! فقالت: هل لك أن تتزوَّج بي؟ فقال: نعم، ولكن أرجعُ إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأستأمره، فقالت: أبي تتبرَّم؟ فصرخت عليه، فعذَّبوه ثمَّ خلَّوه، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنزل: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ﴾ كذا قيل، والصحيح عندهم أنَّ قصَّته هذه نزل فيها: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾ [النور: 3]، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر، ولا مانع من نزول الآيتين في القصَّة.

5. ونزل قوله تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُّومِنَةٌ﴾ في تزويج حذيفة بن اليماني أو عبد الله بن رواحة أمَة بعد عتقها، وعاب بعض المؤمنين عليه، كانت لحذيفة وليدة اسمها خنساء، فقال: يا خنساء، ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك، ثمَّ أعتقها وتزوَّجها، وروي أنَّه غضب عبد الله بن رواحة على أمة سوداء فلطمها، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره فقال: وما هي يا عبد الله؟ قال: تشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّك رسول الله، وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلِّي، قال: هذه مؤمنة، قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحقِّ لأعتقنَّها، ولأتزوَّجنَّها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: تنكح أمَة! وعرضوا عليه حرَّة مشركة، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُومِنَّ وَلأَمَةٌ مُّومِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوَ اَعْجَبَتْكُمْ﴾، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تنكِحوا النساء لِحُسنهنَّ فعسى حسنهنَّ أن يُرْدِيَهُنَّ، ولا تنكحوهنَّ على أمْوالهنَّ فعسى أموالهنَّ أن يُطغِيَهنَّ، وانكحوهنَّ على الدين، فلأَمَةٌ سوداءُ خَرماءُ ذاتُ دينٍ، أَفضَل)، وقال: صلّى الله عليه وآله وسلّم : (تُنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فإن ظَفَرتَ بذات الدين تَرِبَت يَداكَ).

6. وقال الإماميَّة وبعضٌ من الزيديَّة: إنَّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5]، والصحيح أنَّه تخصيص من هذه الآية العامَّة، بل وقع كثيرًا في القرآن التعبير بلفظ الشرك في مقابلة أهل الكتاب مع أنَّهم مشركون أيضًا.

7. ﴿وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ لا تصيِّروهم ـ ولو أهل الكتاب ـ أزواجًا للمؤمنات، ﴿حَتَّى يُومِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّومِنٌ﴾ فكيف الحرُّ المؤمن، وهذا أولى من أن يقال: أراد عبدًا لله حرًّا أو مملوكًا كما مرَّ، والتنكير هنا، وفي قوله: ﴿وَلأَمَةٌ﴾ للعموم في الإثبات، كذا قيل، قلت: لا، إلَّا أن يراد العموم البدليُّ، والتفضيل هنا على حدِّ ما مرَّ في قوله تعالى: ﴿وَلأَمَةٌ مُّومِنَةٌ﴾، ولا يصحُّ ما قيل فيهما: أعظم في خيريَّتهما من المشركة والمشرك في شَرِّيتهما.

8. ﴿خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ﴾ حرٍّ، ولو كتابيًّا، ﴿وَلَوَ اَعْجَبَكُم﴾ لمرتبته في المال والعزِّ والنسب، ونحو ذلك، وعلَّل ذلك بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ إشارة إلى المشركات والمشركين؛ لأنَّ المراد بمشرك ومشركة العموم، إمَّا شموليًّا وإمَّا بدليًّا، والبدليُّ يجوز معه صيغ الجموع؛ لأنَّ مأصدقه العموم، ولا تغليب في (أُوْلَئِكَ)، لأنَّه وُضِعَ للذكور وللإناث، ولهما معًا، ﴿يَدْعُونَ﴾ الواو تغليب للذكور، ﴿إِلَى النَّارِ﴾ إلى الشرك وما دونه ممَّا يوجب النار، أو يدعون إليها بدعائهم إلى ذلك؛ فلا تتزوَّجوا نساءهم، ولا تزوِّجوهم نساءكم؛ لأنَّهم أهل لأن تُقْصُوهم، لا أن تنفعوهم، ولئلَّا تكسبوا منهم سوءًا.

9. ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ أي أولياؤُه من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين والمؤمنات يدعون إلى الجنَّة والمغفرة بالدعاء إلى موجبهما، أو يدعون إلى موجبهما، وقدَّرنا (أولياؤه) لتتمَّ المقابلة لقوله: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ مخلوق لمخلوق، ولو لم يقدَّر لجاز، وفي ذكر لفظ الجلالة نيابةً عن ذكرهم إعظام لهم، إذ جعل دعوتهم دعوة لله، كما جعل محاربتهم محاربة لله في قوله تعالى: ﴿يُحَارِبُونَ اللهَ﴾ [المائدة: 33]، ويدلُّ لمراعاتهم قوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ إذ لا معنى لقولك: الله يدعو بإذن الله، وأيضًا مراعاتهم أنسب بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾، ويصحُّ: الله يدعو بإذن الله بمعنى: بقضائه وإرادته وتوفيقه، وقدَّم الجنَّة لمقابلة النار قبلها ابتداءً، ولأنَّها نفس المراد الذي يُتنافس فيه، ولو كان تحلية والمغفرة تخلية مقدَّمة بالزمان، وقدِّمت على الجنَّة في قوله: ﴿سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبـِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133] مراعاة لحقِّ تقديم التخلية على التحلية، ولحقِّ تقدُّم زمانها.

10. ﴿وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ ينزلها بيِّنة واضحة، كقولك: (وسِّع فم البئر)، تريد: ابتدعها واسعة الفم، و(أدِرْ جيبَ القميص) وذلك غالب، وفي القرآن متشابه ومجمل وُكِلَ تفصيله إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ وأردتُ بالإجمال مثلَ الصلاة والزكاة، وقد يدخل في البيان إذ لم يتشابه.

11. ﴿لَعلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ فيعملون بمقتضى الآيات، ويتَّعظون عن المعاصي ويعرفون قبحها، فينالون المغفرة والجنَّة، والصحيح أنَّ استعمال (لعلَّ) في ترجِّي المخاطب، أو في التعليل مجاز.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/32.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات في سرد الأحكام كما تقدم فلا حاجة لربط كل آية بما قبلها، والربط ظاهر على القول بأن المراد بالمخالطة في الآية السابقة نكاح اليتامى.. وظاهره أن قوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ إلى ﴿أَعْجَبَتْكُمْ﴾ آية مستقلة نزلت في حادثة غير الحادثة التي أنزل فيها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ وهذا الظاهر من صنيعه خفي في نفسه بل هو باطل ألبتة، ولا شك أن الآية واحدة، نزلت مرة واحدة عند حاجة الناس إلى بيان أحكامها، ولا مانع أن يكون ذلك بعد حدوث ما روي عن أبي مرثد وعن عبد الله بن رواحة.

2. ذكر هنا بعض الآثار في سبب النزول، والتي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: على أن السيوطي قال في مقدمة كتابه في أسباب النزول: إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ولا يريدون به إلا تفسيرها؛ أي: إن معناها يتناول ذلك، وإذا ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها.

3. جملة القول أن ما روي في الآية التي نفسرها الآن متفق على أن المراد بالمشركات فيها غير الكتابيات من نساء العرب:

أ. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركين والمشركات عام يشمل أهل الكتاب؛ لأن بعض ما هم عليه شرك، وقد قال تعالى بعد ذكر بعض عقائدهم: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ واستدلوا على شركهم أيضا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ولو لم يكونوا مشركين لجاز أن يغفر الله لهم.

ب. وذهب الأكثرون إلى أن المراد بالمشركات مشركات العرب اللاتي لا كتاب لهن؛ لأن هذا هو عرف القرآن في لقب المشرك، قال تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، والعطف يقتضي المغايرة، وهذا القول هو الذي يتفق مع قوله تعالى في بيان من يحل من النساء: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وهي في سورة المائدة، وقد نزلت بعد سورة البقرة؛ ولذلك ذهب من قال بأن لفظ المشركات شامل للكتابيات إلا أن آية المائدة نسخت آية البقرة، وقال بعضهم ومنهم الجلال: إنها خصصتها بغير الكتابيات، والمقصود واحد.

ج. وزعم بعض المفسرين أن آية البقرة هي الناسخة لآية المائدة، وهذا لا وجه له مع الاتفاق على أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا.

د. وذهب بعض آخر إلى التأويل بأن آية المائدة مقيدة بما إذا أسلمن، وهذا ليس بشيء؛ إذ لا دليل على القيد المحذوف؛ ولأن المشركات إذا أسلمن يحل نكاحهن أيضا بالإجماع، وجرى عليه العمل في عصر التنزيل قبل نزول الآية فما فائدة ذكره؟

4. اختلف في المجوس فقيل: يدخلون في المشركين لأنهم لا كتاب لهم، وقيل: بل كان لهم كتاب، وبعض الفقهاء يقول: لهم شبهة كتاب، وقد يشعر بأنهم أهل كتاب قوله تعالى في سورة الحج: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فالعطف يقتضي المغايرة، وقد فرق الفقهاء بين المشركين والمجوس في الجزية ولا حاجة للبحث في ذلك هنا.

5. ما استدل به الآخرون على شرك أهل الكتاب من قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية فقد أجابوهم:

أ. عن الأول بأن قوله: ﴿يُشْرِكُونَ﴾ لا يقتضي أن من حكى عنهم ذلك الفعل يشتق لهم منه وصفا يكون عنوانا لهم فيدخلوا في صنف من يسميهم القرآن بالمشركين والذين أشركوا؛ فإن الأوصاف كثيرا ما يراد بها عند أهل التخاطب صنف مخصوص لا يدخل فيه كل من يتلبس بالفعل الذي اشتق منه الوصف، مثال ذلك لفظ ﴿الْعُلَمَاءُ﴾ يطلق الآن عند المسلمين على صنف من الناس لا يدخل فيه كل من يتعلم علما أو علوما، ولو تعلم ما يتعلمون وفاقهم فيه ما لم يكن على زيهم ومشاركا لهم في مجموع المزايا التي كانوا بها صنفا مستقلا، ويطلق هذا اللفظ عند قوم آخرين على صنف آخر.

ب. وأجابوا عن الثاني بأنه مسوق لبيان فظاعة الشرك والتغليظ فيه وكونه غاية البعد عن الله تعالى، بحيث قضى بألا تتعلق مشيئته بغفرانه، على أنه لو شاء أن يغفر كل ذنب سواه لفعل؛ إذ لا مرد لمشيئته، فلا يدخل هذا فيما نحن فيه؛ إذ لا يدل على أن كل من ليس مشركا يغفر الله له، فيقال: إن نفي الشرك عن أهل الكتاب يستلزم مغفرة الله تعالى لهم مع قيام الأدلة على أنه لا يغفر لمن تبلغه دعوة الحق الذي جاء به الإسلام فيجحدها عنادا واستكبارا.

6. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ هذا معطوف ما قبله من الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد، ومعناه لا تتزوجوا النساء المشركات ما دمن على شركهن ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي: والله إن أمة ـ أي: مملوكة ـ مؤمنة بالله ورسوله خير من مشركة حرة ولو أعجبتكم المشركة بجمالها وبغيره، وأصل الأمة أموة بالتحريك، يقال أمت الجارية: صارت أمة، وأميتها ـ بالتشديد ـ جعلتها أمة، وتأمت صارت أمة ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: لا تزوجوهم المؤمنات ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ فيصيروا أكفاء لهن ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ أي: ولمملوك مؤمن خير من مشرك حر ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ المشرك بنسبه أو قوته أو ماله.

7. جملة القول أن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا، وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا ـ ورضيه محمد عبده ـ: إنه على أصل المنع وأيده بالسنة والإجماع، ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظا لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفا لأهل الكتاب؛ ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم؛ لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن ما هو عليه من الدين القويم يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والعدل بين المسلمين وغير المسلمين، وسعة الصدر في معاملة المخالفين، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة؛ لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق ما أعطاهن الإسلام ـ وأهل الكتاب وسائر الملل كذلك ـ فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين، وإذا قامت بعد ذلك أدلة من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة فلها حكمها لا عملا بالأصل أو نص الكتاب، بل عملا بهذه الأدلة.

8. التعبير بتنكحوا وتنكحوا ـ بفتح التاء وضمها ـ يشعر بأن الرجال هم الذين يزوجون أنفسهم ويزوجون النساء اللواتي يتولون أمرهن، وأن المرأة لا تزوج نفسها بالاستقلال بل لا بد من الولي؛ إذ الزواج تجديد قرابة ومودة رحمية بين أسرتين، وعشيرتين لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بتولي أولياء المرأة له مع اشتراط رضاها وإذنها به صراحة في الثيب وسكوتا إقراريا في البكر التي يغلب عليها الحياء.

9. فسر الجمهور الأمة والعبد في الآية بالرقيق؛ أي: إن الأمة المملوكة المؤمنة خير من الحرة المشركة ولو أعجبكم جمالها، وكذلك القن المؤمن خير من الحر المشرك وإن كان معجبا، وتعلم منه خيرية الحر المؤمن والحرة المؤمنة بالأولى، وقال آخرون: إن المراد أمة الله وعبد الله؛ أي: إن المؤمنة والمؤمن كل منهما عبد الله يطيعه ويخشاه، ولذلك كان خيرا ممن يشرك به، فكان في التعبير بالأمة والعبد إشعار بعلة الخيرية.

10. بيان ذلك: أنه ليس المراد بالزوجية قضاء الشهوة الحسية فقط، وإنما المراد بها تعاقد الزوجين على المشاركة في شئون الحياة والاتحاد في كل شيء، وإنما يكون ذلك بكون المرأة محل ثقة الرجل يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، عالما أن حرصها على ذلك كحرصه؛ لأن حظها منه كحظه، وما كان الجمال الذي يروق الطرف ليحقق في المرأة هذا الوصف، ولكن قد يمنعه التباين في الاعتقاد، الذي يتعذر معه الركون والاتحاد، والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة، ويوجب عليها الأمانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة إلى طبيعتها، وما تربت عليه في عشيرتها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأماني الشياطين وأحلامها، فقد تخون زوجها، وتفسد عقيدة ولدها، فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها، كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها، وإن نبا طرفه عن حسن الصورة، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة فقد ينغص عليه التمتع بالجمال ما هو عليه من سوء الحال.

11. أما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة؛ فإنها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومزاياها في التوحيد، والتعبد والتهذيب، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به، وكونه قد جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه، واستعداده لأكثر مما هو فيه، أو المعاندة والجحود في الظاهر، مع الاعتقاد في الباطن، وهذا قليل والكثير هو الأول، ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل حقية دينه وحسن شريعته، والوقوف على سيرة من جاء بها وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات فيكمل إيمانها، ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين إن كانت من المحسنات في الحالين، ومثل هذه الحكمة لا تظهر في تزويج الكتابي بالمؤمنة، فإنه بما له من السلطان عليها، وبما يغلب عليها من الجهل والضعف في بيان ما تعلم لا يسهل عليها أن تقنعه بحقية ما هي عليه، بل يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه.

12. وهذا المعنى يفهم من تعليل النهي عن مناكحة المشركين في قوله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أشار بأولئك إلى المذكورين من المشركين والمشركات؛ أي: من شأنهم الدعوة إلى أسباب دخول النار بأقوالهم وأفعالهم، وصلة الزواج أقوى مساعد على تأثير الدعوة؛ لأن من شأنها أن يتسامح معها في شئون كثيرة، وكل تساهل وتسامح مع المشرك أو المشركة محظور محذور الشر بما يخشى منه أن يسري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب الشبه والتضليل التي جرى عليها المشركون، كقولهم فيمن يتخذونهم وسطاء بينهم وبين الخالق: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ وقولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، فهذه الشبهة هي التي فتن بها أكثر البشر، ولم يسلم منها أهل شريعة سماوية خالطوا المشركين وعاشروهم، فقد دخلوا في الشرك من حيث لا يشعرون؛ لأنهم لم يتخذوا معبودات المشركين أنفسها شفعاء ووسطاء، بل اتخذوا أنبياءهم ورؤساءهم، وظنوا أن هذا تعظيم لهم لا ينافي التوحيد الذي أمروا به وجعل أصل دينهم، وأساس ارتقاء أرواحهم وعقولهم، وقد اغتروا بظواهر الألفاظ، وجعلوا تسمية الشيء بغير اسمه إخراجا له عن حقيقته، فهم قد عبدوا غير الله ولكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه لفظا آخر كالاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله إلها وربا، ومنهم من لم يسمه بذلك، بل سموه شفيعا ووسيلة، وتوهموا أن اتخاذه إلها أو ربا هو تسميته بذلك، أو اعتقادا أنه هو الخالق والرازق والمحيي والمميت استقلالا، ولو رجعوا إلى عقائد الذين اتبعوا سننهم من المشركين لوجدوهم كما قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ مع قوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ فإذا كانت مساكنة المشركين ومعاشرتهم ـ مع الكراهة والنفور ـ قد أفسدت جميع الأديان السماوية الأولى، فما بالك بتأثير اتخاذهم أزواجا، وهو يدعو إلى كمال السكون إليهم والمودة لهم والرحمة بهم؟ ألا يكون ذلك دعوة إلى النار، وسببا للشقاء والبوار؟

13. هذه دعوة الزوج المشرك بطبيعة دينه ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ بما اشتمل عليه دينه الذي أرسل به رسله من التوحيد الخالص الذي ينقذ العقول من أوهام الوثنية ومنها إعطاء بعض المخلوقين شعبا من خصائص الألوهية، وبإفراد الله سبحانه بالعبادة والسلطة الغيبية، وهذا هو السبب الأول في دخول الجنة واستحقاق المغفرة منه تعالى للمؤمن الموحد إذا ألم بمعصية أو كسب خطيئة؛ لأن خطيئته لا تحيط بروحه ولا ترين على قلبه فتجعله شريرا؛ لأن الله غالب على أمره ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾

14. فحاصل معنى ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ هو أن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي الموصلة إلى الجنة والمغفرة بإذن الله وإرادته وهدايته وتوفيقه، فهي مناقضة لدعوة المشركين وهي ما هم عليه من الشرك الموصل إلى النار بسوء اختيار أصحابه له، ففيه المقابلة بين المشركين والمؤمنين وهي أنهما على غاية التباين، وفيه أن ما عليه المشركون هو من سوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وأن ما عليه المؤمنون لم يكن بوضعهم وعملهم، وإنما هو الدين الذي هو وضع الله بلغه عنه رسله بإذنه، وهدى إليه خلقه.

15. ذكر محمد عبده وجها آخر في هذا؛ وهو أن المراد باسم الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ هو ما يعتقده فيه ـ سبحانه ـ المؤمنون به من كونه واحدا أحدا صمدا لا كفء له ولا مساعد ولا وزير، ولا واسطة بينه وبين خلقه يحمله على نفعهم أو ضرهم، وإنما هو فاعل بإرادته القديمة على حسب علمه القديم، ولا تأثير للحوادث فيهما ولا في غيرهما من صفاته تعالى؛ فهذا الاعتقاد بالله هو الأصل الذي يدعوهم إلى الجنة؛ لأنه ينبوع الأعمال الحسنة النافعة، ومصدر الأخلاق الفاضلة التي يستحق صاحبها الجنة على ما يحسن فيه، والمغفرة على ما أساء فيه ومنعه إيمانه من الإصرار عليه والاسترسال فيه حتى يحيط به، وإنما كان أصلا في ذلك؛ لأنه متى صح إيمانه صحت عزيمته في اتباع الشريعة والاهتداء بالدين القويم، وهذا التعبير مأنوس به في اللغة، يعبر بالشيء عن المصرف له والغالب على أمره، على حد الحديث القدسي (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلخ، وذلك أن اعتقاده يملك شعوره ومشاعره فيكون أصل كل عمل نفسي وبدني فيه.

16. سؤال وإشكال: إن هذه العلة في تحريم مناكحة المشركين متحققة في نكاح الكتابيات، فالكتابية تدعو بسيرتها وعملها وقولها إلى ما هي عليه من العقيدة الفاسدة، وما يتبعها من الأعمال التي لم تكن من أصل دينها الصحيح المتفق مع الإسلام، فهي إن وافقت زوجها المسلم فيما هو إيمان صحيح كالإيمان بالله والإيمان بالأنبياء وباليوم الآخر في الجملة، فهي تخالفه بما تصف به الله أو تتخذ له من الأبناء والأنداد، وذلك من الدعوة إلى النار، وقد تغلب المرأة على أمر زوجها أو ولدها فتقوده إلى دعوتها، ولهذا ذهب بعض الشيعة إلى تحريم نكاح الكتابية، والجواب: لو اتحدت العلة لما صرح الكتاب بجواز الزواج بالكتابية المحصنة، ولما اتفق سلف الأمة وخلفها على ذلك ما عدا هذه الشرذمة من الشيعة، وكيف يستوي الفريقان ـ أهل الكتاب والمشركون ـ وقد فرق الكتاب والسنة بينهما في كثير من المزايا والأحكام، ولم يجمع القرآن بين المشركين والمؤمنين في حكم كما جمع بين المؤمنين وأهل الكتاب في مثل قوله في سورة البقرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وقوله في سورة آل عمران: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية، وقوله في البقرة ومثله في آل عمران: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، وقوله فيها: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾، وقوله في: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، وأمثال هذه الآيات كثير جدا، وهي تصرح بأن إله المسلمين وأهل الكتاب واحد، وربهم واحد، والذي أنزل عليهم هو شيء واحد؛ أي: في جوهره، والمراد منه وهو الإيمان بالله وتوحيده والبعث والعمل الصالح، ولكنها في أواخرها تبين محل الدعوة والفرق، وهو أننا مسلمون مخلصون وأنه طرأ عليهم الانحراف فاتخذوا من أنفسهم أربابا يحلون ويحرمون، ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله، وأنهم غير مخلصين ولا مسلمين في أعمالهم؛ وهذا شيء لا ينكره أهل العلم الحقيقي والتاريخ منهم، بل يقولون: لولا الانحراف والشرائع التي زادوها وسموها بالطقوس وبأسماء أخرى لما ضعفت أخلاقهم، ومرضت قلوبهم وانحلت جامعتهم، حتى كان من أمر الإسلام فيهم ما كان، وقد طرأ شيء من ذلك على من اتبعوا سننهم منا شبرا بشبر وذراعا بذراع، مع أن أصل الدين عندنا قد حفظ بعناية لم يكن لهم مثلها، وصرنا في حاجة إلى من يدعونا إلى إقامة الأصل كما دعاهم داعي الإسلام، لا فرق في ذلك إلا أن الأصل الذي يجب أن يدعى إليه الجميع موجود محفوظ كما هو لا ينقص الجميع إلا إقامته والعمل به، وهو القرآن الذي اتخذه المسلمون في عصرنا آلة لهو وسلعة تجارة، ولكنهم لا يدعون إلى إقامته والعمل به، بل منهم من يصرح بتحريم العمل به ويسمي ذلك اجتهادا، والاجتهاد عندهم ممنوع، فقد منعوا القرآن بشبهة سخيفة وهي منع العلم الاستدلالي، ومنعه منع لحقيقة الإسلام وانصراف عن ينبوعه، وتفضيل أخذ عقائد الإسلام من كتب الكلام المبتدعة على أخذها من كتاب الله المعصوم، وتفضيل أخذ أحكامه حتى التعبدية من كتب الفقهاء على أخذها منه ومن سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ويبقى ما في الكتاب والسنة من الآداب والفضائل، والحكم والمواعظ، والسياسة العليا وسنن الاجتماع المثلى مما لا يوجد في كتبهم، وقد استغنوا عنها بالتبع لاستغنائهم عن غيرها كأنه لم يبق لهم أدنى حاجة في علوم القرآن ومعارفه والعياذ بالله من الخذلان!

17. فإذا كان الفرق بيننا وبين أهل الكتاب يشبه الفرق بين الموحدين المخلصين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعة الذين انحرفوا عن هذين الثقلين اللذين تركهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فينا، وأخبرنا أننا لا نضل ما تمسكنا بهما ـ كما في حديث الموطأ ـ فكيف يكون أهل الكتاب كالمشركين في حكم الله تعالى؟

18. الجملة أن ما عليه الكتابية من الباطل هو مخالف لأصل دينها، وقد عرض لها ولقومها بشبهة ضعيفة يسهل على المؤمن العالم بالحق أن يكشف لها عن وجه الحق في شبهتها ويرجعها إلى الصواب، ويعسر عليها هي أن تنتصر بالشبهة على الحجة وتزيل السنة الأولى بما عرض من الشبهة، وأما ما نراه من التباين بين المسلمين وأهل الكتاب الآن فسببه سياسة الملوك والرؤساء، ولو أقمنا الكتاب وأقاموه لتقاربنا ورجعنا جميعا إلى الأصل الذي أرشدنا إليه القرآن العزيز، ولا يخفى أن هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة، فتفسد عليه تقاليده ولا عوض له عنها، فينبغي أن يعرف هذا.

19. هذا ما كتبته عند طبع التفسير للمرة الأولى، وقد حدث بعد ذلك أن فتن كثير من الشبان المصريين بنساء الإفرنج فتزوجوا بهن فأفسدن عليهم أمورهم الدينية والوطنية، واضطر بعضهم إلى الطلاق، وغرم كثيرا من المال، ومنهم رجل غني قتلته امرأته الفرنسية وجاءت تطالب بميراثها منه، وقليل منهم من اهتدت به زوجته وأسلمت، وقد سرت العدوى إلى المسلمات، فمن الغنيات منهن من تزوجن بمن عشقن من رجال الإفرنج بدون مبالاة بالدين الذي لا تعرف منه غير اللقب الوراثي، وقد عظمت الفتنة، وقى الله البلاد شرها، ولن يكون إلا بتجديد التربية الإسلامية وإصلاح الحكومة.

20. ثم قال تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي: يوضح الدلائل على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا ويبين لهم حكمته وفائدته بما يظهر لهم به أن المصلحة والسعادة فيما شرعه لهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون فيستقيمون؛ فإن الحكم إذا لم تعرف فائدته للعامل لا يلبث أن يمل العمل به فيتركه وينساه، وإذا عرف علته ودليله وانطباقه على مصلحته ومصلحة من يعيش معهم فأجدر به أن يحفظه ويقيمه على وجهه ويستقيم عليه، لا يكتفى بالعمل بصورته وإن لم تؤد إلى المراد منه، ومن هنا قال الفقهاء: إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، وإن ما يشارك المنصوص في العلة يعطى حكمه، وليتنا عملنا بهذه القواعد ولم نرجع إلى التمسك بالظواهر من غير عقل، ويا ليتها ظواهر الكتاب والسنة، إن هي إلا ظواهر أقوال أقوام من المؤلفين، منهم المعروف تاريخه ومنهم المجهول أمره، وإلى الله المشتكى، فاللهم ذكرنا ما نسينا، واهدنا إلى الاعتبار بكتابك والعمل به؛ لنكون من المفلحين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/351

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ أي ولا تتزوجوا المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله ويصدقن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في نحو قوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ وفي قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، والخلاصة ـ لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.

2. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي ولأمة مؤمنة على ما بها من‏ خساسة الرق وقلة الخطر، خير من مشركة حرة على ما لها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها، إذ بالإيمان يكون كمال دينها، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما ـ إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم.

3. أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك)، أي افتقرت، وظاهر هذا الأسلوب الدعاء عليه، والمراد الدّعاء له، وهو كثير الاستعمال في كلام العرب.

4. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ أي لا تزوجوهم المؤمنات إلا إذا آمنوا وتركوا ما هم عليه من الكفر، وحينئذ يصيرون أكفاء لهن، ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس.

5. قصارى ما تقدم ـ إنه لا يجوز لنا أن نتصل بالمشركين برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوّج منهم، إذ المرأة موضع ثقة الرجل، يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، وما كان الجمال وحده ليحقق في المرأة هذا الوصف، فالمشركة لا دين لها يحرّم عليها الخيانة ويأمرها بالخير وينهاها عن الشر، فقد تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها.

6. أما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات، فقد جاء في القرآن في سورة المائدة النصّ على حلّهن فقال: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، والحكمة في هذا التألف لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا، وسهولة شريعتنا، فالرجل هو القوّام على المرأة وصاحب الولاية والسلطة عليها، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن هذا الدين يدعو إلى الإنصاف في المعاملة وسعة الصدر بين المختلفين في الدين.

7. أما زواج الكتابيّ بالمسلمة فحرام بنص السنة وإجماع المسلمين على ذلك، والسرّ في هذا أن المرأة كما علمت ليس لها من الحقوق مثل ما للرجل، فلا تظهر الفائدة التي تقدمت، إلى أنه بما له عليها من السلطان يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه.

8. بين الله تعالى علة النهى عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعو إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال ـ وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل، فالمشركون عبدوا غير الله لكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه الاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله ربّا وإلها وسمّوه وسيلة وشفيعا، ظنا منهم أن تسمية الشيء بغير اسمه يخرجه عن حقيقته كما قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، وإذا كانت مساكنة المشركين مع الكراهة والنفور قد أفسدت الأديان، فكيف بهم إذا اتّخذوا أزواجا، ألا يكون في ذلك الدعوة إلى النار، والسبب في الشقاء والدمار؟

9. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي التي‏ توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه، فهي بالضد من دعوة المشركين التي توصل إلى النار، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة، وبلّغه عنه رسله بإذنه، وأرشدوا إليه خلقه.

10. اعتبر بهذا وانظر إلى ما فتن به كثير من الشبان المصريين من التزوّج بالإفرنجيات والغرام بعشرتهنّ تاركين بنات وطنهم من المسلمات المؤمنات العفيفات، فأفسدن عليهم دينهم ووطنيتهم وقطعن صلة الأرحام ما بين الأزواج وأسرهم، وصارت المعيشة الزوجية في كثير من الأحيان جحيما وغصة وعذابا أليما، حتى اضطر بعضهم إلى الطلاق بعد أن أنفق كثيرا من ثروته وماله، ومن استمر عليها أغضى العين على القذى وباع العرض رخيصا، وفقد الغيرة والنّخوة التي هي أفضل شمائل الرجل، وبها يكون التفاضل بين الرجال، وقلما اهتدت امرأة بزواجها بمسلم فأسلمت، بل لقد عظم الخطب وعمّ البلاء، فسرت العدوى إلى المسلمات المتعلمات الغنيات، فتزوّجن بمن أحببن من رجال الفرنجة بلا مبالاة ولا خشية من دين، ولا خوف من حكومة، ولا وازع من أسرة، وكل هذا من ضعف الوازع الديني، وترك الفضائل الإسلامية التي ينبغي أن تغرس في نفوس النشء إبّان الصبا.

11. ثم امتنّ عز اسمه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بيّن لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسرّ في تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت في النفوس وتقبلتها على الوجه المرضى، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها، وهى الإخبات إلى الله، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/152

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة، جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدا كبيرا، نراه متناثرا في سور شتى من القرآن، محيطا بكل المقوّمات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى.

2. إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة ـ بما أنه نظام رباني للإنسان، ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها، وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة، وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعا وللمخلوقات كافة.. تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، ومن قوله سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾

3. ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية جميعا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾..

4. ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾.. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾

5. فهي الفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة، العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان، ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني، بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون، على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله، ومن بينه هذا الإنسان..

6. والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة؛ وعلى هدية ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة.

7. والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة، تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى، ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور.. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل.. ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر، وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.

8. وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان، أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطرارا لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام‏! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشئوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان، هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن، التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات.. وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية! وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة على‏ وجه الأرض.. الأطفال.. رصيد المستقبل البشري.. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة، أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض‏.

9. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل.. يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير.. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام، وهذه السورة واحدة منها..

10. الآيات الواردة في هذه السورة تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة، والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة، والرضاعة والحضانة.. ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة ـ كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون.. كلا! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية؛ وأصلا كبيرا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي، وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة، موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس، ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان، ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه، وعقابه وثوابه، وموصول بالعقيدة وجودا وعدما في حقيقة الحال! ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر وخطورته؛ كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته، وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصدا لأمر عظيم في ميزان الله، وأن الله يتولى بذاته ـ سبحانه ـ تنظيم حياة هذا الكائن، والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه، وإعدادها ـ بهذه النشأة ـ للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود، وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب.

11. إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل.. لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته، ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم، وأحيانا في ثنايا الأحكام، منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته، تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية، وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير، لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ:

أ. الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، وعن تزويج المشرك من مسلمة، والتعقيب: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾..

ب. والحكم الثاني يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض.. وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضى في لحظة، إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات اهداف أعلى من تلك اللحظة وأكبر، بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية، فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾..

ج. والحكم الثالث حكم الإيمان بصفة عامة ـ تمهيدا للحديث عن الإيلاء والطلاق ـ ويربط حكم الأيمان بالله وتقواه، ويجيء التعقيب مرة: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.. ومرة: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾

د. والحكم الرابع حكم الإيلاء.. والتعقيب: ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾..

هـ. والحكم الخامس حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾..

و. والحكم السادس حكم عدد الطلقات، ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق، وترد فيه التعقيبات التالية: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾.. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾..

ز. والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق، ويرد فيه: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾

ح. والحكم الثامن حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر، ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: (وَاتَّقُوا اللهَ، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)..

ط. والحكم التاسع خاص بعدة المتوفى عنها زوجها، ويعقب عليه بقوله: (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)..

ي. والحكم العاشر حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة، ويرد فيه: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، ولكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً، ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)..

ك. والحكم الحادي عشر حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض، ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

ل. والحكم الثاني عشر حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة، ويرد فيه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾

م. والتعقيب العام على هذه الأحكام: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

12. إنها العبادة.. عبادة الله في الزواج، وعبادته في المباشرة والإنسال، وعبادته في الطلاق والانفصال، وعبادته في العدة والرجعة، وعبادته في النفقة والمتعة، وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وعبادته في الافتداء والتعويض، وعبادته في الرضاع والفصال.. عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة..

13. ومن ثم يجيء ـ بين هذه الأحكام ـ حكم الصلاة في الخوف والأمن: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى‏ وقُومُوا لله قانِتِينَ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).. يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام؛ وقبل أن ينتهي منها السياق، وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة، الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام، ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي، ويبدو السياق موحيا هذا الإيحاء اللطيف.. إن هذه عبادات، وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة، والحياة وحدة والطاعات فيها جملة، والأمر كله من الله، وهو منهج الله للحياة..

14. والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة، وتنشئ جو العبادة وتلقي ظلال العبادة.. لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية، وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه، وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض.

15. إن الإسلام يشرع لناس من البشر، لا لجماعة من الملائكة، ولا لأطياف مهومة في الرؤى المجنحة! ومن ثم لا ينسى ـ وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته ـ أنهم بشر، وأنها عبادة من بشر.. بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات.. والإسلام يلاحظها كلها؛ ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف، إلى مشرق النور الوضيء، في غير ما تعسف ولا اصطناع، ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان! ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء، وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت، ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر، ويقرر الطلاق ويشرّع له، وينظم أحكامه ومخلفاته، في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت، وتوثيق أواصر الأسرة، ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة.. إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة، في طاقة الإنسان، ومقصود بها هذا الإنسان.

16. إنه التيسير على الفطرة، التيسير الحكيم على الرجل والمرأة على السواء، إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة النجاح؛ وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار، فالله الخبير البصير، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون، لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيدا وسجنا لا سبيل إلى الفكاك منه، مهما اختنقت فيه الأنفاس، ونبت فيه الشوك، وغشاه الظلام، لقد أرادها مثابة وسكنا؛ فإذا لم تتحقق هذه الغاية ـ بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع ـ فأولى بهما أن يتفرقا؛ وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى، وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة؛ ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كيلا يضار زوج ولا زوجة، ولا رضيع ولا جنين.. وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان.

17. وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر، والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام، وبين ما كان قائما وقتها في الحياة البشرية، يجد النقلة بعيدة بعيدة.. كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء، ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر، وهو يشرع لهم هذا المنهج، وترى المرأة ـ بصفة خاصة ـ مدى رعاية الله لها وكرامته.. حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله.

18. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ النكاح ـ وهو الزواج ـ أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان، فلا بد إذن من توحد القلوب، والتقائها في عقدة لا تحل، ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه، وما تتجه إليه، والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس، ويؤثر فيها، ويكيف مشاعرها، ويحدد تأثراتها واستجاباتها، ويعين طريقها في الحياة كلها، وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها، فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية، أو بعض المذاهب الاجتماعية، وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية، ومقوماتها الحقيقية، وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها.

19. لقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين، لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة، فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية، بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه، ونزلت هذه الآية، نزلت تحرم إنشاء أي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين ـ فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾.. ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾.. فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء، لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة، وأن ينكح المشرك مسلمة، حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة، إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف، إنهما لا يلتقيان في الله، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة، والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا، ولا اندفاعا شهوانيا، إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة.

20. ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾.. فإذا آمنّ فقد زالت العقبة الفاصلة؛ وقد التقى القلبان في الله؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوّقها ويفسدها، سلمت تلك الآصرة، وقويت بتلك العقدة الجديدة: عقدة العقيدة.

21. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس، وجمال القلب أعمق وأغلى، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة، فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب، إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب.

22. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى، توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.. إن الطريقين مختلفان، والدعوتين مختلفتان، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة؟ إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار، وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله!

23. ولكن أو يدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار!؟ ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار.

24. والله يحذر من هذه الدعوة المردية ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.. فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم! هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية ـ مع اختلاف العقيدة ـ ولكن الأمر هنا يختلف، إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله، وإن اختلفت التفصيلات التشريعية.

25. هناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة، أو أن الله هو المسيح بن مريم، أو أن العزير ابن الله.. أهي مشركة محرمة، أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة: ﴿الْيَوْمُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾.. ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.. والجمهور على انها تدخل في هذا النص.. ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة، وقد رواه البخاري عن ابن عمر ـ ـ قال قال ابن عمر: (لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها عيسى)

26. أما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية ـ غير مشركة ـ ومن هنا يختلف في حكمه.. إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية، كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع، فإذا تزوج المسلم من الكتابية (غير المشركة) انتقلت هي إلى قومه، ودعي أبناؤه منها باسمه، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن، ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي، فتعيش بعيدا عن قومها، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها، ويدينون بدين غير دينها، والإسلام يجب أن يهيمن دائما.

27. على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروها، وهذا ما رآه عمر بن الخطاب أمام بعض الاعتبارات، قال ابن كثير في التفسير: (قال أبو جعفر بن جرير ـ بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات ـ وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني).. وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر: خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن، وفي رواية أخرى أنّه قال المسلم يتزوج النصرانية، والمسلمة؟

28. ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم.. فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام، وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر، والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/234

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بيّن الله سبحانه حدودا وأحكاما، جلابها وجه الحق فيما التبس على النّاس من أمر القتال في الشهر الحرام، ومن شأن الخمر والميسر، ومن النفقة المطلوبة من مال أصحاب المال، ومن حق اليتيم على الوصيّ.

2. فى هذه الآية بيّن الله تعالى حكم التزاوج بين المؤمنين والمشركين، فيقضى سبحانه بتحريم التزاوج بينهما، فلا يحلّ للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا لمشرك أن يتزوج مؤمنة، ذلك أن العلاقة الزوجية من شأنها أن تربط بين الزوجين بروابط روحية ونفسية وعقلية، وقيام تلك الروابط بين مؤمن ومشركة، أو مشرك ومؤمنة، يؤدى غالبا إلى إفساد الطبيعتين معا، فلا يكون المؤمن مؤمنا، ولا المشركة مشركة، كما لا يكون المشرك مشركا ولا المؤمنة مؤمنة، إذ أن كلّا من الزوجين ينضح على الآخر من روحه ونفسه وتفكيره، فيقيمه على منزلة بين المنزلتين: بين الإيمان والشرك.. وفى هذا ما يدخل الضيم على المؤمن في دينه، وربما خرج منه جملة، فباء بالخسران المبين، أما المشرك فلا خسران عليه، إذ هوعند الله ـ من الخاسرين، من قبل ومن بعد.

3. قد يخطر بالبال هنا أن في التزاوج بين المؤمنين والمشركين، ربما يكون من نتائجه تحول المشرك أو المشركة إلى الإيمان، وفى هذا تعويض للخسارة التي قد تنجم من تحول المؤمن أو المؤمنة إلى الشرك، وبهذا لا تكون هناك خسارة بالنسبة للمجتمع المسلم، الذي إن خسر هنا ربح ما يعوض الخسارة هناك! وهذا التقدير غير سليم، وغير عادل! أما أنه غير سليم، فإن الشرّ غالبا يغلب الخير، وتتسرب عدواه إلى الخير بالمخالطة أكثر من تسرب الخير إليه، إذ كان الشر يعمل وأهواء النفوس معه، وشهواتها مائلة إليه، جاذبة له! وأما أنه غير عادل، فإن فيه مخاطرة بنفس مؤمنة في مقابل نفس مشركة، وشتان ما بين نفس ونفس! وقد أباح الإسلام أن يتزوج المؤمن الكتابية، ولم يبح أن يتزوج الكتابي المؤمنة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وذلك أن الرجل أقوى من المرأة، وأقدر على التحكم في عواطفه، وأن تأثيره على المرأة أكثر من تأثيرها عليه، وأنه أحرص على دينه من حرصها على دينها، وذلك في الأعم الأغلب.. والحكم للعام الغالب، وعلى هذا كان تقدير الإسلام، فأباح للمؤمن أن يتزوج الكتابية، ولم يبح للمؤمنة أن تتزوج الكتابي.

4. ويرد على هذا خاطر أيضا، وهو أنه إذا كان الأمر على هذا التقدير، فلم‏ لا يبيح الإسلام للمؤمن أن يتزوج المشركة.. وهو الرجل، وهى المرأة، على ما عرفنا من فوارق بين الرجل والمرأة؟ والرد على هذا فيما أشرنا إليه من قبل، وهو أن ذلك من قبيل المخاطرة بنفس مؤمنة في مقابل نفس مشركة، وأن الاحتمال وإن كان هنا قويا في أن يشدّ الرجل المرأة إليه، إلا أنه معارض باحتمال آخر، وإن كان أضعف، وهو أن المرأة قد تغلب الرجل الذي يضعف لها، وليس بقليل أولئك الرجال الذين يخضعون لسلطان النساء.. فكان تدبير الإسلام بالمنع المطلق، هو التدبير الحكيم، الحريص على سلامة المؤمن، وحياطة دينه من أن يتعرض لسوء، أو يحوم حول فتنة!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/251

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات، فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذ أقارب وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة.

2. النكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلانا فهو حقيقة في العقد، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد، واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف، قالوا ولم يرد في القرآن إلّا بمعنى العقد فقيل إلّا في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوب أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق.

3. المشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

4. نص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل‏ الكتابي فالآية ساكتة عنه، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلّا إذا جرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استنادا منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر.

5. ذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى، فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي (الموطأ) عنه (لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى) ولكن هذا مسلك ضعيف جدا، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع (فنحاص) كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولا لعموم آية البقرة، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية.

6. من علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام؟ فقال عمر: لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.

7. قال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها، فقالا له نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة وقماءة، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيدا والأثر الآخر عن عمر أسند منه، وقال الطبري: هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه، وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذرا من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات.

8. ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ غاية للنهي فإذا آمنّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلّا إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير.

9. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.

10. المقصود من التفضيل في قوله: ﴿خَيْرُ﴾ التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناسا للمسلمين.

11. وقع في (الكشاف) حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكرارا مع قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، ويفيت المقصود من التنبيه على شرف أقلّ أفراد أحد الصنفين على أشرف أفراد الصنف الآخر، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلّا مقيّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبد الله ويا أمة الله، وكون الناس إماء الله‏ وعبيده إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرّج القرآن عليه.

12. ضمير ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ يعود إلى المشركة، و﴿لَوْ﴾ وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]

13. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولا على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماع وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذ المشركين، وكقوله تعالى هنا: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾

14. ﴿حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ غاية للنهي، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة.

15. ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ هو كقوله: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك.

16. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ الإشارة إلى المشركات والمشركين، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، والواو في‏ ﴿يُدْعَوْنَ﴾ واو جماعة الرجال ووزنه يفعون، وغلّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس، فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدا جدا لا يجمعهم شيء يتفقون عليه، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين، أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين‏ المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وتصديق عيسى، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتدادا بقوة تأثير الرجل على امرأته، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبا إياها إلى الإسلام، لأنها أضعف منه جانبا وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة.

17. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله: ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾، والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك.

18. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفا مستقرا حالا من (الجنة) والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما، ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوّل قوله: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو﴾ بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون.

19. جملة ﴿وَيُبَيِّنُ﴾ معطوفة على‏ ﴿يَدْعُو﴾ يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ [البقرة: 219] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته، ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/341

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ابتدأ الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ببيان الروابط التي توثق العلاقات الفاضلة في المدينة الإسلامية، التي هي المقصد الأول من هذا الشرع الحكيم؛ فقد تضافرت الأخبار والآثار، وجاءت آيات الله البينات المثبتة أن شرع الله سبحانه وتعالى لخير الناس في الحال والمآل، وإقامة مدينة فاضلة في الدنيا، يكون الثواب لمن شاد بنيانها، في الآخرة، وكل عبادات هذا الدين تتجه نحو هذه الغاية، وتستهدف هذا الهدف؛ ولقد قال سبحانه في وصف شرعه وكتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس‏]

2. ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين بعض الأمور التي تحل عرى الجماعة، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء، وعلاج هذه الأمور، والطب لها بدواء ناجع يشفى من سقامها؛ فذكر ما في الخمر والميسر من مآثم، واكتفى في هذا الموضع بذلك بيانا للعاقل الرشيد؛ وأشار إلى التنابذ والتدابر إن ضن الغنى بالعطاء، وفقد الفقير الرجاء، فأوجب الإنفاق؛ وأشار إلى التنابذ والتدابر إن ضن الغنى بالعطاء، وفقد الفقير الرجاء، فأوجب الإنفاق؛ وأشار إلى المعاول التي تهدم الجماعة الإسلامية، وتقوض أمنها، وتكثر شذابها، وأولئك هم الضعفاء واليتامى ومن لا مأوى لهم، فإن لم يصلحوا وعودهم أخضر، كان منهم الشطار واللصوص والهادمون الذين يأتون بنيان الجماعة من قواعده.

3. بعد أن أشار الله تعالى إلى الأذى والوقاية منه، والداء ودفعه، أخذ يبين أسس البناء الاجتماعي الفاضل، وابتدأ من هذه الأسس بالقاعدة التي يشاد عليها البناء، والوحدة التي يتكون منها البنيان، والتي إذا قويت فيها الروابط قوى، وشد بعضه بعضا؛ وتلك القاعدة هي الأسرة؛ فهي وحدة البناء الاجتماعي، وقاعدة كل بناء فاضل، وفيها تتربى كل المنازع الاجتماعية الفاضلة.

4. ابتدأ الله تعالى من أحكام الأسرة ونظمها الإسلامية الفاضلة بالانتقاء في ركنيها؛ وهما الزوج والقرينة؛ فإنه إن كان الاختيار فيهما حسنا كانت العلاقة موثقة بروابط المودة والرحمة والإخلاص، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم‏]

5. ابتدأ ببيان أساس الاختيار وهو التدين، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ عندما ابتدأ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بدعوته، وانبعث في مكة نور هدايته، كان أكثر المؤمنين، من الضعفاء غير ذوى الجاه والنسب والحسب، والأقلون كانوا كذلك، وكل المعاندين أو جلهم من أوسط قريش نسبا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم مثل مقالة الكفار الذين سبقوهم لأنبيائهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود]، ولما قويت شوكة الإسلام، كثر دخول ذوى الأنساب فيه شيئا فشيئا، وإن كانوا مع ذلك قلة من قريش، وكان أولئك بمقتضى نسبهم الرفيع يرون في بنى أعمامهم من قريش الكفاءة النسبية في الزواج، وربما كان فيهم بعض الميل لمصاهرتهم، بل كان من بعضهم فعلا من أبدى رغبة في المصاهرة؛ فجاء النهى القرآني عن نكاح المشركات، حتى يؤمن.

6. النكاح في أصل معناه اللغوي الضم، وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض، ثم أطلق على العقد الذي يحل علاقة الرجل بالمرأة، وعلى العلاقة التي تكون بينهما بما يتقاضاه الطبع‏؛ وإطلاقه بمعنى العقد إطلاق معروف قبل‏ الإسلام، وقد أقره الإسلام بشروط، والدليل على أنه بمعنى العقد كان معروفا في الجاهلية قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ولدت من نكاح، ولم أخرج من سفاح) أي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم في سلسلة نسبه الشريف لم تكن ولادة أي جد من جدوده، أو جدة من جداته إلا من نكاح صحيح حتى إسماعيل عليه السلام؛ وعلى ذلك يكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ النهى عن العقد عليهن.

7. الإنكاح: هو التزويج؛ فالنكاح الزواج، والإنكاح مباشرة العقد، وهو أكثر ما يكون عندما يتولى الشخص الزواج عن الغير؛ فمعنى‏ ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ لا تتزوجوهن؛ ومعنى‏ ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ لا تزوجوهن من نسائكم؛ فقد جرى العرف على أن المرأة يتولى زواجها أحد قرابتها؛ وقد استنبط الجمهور من هذه الصيغة أن المرأة ليس لها أن تتولى عقد زواجها، وأن العقد لا ينعقد بعبارة النساء؛ وخالف في ذلك أبو حنيفة وانفرد بالمخالفة؛ وروى عن أبى يوسف تلميذه أنه يرى رأيه؛ وقد قال أبو حنيفة: إن المرأة لها أن تتولى زواج نفسها، وتنفرد بالعقد، بشرط أن يكون الزوج كفئا، فإن كان غير كفء فلا يجوز العقد؛ وأن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ جرى مجرى الأغلب الشائع، ولأن ذلك هو الحسن المندوب إليه؛ لا اللازم الذي لا يجوز خلافه.

8. المشركون ـ هم عبدة الأوثان، وأصله من الإشراك، وأصل كلمة أشركته بمعنى جعلت الشيء بينه وبين غيره شركة، والشركة كما تكون في الحسيات والأشياء، تكون في المعاني فيقال أشركته في أمرى؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى‏ حاكيا عن موسى عليه السلام:‏ ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طه‏] وفى الحديث النبوي: (اللهم أشركنا في دعاء الصالحين)، ومن هذا الباب أطلقت كلمة (إشراك) على عبادة غير الله معه؛ لأن من فعل ذلك فقد أشرك مع الله غيره في العبادة والتقديس والألوهية؛ وألفاظ القرآن الكريم الدالة على ذلك كثيرة جدا، ولا تكاد تحصى.

9. لكثرة استعمال القرآن هذا اللفظ في هذا المعنى كان لكلمة (مشرك) إطلاق خاص فيه؛ وهو إطلاقه على من يعبد الأوثان؛ فكلمة: مشرك، ومشركين، ومشركات، كلها إذا ذكرت في القرآن انصرفت إلى عبدة الأوثان من غير أية قرينة دالة على ذلك؛ لأنها صارت في الإسلام حقيقة عرفية عليهم؛ ولا تطلق على اليهود والنصارى؛ وإن قال الله سبحانه عن النصارى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة] وعن اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة] إذ صار لفظ المشركين اسما لجنس معين؛ ولذا كان يذكر النصارى واليهود بعنوان أهل الكتاب، وعبدة الأوثان باسم المشركين؛ فقد قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة] فذكر في هذه الآية الكريمة الجميع بعنوان الكفر؛ ولكنه فصل بينهما، فجعلهما جنسين مختلفين، وإن ذلك أدى إلى الاختلاف في المعاملة، والاختلاف في الأحكام؛ وكانت العلة في هذا الاختلاف مشتقة من التسمية نفسها؛ فأولئك لهم كتاب، وإن كان محرفا؛ والمشركون ليس لهم كتاب، فلا ضابط يضبطهم، ولا عاصم يحول بينهم وبين الإيغال المطلق في الشر، ولا حريجة دينية تقيدهم، بل هم حائرون بائرون.

10. على هذا التحقيق اللغوي يتبين أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ لا يدخل في عموم النهى إلا الوثنيات ولا يدخل فيه قط الكتابيات، لأن الحقيقة العرفية القرآنية لا تدخل اليهود والنصارى في عنوان المشركين، ولا في عموم الوثنيين، وإن كانوا مثلثين، ولقد قال بعض المفسرين: إن كلمة المشركات تشمل بمقتضى عمومها الكتابيات؛ لأنهن يشركن بالله في العبادة، ويثلثن، ولكن جاء بعد ذلك النهى العام إباحة زواج الكتابيات في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة]، فكان في نظر أولئك تخصيصا لعموم النهى، أو نسخا لبعض هذا العموم، كما يقول بعض الفقهاء.

11. لكن ذلك التوجيه غير مستقيم عند الدارسين للقرآن الكريم العارفين لأسلوبه، وتقييد العبارات التي اشتمل عليها، والتبديل الذي يطرأ في أسلوبه على عمومها؛ فما من نص يخص أهل الكتاب وصفوا فيه بالإشراك، بل ترى كل النصوص الخاصة باليهود والنصارى إما أن يعبر عنهم باليهود والنصارى، كما في قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة]، أو يعبر عنهم بأهل الكتاب، كما في قوله تعالى‏ ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران‏]، وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران‏]، وحتى إنهم في مقام الذم يوصفون بالكفر ولا يوصفون بالشرك، كما في قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة]

12. بهذا كله يتبين أن التحريم من أول الأمر كان خاصا بالمشركات، ولم تحرم الكتابيات؛ بل جاء النص بإباحة الزواج منهن؛ وعلى ذلك تضافرت الأخبار عن الصحابة والتابعين بإباحة زواج الكتابية، وتحريم زواج المشركة؛ وقد قال جمهور المفسرين إنه لا يعرف أن أحدا من الصحابة قد حرم زواج الكتابية، وقد جاءت الروايات بأن عثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت وأن طلحة بن عبيد الله، وحذيفة اليمان تزوجا يهوديتين؛ ولكن مع ذلك روى عن عمر وعبد الله ابنه أنهما حرما ذلك أو كرهاه، والثاني هو الأصح، فإن عبد الله بن عمر كان رجلا متوقفا حذرا، وقد خشى على المسلم من زواج الكتابية؛ أما أبوه، فقد رأى أن المسلم الذي يتزوج الكتابية لا ترضى به كرائم العقائل منهن، بل ترضاه من ترضاه لمأرب حسى من مال أو جمال، أو نسب، ولا ترضاه ذات الأسرة الكريمة العريقة منهم؛ ولذلك ورد أنه استنكر من طلحة وحذيفة ما صنعا، فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: (لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن!)، وإن ذلك الظن الذي ظنه وخشيه نرى كثيرا منه يقع فيمن يتزوج من غير دينه؛ إذ لا يجد إلا المنحرفة في نفسها وخلقها وعقلها التي ترضى أن تخرج على أهلها وذويها، وأهل دينها لتتبع مسلما، لماله أو جماله أو جاهه، لا لدينه أو خلقه؛ لأنها لو كانت كذلك لارتضت الإسلام دينا.

13. إن المسلمين قد أجمعوا على كراهة تزوج المسلم غير المسلمة، وإن كان جمهورهم على حلّ الكتابية اتباعا للنص القرآني الكريم‏ ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة] وكانت الكراهة لما سبق من أنه في الغالب لا يرضى بالمسلم منهن إلا المنحرفات؛ ولأن المودة التي تكون بين الزوجين قد تؤثر في دينه فينخلع من أوامره، وإن لم ينخلع من عقيدته؛ وتؤثر قطعا في دين الأطفال، فيخرجون إلى الحياة، وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم، فغذتهم به كما غذتهم بلبانها؛ وقد رأينا رجالا متعلمين يعدون في عداد المسلمين في الإحصاء ويدخلون الكنيسة؛ لأن أمهاتهم عودتهم ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

14. لولا النص الكريم لقلنا إن حالنا، وانحلال الدين في نفوس الذين يقومون على ذلك توجب التحريم سدا للذريعة، ومنعا للفساد؛ وإن السلف الصالح كان لهم من قوة الدين، والحرص على مصلحة أولادهم، وتنشئتهم على الإسلام، ما يحصنهم وأولادهم، وما يجعلهم يجذبون أزواجهم إلى دينهم من غير أن يخلعوا هم الربقة.

15. النص الكريم الذي نتكلم في معناه في تحريم المشركات فقط كما تبين، والكتابيات في هذه الآية مسكوت عنهن، ونص على الإباحة في آية المائدة، وقوله تعالى في الغاية التي ينته إليها التحريم‏ ﴿حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ فيه إشارة إلى توقع إيمان المشركين رجالهم ونسائهم، وأن الفتح المبين قريب وليس ببعيد؛ فأولئك الذين يتعلقون بأنسابهم، ويرون المصاهرة معهم، لا يتعجلون أمرا لهم فيه أناة، فسيأتي اليوم الذي يؤمن هؤلاء جميعا، وبذلك يزول السبب الذي كان من أجله التحريم، وهو الإشراك، وإن في ذلك بشرى للمؤمنين بعامة بهذا الفتح، وبإعلاء كلمة الله، وبانتهاء القتال بين ذوى الأرحام الواصلة؛ وبشرى خاصة للذين يرغبون في الزواج من بنات أعمامهم، ويحول الشرك دونهم.

16. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ في هذه الجملة السامية بيان فضل التدين والإيمان على الشرك والكفر، وبيان فضل المؤمن على الكافر، وبيان فضل كمال النفس على جمال الجسم، وبيان فضل شرف القلب على شرف النسب؛ ومثلها في هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ فكلتا الجملتين الساميتين تشير إلى فضل الحقيقة الخلقية والدينية على المظهر الجسمي والاستعلاء النسبي.

17. الأمة: الأنثى من الرقيق؛ والسبب في أن زواج المؤمن من أمة مؤمنة لا يروقه منظرها، خير من زواجه من حرة مشركة يروقه منظرها، ويثير الإعجاب حسنها، كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ السبب في ذلك أن الزواج ليس علاقة وقتية، بل هو علاقة دائمة وليس قضاء وطر عاجل يكون الإعجاب المجرد سببه، بل الزواج صلة مودة رابطة يلاحظ عند الإقدام عليه عوامل بقائه لا الدوافع المجردة إلى إنشائه، وإذا كانت الأمة المؤمنة التي لا تثير الإعجاب قد اجتمعت فيها صفتان لا تثيران النفس، بل تمنعان، وهما الرق، وعدم رواء المنظر، ففيها صفة توجد المودة والوئام، وهى الإيمان، وإذا كانت الحرة المشركة التي تثير الإعجاب بجمالها فيها صفتان تسترعيان الأنظار، وهما النسب والجمال، ففيها صفة تقطع العلائق، وتفسد البيت، وهى الشرك الذي ليس معه عاصم عن إثم ولا غواية، ولا اتجاه معه إلى فضيلة ومودة واصلة وخلق كريم.

18. الزواج اختلاط روحي، وشركة أدبية، وتعاون دائم على قطع لأواء هذه الحياة وشدتها، والبيت الزوجي في هذه الحياة اللاغبة الكادحة كالواحة في وسط الصحراء، يأوي الرجل إليها بعد التعب واللغوب، فلا يصح أن يكون مناط الاختيار هو الجمال ولا النسب فقط، ولا هما معا من غير أن يكون إيمان وخلق واطمئنان نفس وعلو إدراك وأمانة، وحسن عشرة ولطف مودة، والمؤمنة ولو كانت أمة لا تثير الإعجاب بمنظرها فيها تلك الخصال الكريمة، فهي عالية المدارك؛ ولذا هجرت الشرك إلى الإيمان، وفيها حسن عشرة ومودة وخلق، واستمساك بالأمانة والفضيلة وبعد عن الخيانة والرذيلة، وقد كوّن ذلك كله الإيمان.

19. أما المشركة ولو كانت جميلة نسيبة فإنها في غالب أحوالها لا تتوافر فيها عوامل بقاء الحياة الزوجية؛ فهي مستعلية بنسبها، مزهوة بجمالها، لا عاصم من دين يعصمها عن الغواية، ولا مانع من خلق يمنعها من الخيانة، وليست عالية المدارك، بدليل أنها بقيت على الشرك مع قيام البينات على التوحيد شاهدة معلمة موضحة مبينة؛ وكيف يلتقى قلبان قلب يعبد الواحد القهار، وقلب يعبد الأوثان وليست المفاضلة بينهما في المنفعة التي تعود على العشير فقط، بل المفاضلة من حيث أثرهما في ثمرة هذا الزواج، وهما الأولاد؛ فالمشركة تغذى طفلها بالأوهام، والمؤمنة تربيه على الإيمان؛ والمشركة تضع في نفسه بذور الفساد والانحلال، والمؤمنة تغرس في قلبه غرس الفضيلة والاستمساك بالعروة الوثقى؛ فالطفل بين المسلم والمشركة ينشأ حائر النفس، مضطرب الوجدان، سقيم الضمير؛ بينما أولاد المؤمن والمؤمنة ينشئون على خلق قوى، ووجدان مستقيم، وقلب سليم.

20. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وإذا كان زواج المؤمن من المشركة حراما فتزويج المؤمنة من المشرك حرام أيضا، بل إنه أشد تحريما إذا كان التحريم مراتب؛ لأن في الزواج نوع ولاية من الرجل على المرأة، بدليل أن له حق تأديبها إن خرجت عن جادة الحق من غير تبريح ولا اعتداء، ولا قصد إلى الإيذاء؛ ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يزوج الأولياء نساءهم من مشركين، والإنكاح كما قلنا تزويج الإنسان غيره.

21. إن الأسباب في تفضيل المؤمن ولو عبدا على المشرك ولو كان يثير الإعجاب بجمال جسمه وقوة بدنه، وجاهه الدنيوي، هي التي ذكرناها هناك، ويزاد عليها أن المشرك بما فيه من عنجهية ورجس الجاهلية، والطغيان النفسي، يسئ معاملة زوجه من غير دين مانع، ولا خلق زاجر، ولا ضمير لائم؛ فمن زوج ذات رحم منه مشركا فقد أسلمها إلى الجحيم، وألقى بها في فتنة، تفتن بها في دينها وفى خلقها، وفى كرامتها وفى إنسانيتها؛ وإن ذلك لا يغنى عن كونه حرا نسيبا، فإن تلك المعاني التي تبذل أغلى من الحرية والنسب والمال والنشب؛ لأنها معانى الإنسانية السامية، ولهذا كان عبد مؤمن خيرا من كافر نسيب ولو غير مشرك.

22. التعبير بلفظ الإنكاح في جانب تزويج المؤمنة بالمشرك، استدلّ به لجمهور الفقهاء بأن المرأة لا تباشر عقد زواجها بنفسها، وأنها لا تنفرد باختيار الزوج، ولو كانت بالغة عاقلة رشيدة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل؛ وهنا نبين وجه الاستدلال للجمهور ومستنده من السنة: أما وجه الاستدلال بالآية فهو أنه عند النهى عن الزواج من المشركة، قال ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ وعند النهى عن الزواج من المشرك قال ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾ والأول العقد للنفس، والثاني العقد للغير، فذكر العقد للغير في مقام تزويج الأنثى دليل على أنها لا تتولى إنشاء العقد بنفسها، ولا يسوغ لها أن تنفرد به دون وليها؛ وقد أيدت ذلك أحاديث قد وردت مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلا بولي) ومثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، وخالف الجمهور أبو حنيفة، وفى رواية عن أبى يوسف أنه منعه؛ وقد زعم أن كل الأخبار الواردة بمنع الزواج إلا بولي لم تصح نسبتها إلى الرسول، وروى أن‏ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها) وإن التعبير بالإنكاح في الآية جرى مجرى العرف الشائع الغالب، وأن النكاح قد أسند إليها في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة] ولأنها تدبر أموالها، وتتولى العقود عليها، فأولى أن تتولى أمر زواجها؛ ولأن الولاية تثبت في الشرع لمصلحة المولى عليه، ومصلحتها في أن تكون حرة، ولا ضرر على أوليائها إذا تقيد الزواج بالكفاءة ومهر المثل، فلا عار يلحقهم حينئذ، ومع أن أبا حنيفة يطلق حرية المرأة في الزواج، فإنه يستحسن أن يتولى زواجها وليها كما هو العرف الجاري بين الناس.

23. هذه الآية حرمت نكاح المسلمة بالمشرك، وليس فيها ما يدل على تحريم المسلمة بالكتابي؛ لأن كلمة مشرك لا تعلم الكتابى في لغة القرآن الكريم، والحقيقة العرفية الإسلامية، والتي أجمع المسلمون عليها تحريم زواج المسلمة بالكتابي؛ وسند هذا الإجماع قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة] فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يحل، وإن كانت زوجته وأسلمت دونه انتهت وصارت لا تحل له، ولا يحل لها، وكلمة كافر تشمل الكتابى والمشرك، كما قال تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة]، وعلى هذا النص وعمل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم اعتمد إجماع الصحابة والتابعين من بعدهم إلى اليوم.

24. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ وازن سبحانه وتعالى بين الزواج من المؤمنة والزواج من المشركة، والزواج من المؤمن والزواج من المشرك؛ وكانت الموازنة من حيث الخيرية في كل جانب؛ فكان خير المشركين والمشركات حسيا ماديا، والمنفعة فيه عاجلة غير باقية؛ وكان الخير في جانب المؤمنين والمؤمنات نفسيا وروحيا والمنفعة فيه باقية غير سريعة الزوال، وتتناسب مع عقد الزواج وهو عقد الحياة الذي يمتد بامتدادها؛ وانتهت الموازنة بأن المؤمنة ولو كانت أمة خير من المشركة ولو كانت نسيبة حسناء؛ وبأن المؤمن ولو كان عبدا خير من المشرك ولو كان حسيبا نسيبا ونهدا قويا.

25. فى هذه الجملة السامية يبين سبحانه مغبة السوء في الزواج بالمشركين والمشركات، فقال سبحانه: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي أن أولئك المشركين والمشركات إذا كان فيهم ما يستهوى الراغب في الزواج منهم من نسب رفيع، وجاه عريض، ومال وفير، وجمال ومنصب، فهم بهذه الأوصاف الدنيوية التي تستهوى النفوس الضعيفة إذا كان معها الشرك بالله وعبادة الأوثان، يدعون إلى الإقدام على أسباب النار في الآخرة والعذاب الأليم فيها؛ فإن الاستهواء المادي للنفس الضعيفة، والخلطة المستمرة بين الزوجين، والاتصال الدائم بينهما، كما قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة] إن هذه الأمور كلها من شأنها أن تسهل قبول المسلم أو المسلمة لما عليه المشرك من عادات جاهلية، وأخلاق وثنية؛ تبتدئ تلك المفاسد بالسريان إلى النفس بالسكوت عنها، ثم بالرضا عن فاعلها؛ ثم بالرضا عن فعلها، ثم باستحسانها؛ وأول الشر استحسانه؛ وبذلك تنحل عرى الإسلام في نفس المسلم عروة عروة، حتى لا يبقى من الإسلام إلا الاسم والرسم؛ وهما لا يغنيان عن حقيقته شيئا!.

26. كلما كانت عوامل الإعجاب أكثر، كانت عوامل التأثير والدعوة أشد وأقوى؛ فإذا كانت مسلمة تحت سلطان رجل مشرك له فضل سطوة وجاه ومال وقوة ونسب وله جمال وهمة وإقدام، فإن تلك العوامل كلها تؤثر في نفسها شيئا فشيئا حتى تخرجها من الإسلام خطوة بعد خطوة، وتكون خارجة عنه وهى لا تحس ولا تشعر، وكذلك إذا كان الرجل المسلم قد تزوج مشركة حسناء لها منصب ومال ونسب، ولطف مودة وحسن مدخل، فإنها كلما قويت عوامل التأثير عندها، ضعف مقدارها من خلق الإسلام عنده، حتى يستحسن ما تستحسن؛ ويستهجن ما تستهجن؛ ولا دعوة إلى النار أقوى من هذا!

27. ليس المراد بالدعوة القول والنداء إلى ما يدخل النار؛ بل المعنى أن المودة والإغراء ولطف المدخل والاستيلاء النفسي؛ كل هذا من شأنه أن يؤثر، فيكون كالدعوة إلى الشرك والنار بالقول، بل أقوى تأثيرا.

28. سؤال وإشكال: هذه الدعوة إلى النار بهذا التأثير قد تكون أيضا في زواج المسلم بالكتابية، كما هي في زواج المسلم بالمشركة؛ فإنها إن كانت ذات جمال ومنصب في قومها، ولها استهواء خاص، قد تدعو إلى النار، كما تدعو المشركة، وتحل الخلق الديني في نفس المسلم، كما تحله المشركة؛ وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلم بغير المسلمة مطلقا كما حرم زواج المسلمة بغير المسلم مطلقا؛ والجواب: إن لذلك الكلام موضعه؛ ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلم بالكتابية؛ بل لقد زعم بعض العلماء أن زواج المسلم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة، لكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل، ولا يعملون العلة ليهمل النص؛ بل يرون أن علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة؟ فإن المشركة لا ترتبط بأي قانون خلقي يعصمها من الزلل، ويجعل الزوج يربطها به؛ أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإنسانية من الصدق والأمانة، ومنع الخيانة، وحسن المعاملة وحسن العشرة، وغيرها من المبادئ الفاضلة لا تزال باقية في تعاليم دينها؛ فيمكن الاحتكام إليها، كما يمكن الاطمئنان إلى أن الزوجة تستمسك بالفضيلة في الجملة إن أحسن الاختيار.

29. القرآن الكريم في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإقرار بها، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران‏] وقوله تعالى في مجادلتهم: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ ولَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ﴾ [البقرة] كما أمر الله سبحانه المسلمين عامة بألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالرفق، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ [العنكبوت‏]، فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة، غير المبعدة، أن أباح الإسلام الزواج من الكتابيات، بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران:

أ. الأول: أن النص القرآني المبيح خاص بالمحصنات منهن، إذ قال سبحانه: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة] والمحصنات في أظهر التفسير هن العفيفات؛ فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهن في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون، خارجون عن موضع الإباحة فيما أحسب؛ لأن الله أحل المحصنات، وهم استحلوا المنحرفات، ووقع ما توقعه عمر رضى الله عنه.

ب. الثاني: أن ولى الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإسلامية، أو على المجتمع الإسلامي، له أن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لمن يقدم عليه سدّا للذريعة ومنعا للشر؛ وذلك من باب السياسة الشرعية، لا من باب تحريم ما أحل الله؛ لأن الحل قائم على أصله، والمنع وارد على الضرر الذي يلحق المسلمين، إذ في ذلك من الاعتداء على جماعتهم ما فيه؛ كما أن أصل الأكل حلال؛ ولكن اغتصاب أموال الناس لنأكلها حرام؛ للاعتداء فيه؛ ولذلك سارت الدولة على منع رجال السلك السياسي من الزواج من الأجنبيات، وقد علمنا أن ضباطا في الجيش‏ يجلسون في مناصب قد تمكنهم من معرفة سر عدته وعتاده قد تزوج بعضهم من يهوديات، فحق على الدولة أن تنحيهم من أماكنهم، خشية على الجيش وقادته، وأن تسن قانونا يمنع ذلك في المستقبل!

30. هذه دعوة المشركين والمشركات بالإغراء وبعدوى الأخلاق، إلى النار، وهى نقيض نداء الله لعباده؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ فالله سبحانه بأوامره السامية، وشريعته المحكمة ينادى المؤمنين إلى سلوك طريق الجنة بأن يقوموا بالأعمال الصالحة، ويحصنوا نفوسهم في زواجهم بما يحمى أنفسهم من الشر والفساد، وبواعثهما، وما يغرى بهما، ويحموا جماعتهم من أن تكون فيها تلك الأدواء الفتاكة بقيام أسر من أزواج قد انحلت في نفوسهم روابط الفضيلة والأخلاق، فإن ذلك التحصين الشخصي والاجتماعى هو السبيل إلى جنة الرضوان، كما أنه السبيل إلى مغفرة الرحمن؛ لأن صون النفوس وعفة القلوب، وسيادة الفضيلة في المجتمع؛ كل هذا من شأنه أن يوجه إلى الخير وإلى الكمال، فتذهب عن النفس أدرانها، وتستر عيوبها؛ وبذلك يغفر الله ذنوبها إذا تابت وأقلعت.

31. قيّد سبحانه الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله سبحانه: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ والإذن يطلق على الإعلام، كما يطلق على الأمر، ويطلق على الإرادة مع الرضا والتوفيق والتيسير؛ وإن تلك المعاني الثلاثة متحققة في هذه الجملة السامية؛ فإن الله سبحانه أعلم الناس بطرق الجنة والمغفرة، وآذنهم بها ليسلك من يريد السلوك، وأمرهم أمرا قاطعا بالحق في كل شيء ليطيع من طلب الحق وسلك سبيله، وإنه سبحانه موفق من طلب الهداية ميسر له السبيل، آخذ بيده إلى الحق الذي لا مرية فيه.

32. ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يدعو الله سبحانه وتعالى إلى الجنة والمغفرة ويعلم الناس بالحق ويأمرهم به، وييسر السبيل إليه؛ ولا يكتفى سبحانه‏ وتعالى بذلك، بل يقيم البينات والآيات الدالة القاطعة على أن الحق هو ما يدعو إليه، والمصلحة فيما يأمر به، والفضيلة والكمال فيما يشرع لهم من شرع ويوضح لهم من مناهج؛ فقد اقترن كل حكم بحكمته، وكل أمر بوجه المصلحة فيه، وكان ذلك لأجل أن يتذكر الناس دائما، ويكونوا على علم بوجه الخير في أوامر دينهم، وأحكام الشرع الذي نزل من عند الله الحكيم العليم؛ وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ فالرجاء هنا في معنى التعليل؛ لأن الرجاء من الله تعالى في موضع التحقيق؛ أو نقول: الرجاء على حقيقته، وهو من العبد لا من الرب؛ أي أن الله سبحانه وتعالى شرع ما شرع من شريعة محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وبين بالآيات البينات وجه الخير فيما يشرع ليرجو الناس أن يكونوا في حال تذكر دائم لربهم وشرعه، وخالقهم وما أنزل لهم من أحكام تصلح دنياهم، وتقربهم إلى الله زلفى فينالون رضوانه يوم الدين.

33. هاتان الآيتان الكريمتان توضحان لكل مؤمن الطريق الذي يتخذه ليختار زوجا يرضاها قرينة له ويقطعا معا صحراء الحياة، وتكون له السكن والمطمأنّ؛ وتبينان له أنه يجب عليه ألا يسير وراء ما يثير الإعجاب من رواء المنظر، أو علو النسب، أو جاه دنيوي بل يطلب ذات الدين أولا؛ فإنه إن استقامت الأخلاق وتلاءمت النفوس والتقت القلوب، حسنت العشرة، وقامت الأسرة على دعائم من الفضيلة والخلق الكريم، وأنبت الله لهما الذرية الصالحة نباتا حسنا؛ وإن لم تستقم الأخلاق ولم يكن الدين، تقطعت الروابط، وكاد كل منهما لصاحبه، أو أفسد الاستهواء قلب الصالح منهما لصاحبه، فيصير؟، ويرين الله على قلبه، ولا يكون نبت الذرية إلا نكدا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك) والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/714

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية من آيات الأحكام، وتدخل في باب الزواج، وقبل بيان المضمون نمهد بتفسير لفظ النكاح والمشركين، والامة والعبد، يطلق النكاح على عقد الزواج، وعلى الوطء، تقول: فلان نكح فلانة، أي عقد عليها ان كانت خلية، وتقول: نكح زوجته، أي وطأها، والمفهوم من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ ان المسلم لا يجوز له أن يتخذ المشركة زوجة له، كما ان المفهوم من قوله: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ ان المشرك لا يحق له أن يتخذ المسلمة زوجة له، وعليه يكون المراد من النكاح الزواج بحقيقته وجميع ملابساته.

2. أما لفظ المشركين فقيل: انه يشمل كل من لا يؤمن بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا القول يدخل أهل الكتاب، وهم النصارى واليهود في عداد المشركين، وقيل: ان القرآن لا يطلق لفظ المشركين على أهل الكتاب، وان قالوا بربوبية عيسى، وان الله ثالث ثلاثة، واستدل الذاهبون الى هذا القول بقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾، وقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾، حيث عطف المشركين على أهل الكتاب، والعطف يستدعي التعدد والتغاير، لأن الشيء لا يعطف على نفسه.

3. يطلق لفظ الامة على المملوكة، والحرة، تقول للحرة يا أمة الله، أي‏ يا عبدة الله، وكذلك العبد، لأن الآدميين عبيد الله، والآدميات اماؤه.

4. محصل المعنى: لا تتزوجوا أيها المسلمون من مشركة ما دامت على الشرك، وتزوجوا امرأة منكم، وان كانت دون المشركة خلقا وخلقا، ولا تزوجوا مشركا ما دام على شركه، وزوجوا رجلا منكم، وان كان دون المشرك مالا وجاها.

5. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾، أولئك اشارة الى المشركين والمشركات، ويدعون الى النار بيان للحكمة الموجبة لعدم الزواج أخذا وعطاء من أهل الشرك، والحكمة هي ان الصلة الزوجية بهم تؤدي الى فساد العقيدة والدين ـ وعلى الأقل ـ الى الفسق والتهاون بأحكام الله ‏.

6. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾، هنا دعوتان: الأولى دعوة المشركين الى فعل ما يوجب دخول النار، وغضب الله سبحانه، والثانية دعوة الله الى فعل ما يوجب المغفرة ودخول الجنة، ومن هذا الفعل الزواج بالمؤمنة دون المشركة، وتزويج المؤمن دون المشرك.. وليس من شك ان المؤمنين هم الذين يلبون دعوة الله، وينالون بذلك مفخرته، ويدخلون جنته بإذنه، أي بهدايته وتوفيقه.

7. اتفق المسلمون على انه لا يجوز للمسلم، ولا للمسلمة التزويج ممن لا كتاب‏ سماوي لأهل ملته، كعبدة الأوثان والشمس والنيران، وما الى ذلك، وب الأولى من لا يؤمن بشيء، وكذا لا يجوز للمسلم أن يتزوج من مجوسية، وبالأولى ان لا تتزوج المسلمة من مجوسي، وان قيل بأن للمجوس شبهة كتاب.

8. اتفقت مذاهب السنة الأربعة على صحة الزواج من الكتابية.. واختلف فقهاء الشيعة فيما بينهم، فقال أكثرهم: لا يجوز للمسلم أن يتزوج اليهودية والنصرانية، وقال جماعة من كبارهم، منهم الشيخ محمد حسن في الجواهر، والشهيد الثاني في المسالك، والسيد أبو الحسن في الوسيلة، قالوا: يجوز، ونحن نميل الى هذا الرأي، والدليل عليه:

أ. الأدلة الدالة على اباحة الزواج بوجه عام، خرج منها زواج المسلم بالمشركة، والمسلمة بالمشرك والكتابي، وبقي ما عدا ذلك مشمولا ومدلولا للعمومات والإطلاقات.

ب. قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، أي أحل لكم النساء المحصنات من أهل الكتاب، والمراد بالمحصنات العفيفات، أما قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ فقد تقدم انه خاص بالمشركات، وهن غير الكتابيات، أما قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ فان المراد بالكوافر هنا المشركات، لا أهل الكتاب، لأن الآية نزلت فيمن أسلمن وهاجرن الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تاركات أزواجهن المشركين، والسياق يدل على ذلك، وهذه هي الآية بكاملها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾

ج. هذا، الى أحاديث صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته صلّى الله عليه وآله وسلم في صحة زواج المسلم من الكتابية، وتكلمنا عن ذلك مفصلا في الجزء الخامس من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق، باب المحرمات، فقرة اختلاف الدين.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/332

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾، قال الراغب في المفردات: (أصل‏ النكاح‏ للعقد، ثم أستعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع، ثم أستعير للعقد لأن أسماء الجماع، كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه)، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود.

2. المشركات‏ اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والإيمان، فالقول بتعدد الإله واتخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهر، وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة ـ وخاصة ـ أنهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وهو شرك، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته، فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ إلى أن قال ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لا تعادل‏ الأفعال المشاركة لها في مادتها، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.

3. على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾، وقوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾، وقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، إلى غير ذلك من الموارد، أما قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، ففي إثبات الحنف له عليه السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى مثنوية النصارى محضا بل هو عليه السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متبع له يكن المشركين عبدة الأوثان، وكذا قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾، وقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الأولياء المقربون من صالحي عباد الله.

4. ظهر من هذا البيان على طوله: أن ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب، ومن هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، أو أن الآية أعني قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة، ووجه الفساد: أن هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن أخذ فيها عنوان الكوافر وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإن الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى‏ ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ إلا أن ظاهر الآية كما سيأتي إن شاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.

5. ولو سلم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتداء لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لأن آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة، على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منسوخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

6. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾، الظاهر أن المراد بالأمة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الإماء ويعيرون من‏ تزوج بهن، فتقييد الأمة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ما كان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهن، والتحرز عن التزوج بهن يدل على أن المراد أن المؤمنة وإن كانت أمة خير من المشركة وإن كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الإنسان بحسب العادة، وقيل: إن المراد بالأمة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده وهو بعيد.

7. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

8. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو أن المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق، والمعمية عن إبصار طريق الحق والحقيقة فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالآخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار، والمؤمنون ـ بخلافهم ـ بسلوكهم سبيل الإيمان، وتلبسهم بلباس التقوي يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى الجنة والمغفرة، وكان حق الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنة (إلخ)، ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على أن المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شئونهم الوجودية إلى ربهم، لا يستقلون في شيء من الأمور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾

9. في الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ (إلخ)، فإن جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والأنس به إلا البعد من الله سبحانه، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة أمره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، ويمكن أن يراد بالدعوة الأعم من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/203

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية تأكيد على الأساس التشريعي للحكم بحرمة تزويج المشركات للمؤمنين وحرمة تزويج المؤمنات للمشركين، وهو التباين في النظرة بين المؤمنين وبين المشركين، مما يوجب التباين في السلوك وفي الهدف، فينعكس على الحياة الزوجية التي يجب أن تخضع للمودة والرحمة القائمة على وحدة التصور، ووحدة الشعور بالهدف، فالمؤمنون يسيرون في اتجاه دعوة الله إلى الجنة، التي تقتضي نمطا في السلوك وفي التفكير يختلف مع النمط في السلوك والتفكير الذي تقتضيه دعوة المشركين إلى النار، فكيف يمكن أن يتحقق الإخلاص للحياة الزوجية مع الالتزامات الروحية والفكرية والحياتية التي تفرضها العقيدة؟.

2. قد يجدر بنا أن نفهم من الآية الكريمة، أنها لم تجعل النهي عن الزواج ـ هنا ـ على أساس التعسف، كما ربما يتوهّمه بعض الناس، حيث جعل الحكم ثابتا حتى لو كان على خلاف رغبة الناس وإعجابهم، بل حاولت أن تقود الإنسان إلى الموازنة بين الرغبة العاطفية وبين المصلحة الواقعية للعقيدة والحياة، لينتهي ـ بالنتيجة ـ إلى الاقتناع بأن الرغبة لا تمثل شيئا كبيرا بإزاء قضية المصير للإنسان في الدنيا والآخرة.

3. الظاهر أن المراد بالمشركين، هم الذين يشركون بالله بشكل مباشر، فلا يشمل الذين يتّصفون به بشكل غير مباشر، كما يذكر عن أهل الكتاب الذين‏ يقولون بربوبية عيسى، أو أن الله ثالث ثلاثة، ولكن بطريقة لا تتنافى مع التوحيد في زعمهم، فإن المصطلح القرآني جرى على التفريق بين المشركين وأهل الكتاب في ما فصّل من أحكام، وما أطلقه من لفظ، فقد ورد في قوله تعالى، في سورة البيّنة: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البيّنة: 1] وقوله تعالى، في سورة البقرة: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105] فإن العطف يدل على المغايرة بين الفريقين، وفي ضوء ذلك، لا تدل الآية على حرمة التزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب، فلا بد من التماس دليل ذلك في غير القرآن، في ما أجمع عليه المسلمون من حرمة زواج المسلمة بغير المسلم من كتابي وغيره، وما اختلفوا فيه من زواج المسلم بالكتابية بين محلّل ومحرّم.

4. ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وهي قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5]، وقد تبين فساد هذا القول مما ذكرناه في تحديد المراد من لفظ المشركين في القرآن وعدم شمولها لأهل الكتاب، فلا تكون هناك علاقة بين الآيتين في مدلوليهما، لأن آية البقرة واردة في حرمة نكاح المشركات اللاتي يشركن بالله غيره بشكل مباشر، بينما كانت آية المائدة واردة في حلية نكاح الكتابيات دون غيرهن، فليطلب ذلك من مظانه في الكتب الفقهية التي عالجت هذه المسائل بتفصيل، وتبقى لنا هذه الآية لتركز الخط الإيماني، الذي تقوم عليه العلاقات الزوجية، من أجل أن تكون أساسا لبناء بيت إسلامي يقوم على المحبة والمودة المرتبطة بالله في أجواء الإيمان والإسلام.

5. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ فإن الله لا يريد للمسلمين الزواج من النساء اللاتي يعبدن الأصنام ويعتبرنها شركاء لله في حق العبودية، لأن العلاقة الزوجية قائمة على الاتحاد الروحي، والانسجام الفكري بين الزوجين، بالإضافة إلى الاتحاد الجسدي، وهل يمكن قيام اتحاد بين الفكر التوحيدي والفكر الإشراكي، أو حصول انسجام بين قيم الوحدانية وقيم الوثنية!؟، فإذا تبدل الشرك بالإيمان وانفتحت قلوبهن على الله وعلى دينه، فلا بأس عليهم من الزواج بهنّ، من خلال الانسجام الفكري المنفتح على اللقاء الروحي في الحياة المشتركة بينهم.

6. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ المشركة بالصفات المتنوعة التي تجذب اهتمام الرجل وإعجابه، كالمال، والذكاء، والجمال، والحسب، والموقع الاجتماعي، والشرف العائلي، لأن الإيمان يتميز على ذلك كله، لأنه ينفذ إلى عمق الوجدان الإنساني في تصوراته وتطلعاته ومشاعره وأفكاره وعاداته وتقاليده وروحيته مما يترك تأثيره على العمق الداخلي للشخصية الإنسانية، بحيث ينفتح العقل على العقل، والروح على الروح، والقلب على القلب، والحياة على الحياة، فتتداخل الشخصيتان، لتؤلفا شخصية واحدة متنوعة الخصوصيات.

7. إن القيمة الإيمانية بكل عناصرها وامتداداتها وروحياتها، هي الأساس في ثبات الحياة الزوجية بين المؤمنين والمؤمنات، وقد جاء في الحديث‏ النبوي الشريف‏، أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يستأمره في النكاح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: نعم، انكح وعليك بذوات الدين تربت يداك.‏

8. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ لأن المؤمنة لا ترتاح لدين المشرك في شركه، ولا تأمن على دينها معه، ولا تجد في الزواج به السكينة والطمأنينة الروحية والفكرية.. ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ المشرك في صفاته الجسدية، والمالية، والاجتماعية، للأسباب ذاتها التي ذكرناها في الفقرة السابقة، وقد جاء في الحديث الشريف‏: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه وإن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)

9. للأسرة والأولاد الدور الكبير في علاقة الإنسان بالسلامة الروحية في الدائرة الزوجية الإيمانية، إن الزوج المؤمن يمنعه إيمانه من الإساءة إلى زوجته، كما أن الزوجة المؤمنة يمنعها إيمانها من خيانة زوجها، لأن الإيمان يمثل الالتزام العميق بالقيمة الأخلاقية والمسؤولية الشرعية، بينما لا يملك المشرك أو المشركة مثل هذه القيمة في أخلاقيات الشرك، لأن الوثنية تغرق صاحبها في المنفعة المادية التي تتحرك بالإنسان هنا وهناك من دون ضوابط، الأمر الذي يجعل العلاقة الزوجية في حالة اهتزاز دائم، حيث تخضع المسألة للأخلاقيات الفردية الطارئة لدى هذا الإنسان أو هذه الإنسانة، وذلك أن الزوج المشرك أو الزوجة المشركة قد يتميزان ببعض الأخلاقيات الذاتية بمحض الصدقة للحالة الطارئة بعيدا عن العمق الروحي.

10. إن العلاقة الزوجية هي علاقة من الداخل قبل أن تكون من الخارج، وقد أقامها القرآن على المودة والرحمة، فلا بد لها من قاعدة في الروح تنتج هذين العنصرين الروحيين اللذين يحميان الحياة الزوجية من الاهتزاز والانهيار، ولذلك كان من الضروري أن يفكر المسلم أو المسلمة بالعناصر الروحية الداخلية التي تثير الإعجاب الإيماني والعقلي بالإضافة إلى العناصر الخارجية.

11. ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ لأنهم يدعون إلى الشرك في العقيدة أو العبادة، الذي لا يغفره الله لصاحبه إلا إذا تراجع عنه، ويتحركون في حياتهم من دون أية قاعدة فكرية عاصمة من الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي، مما يدفعهم إلى التمرد على كل القيم الإنسانية المنفتحة على التعاليم الإلهية، التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في السمو الروحي الذي يقترب به الإنسان من الله، وبذلك يستحقون دخول النار فيجرّون معهم أزواجهم وذرياتهم وكل الناس الذين يعيشون معهم، ويلتزمون بخطّهم الذي يقودهم إلى الضلال المندفع نحو النار.

12. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ﴾ أي بأمره، من خلال معنى الإيمان الذي ينفتح على الله، وعلى كل مواقع رضاه ومواقع القرب منه، الأمر الذي يقود إلى المغفرة في خط التوبة، وإلى الجنة في خط الإيمان والعمل الصالح، فيلتقي عليه الناس الذين يلتزمون الإيمان، ليدخلوا في رحمة الله وجنته، كما قال الله سبحانه‏ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23 ـ 24]، وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أو الإنسانة المؤمنة مراعاته في اختيار الزوجة أو الزوج، حتى تقوده أو يقودها إلى الجنة لا إلى النار، ليقتربا من الله ـ سبحانه ـ الذي يهديهم سواء السبيل.

13. ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ليقربهم إليه من خلال تقريبهم إلى الإيمان به من خلال آياته الظاهرة البينة التي تؤدي إلى القناعة، وترتكز على الحجة الواضحة التي لا تسمح لأي لبس أو اشتباه، وذلك هو دور الآيات، فإنها تنقذ الإنسان من غفلته، وتدفعه إلى أن يتذكر كل القضايا الحية المتصلة بحياته وبمصيره، ليتوازن في نظراته إليها وفي التزامه بها في الواقع العملي.

14. قد يستدل بعض الفقهاء بكلمة ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ على حرمة الزواج بغير المسلمين، لأن أي دين أو اتجاه آخر غير الإسلام ليس مقبولا عند الله وهو خاسر في الآخرة، مما يعني أنه يدعو إلى النار، وفي ضوء ذلك، فإنها تدل على حرمة الزواج بأي كافر أو كافرة، سواء كان كفرا بالله أو بوحدانيته أو برسوله أو باليوم الآخر، حتى لو كان الكافر كتابيا، لكن الظاهر من الدعوة إلى النار، أنها منفتحة على الشرك الذي لا يغفره الله وعلى الخط الفكري الذي لا يؤمن باليوم الآخر، وهذا قد لا ينطبق على الكافرين بالرسول الذين يلتزمون دينا آخر كاليهود والنصارى، لأن لديهم عناوين توحيدية دينية خاضعة للإيمان باليوم الآخر، الذي تتحدد فيه مواقع أهل النار وأهل الجنة عندهم، مما لا يجعل الموقف لديهم مصداقا للدعوة إلى النار، بقطع النظر عما إذا كانت دعوتهم الدينية مقبولة عند الله أو غير مقبولة، ولعل ذلك هو ما جعل الإسلام يفرق في أحكامه بين المحلدين والمشركين من جهة، وأهل الكتاب من جهة أخرى، لوجود كلمة سواء مع أهل الكتاب ليست موجودة عند الملحدين والمشركين، وهي توحيد الله والإيمان بالرسالات، مع الاختلاف في بعض التصورات اللاهوتية والمفاهيم العقيدية والأخلاقية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/236

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ فلا يكفي تركهن لما هو شرك بل تحريمهن مستمر حتى يؤمنّ وعلى هذا فلا بد من إسلامها وامتحانها حتى يظهر منها الإيمان وفي ذلك فوائد:

أ. الأولى: أنها ما دامت على كفرها لا تحل، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة:10]

ب. الثانية: أنها وإن تركت ما هو شرك فلا يؤمن بقاء الشرك في قلبها وإن تركته قولاً وفعلاً.

ج. الثالثة: أن حكم الشرك باقٍ عليها ما لم تتب ولا توبة إلا بالإسلام والإيمان بأن الله لا شريك له، وبما وجب الإيمان به؛ فلا تحل قبل ذلك لأنها في حكم المشركة، فالآية الكريمة قد شملت هذه الفوائد، وقد غلط في التعبير من قال في تفسيرها فحرمهن ما دمن مشركات لأن عبارة القرآن أعم وأنفع لشمولها المشركات بقلوبهن ومن هن معرضات للعودة في الشرك لإصرارهن عليه وعدم المانع لهن الذي هو الإيمان.

2. ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ والأمة المؤمنة يباح نكاحها لمن خشي العنت، فهي خير من المشركة سواء كانت أمة أو غير أمة، وهذا يدل على شرف الإيمان وعلوّ قدره حيث فضلت الأمة المملوكة على الحرة المشركة، مع أن الغالب في ذلك العصر في أول الإسلام أن تكون الأمة من غير العرب وأن المشركة التي هي حول المسلمين تكون من العرب بل قد تكون من قريش، وقد يقال: المراد بالأمة: أمة الله لا أمة المخلوق؛ وهذا بعيد لأنه كان يكفي أن يقول: ولمؤمنة خير من مشركة، لو كان المراد أمة الله فكل النساء إماء الله وتذهب فائدة ذكر الأمة.

3. ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ ويدخل في هذا: الإعجاب بجمالها، والإعجاب بها لأجل مالها، أو لأجل منصبها ومعدنها، فالأمة المؤمنة خير منها وأصلح للزواج بينها وبين المسلم.

4. ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ فتحريمهم دائم حتى يؤمنوا، وفي هذا دلالة على أن المزوِّج هو الرجال وأن المرأة لا تستقل بنفسها في ذلك وإن كان لا بد من رضاها، ولولا ذلك لقال: ولا تنكحن المشركين حتى يؤمنوا، فلما قال تعالى: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ دون ولا تنكحن دل ذلك على أن نكاح المرأة متوقف على إنكاح الرجال لها وإلا بطلت فائدة توجيه الخطاب إليهم وصار كما لو قال للنساء: ولا تزوِّجن المشركات مسلماً حتى يؤمنَّ، وهذا لا معنى له مع كون المسلم يتزوج ولا يحتاج إلى أن تزوجه النساء.

5. ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ من المماليك ﴿خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ بأي مرغب فيه من الفتوّة والسخاء والشجاعة وجمال الخلق وكمال البنية والثروة وسعة الصدر والرفق واللين والعاطفة فهذه المرغبات وغيرها كلها لا شيء في جنب الإيمان.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ أي المشركات والمشركون ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ فالخطر في مناكحتهم أعظم من الخطر في مناكحة العبد الفقير، أو الذي لا يظهر فيه مرغب سوى الإيمان لأن الإيمان يدعو إلى الخير واجتناب الظلم واجتناب التقصير في الحقوق.

7. ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ فالزواج بأهل الإيمان هو الذي يدعو إليه لئلا تفوت الجنة والمغفرة لأن فوات ذلك هو الخسران المبين، أما الدنيا فما فات منها فعليه العفاء إذا سلم الدين وهذا معنى واضح لا لبس فيه ولا اشتباه، وعموم الآية يدل على تحريم الكتابية المشركة لأنا لو فرضنا إباحة الكتابية فليس معناه أن كونها كتابية يبيح نكاحها على كل حال ولو كانت مشركة، إنما معناه إن كونها كتابية لا يقتضي تحريمها إذا لم يوجد مانع غير كونها كتابية.

8. ألا ترى أنها لا تحل إذا كانت أمّاً أو أختاً أو بنتاً أو نحو ذلك أو كانت زانية مصرة على الزنا، فكيف لا يكون الشرك إذا انضاف إلى نسبتها إلى الذين أوتوا الكتاب مانعاً من نكاحها مع أنه الخطر العظيم على الزوج وأولاده لأن المشركة تدعوهم إلى الشرك بطريقة التخويف مما تشرك به، فقد يمرض ابنها وتعتقد أنه يشفى إذا قربت لمن تشرك به من دون الله، وتخوف أباه إن لم يوافقها على هذا أن ابنه يموت، وكثير من المسلمين ضعفاء الإيمان ينحرف بسهولة، فأما تربية أولادها على الشرك بنفس الطريقة فظاهر، ألا يكفينا القرآن وهو يحذرنا من ذلك ويفيد أنهم يدعون إلى النار، وأن الله لا يرضى ذلك لأنه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه فكيف يرضى المشركة إذا كانت كتابية مع حصول المانع فيها من جهة العموم ومن جهة التعليل، وما مثال ذلك إلا مثال رجل قرأ قول الله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ فقال: قد أباح الله الأكل والشرب ولم يمنع من أكل الحرام في ليلة الصيام فيستحل بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير في ليلة الصيام، أو رجل قرأ قول الله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة:5] فاستحل طعامهم ولو كان فيه خمر أو لحم خنزير، ولا إشكال في أن ذلك من الباطل الذي لا يقوله من يريد الحق.

9. ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ما هو في فطرتهم، فمن الفطرة أنه لا ينبغي لعاقل إلا الحذر من أسباب النار على نفسه وعلى أولاده، فقد بين الله الخطر في مناكحة المشركين وأنها تدعو إلى النار ومظنة التسبيب لها لنتذكر ما هو حاضر في عقولنا إن غفلنا عنه، وبهذا ظهر أن هذه الآية هي المحكمة وما توهم منه خلافها فهو من المتشابه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/129

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية وطبقا لسبب النزول بمثابة جواب عن سؤال آخر حول الزّواج مع المشركين فتقول‏ ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ ثمّ تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول‏ ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾، فصحيح أنّ نكاح الجواري وخاصّة الجواري اللّاتي ليس لهنّ مال ولا جمال غير محبّب في عرف النّاس ولا محمود لا سيّما إذا كانت هناك امرأة مشركة في مقابل ذلك تتمتّع بجمال وثروة ماديّة، ولكنّ قيمة الإيمان تجعل الكفّة تميل لصالح الجواري، لأنّ الهدف من الزواج ليس هو اللّذة الجنسيّة فقط، فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربيّة لأطفاله وتشكّل قسما مهمّا من شخصيّته، فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة.

2. ثمّ إنّ الآية الشّريفة تقرّر حكما آخر وتقول:‏ ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾، وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتّى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضا على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري، لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة، فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادة من تأثير الزوجة على زوجها.

3. في ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكّر والتدبّر في الأحكام وتقول‏ ﴿أُولَئِكَ﴾ ـ أي المشركين ـ ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ ثمّ تضيف الآية ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾

4. كما رأينا في الآية الكريمة أنّها تبيّن الغرض والحكمة من هذا التحريم‏ بجملة قصيرة، ولو أنّنا توغّلنا في المراد منها يتّضح:

أ. أنّ الزّواج هو الدّعامة الأساسيّة لتكثير النسل وتربية أولاد وتوسعة المجتمع وأنّ المحيط العائلي مؤثّر جدّا لتربية الأولاد، هذا من جهة.

ب. ومن جهة أخرى التأثير الحتمي للوراثة على أخلاق الأولاد وسلوكهم، فالطّفل يتربّى في أحضان الاسرة منذ تولّده وينمو ويترعرع تحت رعاية امّه وأبيه غالبا، وهذه المرحلة هي المرحلة الحسّاسة في تكوين شخصيّة الطفل.

ج. ومن جهة ثالثة أنّ الشرك هو المصدر الأساس لأنواع الانحرافات، وفي الحقيقة هو النار المحرقة في الدنيا والآخرة، ولذلك فالقرآن الكريم لا يبيح للمسلمين أن يلقوا بأولادهم في هذا النّار، مضافا إلى أنّ المشركين الّذين هم بالحقيقة أجانب عن الإسلام والمجتمع الإسلامي سوف ينفذون إلى مفاصل المجتمع الإسلامي وبيوت المسلمين من هذا الطريق، فيؤدّي ذلك إلى تنامي قدرة الأعداء في الداخل والفوضى السياسيّة والاجتماعيّة في أوساط المجتمع، وهذا الحال إنّما يكون في ما لو أصرّ المشركون على شركهم، ولكنّ الباب مفتوح أمامهم فبإمكانهم اعتناق الإسلام والانخراط في صفوف المسلمين وبذلك يستطيعون الزواج من أكفّائهم المسلمين.

5. كلمة (النكاح) وردت في اللّغة فتارة بمعنى المقاربة الجنسيّة، وأخرى بمعنى عقد الزّواج، والمراد هنا في هذه الآية هو الثاني، أي عقد الزّواج بالرّغم من أنّ الرّاغب في المفردات يقول: (النكاح) في الأصل بمعنى العقد، ثمّ استعمل مجازا في العمليّة الجنسيّة.

6. مفردة (المشرك) تطلق غالبا في القرآن الكريم على من يعبد الأوثان، ولكنّ‏ بعض المفسرين ذهب إلى أنّ المشرك يشمل سائر الكفّار كاليهود والنّصارى والمجوس (وبشكل عام أهل الكتاب) أيضا، لأنّ كلّ واحدة من هذه الطوائف يعتقد بوجود شريك للباري عزّ وجلّ، فالنّصارى يعتقدون بالتثليث، والمجوس يذهبون إلى الثنويّة وأنّ ربّ العالم هو مزدا وأهريمن، واليهود يرون أنّ (عزير) ابن الله، ولكن بالرّغم من أنّ هذه الاعتقادات الباطلة موجبة للشّرك إلّا أنّ الآيات الشريفة الّتي تتحدّث عن المشركين في مقابل أهل الكتاب ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ اليهود والنصارى والمجوس يرتكزون في أساس ديانتهم على النبوّات الحقّة والكتب السماويّة فيتّضح أنّ منظور القرآن الكريم من المشرك هو عبّاد الوثن، وقد ورد في الحديث النبوي المعروف في ضمن وصايا متعدّدة (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهو شاهد على هذا المدّعى، لأنّ من المسلّم أنّ أهل الكتاب لم يخرجوا من جزيرة العرب، بل بقوا هناك يعيشون جنبا إلى جنب مع المسلمين بعنوان أقلية دينيّة، ويلتزمون بما أمر به القرآن الكريم من أداء الجزية إلى المسلمين.

7. ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ حكم الآية الكريمة قد نسخ والناسخ له الآية الشريفة ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ حيث أجازت نكاح نساء أهل الكتاب، وقد نشأ هذا التصور من الإعتقاد أنّ الآية قد حرّمت الزواج مع‏ جميع الكفّار، فعلى هذا تكون الآية من سورة المائدة الّتي أجازت الزواج من كفّار أهل الكتاب ناسخة لهذا الحكم (أو مخصّصة له) ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه من تفسير الآية يتّضح أنّ نظر هذه الآية خاص بالزّواج من المشركين وعبّاد الأوثان لا كفّار أهل الكتاب كاليهود والنّصارى (وطبعا في مورد الزواج من كفّار أهل الكتاب هناك قرائن في الآية وما ورد من الأحاديث عن أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد هو الزّواج الموقّت)

8. أشار بعض المفسّرين المعاصرين إلى نكتة ظريفة في هذه الآية، وهي أنّ هذه الآية وآية أخرى تأتي بعدها تبيّن الأحكام المتعلّقة بتشكيل الاسرة في أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكما شرعيا: 1 ـ حكم الزواج مع المشركين، 2 ـ تحريم الاقتراب من الزوجة في حال الحيض، 3 ـ حكم القسم بعنوان مقدّمة للإيلاء (المراد من الإيلاء هو أن يقسم الإنسان أن لا يجامع زوجته)، 4 ـ حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5 ـ عدّة المرأة المطلّقة، 6 ـ عدد الطلقات، 7 ـ إبقاء الزّوجة بالمعروف أو تركها بالمعروف، 8 ـ حكم الرّضاع، 9 ـ عدّة المرأة المتوفّى زوجها (الأرملة)، 10 ـ خطبة المرأة قبل تمام عدّتها، 11 ـ مهر المرأة المطلّقة قبل الدّخول، 12 ـ حكم الهديّة للمرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.. وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقيّة في هذه الآيات تبيّن أنّ مسألة تشكيل الأسرة هو نوع من العبادة لله تعالى ويجب أن يكون مقرونا بالتفكّر والتدبّر.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/125

99. العشرة الزوجية والطهارة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈99⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 222 ـ 223]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبيّ:

روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) أنّه قال: أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة؛ فمنها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، فذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم الله ورسوله، ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا، حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحا، قال زر: قلت لأبي بن كعب: وما التوبة النصوح؟ قال سألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: (هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك عند الحافر، ثم لا تعود إليه أبدا(1).

__________

(1) ابن عرفة في جزئه: ص٦٤

أبو الدرداء:

روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) أنه سئل عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: وهل يفعل ذلك إلا كافر!؟(1).

__________

(1) عبد الرزاق في جامعه: ٢٠٩٥٧

ابن مسعود:

روي عن أبي القعقاع الجرمي قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ)، فقال: آتي امرأتي كيف شئت؟ قال نعم، قال وحيث شئت؟ قال نعم، قال وأنى شئت؟ قال نعم، ففطن له رجل، فقال: إنه يريد أن يأتيها في مقعدتها! فقال: لا، محاش النساء عليكم حرام(1).

__________

(1) سعيد بن منصور: ٣٧٠ ـ تفسير

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُم﴾ التسمية عند الجماع(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ بالماء للصلاة(2).

3. روي أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن تؤتى النساء في أعجازهن، وقال: (إن الله لا يستحيي من الحق(3).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٣

(2) ابن جرير: ٣/٧٤٢

(3) ابن أبي شيبة: ٤/٢٥٢

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أن القرآن أنزل في شأن الحائض، والمسلمون يخرجونهن من بيوتهن كفعل العجم، ثم استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، فظن المؤمنون أن الاعتزال كما كانوا يفعلون بخروجهن من بيوتهن، حتى قرأ آخر الآية، ففهم المؤمنون ما الاعتزال؛ إذ قال الله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ (1).

2. روي أنّه قال: أن ثابت بن دحداحة الأنصاري سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن المحيض؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ (2).

3. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم﴾ في أناس من الأنصار أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فسألوه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ائتها على كل حال إذا كان في الفرج(3).

4. روي أنّه قال: أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فسألوه عن أشياء، فقال له رجل: إني أحب النساء، وأحب أن آتي امرأتي مجبية، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه، وأنزل فيما سأل عنه الرجل: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم﴾ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج(4).

5. روي عن ابن جبير أنّه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل، فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال بلى، فاقترأ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، فقال ابن عباس أنّه قال: من حيث جاء الدم، من ثم أمرت أن تأتي، فقال: كيف بالآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾؟ فقال: أي ويحك، وفي الدبر من حرث!؟ لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا، إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن: ﴿أَنَّى شِئْتُم﴾ من الليل والنهار(5).

6. روي عن عكرمة أنّه قال: جاء رجل إلى [ابن عباس] ابن عباس، فقال: كنت آتي أهلي في دبرها، وسمعت قول الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾؛ فظننت أن ذلك لي حلال، فقال: يا لكع، إنما قوله: ﴿أَنَّى شِئْتُم﴾ قائمة وقاعدة، ومقبلة ومدبرة، في أقبالهن، لا تعد ذلك إلى غيره(6).

7. روي عن طاووس بن كيسان أنّه قال: سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها، فقال: هذا يسألني عن الكفر(7).

8. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ من الدم(8).

9. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ بالماء(8).

10. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى(9).

11. روي أنّه قيل له: أصب الماء على رأسي وأنا محرم؟ قال لا بأس؛ إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين(10).

12. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُم﴾ منبت الولد(11).

13. روي أنّه قال: ائت حرثك من حيث نباته(12).

14. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها، أو في الحيض(13).

15. روي أنّه قال: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُم﴾ التسمية عند الجماع يقول: باسم الله(14).

16. روي أنّه روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار، أو بنصف دينار(15).

17. روي أنّه قال: إذا أصابها في الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار(16).

18. روي أنّه روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال: إذا كان دما أحمر فدينار، وإذا كان دما أصفر فنصف دينار(17).

19. روي أنّه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتي وهي حائض، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يعتق نسمة، وقيمة النسمة يومئذ دينار(18).

20. روي عن زائدة بن عمير، قال: سألت ابن عباس عن العزل، فقال: إنكم قد أكثرتم، فإن كان قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا فهو كما قال وإن لم يكن قال فيه شيئا فأنا أقول: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾؛ فإن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا(19).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٠

(2) ابن منده في معرفة الصحابة: ١/٣٤٦

(3) أحمد: ٤/٢٣٦

(4) الطبراني في الكبير: ١٢/٢٣٦

(5) ابن جرير: ٣/٧٥٠

(6) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(7) عبد الرزاق في جامعه: ٢٠٩٥٣

(8) ابن جرير: ٣/٧٣٣

(9) ابن جرير: ٣/٧٣٦

(10) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص١٠٣

(11) ابن جرير: ٤/٧٤٥

(12) البيهقي في سننه: ٤/١٩٦

(13) ابن جرير: ٤/٧٤٦

(14) ابن جرير: ٣/٧٤٧

(15) أحمد: ٣/٤٧٣

(16) أبو داوود

(17) أحمد: ٥/٤٢٩

(18) النسائي في الكبرى: ٨/٢٣٣

(19) ابن أبي شيبة: ٤/٢١٧

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن أبي النضر، أنّه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى أن يؤتى النساء في أدبارهن، قال كذبوا علي، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده، حتى بلغ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾، فقال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريده، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذت بحال اليهود، إنما يؤتين على جنوبهن؛ فأنزل الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ (1).

2. روي عن نافع قال قال لي ابن عمر: أمسك علي المصحف، يا نافع، فقرأ، حتى أتى على: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾، قال لي: تدري ـ يا نافع ـ فيم نزلت هذه الآية؟ قلت: لا قال نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس ذلك؛ فأنزل الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ الآية، قلت له: من دبرها في قبلها؟ قال لا، إلا في دبرها(2).

3. روي أنّه قال: وقع رجل على امرأته في دبرها؛ فأنزل الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ قال فقلت لابن أبي ذئب: ما تقول أنت في هذا؟ قال ما أقول فيه بعد هذا!(3).

4. روي عن نافع قال قرأت ذات يوم: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾، قال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهن(4).

5. روي أنّه قال: إنما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم﴾ الآية، رخصة في إتيان الدبر(5).

6. روي عن نافع قال قرأ ابن عمر هذه السورة، فمر بهذه الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم﴾ الآية، فقال: تدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قال لا قال في رجال كانوا يأتون النساء في أدبارهن(4).

__________

(1) النسائي في الكبرى: ٨/١٩٠

(2) الدارقطني كما في التلخيص الحبير: ٣/٣٩٣

(3) الدرّ المنثور: لحامد الرَّفّاء في: فوائده

(4) ابن جرير: ٣/٧٥١

(5) الطبراني في الأوسط: ٤/١٤٤ ـ: ١٤٥

ابن الحنفية:

روي عن محمد بن الحنفية (ت 80 هـ) أنّه قال: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ من قبل التزويج، من قبل الحلال(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٤/٢٣٣

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه رأى رجلا يتوضأ، فلما فرغ قال: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فقال: إن الطهور بالماء حسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿التَّوَّابِينَ﴾ من الكفر، ﴿والمتطهرين﴾ بالإيمان(2).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ١/٤

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٥٩

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعني: المؤمنين، يحذرهم، ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يقول: بشرهم بالجنة في الآخرة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿التَّوَّابِينَ﴾ من الشرك، ﴿والمتطهرين﴾ من الذنوب(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٦

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٥٩

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ متى شئتم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ طهرا غير حيض(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٥٠

(2) ابن أبي شيبة في مصنفه: ٩/١٩٩

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم قرأ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٣

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا يجتنبون النساء في المحيض، ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ إلى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ في الفرج، لا تعدوه(1).

2. روي أنّه قال: كانوا يجتنبون النساء في المحيض، ويأتوهن في أدبارهن، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ في الفرج، ولا تعدوه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ إذا اغتسلن، ولا تحل لزوجها حتى تغتسل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ﴾ للنساء طهران: طهر قوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ يقول: إذا تطهرن من الدم قبل أن يغتسلن، وقوله: ﴿إذا تطهرن﴾ أي: إذا اغتسلن، ولا تحل لزوجها حتى تغتسل(4).

5. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ من حيث خرج الدم، فإن لم يأتها من حيث أمر فليس من التوابين ولا من المتطهرين(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُم﴾، يعني: إذا أتى أهله فليدع(6).

7. روي أنّه قال: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب لم يصيبوها، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ من الذنوب لا يعودون فيها(7).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٢٢

(2) الدارمي: ١/٢٦١

(3) عبد الرزاق في المصنف: ١٢٧٢

(4) عبد الرزاق في مصنفه: ١/٣٣١

(5) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢٧٢

(6) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٣

(7) ابن جرير: ٣/٧٤٣

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن الشيطان أدخل على أهل الجاهلية في حيض النساء من الضيق ما أدخل على المجوس؛ فكانوا لا يجالسونهن في بيت، ولا يأكلون معهن، ولا يشربون، فلما جاء الإسلام سأل المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك؛ فأنزل الله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ (1).

2. روي أنّه قال في الحائض ترى الطهر: لا يغشاها زوجها حتى تغتسل، وتحل لها الصلاة(2).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٢٢

(2) ابن جرير: ٣/٧٣٤، وابن أبي حاتم: ٢/٤٠٢

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الحائض، ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها(1).

2. روي عن سلام بن المستنير، قال كنت عند الإمام الباقر فدخل عليه حمران بن أعين، وسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام، قال للإمام الباقر: أخبرك ـ أطال الله بقاءك لنا، وأمتعنا بك ـ أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا، وتسلو أنفسنا عن الدنيا، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال فقال الإمام الباقر أنّه قال: (إنما هي القلوب مرة تصعب، ومرة تسهل)، ثم قال الإمام الباقر أنّه قال: (أما إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله، نخاف علينا من النفاق، فقال: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا، وجلنا ونسينا الدنيا، وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك، ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل، يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كلا، إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى، لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾(2).

__________

(1) الكافي: 3/82/4

(2) الكافي: 2/309

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ حتى بلغ: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، فكان أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء؛ فأنزل الله ـ تعالى ذكره ـ في ذلك، فحرم فرجها ما دامت حائضا، وأحل ما سوى ذلك؛ أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك(1).

2. روي أنّه قال: سئل طاووس عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: ذلك كفر، ما بدأ قوم لوط إلا ذاك، أتوا النساء في أدبارهن، وأتى الرجال الرجال(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٢١

(2) الدرّ المنثور: لعبد بن حميد

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ معناه حتّى ينقطع الدّم عنهنّ.. ويتطّهرن: يغتسلن بالماء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ معناه كيف شئتم في المأتى ومن حيث يكون الولد(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 99

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ فقذر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٧٢٣

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ بالماء من الأحداث والنجاسات(1).

2. روي أنّه قال: يعني: الخير، والعمل الصالح(2).

__________

(1) تفسير البغوي: ١/٢٥٩

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٣

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن الرجل يأتي أهله في دبرها، فكره ذلك، وقال: (وإياكم ومحاشي النساء)، وقال: (إنما معنى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾ أي ساعة شئتم(1).

2. روي أنّه قال: (كان الناس يستنجون بالحجارة والكرسف، ثم أحدث الوضوء، وهو خلق حسن، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وصنعه، وأنزل الله في كتاب: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: (كانوا يستنجون بثلاثة أحجار، لأنهم كانوا يأكلون البسر، وكانوا يبعرون بعرا، فأكل رجل من الأنصار الدباء، فلان بطنه واستنجى بالماء، فبعث إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ـ قال ـ: فجاء الرجل وهو خائف أن يكون قد نزل فيه أمر يسوء في استنجائه بالماء ـ قال ـ: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: هل عملت في يومك هذا شيئا؟ فقال: نعم ـ يا رسول الله ـ إني والله ما حملني على الاستنجاء بالماء إلا أني أكلت طعاما فلان بطني، فلم تغنني الحجارة، فاستنجيت بالماء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: هنيئا لك، فإن الله عز وجل قد أنزل فيك آية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فكنت أول من صنع ذا، وأول التوابين، وأول المتطهرين(2).

4. روي أنّه قال: إذا اغتسلت من جنابة فقل: اللهم طهر قلبي، وتقبل سعيي، واجعل ما عندك خيراً لي، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، وإذا اغتسلت للجمعة فقل: اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني، وتبطل به عملي، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين(3).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/111

(2) تفسير العيّاشي: 1/109

(3) التهذيب: 1/367/1116

الأعمش:

روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، التوبة من الذنوب، والتطهر من الشرك(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٤

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُم﴾ طاعة ربكم، وأحسنوا عبادته(1).

2. روي أنّه قال: ﴿التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، ﴿والمتطهرين﴾ من الشرك، والجهل(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٦

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٠

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ من الأحداث، والجنابة، والحيض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعظكم فلا تقربوهن حيضا، ثم حذرهم، فقال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ فيجزيكم بأعمالكم، ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: المصدقين بأمر الله ونهيه بالجنة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٢

مالك:

روي عن إسرائيل بن روح قال: سألت مالك بن أنس (ت 179 هـ)، قلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال ما أنتم قوم عرب! هل يكون الحرث إلا موضع الزرع!؟ أما تسمعون الله يقول: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم﴾، قائمة وقاعدة وعلى جنبها، ولا تعدوا الفرج، قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك قال: يكذبون علي، يكذبون علي، يكذبون علي(1).

__________

(1) الخطيب في الرواة عن مالك كما في الفتح: ٨/١٩٠

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ هو: المحيض الخالص من دم الحيض، فليس لأحد أن يصيب منه وفيه ما ينجسه ويؤذيه، فأما دم الاستحاضة فدم ليس بمحيض كدم الحيضة، فدم المحيض: دم خالص ليس فيه كدرة، ودم المستحاضة: دم فيه كدرة وصفرة، وبينهما عند من تقعدهما من النساء فرق، لا يجهله منهن إلا الحمق، فإذا طهرت المرأة من الحيض، وهو ما قلنا به من الحيض ـ لزمها وحل منها ما يلزم ويحل من المرأة النقية المتطهرة من حيضها.

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، يعني: المتطهرين من الذنوب، فمن أحبه الله لم يعذبه، وكان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وكان من أهل الجنة لاشك فيه.

3. ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، تأويل ذلك: ايتوهن من حيث أمركم الله في القبل، لا في الدبر؛ لأن الدبر ليس بمكان محترث، ولا يصلح فيه شيء من الحرث، وفي ما ذكرنا من القبل: مبتغى الولد والنسل، وفي ذلك من نعم الله وإحسانه، وموهبة الله للولد وإنشائه ما يقول سبحانه لمن صام في ليالي الصوم، وما حرم الله في ذلك عليهم في نهار كل يوم: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:187]، والابتغاء: فإنما هو في القبل لا في الدبر، وتأويل ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ هو: ما علم الله أنه سيكون من نسلكم.

4. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، الحرث هو: المزدرع الذي جعله الله في النساء والنماء، و﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ هو: متى أردتم؛ لأن العرب كانت تزعم أن إتيان النساء وهن حوامل أو مرضعات حرام؛ خوفا للفساد.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/100

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، معنى ﴿يَطْهُرْنَ﴾ هو: أن يغتسلن ويتطهرن، لا ما ينقطع عنهن من دمائهن؛ ألا ترى أن الطهر لا يقع اسمه على شيء حتى يطهر، وأنه لا يكون طاهرا حتى يطهر، وتطهيره هو: غسله وانقاؤه بالماء؛ فلذلك قلنا: إن معنى قول الله عز وجل: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ هو: يغتسلن ويتطهرن من أدرانهن، وينقين بالماء أوساخهن، وما كن فيه من دمائهن.

2. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، والحرث فلا يكون إلا في موضع الزرع، وموضع الزرع هو: القبل، لا الدبر؛ لأن الولد لا يطلب إلا في الفرج.. وأما قوله: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فإنما معناه: متى شئتم، وفي ذلك ما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: إتيان النساء في أعجازهن كفر)، قال وبلغنا عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يقول: (لا يستحي الله من الحق: لا تأتوا النساء في حشوشهن؛ فإن إتيان النساء في حشوشهن كفر)، قال وبلغنا عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: لا ينظر الله إلى من أتى امرأة في دبرها).. وبلغني عن رجل من العلماء: أن رجلا أتاه، فسأله عن ذلك؛ فأفف به، وقال: تريد أن تعمل عمل قوم لوط!!؟.. أصاب؛ أصاب الله به.

3. سئل عن قول الله سبحانه: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222] فقيل: أي موضع أمر أن يؤتين فيه؟ فقال: وهو أعانك الله أقبالهن لا أدبارهن، لأن الله سبحانه يقول: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: 223] والحرث الذي أمر الله عز وجل بإتيانه هو: حيث يكون النسل والمزدرع من النساء، ألا تسمع كيف يقول الله الواحد العلي الأعلى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ يدل بقوله ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ على أن فيهن موضعا عنه نهاكم، ولو لم يكن فيهن موضع ُنهى عنه المأمورون، لما جاز أن يقول: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ إذ هن في كل ذلك مطلقات، ففي ذلك دلالة شافية، مبينة لما قلنا به والحمد لله كافية، مع ما جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك من الأحاديث المؤكدة، المكررة في النهي عن الإدبار المشدَّدة، من ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إتيان النساء في أعجازهن كفر)

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/100

المرتضى:

قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين، ودلالة على ما هو أرشد لهم وأزكى عنده، ومعنى قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ هو: لا تدنوا منهن، والدنو هو: الجماع، ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، ومعنى ﴿يَطْهُرْنَ﴾ هو: يتطهرن بالماء من دنس الحيض، وأوساخه، والذي أراد به عز وجل انقطاع الدم والغسل؛ لأنه لا تقع طهارة إلا من بعد الغسل لما كان من الدرن، والإنقاء بالماء لما كان غير طاهر(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/101

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء في الحيض‏، أو كان عن موضع‏ الحيض، فأخبر ـ عزّ وجل ـ أنه‏ ﴿أَذًى﴾ والعرب تفعل ذلك ـ ربما أن تفهم من الجواب مراد السؤال، وربما تبين المراد في السؤال ـ وإذا جاز أن يتبع غير وقت الأذى وقت الأذى بالاتصال، ومن بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل يجوز أن تتبع غير مكان الأذى مكان الأذى بالاتصال.. ولا يحتمل أن يكون الأمر بالاعتزال يقع على اعتزال الأبدان والأشخاص بالاتفاق؛ إذ كل يجمع أن له أن يمسها باليد وأن يقبلها وغير ذلك، إلا أنهم اختلفوا في موضع الاستمتاع:

أ. قال أبو حنيفة: يستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة، ويجتنب غير ذلك‏.. حجة أبى حنفية، ما روى أنّه قال لها ما تحت السرة، وله ما فوقها، وما روى أن أزواج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إذا حضن أمرهن أن يتزرن ثم يضاجعهن‏.

ب. وقال محمد: يجتنب شعار الدم، على ما جاء عن عائشة، أنها قالت: (يتقى شعار الدم، وله ما سوى ذلك)، ثم دل هذا الخبر على أن النهى في الموضع الذي فيه الأذى، دليله: أول الآية: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾.. وذهب إلى ما ذكرنا: أنه ينهى عن قربان ذلك الموضع للأذى، وأما الموضع الذي لا أذى فيه فلا بأس، ويجوز أن ينهى عن قربان هذه الأعضاء من نحو الفخذ وغيرها؛ لاتصالها بالموضع الذي فيه الأذى.. ويحتمل أن يكون ذكر الإزار كناية عن الموضع الذي فيه الأذى؛ وعلى ذلك روى عن عائشة، أنها سئلت: عما يحل للرجل من امرأته وهى حائض؟ فقالت: (يحل له كل شيء إلا النكاح)، وسئلت: عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: لا يحل له شيء إلا الكلام.

2. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ أي لا تجامعوهن.

3. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ فيه لغتان: في حرف بعضهم‏ ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بضم الهاء وتخفيفها، وفى حرف آخرين بتشديد الهاء وفتحها:

أ. فمن قرأ بالتخفيف فهو عبارة عن انقطاع الدم.

ب. ومن قرأ بالتشديد فإنه عبارة عن حل قربانها بعد الاغتسال.

4. ثم من قول أصحابنا(2): إن المرأة إذا كانت أيامها عشرا تحل لزوجها أن يقربها قبل أن تغتسل‏، وإذا كانت أيامها دون العشر لم يحل له أن يقربها إلا بعد الاغتسال، ويحتمل: أن تكون الآية فيما كانت أيامها دون العشر في اللغتين؛ إذ الغالب كان على أن الحيض لا يحيط بكل وقت، على ما روى أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال لحمنة بنت جحش: (تحيّضى في علم الله من الشهر ستا أو سبعا)، فعلى ذلك أنه إنما يحل قربانها بالاغتسال.

5. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ إنه على ما دون العشر من المدة بما الغالب كان على ألا يمتد إلى أكثر الوقت ولا يقصر عن الأقل، على ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال في النساء: (هن ناقصات عقل ودين)، ووصف نقصان دينهن: أن تحيض إحداهن في الشهر ستّا أو سبعا، ووصفهن جملة بنقصان دينهن، ثم ذكر ما بين في التفسير عن الجملة، ثبت أن ذلك كان الغالب في الجملة حتى خرج عليه الجواب أنه لا يمتد إلى الأكثر ولا يقصر عن الأقل، وأيد هذا ما أخبر عن ابتداء الآية أنه الأذى، وأمر بالاعتزال، ثم جعل لها بعد الانقطاع قبل الاغتسال حكم الأذى؛ فلم يجز أن يجعل الحكم لما ليس بحقيقة حكم الأذى، فيجعل للطهر الذي هو ضده ذلك الحكم، وبما أنه ليس لذلك حكم الأذى‏ في العشر إن كان الوقت يضيق عنه في رفع الصلاة، فكذا في أمر القربان.

6. على ما ذكرت من العرف ينصرف أمر الوقت: أنها لو أخرت الاغتسال عن وقت الصلاة فإن‏، بما عليه اتفاق الآثار، وبما خص المكان بالأمر بالقربان، وبما أمر بالاعتزال للحيض، ولو كان يحل غشيانهن في الأدبار لم يكن للأمر بالاعتزال معنى؛ إذ قد بقى أحد الموضعين من المقصود بالغشيان لو احتمل، والأصل في ذلك: أن الحل في الابتداء لم يتعلق بقضاء الشهوات، ولا كان هذا لها، وإنما القضاء للشهوات خاصة الجنة، فأما الدنيا فإنما جعلت لقضاء الحاجات؛ إذ بها يكون بقاء النسل والأبدان، وبها يكون قوام الأبدان ودوام الحياة إلى انقضاء الأعمار، وركبت فيهم الشهوات لتبعثهم على قضاء تلك الحاجات؛ إذ لولا الشهوات لكان كل أمر من ذلك على الطباع يكون كالأدوية الكريهة والمحنة الشديدة، فخلق الله تعالى فيهم الشهوات ليدوم ما به جرى تدبيره في أمر العالم، ولا تتعلق الحاجات بإتيان الأدبار، ولو أحلت لكان الحل لحق الشهوة خاصة، والدنيا لم تخلق لها؛ فلذلك لم تجعل بها حل مع ما لو كان يحتمل ذلك لاحتمل التناكح في نوع؛ فإذا لم يحتمل بان أن ذلك إنما جعل للنسل، وقال بشر: إذ حرم الغشيان للحيض بما هو أذى، وهو يكون على ما يتقذر، فالذي مجراه الدبر والذى منه يخرج من الأذى أوحش وأخبث، وذلك قائم في كل الأوقات، كقيام الحيض في أوقاته، فالحرمة لذلك أشد، ذكر بوجه، أمكن أن يبسط ما قال على الذي وصفته.

7. في قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وجوه:

أ. قيل‏: معنى قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ لا تأتوهن صائمات، ولا معتكفات، ولا مصليات.

ب. ويحتمل: لا تأتوهن حيّضا، ولكن‏ ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ طهرا.

ج. وقيل‏: ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ في الموضع الذي أباح لكم إتيانها، وهو القبل، ولا تأتوهن في أدبارهن، ويشبه ـ إذ (حيث) يعبر به عن المكان ـ أن يكون‏ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أن تبتغوا الولد، بقوله: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾:

أ. قيل: من الأحداث والأذى.

ب. وقيل: ممن فعل هذا قبل النزول‏.

9. ﴿الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ أنفسهم بالتكفير، والتواب:

أ. قيل: هو الرجاع عما ارتكب، والتارك عن العود إلى ذلك، غير مصر على الذنب.

ب. ويحتمل: التواب: الذي لا يرتكب الذنب.

10. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الحرث: هو الزرع، وفيه دليل النهى عن الاعتزال عنها؛ لأن الزرع إذا ترك سدى فيضيع ويخرب، وفيه دليل على:

أ. أن الإباحة في إتيان النساء طلب التناسل والتوالد، لا قضاء الشهوة؛ لأنه سمى ذلك حرثا، والحرث ما يحرث فيتولد من ذلك الولد.

ب. أن الإتيان في غير موضع الحرث يحرم منهن، وعلى ذلك جاءت الآثار أنها سميت اللوطية الصغرى‏، ما جاء أنه نهى عن إتيان النساء في محاشهن، يعنى: في أدبارهن‏، وفى بعض الأخبار: إتيان النساء في أدبارهن كفر.

11. ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يعنى: على أي جهة شئتم بعد أن يكون ذلك في المزرع، ولا بأس بالاعتزال عنها إذا أذنت؛ لما ذكرنا أن الأمر بذلك أمر بطلب النسل، لا قضاء الشهوة، فإذا كان كذلك فلها ألا تتحمل مشقة تربية الولد، وأما الزوج فإنما عليه المؤنة، وذلك مما ضمن الله لكل ذي روح بقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: 6]؛ لذلك نهى هو عن الاعتزال‏ دون إذنها، ولم تنه هي عن الإذن عن ذلك، وأما الاعتزال عن الإماء وملك اليمين فإنه لا بأس؛ لأنه لا يطلب النسل من الإماء في المتعارف؛ لذلك لم يكره، ولأن في إحبالهن إتلافا، وللرجل ألا يتلف ملكه؛ لذلك افترقا، والأصل: أن الشهوات مجعولة لما بها إمكان قضاء الحاجات التي يقضى بها جرى تدبير العالم، وبه يكون دوام النسل، وبقاء الأبدان، والحاجة لا تحتمل الوقوع في الأدبار؛ لذلك لم يجعل فيها.

12. قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. قيل‏: ﴿وَقَدِّمُوا﴾ العمل الصالح.

ب. وقيل‏: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ من الولد تحفظونه عند الزيغ عما لا يجب.

قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل قوله: ﴿أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي ما قدمتم من العمل الصالح فتجزون على ذلك؛ كقوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 110]

ب. ويحتمل: ﴿أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي ملاقو ربكم بوعده ووعيده.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/133

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي عن الحيض، وهو الدم الخالص، وإنما سمي حيضاً ومحيضاً لخلوصه.

2. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أي حرث جعلهن الله للأولاد، ولا يكون الحرث ولا ينبت الزرع إلا في موضعه المعروف وهو القبل.. ومعنى قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾: أي كيف شئتم؟ ومتى أردتم؟ ولا تقربوا غير موضع الحرث مما حرم الله عليكم.

3. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾: يريد فإذا اغتسلن بالماء فأتوهن في أقبالهن ومواضع حرثهن، دل بقوله من حيث أمركم الله على أن فيهن مواضع لم يأمر بها ولم يحلها، وهي أعجازهن التي حرمها على أزواجهن.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 284

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ والسائل عن ذلك الثابت بن الدحداح الأنصاري وكانت العرب في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مساكنة الحيض ومواكلتهن ومشاربتهن فأنزل الله تعالى هذه الآية.. والأذى: كل ما يتأذى به من نتن رائحته وقذره ونجاسته.

2. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ ومعنى الاعتزال في هذا الموضع إتيانهن في فروجهن ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ وهو بالتخفيف وضم الهاء وقرئ بتشديد الطاء وفتح الهاء؛ فمن قرأ بالتخفيف فالمراد به يطهرن من حيضهن، ومن قرأ بالتشديد فهو أصح القراءتين والمراد به يغتسلن من حيضهن لأنه لا يجوز إتيان المرأة الحائض.

3. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أي اغتسلن ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من صحة توبته من الذنوبـ ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ بالماء.

4. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ والحرث مزدرع الولد وهو القبل فأتوه كيف شئتم ومن حيث شئتم لا يجوز سوى الفرج مُقْبِلَة كانت أو مُدْبِرَة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/109

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَأَذىً‏﴾ قال السدي: السائل كان ثابت بن الدحداح الأنصاري، وكانت العرب ومن في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مساكنة الحيّض ومؤاكلتهن ومشاربتهن، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول قتادة، وقال مجاهد: كانوا يعتزلون الحيّض في الفرج، ويأتونهن في أدبارهن مدة حيضهن، فأنزلت هذه الآية، والأذى هو ما يؤذي من نتن ريحه ووزره ونجاسته.

2. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ اختلفوا في المراد بالاعتزال على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: اعتزل جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه، وهذا قول عبيدة السلماني.

ب. الثاني: ما بين السرة والركبة، وهذا قول شريح.

ج. الثالث: الفرج، وهذا قول عائشة وميمونة وحفصة وجمهور المفسرين.

3. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ فيه قراءتان:

أ. إحداهما: التخفيف وضم الهاء، وهي قراءة الجمهور، ومعناه بانقطاع الدم، وهو قول مجاهد وعكرمة.

ب. الثانية: بالتشديد وفتح الهاء، قرأ بها حمزة، والكسائي، وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه، ومعناها حتى تغتسل.

4. ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ يعني بالماء، فيه ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: معناه إذا اغتسلن وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن.

ب. الثاني: الوضوء، وهو قول مجاهد، وطاووس.

ج. الثالث: غسل الفرج.

5. في قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: القبل الذي نهى عنه في حال الحيض، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: فأتوهن من قبل طهرهن، لا من قبل حيضهن، وهذا قول عكرمة، وقتادة.

ج. الثالث: فأتوا النساء من قبل النكاح، لا من قبل الفجور، وهذا قول محمد ابن الحنفية.

د. الرابع: من حيث أحل لكم، فلا تقربوهن محرمات، ولا صائمات ولا معتكفات، وهذا قول الأصم.

6. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فيه ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: المتطهرين بالماء، وهذا قول عطاء.

ب. الثاني: يحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها، وهذا قول مجاهد.

ج. الثالث: يحب المتطهرين من الذنوب، أن لا يعودوا فيها بعد التوبة منها، وهو محكيّ عن مجاهد أيضا.

7. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أي مزدرع أولادكم ومحترث نسلكم، وفي الحرث كناية عن النكاح، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ فانكحوا مزدرع أولادكم.

8. في قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ خمسة تأويلات:

أ. أحدها: يعني كيف شئتم في الأحوال، روى عبد الله بن عليّ أن أناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، جلسوا يوما ويهوديّ قريب منهم، فجعل بعضهم يقول: إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة، ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر: إني لآتيها وهي على جنبها، ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة، فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة.

ب. الثاني: يعني من أي وجه أحببتم في قبلها، أو من دبرها في قبلها، روى جابر أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول، فأكذب الله حديثهم‏، وقال: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، وهذا قول ابن عباس، والربيع.

ج. الثالث: يعني من أين شئتم، وهو قول سعيد بن المسيب، وغيره.

د. الرابع: كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا، وهذا قول سعيد بن المسيب.

هـ. الخامس: حيث شئتم من قبل، أو من دبر، رواه نافع، عن ابن عمر، وروى عن غيره، وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس أن ناسا من حمير أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله، إني رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه، فأنزل فيما سأل عنه الرجل: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (مقبلة ومدبرة إذا كان في الفرج)

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾:

أ. قيل: الخير، وهو قول السدي.

ب. وقيل: وقدموا لأنفسكم ذكر الله عزّ وجل عند الجماع، وهو قول ابن عباس.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/283

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (حتى يطهرن) بتشديد الطاء والهاء، الباقون بالتخفيف.

2. اختلف في السؤال:

أ. قيل: إنما سألوا عن المحيض، لأنهم كانوا على تجنب أمور: من مواكلة الحائض، ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد، فاستعلموا ذلك.. وهو ـ عندنا(2) ـ أقوى.

ب. قيل: أواجب هو أم لا؟ في قول قتادة، والربيع، والحسن، وقال مجاهد: كانوا على استجارة إتيانهن في الأدبار أيام الحيض، فلما سألوا عنه، بين تحريمه.

3. المحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً، فهي حائض، والمرة حيضة وأصل الباب الحيض: مجيء الدم لأنثى على عادة معروفة، وصفة الحيض: هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة، وأقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وهو قول الحسن، وأهل العراق، وقال الشافعي، وأكثر أهل المدينة: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، وحكي أن قوماً قالوا: ليس له وقت محدود: إنما هو ما رأت دم الحيض، وأقل الطهر عشرة أيام، وخالف الجميع وقالوا: خمسة عشر يوماً، والاستحاضة: دم رقيق أصفر بارد، وحكم الاستحاضة حكم الطهر في جميع الأحكام إلا في تجديد الوضوء ـ عند كل صلاة ـ ووجوب الغسل عليها على بعض الوجوه عندنا ـ.

4. ﴿أَذًى﴾ معناه: قذر ونجس ـ في قول قتادة والسدي ـ. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ معناه: اجتنبوا الجماع في الفرج، وبه قال ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وما فوق المئزر أو دونه، عن شريح، وسعيد بن المسيب، وعندنا: لا يحرم منها غير موضع الدم فقط، ومن وطئ الحائض في أول الحيض، كان عليه دينار، وإن كان في وسطه، فنصف دينار، وفي آخره ربع دينار، وقال ابن عباس: عليه دينار، ولم يفصل، وقال الحسن: يلزمه رقبة أو بدنة أو عشرون صاعاً.

5. عزل: يعزله عزلا، واعتزل اعتزالًا، وعزّله تعزيلا، والأعزل: الذي لا سلاح معه، وعزلا المزادة: مخرج الماء من أحد جوانبها، والجمع عزال، وكل شيء نحيّته عن موضع، فقد عزلته عنه، ومنه عزل الوالي، وأنت عن هذا بمعزل: أي منتحى، والأعزل من السماكين: الذي نزل به القمر، والمعزال من الناس: الذي لا ينزل مع القوم في السفر، لكنه ينزل ناحية، وأصل الباب الاعتزال، وهو التنحي عن الشيء.

6. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بالتخفيف معناه: ينقطع الدم عنهن، وبالتشديد معناه: يغتسلن ـ في قول الحسن، والفراء ـ وقال مجاهد، وطاووس معنى تطهرّن: توضأن، وهو مذهبنا.

7. الفرق بين (طهرت) و(طهرّت) أن فُعل لا يتعدّى، لأن ما كان على هذا البناء لا يتعدّى، وليس كذلك فعّل، ومن قرأ بالتشديد قال كان أصله (يتطهرن) فأدغمت التاء في الطاء، وعندنا يجوز وطئ المرأة إذا انقطع دمها، وطهرت وإن لم تغتسل إذا غسلت فرجها، وفيه خلاف، فمن قال لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم، والاغتسال: تعلق بالقراءة بالتشديد، فإنها تفيد الاغتسال، ومن قال يجوز، تعلق بالقراءة بالتخفيف وأنها لا تفيد الاغتسال، وهو الصحيح، ويمكن في قراءة التشديد أن تحمل على أن المراد به توضأن على ما حكيناه عن طاووس، وغيره، ومن استعمل قراءة التشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر: محذوفاً تقديره حتى يطهرن ويتطهرن، وعلى ما قلناه لا يحتاج اليه، وقوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ معناه: اغتسلنا، وعلى ما قلناه: حتى يتوضأن.

8. ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ صورته صورة الأمر، ومعناه‏ الاباحة، كقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: معناه من حيث أمركم الله بتجنبه في حال الحيض، وهو الفرج، على قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، وهو أليق بالظاهر.

ب. وقال السدي، والضحاك: من قبل الطّهر دون الحيض.

ج. وعن ابن الحنفية من قبل النكاح دون الفجور.

د. ويحتمل أن يكون من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من إتيانها وهي صائمة أو محرمة أو معتكفة، ذكره الزجاج.

هـ. وقال الفراء: لو أراد الفرج لقال في حيث، فلما قال: ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ علمنا أنه أراد من الجهة الذي أمركم الله بها، وقال غيره: إنما قال: ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ ولم يقل في حيث، لأن (من) لابتداء الغاية في الفعل، نحو قولك: ائت زيداً من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾:

أ. قال عطا: المتطهرين بالماء، وهو مروي في سبب نزول هذه الآية.

ب. وقال مجاهد: المتطهرين من الذنوب.

11. المعنى يتناول الأمرين، وإنما قال: ﴿الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ولم يقل المتطهرات، لأن المؤنث يدخل في المذكر، لتغليبه عليه.

12. في معنى قوله تعالى: ﴿حَرْثٌ لَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: مزرع أولادكم، كأنه قيل: محترث لكم، في قول ابن عباس، والسدي، وإنما الحرث: الزرع في الأصل.

ب. الثاني: نساؤكم ذو حرث لكم، فأتوا موضع حرثكم أنى شئتم، ذكره الزجاج، وقيل: الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾:

أ. قيل: معناه: من أين شئتم ـ في قول قتادة، والربيع ـ

ب. وقال مجاهد: معناه كيف شئتم.

ج. وقال الضحاك معناه متى شئتم، وهذا خطأ عند جميع المفسرين، وأهل اللغة، لأن ﴿أَنَّى﴾ لا يكون إلا بمعنى من أين، كما قال ﴿أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ﴾

د. وقال بعضهم: معناه من أي وجه واستشهد بقول الكميت بن زيد:

أنى ومن أين آبك الطرب‏...من حيث لا صبوة ولا ريب‏

وهذا لا شاهد فيه، لأنه يجوز أن يكون أتى به، لاختلاف اللفظين، كما يقولون: متى كان هذا وأي وقت كان، ويجوز أن يكون بمعنى كيف.

هـ. وتأول مالك، فقال: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ تفيد جواز الإتيان في الدبر(3)، ورواه عن نافع عن أبي عمرو، وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر، وروي من طرق جماعة عن ابن عمر، وبه قال أكثر أصحابنا، وخالف في ذلك جميع الفقهاء، والمفسرين، وقالوا: هذا لا يجوز من وجوه:

أحدها: أن الدبر ليس بحرث، لأنه لا يكون فيه الولد، وهذا ليس بشيء لأنه لا يمتنع أن تسمى النساء حرثاً، لأنه يكون منهنّ الولد، ثم يبيح الوطء فيما لا يكون منه الولد، يدل على ذلك أنه لا خلاف أنه يجوز الوطء بين الفخذين وإن لم يكن هناك ولد.

وثانيها ـ قالوا: قال الله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وهو الفرج، والإجماع على أن الآية الثانية ليست بناسخة للأولى، وهذا أيضاً لا دلالة فيه، لأن قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ معناه: من حيث أباح الله لكم، أو من الجهة التي شرعها لكم، على ما حكيناه عن الزجاج، ويدخل في ذلك الموضعان معاً.

وثالثها ـ قالوا: إن معناه: من أين شئتم: أي ائتوا الفرج من أين شئتم، وليس في ذلك إباحة لغير الفرج، وهذا ايضاً ضعيف، لأنا لا نسلم أن معناه الفرج، بل عندنا معناه: ائتوا النساء، أو ائتوا الحرث من أين شئتم، ويدخل فيه جميع ذلك.

ورابعها ـ قالوا: قوله في المحيض‏ ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ فإذا حرم للاذى في الدم، والأذى بالنجو أعظم منه، وهذا أيضاً ليس بشيء، لأن هذا حمل الشيء على غيره من غير علة، على أنه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ غير النجاسة، بل المراد أن في ذلك مفسدة، ولا يجوز أن يحمل على غيره إلا بدليل يوجب العلم على أن الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول، ودم الاستحاضة ومع هذا، فليس بمنهي عن الوطء في الفرج.

14. يقال: أن هذه الآية نزلت ردّاً على اليهود، وأن الرجل إذا أتى المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول، فأكذبهم الله في ذلك، ذكره ابن عباس، وجابر، ورواه أيضاً أصحابنا، وقال الحسن: أنكر اليهود إتيان المرأة قائمة، وباركة، فأنزل الله إباحته بعد أن يكون في الفرج، وهو السبب الذي روي، ولا يمنع أن يكون ما ذكرناه مباحاً، لأن غاية ما في السبب أن تطابقه الآية، فأما أن لا تتعداه، فلا يجب عند أكثر المحصلين‏.

15. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي قدموا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها عباده، ورغّبهم فيها، فتكون ذخراً عند الله، ووجه اتصال قوله: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ بما قبله: أنه لما قدم الأمر بعد أشياء قيل: ﴿قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ بالطاعة فيما أمرتم به، واتقوا مجاوزة الحدّ فيما بين لكم، وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه، والتحذير من مخالفة ما ألزموه.

16. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالبشارة: الدلالة على ما يظهر به السرور في‏ بشر الوجه.

17. ﴿أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي اتقوا من معاصيه التي نهاكم عنها، واتقوا عذابه، واعلموا أنكم ملاقو عذابه إن عصيتموه، وملاقو ثوابه إن أطعتموه، وإنما أضافه اليه على ضرب من المجاز، كما يقول القائل لغيره: ستلقى ما عملت، وإنما يريد جزاء ما عملت، فيسمي الجزاء باسم الشيء.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/220

(2) يقصد الإمامية

(3) القول بهذا غريب جدا، ومخالفة واضحة للقرآن الكريم، ولذلك نجد كبار الفقهاء من كل المذاهب ينكرونه

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا، فهي حائض، والمرأة حائضة، وجمعها: حُيَّض، ونساء حيض، والمحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك المكان، ومنه يسمى الحوض لاجتماع الماء فيه، ويقال: حاضت وتحيضت، وعَرَكَتْ وطَمِثَتْ، تحيض حيضًا ومحاضًا ومحيضًا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة، فإذا سال في غير أيام معلومة قيل: استحيضت فهي مستحاضة.

ب. الاعتزال: التنحي عن الشيء، وكل شيء نحيته فقد عزلته، وسميت المعتزلة من ذلك، فقيل: لأن عمرو بن عبيد تنحى عن حلقة الحسن، فقال قتادة: لما فعلت المعتزلة سموا بذلك، وقيل: لأن واصل بن عطاء اعتزل أقوال المختلفين في المنزلة بين المنزلتين، فسموا بذلك، وقيل: لأنهم اعتزلوا كل بدعة، وتجنبوا كل شبهة، وقاموا على سواء السبيل، واجتهدوا في نصرة الدين، فسموا بذلك، كما قيل: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ في أصحاب الكهف، ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ في قصة إبراهيم، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿من اعتزل من الشر سقط في الخَير﴾، وروي: ﴿ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة﴾

ج. الطهر: خلاف الدنس، والتطهر: التنزه عن الإثم، والطهور: الماء، وقيل: هو الطاهر على طريق المبالغة، وقيل: هو المطهر، قال ثعلب: هو الطاهر المطهر، وتطهرت المرأة اغتسلت، وطَهُرَت تَطْهُرُ إذا انقطع دمها فهي طاهرٌ بلا هاء، وقيل: طَهَر وطَهُر بفتح الهاء وضمها بمعنى، وقيل: فعل بالضم لا يتعدى.

د. الحرث: الزرع، ومنه: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ أي تزرعون.

هـ. البشارة: الخبر السار، الذي يظهر أثره في بَشَرَةِ الوجه.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾

أ. قيل: كانت الجاهلية يتجنبون الْحُيَّض في مآكلهن ومشاربهن ومجالستهن كفعل المجوس واليهود، فسألوا عن ذلك، فنزلت الآية، عن الحسن وقتادة والربيع والأصم.

ب. وقيل: كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض، فلما سألوا عنه بين تحريمه، عن مجاهد.

ج. وقيل: كانت اليهود في غاية التجنب من الحيض، وكانت النصارى لا تجتنب، فسألوا حكم الحيض في شريعتهم، فنزلت الآية.

3. ثم بَيَّنَ تعالى شريعة أخرى لما بين حال من يحل بَيَّنَ الحال التي لا تحل، فقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد، قيل: السائل أبو الدحداح سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي عن الحيض وأحواله، وهو مجيء الدم من الأنثى على عادة معلومة ﴿قُلْ﴾ يا محمد.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ أَذًى﴾:

أ. قيل: أي قذر ونجس، عن قتادة والسدي.

ب. وقيل: دم، عن مجاهد.

ج. وقيل: أذى أي عليهن لما فيه من المشقة، عن القاضي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾:

أ. قيل: أي تنحوا عن قربهن عن الجماع في الفرج، وله ما سوى ذلك، عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد، وهو قول محمد.

ب. وقيل: يحرم ما دون الإزار ويحل ما فوقه، عن ابن شريح وسعيد بن المسيب، وهو قول أبي حنيفة.

6. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ بالجماع، أو ما دون الإزار على اختلاف القولين.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾:

أ. بالتخفيف: حتى ينقطع دمهن.

ب. وبالتشديد حتى يغتسلن، عن الحسن، وقيل: يتوضأن، عن مجاهد.

8. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ اغتسلن ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ جامعوهن، وهو إباحة، وليس بأمر.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾:

أ. قيل: أي حيث أمركم بتنحيه في حال الحيض، وهو الفرج، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع وأبي علي.

ب. وقيل: من قِبَلِ طهرهن دون حيضهن، عن السدي والضحاك.

ج. وقيل: من قِبَلِ النكاح دون الفروج، عن أبي حنيفة.

د. وقيل: لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات، وإتيانهن وغشيانهن لكم حلال، عن الأصم.

هـ. وقيل: معناه: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ﴾ يعني في الفرج، عن الواقدي، ونظيره: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ أي في يوم الجمعة.

و. وقيل: في الوجه المشروع فيدخل فيه جميع ما تقدم.

10. ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ يريد إثابتهم، والتواب التائب من الذنب.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾:

أ. قيل: المتطهرين بالماء للصلاة، عن عطاء ومقاتل، وهو اختيار القاضي.

ب. وقيل: المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها، عن مجاهد.

ج. وقيل: المتطهرين عن الذنوب، عن أبي العالية وسعيد بن جبير.

د. وقيل: من الشرك.

هـ. وقيل: التوابين من الكبائر، والمتطهرين من الصغائر.

12. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ منع ونهي و﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ شرط وغاية، واختلفوا في الغاية على أقوال أربعة:

أ. منهم من جوز وطأها بانقطاع الدم، وحمل الآية عليه.

ب. ومنهم من قال: يوثق بانقطاع الحيض، وهو أن ينقطع على العشر، أو ينقطع دون العشر وتغتسل، أو يمضى عليه وقت الصلاة، أو تيمم وتصلي عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تيممت حل للزوج.

ج. ومنهم من قال: إذا توضأت وغسلت فرجها حل، عن عطاء وطاووس.

د. ومنهم عن قال: لا تحل إلا بشرطين: بانقطاع الدم والغسل، وهو قول الشافعي

13. سؤال وإشكال: إذا وجب اجتناب الحُيَّضِ لأجل الأذى وجب أن يلزم اجتناب المستحاضة أيضًا للأذى؟ والجواب:

أ. قيل: ليس ذلك بتعليل، وإنما هو بيان وجه المصلحة، ويجوز أن تختلف المصلحة في ذلك، وإن كان الأذى موجودًا في الحالين كما اختلفت سائر الأحكام، وعلى ما حمله القاضي لا يتوجه السؤال.

ب. وقيل: وقع عن الحيض فخرج الجواب على وفقه، وبين أنه أذى، ثم بين أحكامه لأجل أنه أذى.

14. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: نزلت الآية في اليهود لما قالوا: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قُبُلها خرج الولد أخول، فذكر ذلك لرسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم فأكذبهم الله تعالى، ونزلت الآية، عن ابن عباس وجابر.

ب. وقيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل الله تعالى إباحته، عن الحسن.

ج. وقيل: كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها، وكانت أخذت ذلك من اليهود، وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار، فنزلت الآية، عن ابن عباس.

15. لما بَيَّنَ تعالى أحوال النساء في الطهر والحيض، وبين المباح والمحظور بين الموضع فقال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ قيل: مُحْتَرَث لكم، عن ابن عباس والسدي، وقيل: مَزْرَع، وقيل: ذو حرث لكم، فحذف كاف التشبيه، قال الشاعر:

النّشْرُ مِسْكٌ والوُجُوُه دَنَا... نِيرٌ وأَطْرَافُ الأكفِّ عَنَمْ

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾:

أ. قيل: أي جامعوهن كيف شئتم، عن مجاهد.

ب. وقيل: من أين شئتم، عن قتادة والربيع.

ج. وقيل: متى شئتم، عن الضحاك، وهو غلط على ما يزعم المفسرون، والمراد فأتوهن كيف شئتم، بعد أن يكون في موضع الحرث، وهو الفرج.

د. وقيل: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا، عن سعيد بن المسيب، وهذا من لطيف كنايات القرآن، حيث عبر بالحرث عن الفرج، فشبه الفرج بالحرث، والنطفة بالبذر، والولد بالزرع.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾:

أ. قيل: الطاعة فيما أمرتم به: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ في مجاوزة ما حل لكم، عن السدي والأصم وأبي مسلم.

ب. وقيل: هو طلب الولد.

ج. وقيل: التزوج بالعفائف.

18. ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ أي اتقوا عقابه بالتمسك بما حد لكم، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾:

أ. قيل: يعني اتقوه عالمين أنكم صائرون إلى حكمه وسلطانه فيجازيكم.

ب. وقيل: ملاقوه يعني ملاقو جزائه المعد على أعمالكم التي قدمتم، فهو يرجع إلى قوله: ﴿وَقَدِّمُوا﴾؛ لأنه يدل على ما تقدم.

19. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ خطاب للرسول قبلها، يعني أعلمهم بما لهم عند الله من الثواب الجزيل جزاء على أعمالهم.

20. تدل الآيات الكريمة على:

أ. ظاهر الآية يدل على كون الحيض أذى، وأنه يجب اعتزال المرأة في حال الحيض، وذكر غاية التحريم، ومتى يحل، والإتيان من حيث أمركم الله به.

ب. دلالة قوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ على غاية، وقد قال مشايخنا: الآية تدل على منع وشرط وغاية وإباحة بعده؛ لأن قوله:

ج. أن للزوج أن يأتي المرأة في قُبُلِهَا كيف شاء على ما نُقِلَ في الخبر بعد أن يكون الوطء في موضع الحرث.

د. بطلان قول من أباح إتيان النساء في أدبارهن على ما يحكى عن مالك بن أنس وابن عمر؛ لأنه ليس بموضع حرث، ولأنه لا يفارقه الأذى، وقد وردت السنة بتحريمه وتعظيم الأمر فيه.

هـ. لا يستدل بذكر اللقاء على جواز الرؤية؛ لأن اللقاء ليس من الرؤية في شيء، بل هو لفظ يقع على معان مختلفة يقال: لقي الحرب، ولقي جهدًا، وقد يلقى الضرير غيره، وإن لم يره، ولاقى فلان جماعة، وقال تعالى: ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾ ولأن الآية وردت وعيدًا فَحَمْلُهُ على ما قلنا أقرب، ويلزمهم أن الكفار يرونه؛ لأنه بين أن جميع العباد يلقونه، وهذا خلاف الإجماع.

21. قرأ: ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بفتح الطاء والهاء والتشديد: حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وقرأ الباقون بالتخفيف فمعنى التشديد يغتسلن، ومعنى التخفيف ينقطع حيضهن، عن الحسن والفراء.

22. ﴿أَذًى﴾ موضعه رفع لأنه خبر ابتداء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/892

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

2. حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا، والمصدر من هذا الباب المفعل والمفعل جائز فيه قال الراعي:

بنيت مرافقهن فوق مزلة...لا يستطيع بها القراد مقيلا

أي: قيلولة، وامرأة حائض، ونساء حيض.

3. الاعتزال: التنحي عن الشئ، وكل شئ نحيته عن موضع فقد عزلته عنه، ومنه عزل الوالي، وأنت عن هذا بمعزل أي: منتحي، وعزلاء المزادة: مخرج الماء من إحدى جانبيها والجمع عزال،والمعزال من الناس: الذي لا ينزل مع القوم في السفر، لكنه ينزل ناحية، والطهر: خلاف الدنس.

4. الطهور: يكون اسما ويكون صفة:

فإذا كان اسما كان على ضربين: أحدهما: أن يكون مصدرا كما حكاه سيبويه تطهرت طهورا حسنا، وتوضأت وضوءا والآخر: أن يكون اسما ليس بمصدر كما جاء في قوله: (طهورا ناء أحدكم) كذا وهو اسم لما يطهر كالفطور، والوجور، والسعوط والسحور.

وأما كونه صفة فهو في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ فهذا كالرسول، والعجوز، ونحو ذلك من الصفات التي جاءت على فعول، ولا دلالة فيه على التكرير لما لم يكن متعديا نحو: ضروب، ألا ترى أن فعله غير متعد كما يتعدى ضربت، ومن الصفة قوله: هو الطهور ماؤه، لأنه ارتفع به الماء كما يرتفع الاسم بالصفة المتقدمة.

5. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾

أ. قيل: كانوا في الجاهلية يتجنبون مواكلة الحائض ومشاربتها ومجالستها، فسألوا عن ذلك، فنزلت الآية، عن الحسن وقتادة والربيع.

ب. وقيل: كانوا يستجيزون إتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض، فلما سألوا عنه بين لهم تحريمه، عن مجاهد، والأول عندنا أقوى

6. ثم بين سبحانه شريعة أخرى، فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد، والسائل أبو الدحداح فيما قيل، ﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي: عن الحيض وأحواله ﴿قُلْ﴾ يا محمد.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ أَذًى﴾:

أ. قيل: معناه قذر ونجس، عن قتادة، والسدي.

ب. وقيل: دم، عن مجاهد.

ج. وقيل: هو أذى لهن وعليهن لما فيه من المشقة قاله القاضي.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾:

أ. قيل: أي: اجتنبوا مجامعتهن في الفرج، عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد، وهو قول محمد بن الحسن، ويوافق مذهبنا(2) أنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط.

ب. وقيل: يحرم ما دون الإزار، ويحل ما فوقه، عن شريح وسعيد بن المسيب، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

9. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ بالجماع، أو ما دون الإزار على الخلاف فيه ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾:

أ. بالتخفيف معناه: حتى ينقطع الدم عنهن.

ب. وبالتشديد معناه: يغتسلن، عن الحسن ويتوضأن، عن مجاهد وطاوس وهو مذهبنا.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾:

أ. قيل: أي: اغتسلن.

ب. وقيل: توضأن.

ج. وقيل: غسلن الفرج.

11. ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ فجامعوهن وهو إباحة، وإن كان صورته صورة الأمر، كقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: معناه: من حيث أمركم الله تجنبه في حال الحيض، وهو الفرج، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع، وهو أليق بالظاهر.

ب. وقيل: من قبل الطهر دون الحيض، عن السدي والضحاك.

ج. وقيل: من قبل النكاح دون الفجور عن ابن الحنفية.

د. قال الزجاج معناه: من الجهات التي تحل فيها أن تقرب المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يحب أي: لا تقربوهن وهن صائمات أو محرمات أو معتكفات.

هـ. وقال الفراء ولو أراد الفرج لقال في حيث، فلما قال من حيث، علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها.

و. وقال غيره: إنما قال من حيث لأن من لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك ائت زيدا من مأتاه أي: من الوجه الذي يؤتى منه.

13. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾:

أ. قيل معناه: المتطهرين بالماء، عن عطا، وقد رواه أصحابنا أيضا في سبب نزول الآية.

ب. قيل: يحب المتطهرين من الذنوب، عن سعيد بن جبير، ولم يذكر المتطهرات، لأن المؤنث يدخل في المذكر.

ج. وقيل: التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر.

14. في هذه الآية دلالة على وجوب اعتزال المرأة في حال الحيض، وفيها ذكر غاية التحريم:

أ. وعندنا(2): أقله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وهو قول أهل العراق.

ب. وعند الشافعي، وأكثر أهل المدينة: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما.

15. اختلف في حكم الوطء في حال الحيض:

أ. عندنا إن كان في أوله يلزمه دينار، وإن كان في وسطه فنصف دينار، وإن كان في آخره فربع دينار.

ب. وقال ابن عباس: عليه دينار ولم يفصل.

ج. وقال الحسن: يلزمه بدنة، أو رقبة، أو عشرون صاعا.

16. اختلف في غاية تحريم الوطء:

أ. منهم من جعل الغاية انقطاع الدم.

ب. ومنهم من قال: إذا توضأت، أو غسلت فرجها، حل وطؤها، عن عطا وطاووس، وهو مذهبنا، وإن كان المستحب أن لا يقربها إلا بعد الغسل.

ج. ومنهم من قال: إذا انقطع دمها فاغتسلت، حل وطؤها، عن الشافعي.

د. ومنهم من قال: إذا كان حيضها عشرا، فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج، وإن كان دون العشرة، فلا يحل وطؤها إلا بعد الغسل، أو التيمم، أو مضي وقت الصلاة عليها، عن أبي حنيفة.

17. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾

أ. قيل: نزلت ردا على اليهود حيث قالوا: إن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها، خرج الولد أحول، فكذبهم الله، عن ابن عباس وجابر.

ب. وقيل: أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل الله إباحته، عن الحسن

18. لما بين تعالى أحوال النساء في الطهر والحيض، عقب ذلك بقوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ وفيه وجوه:

أ. أحدهما: إن معناه مزدرع لكم، ومحترث لكم، عن ابن عباس والسدي.

ب. الثاني: إن معناه ذوات حرث لكم، منهن تحرثون الولد واللذة، فحذف المضاف، وهذا في المعنى مثل الأول، عن الزجاج، وقال أبو عبيدة: كنى بالحرث عن الجماع.

ج. الثالث: معناه كحرث لكم، فحذف كاف التشبيه، كما قال الشاعر:

النشر مسك، والوجوه دنا...نير، وأطراف الأكف عنم

وقد سمى العرب النساء حرثا، قال المفضل بن سلمة: أنشدني أبي:

إذا أكل الجراد حروث قوم،...فحرثي همه أكل الجراد

يريد امرأتي.

19. ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ أي: موضع حرثكم يعني نساءكم.

20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾:

أ. قيل: معناه من أين شئتم، عن قتادة والربيع، قيل: كيف شئتم، عن مجاهد.

ب. وقيل: متى شئتم، عن الضحاك، وهذا خطأ عند أهل اللغة، لأن أنى لا يكون إلا بمعنى من أين كما قال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾

ج. وقيل: معناه من أي وجه، واستشهد بقول الكميت:

أنى ومن أين آبك الطرب،...من حيث لا صبوة، ولا ريب

وليس في البيت شاهد لهم، لأنه لا يجوز أن يكون أتى به لاختلاف اللفظين كما يقولون متى كان هذا؟ وأي وقت كان؟ ويجوز أن يكون بمعنى كيف.

21. استدل مالك بقوله ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ على جواز إتيان المرأة في دبرها، ورواه عن نافع، عن ابن عمر، وحكاه زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، وبه قال كثير من أصحابنا، وخالف في ذلك جميع الفقهاء، وقالوا: إن الحرث لا يكون إلا بحيث النسل، فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل؟ فأجيبوا عن ذلك بأن النساء وإن كن لنا حرثا، فقد أبيح لنا وطؤهن بلا خلاف في غير موضع الحرث، كالوطء فيما دون الفرج، وما أشبهه.

22. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ معناه: قدموا الأعمال الصالحة التي أمرتم بها، ورغبتم فيها، لتكون ذخرا لكم عند الله، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما تقدم الأمر بعدة أشياء قال بعدها: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾

23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾:

أ. قيل: بالطاعة فيما أمرتم به ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ واتقوا عقاب الله بترك مجاوزة الحد فيما بين لكم، وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه، والتحذير من مخالفة ما ألزموه.

ب. وقيل: معنى التقديم هنا طلب الولد، فإن في اقتناء الولد الصالح يكون تقديما عظيما، لقوله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم به ينتفع بعد موته.

ج. وقيل: هو تقديم الإفراط لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، لم تمسه النار إلا تحلة القسم، فقيل: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان.

د. وقيل: هو التسمية عند الجماع، عن عطاء.

هـ. وقيل: هو الدعاء عند الجماع، عن مجاهد، ويؤيده ما روي عن ابن عباس قال، قال النبي: إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل: بسم الله، اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما ولد لم يضره شيطان.

و. وقيل: هو التزويج بالعفائف، ليكون الولد طاهرا صالحا.

24. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي: ملاقو جزائه يعني ثوابه إن أطعتموه، وعقابه إن عصيتموه، وإنما أضافه إليه على ضرب من المجاز، ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالثواب والجنة، ولا يصح حمل اللقاء على الرؤية، لأن لفظ اللقاء يقع على معان مختلفة، يقال: لقي جهده، ولقي حمامه، ولأن في الآية إثبات اللقاء لجميع العباد، وهذا خلاف ما ذهب إليه أهل التشبيه.

25. قرأ أهل الكوفة غير حفص: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء والهاء، والباقون بالتخفيف:

أ. من قرأ يطهرن: فإنه من طهرت المرأة وطهرت طهرا وطهارة، وطهرت بالفتح أقيس، لأنه خلاف طمثت، فينبغي أن يكون على بنائه، وأيضا فقولهم طاهر يدل على أنه مثل قعد فهو قاعد.

ب. ومن قرأ يطهرن: فإنه يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.

26. مسائل نحوية:

أ. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: جار ومجرور، ولكن حيث مبني لا يظهر فيه الإعراب، وإنما بني لمشابهة الحرف، لأنه لا يفيد إلا مع غيره كالحرف.

ب. ﴿مِنَ﴾: يتعلق بقول ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ جملة في محل الجر بإضافة ﴿حَيْثُ﴾ إليه.

ج. ﴿أَنَّى﴾: في محل النصب، لأنه ظرف مكان بمعنى حيث أو أين، أو ظرف زمان إذا كان بمعنى متى، والعامل فيه فأتوا، وشئتم: جملة فعلية في موضع الجر بإضافة الظرف إليها، وإذا كان أنى بمعنى كيف، فهو في محل النصب على المصدر، ولا محل لشئتم، وتقديره فأتوا حرثكم أي نوع شئتم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/562

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾:

أ. روى ثابت عن أنس، قال كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهنّ لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فاسأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهن ويكونوا معهنّ في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النّكاح.

ب. وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدّحداحة من الأنصار، إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية.

2. في المحيض قولان:

أ. أحدهما: أنه اسم للحيض، قال الزجّاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا، وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض.

ب. الثاني: أنه اسم لموضع الحيض، كالمقيل، فإنه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة، وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد.

3. أرباب القول الأوّل؛ فأكّدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض، لا لمكانه، وأما أرباب القول الثاني، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة لموضع، ثم وصفه بما قاربه وجاوره، كالعقيقة، فإنها اسم لشعر الصبيّ، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازا، والرّاوية: اسم للجمل، وسميت المزادة راوية مجازا.

4. الأذى يحصل للواطئ بالنّجاسة، ونتن الرّيح، وقيل: يورث جماع الحائض علّة بالغة في الألم.

5. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، المراد به اعتزال الوطء في الفرج، لأن المحيض نفس الدّم أو نفس الفرج، ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، أي: لا تقربوا جماعهنّ، وهو تأكيد لقوله: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾

6. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف، وأبو بكر، عن عاصم (يطّهّرن) بتشديد الطّاء والهاء وفتحهما، قال ابن قتيبة: يطهرن: ينقطع عنهن الدم، يقال: طهرت المرأة وطهرت: إذا رأت الطّهر، وإن لم تغتسل بالماء، ومن قرأ: (يطّهّرن) بالتشديد أراد: يغتسلن بالماء، والأصل يتطهّرن، فأدغمت التاء في الطاء، قال ابن عباس ومجاهد: حتى يطهرن من الدم، فإذا تطهّرن اغتسلن بالماء.

7. ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ إباحة من حظر، لا على الوجوب.

8. في قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: من قبل الطّهر، لا من قبل الحيض، قاله ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسّدّيّ في آخرين.

ب. الثاني: أن معناه: فأتوهنّ من حيث أمركم الله أن لا تقربوهنّ فيه، وهو محلّ الحيض، قاله مجاهد، وقال من نصر هذا القول: إنما قال ﴿أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، والمعنى: نهاكم، لأن النهي أمر بترك المنهيّ عنه، و(من) بمعنى (في)، كقوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾

ج. الثالث: فأتوهنّ من قبل التزويج والحلال، لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفيّة.

د. الرابع: أن معناه: فأتوهنّ من الجهات التي يحلّ أن تقرب فيها المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كنّ صائمات أو معتكفات أو محرمات، وهذا قول الزجّاج وابن كيسان.

9. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾، قولان:

أ. أحدهما: التوّابين من الذنوب، قاله عطاء، ومجاهد في آخرين.

ب. الثاني: التوّابين من إتيان الحيض، ذكره بعض المفسّرين.

10. في قوله: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: المتطهّرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية.

ب. الثاني: المتطهّرين بالماء، قاله عطاء.

ج. الثالث: المتطهّرين من إتيان أدبار النساء، روي عن مجاهد.

11. اختلف في أقلّ الحيض:

أ. قيل: يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد، والثانية: يوم.

ب. وقال أبو حنيفة: أقلّه ثلاثة أيام.

ج. وقال مالك وداوود: ليس لأقلّه حدّ.

12. اختلفوا في أكثره:

أ. روايتان عن أحمد إحداهما: خمسة عشر يوما، وهو قول مالك والشّافعيّ.

ب. الثانية: سبعة عشر يوما.

ج. وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام.

13. الحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصّلاة، ووجوبها، وفعل الصّيام دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطّواف، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع في الفرج، وحصول نيّة الطّلاق.

14. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية، روي عن جابر، والحسن، وقتادة.

ب. الثاني: أن حيّا من قريش كانوا يتزوّجون النساء بمكّة، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة، تزوّجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك، فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس.

ج. الثالث: أن عمر بن الخطّاب جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: هلكت، حوّلت رحلي الليلة، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

15. الحرث: المزدرع، وكنّى به هاهنا عن الجماع، فسمّاهنّ حرثا، لأنهن مزدرع الأولاد، كالأرض للزرع، فإن قيل: النساء جمع، فلم لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرها ابن القاسم الأنباريّ النّحويّ:

أ. أحدها: أن يكون الحرث مصدرا في موضع الجمع، فلزمه التوحيد، كما تقول العرب: إخوتك صوم، وأولادك فطر، يريدون: صائمين ومفطرين، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع.

ب. الثاني: أن يكون أراد: حروث لكم، فاكتفى بالواحد من الجمع، كما قال الشاعر: (كلوا في نصف بطنكم تعيشوا)، أي: في أنصاف بطونكم.

ج. الثالث: أنه إنما وحّد الحرث، لأن النساء شبّهن به، ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم.

16. في قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه بمعنى: كيف شئتم، ثم فيه قولان:

أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم، مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطيّة، والسّدّيّ، وابن قتيبة في آخرين.

الثاني: أنها نزلت في العزل، قاله سعيد بن المسيّب، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، والقول.

ب. الثاني: أنه بمعنى: إذا شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفيّة والضحّاك، وروي عن ابن عباس أيضا.

ج. الثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم، وهذا محكيّ عن ابن عمر ومالك بن أنس، وهو فاسد من وجوه:

أحدها: أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعا تحدّث بذلك عن ابن عمر، قال كذب العبد، إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهنّ من أدبارهنّ، وأمّا أصحاب مالك، فإنهم ينكرون صحته عن مالك‏.

الثاني: أن أبا هريرة روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (ملعون من أتى النّساء في أدبارهنّ)، فدلّ على أن الآية لا يراد بها هذا.

الثالث: أن الآية نبّهت على أنه محلّ الولد بقوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، وموضع الزّرع: هو مكان الولد، قال ابن الأنباريّ: لما نصّ الله على ذكر الحرث، والحرث به يكون النّبات، والولد مشبّه بالنّبات، لم يجز أن يقع الوطء في محلّ لا يكون منه ولد.

الرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلّة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه.

17. في قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: وقدّموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ب. الثاني: وقدّموا التسمية عند الجماع، رواه عطاء عن ابن عباس.

ج. الثالث: وقدّموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله مقاتل.

د. الرابع: وقدّموا طاعة الله واتّباع أمره، قاله الزجّاج.

__________

(1) زاد المسير: 1/188

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جمع الله تعالى في هذا الموضع ستة من الأسئلة، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو، وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو، والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا، والسؤال عن كذا.

2. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ روي‏ أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن، فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد، والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرناها هلكت الحيض، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم، فلما سمع اليهود ذلك قالوا: هذا الرجل يريد أن لا يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه، ثم جاء عباد بن بشير، وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبراه بذلك وقالا: يا رسول الله أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حتى ظننا أنه غضب عليها فقاما، فجاءته هدية من لبن، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.

3. أصل الحيض في اللغة السيل يقال: حاض السيل وفاض، قال الأزهري: ومنه قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل إليه، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو لأنهما من جنس واحد، وهذا البناء قد يجيء للموضع، كالمبيت، والمقيل، والمغيب، وقد يجيء أيضا بمعنى المصدر، يقال: حاضت محيضا، وجاء مجيئا، وبات مبيتا، وحكى الواحدي في (البسيط) عن ابن السكيت: إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة، نحو: كال يكيل، وحاض يحيض، وأشباهه فإن الاسم منه مكسور، والمصدر مفتوح من ذلك مال ممالا، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعا أو كسرهما في المصدر والاسم لجاز، تقول العرب: المعاش والمعيش، والمغاب والمغيب، والمسار والمسير، فثبت أن لفظ المحيض حقيقة في موضوع الحيض، وهو أيضا اسم لنفس الحيض.

4. أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض هاهنا الحيض، وعندي أنه ليس كذلك، إذ لو كان المراد بالمحيض هاهنا الحيض لكان قوله: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ معناه: فاعتزلوا النساء في الحيض، ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، فيكون ظاهره مانعا من الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية، ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض، ويكون المعنى: فاعتزلوا موضع الحيض من النساء، وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص، ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان مشتركا بين معنيين، وكان حمله على أحدهما يوجب محذورا وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإن حمل اللفظ على المعنى الذي لا يوجب المحذور أولى، هذا إذا سلمنا أن لفظ المحيض مشترك بين الموضع وبين المصدر، مع أنا نعلم أن استعمال هذا اللفظ في موضع أكثر وأشهر منه في المصدر.

5. سؤال وإشكال: الدليل على أن المراد من المحيض الحيض أنّه قال ﴿هُوَأَذىً‏﴾ أي المحيض أذى، ولو كان المراد من المحيض الموضع لما صح هذا الوصف، والجواب: بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض، فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص، والأذى كيفية مخصوصة، وهو عرض، والجسم لا يكون نفس العرض، فلا بد وأن يقولوا: المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضا أن نقول: المراد أن ذلك الموضع ذو أذى، وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض، ومن المحيض الثاني موضع الحيض، وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال، فهذا ما عندي في هذا الموضع.

6. ﴿قُلْ هُوَأَذىً‏﴾ فقال عطاء وقتادة والسدي: أي قذر، واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء، وقوله: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ الاعتزال التنحي عن الشيء، قدم ذكر العلة وهو الأذى، ثم رتب الحكم عليه، وهو وجوب الاعتزال.

7. سؤال وإشكال: ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة، والجواب: العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أما دم الاستحاضة فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى، هذا ما عندي‏ في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده.

8. دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فأمران:

أ. أحدهما: المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ [البقرة: 228] قيل في تفسيره: المراد منه الحيض والحمل، وأما دم الاستحاضة، فإنه لا يخرج من الرحم، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم، قال صلّى الله عليه وآله وسلم في صفة دم الاستحاضة: (إنه دم عرق انفجر)، وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض عن تعليل القرآن.

ب. الثاني: من صفات دم الحيض: الصفات التي وصف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دم الحيض بها:

أحدها: أنه أسود.

الثاني: أنه ثخين.

الثالث: أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته.

الرابعة: أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلانا.

الخامسة: أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء، وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة.

السادسة: أنه بحراني، وهو شديد الحمرة وقيل: ما تحصل فيه كدورة تشبيها له بماء البحر، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.

9. اختلف في كيفية تمييز الحيض عن الاستحاضة:

أ. من الناس من قال دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفا بهذه الصفات فهو دم الحيض، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان.

ب. ومن الناس من قال هذه الصفات قد تشتبه على المكلف، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الدماء وفي الصفات يقتضي عسرا ومشقة، فالشارع قدر وقتا مضبوطا متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف.

10. الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه.

11. اختلف الناس في مدة الحيض:

أ. فقال الشافعي: أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوما، وهذا قول علي بن أبي طالب‏ وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحاق.

ب. وقال أبو حنيفة والثوري: أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد، وأكثره عشرة أيام، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء: إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما، ثم تركه.

ج. وقال مالك: لا تقدير لذلك في القلة والكثرة، فإن وجد ساعة فهو حيض، وإن وجد أياما فكذلك، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال: (لو كان المقدار ساقطا في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة، لأن كل ذلك الدم يكون حيضا على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة، ولأنه‏ روي‏ أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم إني أستحاض فلا أطهر، وأيضا روي‏ أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لهما إن جميع ذلك حيض، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة، فبطل هذا القول)، وهذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول: إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات‏ التي ذكرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لدم الحيض، فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض، وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض، وإذا ترددنا في الأمرين كان طريان الحيض مجهولا وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم والمشكوك لا يعارض المعلوم، فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية، فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين، وحجة مالك من وجهين:

الأول: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين علامة دم الحيض وصفته‏ بقوله: (دم الحيض هو الأسود المحتدم)، فمتى كان الدم موصوفا بهذه الصفة كان الحيض حاصلا، فيدخل تحت قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ وتحت‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة)

الحجة الثانية: أنه تعالى قال في دم الحيض: ﴿هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الاعتزال، وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه، وإذا كان وجوب الاعتزال معللا بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملا بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح، وعندي أن قول مالك قوي جدا.

12. احتج القائلون بأن أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما بوجهين:

أ. الحجة الأولى: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه صلّى الله عليه وآله وسلم وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض، فيدخل تحت عموم قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة، وفي الأكثر من خمسة عشر يوما بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة، فوجب أن يبقى معمولا به في هذه المدة.

ب. الحجة الثانية: في جانب الزيادة ما روي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلم لما وصف النسوان بنقصان الدين، فسر ذلك بأن قال تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي، وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوما، لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضا خمسة عشر يوما فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها.

13. ذكر هنا تتمة للجدال الفقهي المرتبط بهذا بين الحنفية والشافعية، ليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

14. اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة، واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة، وإن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه، بل من يقول: إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه، يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع، أما من يفسر المحيض بالحيض، كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة، فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة.

15. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ أي ولا تجامعوهن، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ ويمكن أيضا حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ نهيا عن المباشرة في موضع الدم وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ يكون نهيا عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.

16. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب الحضرمي، وأبو بكر عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة من الطهارة، وقرأ حمزة والكسائي‏ ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بالتشديد، وكذلك حفص عن عاصم:

أ. فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها، وذلك إذا انقطع الحيض، فالمعنى: لا تقربون حتى يزول عنهن الدم.

ب. ومن قرأ: ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1]، و﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1] أي المتزمل والمتدثر.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾:

أ. أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال، حجة الشافعي من وجهين.

الأولى: أن القراءة المتواترة، حجة بالإجماع، فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما، وجب الجمع بينهما، إذا ثبت هذا فنقول: قرئ‏ ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بالتخفيف وبالتثقيل ويطهرن بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم، وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء والجمع بين الأمرين ممكن، وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين، وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين.

الثانية: أن قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ علق الإتيان على التطهر بكلمة إذا وكلمة إذا للشرط في اللغة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر.

ب. ذهب أبو حنيفة إلى أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ نهي عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن، وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض، وأجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ لكان ما ذكرتم لازما، أما لما ضم إليه قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه، فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعا.

18. إذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر، فقد اختلفوا في ذلك التطهر:

أ. فقال الشافعي وأكثر الفقهاء: هو الاغتسال، وهو الصحيح لوجهين:

الأول: أن ظاهر قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها.

الثاني: أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض، فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه، وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع، وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء.

ب. وقال بعضهم: هو غسل الموضع.

ج. وقال عطاء وطاووس: هو أن تغسل الموضع وتتوضأ.

19. في المراد بقوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وجوه:

أ. الأول: وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة: فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به، ولا تؤتوهن في غير المأتي، وقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي في حيث أمركم الله، كقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: 9] أي في يوم الجمعة.

ب. الثاني: قال الأصم والزجاج: أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن، وذلك بأن لا يكن صائمات، ولا معتكفات، ولا محرمات.

ج. الثالث: وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة (حيث) حقيقة في المكان مجاز في غيره.

20. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ الكلام في تفسير محبة الله تعالى، وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول: التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة.

21. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقا والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب، فمن لم يكن مذنبا وجب أن لا تحسن منه التوبة، والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن المكلف لا يأمن ألبتة من التقصير، فتلزمه التوبة دفعا لذلك التقصير المجوز.

ب. الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني التوبة في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود، واعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي، ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول: مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية، لئلا يتوجه الطعن والسؤال.

22. في قوله تعالى: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وجوه:

أ. أحدها: المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه، ولا ثالث لهذين القسمين، واللفظ محتمل لذلك، لأن الذنب نجاسة روحانية، ولذلك قال ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28] فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزها عن العيوب والقبائح، ويقال: فلان طاهر الذيل.

ب. الثاني: أن المراد: لا يأتيها في زمان الحيض، وأن لا يأتيها في غير المأتي على ما قال: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، ومن قال بهذا القول قال هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: 82] فكان قوله: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ترك الإتيان في الأدبار.

ج. الثالث: أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ فلا جرم مدح المتطهر فقال: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ والمراد منه التطهر بالماء، وقد قال تعالى: ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108] فقيل في التفسير: إنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم.

23. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجوه:

أ. أحدها: روي‏ أن اليهود قالوا: من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلا، وزعموا أن ذلك في التوراة، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: كذبت اليهود ونزلت هذه الآية

ب. ثانيها: روي عن ابن عباس‏ أن عمر جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، وحكى وقوع ذلك منه، فأنزل الله تعالى هذه الآية

ج. ثالثها: كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها، وكانوا أخذوا ذلك من اليهود، وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار ذلك عليهم، فنزلت الآية.

24. ﴿حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أي مزرع ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه، ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، والحرث مصدر، ولهذا وحد الحرث فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد، فحذف المضاف، وأيضا قد يسمى موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة كقوله: فإنما هي إقبالي وإدبار ويقال: هذا أمر الله، أي مأموره، وهذا شهوة فلان، أي مشتهاه، فكذلك حرث الرجل محرثه.

25. ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها، فقوله: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ محمول على ذلك، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن، وسائر الناس كذبوا نافعا في هذه الرواية، وهذا قول مالك، واختيار السيد المرتضى من الشيعة، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق، وحجة من قال إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه:

أ. الحجة الأولى: أن الله تعالى قال في آية المحيض: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222] جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وهاهنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة هاهنا وجب حصول الحرمة.

ب. الحجة الثانية: قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222] وظاهر الأمر للوجوب، ولا يمكن أن يقال: إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر، لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولا على القبل، وذلك هو المطلوب.

ج. الحجة الثالثة: روى خزيمة بن ثابت‏ أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: حلال، فلما ولى الرجل دعاه فقال: كيف قلت في أي الخربتين، أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصفتين، أو من قبلها في قبلها فنعم، أمن دبرها في قبلها فنعم، أمن دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق: (لا تؤتوا النساء في أدبارهن)، وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها، والخرزة هي التي يثقبها الخراز، كنى به عن المأتي، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته.

26. حجة من قال بالجواز وجوه(2):

أ. الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية من وجهين:

الأول: أنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة فقال: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين، فلما قال بعده: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ كان المراد فاتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقا في إتيانهن على جميع الوجوه، فيدخل فيه محل النزاع.

الثاني: أن كلمة (أنى) معناها أين، قال الله تعالى: ﴿أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏﴾ [آل عمران: 37] والتقدير: من أين لك هذا فصار تقدير الآية: فاتوا حرثكم أين شئتم وكلمة: أين شئتم، تدل على تعدد الأمكنة: اجلس أين شئت ويكون هذا تخييرا بين الأمكنة، إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها، أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان، واللفظ اللائق به أن يقال: اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور هاهنا لفظة: كيف، بل لفظة (أنى) ويثبت أن لفظة (أنى) مشعرة بالتخيير بين الأمكنة، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه.

ب. الحجة الثانية: لهم: التمسك بعموم قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: 6] ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع، فوجب أن يبقى معمولا به في حق النسوان.

ج. الحجة الثالثة: توافقنا على أنه لو قال للمرأة: دبرك عليّ حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقا، وهذا يقتضي كون دبرها حلالا له، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.

27. أجاب القائلون بالحرمة فقالوا: الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه:

أ. الأول: أن الحرث اسم لموضع الحراثة، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعا للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة، ويقتضي هذا الدليل أن لا يطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ لأن الله تعالى صرح هاهنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه، وهذه الصورة مفقودة في قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ فوجب حمل الحرث هاهنا على موضع الحراثة على التعيين، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتي.

ب. الثاني: في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين:

أحدهما: قوله: ﴿قُلْ هُوَأَذىً‏﴾ [البقرة: 222]

الثاني: قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعا بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد، والأصل أنه لا يجوز.

ج. الثالث: الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها، وسبب نزول الآية لا يكون خارجا عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه.

28. رد القائلون بالحرمة على الوجوه التي تمسك بها المجيزون، وردوا عليها كما يلي:

أ. أما الأول: فقد بينا أن قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ معناه: فاتوا موضع الحرث.

ب. وأما الثاني: فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ ذلك الموضع المعين لم يكن حمل‏ ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ على التخيير في مكان، وعند هذا يضمر فيه زيادة، وهي أن يكون المراد من‏ ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فيضمر لفظة: من، لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول: بل هذا أولى، لأن الأصل في الأبضاع الحرمة.

ج. وأما الثالث: فجوابه: أن قوله: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: 6] عام، ودلائلنا خاصة، والخاص مقدم على العام.

د. وأما الرابع: فجوابه: أن قوله: دبرك عليّ حرام، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق، لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة، فصار ذلك كقوله: يدك طالق.

29. اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾:

أ. المشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها، ومن دبرها في قبلها.

ب. الثاني: أن المعنى: أي وقت شئتم من أوقات الحل: يعني إذا لم تكن أجنبية، أو محرمة، أو صائمة، أو حائضا.

ج. الثالث: أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة، أو مضطجعة، بعد أن يكون في الفرج.

د. الرابع: قال ابن عباس: المعنى إن شاء، وإن شاء لم يعزل، وهو منقول عن سعيد بن المسيب.

هـ. الخامس: متى شئتم من ليل أو نهار.

30. سؤال وإشكال: ما المختار من هذه الأقاويل؟ والجواب: قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون: من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم، فكان الأولى حمل اللفظ عليه، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب، لأن ﴿أَنَّى﴾ يكون بمعنى متى ويكون بمعنى كيف وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت ﴿أَنَّى﴾ لأن حال الجماع لا يختلف بذلك، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا.

31. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فمعناه: افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره: قدم لنفسك عملا صالحا، وهو كقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] ونظير لفظ التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله: ﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ [ص: 60]

32. سؤال وإشكال: كيف تعلق قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ بما قبله؟ والجواب: نقل عن ابن عباس أنّه قال معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد، والذي عندي فيه أن قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء، كأنه قيل: هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها، ثم قال بعده: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث، فاتوا حرثكم، ولا تأتوا غير موضع الحرث، فكان قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ دليلا على الإذن في ذلك الموضع، والمنع من غير ذلك الموضع، فلما اشتملت الآية على الإذن في أحد الموضعين، والمنع عن الموضع الآخر، لا جرم قال: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة، بل كونوا في قيد تقديم الطاعة، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ثم أكده ثالثا بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل، وما بعدها أيضا دال على تحريمه، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين.

33. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ الكلام في التقوي قد تقدم، والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 46]

34. ذكر الله تعالى هذه الأمور الثلاثة:

أ. أولها: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ والمراد منه فعل الطاعات.

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ والمراد منه ترك المحظورات.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ وفيه إشارة إلى أني إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثا وما أحسن هذا الترتيب.

35. ثم قال ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن وهو أن يجعل مع كل وعيد وعدا والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهما كالمعلوم، فصار كقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/415

(2) انظر الردود على هذه الوجوه في المسألة التالية لهذه المسألة، وما بعدها

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح ـ وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين، وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت، وفي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (اصنعوا كل شي إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.

2. قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين.

3. ﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾ المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد: كحائضة يزنى بها غير طاهر ونساء حيض وحوائض، والحيضة: المرة الواحدة، والحيضة (بالكسر) الاسم، والجمع الحيض، والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة، قالت عائشة: ليتني كنت حيضة ملقاة، وكذلك المحيضة، والجمع المحايض، وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض، وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:

إليك أشكو شدة المعيش... ومر أعوام نتفن ريشي

وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد، قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة، فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة، ابن العربي، ولها ثمانية أسماء: الأول ـ حائض، الثاني ـ عارك، الثالث ـ فارك، الرابع ـ طامس، الخامس دارس، السادس ـ كابر، السابع ـ ضاحك، الثامن ـ طامث، قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ يعني حاضت، وقيل في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ يعني حضن.

4. أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك، وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء، والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار ـ فقلن وبم يا رسول الله؟ قال ـ تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ـ قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ـ قلن: بلى يا رسول الله، قال ـ فذلك من نقصان دينها)

5. أجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم، فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل.

6. اختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه، وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء، وقال محمد بن مسلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة، وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما، وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، قال ابن عبد البر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته، ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين، وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة، وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري، وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل، قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية.

7. إن كانت الحائض بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما، وقال مالك: لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها، علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما، ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها، أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حتى ينقطع الدم عنها، أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما، الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار، والثاني من الدماء: دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك، وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي، وقيل غير ذلك، وطهرها عند انقطاعه، والغسل منه كالغسل من الجنابة.

8. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه ـ وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة ـ والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن روايتان.

9. الثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض، روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)، وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روي في هذا الباب، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله تعالى جالسة، وفيه أن الحائض لا تصلي، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة، وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح، ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك، وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجئ، أو لا يجئ، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها.

10. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ أي هو شي تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض، والأذى كناية عن القذر على الجملة، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ أي بما تسمعه من المكروه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلاأن تؤمر فيهم، وفى الحديث: (وأميطوا عنه الأذى) يعني بـ (الأذى) الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهي العقيقة، وفي حديث الإيمان: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار، وقوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾

11. استدل من منع وطئ المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس، وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري، واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبد الرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتى، وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها، قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، لان كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب، وكان أحمد يقول: أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها، وعن ابن عباس في المستحاضة: لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها، وقال مالك: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)، فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبد البر: لما حكم الله تعالى في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء.

12. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم، ومقصود هذا النهي ترك المجامعة، وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم!؟ وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم للسائل حين سأله ـ: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال ـ: (لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لعائشة حين حاضت: (شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك)، وقال الثوري ومحمد ابن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: مجتنب موضع الدم، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (اصنعوا كل شي إلا النكاح)، وقد تقدم، وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي، وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقالت: كل شي إلا الفرج، قال العلماء: مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد.

13. اختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شي عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود، وروي عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار، وقال أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (يتصدق بدينار أو نصف دينار)، أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري، فإن لم يفعل فلا شي عليه، وهو قول الشافعي ببغداد، وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار، وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار، والطرق لهذا كله في (سنن أبي داود والدارقطني) وغيرهما، وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار)، قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شي لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة.

14. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء والهاء وفتحهما، وفي مصحف أبي وعبد الله (يتطهرن)، وفي مصحف أنس بن مالك (ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن)، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء، وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة، وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي.

15. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم، وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل، وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن بأن تتوضأ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة، وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة.

16. دليل القول بأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره: أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما، انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، والثاني، الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ الآية، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما، بلوغ المكلف النكاح، والثاني، إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطي، احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ مخففا هو بمعنى قوله: ﴿يَطْهُرْنَ﴾ مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، قال الكميت:

وما كانت الأنصار فيها أذلة... ولا غيبا فيها إذا الناس غيبو

أيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما، ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل، قال ابن العربي: وهذا أقوى مالهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذا حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا، وأيضا فإن ما قالوه يقتضى إباحة الوطي عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى.

17. اختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها، وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله تعالى بذلك المؤمنات، وقال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وبهذا كان يقول محمود بن عبد الحكم.

18. صفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) وفي رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: ﴿لَا﴾ زاد أبو داود: (واغمزي قرونك عند كل حفنة)

19. ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي فجامعوهن، وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطي، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل.

20. ﴿مِنَ﴾ بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ أي في الأرض، وقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ أي في يوم الجمعة، وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم، وقال ابن عباس وأبو رزين: من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك، وقال محمد ابن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى.

21. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك، والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قال عطاء وغيره، وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن، ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا.

22. سؤال وإشكال: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، والجواب: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾

23. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ روى الأئمة واللفظ للمسلم عن جابر بن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ زاد في رواية عن الزهري: إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير إن ذلك في صمام واحد، ويروى: في سمام واحد بالسين، قاله الترمذي، وروى البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة (البقرة) حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت: لا قال: نزلت في كذا وكذا، ثم مضى، وعن عبد الصمد قال: حدثني أبي قال حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ قال: يأتيها في، قال الحميدي: يعني الفرج، وروى أبو داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر والله يغفر له وهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب: وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شري أمرهما؟ فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: (وما أهلكك؟) قال: حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا، قال: فأوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة، قال: هذا حديث حسن صحيح، وروى النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: قد أكثر عليك القول، إنك تقول عن ابن عمر: أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن، قال نافع: لقد كذبوا علي! ولكن سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض علي المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله سبحانه: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾

24. هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطي في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا، ولا يباح! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم، و﴿حَرْثَ﴾ تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ ﴿الْحَرْثِ﴾ يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع، ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترث، ووحد الحرث لأنه مصدر، كما يقال: رجل صوم، وقوم صوم.

25. ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا، و﴿أَنَّى﴾ تجئ سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من ﴿كَيْفَ﴾ ومن ﴿أَيْنَ﴾ ومن ﴿مَتَى﴾، هذا هو الاستعمال العربي في ﴿أَنَّى﴾، وقد فسر الناس ﴿أَنَّى﴾ في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبويه بـ ﴿كَيْفَ﴾ ومن ﴿أَيْنَ﴾ باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها بـ ﴿أَيْنَ﴾ إلى أن الوطي في الدبر مباح، وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون، وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى (كتاب السر)، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له (كتاب سر)، ووقع هذا القول في العتبية، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب (جماع النسوان وأحكام القرآن)، وقال الكيا الطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾، وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح، قال الكيا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى، وفي قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ مع قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد، وهذا هو الحق في المسألة.

26. ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطئ، ولو كان موضعا للوطي ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج، وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد، والصحيح في هذه المسألة ما بيناه، وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله مالك النكاح، وهذا هو الحق، وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع، وأما صمام البول فغير صمام الرحم، وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شي بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها، وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة، فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة، وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت!

27. ما استدل به المخالف من أن قوله تعالى: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه (تحريم المحل المكروه)، ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه (إظهار إدبار، من أجاز الوطي في الأدبار)، وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، وقد حذرنا من زلة العالم، وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم، وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه، وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد ابن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (أيها الناس إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن)، ومثله عن علي بن طلق، وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة) وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (تلك اللوطية الصغرى) يعنى إتيان المرأة في دبرها، وروي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن، قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استغني به عما سواه.

28. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي قدموا ما ينفعكم غدا، فحذف المفعول، وقد صرح به في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح، وقيل ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنة، وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا، وقيل: هو تقدم الأفراط، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم) الحديث، وقال ابن عباس وعطاء: أي قدموا ذكر الله عند الجماع، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا)، أخرجه مسلم.

29. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تحذير ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب يقول: (إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا) ـ ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾، أخرجه مسلم بمعناه.

30. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تأنيس لفاعل البر ومبتغى سنن الهدى.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/81

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْمَحِيضِ﴾ هو الحيض، وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة، كذا قال الفراء، ونساء حيّض وحوائض، والحيضة بالكسر: المرة الواحدة، وقيل: الاسم؛ وقيل: المحيض: عبارة عن الزمان والمكان، وهو مجاز فيهما، وقال ابن جرير الطبري: المحيض: اسم الحيض، ومثله قول رؤبة: (إليك أشكو شدّة المعيش‏)، وأصل هذه الكلمة من السيلان والانفجار يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة: أي: سالت رطوبتها، ومنه الحيض: أي: الحوض، لأن الماء يحوض إليه: أي: يسيل.

2. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ أي: قل هو شيء يتأذى به، أي: برائحته، والأذى: كناية عن القذر، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾، ومنه قوله تعالى: ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾

3. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أي: فاجتنبوهنّ في زمان الحيض؛ إن حمل المحيض على المصدر، أو في محل الحيض؛ إن حمل على الاسم، والمراد من هذا الاعتزال: ترك المجامعة، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج، أو بما دون الإزار، على خلاف في ذلك؛ وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني: أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك بشيء، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهو معلوم من ضرورة الدين.

4. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص عنه: بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر: ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء وفتحها وفتح الهاء وتشديدها، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود.

5. يتطهّرن والطهر: انقطاع الحيض، والتطهر: الاغتسال، وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور: إلى أن الحائض لا يحلّ وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء، وقال محمد بن كعب القرظي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل، وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن تتوضأ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر؛ لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة، وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد، والأولى أن يقال: إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما انقطاع الدم، والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها، وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة، قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم، وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين.

6. ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي: فجامعوهن، وكنى عنه بالإتيان، والمراد: أنهم يجامعونهنّ في المأتى الذي أباحه الله، وهو القبل، قيل: ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ بمعنى: في حيث، كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ أي: في يوم الجمعة، وقوله: ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ أي: في الأرض؛ وقيل: إن المعنى: من الوجه الذي أذن الله لكم فيه: أي: من غير صوم وإحرام واعتكاف؛ وقيل: إن المعنى: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض؛ وقيل: من قبل الحلال، لا من قبل الزنا.

7. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ قيل: المراد: التوابون من الذنوب، والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل: التوابون من إتيان النساء في أدبارهنّ؛ وقيل: من إتيانهن في الحيض، والأول أظهر.

8. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة، إذ هو مزدرع الذرية، كما أن الحرث مزدرع النبات، فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل؛ بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات؛ بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى، أعني: قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي: من أي جهة شئتم: من خلف، وقدّام، وباركة، ومستلقية ومضطجعة، إذا كان في موضع الحرث، وأنشد ثعلب:

إنّما الأرحام أرضو ن لنا محترثات‏...فعلينا الزّرع فيها وعلى الله النّبات‏

وإنما عبّر سبحانه بقوله: ﴿أَنَّى﴾ لكونها أعم في اللغة من كيف، وأين، ومتى، وأما سيبويه ففسرها هنا بكيف.

9. ذهب السلف، والخلف من الصحابة، والتابعين، والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام، وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمرو ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه عنهم القرطبي في تفسيره قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى (كتاب السر) وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سرّ، ووقع هذا القول في العتبيّة، وذكر ابن العربي: أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب: (جماع النسوان وأحكام القرآن) وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني شك في أنه حلال، يعني: وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ثم قال فأي شيء أبين من هذا، وقد روى الحاكم، والدارقطني، والخطيب البغدادي عن مالك من طرق: ما يقتضي إباحة ذلك، وفي أسانيدها ضعف، وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال، وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب، قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه.

10. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: خيرا، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وقيل: ابتغاء الولد؛ وقيل: التزويج بالعفائف، وقيل غير ذلك، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرّمات، وفي قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ مبالغة في التحذير، وفي قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/259

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾، وهو الدم الخارج من الرحم على وجه مخصوص في وقت مخصوص، ويسمّى الحيض أيضا، أي: هل يسبب ويقتضي مجانبة مسّ من رأته ﴿قُلْ هُوَأَذىً‏﴾، أي: الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه، نفرة منه وكراهة له، ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، أي: فاجتنبوا مجامعتهنّ في زمنه، قال الراغب: في قوله تعالى: ﴿هُوَأَذىً‏﴾، تنبيه على أن العقل يقتضي تجنبه، كأنّ قيل: الحيض أذى وكلّ أذى متحاشي منه، ولمّا كان الإنسان قد يتحمل الأذى ولا يراه محرّما، صرّح بتحريمه بقوله:‏ ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾

2. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، تأكيد لحكم الاعتزال، وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهنّ، لا عدم القرب منهنّ، وكنى بقربانهنّ، المنهيّ عنه، عن مباضعتهنّ، فدلّ على جواز التمتع بهنّ حينئذ فيما دون الفرج، ففي (الصحيحين) عن عائشة قالت: كنت أرجّل رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأنا حائض، وفيهما عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يتّكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن.

3. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بيان لغاية الاعتزال، وقد قرئ في السبع: بفتح الطاء والهاء مع التشديد، وبسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة، والقراءة الأولى تدلّ صريحا على أنّ غاية حرمة القربان هو الاغتسال، كما ينبئ عنه قوله تعالى‏ ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾، إلخ، والقراءة الثانية وإن دلّت على أنّ الغاية هو انقطاع الدم ـ بناء على ما قيل: إنّ الطهر انقطاع الدم، والتطهر الاغتسال ـ إلّا أنّه لما ضمّ إليها قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾، صار المجموع هو الغاية؛ وذلك بمنزلة أن يقول الرجل: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلّمه! فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعا، وكذلك الآية ـ لمّا دلت على وجوب الأمرين ـ وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلّا عند حصول الأمرين، فمرجع القراءتين واحد كما بيّنا.

4. ثم آذن تعالى أنّ التطهر شرط في إباحة قربانهنّ، لا يصحّ بدونه، بقوله سبحانه‏ ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، أي: فجامعوهنّ من المكان الذي أمركم الله بتجنّبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾، من الذنوب‏ ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ أي: المتنزّهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان في غير المأتى، وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها ـ بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه ـ وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهّر.

5. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، روى الشيخان‏ عن جابر قال كانت اليهود تقول: إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثمّ حملت كان ولدها أحول، قال فأنزلت: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، وعند مسلم عن الزهريّ: إن شاء مجبّية، وإن شاء غير مجبية، غير أنّ ذلك في صمام واحد، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهريّ، لخلوّها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر، مع كثرتهم، و(المجبّية) كملبّية: المنكبّة على وجهها، و(الصمام الواحد): الفرج.

6. ﴿حَرْثٌ لَكُمْ﴾، الحرث: إلقاء البذر في الأرض، هذا أصله؛ والكلام إما بحذف المضاف، أي مواضع حرث، أو المصدر بمعنى المفعول أي: محروثات، وإنما شبّهن لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة، من حيث إنّ كلّا منهما مادة لما يحصل منه، ولمّا عبّر تعالى عنهنّ بالحرث عبّر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدّم، فقال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، أي: فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أيّ جهة شئتم، لا تخطر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أيّ جهة شئتم ولا تبالوا بقول اليهود، وفي تخصيص (الحرث) بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه، قال الزمخشريّ: وقوله تعالى: ﴿هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ﴾ ـ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ ـ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، من الكنايات اللطيفة، والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدّبوا بها، ويتكلّفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.

7. ما ذكرناه من الروايات هو المعوّل عليه عند المحققين، وثمة روايات أخر تدلّ على أنّ هذه الآية إنّما أنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهنّ، قال الطحاويّ: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال (يعني وطء المرأة في دبرها) ثم قرأ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، ثم قال فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاويّ نقلها ابن كثير، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعيّ: قال ابن القاسم: ولم أدرك أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه، والمدنيّون يروون فيه الرخصة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد، أما حديث ابن عمر فله طرق، رواه عنه نافع، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، وزيد بن أسلم، وسعيد بن يسار، وغيرهم، أمّا نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جدّا، منها رواية مالك، وأيوب، وعبيد الله ابن عمر العمريّ، وابن أبي ذئب، وعبد الله بن عون، وهشام بن سعد، وعمر بن محمد بن زيد، وعبد الله بن نافع، وأبان بن صالح، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، قال الدّارقطنيّ، في أحاديث مالك التي رواها خارج (الموطّأ): حدثنا أبو جعفر الأسوانيّ المالكيّ بمصر، حدثنا محمد بن أحمد بن حماد، حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهريّ، حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله، حدّثنا الدراورديّ عن عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع قال قال لي ابن عمر: أمسك علىّ المصحف يا نافع، فقرأ حتى أتى على هذه الآية ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، فقال: تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية؟ قال قلت: لا؟ قال فقال لي: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله تعالى‏ ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية، قال نافع: فقلت لابن عمر: من دبرها في قبلها؟ قال لا، إلّا في دبرها: قال أبو ثابت: وحدثني به الدراورديّ عن مالك وابن أبي ذئب، وفيهما عن نافع مثله، وفي تفسير البقرة من صحيح البخاريّ: حدثنا إسحاق، حدثنا النضر، حدثنا ابن عون عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان، فقال: تدري فيم أنزلت؟ فقلت: لا! قال نزلت في كذا وكذا، ثم مضى.

8. ذكر هنا آثار أخرى، تدل على الإباحة، واكتفينا بما أوردناه في المسألة السابقة.

9. روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في (تفسيره)، وابن حجر في تخريج أحاديث الرافعيّ، وكلّها معلولة، ولذا قال البزار: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، لا في الحظر ولا في الإطلاق وكلّ ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه، فغير صحيح، وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي عليّ النيسابوريّ، ومثله عن النسائي، وقاله قبلهما البخاريّ، وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعيّ أنّه قال لم يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء، والقياس أنّه حلال، وروى أحمد بن أسامة التجيبي من طريق معن بن عيسى قال سألت مالكا عنه، فقال: ما أعلم فيه تحريما، وقال ابن رشد في كتاب (البيان والتحصيل في شرح العتبية) روى العتبيّ عن ابن القاسم عن مالك أنّه قال له ـ وقد سأله عن ذلك مخليا به ـ فقال: حلال ليس به بأس، وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال قال الشافعيّ كلاما كلّم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها، قال سألني محمد بن الحسن فقلت له: إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات ـ وإن لم تصح ـ فأنت أعلم، وإن تكلمت بالمناصفة كلّمتك، قال على المناصفة، قلت: فبأيّ شيء حرّمته؟ قال بقول الله عزّ وجلّ‏ ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وقال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، والحرث لا يكون إلّا في الفرج قلت: أفيكون محرّما لما سواه؟ قال نعم، قلت: فما تقول لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها، أو تحت إبطها، أو أخذت ذكره بيدها، أو في ذلك حرث..؟ قال لا! قلت: أفيحرم ذلك؟ قال لا! قلت: فلم تحتج بما لا حجّة فيه؟ قال فإن الله قال ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ الآية، قال فقلت له: إنّ هذا مما يحتجّون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه، فقلت: أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه، قال الحاكم: لعلّ الشافعيّ كان يقول بذلك في القديم، فأمّا في الجديد، فالمشهور أنّه حرّمه، فقد روى الأصمّ عن الربيع قال قال الشافعيّ نصّ على تحريمه في ستة كتب من كتبه.. وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال قال الشافعيّ قال الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، احتملت الآية معنيين: أحدهما أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأنّ‏ ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾، يأتي بمعنى أين شئتم، ثانيهما أنّ (الحرث) إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه، فاختلف أصحابنا في ذلك، فأحسب كلّا من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية، قال فطلبنا الدلالة من السنة، فوجدنا حديثين مختلفين: أحدهما ثابت؛ وهو حديث خزيمة في التحريم، قال فأخذنا به، وعليه، فيكون الشافعيّ رجع عن القديم، وحديث خزيمة رواه الشافعيّ‏ وأحمد والنسائيّ وابن ماجة وابن حبان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت: أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن إتيان النساء في أدبارهنّ فقال: حلال، فلمّا ولّى الرجل دعاه ـ أو أمر به فدعي ـ فقال: كيف قلت؟ في أيّ الخرزتين؟ أمن دبرها في قبلها؟ فنعم! أم من دبرها في دبرها فلا؟ إنّ الله لا يستحيي من الحقّ، لا تأتوا النساء في أدبارهنّ، قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير): وفي إسناده عمرو بن أحيحة، وهو مجهول الحال، واختلف في إسناده اختلافا كثيرا، ثم قال الحافظ: وقد قال الشافعيّ: غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة ـ يعني حيث رواه، وتقدم قول البزار: وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت، من طريق فيه، فغير صحيح، وقال الرازيّ في (تفسيره): ذهب أكثر العلماء إلى أنّ المراد من الآية: أنّ الرجل مخيّر بين أن يأتيها من قبلها في قبلها، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها، فقوله: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾، محمول على ذلك، ونقل نافع عن ابن عمر أنّه كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهنّ، وهذا قول مالك، واختيار السيد المرتضى من الشيعة، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق.

10. بالجملة: فهذا المقام من معارك الرجال، ومجاول الأبطال، وقد استفيد مما أسلفناه: أنّ من جوّز ذلك وقف مع لفظ الآية، فإنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة، قال بعض المفسرين: إنّ العرب تسمّي النساء حرثا قال الشاعر:

إذا أكل الجراد حروث قوم‏...فحرثي همّه أكل الجراد

يريد: امرأتي، وقال آخر:

إنما الأرحام أرض‏...ولنا محترثات‏

فقلبنا الزرع فيها...وعلى الله النبات

وحينئذ، ففي قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، إطلاق في إتيانهنّ على جميع الوجوه: فيدخل فيه محل النزاع، واعتمد أيضا من سبب النزول ما رواه البخاريّ عن ابن عمر كما تقدّم، وقال في رواية جابر المروية في (الصحيح) المتقدّمة: إنّ ورود العام على‏ سبب لا يقصره عليه، وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر، رضي الله عنهم، المروىّ في (سنن أبي داوود) بأنّ سنده ليس على شرط البخاريّ فلا يعارضه، فيقدّم الأصحّ سندا، ونظر إلى أنه لم يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب حديث، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): ذهب جماعة من أئمة الحديث ـ كالبخاريّ والذهليّ والبزّار والنسائيّ وأبي عليّ النيسابوري ـ إلى أنّه لا يثبت فيه شيء.

11. أمّا من منع ذلك: فتأوّل الآيات المتقدّمة على صمام واحد، ونظر إلى أن الأحاديث المرويّة ـ من طرق متعدّدة ـ بالزجر عن تعاطيه وإن لم تكن على شرط الشيخين في الصحة، إلّا أنّ مجموعها صالح للاحتجاج به.

12. استقصى الأحاديث الواردة في ذلك، الحافظ الذهبيّ في جزء جمعه في ذلك، وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في (تفسيره) وكذا ابن القيّم في (زاد المعاد) وقد هوّل ـ عليه الرحمة ـ في شأنه تهويلا عظيما، فقال في كتابه المذكور، في الكلام على هديه صلّى الله عليه وآله وسلم في الجماع، ما نصّه: وأمّا الدبر، فلم يبح قط على لسان نبيّ من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة من دبرها فقد غلط عليه، ثمّ ساق أخبار النهي عنه ـ وقال بعد: وقد دلّت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين:

أ. أحدهما: أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد، لا في الحشّ الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله‏ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ الآية ـ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لأنه قال ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي: من أين شئتم: من أمام أو من خلف: قال ابن عباس: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، يعني الفرج؛ وإذا كان الله حرّم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحشّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.

ب. وأيضا، فللمرأة حقّ على الرجل في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها، وأيضا فإنّ الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له، وإنما الذي هيّئ له الفرج؛ فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا، وأيضا فإنّ ذلك مضرّ بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن، وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كلّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعيّ.. وأيضا يضرّ من وجه آخر وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة، وأيضا فإنه محلّ القذر والنّجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه، وأيضا فإنه يضرّ بالمرأة جدا، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة، وأيضا فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول، وأيضا فإنه يسوّد الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء، يعرفها من له أدنى فراسة، وأيضا فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا بدّ، وأيضا فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح، وأيضا فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدّهما، كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا، وأيضا فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه فأيّ خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شرّ يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حلّت عليه لعنه الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه؟.

13. أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك، وعدم نظر الحقّ إليه بيد أنها ضعيفة، ثم قال ابن القيّم: وأيضا فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده، وأيضا فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب‏ والعمل والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره، وأيضا فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه، وأيضا فإنه يورث من المهانة والسّفال والحقارة ما لا يورثه غيره، وأيضا فإنه يكسو العبد من حلّة المقت والبغضاء وازدراء الناس له، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحسّ، فصلوات الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به.

14. لما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة، نبّه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة، فقال تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، أي: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة، كقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ واتَّقُوا اللهَ‏﴾ فلا تجترئوا على المعاصي‏ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ صائرون إليه فاستعدّوا للقائه‏ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالثواب، وإنما حذف لكونه كالمعلوم، فصار كقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/118

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ كانت الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوعهنَّ في وقت واحد في العرف، وهو وقت السؤال عن الخمر والميسر، وغير الثلاثة بلا عطف لوقوع كلٍّ في وقتٍ غير الآخر، فكلُّ واحد منقطع عمَّا قبله بالوقت مستأنف.

2. ﴿عَنِ الْمَحِيضِ﴾ عن الحيض، مصدر ميميٌّ شذوذًا، والقياس: (محاض)، وقيل: قياسًا لوروده كالمجيء والمبيت، أو زمان الحيض أو مكانه وهو الفرج قياسًا، أو نفس الدم، وقيل: إذا كان الفعل يائيَّ العين، كُسِرَ (مَفْعِل) منه مكانًا أو زمانًا، وفُتِحَ مصدرًا، وقيل بجواز الفتح والكسر في الثلاثة، أو يسألونك عن ذوات الحيض، أو عن الحائضات مجازًا، أو نفس ذلك الدم، وما يفعلون زمانه وفي الفرج، ﴿قُلْ هُوَ﴾ أي الحيض الذي ذكره بلفظ المحيض، أو بتقدير (ذوات)، أو الحيض المعلوم من لفظ المحيض بالمعاني الأخرى، ﴿أَذًى﴾ أو الدم المعبَّر عنه بالمحيض ذو أذًى، وذلك مضرٌّ لمن يقربه، أو هو نفس الضرِّ مبالغة، أو الأذى الخبث، شُبِّه بما يؤذي لجامع الكراهة.

3. روى مسلم والترمذيُّ عن أنس أنَّ اليهود وبعض المسلمين كانوا إذا حاضت المرأة عندهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت ـ أي لم يساكنوها ـ ، فسأل الصحابة ـ أي أبو الدحداح ومن معه ـ النبيءَ صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (افعلوا كلَّ شيء إلَّا النكاح)، وكذلك كانت الجاهليَّة والمجوس والمسلمون في المدينة قبل نزول الآية.

4. ﴿فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أي جماعهنَّ في زمان الحيض أو موضع الحيض وهو الفرج فقط، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّما أمرتم بعزل الفروج)، ويجوز بين السرَّة والركبة، ويكره ما يدعو للفرج، فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يحلُّ من الحائض ما فوق الإزار)، وقوله: (جامع زوجك فوق الإزار)؛ وقوله لسائله: (لتشدَّ عليها إزارها ثمَّ شأنك بأعلاها) تحذير وسدٌّ للذريعة، بدليل قوله: (إنَّما أمرتم بعزل الفروج)، وبدليل الآية، فإنَّ المراد فيها النهي عن الجماع المعتاد، فغير المعتاد ممَّا لم يرد تحريمه جائز، وهو جماعها في غير القبل وغير الدبر، فجاز ولو في فمها، ومنع بعض جماعها في فمها قياسًا على الدبر، وبعض منع الإمناء فيه، والتحقيق الجواز [إذا كان] فوق الإزار، وحرَّم بعض ما بين السرَّة والركبة لأحاديث، وقد علمت أنَّ المراد بها التحذير من مواقعة الفرج لا التحريم، وجماع الحائض في القبل يورث الجذام للولد كما روي في الخبر.

5. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ للجماع، وهو مؤكِّد لما قبله، قد يحمل الإنسان مشقَّة عن لذَّة يسيرة، فأمروا بالاعتزال أوَّلاً، ونهوا عن القرب ثانيًا، فجمع بين الأمر والنهي تأكيدًا، والنهي عن القرب إلى الفعل أقوى من النهي عن الفعل، وما يؤدِّي إلى الجماع في الفرج قربٌ، غير أنَّ الشرع أجاز الوطء في غير الفرج، وقد بان لك أنَّ (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) ليس نفس (اعْتَزِلُوا..) إلخ في المعنى، فلذلك صحَّ عطفه، ولا سيما أنَّه قيِّد بقوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ إن لم يجعل قيدًا لـ (اعْتَزِلُوا)، أي: يطهرن بالقصَّة البيضاء، أو بلوغ أقصى الوقت والانتظار، ويتطهَّرن بالماء أو التيمُّم إن لم يجدن الماء أو استعماله، والأقعد عندنا القصَّة البيضاء، وعند مالك التيبُّس، فالمبتدئة عندنا تتمُّ أقصى وقت الحيض، وهو عشرة أيَّام إن لم ترها، وتنتظر للدم يومين ولغيره ليلة ويومًا، وهكذا إلى ثلاث حيضات، وبعدهنَّ تأخذ بالتيبُّس إن رأته في العشرة، ومن يجيئها التيبُّس ثمَّ بعد ذلك القصَّة أخذت بها وألغته؛ ومن كانت تراها ثمَّ كانت لا تراها ثلاث حيض أخذت بالتيبُّس، وإن رجعت إليها القصَّة رجعت إليها.

6. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ بالماء أو التيمُّم بعد الطهر، أو خرج وقت الصلاة ولم يتطهَّرن تضييعًا، ويجوز تفسير ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بـ (يتطهَّرن بالماء)، وإنَّما ذلك في الوقت وما يلتحق به، وهو ضعيف.

7. ﴿فَاتُوهُنَّ﴾ كناية عن الجماع، قال أبو حنيفة: يحلُّ الجماع بانقطاع الدم لأكثر الحيض، وإلَّا فلا بدَّ من الاغتسال، أو مضيِّ وقت صلاة بعد الانقطاع، والأمر هنا للإباحة.

8. ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ﴾ لا تأتوهنَّ في حال الحيض وهو القبل، وفي الصوم والاعتكاف والإحرام منكم أو منهنَّ، وإن فعلت ذلك بغير إذن منه وفي غير واجب فله نقضه عنها بالجماع، والأفضل اجتناب نقضه، فإذا جاز في القبل فأولى أن يجوز في سائر الجسد غير الدبر، وذلك أنَّ الاعتزال عن الجماع كما بيَّنه الحديث وبين جواز غير الفرج، والمعروف الجائز قبْلُ هو القُبُل بالتزوُّج أو التسرِّي، فلا يجوز الدبر من المرأة ولا من الطفل، إذ لا يكون زوجًا لرجل أو طفل آخر، وجاء الحديث بتحريم الوطء في الدبر والحيض واللواط.

9. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ من الذنوب، أي: يثيبهم، أو يمدحهم، أو ينعم عليهم، أو لا يعذِّبهم، ونحو ذلك من لوازم الحبِّ، قال جابر بن عبد لله: جاء رجل إلى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتي وهي حائض! فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعتق نسمة، وقيمة النسمة يومئذ دينار، قلت: وتمسَّكوا بهذا فجعلوا على المجامع في الحيض دينارًا، ثمَّ إنَّه سمَّوه دينار الفراش، وقيل: إنَّه أمر بالنسمة فلو وجدت بأقلَّ أجزت، أو بأكثر وجب الأكثر، وقالوا في الدم الأصفر نصف دينار.

10. ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ المتنـزِّهين عن جماع الحائض والدبر، وقدَّم التوبة لأنَّها تخلية وهي أحقُّ ما تقدَّم، وينبني عليها التطهُّر وتستجلبه، وتسلِّي التائب بأنَّه كالمتطهِّر لا لوم عليه، ولئلَّا يقنط ولا يعجب من لم يذنب، وكرَّر (يُحِبُّ) تأكيدًا إذ لو لم يتكرَّر لكفى الأوَّل في أن علَّة الحبِّ التوبة والتطهُّر، وصيغة التوَّاب والمتطهِّر إرشاد لتحصيل المبالغة في التوبة والطهارة، فلا ينافي أنَّ التائب والطاهر محبوبان لله أيضًا.

11. ﴿نِسَآؤُكُمْ﴾ بالنكاح أو بالتسرِّي ﴿حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ موضع الحرث، فالوطء للتوالد بقصد إقامة الدين، وصون النفس عن الفحش بالذات، ولقضاء الوطر بالعَرَض، فيحرم نكاح الدبر إذ لا ولادة منه، فمن جامع في الدبر زوجته أو سُرِّيـَّته عمدًا كفر ولزمته خمسة دنانير، وقيل: ثلاثة للفقراء المتولِّين، فإن فعل ذلك بدبر طفل أو برضًا منه، أو بأمة ولو بالغة راضية، أو بحرَّة بالغة بقهر، أو بمجنونة ولو برضًا لزمه ذلك، ولزمه أيضًا نصف عشر دية المرأة، ولسيِّد الأمة نصف عشر قيمتها.

12. ﴿فَاتُواْ حَرْثَكُم﴾ موضعه من نسائكم وهو القبل، والكلام في الموضعين هو على تقدير مضاف، ويجوز أن يراد التجوُّز والتشبيه البليغ، أي: كمواضع الحرث، وكونهنَّ كتلك المواضع متفرِّع على كون النطف كالبذور؛ ويجوز أن يكون ذلك استعارة تصريحيَّة أو تمثيليَّة، وإذا علمت أنَّ المراد الموضع الشبيه بموضع الحرث علمت أنَّ المراد القبل لأنَّه لا ولادة من الدبر.

13. ﴿أَنَّى﴾ كلمة تتضمَّن معنى (مِن) والمكان، أي: من أين، أو بمعنى: كيف، ﴿شِئْتُمْ﴾ من قيام أو قعود أو اضطجاع، من قدَّام أو من خلف، أو جانب في كلِّ ذلك، أو تكونون فوقهنَّ أو يكنَّ فوقكم وهو مكروه، وقيل أيضًا: متى شئتم، ومعنى قوله: من أين شئتم من أيِّ موضع لا في أيِّ موضع، والآية نزلت ردًّا على اليهود إذ قالوا: من جاء امرأته من خلفها جاء الولد أحول، ولا ينافي سببُ النزول هذا تفسيرَ ﴿أَنَّى﴾ بكيف، ولا يخالف المقصود؛ لأنَّ ذلك كلَّه كيفيَّات.

14. ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ﴾ ما ينفعكم من العمل الصالح وترك المعاصي وطلب الولد، والتسمية عند أوَّل الوطء وفي حاله بالقلب والدعاء، وقصد المرأة العفيفة، فإنَّ الطفل الميِّت فَرَطٌ لأبيه، والولد الصالح يجري أجره لأبيه بقصد أبيه لوجوده، وبقصد الولد لأبيه بالعمل، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من قال: بِسمِ اللهِ عند الجِماعِ فأَتَاهُ ولد فله حسناتٌ بِعَدَدِ أنفاسِ ذلك الوَلَد، وعَدَدِ عَقِبِه إلى يومِ القيامةِ)، قال: صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لو أنَّ أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهمَّ جنِّبْنا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رزقْتَنَا، فقُضِيَ بينهما ولدٌ، لم يَضُرَّه الشيطانُ)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، وعلمٍ يُنْتَفعُ به، وولدٍ صالح يدعو له).

15. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ بترك المعاصي، ومنها الجماع في الدبر والحيض، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلَاقُوهُ﴾ بالبعث للجزاء على الطاعة والمعاصي، فترغَّبوا جدًّا في الطاعة وعن المعصية، ﴿وَبَشِّرِ الْمُومِنِينَ﴾ المتَّقين له بالجنَّة، وما لا يعلمه إلَّا الله فيها وقبلها.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/37.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ هذا هو السؤال الثالث من الأسئلة التي وردت معطوفة بالواو، وهو يتصل بما قبله وما بعده في أن ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء، وأما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فلم تكن في موضوع واحد، فيعطف بعضها على بعض فجاءت على الأصل في سرد التعدد.

2. كانت هذه الأسئلة في المدينة حيث الاختلاط بين العرب واليهود، وهؤلاء يشددون في مسائل الحيض والدم، كما هو مذكور في الفصل الخامس عشر من سفر اللاويين من الأسفار التي يسمون جملتها التوراة، ومنها أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا إلخ، وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام عندهم، وأما النصارى فقد نقل عنهم أنهم كانوا يتساهلون في أمر المحيض وكانوا مخالطين للعرب في مواطن كثيرة، وروي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونهن كفعل اليهود والمجوس، ومن شأن الناس التساهل في أمور الدين التي تتعلق بالحظوظ والشهوات فلا يقفون عند الحدود المشروعة فيها لمنفعتهم ومصلحتهم، فكان اختلاف ما عرف المسلمون عن أهل الكتاب مما يحرك النفس للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة المصلحة، فسألوا كما في حديث أنس الآتي قريبا فأنزل الله تعالى على نبيه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾

3. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي: عن حكمه، والمحيض هو الحيض المعروف: وهو الدم الذي يخرج من الرحم على وصف مخصوص في زمن معلوم لوظيفة حيوية صحية تعد الرحم للحمل بعده إذا حصل التلقيح المقصود من الزوجية لبقاء النوع؛ فالمحيض كالحيض مصدر، كالمجيء والمبيت، ويطلق على زمان الحيض ومكانه، والمرأة حائض بدون تاء؛ لأنه وصف خاص، وجمعه حيض بتشديد الياء (كراكع وركع) وورد: حائضة وجمعه حائضات، ولا حاجة إلى تقرير محل المحيض فإنما يسأل الشارع عن الأحكام.

4. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ قدم العلة على الحكم ورتبه عليها ليؤخذ بالقبول من المتساهلين الذين يرون الحجر عليهم تحكما، ويعلم أنه حكم للمصلحة لا للتعبد كما عليه اليهود، والمراد من النهي عن القرب النهي عن لازمه الذي يقصد منه وهو الوقاع، والمعنى أنه يجب على الرجال ترك غشيان نسائهم زمن المحيض؛ لأن غشيانهن سبب للأذى والضرر، وإذا سلم الرجل من هذا الأذى فلا تكاد تسلم منه المرأة؛ لأن الغشيان يزعج أعضاء النسل فيها إلى ما ليست مستعدة له ولا قادرة عليه لاشتغالها بوظيفة طبيعية أخرى وهي إفراز الدم المعروف.

5. فسر الجلال الأذى: بالقذر تبعا لغيره، على أن أخذه على ظاهره وهو الضرر مقرر في الطب فلا حاجة إلى العدول عنه، وقد جاء هذا الحكم وسطا بين إفراط الغلاة الذين يعدون المرأة الحائض وكل من يمسها أو يمس ثيابها أو فراشها من النجاسات، وتفريط المتساهلين الذين يستحلون ملابستها في الحيض على ما فيه من الأذى والدنس.

6. أفادت عبارة الآية الكريمة تأكيد الحكم إذ أمرت باعتزال النساء في زمن المحيض، وهو كناية عن ترك غشيانهن فيه، ثم بينت مدة هذا الاعتزال بصيغة النهي، والحكمة في التأكيد هي مقاومة الرغبة الطبيعية في ملابسة النساء وإيقافها دون حد الإيذاء، وكان يظن بعض الناس أن الاعتزال وترك القرب حقيقة لا كناية، وأنه يجب الابتعاد عن النساء في المحيض وعدم القرب منهن بالمرة، ولكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين لهم أن المحرم إنما هو الوقاع، عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن، وفي حديث حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: (لك ما فوق الإزار) أي: ما فوق السرة، رواه أبو داود، وقد حمل بعضهم النهي على من يخاف على نفسه الوقاع، وكأن السائل كان كذلك، وقال بعضهم: إن هذا الحديث مخصص للحديث الأول ولما في معناه، فلا يجوز الاستمتاع إلا بما فوق السرة والركبة، وهو تخصيص بالمفهوم والخلاف فيه عند الأصوليين معلوم، قرأ حمزة والكسائي وعاصم ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء وأصله يتطهرن، والباقون بالتخفيف.

7. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ الطهر في قوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ انقطاع دم الحيض وهو ما لا يكون بفعل النساء، وأما التطهر فهو من عملهن وهو يكون عقب الطهر، واختلفوا في المراد منه، فقال بعض العلماء: هو غسل أثر الدم، وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن تتوضأ، والجمهور على أن المراد به الاغتسال بالماء إن وجد، ولا مانع منه وإلا فالتيمم، وقالت الحنفية: إن طهرت لأقل من عشر فلا تحل إلا إذا اغتسلت وإن لعشر حلت ولو لم تغتسل وهو تفصيل غريب، والأمر بإتيانهن لرفع الحظر في النهي عن قربهن وبيان شرطه وقيده.

8. الظاهر أن المراد بلفظ الأمر في قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ الأمر التكويني؛ أي: فأتوهن من المأتى الذي برأ الله تعالى الفطرة على الميل إليه ومضت سنته بحفظ النوع به وهو موضع النسل، ويحتمل أن يكون المراد بالأمر ما قضت به شريعة الله تعالى من طلب التزوج وتحريم الرهبانية، فليس للمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد امتن علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها وأرشدنا إلى أن ندعوه بقوله: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ ولا يتقرب إليه تعالى بترك ما شرعه وامتن به على عباده وجعله من نعمه عليهم، فإتيان النساء بالزواج الشرعي من الجهة التي يبتغى بها النسل من أعظم العبادات، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالفة لسنة الله تعالى في خليقته، وسنته في شريعته، ولما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر)؟ الحديث، وكأن السائلين كانوا توهموا أن الإسلام يكون كالأديان الأخرى يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة الفطرة؛ كلا، إنه دين الفطرة يحمل الناس على إقامتها مع القصد وعدم البغي فيها.

9. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الذين إذا خالفوا سنة الفطرة بغلبة سلطان الشهوة فأتوا نساءهم في زمن المحيض أو في غير المأتى الذي أمر الله به، يرجعون إليه تائبين ولا يصرون على فعلهم السيئ ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ من الأحداث والأقذار، ومن إتيان المنكر، بل هؤلاء أحب إليه من الذين يقعون في الدنس ثم يتوبون منه.

10. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ بين في الآية السابقة حكم المحيض، وأحل غشيان النساء بعده، وبين في هذه الآية حكمة هذا الغشيان التي شرع الزواج لأجلها، وكان من مقتضى الفطرة وهي الاستنتاج والاستيلاد؛ لأن الحرث هو الأرض التي تستنبت، والاستيلاد كالاستنبات، وهذا التعبير على لطفه ونزاهته وبلاغته وحسن استعارته تصريح بما فهم من قوله عز وجل: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أو بيان له، فهو يقول: إنه لم يأمر بإتيان النساء الأمر التكويني بما أودع في فطرة كل من الزوجين من الميل إلى الآخر، والأمر التشريعي بما جعل الزواج من أمر وأسباب المثوبة والقربة إلا لأجل حفظ النوع البشري بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالحرث والزرع، فلا تجعلوا استلذاذ المباشرة مقصودا لذاته فتأتوا النساء في المحيض حيث لا استعداد لقبول زراعة الولد وعلى ما في ذلك من الأذى، وهذا يتضمن النهي عن إتيانهن في غير المأتى الذي يتحقق به معنى الحرث.

11. ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ معناه كيف شئتم و﴿أَنَّى﴾ تستعمل غالبا بمعنى ﴿كَيْفَ﴾) وتستعمل بمعنى ﴿أَيْنَ﴾) قليلا، ولا يظهر هنا؛ لأن الحرث له مكان واحد لا يتعداه، والأمر مقيد به؛ ولذلك أعاد ذكر الحرث مظهرا ولم يقل (فأتوهن أنى شئتم) فكأنه يقول: لا حرج عليكم في إتيان النساء بأي كيفية شئتم ما دمتم تقصدون بها الحرث في موضعه الطبيعي؛ لأن الشارع لا يقصد إلى إعناتكم ومنعكم من لذاتكم، ولكن يريد ليوقفكم عند حدود المصلحة والمنفعة؛ كيلا تضعوا الأشياء في غير مواضعها فتفوت المنفعة وتحل محلها المفسدة، وهذا التفسير الذي ظهر به أن الآية متممة لمعنى ما قبلها يغنينا في فهمها عما روي في أسباب النزول.

12. ذهب بعض المفسرين والمحدثين إلى أن ﴿أَنَّى﴾ في الآية بمعنى المكان لا بمعنى الكيفية والصفة، وقالوا: إنها نزلت في إباحة الإتيان في غير المزدرع والحرث فمعناها في أي النافذتين شئتم، قال محمد عبده: إن جنون المسلمين بالرواية، هو الذي حمل بعضهم على تفسير الآية بهذا المعنى الذي تتبرأ منه عبارتها العالية، ونزاهتها السامية، ولم يلتفتوا إلى ذوق التعبير ومراعاة الأدب في بيان هذه الأحكام كما رأوا في الآية الكريمة، فقد فاتهم فهم حكمها، كما فاتهم حكمتها ونزاهتها وأدبها، وأقول: إن ما اختاره محمد عبده في تفسير ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ هو المأثور عن أئمة السلف والخلف، وهو ظاهر من لفظ الآية لا يشتبه فيه من له ذوق العربية، والروايات متعارضة متناقضة وأصحها حديث جابر عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم، وهو أن سبب نزولها حظر اليهود إتيان الحرث بكيفية غير المعهودة عندهم، وزعمهم أن الولد يجيء أحول إذا كان العلوق بالوقاع من الطرف الآخر، وتكذبهم التجارب، وأما ما روي في إباحة الخروج عن سنة الفطرة فلا يصح منه شيء، ولئن صح سندا فهو لن يصح متنا، ولا نخرج عن هدي القرآن ومحجته البيضاء لرواية أفراد قيل إنه لا يعرف عنهم ما يجرح روايتهم.

13. يؤيد التفسير المختار قوله تعالى بعد ما تقدم: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ إلخ، فهذه أوامر تدل على أن هنا شيئا يرغب فيه وشيئا يرغب عنه ويحذر منه، أما ما يرغب فيه فهو ما يقدم للنفس وهو ما ينفعها في المستقبل، ولا أنفع للإنسان في مستقبله من الولد الصالح، فهو ينفعه في دنياه كما هو ظاهر، وفي دينه من حيث إن الوالد سبب وجوده وصلاحه، وقد ورد في الحديث: إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه دعاؤه بعد موته، ولا يكون الولد صالحا إلا إذا أحسن والداه تربيته، فالأمر بالتقديم للنفس يتضمن الأمر باختيار المرأة الودود الولود التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، كما يختار الزراعة في الأرض الصالحة التي يرجى نماء النبات فيها وإيتاؤه الغلة الجيدة، ويتضمن الأمر بحسن تربية الولد وتهذيبه، وأما ما يحذر منه ويتقى الله فيه فهو إخراج النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في المحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث، وكذلك اختيار المرأة الفاسدة التربية، وإهمال تربية الولد؛ فإن الأمر بالتقوى ورد بعد النهي عن إتيان النساء في المحيض والأمر بإتيانهن من حيث أمر الله تعالى وهو موضع الحرث والأمر بالتقديم لأنفسنا، فوجب تفسير التقوى بتجنب مخالفة هذا الهدي الإلهي.

14. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة كما يلاقونها في الدنيا بفقد منافع الطاعة والامتثال، وتجرع مرارة عاقبة المخالفة والعصيان، ثم قرن إنذار العاصين بتبشير المطيعين فقال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين يقفون عند الحدود ويتبعون هدى الله تعالى في أمر النساء والأولاد، وقد حذف ما به البشارة؛ ليفيد أنه عام يشمل منافع الدنيا ونعيم الآخرة، ولا يعزب عن فكر العاقل أن من يختار لنفسه المرأة الصالحة ولا يخرج في شأن الزوجية عن سنة الفطرة والشريعة في ابتغاء الولد، ثم إنه يحسن تربية ما يرزقه الله من ولد فإنه يكون في الدنيا قرير العين بحسن حاله وحال أهله وسعادة بيته، وأما الذين تطغى بهم شهواتهم فتخرجهم عن الحدود والسنن فإنهم لا يسلمون من المنغصات والشقاء في حياتهم الدنيا، وهم في الآخرة أشقى وأضل سبيلا، وإنما سعادة الدارين في تكميل النفس بالاعتقاد الصحيح، والأخلاق المعتدلة، وتلك هي الفطرة السليمة، والتعبير بالمؤمنين يشعر بأن العمل والامتثال والإذعان مما يتحقق به إيمان المؤمن وأن فائدة الإيمان بثمراته هذه، وإن شئت قلت بتمام أركانه وهي الاعتقاد والقول والفعل، كما ورد في الأحاديث الصحيحة المبينة للآيات الكريمة الدامغة للذين يفصلون بين الاعتقاد والأعمال اللازمة له.

15. نعيد التنبيه للاقتداء بنزاهة القرآن في التعبير عن الأمور التي يستحيا من التصريح بها بالكنايات البعيدة التي يفهم منها المراد ولا تستحي من تلاوتها العذراء في خدرها، فإن الإتيان بمعنى المجيء فهو كناية لطيفة كقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ وتشبيه النساء بالحرث لا يخفى حسنه، فأين هذه النزاهة مما تراه لبعضهم في تفسيرها وتفسير أمثالها من الآيات المعجزة بنزاهتها كإعجازها ببلاغتها، ومما تراه في بعض كتب الدين الأخرى من العبارات المستهجنة التي قد يستغنى عنها في بيان المراد منها!؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/351

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهي مختلفة الموضوعات، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد.

2. كل هذه الأسئلة جاءت والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة، وفيه: أن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مسّ متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا ـ إلى نحو ذلك من الأحكام وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام، وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيّض، ولا يؤاكلونهنّ كما كانت تفعل اليهود والمجوس، وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم، وفيها منفعة لهم، وقلما يقفون عند حدود الشرائع، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة.

3. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي ويسألونك عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض، ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ أي أجبهم وقل لهم: هو ضرر وأذى، فاتركوا غشيانهنّ في هذه المدة، والسرّ في هذا التأكيد كبح جماح الرغبة في ملابسة النساء ولو وصلت إلى حد الإيذاء، وقد كان بعض الناس يظن أن الاعتزال ترك القرب الحقيقي، لكن السنة بينت أن المحرّم إنما هو الوقاع فحسب.

4. جاءت الآية ببيان سبب المنع أوّلا، ثم رتبت عليه الحكم وهو المنع، ليؤخذ بالتسليم والقبول، وليعلم أن الأحكام لم تشرع إلا للمصلحة لا للتعبد كما يرى اليهود.

5. الخلاصة ـ إنه يجب ترك غشيان النساء مدة الحيض، لأنه سبب للأذى والضرر، وقد أثبت ذلك الطب الحديث، فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية:

أ. آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم في المبيضين أو في الحوض تضرّ صحتها ضررا بليغا، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين وأحدث العقم.

ب. أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل، قد تحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وربما امتدّ ذلك إلى الخصيتين فآذاهما، ونشأ من ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل (بالزهرى) إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.

ج. قربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدى إلى التهاب أعضاء التناسل فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضررا، ومن ثمّ أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير.

6. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي فإذا اغتسلن من دم الحيض فأتوهن من المأتي الذي جبلت النفوس على الميل إليه، ومضت سنة الله بحفظ النوع به، وهو موضع النسل، وفي هذا إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج وحرّمت الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرّب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج‏ بقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق للسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل من أعظم القرب، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالف لناموس الفطرة وسنته تعالى في شريعته، وحين‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر)؟ وقصارى ذلك ـ إن الإسلام لم يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة سنة الفطرة بترك ما أحلّ الله من لذات الدنيا، توهما بأن ذلك مما يرضى الخالق جلّ وعلا.

7. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ أي إن الله يحب الذين يرجعون إليه تائبين غير مصرّين على سيئ أفعالهم، بتغليب سلطان الشهوة على سنة الفطرة حين أتوا نساءهم في المحيض أو في غير المأتي الذي أمر الله به.

8. ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ أي وإنه تعالى يحب كل من نزّه نفسه عن الأقذار، وابتعد عن ارتكاب المنكرات، وهؤلاء أحبّ إلى الله ممن فرطت منهم الزلة ووقعوا في الدنس ثم تابوا.

9. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأي كيفية شئتم ما دمتم تقصدون الاستيلاد في الموضع الطبيعي، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم، بل يريد لكم الخير والمنفعة، ولا يريد المفسدة بوضع الأشياء في غير مواضعها.

10. جاءت هذه الآية عقب سابقتها، كالبيان لها شارحة وجه الحكمة التي لأجلها شرع غشيان النساء، وهو حفظ بقاء النوع البشرى بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالزرع والحرث، لا لذة المباشرة لذاتها، ومن ثمّ لا يحل لكم أن تأتوا النساء في زمن الحيض‏ حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في غير المأتى الذي يتحقق به الاستيلاد ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ما يقدّم للنفس هو ما ينفعها في مستأنف حياتها، ولا شيء أنفع للإنسان في مستقبله من ولد بارّ ينفعه في دينه ودنياه كما جاء في الحديث‏ (إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه بعد موته)، ولا يكون الولد كذلك إلا إذا أحسن والداه تربيته وهذباه وجعلاه ذا خلق عظيم، وهذا يدعو إلى اختيار المرأة الودود الولود، التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، وتكون قدوة حسنة له، إذ ينشأ وهو يرى فضائلها وجلائل أعمالها فتنطبع صورتها في نفسه، فيشبّ وهو كامل الأخلاق حميد الصفات، كما يختار الزارع الأرض الصالحة التي تؤتي جيد الغلة.

11. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي واحذروه بأن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل في الحيض، أو بوضعها في غير موضع الحرث، أو بأن تختاروا المرأة السيئة الأخلاق التي تفسد تربية الأولاد بإهمالها، وسوء القدوة في معاشرتها.

12. ثم أوعد من يخالفون أمره فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ أي واعلموا أنكم ستلاقون ربكم في الآخرة، فيجازيكم على عصيانه ومخالفة أمره، وتتجرّعون من جراء ذلك العذاب الأليم.

13. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وبشر المؤمنين الذين يقفون عند حدود دينهم، ويتبعون هدى ربهم في أمر النساء والأولاد، فيسعدون بنعيم الدنيا والآخرة؛ فمن يختر لنفسه الزوجة الصالحة، ويحسن تربية ما رزقه الله من الأولاد، يكن قرير العين سعيدا بما يرى من حسن حاله وحال أهله وولده، أما من تطغى عليه شهواته، فيخرج عن السنن التي شرعها الله لعباده، فإنه لا يسلم من المنغصات في هذه الحياة، وهو في الآخرة أتعس حالا وأضلّ سبيلا، فالسعادة كل السعادة في تكميل النفس بصادق الإيمان وفاضل الأخلاق، واطمئنان‏ القلب عند الفرح والحزن، ولدى السرور والهم، وتسليم الأمر إلى خالق الخلق ومدبر أمرهم بعد أخذ الأهبة، وكمال العدّة، وهذا هو التوكل الذي أمرنا به.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/156

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾.. هذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله؛ وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد.. في المباشرة.. إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية، وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة، هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله، والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية ـ مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء ـ ولكنها لا تحقق الهدف الاسمى، فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة، لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة، فتنصرف بطبعها ـ وفق هذا القانون ـ عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة، والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية، ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال.

2. ليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات، إنما هي مقيدة بأمر الله؛ فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾.. في منبت الإخصاب دون سواه، فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة، وابتغاء ما كتب الله، فالله يكتب الحلال ويفرضه؛ والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشئ هو نفسه ما يبتغيه، والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

3. في هذا الظل يصور لونا من ألوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾.. وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها.

4. نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه، وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع، كقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾.. وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.. فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب، أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث، لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء، وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون، ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾.. وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم، واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾..

5. ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته؛ لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد، يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا، وبمشاعر دينية أخيرا؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي‏ يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة، وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فردا وجماعة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/234

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ممّا يسأل السائلون عنه، فيما بين الرجال والنساء هو: هل يحل مباشرة النساء وهن في المحيض؟ وقد جاء حكم الله فيه: (هو أذى، فاعتزلوا النّساء في المحيض) أي هو أذى تستقذره النفس وتتأذى منه.. وقد تغلب الشهوة على بعض الناس فيحتمل هذا الأذى في سبيل إرضاء شهوته، ولكنه ـ مع ذلك وبعد قضاء شهوته ـ يظل وفى نفسه شيء من آثار هذا الأذى، قد تنضح آثاره على ما بين الزوج وزوجه من السّكن الروحي، الذي بغيره لا تطيب الحياة الزوجية ولا تدوم‏.

2. يلاحظ أننا لم ننظر في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَذًى﴾ إلا من جانب واحد، هو جانب الأذى النفسي، مع أنّ التعبير القرآني جعله أذى مطلقا، عاما شاملا، في جانب الرجل والمرأة معا، وفى النفس والجسد جميعا ـ فإنه حسبنا هنا ما وقع عليه نظرنا، أما ما يقول به العلم، وما يكشفه الطب من هذا الأذى، فلا نريد أن نعرض له، إذ كان ما يقول به العلم ويكشفه الطب في هذا الأمر مما لا يقع على حقيقته إلا أهل الذكر من العلماء!

3. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ المراد بالقرب هنا قرب المباشرة لا قرب الحياة من مؤاكلة، ومجالسة، وحديث، وغيرها.. إذ ليس الحيض مما يمسّ طهارة المرأة في ذاتها كإنسان، كما ترى ذلك بعض الديانات التي ترى أن المرأة أيام حيضها نجسة في ذاتها، وفى كل ما يمسّها! وذلك هو معتقد اليهود! ومن جهة أخرى فإنا نرى قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ وإن كان يراد به الاعتزال عن المباشرة إلا أنه يشير من بعيد إلى شيء من الإمساك عن المخالطة الدائمة، التي تكون بين الزوجين في غير أوقات الحيض.. إذ أن المرأة في أيام حيضها تكون في أحوال غير طبيعية، سواء في حالتها الجسدية، أو النفسية، والإقلال من لقائها في تلك الحال آمن وأسلم من أن يجد منها زوجها ما لا يرضاه!

4. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ التطهر طهر وزيادة.. فالطهر هو انقطاع دم الحيض، والتطهّر الاغتسال، أي فإذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله، أي فأتوهن من حيث ينبغي أن تؤتى المرأة.. وكان بعضهم يأتي المرأة من دبرها، وهو انحراف خارج على طبيعة الحياة بين الأحياء، من حيث كان اتصال الذكر بالأنثى في عالم الحيوان لا يعدو الموضع الذي يجيء منه النسل! فكيف لا يعفّ الإنسان عما عفّ عنه الحيوان؟

5. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ دعوة إلى التزام الطريق القويم لمن كان قد انحرف عنه، وأتى المرأة من غير المأتى الطبيعي لها، فباب التوبة مفتوح لمن أناب إلى الله والتزم حدوده: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ فالتوبة تغسل الحوبة.. وليس مصيبة الإنسان في أن يخطئ ويزل، فالإنسان بحكم أنه بشر عرضة للخطإ والزلل، ولكن المصيبة ألّا يتأثّم من الإثم، ولا يتحرج من الانحراف، فيقيم على إثمه، ويصر على انحرافه.. وليس يستنقذ الإنسان من أن يحيط به ذنبه إلّا أن يرجع إلى الله من قريب، وأن يلقاه نادما تائبا.. هنالك يجد من ربه رحمة ومغفرة، ورضى ورضوانا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ أي المتطهرين من كل أذى يمسّ أجسادهم وأرواحهم..!

6. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أي محترث ومزدرع، تبتغون منهن ما يبتغى الحارث والزارع مما يحرثه ويزرعه، وهو الثمرة التي يجتنيها من زرعه.. وفى هذا دعوة إلى أمور، منها: رعاية المرأة، وتدبير أمرها، وإصلاح شأنها، وتوفير وسائل الحياة الطبيعية لها، شأن الزارع الذي يقوم على رعاية زرعه، وحمايته من كل ما يعرض له من سوء.. ومنها غرس ما يرجى ثمره، وما ينتفع به من ثمر، وذلك لا يكون إلا بمباشرة المرأة من حيث يؤتى بالولد الذي هو الثمرة المرجوة من هذا الغرس.

7. ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ إطلاق لأى قيد في اتصال الرجل بزوجه، بعد أن يلتزم الحدود التي بينها الله، وهو ألا يباشرها إلا بعد أن تطهر من الحيض، ثم أن تكون المباشرة فيما ينفع ويثمر..

8. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ دعوة إلى ألا يكون همّ الرجل كلّه في مباشر المرأة هو اللذة المجرّدة من كل قصد، إلا إشباع شهوته وإرواء ظمئه.. فذلك عمل مستهلك لا يبقى للإنسان منه شيء بعد ساعته.. والأولى بالإنسان هنا أن يطلب في مباشرته للمرأة النّسل، وأن يقوم على رعاية هذا النسل، وإعداده إعدادا صالحا للحياة، ليشارك في بنائها وعمرانها، وبهذا يكون قد استجاب لأمر الله تعالى في قوله: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فقدم لنفسه عملا صالحا يلقاه يوم القيامة: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾

9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ تعقيب على تلك المحظورات التي بينها الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات، وتنبيه إلى أنها من حرمات الله، وأن اتقاءها ومجانبتها هو الذي يرضى الله، ويحقق للمؤمن إيمانه، فيلقى الله آمنا يوم القيامة ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بما أعدّ الله سبحانه وتعالى لهم يوم القيامة من مغفرة ورضوان.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/253

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ عطف على جملة: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221]، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كنّ حيّضا وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها.

2. روي أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري، وروي أن السائل أسيد بن حضير، وروي أنه عباد بن بشر، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام.

3. الباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين (إذا كانت امرأة لها سيل دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجسا وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام)، وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون من ذلك ولا أحسب ذلك صحيحا فليس في الإنجيل ما يدل عليه، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضر، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضر، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه.

4. المحيض: هو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة مفعل منقول من أسماء المصادر شاذا عن قياسها لأن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج (يقال حاضت حيضا ومحاضا ومحيضا والمصدر في هذا الباب بابه المفعل (بفتح العين) لكن المفعل (بكسر العين) جيد) ووجه جودته مشابهته مضارعه لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت، وعندي أنه لمّا صار المحيض اسما للدم السائل من المرأة عدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجيء به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسما فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعارا بالنقل فرقا بين المنقول منه والمنقول إليه، ويقال حيض وهو أصل المصدر: يقال حاضت المرأة إذا سال منها؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضا لأنه يسيل، أبدلوا ياءه واوا وليس منقولا من اسم المكان؛ إذ لا مناسبة للنقل منه، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعا بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضا عما في تصييره اسما من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق.

5. المراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالة الاقتضاء، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شيء عليه.

6. الأذى: الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران: 111]، ابتدأ جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة الحائض نهيا معلّلا فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأ به الأمة للتشريع في أمثاله، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة، وقد أثبت أنه أذى منكّر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد:

أ. فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضا فإن هذا الدم سائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بييضات دقيقة يكون منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البييضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شيء من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضا معضلة فتحدث بثورا وقروحا لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فسادا مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن.

ب. وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجا في وقت اشتغاله بعمل فدخل عليه بذلك مرض وضعف.

ج. وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البييضات في التخلق قبل إبان صلاحيتها التخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة(2) قال أبو كبير الهذلي:

ومبرّإ من كلّ غبّر حيضة...وفساد مرضعة وداء معضل‏

غبر الحيضة جمع غبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء، يريد لم تحمل به أمه في آخر مدة الحيض، والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض قد يجيء مجذوما أو يصاب بالجذام من بعد.

7. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ تفريع الحكم على العلة، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن، والمجرور بفي: وقت محذوف والتقدير: في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومقدم الحاج.

8. النساء اسم جمع للمرأة لا واحد له من لفظه، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ ﴿فَاعْتَزِلُوا﴾ المخاطب به الرجال، وإنما يعتزل من كان يخالط، وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيرا نحو: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 30]، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة.

9. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ جاء النهي عن قربانهن تأكيدا للأمر باعتزالهن وتبيينا للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماما بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصودا بالذات معطوفا على التشريعات، ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمع متعديا إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قربا ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بعد إذا تجافى مكانه وبعد كمعنى البعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يبعد.

10. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ غاية لاعتزلوا و﴿لا تَقْرَبُوهُنَ‏﴾، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء، وحقيقة الطهر نقاء الذات، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدّر حصوله للمسلم بسبب، ويقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: 108] أو مجازا نحو ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: 82]، ويقال اطّهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تطهّر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 6] وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالا فصيحا.

11. قرأ الجمهور ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بصيغة الفعل المجرّد، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف‏ ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين.

12. لما ذكر أن المحيض أذى علم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الأقراء أطهارا، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: 108] فإن تفسيره الاستنجاء في الخلاء بالماء:

أ. فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف، وكان قوله تعالى‏ ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ بعد ذلك شرطا ثانيا دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء، لأن صيغة تطهر تدل على طهارة معملة، وإن كان الثاني كان قوله فإذا تطهرن تصريحا بمفهوم الغاية ليبني عليه قوله‏ ﴿فَأتُوهُنَّ﴾،

ب. وعلى الاحتمال الثاني جاء قراءة ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مرادا منه مع معناه لازمه أيضا وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله‏ ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ وبذلك كان مآل القراءتين واحدا، وقد رجح المبرد قراءة حتى يطهرن بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعا الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولى لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئا جديدا، ورجح الطبري قراءة التشديد قائلا: (لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر) وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾

13. دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ على المعنى الشرعي، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظّروه بقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6] وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة (حتى يطّهّرن) حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك.

14. اختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا:

أ. فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية، لأن‏ الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث، والحائض اتصفت بالأمرين، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية.

ب. وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطا، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجزاء ما دونه، وذهب مجاهد وطاووس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ.

ج. وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفصيل فقالوا: إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة، وإن انقطع لأقلّ من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطا ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عادتها، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلا لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي: (﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ قرئ بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة)، وهذا مدرك ضعيف، إذ لم يعهد عد القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخر، فما هذا إلا صنع باليد، فإن قلت لم بنوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود (يطهرن) و(يطّهّرن) في موضعين من هذه الآية، قلت كأنّ سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبار التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له.

15. ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل‏ ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: 2] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قفّي بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.

16. ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ حيث اسم مكان مبهم مبني على الضم ملازم الإضافة إلى جملة تحدده لزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي (من) بمعنى في ونظره بقوله تعالى: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف: 4] وقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: 9]، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسّدي وقتادة أن المعنى: من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر، فحيث مجاز في الحال أو السبب و(من) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.

17. الذي أراه أن قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما (حيث) فظرف مكان وقد تستعمل مجازا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب (حتى) في قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و(من) للابتداء المجازي، و(حيث) مستعملة في التعليل مجازا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر، أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح، فحرف (من) للتعليل والسببية، و(حيث) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد، وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأنا من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني.

18. يجوز أن يكون قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ على حقيقة (من) في الابتداء وحقيقة (حيث) للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض، وقد قيل: إن جملة ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ معترضة بين جملة ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ وجملة ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 223]

19. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ هذه الجملة تذييل ثان لجملة: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى (لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا إنها لبلادهم)، وتعتبر جملة ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ﴾ مقدّمة لجملة ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلة قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.

20. الحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار، وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول، وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ [الأنعام: 138] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها، وقال: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14] أي الجنات والحوائط والحقول، وقال: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ [آل عمران: 117] أي فأهلكت زرعهم، وقال: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ﴾ [القلم: 22] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر.

21. الحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولا لفعل‏ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل)

22. الفاء في‏ ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.

23. كلمة ﴿أَنَّى﴾ اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها، وقد كثر استعماله مجازا في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 6] وقال في (لسان العرب): إن ﴿أَنَّى﴾ تكون بمعنى ﴿مَتَى﴾، وقد أضيف ﴿أَنَّى﴾ في هذه الآية إلى جملة ﴿شِئْتُمْ﴾ والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل ﴿أَنَّى﴾ على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان، إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم، فمنهم من جعلوه ظرفا لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في (صحيح البخاري) تفسيرا من ابن عمر، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور ب (من) ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يؤول إلى تفسيره بمعنى كيف، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه، فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض، فتحمل (أنى) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ بعد قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 2]

24. لا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن‏ بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطرّنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام، على ثقل في جريانها، على الألسنة والأقلام.

25. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في تفسير الآية الكريمة، وعلق عليها بقوله: قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال‏ ﴿أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه، ثم أتبع بقوله: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ [البقرة: 222] فربما أشعر بأن فعلا في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ فأشعر بأن فعلا في هذا الشأن قد يلتبس بغير التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل‏ ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، واحتمالها لمعنى: (ويبغض غير ذلك)، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ فجعلن حرثا على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد يقال: إنه وكل للمعروف، وقد يقال: إنه جعل شائعا في المرأة، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها، ثم قال: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل: إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأجمل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن.

26. اختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوع علم المتأمل، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار في كتب أحكام القرآن وكتب السنة، وفي دواوين الفقه، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول، وتركنا ما عداه إلى أفهام العقول.

27. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطف على جملة ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ أو على جملة ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبرا فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماما بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة، وحذف مفعول‏ ﴿وَقَدِّمُوا﴾ اختصارا لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثّقل الذي يقدمه المسافر.

28. ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿قَدَّمُوا﴾، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فلذلك كانت هذه تذييلا.

29. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ [النور: 39] وهو عطف على قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، والملاقاة: مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة، وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلا لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماما بهذا المعلوم وتنافسا فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة: ﴿اعْلَمُوا﴾ اهتماما بالخبر واستنصاتا له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ في سورة الأنفال [24]

30. رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولا ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعارا بأنها هي الاستعداد ثم ذكّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل.

31. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، وذكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان، وجملة: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، معطوفة على جملة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾، على الأظهر من جعل جملة: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، استئنافا غير معمولة لقل هو أذى، وإذا جعلت جملة ﴿نِسَاؤُكُمْ﴾ من معمول القول كانت جملة ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: 222] معطوفة على جملة: ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/346

(2) هذا لم يذكره القرآن الكريم، وهو يخالف ما كشفه العلم بهذا الشأن

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من شئون الأسرة كيف يختار الزوج، وكيف يصطفى عشير الحياة، وأن الأساس هو الدين والفضيلة في الاختيار، لا جاه الدنيا ولا أحسابها ولا أنسابها؛ لأن العشرة الحسنة تقوم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، لا على الاستعلاء بالنسب، والتفاخر بالحسب.

2. فى هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى العشرة الحسنة؛ وقد تصدى فيها القرآن الكريم لبيان النزاهة البدنية في العلاقة الطبيعية التي يتقاضاها الطبع السليم بين الرجل والمرأة، والتي بها يعمر الكون، ويبقى الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الأرض خليفة.

3. ذكر سبحانه وتعالى وصايا كريمة في أمرين، وتشير هذه الوصايا إلى بعض مقاصد الزواج العليا؛ ثم ذكر حكما شرعيا قاطعا في أمر ينفذ فيه بحكم القضاء، لا بحكم التدين المجرد.

4. الأمران اللذان جاءت فيهما الوصايا الكريمة المرشدة الهادية، العفيفة النزهة، يتعلقان بمباشرة الحائض، والنهى عنه، وبالمقصد من الزواج وملاحظته عند المسيس وقضاء الوطر الجنسي؛ وهو النسل القوى ذو الخلق الكريم؛ والأمر الثالث الذي ينفذ بحكم القضاء هو الامتناع عن العلاقة الفطرية الطبيعية مضارة وإيذاء لامرأته بأيمان يحلفها للضرر والإيذاء؛ فقد حكم فيه الشارع حكما مقررا، وهو الفرقة بعد الامتناع أمدا معلوما؛ ونؤجل الكلام في هذا الأمر إلى موضعه من تفسير الآيات الكريمات التي تصدت لحكمه، ونكتفى هنا ببيان الوصايا في الأمرين الأولين.

5. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ السؤال كان من المؤمنين، ولم يكن من غيرهم؛ لأنهم أرادوا أن يعلموا حكم دينهم في أخص شئونهم؛ ولأنهم أدركوا بقوة وجدانهم الديني أن الإسلام مرشد إلى الأمر الصالح في كل شيء وفى كل الأمور، ما دق منها وما جل، بل ما خص منها وما عم؛ وليس أي شأن من الشئون الخاصة إلا له صلة بالشئون العامة؛ لأن الإنسان ليس شيئا قائما بذاته منفردا عن غيره مفصولا عن سواه، بل هو جزء من كل، موصول بما عداه، فالأجزاء تتلاقى فتكون ذلك المجموع وتربطه بروابط من الفضيلة، فما من خصوص للآحاد إلا له صلة وثيقة بعموم الجماعة؛ ومن فصل الأمور الشخصية عن الأمور العامة لم يفهم علاقة الإنسان بالإنسان ولم يفهم قانون الجماعات وسر الاجتماع، من أجل هذا المعنى سأل المؤمنون عن هذا الأمر الخاص الذي يتصل بأدق العلاقة بين الرجل والمرأة.

6. المحيض مشتق من الحيض، وأصله بمعنى السيل؛ يقال: حاض السيل بمعنى فاض، ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في حال فراغه من الحمل؛ والمحيض قال الزمخشري فيه: إنه مصدر ميمي ك: مجيء، ومبيت؛ وعلى ذلك يكون السؤال عن المحيض أي عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة عند وجوده، وقد يراد منه اسم الزمان، ويكون السؤال عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في وقته؛ وقد يراد منه اسم المكان من حيث العلاقة في مكان الحيض وهو جهاز المرأة التناسلي.

7. الظاهر أن السؤال عن حكم العلاقة عند وجود الدم وكل التخريجات السابقة تصلح لذلك وكلها تحتاج إلى تأويل محذوف مقدر وهو السؤال عن الحكم، وكل التقديرات تنته إلى معنى واحد وما جرى بين المفسرين من خلاف في هذا هو خلاف لفظي لا جدوى ـ من حيث المعنى ـ فيه، ولما ذا كان السؤال؟ ألم يكن من مقتضى الفطرة أن يعلموا الجواب؟ نعم لقد كان من مقتضى الفطرة أن يعلموا أن الحيض أذى في كل أحواله، وأنه يعتزل موضعه إبان ظهوره؛ ولكن أهل الديانات السماوية التي كانت تصاقب‏، وكان من العرب من تأثروا بطريق اليهود، ومنهم من سلكوا مسلك النصارى، فسألوا عن حكم الإسلام إلى أي الطريقين يتجه، فكان الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكان بين ذلك قواما؛ فأباح المعاملة ومنع المباشرة.

8. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ أجاب الله سبحانه وتعالى بما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجيب به‏ ﴿هُوَأَذىً‏﴾ أي هذا الدم الذي يلفظه الرحم أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسميا؛ فرائحته، يتأذى منها من يشمها، وهو قذر في ذاته، وهو فوق ذلك أذى نفسي للرجل والمرأة معا؛ فالمرأة لا تكون في حال تستسيغ معها المباشرة؛ بل إنها تكون متقززة منها في هذه الحال نافرة إلا في الأحوال الشاذة والصور النادرة، وجهازها التناسلي يكون في حال اضطراب، فتتألم من كل مباشرة، وأعصابها وأحوالها وعامة شئونها تكون في حال تتأذى معها من كل اتصال جنسي؛ والرجل يتأذى نفسيا؛ إذ يكون خليطه في حال نفرة بل بغض لما يقدم عليه؛ ثم إن المباشرة في هذه الحال لا يتحقق معها القصد الاسمى وهو النسل؛ فإن المرأة في هذه الحال لا تكون صالحة للإنسال.

9. إذا كان موضع الحيض أو الحيض نفسه شيئا يتقزز منه، فإن الوصية الواجبة في حاله هي الاعتزال؛ ولذا قال سبحانه مرتبا الوصية على تلك الحال التي يتأذى منها: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أي اعتزلوهن في وقت الحيض، والمراد بالاعتزال الامتناع عن المباشرة؛ وقد روى عن ابن عباس أن المراد بالاعتزال هو اعتزال الفراش، وهو في ذلك أقرب إلى مسالك اليهود؛ ولكن تلك الرواية شاذة لا يلتفت إليها، ولا تنقض إجماع العلماء على أن المراد بالاعتزال هو الامتناع عن المباشرة، لا ترك الفراش وتجنب النوم معها على فراش واحد؛ فقد أجمع العلماء وتضافرت الروايات على أن المنهى عنه فقط هو المباشرة نفسها، ولعل تلك الرواية المروية عن ابن عباس تتجه إلى أن اعتزال الفراش بأن ينام في مكان وهى في مكان إنما هو للاحتياط حتى لا يكون اتحاد الفراش مؤديا إلى ذلك الأمر الممنوع، ولئن أخذنا بهذه الرواية لكان تحريم المباشرة لذاته، وتحريم الاجتماع في المبيت على فراش واحد لغيره؛ لأنه يؤدى إلى الممنوع لذاته.

10. يلاحظ في نسق الكلمات السامية ﴿قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ أنه قد قدم السبب على المسبب، والعلة على المعلول؛ فإن سبب الوصية بالاعتزال هو كون المحيض أذى يوجب الاعتزال فيه، وإذا كان سبب الاعتزال وعدم المباشرة هو أذى المحيض فإن الاعتزال مؤقت بوجوده، ويزول بانتهائه؛ ولذلك بين سبحانه مدى تحريم الاعتزال بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ والقرب المنهى عنه كناية عن المباشرة، وهى من الكنايات القرآنية التي تربى الذوق وتمنع عن الأسماع الألفاظ التي يجافى سماعها الأذواق السليمة؛ وكم للقرآن الكريم من كنايات ومجازات تعلو بمستوى القارئ، ولها وضوح وقصد إلى المعاني من غير خطأ في الفهم، ولا غموض في الموضوع؛ وأي قارئ يقرأ كلمات: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، ولا يفهم منها النهى عن الحال التي يتقضاها الطبع في الأحوال الاعتيادية، وأن النهى موقوت بذلك الوقت المعلوم.

11. يذكر العلماء في مادة (قرب) أن هذا الفعل من باب كرم، ومن باب فرح، فيقال قرب يقرب، ويقال قرب يقرب، والأول لازم والثاني متعد، والمعنى فيهما مختلف؛ فالأول يكون بمعنى الدنو، والثاني كذلك، ولكنه غلب في العرف أنه مجاز عن اللبس أي الاتصال بالشيء؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الأنعام‏] وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة] أي لا يدخلوه وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾

12. قوله تعالى في القراءة المشهورة ﴿يَطْهُرْنَ﴾ يكون معناها انقطاع الدم؛ لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم، فانقطاعه طهور منه، فهو وصف وحال قائمة بالمرأة تثبت عند انقطاع الدم لزوال سبب النجاسة، وأما قراءة (يطّهرن)، فمعناها يغتسلن؛ لأن التطهر غير الطّهور، إذ هو فعل من المرأة نفسها منسوب حدوثه إليها؛ فهي التي تنشئه لا أنه حال طهر يعود بعد زوال سبب النجاسة المؤقتة، هذا تفسير بعض العلماء، وبه أخذ الحنفية، وقال آخرون وعلى رأسهم شيخ المفسرين ابن جرير الطبري إن القراءتين في معناهما واحد، وهو التطهر، فلا تعد طاهرة إلا بالاغتسال؛ وهذا ما سلكه جمهور الفقهاء غير الحنفية.

13. انبنى على ذلك الخلاف في التفسير خلاف فقهى؛ فالحنفية قالوا: إنه بمجرد انقطاع الدم إذا كان الانقطاع لأقصى مدة الحيض وهو عشرة أيام تحل المباشرة ولو قبل الاغتسال أخذا بالقراءة المشهورة وهى قراءة ﴿يَطْهُرْنَ﴾ لتأكد زوال الدم، وبه الطهارة، وإن كان الانقطاع لأقل من عشرة أيام فلا بد من تأكد زوال الدم بعمل آخر من جانبها وهو الاغتسال الفعلي، وبذلك تنطبق قراءة ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ فالحنفية قد أعملوا القراءتين في نظرهم، وغيرهم لم يفرق بين القراءتين في المعنى وفسرهما بمعنى الاغتسال فلا تحل قبله مطلقا؛ فالطهر حقيقة فيه، وغيره مجاز، ولا قرينة تدل على إرادة المعنى المجازى، فلا يعدل عن الحقيقة؛ وفوق ذلك فإن إباحة المباشرة صرح فيها بأن ذلك متصل بالتطهر، لا بالطهور؛ فقد قال سبحانه: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وإذا كان المنع مؤقتا، فإنه بزواله تجيء الإباحة، وتعود الحال إلى ما كانت عليه.

14. هنا كلمتان ساميتان نشير إلى بعض ما اشتملتا عليه من معان سامية؛ وهما قوله تعالى: ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ والثانية قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾:

أ. الطلب في قوله تعالى: ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ ليس المراد به الحتم واللزوم، فليس بلازم الإتيان عقب التطهر؛ لأن ذلك مبنى على الرغبة والطاقة، إنما المراد هو إباحة المباشرة فإنه من المقرر عند علماء الأصول أن الأمر بعد النهى يكون للإباحة، وخصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة] ومثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة]

ب. أما الكلمة الثانية وهى ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فمن هنا المسماة بمن الابتدائية؛ أي الإتيان يكون مبتدئا من المكان الذي أحله الله سبحانه، وهو الذي كونه الله سبحانه على أنه المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو مكان البذر والإنسال؛ فالمراد من أمر الله في هذا المقام الأمر الإلزامي الذي جاء الإلزام فيه بحكم الشرع الإلهي وبحكم الفطرة التكوينية؛ فقد أمر الله بأن تكون المباشرة في موضع النسل والحرث والبذر، والفطرة التي فطر الله الناس عليها توجب ذلك وتلزم به؛ إلا من إيفت مشاعرهم وشذ تكوينهم؛ ولذلك كانت تلك الفطرة هي الوضع‏ الإنساني الذي التزمه بنو الإنسان حتى المتوحشون المتبدون، ولم يخرج عن ذلك إلا الذين أصابهم شذوذ في عقولهم ونفوسهم من بعض الذين سموا متمدينين.

15. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بتلك الجملة السامية؛ والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا هفا، منيب إليه إذا انحرف؛ كثير الرجوع إلى رب العالمين بتوبة نصوح؛ والتواب وصف مدح يمدح به العبيد.

16. إن للتوبة منزلتين:

أ. المنزلة الأولى: أن يرتكب الشخص منكرا أو معصية بشكل عام، سواء أكانت صغيرة أم كانت كبيرة، ويفعل ذلك بجهالة، ثم يتوب توبة نصوحا، ويحسن التوبة فيغفر الله له، فإن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعا لمن أحسن التوبة؛ والتوبة في هذه الحال وصف مدح بلا شك، وخصوصا إذا استشعر التائب ما كان فيه، وأحس بالخضوع وأحسن التضرع، وكان تذكره للماضي حافزا على الاستمساك بحاضره، والاتجاه إلى ربه، وطلب المغفرة؛ فإن الإحساس بذل المعصية يدنيه من ربه، ويقربه منه.

ب. والمنزلة الثانية من التوبة وهى العالية السامية: أن يحس المؤمن التقى بمقام ربه، فيحس مع ذلك بالقصور في حقه، فيراجع ربه بالتوبة الحين بعد الحين، تداركا لما ظن من تقصيره، وما ارتكب في تقديره، فيكون توابا منيبا مستمرا في توبته.

17. الله سبحانه يحب التائب في كلتا حاليه، وإن تفاوتت المنازل واختلفت الدرجات، ومحبة الله تعالى للتائبين رضاه عنهم، وإسباغ رحمته عليهم؛ فالمحبة رضا ورحمة وتقريب، والمتطهرون هم الذين طهروا حسهم ونفوسهم، وظاهرهم وباطنهم.

18. تذييل الآية بهذه الجملة السامية يفيد ثلاث فوائد:

أ. أولاها: إشعار المؤمن بأن الله غفار للذنوب لمن ارتكب كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر]

ب. ثانيتها: أن الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن الذي لا يغتر بطاعاته، حتى لا يزين لنفسه كل أعماله، فقد يتأدى الأمر بمن يزين لنفسه عمله إلى أن يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وإن الذي يستصغر حسناته فيكثر من التوبة قريب من ربه مستمتع بمحبته سبحانه وتعالى، وهى أقدس ما في هذا الوجود.

ج. ثالثتها: أن طهارة الحسّ تؤدى إلى طهارة النفس، فمن كان طهور النفس لا يقبل أن يقدم على أمر مستقذر في ذاته، تعافه الطبائع السليمة، والفطرة المستقيمة.

19. قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يشير إلى ثلاثة أمور:

أ. أولها: بيان أن المقصد من الزواج ليس هو قضاء الوطر وإشباع الشهوة، فإن ذلك كما يكون في زواج شرعي يكون في المسافدة الحيوانية؛ إنما المقصد هو النسل وبقاء هذا الإنسان في الوجود على أكمل وجه، وتهذيب النشء بين أبويه وفى أحضانهما لتنمو غرائزه وتتهذب طبائعه، وتستيقظ ينابيع الخير فيه.

ب. ثاني هذه الأمور: أن ما يكون بين الزوجين اللذين جمعهما الله بكلمة الشرع وحكمه هو الأنس الروحي مع المتعة الجسدية؛ وإن ذلك ليقتضى زوال الكلفة، وأن يكون بينهما من المباسطة ما تسهل معه الحياة، ويكون في البيت تخفيف أعبائها، واستجمام القوى، ليستطيع تحمل تكليفاتها.

ج. ثالث هذه الأمور: أن الدين يجب أن يكون مسيطرا، ويجب أن تكون العدالة قائمة، والمودة حاكمة فيما بين الرجل والمرأة.

20. أشير إلى الأمر الأول بقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ وأشير إلى الأمر الثاني بقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ وأشير إلى الأمر الثالث بقوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾

21. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ أصل كلمة حرث تطلق على إثارة الأرض لإلقاء البذر فيها، وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المحروثة نفسها، فتسمى الأرض المحروثة المهيأة للزراعة أو المزروعة فعلا حرثا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ﴾ [القلم‏] ثم أطلقت كلمة حرث في الآية الكريمة وأريد بها الزوجة على سبيل التشبيه، وقد قال في وجه التشبيه الراغب الأصفهاني (بالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أن بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم)، ففي الكلام إذن تشبيه للزوجة بالحرث؛ ووجه التشبيه الذي ذكره كان بين الزوجة وبين الأرض الخصبة المنتجة من حيث إن كليهما يمد الوجود الإنساني فالزوجة تمده بعنصر تكوينه وإنشائه، والأرض تمده بالزرع الذي يكون به بقاؤه، وذكر الزمخشري أن التشبيه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة والبذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه، ويكون به البقاء والتوالد.

22. كيفما كان توجيه التشبيه من الناحية اللفظية، فإن الجملة الكريمة ترمى إلى معنى كريم، وهو أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست هي قضاء الوطر لإشباع الشهوة المجردة، بل هي تنظيم النسل فلا يصح للرجل الكامل الذي اتجهت به الإنسانية نحو الكمال أن ينظر إلى زوجه إلا على أنها مستودع سر الوجود الإنساني وأنها مربى ولده، وأن قطعة منه تتصل بها فيختلط وجوده بوجودها، وتخرج من رحمها وديعته، وقد امتزجت فيها عناصرهما وخواصهما وطبائعهما، وصارت صورة في الوجود لأشخاصهما، ومنازعهما، وإذا كانت الخلطة الفطرية قد أوجد الله بها ذلك المخلوق الذي يريان فيه أنفسهما موحدة متلاقية، فإن ذلك يتقاضاهما أو يحملهما على تنشئته على صورة لما يصبوان إليه من كمال؛ وإذا تقاصرت نفس أحدهما عن الآخر فقد يكون الاضطراب في تكوينه الخلقي، بل يكون نقص في تكميل نموه الجسمي.

23. إذا كان ذلك بعض ما يشير إليه التعبير عن الأزواج بأنهن حرث، فإنه بلا شك يحث الرجل على أن يتخير موضع حرثه، كما يتخير موضع زرعه، فإنه لا يطلب لبذره إلا الخصبة القوية من الأرض، فكذلك لا يطلب إلا القوية من النساء في جسمها وخلقها ودينها، وطيب أرومتها، وكرم بيئتها؛ ليكون الولد قويا، ولينشأ نشأة كاملة تربى فيه قوة الجسم والخلق والدين والعقل؛ ولذا جاء في المأثور (تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) وروى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إياكم وخضراء الدّمن) وهى المرأة الجميلة التي نبتت في منبت سوء، فلا تطلب المرأة لجمالها ولا لمالها، ولا لجاه أسرتها، ولكن تطلب لدينها وخلقها، ولبيئتها الدينية الخلقية الطاهرة.

24. قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يشير إلى المباسطة التي تكون بين الزوجين، وإبعاد ما يتكلفه الإنسان في لقاء الإنسان؛ فإن ذلك يزول عندما يكون الرجل مع زوجه، ويستروح راحة الحياة، ومودة العشرة الزوجية؛ فإن قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ معناه قاربوا أو باشروا نساءكم كيف شئتم، وقد روى الرواة أن اليهود الذين كانوا يجاورون أهل المدينة كانوا عند المباشرة لا يرى الرجل من زوجه شيئا، ولا تكون المباشرة إلا بإبعاد حرف من الثياب؛ وقد سرت تلك الحال من التكلف إلى الذين كانوا يساكنونهم من أهل يثرب، ولعلهم ظنوا ذلك أدبا وتهذيبا، وحسبوه أمرا في هذه الحال مطلوبا، فسلكوا مسلكهم؛ وكانت قريش تزيل كل تكلف من هذا عندما يختلى الرجل بزوجه؛ فلما كان التزاوج بين المهاجرين من قريش، والأنصار من أهل المدينة الذين سرى إليهم ذلك التزمت من اليهود، كانت تحدث نفرة أحيانا بين الزوجين بسبب التزمت من جانب، ورغبة التبسط من جانب آخر، فكان قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ مزيلا للتكلف، داعيا إلى‏ المباسطة، ليكون ما بين الرجل والمرأة فيه استرواح للنفوس، واستجمام للقلوب؛ فكلمة (أنى) معناها (كيف) أي باشروا نساءكم في موضع الحرث على أي شكل كانت المباشرة.

25. يقول علماء اللغة إن (أنى) يستفهم بها وتكون بمعنى كيف، وذلك أصل استعمالها، وقد تكون مع استعمالها بمعنى كيف للمكان أيضا؛ ولذلك يقول الراغب الأصفهاني: (أنى للبحث عن الحال والمكان؛ ولذا قيل هو بمعنى أين وكيف لتضمنه معناهما؛ قال الله عزّ وجل: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ [آل عمران‏] أي من أين وكيف لك هذا؟)، وهى هنا بمعنى كيف الذي هو أصل استعمالها، وذكر الحرث‏ في قوله سبحانه: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ للإشارة إلى أنه مع إباحة الاستمتاع الجسدي، والاسترواح النفسي، وإحلال المباسطة محل التكلف والتزمت، مع كل هذا لا ينسى المقصود الأصلي وهو أن الغاية هو النسل والقيام على شئونه وتربيته؛ فإذا كانت الحياة الزوجية يزول فيها كل ما يحجب الإنسان عن الإنسان من ظواهر وأشكال، فإن لذلك غايتين ساميتين:

أ. إحداهما: النسل وتهذيبه والقيام على شئونه.

ب. الثانية: الاستجمام والاستعداد بهذا الاستجمام للقيام بأعباء الحياة موفور القوى النفسية التي هي معين الصبر، وأساس الاحتمال.

26. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ اشتملت هذه الجمل السامية على ثلاثة أوامر، وبشرى؛ أما الأوامر الثلاثة فهى‏ ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ وأما البشرى، فهى‏ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾:

أ. الأمر الأول: وهو قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ معناه اعملوا في حاضركم ما يكون لمستقبلكم ذخرا وعتادا، وقدموا من الأعمال الصالحة في الحاضر، ما يكون نفعا لكم في المستقبل؛ لأن من يعمل عملا صالحا في حاضره، يمكن للمستقبل الحسن لنفسه؛ وهذا المعنى عام يشمل كل عمل صالح، وكل بر يقدم عليه الإنسان، فهو حصن المستقبل، يقدمه لنفسه من بناء الحاضر على عماد مكين من الخير؛ وهو في هذه الآية يدل مع هذا العموم على معنى فيها على وجه الخصوص، وهو ما يتناسب مع الزواج وعشرة الأهل، والقيام على شئونهم؛ فالمعنى على هذا: قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية، فمن اختار الزوج العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه، ولمستقبله، وإذا أحسنتم الاختيار فاطلبوا النسل وقوموا على شئونه وتعهده بالخلق الجميل وبث الفضيلة في نفسه، فإن من قام على تربية ولده فقد قدم لنفسه والولد عمل صالح لأبيه؛ وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من بر يؤثر عنه، وولد صالح يذكره ويدعو له، وصدقة جارية مأثورة عنه؛ ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت، وكان العيش نكدا، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدّم لنفسه، وعلى هذا يكون لقوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ معنى عام يشمل كل خير، ويدخل في عمومه معنى خاص، وهو ما يتعلق بالزواج والعشرة الزوجية والولد.

ب. الأمر الثاني: قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وله معنى عام وهو أن يجعلوا بينهم وبين عصيان الله وقاية، ويخافوا الله سبحانه، ويجتنبوا المعاصي والأذى، وظلم الحقوق، والاعتداء على الناس، وخصوصا الرقيق؛ ويدخل في هذا المعنى العام معنى خاص يتصل بموضوع الآيات الكريمات، وهو الزواج وما يثمره، وهو أن يتقى أذى العشير، وظلم المرأة، وهضمها حقوقها، وظلم الأولاد بعدم القيام على شئونهم، وحسن تربيتهم؛ وإن أذى المرأة ظلم ليس فوقه ظلم، وهو ظلمات يوم القيامة، وفى المأثور عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، وكان آخر ما وصى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أن يتقوا الله تعالى في المرأة والرقيق.

ج. الأمر الثالث: قوله‏ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ والإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يربى النفس على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، وهو الذي يجعل الإنسان يطمئن إلى فعل الخير، إذ يعلم أن فيه رضوان الله، وهو سيلقاه، ويجنب نفسه فعل الشر؛ لأن فيه غضب الله، وسيلقاه، وسيجزيه الجزاء الأوفى؛ سيجزيه على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا؛ إنه بكل شيء عليم؛ وهذا المعنى عام في كل شئون الحياة؛ ويدخل في هذا العموم المعنى الخاص بالحياة الزوجية، وهو أن يراقب الله في معاملته لأهله وولده، وإن المرأة إن كانت بين يديه قد فقدت النصير، أو حيل بينها وبين نصرائها، فليعلم أن الله معها، وأنه عليه رقيب، وأنه سيلاقيه، وسيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ومنتقم جبار، وأنه إن استبد به طغيانه فأكل حقوقها، وانحرفت فطرته فضيع أولاده، فإن الله عليه رقيب، وسيلقاه، ويجزيه على سوء ما صنع؛ وإذا أحسن العشرة، وقام بحق الله وحق الزوج وحق الولد، فأعطى كل ذي حق حقه، فإن الله سيلقاه، وسيجزيه من الخير بما قدمت يداه.

د. وإن هذه هي بشرى المؤمنين، وهى قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالإيمان يتقاضى المؤمن أن يقوم بحق أهله وبحق ولده، وأن يكون حسن العشرة، وألا يهضم أهله، وإن لم يفعل فليس من الإيمان في شيء، والله ولى المتقين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/729

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سألوا الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم عن الشهر الحرام، وعن الخمر والميسر، وعما ينفقون، وعن اليتامى، ثم سألوه عن حيض النساء.. وقال الرازي: (روي ان اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى‏ كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، وان أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فراش، ولم يساكنوها في بيت، كفعل اليهود والمجوس)

2. المحيض اسم لمكان الحيض ومحله، والمراد به هنا الحيض من باب اطلاق المحل على الحال، والسؤال وقع عن مخالطة النساء في زمن الحيض، فأمر الله نبيه الأكرم أن يجيب السائلين بأن يعتزلوا النساء ايام الحيض، أي لا يجامعوهن فيه، فقد جاء في الحديث: (اصنعوا كل شيء الا الجماع)، وقوله: ﴿هُوَ أَذًى﴾ تعليل للحكم، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء، والمراد به هنا الضرر من حيث القذارة والنجاسة.

3. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، اختلفوا في ﴿يَطْهُرْنَ﴾ هل المراد به مجرد انقطاع الدم، فإذا انقطع جاز الوطء، وان لم تغتسل، أو المراد به الاغتسال بعد انقطاع الدم، فلا يجوز الا بعد الانقطاع والاغتسال، قال الإمامية: يجوز الوطء بمجرد انقطاع الدم، وان لم تغتسل، لأن هذا هو المفهوم من لفظ الطهر، أما التطهر فهو من عمل النساء، ويكون عقب الطهر، وقال المالكية والشافعية: لا يجوز الوطء الا بعد الاغتسال، وقال الحنفية: ان استمر الدم لعشرة ايام جاز أن يقربها قبل الاغتسال، وان انقطع لدون العشرة فلا يجوز الوطء، حتى تغتسل.. وعلق صاحب تفسير المنار على هذا التفصيل بقوله: (هو تفصيل غريب)

4. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، ان لفظة حيث حقيقة في المكان، وعليه يكون المعنى فأتوهن في القبل، كما هو المتبادر الى الفهم.

5. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، انّى تأتي بمعنى كيف ومتى وأين.. وقد تعددت الأقوال في تفسير الآية بتعدد معاني انّى، فمن قائل: انها بمعنى متى، ويكون المراد فأتوهن في أي زمان‏ شئتم ليلا أو نهارا، ومن قائل: انها بمعنى أين، أي أنتم مخيرون ان تأتوهن قبلا أو دبرا، ومن قائل: انها بمعنى كيف، أي على أية حال شئتم قعودا أو نياما أو نحو ذلك، وقال جماعة من المفسرين، منهم صاحب تفسير المنار من علماء السنة، ومنهم صاحب تفسير بيان السعادة من علماء الشيعة، قالوا: ان تقييد الإتيان بالحرث ينافي ارادة المكان الشامل للدبر، حيث لا استعداد له لزراعة الولد، هذا، بالإضافة الى ما في الإتيان بالدبر من الأذى.. ونحن على هذا الرأي:

أ. أولا لأن الحرث لا يتحقق الا في القبل، كما ذكر أولئك المفسّرون.

ب. ثانيا ان قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ يعين ارادة القبل بعد أن فسرنا (حيث) بالمكان.

6. تجمل الاشارة الى ان جماعة من فقهاء الشيعة الإمامية قد أباحوا وطء الزوجة دبرا على كراهية شديدة، وأنكر البعض ذلك عليهم زاعما انه من اختصاص الشيعة، ولا يوافقهم أحد من المسلمين عليه.. مع العلم بأن الرازي نقل في تفسير هذه الآية ان ابن عمر كان يقول: المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن، وقال الحافظ أبو بكر الأندلسي المالكي في الجزء الأول من كتاب احكام القرآن ما نصه بالحرف: (اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها، فجوزه طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن، وأسند جوازه الى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين والى مالك من روايات كثيرة، وقد ذكر البخاري عن ابن عون عن نافع ان ابن عمر كان يقرأ سورة البقرة، حتى انتهى الى ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾، فقال: أتدري فيم نزلت؟، قلت: لا، قال نزلت في كذا وكذا)، أي في ادبار النساء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/336

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيسألونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَأَذىً‏﴾، المحيض‏ مصدر كالحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

2. الأذى‏ هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما أن الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضر وضار، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، وأيضا قال تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾، ولو قيل لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، وأيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾، فالظاهر أن الأذى هو الطارئ على الشيء غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه، وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للإرضاع، وأما على قولهم: إن الأذى هو الضرر فقد قيل: إن المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهن في هذه الحال فأجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطباء أن الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم وإعداده للحمل، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.

3. ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، الاعتزال‏ هو أخذ العزلة التجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب‏ مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم على ما سنبين.

4. كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، وأما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير أن العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهن في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أن الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.

5. كيف كان فقوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، إلا أن قوله تعالى أخيرا ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ ـ ومن المعلوم أنه محل الدم ـ قرينة على أن قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح، والمراد به الإتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.

6. الإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والأعمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محل الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أن المحيض الأول أريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الأول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

7. ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، الطهارة وتقابلها النجاسة ـ من المعاني الدائرة في ملة الإسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من‏ الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الأصول.

8. أصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر، فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد، وربما عرض للشيء عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم والرائحة واللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشيء فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشيء على حاله الأولى من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفة توجب كراهتها واستقذارها، وقد كان أول ما تنبه الإنسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للأمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.

9. هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن‏ النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشيء بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الأصل في‏ القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى‏ هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشيء تبعد الإنسان عنه، وكذلك‏ الرجس والرجز بكسر الراء، وكان الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.

10. اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعممهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلية، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، وقال: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾، وقال: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾

11. عدت الشريعة الإسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عد من الطهارة أمورا كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقاة الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.

12. مر بيان أن الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه، ومن هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للإنسان، وبعد ذلك أصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

13. فقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، أي ينقطع عنهن الدم، وهو الطهر بعد الحيض وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهي البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله‏ ﴿أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما أمر الله به أمرا تكوينيا للدلالة على أنه مما يتم به نظام النوع الإنساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من أصول النواميس التكوينية.

14. هذه الآية أعني قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، تماثل قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وقوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، من حيث السياق، فالظاهر أن المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أن المراد بالكتابة في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أيضا ذلك، وهو ظاهر، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإيجاب الكفائي المتعلق بالأزواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.

15. استدلّ بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنه مبني: إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، وإما على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف، على أن الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: ﴿فَأتُوهُنَّ﴾ فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب ولو كان بالأمر في قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، فهو إن كان أمرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، وإن كان أمرا تشريعيا كان للإيجاب الكفائي، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للأمر الإيجابي العيني المولوي.

16. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصة في مورد الطهارة والنجاسة فالإيتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، وقوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ والآية أعني قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: ﴿الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، كما جيء بصيغة المبالغة في قوله: ﴿التَّوَّابِينَ﴾، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا، أعني: أن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقة، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر.

17. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، الحرث‏ مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض التي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربما استعمل في المكان أيضا قال تعالى: ﴿يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، وكيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله: ﴿شِئْتُمْ﴾، وهذا هو الذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته.

18. ثم إن تقديم قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية للإطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه‏ أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما، ودلالتها أيضا على أن تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهر دائما، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾، ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، المشتمل أولا على التوسعة، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ومن هذا البيان يظهر: أن آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.

19. محصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها كذلك النساء يحتاج إليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأن الله سبحانه جعل تكون الإنسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الأصلية مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى‏ ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾

20. من غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى:‏ ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، بالتسمية قبل الجماع.

21. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قد ظهر: أن المراد من قوله‏ ﴿قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ‏﴾ وخطاب الرجال أو مجموع الرجال‏ والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات ـ 56، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة.

22. فالمراد بقوله: ﴿قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ‏﴾ وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الإنساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم وإلى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾

23. وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: أن المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾، وقال تعالى أيضا: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، فقوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ الآية، مماثل السياق لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، التقوي بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ الآية، الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ الآية، التقوى‏ بمعنى الخوف، وإطلاق الأمر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ الأنفال ـ 24، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، كما صدر آية الحشر بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

24. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قراءة يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن أن الثاني قبول الطهارة، ففيه‏ معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفاده عليه السلام بقوله: (والغسل أحب إلي)، لا حرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهي، فافهم ذلك.

25. في الكافي، عن سلام بن المستنير، قال كنت عند أبي جعفر عليه السلام ـ فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وأمتعنا بك ـ: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا ـ وتسلو أنفسنا عن الدنيا ـ وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب، مرة تصعب ومرة تسهل ـ ثم قال أبو جعفر عليه السلام أما إن أصحاب محمد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ـ ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ـ وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل ـ يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كلا إن هذه خطوات الشيطان ـ فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها ـ لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى ـ لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾)، قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والإشراف على ما عند الله سبحانه، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لولا أنكم تذنبون)، إشارة إلى سر القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضاءات، وسيجيء الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الآية، من كلام أبي جعفر عليه السلام، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، من الاستدلال به على أن علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة، وكما أن الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل إلا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجيء له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ الآية 7، ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الإشارة: أن المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه، ويظهر أيضا: معنى ما تقدم نقله‏ عن تفسير القمي، من قوله عليه السلام: (أنزل الله على إبراهيم عليه السلام الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطم الشعر) الحديث، والأخبار في كون هذه الأمور من الطهارة كثيرة، وفيها: أن النورة طهور.

26. في تفسير العياشي: في قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية،: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهن؟ قلت بلغني أن أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال عليه السلام: إن اليهود كانت تقول ـ إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول ـ فأنزل الله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في أدبارهن.. وفيه، عن الصادق عليه السلام: في الآية فقال عليه السلام: من قدامها ومن خلفها في القبل.. وفيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها ـ فكره ذلك وقال: وإياكم ومحاش النساء، وقال: إنما معنى‏ ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، أي ساعة شئتم.. وفيه، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال كتبت إلى الرضا عليه السلام في مثله، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها ـ والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.. والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي، والتهذيب، وتفسيري العياشي، والقمي، وهي تدل جميعا: أن الآية لا تدل على أزيد من الإتيان من قدامهن، وعلى ذلك يمكن أن يحمل قول الصادق عليه السلام في رواية العياشي عن عبد الله بن أبي يعفور، قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إتيان النساء في أعجازهن قال لا بأس ثم تلا هذه الآية: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، فالظاهر أن المراد بالإتيان في أعجازهن هو الإتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.

27. في الدر المنثور،: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا ـ فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار ـ فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل ـ فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾) أي قائما وقاعدا ومضطجعا ـ بعد أن يكون في صمام واحد.. وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا عليه السلام، وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقول أئمة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم عليه السلام إلا أنهم عليه السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط: ﴿قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾، حيث عرض عليه السلام عليهم بناته وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشيء من القرآن.

28. الحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله بن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية حتى إن المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه، ففي الدر المنثور، عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك على المصحف يا نافع! فقرأ حتى أتى على، ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال نزلت في رجل من الأنصار ـ أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله‏ ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ الآية، قلت له: من دبرها في قبلها ـ قال لا إلا في دبرها، وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال وقال ابن عبد البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

29. وفي الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي‏ في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت‏ ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، الآية، وفيه، أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: سألت مالك بن أنس عن وطي الحلائل في الدبر، فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه، وفيه، أيضا: أخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم، قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني ـ يشك في أنه حلال يعني: وطي المرأة في دبرها ـ ثم قرأ ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، ثم قال فأي شيء أبين من هذا؟ وفي سنن أبي داوود، عن ابن عباس قال: إن ابن عمر ـ والله يغفر لهـ أوهم أنما كان هذا الحي من الأنصار ـ وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ـ وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أثر ما تكون المرأة، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات ـ فلما قدم المهاجرون المدينة ـ تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ـ فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك ـ وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد: أقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور، بطرق أخرى أيضا عن مجاهد، عن ابن عباس، وفيه، أيضا: أخرج ابن عبد الحكم: أن الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج ـ فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمهـ فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها ـ (الأعكان جمع، عكنة بضم العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال لا، قال أفيحرم؟ قال لا ـ قال فكيف تحتج بما لا تقولون به؟ وفيه، أيضا: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس ـ إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال بلى فاقرأ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ ـ إلى قوله: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم ـ من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾؟ فقال: أي، ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا ـ إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا، ولكن أنى شئتم من الليل والنهار.. واستدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لا تدل على أزيد من حرمة الإتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنك قد عرفت أن آية الحرث أيضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهن بالأمر الذي في قوله تعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ الآية، وقد عرفت فيما مر من البيان أنه من أفسد الاستدلال، وأن الآية تدل على حرمة الإتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وأن آية الحرث أيضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/207

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ أي عن حكمه في الإسلام وليس المراد السؤال عن مفهوم لفظ المحيض لأنهم عرب يعرفون لغتهم ولا يحتاجون إلى السؤال عنها.

2. ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ لنجاسته وقذارته ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ لتسلموا نجاسته وقذارته، وبهذا ظهر أن المعنى الأصلي في اعتزالهن هو اعتزالهن عن الجماع أي ترك الجماع، وإنما يحرم ما تحت الإزار لئلا تغلب الشهوة فيقع الجماع لأن الإنسان ضعيف العزم، فلو عزم على الاستمتاع بما دون الفرج وهو عازم على تجنب الفرج فلا يبعد أن تغلبه الشهوة، ولا يقاس على المعصوم للفرق الواضح.

3. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ بأن ينتهي دم الحيض في الحيضة، وتتطهر منه بإزالة نجاسته والغسل منه، ولذلك قال تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ لأنها لا تطهر بانتهاء الحيض حتى تتطهر من أثره بما أمرها الله به من التطهر.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ دلالة على أنه لا يحل جماعها في حال استمرار الدم، ولا في النقا المتوسط بين حالات الدم، ولا عند انقطاعه وانتهائه قبل التطهر؛ لأنها دلت على أنها لا تطهر بذلك، ولا بد من التطهر لتطْهُرَ بانتهاء الحيض والتطهر من أثره.

5. قوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ يدل على أنه لا يأتيها من حيث شاء، بل موضع مخصوص أمر الله بالإتيان منه، وهو ما خلق للزوج المذكور في قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ [الشعراء:165 ـ 166] وهو ما دل عليه في الآية الآتية.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ إليه، ومن التوبة: التوقف عند حدود الله واجتناب ما حرم ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ باجتناب نجاسة الحيض وغيره، فاجتناب القاذورات يسمى تطهراً، قال تعالى: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف:82] يعنون بمجانبتهم لأعمال قوم لوط، وفي هذا إشارة إلى تعيين الموضع الذي أمر الله بإتيانهن منه، وأنه غير الدبر؛ لنجاسة الدبر بالبراز فإتيانها منه ليس من التطهر بل هو ترك للتطهر، والموضع الذي أمر الله به خاص بالتواب المتطهر.

7. قال الإمام الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: (تدل على وجوب اعتزال النساء في المحيض، وتحريم وطئهن لأجل الأذى، ويشاركهن في حصول الأذى النفساء؛ فيحرم وطؤها بجامع الأذى، ولا يحل وطؤهن إلا بعد أن يطهرن من الأذى ويتطهرن بالاغتسال، والآية تدل على شمول اعتزالهن فلا يقارَبن لوطء ولا استمتاع وقد خصصها ما تلقته الأمة بالقبول من السنة المبيحة لما عدا الوطء من الاستمتاع وغيره من سائر التصرفات كترجيل المرأة رأس زوجها ومس جسدها بيده وتقبيلها وغير ذلك، وتدل على وجوب التوبة من الذنوب والتطهر للصلاة واستحباب النظافة)، وقوله: المبيحة لما عدا الوطء من الاستمتاع، يستثنى منه ما يؤدي إلى الجماع؛ لأن فاعله يعين الشيطان على نفسه، لأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، فلا تجوز معاونته بما يؤدي إلى المعصية لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة:2] وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: (لك ما فوق الإزار، ولا تطلع على ما تحته) وقال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ وقد مر تفسيرها.

8. ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ شبه النساء بالحرث الذي يبذر فيه البذر فيكون منه الزرع، وهذا تنبيه على أن الموضع الذي أمر الله أن تؤتى منه هو الموضع الذي يكون بإتيانه الولد، وكفى ببيان الله بياناً لمن تفهم، فمن البيِّن: أن فائدة ذلك النهي عن الدبر، ولو لم يكن ذلك هو المقصود لما كان لهذا الكلام أهمية، ولكفى: (ائتوا نسائكم أنى شئتم)

9. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ هذا مطلق يتناول التقديم لمنافع الدنيا والآخرة، فالتقديم لمنافع الدنيا، مثل ابتغاء الولد بالجماع، والثمر بالحرث، والتقديم لمنافع الآخرة بالتقوى والعمل الصالح، ووقوعه في هذا السياق يظهر منه منع العزل.

10. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ ومن تقوى الله العمل بما أمر في هذه الآيات، وقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ يفيد: وجوب العلم بلقاء الله وهو الحضور يوم القيامة في موقف السؤال والحساب ولا يكفي الظن.

11. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لأنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وكل ما يجب الإيمان به، وأطاعوا الله ورسوله؛ فلهم البشرى بالثواب العظيم والخير الكثير.

12. قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: (تدل على إباحة وطء النساء أي الزوجات في موضع الحرث، وهو موضع الولد من الفرج، من قدّامها وورائها، وعلى جواز الاستمتاع بسائرها ما خلا ما حرمه الله من اللواطة وهو إتيان النساء في أدبارهن فإنه من الفواحش الكبار، والأصل فيه إتيان الذكور فيما لم يجعله الله موضعاً للحرث، فمن فعل ذلك فهو داخل في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون:7] كما يأتي إن شاء الله تعالى، ولأنه صلّى الله عليه وآله وسلم نهى (عن محاش النساء) رواه جابر)

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/331

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَذًى﴾: الأذى: الضرر النفسي أو الجسدي، الدنيوي أو الأخروي، قال الراغب: فسمي المحيض أذى باعتبار الشرع وباعتبار الطب‏، وربما كان‏ ذلك باعتبار القذارة والرائحة الكريهة، وقد ناقش العلامة الطباطبائي في إطلاق الضرر على الأذى، قال فإنه لو كان هو الضرر بعينه، لصح مقابلته بالنفع، كما أن الضرر مقابل النفع، وليس بصحيح، يقال: دواء مضرّ وضار، ولو قيل دواء مؤذ أفاد معنى آخر، وأيضا قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111]، ولو قيل: لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، وأيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف: 5]، فالظاهر أن الأذى هو الطارئ على الشيء غير الملائم لطبعه، فينطبق عليه معنى الضرر بوجه‏، وقد يخطر في البال أن الترادف بين الألفاظ لا يوجب استعمال أحد اللفظين في مقابل الآخر، لأن من الممكن أن يكون للمعنى الواحد في لفظ بعض الخصوصيات التي لم تلاحظ في اللفظ الآخر الذي يختزن خصوصية أخرى، كما في كلمة إنسان التي تقال في مقابل الحيوان أو الجن، وكلمة بشر التي تقال في مقابل الملك، مع ملاحظة أن الأذى يمثل جانبا من الضرر، وذلك من خلال النتائج النفسية والجسدية.

2. روى مسلم والترمذي، عن أنس بن مالك‏، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فاسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (جامعوهنّ في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح)(2)

3. ربما اختلف الفقهاء والمفسرون في استيحاء الآية في مسألة الوطء في الدبر، من ملاحظة روايات سبب النزول، بالإضافة إلى ما فهموه من كلمة ﴿أَنَّى﴾ أو كلمة ﴿حَرْثَ﴾، لأن الآية نزلت من أجل معالجة الواقع اليهودي، مما كان يعتقده اليهود من إتيان المرأة في القبل من جهة الدبر، أو الواقع‏ القرشي المكي من إتيان النساء في أدبارهن زمن الحيض، فإن استيحاء الآية في هذا الجانب أو ذاك على نحو التعيين، يتوقف على تحديد سبب النزول، وليس ذلك من جهة أن أسباب النزول تحدّد مدلول الآية، بل لأنها ـ في بعض الحالات ـ قد تفسر بعض إجمالها كما في مثل هذه الآية.

4. كانت هناك مشكلة تراود المسلمين في علاقتهم بالنساء في حالة الحيض ـ وهو الدم الذي تراه المرأة بشكل دوري في موعد معين من الشهر ـ فقد كانت هناك بعض التصورات والعادات التي تعتقد أن المرأة تتحول ـ في هذا الوقت ـ إلى إنسان نجس، فكانوا يمتنعون عن مخالطتها ومؤاكلتها ومشاربتها.. مما يجعل منها عنصرا معزولا عن المجتمع، في ما تذكره بعض الأخبار، وقد كان هذا مصدر حرج شديد على الناس، وجاء الإسلام بتشريعاته المتنوعة في شؤون الحياة، وعاش المسلمون هذه المشكلة في هاجس يلح على الحل الأمثل الذي يخلّصهم من هذا الإزعاج، فكان هذا السؤال تعبيرا عن ذلك.

5. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ عن الموقف الذي يتخذونه من هذا الدم، الذي تراه المرأة، الخارج منها في العادة الشهرية المعروفة لدى سائر النساء، وهو الدم الذي يتجمع شهريا في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل، ذلك لأن مبيض المرأة يدفع كل شهر بويضته إلى الرحم، وفي الوقت نفسه تمتلئ عروق الرحم بالدم استعدادا لتغذية الجنين، فإذا انعقد الجنين، يستهلك الدم لتغذيته وإلا يخرج بشكل دم حيض.

6. هل تتحول المرأة إلى إنسان قذر لا بد من اجتنابه والابتعاد عنه من‏ خلال قذارة الدم؟ وكيف يعالجون أوضاعهم مع نسائهم في مثل هذه الحال؟ فقد كان اليهود يتشددون ويفارقون النساء في المحيض في عملية عزل ومقاطعة في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وهناك في التوراة أحكام شديدة في أمرهن في هذه الحال، وحرّمت التقرب منهن في المجلس والمضجع والمس ونحو ذلك.. وأما النصارى فلم تكن لديهم مشكلة في أي جانب من هذه الجوانب بل يجدون حالهن في هذه الحال كبقية الحالات الأخرى، وجاء الجواب حاسما يضع القضية في نطاقها الطبيعي‏ ﴿قُلْ هُوَأَذىً‏﴾ فإن هذه الحالة لا تزيد عن أية حالة طبيعية من حالات الجسم التي يقتضيها نظامه المحدّد، ولكنها تختلف عن الحالات الأخرى بأنها تتمثل في نزول الدم الذي يحدث حالة من الأذى، التي تلتقي ببعض آلام العادة الشهرية من جهة، وبالقذارة التي تصيب الجسد في هذه الحالة، وببعض الجوانب النفسية الأخرى.. ولذلك فإنها لا تحدث أي تأثير سلبي في الوضع العام للمرأة في المجتمع، فلا توجب نجاسة جسدها، ولا تؤثر في الجو الذاتي لشخصيتها، بل كل ما هناك أنها تجعل من العلاقة الجنسية شيئا غير مرغوب فيه، من خلال قذارة المحل من جهة، أو من خلال استعداد الجسد لدخول الميكروبات ـ كما يقول البعض ـ من جهة أخرى.. وربما كانت هناك جوانب أخرى تتصل بالحالة النفسية غير المريحة في هذا الوقت، وقد أجمل القرآن هذه المعاني بكلمة ﴿أَذًى﴾ التي تشير إلى الجوانب الصحية والمعنوية.

7. ذكر البعض ـ في الطب المعاصر ـ أن المقاربة، في حال الحيض، قد تؤدي إلى عقم الرجل أو المرأة، وإلى إيجاد محيط لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والالتهابات الداخلية للأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بميكروبات الجسم في عضو الرجل، هذا بالإضافة إلى أن الحيض يحدث آلاما والتهابات حادة في أعضاء التناسل لدى‏ الأنثى، مما يجعل من الجماع إيذاء لها من خلال ما يضفيه من الآلام وغير ذلك، وعلى هذا الأساس، كان الأمر الإلهي باعتزال النساء في حالة الحيض: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، لأن المقاربة بين الزوج وزوجته لا بدّ من أن تكون في وضع طبيعي من الناحية الجسدية بحيث لا تؤدي إلى ضرر لأيّ منهما، ومن الناحية الروحية بحيث تنفتح على الراحة النفسية المزاجية في انفعال كل منهما بأجواء الرغبة الجنسية، من دون أية حالة منفّرة، وهذا مما لا يتناسب مع حالة النساء في حال الحيض التي تترك أكثر من تأثير سلبي على الطرفين معا.

8. ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ هو كناية عن الترك بأسلوب أكثر تأكيدا، لأن النهي عن القرب أمر ضمني بالابتعاد الذي يوحي بالمقاطعة، ولكنها ليست القطيعة الكلية في عزل المرأة عن المجتمع، بل الاجتناب عن مواقعتها في العلاقة الجنسية، فليس لهم أن يمارسوا العلاقة معهن، وبذلك فقد اقتصر الإسلام على تحديد هذه العلاقة من خلال هذا الأذى الطبيعي، الذي قد يتحول إلى أذى جسدي ومعنوي للرجل والمرأة، وأبقى للمرأة وضعها الاجتماعي مع زوجها وأولادها وسائر الناس، فاحترم إنسانيتها لأن هذه الحالة لا تترك أي تأثير على أي عنصر ذاتي من عناصر شخصيتها الفردية والاجتماعية، لأن قذارة عضو في الجسد لا تعني قذارة الإنسان في تفاعله مع المجتمع وتفاعل المجتمع معه، لا سيما في الحالات الطبيعية التي لا تمثل أية حالة سلبية في الإنسان من حيث عقله وحركته الخاصة والعامة.. فليس هناك إلا الاعتزال لهن في حال الحيض في العلاقة الجنسية ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، والطهر: النقاء من الدم، باعتبار زوال المسبب بزوال السبب، فإذا كان دم الحيض هو الأساس في حرمة الجماع، فلا بد من زوال الحكم بنقاء المرأة من الدم.

9. ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ وقد يراد به تأكيد القضية الواردة في الفقرة السابقة باعتبار أن نقاء المرأة من الدم طهور لها، فكأنها تتطهر بالنقاء كحالة طبيعية في الواقع الجسدي وبذلك يجوز للإنسان، على هذا الوجه، مقاربة زوجته بعد النقاء وقبل الغسل، وربما يراد من التطهر الغسل، غسل الحيض، أو غسل الفرج لإزالة القذارة، ولكن الأقرب إلى أجواء الآية، هو المعنى الأول، باعتبار أنها ظاهرة في الرخصة بعد المنع على أساس ارتفاع المانع الموجب للحرمة، أما مسألة غسل موضع الفرج أو الاغتسال، فقد تقتضيهما طبيعة الحالة النفسية التي لا تقبل على الموضع القذر إلا بعد غسله، لأن الناس قد يتعاملون مع آثار القذارة في المحل كتعاملهم مع القذارة نفسها، لذلك تراهم يعملون على إزالة الأثر حتى بعد زوال العين، وفي ضوء ذلك، يمكن أن تكون إرادة هذا المعنى ـ على التقدير الآخر ـ مطلقة من الحالة الطبيعية للإنسان، لا من خلال الشرط الشرعي للرخصة، وعلى كل حال، فإن الحرمة ترتفع بارتفاع هذا الأدنى وزوال تلك القذارة، فيمكن للناس العودة إلى الوضع الطبيعي في علاقتهم بالنساء.

10. ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، وهذا أمر وارد على سبيل رفع الحرمة، فلا دلالة فيه على الوجوب، تماما كما في كل أمر وارد بعد الحظر أو في مقام توهمه، أما تحديد الإتيان بكونه‏ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فقد يكون المراد منه الإشارة إلى الفرج الذي أمر بتجنبه، وقد يفسر بأنه إشارة إلى طبيعة الجماع الذي أمر الله به في تقرير النظام في حياة النوع الإنساني، فليس هو من قبيل الأفعال التي تعيش في هامش الوجود الإنساني، كبعض الأفعال الصادرة منه على سبيل اللغو واللهو، باعتبار أن امتداد هذا الوجود وحيويته متوقفان على ذلك فهو من النواميس الكونية، وفي ضوء ذلك، يكون المراد بالأمر بالإتيان في الآية، الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما ذكره صاحب الميزان‏، وقد يراد به ـ كما عن ابن‏ الحنفية ـ من قبل النكاح دون الفجور، وقال الزجاج: معناه، من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يجب، أي لا تقربوهن وهن صائمات أو محرمات أو معتكفات، وقال الفراء: ولو أراد الفرج، لقال: (في حيث)، فلما قال ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها، وقال غيره: إنما قال ﴿مِنْ حَيْثُ﴾ لأن (من) لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك: ائت زيدا من مأتاه، أي من الوجه الذي يؤتى منه‏.

11. ربما كان هذا الاختلاف في تفسير القيد ناشئا من قابلية التعبير لأكثر من وجه، مما جعل للاجتهاد في استيحاء الآية مجالا واسعا، ولكننا نلاحظ، في هذه المسألة، أن القيد لا بد من أن يكون واردا لإفادة معنى جديد مما لا يلتفت الناس إليه غالبا، أو مما يحتاج الناس إلى معرفته ويقتضي التنبيه عليه، وفي ضوء ذلك، نجد الحديث عن (الفرج) كموضع للإتيان ليس من الأمور التي تمس الحاجة إلى تقريره، لأنه المكان الطبيعي للجماع في الواقع الإنساني العام، سواء كان ذلك من جهة الحصول على اللذة أو جهة طلب الولد، فهو المكان الذي يتجه إليه الناس بفطرتهم وطبيعتم الذاتية، أما القول بأنه وارد في مورد التحذير عن (الإتيان في الدبر)، فهو غير دقيق:

أ. أولا: لأن ذلك موقوف على ورود التعبير بأسلوب الحصر، الذي لا دليل عليه في هذه الفقرة، لا من اللفظ ولا من السياق، فهي واردة ـ على أساس هذا الاحتمال ـ للرخصة ـ بعد زوال المانع ـ في الإتيان في الفرج الذي هو موضع الحيض، وهذا لا مفهوم له، لأن الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن غيره، وقد قرر علماء الأصول أن اللقب لا مفهوم له، وأن الأمر بشيء لا يدل على النهي عن‏ الضد الخاص.

ب. وثانيا: فإن الحديث عما أمر الله به لا بد من أن يكون ـ على تقدير إرادته ـ إشارة إلى أمر سابق بالإتيان في الفرج لا في الدبر، وهو مما لا دلالة عليه في القرآن، أمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي من إرادة الأمر التكويني في نظام النوع الإنساني في تقرير الزواج، فليس للفظ ظهور فيه، ولا باعتبار أن هذا النظام جار على سبيل الفطرة الإنسانية الذي ينطلق الناس إليه ويأخذون به من خلال الحاجة الطبيعية التي يريدون تحقيقها في حياتهم لإرادة الشهوة ولطلب الولد، تماما كما يأكلون ويشربون ويلبسون، لا من خلال اللهو واللغو الذي لا معنى له، مما يجعل الحديث عنه لغوا لا فائدة منه، لأنه تقرير لحقيقة واضحة لدى الناس أكثر من وضوح الكلمة في الآية.

ج. وثالثا: استبعاد إرادة الأمر التكويني في نطاق السياق التشريعي الذي يتحدث عن الأمر والنهي، من الناحية المتصلة بالتشريع في الرخصة والمنع كما هو سياق الآية، بل الظاهر منه الأمر المتصل بالنظام الشرعي للعملية الجنسية.

12. ربما كان الاحتمال الثالث هو الأقرب إلى الاعتبار وإلى الظهور من خلال القرينة السياقية، وذلك لأن الآية واردة في بيان الحدود التي فرضها الله في علاقة الرجال بالنساء من الناحية الجنسية، فإذا كان الله قد حرّم إتيانهن في حال الحيض، وأمر باعتزالهن، وأراد للناس أن يقفوا عند هذا الحد، فإنه يريد لهم، بعد زوال الحيض، أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية السابقة التي وضع الله لها نظاما في أوامره ونواهيه، فلا يبتعدوا عن نهج الله في شرعه، فيدخل في مدلول الفقرة كل الأوامر المتعلقة بالأفعال والتروك، أي: فأتوهن من الجانب المرتبط بأمر الله، وليس لكم إتيانهن من طريق الحرام، ولعل الفقرة التالية التي تتحدث عن التوّابين والمتطهرين توحي بذلك، ولو من بعيد، والله العالم.

13. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الذين إذا وقعوا في المعصية وطاف بهم الشيطان فأبعدهم عن الله، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا منها، وأنابوا إليه، ولم يصروا على ما فعلوا.. فهؤلاء هم الذين يختزنون في أعماقهم الإيمان بالله والمحبة له والالتزام بطاعته، من دون أية حالة للتمرّد التي تتنافى مع الإحساس بالعبودية، وهم الذين لم تنطلق معصيتهم في خطيئاتهم من جحود بالله، ولا استهانة بعقوبته، ولا تهاون بوعيده، ولا استخفاف بأمره ونهيه.. بل انطلقت من غفلة العمل وثورة الغريزة، ونداء الجسد ووسوسة الشيطان، فهي حدث عارض في حركة العمق الإيماني في الذات، وليست حالة عميقة مستقرة، ولذلك كانوا أهلا لمحبة الله من خلال محبتهم له، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ الذين يتطهرون من قذارة الكفر والضلال والذنوب الكبيرة والصغيرة، فيلتقون بالتوّابين الذين تمثل التوبة لديهم حالة من التطهر الروحي، الذي يتحول إلى حالة من التطهر الجسدي.

14. الله يريد للإنسان أن يعيش حالة التطهر الجسدي كما يريد له أن يعيش حالة التطهر الروحي، لأن الحياة المستقيمة الطاهرة في نظامها الطبيعي المتوازن في الجانب الفردي والاجتماعي، بحاجة إلى الطهارتين معا، ولذلك أمر الله بهما معا:

أ. فقد تحدث عن الطهارة المادية في أكثر من آية: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]، وقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ [الأنفال: 11]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾

ب. وعن طهارة القلب في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41]

ج. وعن الطهارة الروحية والنفسية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]

د. وعن طهارة المال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]

هـ. وطهارة المسجد من الأوثان والشرك: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]

و. وطهارة الماء: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]

ز. وطهارة الشراب: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: 21]

15. وغير ذلك، مما يوحي بأن الله يريد للإنسان أن يعيش في حياته الطهارة المادية التي تتحول إلى حالة نفسية ترفض القذارة الخبيثة، وتتحول إلى حالة عبادية ترفض التأثيرات المعنوية السلبية الناتجة عن الحدث الأكبر والأصغر، وإلى محيط طاهر نظيف يبتعد به الإنسان عن الأمراض والأوضاع المنفرة الناشئة من القذارات في جسده وفي طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفي ما حوله ومن حوله.. كما يريد له أن يعيش الطهارة الروحية في الفكر الطاهر، والقلب الطاهر، والعمل النظيف، والقول الطاهر.. لتجتمع له في وجدانه الحضاري، وفي نظامه الفردي والاجتماعي كل عناصر الطهارة، وفي ضوء ذلك، كانت محبة الله للمتطهرين، لأنهم أخذوا بأسباب الطهارة التي أمرهم بها في حياتهم الداخلية والخارجية، مما يوحي بأنهم يعيشون في عمق الحب لله، من حيث يتحركون في خط طاعته وموقع رضاه.

لعل مناسبة الحديث عن التوابين والمتطهرين في هذه الآية، في سياق‏ الحديث عن اعتزال النساء في الحيض، هو أن لا يتعقد الناس مما قد تدفعهم إليه الغريزة من إتيان النساء في حال الحيض، فيرتكبون ما حرمه الله، فيسقطون تحت تأثير الذنب كما لو كان ذنبا لا يغتفر، فانطلقت الآية، لتؤكد لهم أن الله قد فتح لهم باب التوبة، فإذا ندموا على ذلك وعزموا على عدم العودة إليه، فإنه يمنحهم محبته التي تنفتح على مغفرته وعفوه ورضوانه، وإذا تراجعوا عن البقاء في القذر المادي والروحي، أحبهم الله ومنحهم مغفرته.

16. إذا تحقق للمرأة الطهر، وهو النقاء في تفسير البعض، والاغتسال في تفسير آخرين، فيمكن الرجوع إلى العلاقة الجنسية من حيث أمرهم الله، ويختلف المفسرون في هذه الكلمة، فيرى البعض أن ذلك إشارة إلى المكان الطبيعي للجماع، ويرى البعض أنه يعني الوجه الذي أمر الله أن يؤتى منه، من دون ملاحظة لموضوع المحل الخاص، بل يتصل بالحدود التي جعلها الله لذلك، وتختم الآية الحكم الشرعي بالإيحاء بضرورة التوبة في حالة الانحراف عن الخط الإسلامي في الأحكام الشرعية، وبضرورة التطهر بالابتعاد عن كل الأوضاع التي توجب القذارة الجسدية والروحية، وذلك للحصول على محبة الله الذي يحب التوابين، باعتبار أن التوبة تمثل الشعور بالحاجة إلى رضى الله بعد التعرض لغضبه، ويحب المتطهرين الذين يريدون أن يعيشوا الحياة في طهر جسدي وروحي، ليحصلوا على رضى الله في ذلك.

17. أثار المفسرون والفقهاء في قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، موضوع إباحة العلاقة الجنسية الشاذة بين الرجل والمرأة في نطاق العلاقة الزوجية، فأباحه بعضهم انطلاقا من هذه الآية التي تبيح إتيان النساء في أي‏ مكان أرادوه، على أساس تفسير كلمة ﴿أَنَّى﴾ بمعنى من أي مكان، ومنعه آخرون، واختلفوا في وجه المنع، فذهب بعضهم إلى أن كلمة ﴿أَنَّى﴾ بمعنى متى، فتكون واردة لإطلاق الإباحة من ناحية الزمان، بعد أن جاء المنع في زمن معين، ولكن بعض أهل اللغة يدّعي أن هذه الكلمة لم تأت إلا بمعنى من أين، وذهب بعضهم إلى اعتماد كلمة الحرث دليلا على أن الإباحة مختصة بالمكان الطبيعي، لأن هذه الكلمة توحي بالزرع الذي يعني الولد في هذا المجال، وحمل كلمة (من أين) التي هي معنى‏ ﴿أَنَّى﴾ على إرادة إتيان المرأة في المحل الطبيعي، ولكن بطريقة معاكسة من الخلف، كما روي أن اليهود كانوا يعتقدون أن الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها، خرج الولد أحول، فكذّبهم الله عن ابن عباس وجابر، وناقشهم بعض الفقهاء في ذلك، فقالوا إن استعارة كلمة الحرث لا تتعين بالحمل على الجماع لطلب الولد، فيمكن أن يكون لها معنى آخر.

18. واختلفت الروايات المفسرة لهذه الآية، واختلفت آراء الفقهاء تبعا لذلك.. ولا يملك الإنسان حجة واضحة في الجانب التفسيري للآية بين هذين الاتجاهين، وإن كان من الممكن أن توجه دلالة المنع في الآية الأولى، على أن القضية في المنع والإباحة هي قضية الزمان لا المكان، لأنه لم يكن مشكلة في هذا الموضوع، إن كانت الآية الثانية مرتبطة بالآية الأولى كما يبدو.. إنه مجرد احتمال نثيره، وربما يخطر في البال أن كلمة ﴿أَذًى﴾، التي كانت عنوان المنع في الجماع في الحيض، قد تكون أكثر صدقا وتأثيرا في الوطء في الدبر من حيث الإيحاء بالقذارة من جهة، وإيذاء المرأة من جهة أخرى، فإن الله لم يجعله في تكوينه العضوي معدّا لذلك من خلال عضلاته، كما هو الحال في الفرج، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن وجه الشبه لا بد من أن يكون‏ ملحوظا في المشبه والمشبّه به في أسلوب الاستعارة، وهذا غير متحقق إلا في الموضع الطبيعي، لأنه موضع النطفة، تماما كما هي الأرض موضع البذرة، مما يوحي بالإعداد النوعي بعيدا عن الغرض الشخصي للرجال، فإن المسألة المطروحة ليست في إرادة الرجل للولد وعدم إرادته له من خلال عملية الجماع، ليقال إن الجماع أعم من ذلك، فيمكن ـ على هذا ـ إرادة الحرث بمعنى حركة المحراث في الأرض المستعارة لحركة الذكر في الفرج، بعيدا عن النتائج، بل المسألة هي في طبيعة كلمة الحرث التي تختزن معنى إلقاء البذر في المحل، من حيث وضعها اللغوي، مما لا ينسجم إلا مع الموضع الطبيعي للجماع، فلا انسجام من الناحية البلاغية للاستعارة بدونه.

19. أما توجيه كلمة: ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ على هذا الاحتمال، فقد يكون المراد به (من أين)، أي: من أية جهة شئتم، في مقابل قول اليهود على ما جاءت به رواية سبب النزول المتقدمة، وقد يكون المراد به (كيف شئتم)، أي: على أية حالة تحبونها في كيفية الجماع، من الخلف، أو الأمام، أو بأسلوب معين.. يتنوع حسب تنوع الأوضاع التي قد تتعدد بأشكال مختلفة لدى الناس، الذين يعملون على تطوير أساليب الجماع بطريقة بأخرى، مما يتفنن الناس في اختراعه طلبا لتجديد فيه، وقد يكون المراد به (حيث شئتم)، بمعنى في أي مكان شئتم، على أساس حرية الإنسان في ممارسة هذا العمل في أي مكان.

20. يجمع هذه الوجوه إطلاق الحرية للإنسان في اختيار الوضع الذي يحبه، أو الجهة التي ينطلق منها، أو المكان الذي يمارس فيه، بعيدا عن موضع الجماع لأنه مما لا يحتاج إلى بيانه في المجرى العملي العام، باعتبار أن الحالة الشاذة قد تكون موضع رغبة، ولكنها لا تمثل الرغبة العامة في الوضع الطبيعي، والله العالم.

21. ربما يوحي هذا التعبير عن المرأة بأنها (حرث للرجل) بعض الشعور بالانزعاج لدى النساء، لأنه يصورها بصورة الأرض التي تتلقى البذور من خلال آلية الزرع، فتكون البذور هي سر الحياة، بينما لا دور للأرض إلا الانفعال الذي لا يعبر عن ذاتية حيوية في تلك العملية، وقد يتحدث البعض عن التعبير عن عملية الجنس بالوطء ـ كما هو التعبير الفقهي للمسألة ـ الذي يوحي بأن المرأة موطوءة تماما كما هي الأرض التي توطأ بالأقدام، لتكون صورتها صورة المنسحقة تحت الرجل، مما يحمل أكثر من إيحاء بالمهانة المعنوية، فهي شيء (يحرث) و(يوطأ) ويبقى (تحت الرجل)، ولكننا نتصور، في التعليق على ذلك، أن المسألة التعبيرية لا تتجه هذا الاتجاه، لأن القضية تتصور بالصورة في تشبيه المرأة بالأرض التي تتلقى البذور، لتمنحها كل عناصرها الحية في عملية تفاعل حيّ، فتتحول البذور إلى كائن يمتلئ بالحياة وبالنمو المتحرك الفاعل الذي يتطور في الأرض، ليكون شجرة تنتج ما لذ وطاب من الفواكه والثمار، ويتحرك في المرأة ليكون إنسانا سويّا ممتلئا بالحيوية والحركة والإرادة والعطاء المميز للحياة، فليس الإنسان وليد البذرة التي يضعها الرجل في رحم المرأة، بل هو وليد المزيج من نطفة الرجل وبويضة المرأة، ثم الغذاء المتنوع الذي تمنحه المرأة للمخلوق المتحرك في رحلة الحياة، تماما كما هي الأرض في عطائها المستمر للنبتة الوليدة حتى تكون شجرة، ويبقى العطاء بعد ذلك للشجرة، كما يبقى العطاء للوليد بعد الولادة من خلال إرضاع الأم له، الأمر الذي قد يوحي بأن الأم هي التي تعطى الوليد ـ الإنسان أكثر عناصر وجوده ـ ولذلك فإن عملية (الحرث) لم تكن عملية انفعال، بل هي عملية تفاعل بين‏ الرجل والمرأة، مما يجعل من كلمة (الحرث) تعبيرا عن هذا المزيج المركب من عنصر الحياة في الرجل والمرأة.

22. ربما كان من الضروري أن ندرس الكلمة في إيحاءاتها الإيجابية في المضمون والمعنى، بدلا من الإيحاءات السلبية في الشكل والصورة، أما كلمة (الوطء) أو (تحت الرجل)، فإنها تمثل الوضع الطبيعي لعملية الجماع الذي ينحني فيه جسد الرجل على جسد المرأة، فليست القضية قضية وطء للإنسانية، أو تحتية معنوية للمرأة، بل هي قضية شكل عادي من أشكال العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة من خلال الخصوصيات الذاتية للمسألة، من دون أن يكون لذلك أي مدلول سلبي في المسألة الإنسانية المعنوية التي تنتقص من مكانة المرأة، فربما يكون (الفوق) في المادة (تحتا) في الروح وفي المعنى، بينما يكون (التحت) في الواقع (فوقا) في القيمة، وقد يتساويان.

23. إن قيمة النص القرآني، هو أنه يعمل على أن يسمّي الأشياء بأسمائها، تدليلا على واقعية الحياة الإنسانية بصورتها الطبيعية في حركة الإنسان في نفسه وفي العلاقات الإنسانية بين الناس، فهو يتحدث عن الجنس كما يتحدث عن الطعام والشراب، مع بعض ألوان الاستعارة والكناية في أسلوب التعبير، للتخلص من بعض المشاعر الحادّة السلبية في بعض التعابير، لكن بعض الكتّاب يحاولون التفلسف في بعض الإيحاءات التي لا توحي بها الكلمة، من خلال العقدة اللاشعورية تجاه الدين.

24. إننا نحب أن نقول لهم: إن الكلمة عندما تنطلق من وجدان قائلها، فقد ينفتح على أفق معين في بعض الحالات، كما ينفتح على أفق آخر في حالة أخرى، فلا بد ـ في استيحاء الكلمة ـ من قراءة الكلام من الأفق الذي ينطلق من عمق الوجدان النفسي والفكري للمتكلم، لا من الأفق المملوء بالضباب في وجدان القارئ أو السامع الذي ينتقل من عقدة إلى عقدة في الفهم، حتى‏ يحوّل المعنى البسيط إلى معنى معقّد، ولا بد في هذه الأمور من الرجوع إلى السنة والتمييز بين صحيح الحديث وضعيفة، لنخلص إلى النتيجة الحاسمة في معرفة الحكم الشرعي، والله أعلم بحقائق أحكامه.

25. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لا يبعد أن تكون هذه الفقرة من الآية جارية على الأسلوب القرآني، الذي جرى في أكثر من مجال، على اتباع الحكم الشرعي بالإيحاء للإنسان بالجانب الروحي الأخروي الذي يتعلق بقضية المصير، من أجل أن يتحقق له إلا الانضباط الواعي، الذي يدفعه إلى مواجهة الطاعة بقوّة وإيمان ووعي وامتثال.. فقد تحدثت الآيتان عن بعض جوانب التحليل والتحريم، فكان من المناسب أن يطلب من المكلف أن يقدم لنفسه ما يشاء من الأعمال الصالحة التي ترفع درجته عند الله، وأن يتقي الله في نفسه فلا يرتكب ما حرمه الله عليه، وأن يعلم أنه سيلاقي الله غدا ليحاسبه على ما عمل من خير أو شر، ثم أطلق البشارة للمؤمنين، لأنهم الذين استطاعوا أن يسيروا على الخط المستقيم في عقيدتهم، وعملهم فحصلوا على خير الدنيا والآخرة، وذهب البعض إلى أن معنى التقديم هنا طلب الولد، فإن في اقتناء الولد الصالح يكون تقديما عظيما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم‏: (إذا مات المؤمن، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وذهب بعض آخر إلى غير ذلك، مثل الدعاء عند الجماع، أو التسمية عنده، أو التزوج‏ بالعفائف.. ولكن جو الآية ـ في ما نفهم ـ بعيد عن ذلك كله، والله العالم بأسرار آياته..

26. إن المنهج القرآني التربوي يؤكد دائما على صلة الإنسان بالله، حتى لا تكون له صلة بأحد أكثر من صلته بربه، لأن الله هو الذي خلقه ورزقه ورعاه في حياته، ويرعاه بعد موته ليمنحه رضوانه وليدخله في نعيم جنته؛ ولأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن ربه في أية لحظة من عمره وفي أية مرحلة من مراحل حياته، مما يفرض عليه أن يستجيب له، ويخضع له، ويطيعه ويذوب في حبه وفي ربوبيته، فذلك هو سبيل سعادته.

27. ومن هنا أراد الله للإنسان، في هذه الآية المشتملة على بعض أوامره ونواهيه، أن يقدم لنفسه عملا يرفعه إلى المقامات العليا من رضوانه، وأن يلتزم خط التقوي الذي يمثل شمول الإسلام في مفاهيمه وأحكامه المنفتحة على وحي الله، فإن خير الزاد الذي يحمله الإنسان بين يديه، ويقدمه لآخرته هو التقوي التي يلتزمها أولو الألباب الذين يعرفون، بوعي الوجدان الفطري العقلي، أن الخوف من الله هو الذي يمنح الإنسان الانضباط في خطواته، لأنه ليس الخوف الذي يسحق الإنسان في ذاته، بل هو الذي يرتفع بإنسانيته إلى السموات العلى التي تحلّق آفاقها في رحاب الروح، فإن الإنسان يولد من جديد، عندما يذوب في الله ويغيب في أعماق الخوف ـ الحب، لا الخوف ـ الخوف، وهذا هو الفرق بين الخوف من الناس والخوف من الله، فإن الأول يوحي للإنسان بالضعف والجفاف، ولكنه في الثاني يوحي له بالقوة والحيوية والعنفوان.

28. ثم أراد له أن يذكّر نفسه دائما بأنه سيلاقي الله، وسيقدم حسابه بين يديه مما أسلفه من أعماله وأقواله في الدنيا، ليعمق مثل هذا الإيمان الداخلي العميق بلقاء الله الذي يملك الأمر كله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19] حيث ينادي المنادي: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [المؤمن: 16] ليأتي الجواب حاسما: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [المؤمن: 16] يوم: ﴿تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 30]، فإذا عاش هذا اليقين العقيدي كما لو كانت الآخرة ماثلة بين عينيه، فإنه سوف يحرك خطواته في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، فيعيش إيمانه فكرا وعقيدة وقولا وعملا وحركة.. في الاتجاه الصحيح والصراط القويم، ليتلقى البشارة من الله، على لسان الملائكة، مع المؤمنين: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: 46]

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/244

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. للنساء عادة شهرية تستمر بين ثلاثة إلى عشرة أيام، وخلالها يخرج من رحم المرأة دم ذو أوصاف خاصّة مذكورة في كتب الفقه، والمرأة في هذه الحالة تكون حائضا، وموقف الديانتين اليهودية والنصرانية الحاليتين من المرأة الحائض متناقض يثير الاستغراب.

2. جمع من اليهود قالوا: إنّ معاشرة المرأة الحائض حرام حتّى المجالسة على مائدة الطعام أو في غرفة واحدة، ويذهبون إلى حظر جلوس الرجل في المكان الذي تجلس فيه الحائض، وإن فعل ذلك تنجّست ملابسه وعليه أن يغسلها، وإن‏ رقد معها على سرير واحد تنجّس بدنه ولباسه، فهم يعتبرون المرأة في هذه الحالة موجودا مدنسا يلزم اجتنابه، ومقابل هؤلاء يذهب النصارى إلى عدم التفريق بين حالة الحيض والطهر في المرأة، حتّى بالنسبة للجماع، المشركون العرب، وخاصّة أهل المدينة منهم، كانوا متأثرين بالنظرة اليهودية، ويعاملون المرأة الحائض على أساسها، فينفصلون عنها خلال مدّة الحيض، وهذا الاختلاف في المواقف وما يصحبه من إفراط وتفريط دفع ببعض المسلمين لأن يسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فنزلت الآية.

3. في الآية الأولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهريّة للنّساء، فتقول الآية: ﴿وَيسألونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَأَذىً‏﴾ وتضيف بلا فاصلة ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾، (المحيض) مصدر ميمي ويعني العادة الشهريّة للنساء، وجاء في معجم مقاييس اللّغة أنّ أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تدعى (سمرة) (ثمّ استعملت للعادة الشهريّة للنساء) ولكن ورد في تفسير (الفخر الرّازي) أنّ الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يقال للسّيل عند حدوثه (حاض السّيل) ويقال للحوض هذه اللّفظة بسبب أنّ الماء يجري إليه، ولكن يستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ هذه المفردة في الأصل تعني دم الحيض (ثمّ استعملت في المعاني الأخرى)، فعلى كلّ حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الّذي عرّفه القرآن بأنّه أذى.

4. في‏ الحقيقة أنّ هذه العبارة تبيّن علّة اجتناب الجماع في أيّام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطبّ الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.

5. خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلّخ جداره، ومع هذا الاحتقان يحتقن المبيض أيضا، ودم الحيض في البداية يكون متقطّعا باهت اللون ثمّ يزداد ويحمرّ ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطّع الباهت‏.

6. الدم الخارج في أيّام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمّع شهريا في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل، ذلك لأنّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر ببويضة إلى الرحم، وفي نفس الوقت تمتلئ عروق الرحم بالدم استعداد لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته، وإلّا يخرج بشكل دم حيض، من هنا نفهم جانبا آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون الرحم خلالها غير مستعد استعداد طبيعيا لقبول نطفة الرجل، حيث يواجه أذى من جراء ذلك.

7. جملة ﴿يَطْهُرْنَ﴾ بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من المفسّرين، وأمّا جملة ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ فقد ذهب الكثير منهم على أنّها تعني الغسل من الحيض، فعلى هذا الأساس وطبقا للجملة الاولى تكون المقاربة الجنسيّة بعد انتهاء دم الحيض جائزة حتّى لو لم تغتسل، وأمّا الجملة الثانيّة فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها، وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام، ولكن مع الالتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى ونتيجة لها (ولهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ ﴿تَطَهَّرْنَ﴾ أيضا بمعنى الطهارة من دم الحيض، وبذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة، وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحليّة المقاربة الجنسيّة بعد الطهارة من الحيض حتّى قبل الغسل، ولكن لا شكّ في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.

8. الفقرة الثانية من الآية تقول‏ ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أي أن يكون الجماع من حيث أمر الله، وقد تكون هذه الفقرة تأكيدا لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة، وقد يكون مفهومها أوسع بخصوص أنّ الجماع بعد الطّهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضا.

9. هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معا، فالله سبحانه أودع في الرّجل والمرأة الغريزة الجنسيّة لبقاء نوع الإنسان، وهذه الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللّذة الجنسيّة، لكنّ هذه اللّذة مقدّمة لبقاء النوع فقط، ومن هنا لا يجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الاستمناء واللّواط وأمثالهما، لأنّ هذا الطريق نوع من الانحراف عن الأمر التكويني، وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي، يعني أنّ الزوجة بعد طهارتها من العادة الشهريّة ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في الحكم الشرعي.

10. ذهب البعض إلى أنّ مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسيّة مع الزّوجة عن غير الطريق الطبيعي، ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآيات السابقة لم تتحدّث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسّياق‏.

11. الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائيّة من العمليّة الجنسيّة فتقول‏: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة، وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه الله نصف النوع البشري بهذا الشكل؟

12. لو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني، فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.

13. (الحرث) مصدر يدلّ على عمل الزراعة، وقد يدلّ على مكان الزراعة (المزرعة) و(أنّى) من أسماء الشرط، وتكون غالبا زمانية، وقد تكون مكانية كما جاء في قوله سبحانه: ﴿يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ‏﴾

14. يستفاد من الآية الكريمة ـ على افتراض زمانية أنّى ـ الرخصة في زمان الجماع، أي جوازه في كلّ ساعات الليل والنهار، وعلى افتراض مكانية أنّى يستفاد من الآية الرخصة في مكان الجماع ومحلّه وكيفيته.

15. ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدّسة ذخيرة لأخراهم، وبذلك يؤكّد القرآن‏ على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى، وفي حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)، وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنّة هدى سنّها فهي تعمل بها بعد موته وولد صالح يستغفر له)، ووردت بهذه المضمون روايات عديدة أيضا، وقد جاء في بعضها ستّة موارد أوّلها الولد الصالح‏، وعلى هذا الأساس يأتي الولد الصالح من حيث الأهميّة إلى جانب الخدمات العلميّة وتأليف الكتب المفيدة وتأسيس المراكز الخيريّة كالمسجد والمستشفى والمكتبة وأمثال ذلك.

16. في ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحا على الإنسان، فإنّ الله تعالى يدعو في هذا الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الانحراف، وتنذر الجميع بأنّهم ملاقو ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.

17. هناك اعتقادات مختلفة في الأقوام السّالفة حول العادة الشهريّة للنّساء، فاليهود يشدّدون أمرها ويعزلون المرأة في هذه الأيّام كليّا عن كلّ شيء: عن الأكل والشرب عن المجالسة والمؤاكلة والمضاجعة، وقد وردت في التوراة الحاليّة أوامر متشدّدة في هذا الصّدد، وعلى العكس من ذلك النّصارى حيث لا يلتزمون بأيّة محدوديّة في هذه الأيّام، فلا فرق بين حالة الحيض والطّهر لدى المرأة، المشركون العرب ليس لديهم حكما خاصّا في هذا المجال، ولكنّ أهالي المدينة كانوا متأثّرين بآداب اليهود وعقائدهم في معاشرتهم للنّساء أيّام الحيض فكانوا يتشدّدون مع المرأة في هذه الأيّام، في حين أنّ سائر العرب لم يكونوا كذلك، بل قد تكون المقاربة الجنسيّة محبّبة لديهم فيها، ويعتقدون أنّه لو حصل من تلك المقاربة ولد فإنّه سوف يكون فتّاكا ومتعطّشا للدّماء، وهذه من الصّفات المتميّزة والمطلوبة لدى أعراب البادية.

18. إنّ اقتران الطهارة والتوبة في الآية الكريمة يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الطّهارة تتعلّق بالطّهارة الظاهريّة والتوبة إشارة إلى الطّهارة الباطنيّة، ويحتمل أيضا أنّ الطهارة هنا عدم التلوّث بالذنب، يعني أنّ الله تعالى يحب من لم يتلوّث بالذنب، وكذلك يحب من تاب بعد تلوّثه، ويمكن أن تشير مسألة التوبة هنا إلى أنّ بعض الناس يصعب عليهم السيطرة على الغريزة الجنسيّة فيتلوّثون بالذّنب والإثم خلافا لما أمر الله تعالى، ثمّ يعتريهم النّدم على عملهم ويتألمون من ذلك، فالله سبحانه وتعالى فتح لهم طريق التوبة كيلا يصيبهم اليأس من رحمة الله.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/130

100. الأيمان واللغو والإصلاح

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈100⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 224 ـ 225]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: اللغو: اليمين في حال الغضب والضجر، من غير عزم، ولا عقد(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٥

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّها قالت: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله(1).

2. روي أنّها قالت: أنزلت هذه الآية: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ في قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، يصل بها كلامه(2).

3. روي أنّها قالت: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هو القوم يتدارؤون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم(3).

روي عن عطاء الخراساني أنه سئل عن اللغو في اليمين، فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: هو كلام الرجل في يمينه: كلا والله، وبلى والله(4).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٣١

(2) مالك في الموطأ: ٢/٤٧٧

(3) عبد الرزاق في التفسير: ١/٩٠

(4) أبو داوود: ٥/١٥٦ ـ: ١٥٧

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير؛ الأمر الحسن يقول: حلفت، قال الله: افعل الذي هو خير، وكفر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٦

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ لا تجعلني في عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك، واصنع الخير(1).

2. روي أنّه قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته، ولا يتصدق، أو يكون بين رجلين مغاضبة فيحلف لا يصلح بينهما، ويقول: قد حلفت قال يكفر عن يمينه(2).

3. روي أنّه قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله؛ فنهى الله عن ذلك(1).

4. روي أنّه قال: لغو اليمين: لا والله، وبلى والله(3).

5. روي أنّه قال: لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان(4).

6. روي أنّه قال: اللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقا، وليس بحق(5).

7. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله أو لا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمر الله أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، ومن اللغو أيضا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في ظنه، فهذا الذي عليه الكفارة، ولا إثم فيه(5).

8. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ لغو اليمين: أن تحرم ما أحل الله لك، فذلك ما ليس عليك فيه كفارة(6).

9. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ ما تعمدت قلوبكم فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة(7).

10. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ من الشك، والنفاق(7).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٨

(2) ابن جرير: ٤/٦

(3) سعيد بن منصور: ٧٨٣ ـ تفسير

(4) سعيد بن منصور: ٧٨٢ ـ تفسير

(5) ابن جرير: ٤/٢٠

(6) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٨

(7) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٠

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه(1).

2. روي أنّه قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، أولا تقرأ فتفهم!؟ قال الله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: ٨٩] فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (2).

3. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله؟ قال: لا، ولكنه تحريمك ما أحل الله لك، فذلك الذي لا يؤاخذك الله بتركه، وكفر عن يمينك(3).

4. روي أنّه قال: كان الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيغضبه أحدهما، أو يتهمه؛ فيحلف أن لا يتكلم بينهما في الصلح؛ فنزلت الآية كان هذا قبل أن تنزل كفارة اليمين(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يعني: ذا تجاوز عن اليمين التي حلف عليها، ﴿حَلِيمٌ﴾: [إذ لم يجعل فيها الكفارة، ثم نزلت الكفارة؟] (5).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٩١

(2) ابن جرير: ٤/٢٨

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٠

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٠٧

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٤١١

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً﴾ هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس، وأمر أن يتقي الله، ويصلح بين الناس، ويكفر عن يمينه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبر، ولا تعمل خيرا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطع(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينسى، فلا يؤاخذه الله به، ولكن يكفر(3).

4. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو لا يؤاخذ به(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به(5).

6. روي أنّه قال: لغو اليمين: أن يصل الرجل كلامه بالحلف: والله ليأكلن، والله ليشربن، ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفا؛ ليس عليه كفارة(6).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٨

(2) ابن جرير: ٤/٩

(3) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٩١

(4) ابن جرير: ٤/٢٢

(5) ابن جرير: ٤/٣٦ ـ: ٣٧

(6) ابن جرير: ٤/٣٠

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ هو الرجل يحرم ما أحل الله له على نفسه، فيقول: قد حلفت، فلا يصلح إلا أن أبر يميني، فأمرهم الله أن يكفروا أيمانهم، ويأتوا الحلال(1).

2. روي أنّه قال: كان قوم حلفوا على تحريم الحلال، فقالوا: أما إذ حلفنا وحرمنا على أنفسنا فإنه ينبغي لنا أن نبر، فقال الله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٢٢٤]، ولم يجعل لها كفارة؛ فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُم﴾ [التحريم: ١ ـ ٢]، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالكفارة.. ثم أنزل الله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ (2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٧

(2) الدرّ المنثور: ابن المنذر

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾، فأمروا بالصلة، والمعروف، والإصلاح بين الناس، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما: والله، لا أبيعك بكذا وكذا، ويقول الآخر: والله، لا أشتريه بكذا وكذا، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾: حلف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف؛ كقوله: إن هذا البيت لفلان، وليس له، وإن هذا الثوب لفلان، وليس له(3).

4. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما: والله، لا أشتريه منك بكذا، ويقول الآخر: والله، لا أبيعك بكذا وكذا(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾: ما عقدت عليه(3).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٤ ـ: ٢٣٥

(2) ابن جرير: ٤/١٩

(3) تفسير مجاهد: ص٢٣٥

(4) ابن جرير: ٤/٣٠

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتل بيمينه، يقول الله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾ هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفرت عن يمينك، وفعلت الذي هو خير لك(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٩٢

ابن يسار:

روي عن سليمان بن يسار (ت 107 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ الخطأ غير العمد(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٢٠

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ لا تعتلوا بالله، لا يقول أحدكم: إني آليت أن لا أصل رحما، ولا أسعى في صلاح، ولا أتصدق من مالي، كفر عن يمينك، وائت الذى حلفت عليه(1).

2. روي أنّه قال: كان الرجل يقال له: لم لا تبرّ أباك أو أخاك أو قرابتك أو تفعل كذا لخير؟ فيقول: قد حلفت بالله لا أبره، ولا أصله، ولا أصلح الذي بيني وبينه، يعتل بالله؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ (2).

__________

(1) البيهقي في السنن الكبرى: ١٠/٣٣

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٢٧

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ هو الرجل يصلح بين الرجلين، فيحمل ما بينهما من الإثم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾، يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه، وما أشبه ذلك، أولا يكلم أمه(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/112

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾ لا تعتلوا بالله، أن يقول أحدكم: إنه تألى أن لا يصل رحما، ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدق من ماله، مهلا مهلا! بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تنفذوا له أمرا في شيء من نذوركم، ولا أيمانكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٦

(2) ابن جرير: ٤/٣٩

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ معناه لا تنصبوه نصبا؛ وهو الرّجل يحلف في الأمر فيجعل يمينه عرضة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾: فاللّغو: أن يحلف الرّجل على شيء وهو يظن أنه كذلك.. ويقال إنّ اللّغو: هو قول الرّجل لا والله، وبلى والله، وهو لا يريد أن يكلّم بها أحدا، أو يقطع بها مال إنسان(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 99

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، أما: ﴿عُرْضَةً﴾ فيعرض بينك وبين الرجل الأمر، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله، وأما: ﴿تَبَرُّوا﴾ فالرجل يحلف لا يبر ذا رحمه، فيقول: قد حلفت، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبره، ولا يبالي بيمينه، وأما: ﴿تُصْلِحُوا﴾ فالرجل يصلح بين الاثنين، فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٧

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدا يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾، مثل قول الرجل: هو كافر، وهو مشرك، لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾: مثل قول الرجل: هو كافر، وهو مشرك، لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٣٢

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: كان الرجل يحلف ألا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾ (1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري، وذلك أنه كان بينهما شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته، وجعل يقول: قد حلفت بالله ألا أدخل؛ فلا يحل لي إلا أن أبر يميني، فأنزل الله هذه الآية(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٣

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، إذا دعيت لتصلح بين اثنين، فلا تقل: علي يمين أن لا أفعل(1).

2. روي أنّه قال: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإنه عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾(2).

3. روي أنّه سئل عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، قال: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله(3).

4. روي أنّه قال: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإن الله يقول: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم﴾، وإذا استعان رجل برجل على صلح بينه وبين رجل، فلا يقولن: إن علي يمينا أن لا أفعل وهو قول الله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾(4).

5. روي أنّه قال: اجتمع الحواريّون إلى عيسى عليه السّلام فقالوا له: يا معلّم الخير أرشدنا، فقال لهم: إنّ موسى كليم الله عليه السّلام أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح الله زدنا، فقال: إنّ موسى نبيّ الله عليه السّلام أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزنا فضلا عن أن تزنوا، فإنّ من حدّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت(5).

6. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ [المائدة: 89]، قال: اللغو: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، ولا يعقد على شيء(6).

7. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾، قال: هو لا والله، وبلى والله، وكلا والله، ولا يعقد عليها، أولا يعقد على شيء(4).

__________

(1) الكافي: 2/167

(2) الكافي: 7/434

(3) تفسير العيّاشي: 1/111

(4) تفسير العيّاشي: 1/112

(5) الكافي 5/541

(6) الكافي: 7/443

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لليمين؛ لقولهم: حلفنا عليها، ﴿عَلِيمٌ﴾ يقول: عالم بها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾، يعني: بما عقدت قلوبكم من المأثم، يعني: اليمين الكاذبة التي حلف عليها وهو يعلم أنه فيها كاذب، فهذه فيها كفارة(1).

3. روي أنّه قال:: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يعني: ذا تجاوز عن اليمين التي حلف عليها، ﴿حَلِيمٌ﴾: [حين لا يوجب فيها الكفارة، ثم نزلت الكفارة في سورة المائدة فبين فيها؟] (1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٣

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم﴾ اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوا، وهو أن يقول: هو كافر بالله، وهو إذا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلها، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم﴾ بما كان في قلوبكم صدقا واخذك به، فإن لم يكن في قلبك صدقا لم يواخذك به، وإن أثمت(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٠

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ولا تجعلوا أيمانكم علة تعرض وتقطع بينكم وبين طاعة الله في صلة أرحامكم، والإصلاح بين إخوانكم؛ بل بروا واتقوا، وتحروا الخير وأصلحوا، وعن إيمانكم كفروا، وقد يدخل في تفسير هذه الآية: أن يكون الله سبحانه نهى عباده عن القسم به في كل حق وباطل، وأن يجعله عرضة ليمينه في النازل وغير النازل.

1. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ الأيمان ثلاث: فمنهن اللغو، وكسب القلب، وما عقدت عليه الأيمان، فأما اللغو: فاليمين يحلف بها الحالف، وهو يظن أنه صادق فيها، ولا يكون الذي حلف عليه كما حلف، فهاتيك لغو، وليس عليه فيها كفارة، ولا ينبغي له أن يعود لمثل ذلك، وينبغي له أن يتحرز من اليمين بالله إلا في اليقين، فهو غير آثم فيها، وكسب القلوب هو: ما حلف عليه كاذبا، وهو يعلم أنه كاذب، يتعمد ذلك تعمدا، في بيع أو شراء أو غير ذلك من المحاورة في الاشياء؛ فليس في ذلك كفارة، وفيها التوبة إلى الله، والانابة والرجعة عن الخطية إلى الله عز وجل والاستقالة.. وأما المعقدة من الأيمان هو: ما حلف الرجل أن لا يفعله، أو أقسم فيه أن يفعله، وهو عازم على التمام على يمينه والوفاء، ثم يرى غير ذلك خيرا منه فيفعله، فعليه في ذلك كفارة اليمين.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/103

المرتضى:

قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): قد سئل عن هذه المسألة جدي القاسم بن إبراهيم رحمه الله، فقال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾: لا تكثروا الحلف بالله في كل حال، وعند كل مقام، ووقروا الله وأجلوه عن أن تجعلوه عرضة لأيمانكم، وإن أصلحتم بين الناس، وإن أردتم بأيمانكم الإصلاح(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/104

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ قيل‏: كان الرجل يحلف ألا يصنع المعروف، ولا يبر، ولا يصلح بين الناس، فإذا أمر بذلك، قال إني حلفت على ذلك، فنهوا عن ذلك، يقول: لا تحلفوا على أمر هو لي معصية ألا تصلوا القرابة، وألا تبروا، وألا تصلحوا بين الناس، وصلة القرابة خير لكم من الوفاء باليمين في معصية الله تعالى، و(العرضة) العلة، يقول: لا تعللوا، أي لا يمنعكم أن تبروا أو ما ذكر.

2. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ حرفان يخرجان على الوعيد: ﴿سَمِيعٌ﴾ بمقالتكم وأيمانكم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بإرادتكم في حلفكم.

3. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ إن كسب القلوب لا يكون عقدا ولا حنثا، إنما هو تعمد الكذب، كقوله: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: 5] فعلى ذلك أمر يمين اللغو والتعمد، وهذا يبين أن اليمين يكون في موجود، لا فيما يوجد؛ إذ فيه وصف المآثم، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه، فعلى ذلك أمر اللغو؛ فهو في الماضي ولا يأثم بالخطإ، ويأثم في غير اللغو بالتعمد.

4. ثم قال الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: 89]، وبين أن المؤاخذة تكون في هذا بالكفارة وفى الأول بالمأثم، وفى اللغو لا يؤاخذ بهما، فلزم تسليم البيان لما جاء في كل ذلك، ثم جميع المؤاخذات في كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة؛ فكذا في هذا، وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في أمر اللعان، أنّه قال: إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة، مع ما في تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن، ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان؛ فهي أحق أن يبين لو كانت واجبة، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث، والحنث عقيب العقد يدفعه، وكان هاهنا ملاقيا له، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التي تفسخ الأشياء، فهي عند الابتداء تمنع، وليس ذلك كالطلاق ونحوه؛ لما قد يكون بلا شرط، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ.

5. ﴿وَاللَّهُ﴾ وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف بالله كاذبا والجرأة على الله، فيجيء أن يكون كفرا، لولا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد الاستخفاف به، وعلى ذلك أمر اللعان، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يقل: أحدكما كافر، فهل منكما من مؤمن؟ لأنهما لم يقصدا ذلك القصد، فكذا كل حالف على تعمد الكذب.

6. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ قال سعيد بن جبير: هذا محمول على قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا يؤاخذكم الله بنقض أيمانكم التي حلفتم بها؛ لأنها معصية لله، ولكن يؤاخذكم بحفظها والمضي عليها.

7. اختلفوا في اللغو ما هو:

أ. قال بعضهم: هو الإثم.

ب. وقيل: هو الغلط.

8. اللغو المذكور الذي أخبر أن لا مؤاخذة على صاحبه يحتمل ألا يؤاخذه بالإثم، ويحتمل ألا يؤاخذه بالكفارة، بل إنما يؤاخذ بالكفارة بما يعقد، ثم ذكر في الآية الثانية: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: 89]، ولو حمل على أنه لا يؤاخذ في هذا أيضا بالإثم وقع الكلام ـ بحيث لا يفيد ـ في حد التكرار، والأصل عندهم: بأن حمله على ما يفيد أحق من حمله على ما لا يفيد؛ فثبت أن الأول في نفى الإثم، والثاني في نفى الكفارة، وعلى هذا القول في الغموس: إنه لعظم الوزر والإثم لم يلزم أن يكفر، فليس فيه الكفارة، وله وجه آخر: وهو أن سبب الحنث في اللغو والغموس تلاقى العقد، فلم يصح به اليمين؛ لأن الحنث نفسه يسقط اليمين، فإذا لاقى الحنث اليمين منع صحتها ووجوبها، فإذا كانت هذه اليمين غير صحيحة في العقد، لم يلزم الكفارة؛ لخروجها عن الشرط، ثم لم يزل عنه ـ في الغموس ـ الإثم؛ لتعمده الكذب.

9. القياس في التعمد بالحلف على الكذب أن يكفر؛ ولهذا ما لحقه الوزر لما أن الأيمان جعلت للتعظيم لله ـ تعالى ـ بالحلف فيها، والحالف بالغموس مجترئ على الله ـ تعالى ـ مستخف به؛ ولهذا نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الحلف بالآباء والطواغيت‏؛ لأن في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا، فالحالف بالغموس كالذي هو مجترئ ومستخف، فالوزر له بالجرأة لازم، ثم المعتمد مجترئ مستخف بالله ـ تعالى ـ على المعرفة؛ لأنه لا يسع، فسبيله سبيل أهل النفاق ـ إظهارهم الإيمان بما فيه استخفاف، وإن كان سببا للتعظيم، للاستخفاف لزمهم العقوبة بذلك، كذا الأول، ولكنه بالحلف خرج فعله على الجرأة للوصول إلى مناه وشهوته، لا للقصد إليه، وعلى ذلك يخرج قول أبى حنيفة في سؤال السائل: إن العاصي مطيع للشيطان، ومن أطاع الشيطان كفر، كيف لا كفّر العاصي؟ فقال: لأنه خرج فعله في الظاهر مخرج الطاعة له، لا أن القصد يكون طاعته، وإنما يكفر بالقصد لا بما يخرج فعله فعل معصية؛ فكذا الأول، وعلى ذلك جاء في أمر اللعان من القول بأن (أحدكما كاذب فهل منكما من تائب)، ففيه وجهان:

أ. أحدهما: أنه لم يأمر بالإيمان، ولا قال أحدكما كافر؛ فثبت أنه لا يكفر به.

ب. الثاني: أنه أمر بالتوبة، وقد يعلم من كذب أن عليه ذلك مع ما في القرآن من اللعن والغضب، ولم يأمر بالكفارة ـ وهى لا تعلم إلا بالبيان ـ فهي أحق أن تبين لو كانت واجبة.

10. الأصل عندنا(2) في اليمين الغموس: أنه آثم، وعليه التوبة، والتوبة كفارة، وهكذا في كل يمين في عقدها معصية أن تلزمه الكفارة وهى التوبة، وأما الكفارة التي تلزم في المال، فهي لا تلزم بالحنث؛ لأنه بالحنث يأثم، والحنث نفسه إثم؛ لذلك لم يجز إلا بالحنث، وما روي من الأخبار من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير): أنه إذا كان يمينه بمعصية يصير باليمين آثما، فيكلف بالتوبة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/140

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي لا تحلفوا إذا عصيتم، ولا تجعلوا اليمين عرضة تعرض بينكم وبين طاعة ربكم، فتحلفوا ألا تبروا وألا تصلحوا بين الناس، بل كَفِّرُوا عن أيمانكم، وبروا واتقوا وأصلحوا.

2. معنى قوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾: أي لا يؤاخذكم باليمين على الظن خطأ غير متعمدين، وهو أن يحلف الحالف على شيء لم يتعمد فيه الكذب، ثم يتبين له أنه لم يكن على ما ذكر، ولكن يؤاخذ بالكذب، وهو كسب القلب، ويعذب مَن فَعله.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 285

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا﴾ والعرضة العلة يعتل بها الرجل في بره وهو أن يمتنع من الخير والإصلاح بين الناس ويقول: علي يمين أن لا يفعل ذلك ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ في أيمانكم ويحتمل أن تبروا أرحامكم وتصلحوا بين الناس وهو الإصلاح المعروف.

2. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ أما اللغو في كلام العرب فهو كل كلام كان مذموماً وفضلاً لا معنى فيه مهجوراً يقال: لغا في قوله إذا هجر وقال قبيحاً ومثله ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص:55]، واللغو الذي لا يؤاخذ الله به هو أن يحلف الرجل على أمر ماض أنه كذا فيبدوا له أنه بخلافه أو يحلف على أمر ماض وهو يعلم أنه كاذب فهذا يجب فيه التوبة أو يحسبه القلب أن يعقد يمينه على أمر مستقبل أن يفعل ولا يفعل فيحنث فيه فعند ذلك تجب عليه الكفارة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/110

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ أما العرضة في كلام العرب، فهي القوة والشدة، وفيها هاهنا تأويلان:

أ. أحدهما: أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل، فتتبذل اسمه، وتجعله عرضة.

ب. الثاني: أن معنى عرضة، أي علة يتعلل بها في برّه، وفيها وجهان:

أحدهما: أن يمتنع من فعل الخير والإصلاح بين الناس إذا سئل، فيقول عليّ يمين أن لا أفعل ذلك، أو يحلف بالله في الحال فيعتلّ في ترك الخير باليمين، وهذا قول طاووس، وقتادة، والضحاك، وسعيد بن جبير.

الثاني: أن يحلف بالله ليفعلن الخير والبر، فيقصد في فعله البر في يمينه، لا الرغبة في فعله.

2. 3. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن تبروا في أيمانكم.

ب. الثاني: أن تبروا في أرحامكم.

4. ﴿وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ هو الإصلاح المعروف‏ ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سميع لأيمانكم، عليم باعتقادكم.

5. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ اللغو في كلام العرب، هو كل كلام كان مذموما، وفضلا لا معنى له، فهو مأخوذ من قولهم لغا فلان في كلامه إذا قال قبحا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55]

6. في لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها، ستة تأويلات:

أ. أحدها: ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، وهو قول عائشة، وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي، روى عبد الله بن ميمون، عن عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال مر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقوم ينضلون يعني يرمون، ومع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال أصاب والله، أخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال: (كلّا أيمان الرّماة لغو ولا كفّارة ولا عقوبة)

ب. الثاني: أن لغو اليمين، أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه، ثم يتبين أنه بخلافه، وهو قول أبي هريرة.

ج. الثالث: أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن صلة للكلام، وهو قول طاووس، وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاووس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يمين في غضب)

د. الرابع: أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية، فلا يكفر عنها، وهو قول سعيد بن جبير، ومسروق، والشعبي، وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رحم فلا يمين له)

هـ. الخامس: أن اللغو في اليمين، إذا دعا الحالف على نفسه، كأن يقول: إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري، أو قلل من مالي، أو أنا كافر بالله، وهو قول زيد بن أسلم.

و. السادس: أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسيا، وهذا قول النخعي.

7. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أن يحلف كاذبا أو على باطل، وهذا قول إبراهيم النخعي.

ب. الثاني: أن يحلف عمدا، وهذا قول مجاهد.

ج. الثالث: أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر، وهذا قول ابن زيد.

8. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ غفور لعباده، فيما لغوا من أيمانهم، حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/286

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن العرضة: علة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البرّ، والتقوى: من حيث تتعمدوا، لتعتلوا بها، وتقولوا: قد حلفنا بالله، ولم تحلفوا به، هذا قول الحسن، وطاووس وقتادة، وأصله ـ في هذا الوجه ـ الاعتراض به بينكم وبين البرّ والتقوى، للامتناع منهما، لأنه قد يكون المعترض بين الشيئين مانعاً من وصول أحدهما الى الآخر، فالعلة مانعة كهذا المعترض، وقيل: العرضة: المعترض، قال الشاعر: (لا تجعليني عرضة اللوائم)‏

ب. الثاني:(عرضة): حجة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع‏ ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾ بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي هو خير، ولا تحتجوا بما سلف من اليمين، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والأصل في هذا القول والأول واحد، لأنه منع من جهة الاعتراض بعلة أو حجة، وقال بعضهم: إن أصل عرضة: قوة، فكأنه قيل: ولا تجعلوا الحلف بالله قوة لأيمانكم في ألّا تبرّوا وأنشد لكعب بن زهير:

من كل نضّاحة الذّفرى إذا عرقت‏...عُرضتها طامس الاعلام مجهول‏

وعلى هذا يكون الأصل العرض، لأن بالقوة يتصرف في العرض والطول، فالقوة: عرضة لذلك.

ج. الثالث: بمعنى: ولا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل، لأن تبرّوا في الحلف بها، واتقوا المآثم فيها، وهو المروي عن عائشة، لأنها قالت: لا تحلفوا به وإن بررتم، وبه قال الجبائي، وهو المروي عن أئمتنا عليه السلام، وأصله على هذا معترض بالبذل: لا تبذل يمينك في كل حق وباطل، فأما في الأصل، فمعترض بالمنع أي لا يعترض بها مانعاً من البرّ، والتقوى، فتقدير الأول: لا تجعل الله مانعاً من البرّ والتقوى باعتراضك به حالفاً، وتقدير الثاني: لا تجعل الله مما تحلف به دائماً باعتراضك بالحلف في كل حق وباطل، لأن تكون من البررة، والأتقياء.

2. اليمين، والقسم، والحلف واحد، واليمنية: ضرب من برود اليمن، وأخذ يمنة، ويسرة، ويُمن ييمن يميناً، فهو ميمون، ويمن، فهو ميمن: إذا أتى باليمن، والبركة، وتيمن به تيمناً، وتيامن تيامناً، واليمين خلاف الشمال، وأصل الباب اليمن، والبركة.

3. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾: لأن تبروا على معنى الأثبات.

ب. الثاني:أن يكون على معنى لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا ـ في قول‏ أبي العباس.

ج. الثالث: على تقدير: ألّا تبروا، وحذفت (لا) لأنه في معنى القسم كما قال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعداً...ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي‏

أي لا أبرح، هذا قول أبي عبيد، وأنكر أبو العباس هذا، لأنه لما كان معه (أن)، بطل أن يكون جواباً للقسم، وإنما يجوز والله أقم في القسم بمعنى لا أقوم، لأنه لو كان إثباتاً، لقال لأقومن، باللام والنون، والمعنى في قول أبي العباس، وأبي عبيد واحد، والتقدير مختلف، فحمله أبو العباس على ما له نظير من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأنكر قياسه على ما يشبهه.

4. في موضع ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. قال الخليل، والكسائي: موضعه الخفض بحذف اللام مع أن خاصة.

ب. الثاني:قال سيبويه، وأكثر النحويين: إن موضعه النصب، لأنه لما حذف المضاف وصل الفعل وهو القياس.

ج. الثالث: قال قوم: موضعه الرفع على‏ ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أولى، وحذف، لأنه معلوم المعنى، أجاز ذلك الزجاج وإنما حذف اللام جاز مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لأن (أن) يصلح معها الماضي، والمستقبل، نحو قولك جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن تضرب زيداً، والمصدر ليس كذلك، كقولك: جئتك لضرب زيد، فمعنى ذلك: أنه لما وصل بالفعل، احتمل الحذف كما يحتمل (الذي) وإذا وصل بالفعل من حذف ضمير المفعول، ما لا يحتمله الألف واللام إذا وصل بالاسم، نحو الذي ضربت زيد: يريد ضربته، فأما الضاربة أنا زيد، فلا يحسن إلا بالهاء، وذلك لأن الفعل أثقل، فهو بالحذف أولى، ويجوز أن‏ يكون لما صلح للأمرين كثير في الاستعمال، فكان بالحذف أولى مما قل منه، وقال الزجاج إنما جاز حذف اللام مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لأن (أن) إذا وصلت، دل بما بعدها على الاستقبال، والمعنى تقول: جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن تضرب زيداً، فلذلك جاز حذف اللام، فإذا قلت، جئتك ضرب زيد، لم يدل الضرب على مضي ولا استقبال.

5. إذا حلف لا يعطي من معروفه، ثم رأى أن برّه خيراً، أعطاه، ونقض يمينه، وعندنا(2) لا كفارة عليه، وإنما جاز ذلك، لأنه لا يخلو من أن يكون حلف يميناً جائزة أو غير جائزة، فان كانت جائزة، فهي مقيدة بأن لا يرى ما هو خير، فليس في هذا مناقضة للجائزة، وإن كانت غير جائزة، فنقضها غير مكروه.

6. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ معناه: أنه سميع ليمينه، عليم بنيته فيه، وفي ذلك تذكير، وتحذير.

7. اختلفوا في يمين اللغو في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾:

أ. قال ابن عباس، وعائشة، والشعبي: هو ما يجري على عادة اللسان: من لا والله، وبلى والله من غير عقد على يمين يقتطع بها مال، يظلم بها أحد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبى عبد الله عليه السلام.

ب. وقال الحسن، ومجاهد، وابراهيم: هي يمين الظانّ، وهو يرى أنه حلف، فلا إثم عليه، ولا كفارة، روي أيضاً عن ابن عباس، وطاووس أنها يمين الغضبان، لا يؤاخذ بالحنث فيها، وبه قال سعيد بن جبير، إلا أنه أوجب فيها الكفارة.

ج. وقال مسروق‏ كل يمين ليس له الوفاء بها، فهي لغو ولا يجب فيها كفارة، وقال الضحاك: روي أيضاً عن ابن عباس: أن لغو اليمين ما يجب فيه الكفارة، وروي عن إبراهيم: أنها يمين الناسي إذا حنث، وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل: أعمى الله بصري، أو أهلك الله مالي، فيدعو على نفسه.

8. أصل اللغو: هو الكلام الذي لا فائدة فيه، وكل يمين جرت مجرى مالا فائدة فيه حتى صارت بمنزلة ما لم يقع، فهي لغو ولا شئ فيها، وهو اختيار الرماني، تقول: تقول: لغا يلغو لغواً: إذا أني بكلام، وألغى إلغاء: إذا أطرح الكلام، لأنه لا فائدة فيه، وقوله: ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ معناه: ارفعوا الصوت بكلام لا فائدة فيه، والحساب الذي يلغى: أي يطرح، لأنه بمنزلة كلام لا فائدة فيه، ولاغية: كلمة قبيحة فاحشة، ومنه اللغا، لأنها كلام لا فائدة فيه عند غير أهله، وهو مشتق من لغا الطائر، وهو منطقه، وقال ابن صغير المازني:

باكرتم بسباء جونٍ ذارعٍ‏...قبل الصباح وقبل لغو الطائر

9. الأيمان على ضربين:

أ. أحدهما لا كفارة فيها، وهو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه، مثل أن يحلف أنه ما فعل، وكان فعل أو أن يحلف أنه فعل، وما كان فعل، فهاتان لا كفارة فيهما ـ عندنا ـ وكذلك إذا حلف على مال، ليقتطعه كاذباً، فلا كفارة عليه، ويلزمه الخروج مما حلف عليه، والتوبة، وهي اليمين الغموس، وفي هذه أيضاً خلاف، ومنها أن يحلف على أمر فعل، أو ترك، وكان خلاف ما حلف عليه أولى‏ من المقام عليه، فليخالف، ولا كفارة عليه ـ عندنا ـ وفيه خلاف عند أكثر الفقهاء.

ب. والثاني يجب فيها الكفارة، وهو أن يحلف على أن يفعل، أو يترك وكان الوفاء به إمّا واجباً أو ندباً أو كان فعله، وتركه سواء، فمتى خالف كان عليه الكفارة، وقد بينا أمثلة ذلك في النهاية في الفقه.

10. قال الحسن: الأيمان على ثلاثة أقسام:

أ. منها أن يحلف على أمر، وهو يرى أنه على ما حلف، فهذا هو اللغو، لا عقوبة فيه، ولا كفارة.

ب. ومنها: أن يحلف على أمر، وهو يعلم أنه كاذب، فهذا آثم فاجر عليه التوبة، ولا كفارة عليه.

ج. ومنها أن يحلف: لا يفعل كذا، فيفعل، أو يحلف: ليفعلن، ولا يفعل، ففي ذلك الكفارة، وكان يقول: إذا حلف على مملوك، أو على حرّ، فقال: والله لتأكلن من هذا الطعام، فلم يأكل، فعليه الكفارة.

11. وقال: اليمين على أربعة أوجه في قول أكثر الفقهاء: اثنتان: لا كفارة فيها، واثنتان: فيها الكفارة، فالأول ـ قول الرجل: والله ما فعلت، وقد فعل، وقوله: والله لقد فعلت، وما فعل، فهاتان لا كفارة فيهما، لأنه لا حنث فيهما، والثاني:قول الحالف: والله لا فعلت، ثم يفعل، وقوله: والله لأفعلن، ثم لا يفعل، فهاتان فيهما الكفارة، وقد بينا الخلاف في خلاف الفقهاء.

12. الفرق بين اللغا، واللغو، أن اللغا: الذكر بالكلام القبيح، لغيت ألغي لغاً، قال العجاج:

وربّ أسراب حجيج كظّم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏

13. جواب اليمين على أربعة أقسام: اللام، وما، وإنّ، ولا، نحو: والله لآتينك، والله ما فعلت، وو الله إنه لكاذب، وو الله لا كلمته.

14. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فالحلم الامهال بتأخير العقاب‏ على الذنب، تقول: حلم حلماً، وتحّلم تحلماً، وحلّمه تحليماً، وحلم في نومه حلماً: إذا رأى‏ الأحلام، ومنه (أضغاث أحلام)، والحلم الرؤيا في النوم، ومنه الاحتلام، والحَلم: ما عظم من القردان، والواحد حَلَمة، لأنه كحلمة فلأنه وقع فيه الحلم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/226

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. اليمين: القسم، واختلفوا مِمَّ أُخِذَ؟ فقيل: من القوة؛ لأنه يتقوى به على ما يحلف عليه، ومنه:

إِذَا مَا رايَة رُفِعَتْ لِمَجْدٍ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِاليمينِ

وقيل: أخذ من الجارحة التي هي ضد الشمال؛ لأنهم كانوا عند الأيمان يضربون أيديهم على أيديهم فسمي بذلك، وقيل: من اليُمْنِ الذي هو البركة؛ لأنه عقد خير يتبرك بذكره للتأكيد.

ب. العُرضَةُ: أصلها القوة والشدة، ومنه سمي الدابة المعدة للسفر عُرْضَةً، ثم قيل: لكل ما صلح لشيء: هو عرضة له، يقال: هذا عرضة لك، أي عدة تبتذله، قال الشاعر:

فَهَذيِ لِأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ... لِلْهَوَى وَهَذِي عُرْضَةٌ لاِرْتَحِالِيَا

أي عدة وقال أبو العباس: العرضة: الاعتراض في الخير والشر، وقيل: الاعتراض: المنع، وكل شيء منعك فقد اعترض عليك، والعرضة: المانعة من البر، عن الأزهري، وَبَّر وحَنِث في اليمين على التعاقب.

ج. المؤاخذة: مُفَاعَلَة من الأخذ.

د. اللغو: كلام لا فائدة فيه، لغا يَلْغُولغوًا، وأَلْغَى إلغاءً.

هـ. أصل الحلم الأناة، وهو في صفته تعالى: الإمهال بتأخير العذاب.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حلف لا يدخل على أخيه بشير بن النعمان لشيء بينهما، ولا يصلح بينه وبين خصم له، وكان يقول: حلفت بِالله فلا أفعل، فنزلت الآية، عن الكلبي.

ب. وقيل: نزلت في أبي بكر حين حلف ألا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، عن مقاتل.

ج. وقيل: نزلت في أبي بكر حين حلف ألا ينفق على مِسْطَحٍ حين خاض في الإفك عن ابن جريج.

3. لما بَيَّنَ تعالى أحوال النساء، وما يحل منهن عقبه بذكر الإيلاء، وهو اليمين التي تحرم الزوجة، فابتدأ بذكر الأيمان، وفيه مع ذلك بيان شريعة من شرائع الإسلام فقال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. قيل: أي عذرًا وعلة، كأنه قيل: لا تتخذوا اليمين علة مانعة من البر من حيث تحلفون لتعتلوا بها، وتقولوا: حلفنا بِالله، ولم تحلفوا، عن الحسن وطاووس وقتادة، وأصله في هذا الوجه الاعتراض، الذي هو المانع بينكم وبين البر والتقوى.

ب. وقيل: عرضة أي حجة، أي لا تجعلوا اليمين بِالله حجة في المنع من البر والتقوى بأن يكون قد سلف منكم يمين، ثم يظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي هو خير، ولا تحتجوا بما سلف من اليمين، عن ابن عباس ومجاهد والربيع، وأصله في هذا والأول واحد، بأنه منع من جهة الاعتراض بحجة.

ج. وقيل: عرضة أي عدة مبتذلة يعني لا تجعلوا اليمين بِالله مبتذلة وعِدَةً في كل حق وباطل، أن تبروا بالحلف بها، وتتقوا المأثم فيها، عن عائشة وأبي علي والأصم وأبي مسلم، قال أبو مسلم: ومن أكثر ذكر شيء في معنى فقد جعله عرضة له، تقول: جعلتني عرضة لِلَوْمِك، قال الشاعر: (ولا تجعلوني عرضةِ للَّوائِمِ)، أصله على هذا معترض بالتبذل، أي: لا تبتذل يمينك في كل شيء، وتقديره على الوجه الأول والثاني: لا تجعلوا الله مانعًا من البر والتقوى باعتراضكم به حالفًا، وعلى الثالث: لا تجعلوا الله مما يحلف به دائمًا.

5. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ أقوال:

أ. الأول: أن تبروا بمعنى ألا تبروا فحذف: ﴿لَا﴾ عن أبي عبيدة، قال امرؤ القيس:

فَقُلْتُ يَميِنُ الله أَبْرَحُ قَاعِدًا... لًوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكَ وَأَوْصَالِي

أي لا أبرح.

ب. الثاني: لِتَرْكِ أن تبروا في قول ابن عباس فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وتقديره لترك البر، أي لا تحلفوا على ترك البر والتقوى والطاعات.

ج. والثالث: لأن تبروا على معنى الإثبات، ومعنى تبروا قيل: في اليمين، وقيل: إنه من البر يعني ينهاكم عن كثرة اليمين: لِمَا في تَوَقَي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فكونوا يا معشر المسلمين من بين سائر الناس بررة أتقياء مصلحين في الأرض، غير مفسدين، عن أبي مسلم.

6. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ أي تتقوا الإثم والمعاصي في الأيمان: ﴿وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يعني إذا عرفتم بقلة الأيمان وتصلحوا بقولكم: ﴿وَالله سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم: ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في ضمائركم لا تخفى عليه من ذلك خافية.

7. ثم بَيَّنَ تعالى أقسام الأَيْمَانِ فقال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله﴾ لا يعاقبكم.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾:

أ. قيل: اللغو أن يحلف وهو يرى أنه صادق، ثم تبين أنه كاذب، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والربيع والسدي ومكحول، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: ما يصله بكلامه من غير قصد كقوله: لا والله، وبلى والله، عن عائشة والشعبي وعكرمة والشافعي وأبي مسلم.

ج. وقيل: هو يمين الغضبان، عن ابن عباس وطاووس، وروي نحوه عن علي وسعيد بن جبير، غير أنه قال: يحنث ويكفر، وطاووس قال: لا يؤاخذكم بالحنث.

د. وقيل: هو اليمين في المعصية، عن الشعبي والأصم، قال مسروق: كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغو، لا يجب فيها كفارة.

هـ. وقيل: اليمين المكفَّرةُ تسمى لغوًا؛ لأن الكفارة أسقطت الإثم، كأنه قيل: لا يؤاخذكم الله باليمين إذا كَفَّرْتُمْ، عن الضحاك.

و. وقيل: هو أن يحلف ثم يحنث ناسيًا لا يؤاخذ به، عن إبراهيم، ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي عزمتم وقصدتم، وفيه حذف أي من أيمانكم.

9. ﴿وَالله غَفُورٌ﴾ يغفر الذنوب ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل ولا يعجل بالعقوبة.

10. قال أصحابنا(2): الأيمان ثلاث:

أ. اللغو، وقد بيناه ولا إثم فيه ولا كفارة.

ب. الغموس، وهو أن يتعمد بالحلف كاذبًا، وفيه التوبة ولا كفارة، وقال الشافعي: الكفارة أيضًا، وهذان يقعان في الماضي.

ج. المنعقدة على المستقبل أن يفعل أو لا يفعل، فإذا حنث ففيه الكفارة، وهذا قول الحسن وجماعة من الفقهاء، ثم اليمين المنعقدة ثلاث: على طاعة فيجب الوفاء بها، فإن حنث فعليه الكفارة، وعلى معصية فيجب ألا يأتي، فإن أتى عصى الله، وكفَّر عن يمينه، وعند الشافعي لا كفارة، ويمين على مباح، فيخير بين الحنث والبر، فإن حنث فعليه الكفارة.

11. الأيمان على ضربين:

أ. يمين بِالله، أو صفة من صفات ذاته، وفيه الكفارة، كقولك: والله، وقدرة الله.

ب. الثاني: بغير الله فهو على ضربين: إن لم يكن شرطًا وجزاءً فليس بيمين، كقولهم: والقرآن والقبلة، فإن كان شرطًا وجزاء يعد يمينًا في عرف الشرع، كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر ونحوها.

12. إن كانت اليمين بِالله فحروف القسم ثلاثة: الباء، وهي الأصل، ثم الواو فرع عليه، ثم التاء فرع على الواو، فالباء تدخل على جميع الأسماء وعلى المضمرات، والواو تدخل على اسم الله دون المضمرات، والتاء تدخل على اسم الله تعالى فقط، وجواب اليمين على أربعة أوجه: اللام، وما، وإن، ولا، نحو: لأشكرن، وما قلت، وإنه لكاذب، ولا كلمته.

13. تدل الآيات الكريمة على:

أ. المنع من كثرة اليمين.

ب. إباحة اليمين بِالله إذا قصد بها البر.

ج. أن اليمين في غير البر لا تغير البر.

د. أن المتعبد به هو اليمين بِالله تعالى.

هـ. أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرًا منه جاز أن يحنث ويُكفِّرَ عن يمينه على ما وردت به السنة؛ لذلك قال: لا تجعلوه مانعًا من البر.

و. أن الأيمان تنقسم إلى لغو لا يؤاخد به، وإلى غير لغو يؤاخذ به، ثم يحتمل أنه لا يؤاخذ بكفارته، ويحتمل بعقوبته، ويحتمل بهما، وكذلك فيما يؤخذ.

14. في موضع: ﴿إِنَّ﴾ من الإعراب ثلاثة أقوال:

أ. الخفض، عن الخليل، والكسائي على حذف اللام.

ب. الثاني: النصب، عن سيبويه وأكثر النحاة؛ لأنه لما حذف الخافض وصل الفعل إليه فنصبه.

ج. الثالث: على أن تبروا وتتقوا، أو كي، فحذف كي؛ لأنه معلوم المعنى، عن الزجاج.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/898

(2) يقصد الزيدية

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. عرضة: يقال لكل من يصلح للشئ هو عرضة له، والمرأة عرضة للنكاح، والدابة المعدة للسفر عرضة له، وقال الشاعر:

فهذي لأيام الحروب، وهذه...للهوي، وهذي عرضة لارتحالنا

أي: عدة، وقال أبو العباس: العرضة الاعتراض في الخير والشر.

ب. اليمين والقسم والحلف واحد، وقيل: أخذ من القوة لأنه يتقوى به على ما يحلف عليه، ومنه قوله تلقاها عرابة باليمين، وقيل: أخذ من الجارحة، لأنهم كانوا عند الإيمان يضربون أيديهم على أيديهم، فسمي الحلف بذلك، وقيل: أخذ من اليمن الذي هو البركة، لأنه عقد خير يتبرك بذكره للتأكيد

ج. أصل اللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه، يقال: لغا يلغو لغوا: أتى بكلام لا فائدة فيه، وألغى الكلمة: إذا طرحها، لأنه لا فائدة فيها، واللاغية: الكلمة القبيحة الفاحشة، ومنه اشتقاق اللغة لأنها كلام لا فائدة فيه عند غير أهله،ولغو الطائر: منطقه، قال ثعلبة بن صعير المازني:

باكرتهم بسباء جون ذارع...قبل الصباح، وقبل لغو الطائر

واللغاء: الذكر بالكلام القبيح، لغى يلغي لغى.

د. أصل الحلم: الأناة، وهو في صفته تعالى الإمهال بتأخير العقاب على الذنب

2. نزل قوله تعالى:: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ في عبد الله بن رواحة حين حلف أن يدخل على ختنه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته، فكان يقول إني حلفت بهذا، فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية.

3. لما بين سبحانه أحوال النساء، وما يحل منهن، عقبه بذكر الإيلاء، وهو اليمين التي تحرم الزوجة، فابتدأ بذكر الأيمان أولا، تأسيسا لحكم الإيلاء، فقال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ وفي معناه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إن معناه لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة لكم من البر والتقوى، من حيث تعتمدونها بها، وتقولوا حلفنا بالله ولم تحلفوا به، عن الحسن وطاووس وقتادة، وأصله في هذا الوجه الاعتراض الذي هو المانع بينكم وبين البر والتقوى، لأن المعترض بين الشيئين يكون مانعا من وصول أحدهما إلى الآخر، فالعلة مانعة كهذا المعترض.

ب. الثاني: إن عرضة معناه حجة، فكأنه قال: لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع من البر والتقوى، فإن كان قد سلف منكم يمين، ثم ظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي هو خير، ولا تحتجوا بما فد سلف من اليمين، عن ابن عباس ومجاهد والربيع، وأصله في هذا القول والأول واحد، لأنه منع من جهة الاعتراض لعلة أو حجة.

ج. الثالث: إن معناه: لا تجعلوا اليمين بالله عدة مبتذلة في كل حق وباطل، لأن تبروا في الحلف بها، وتتقوا المآثم فيها، عن عائشة، لأنها قالت: لا تحلفوا به وإن بررتم، وبه قال الجبائي، وأبو مسلم، وهو المروي عن أئمتنا(2)، نحو ما رواه عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزار، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا تحلفوا بالله صادقين، ولا كاذبين، فإنه سبحانه يقول: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾،قال أبو مسلم: ومن أكثر ذكر شئ في معنى، فقد جعله عرضة له، وتقول: جعلتني عرضة لقومك، قال الشاعر: (ولا تجعليني عرضة للوائم)

4. تقديره على الوجه الأول والثاني: لا تجعلوا الله مانعا من البر والتقوى باعتراضك به حالفا، وعلى الوجه الثالث: لا تجعلوا الله مما تحلف به دائما باعتراضك بالحلف به في كل حق وباطل.

5. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ أقوال:

أ. الأول: لأن تبروا على معنى الإثبات أي: لأن تكونوا بررة أتقياء، فإن من قلت يمينه كان أقرب إلى البر ممن كثرت يمينه، وقيل: لأن تبروا في اليمين.

ب. الثاني: إن المعنى لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا، فحذف المضاف، عن المبرد.

ج. الثالث: إن معناه أن لا تبروا، فحذف لا، عن أبي عبيدة قال: وقد حذف لا، لأنه في معنى القسم، كقول امرئ القيس: (فقلت يمين الله أبرح قاعدا) أي: لا أبرح، وأنكر المبرد هذا لأنه لما كان معه أن، بطل أن يكون جوابا للقسم، وإنما يجوز والله أقوم في القسم بمعنى لا أقوم، لأنه لو كان إثباتا لقال: لأقومن باللام والنون، والمعنى في قول أبي العباس وأبي عبيدة واحد، والتقدير مختلف.

6. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ أي: تتقوا الإثم والمعاصي في الأيمان ﴿وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ في الأيمان، وتصلحوا بين الناس عطف، على ما سبق، ومعناه، ولا تجعلوا الحلف بالله علة، أو حجة في أن لا تبروا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا، لكي تكونوا من البررة والأتقياء والمصلحين بين الناس، أو لدفع أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، وعلى الوجه الثالث: لا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة، لأن تبروا وتتقوا وتصلحوا أي: بين الناس، فإن كثرت يمينه لا يوثق بحلفه، ومن قلت يمينه فهو أقرب إلى التقوى والإصلاح بين الناس.

7. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في ضمائركم لا يخفى عليه من ذلك خافية.

8. في هذه الآية دلالة على أن من حلف على شئ، فرأى غيره خيرا منه، فله أن ينقض يمينه، ويفعل الذي هو خير، وهل يجب عليه الكفارة؟ فيه خلاف: فعند أكثر الفقهاء يجب عليه الكفارة، ولا كفارة عليه عندنا، ومن أقسم على غيره ليفعل فعلا، أو ليمتنع عن فعل، ولا يبالي بذلك، قال بعضهم: إن المقسم عليه لا يأثم بذلك، والصحيح أن المقسم عليه يأثم، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: من سألكم بالله فأعطوه، ومن استعاذكم بالله فأعيذوه.

9. ثم بين سبحانه أقسام اليمين، فقال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ واختلفوا في يمين اللغو:

أ. فقيل: هو ما يجري على عادة الناس من قول: لا والله، وبلى والله من غير عقد على يمين يقتطع بها مال، ولا يظلم بها أحد، عن ابن عباس وعائشة والشعبي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وهو قول الشافعي.

ب. وقيل: هو أن يحلف وهو يرى أنه صادق، ثم تبين أنه كاذب، فلا إثم عليه، ولا كفارة، عن الحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

ج. وقيل: هو يمين الغضبان لا يؤاخذكم بالحنث فيها، عن ابن عباس أيضا وطاووس، وبه قال سعيد بن جبير، إلا أنه أوجب فيها الكفارة.

د. وقال مسروق: كل يمين ليس له الوفاء، فهي لغو، ولا يجب فيها كفارة، ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي: بما عزمتم وقصدتم، لأن كسب القلب العقد والنية، وفيه حذف أي: من أيمانكم.

هـ. وقيل: بان تحلفوا كاذبين، أو على باطل، عن إبراهيم ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يغفر الذنوب ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل العقوبة على الذنب، ولا يعجل بها

10. مسائل نحوية:

أ. في موضع ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ ثلاثة أقوال:

أحدها: ان موضعه جر بحذف اللام، عن الخليل، قال أبو علي: جاز أن يكون المصدر الذي هو أن مع الفعل في موضع جر، وإن لم يجز ذلك في غير أن لأمرين أحدهما: إن الكلام قد طال بالصلة فحسن الحذف والآخر: إن أن حرف، وإذا حذف اللام صار كأن حرفا كان قد أقيم مقام حرف، فعاقبه، فلهذا حسن حذف اللام مع أن دون المصدر غير الموصول في اللفظ بالفعل،وأقول: عنى بذلك أنك إذا قلت: جئتك لضرب زيد، لم يجز أن تحذف اللام، فتقول: جئتك ضرب زيد، وإذا قلت: جئتك لأن تضرب زيدا، جاز أن تحذف اللام فتقول: جئتك أن تضرب زيدا.

الثاني: إن موضعه النصب لأنه لما حذف الجار، وصل الفعل، وهو قول سيبويه، وهو القياس، وأقول على القولين جميعا، فيكون تقديره لأن لا تبروا على النفي، أو لأن تبروا على الإثبات، فعلى القول الأول، وهو النفي: يكون في موضع النصب بأنه مفعول له، وعلى القول الثاني وهو الإثبات: يجوز أن يكون مفعولا له، ويجوز أن يكون في محل النصب على الحال، والعامل فيه ما في قوله لأيمانكم من معنى الفعل، تقديره لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم كائنة لأن تبروا أي: لبركم، وذو الحال الأيمان.

الثالث: ما قاله قوم إن موضعه رفع، تقديره: أن تبروا وتتقوا أولى، فحذف الخبر الذي هو أولى، لأنه معلوم المعنى.

ب. ﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾: في موضع الحال، والعامل فيه ﴿يُؤَاخِذُ﴾، وذو الحال (اللغو بما كسبت) يجوز أن يكون ﴿مَا﴾ اسما موصولا، ويجوز أن يكون حرفا موصولا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/566

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين ختنه‏ شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلّمه، وجعل يقول: قد حلفت بالله، ولا يحلّ لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: إن الرّجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله الرّبيع بن أنس.

ج. الثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف: لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج‏.

د. الرابع: نزلت في أبي بكر، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرّحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن حيّان، وابن سليمان‏.

2. في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن معناها: لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جبير، والضحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج في آخرين.

ب. الثاني: أن معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتّقوا المخلوقين وتبرّوهم، وتصلحوا بينهم بالكذب، روى هذا المعنى عطيّة عن ابن عباس.

ج. الثالث: أن معناها: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه، هذا قول ابن زيد.

3. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، قال الزجّاج: اللّغو في كلام العرب: ما اطّرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمّى ما لا يعتدّ به، لغوا، وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعدّ من أولاد الإبل في الدّية أو غيرها لغو، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر يلغى: إذا لهج به، وقيل: إن اشتقاق اللغة منه: أي يلهج صاحبها بها.

4. في المراد باللغو في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: أن يحلف على الشيء ويظنّ أنه كما حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه، وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشّعبيّ، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسّدّيّ عن أشياخه، ومالك، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه: لا والله، وبلى والله، من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة، وطاووس وعروة، والنّخعيّ، والشّافعيّ، واستدلّ أرباب هذا القول بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وكسب القلب: عقده وقصده، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد، روى عنه ابنه عبد الله أنّه قال: اللّغو عندي أن يحلف على اليمين، يرى أنه كذلك، ولا كفارة، والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء، فلا كفارة.

ج. الثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان، رواه طاووس عن ابن عباس.

د. الرابع: أنه حلف الرجل على معصية، فليحنث، وليكفّر، ولا إثم عليه، قاله سعيد بن جبير.

هـ. الخامس: أن يحلف الرجل على شيء، ثم ينساه، قاله النّخعيّ، وقول عائشة أصح الجميع، قال حنبل: سئل أحمد عن اللّغو فقال: الرجل يحلف فيقول: لا والله، وبلى والله، لا يريد عقد اليمين، فإذا عقد على اليمين لزمته الكفّارة.

5. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، قال مجاهد: أي: ما عقدت عليه قلوبكم.

6. الحليم: ذو الصّفح الذي لا يستفزّه غضب، فيعجل، ولا يستخفّه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة، قال أبو سليمان الخطّابيّ: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة، إنما الحليم الصّفوح مع القدرة، المتأنّي الذي لا يعجل بالعقوبة، وقد أنعم بعض الشعراء أبياتا في هذا المعنى، فقال:

لا يدرك المجد أقوام وإن كرموا...حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام‏

ويشتموا فترى الألوان مسفرة...لا صفح ذلّ ولكن صفح أحلام‏

قال ويقال: حلم الرجل يحلم حلما بضم اللام في الماضي والمستقبل، وحلم في النّوم، بفتح اللام، يحلم حلما، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان.

7. الأيمان على ضربين، ماض ومستقبل، فالماضي على ضربين:

أ. يمين محرّمة، وهي: اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل، أو: قد فعلت، وما فعل.

ب. ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقا في قوله: ما فعلت، أو: لقد فعلت.

8. اليمين المستقبلة على خمسة أقسام:

أ. أحدها: يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلّها معصية، مثل أن يحلف: لأصلينّ الخمس، ولأصومنّ رمضان، أو: لا شربت الخمر.

ب. الثاني: عقدها معصية، والمقام عليها معصية، وحلّها طاعة، وهي عكس الأولى.

ج. الثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلّها مكرهة، مثل أن يحلف: ليفعلنّ النوافل من العبادات.

د. الرابع: يمين عقدها مكروه، والمقام عليها مكروه، وحلّها طاعة، وهي عكس التي قبلها، و.

هـ. الخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلّها مباح مثل أن يحلف: لا دخلت بلدا فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقا مخوفا، ونحو ذلك‏.

__________

(1) زاد المسير: 1/195

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المفسرون أكثروا من الكلام في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وأجود ما ذكروه وجهان:

أ. الأول: وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو الأحسن أن قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك، وقال الشاعر: (ولا تجعلني عرضة للوائم)، وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾ [القلم: 10]، وقال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89] والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن سبقت منه الألية برت‏

ب. الثاني: قالوا: العرضة عبارة عن المانع، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال: أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعا للناس من السلوك والمرور ويقال: اعترض فلان على كلام فلان، وجعل كلامه معارضا لكلام آخر، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه، إذا عرفت أصل الاشتقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة، والغرفة، فيكون اسما لما يجعل معرضا دون الشيء، ومانعا منه، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع، وأما اللام في قوله: ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾ فهو للتعليل، فتقدير الآية: ولا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره، قالوا: وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل: لا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى.

2. هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر، ولكن لا فائدة فيها فتركناها، ثم قال في آخر الآية: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: إن حلفتم يسمع، وإن تركتم الحلف تعظيما لله وإجلالا له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم.

3. الحكمة في الأمر بتقليل الأيمان:

أ. أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين.

ب. وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.

4. قوله تعالى بعد ذلك: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ هو علة لهذا النهي، فقوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ أي إرادة أن تبروا، والمعنى: إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.

5. سؤال وإشكال: كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس؟، والجواب: لأن:

أ. من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحلف، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر.

ب. وأما معنى التقوي فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله.

ج. وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.

6. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ اللغو الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاما أو غيره، أما ورود هذه اللفظة في الكلام، فيدل عليه الآية والخبر والرواية:

أ. أما الآية فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55] وقوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾ [الواقعة: 25] وقوله: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: 26] وقوله: ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ [الغاشية: 11] أما قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] فيحتمل أن يكون المراد، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغوا، وأن يكون المراد، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغوا.

ب. وأما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا)

ج. وأما الرواية فيقال: لغا الطائر يلغو لغوا إذا صوت، ولغو الطائر تصويته، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو، قال جرير:

يعد الناسبون بني تميم‏...بيوت المجد أربعة كبارا

وتخرج منهم المرئي لغوا...كما ألغيت في الدية الحوارا

وقال العجاج:

ورب أسراب حجيج كظم‏...عن اللغا ورفث التكلم‏

قال الفراء: اللغا، مصدر للغيت، واللغو مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة.

7. في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ وجوه:

أ. الأول: قال الشافعي: إنه قول العرب: لا والله، وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال لا والله ألف مرة.

ب. الثاني: وهو قول أبي حنيفة: أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو.

ج. الثالث: هو أنه إذا حلف على ترك طاعة، أو فعل معصية، فهذا هو يمين اللغو وهو المعصية، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55] فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا: وهذا التأويل مناف‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر)، وهذا التأويل ضعيف من وجهين:

الأول: هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: 89] ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وهاهنا الكفارة واجبة، علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة.

الثاني: أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.

د. الرابع: في تفسير يمين اللغو: أنها اليمين المكفرة سميت لغوا لأن الكفارة أسقطت الإثم، فكأنه قيل: لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم، وهذا قول الضحاك.

هـ. الخامس: وهو قول القاضي: أن المراد به ما يقع سهوا غير مقصود إليه، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي يؤاخذكم إذا تعمدتم، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو.

8. فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، والسدي، ومكحول.

9. حجة الشافعي على قوله وجوه:

أ. الأولى: ما روت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله، وبلى والله، ولا والله)، وروي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلم مر بقوم ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله، ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة)، وعن عائشة أنها قالت: أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة.

ب. الثانية: أن قوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ يدل‏ على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب، ولكن المراد من قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام: لا والله بلى والله، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك، فلم يكن ذلك لغوا ألبتة بل كان ذلك حاصلا بكسب القلب.

ج. الثالثة: أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: 224] وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد: لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قال أبو حنيفة فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى.

10. حجة أبي حنيفة من وجوه:

أ. الأولى: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه) الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل.

ب. الثانية: أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس: لا والله بلى والله، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجد...تلقاها عرابة باليمين‏

أي بالقوة، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغوا.

احتج الشافعي بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس، قال: إنه تعالى ذكر هاهنا ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وقال في آية المائدة: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به، ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل، فلما ذكر هاهنا قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضا ذكر المؤاخذة هاهنا، ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي، وبينها في آية المائدة بقوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ فبين أن المؤاخذة هي الكفارة، فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه، مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه، وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب، فالكفارة واجبة فيها، واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها.

11. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ الغفور، مبالغة في ستر الذنوب، وفي إسقاط عقوبتها، وأما: الحليم، الحلم في كلام العرب الأناة والسكون، يقال: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي على أشدها تؤدة في السير، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون، وحلمة الثدي، ومعنى: الحليم، في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/425

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم.

ب. قال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت.

ج. وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير ﴿لَا﴾ بعد ﴿إِنَّ﴾

د. وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾، وذم من كثر اليمين فقال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾، والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم:

قليل الألايا حافظ ليمينه... وإن صدرت منه الألية برت

وعلى هذا ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ معناه: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فإن الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن، مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف، بالله في كل شي.

هـ. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل.

و. وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: علي يمين، وهو لم يحلف القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين، وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل على سبب النزول.

2. ﴿عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ أي نصبا، عن الجوهري، وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوي عليه، والعرضة: الهمة، قال: هم الأنصار عرضتها اللقاء وفلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه، وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب، قال كعب بن زهير:

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت... عرضتها طامس الأعلام مجهول

وقال عبد الله بن الزبير:

فهذي لأيام الحروب وهذه... للهوي وهذي عرضة لارتحالنا

أي عدة، وقال آخر: (فلا تجعلني عرضة للوائم)، وقال أوس بن حجر:

وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها... لرحلي وفيها هزة وتقاذف

والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر.

3. ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾ مبتدأ وخبره محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل، مثل ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ عن الزجاج والنحاس، وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله تعالى البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا، وقيل: مفعول من أجله، وقيل: معناه ألا تبروا، فحذف ﴿لَا﴾، كقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس، ووجه رابع من وجوه النصب: كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي، وقيل: هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير: في أن تبروا، فأضمرت ﴿فِي﴾ وخفضت بها، و﴿سَمِيعٌ﴾ أي لأقوال العباد، ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتهم.

4. ﴿بِاللَّغْوِ﴾ اللغو: مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغي إثمه، وفي الحديث: (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت)، ولغة أبي هريرة (فقد لغيت) وقال الشاعر:

ورب أسراب حجيج كظم... عن اللغا ورفث التكلم

وقال آخر:

ولست بمأخوذ بلغو تقوله... إذا لم تعمد عاقدات العزائم

5. اختلف العلماء في اليمين التي هي لغو:

أ. فقال ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها.

ب. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قالت: أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب، وفى البخاري عن عائشة قالت: نزل قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ في قول الرجل: لا والله، وبلى والله.

ج. وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف، قال أبو هريرة: إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة، ونحوه عن ابن عباس، وروي: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة)، وفي الموطأ قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه، والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه.

د. وروي عن ابن عباس ـ إن صح عنه ـ قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وقاله طاوس، وروى ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يمين في غضب) أخرجه مسلم.

هـ. وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال على حرام، وقال مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه.

و. وقيل: هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة وعبد الله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها) أخرجه ابن ماجه في سننه، وسيأتي في (المائدة) أيضا.

ز. وقال زيد بن أسلم: لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا.

ح. وقال مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا.

ط. وقال النخعي: هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله.

ي. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير.

ك. وحكى ابن عبد البر قولا: إن اللغو أيمان المكره، قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها، لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض،ويمين المكره بمثابتها، وسيأتي حكم من حلف مكرها في ﴿النَّحْلِ﴾ إن شاء الله تعالى.

6. قال ابن العربي:

أ. أما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه.

ب. أما من قال: إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه)

ج. أما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه، وسيأتي في ﴿بَرَاءَةٌ﴾

د. وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى، وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله تعالى المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.

7. ﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ الأيمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمى الحلف والعهد نفسه يمينا، وقيل: يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق، ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير: (فتجمع أيمن منا ومنكم)

8. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ مثل قوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾، وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى، وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه.

9. ﴿غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/97

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. العرضة: النصبة، قاله الجوهري، يقال جعلت فلانا عرضة لكذا، أي: نصبة، وقيل: العرضة من الشدة والقوّة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة، أي: قوّة، ومنه قول كعب بن زهير:

من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت‏...عرضتها طامس الأعلام مجهول‏

ومثله قول أوس بن حجر:

وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها...لرحلي وفيها هزّة وتقاذف‏

ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر: (هم الأنصار عرضتها اللّقاء)، أي: همتها، ويقال: فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري: أن العرضة النصبة كالقبضة والغرفة؛ يكون ذلك اسما لما تعرضه دون الشيء، أي: تجعله حاجزا له، ومانعا منه:

أ. أي: لا تجعلوا الله حاجزا ومانعا لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم، أو إحسان إلى الغير، أو إصلاح بين الناس: بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله، معللا لذلك الامتناع: بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلونه عرضة لأيمانهم: أي: حاجزا لما حلفوا عليه ومانعا منه، سمي المحلوف عليه: يمينا، لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ عطف بيان لأيمانكم، أي: لا تجعلوا الله مانعا للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله: ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾ بقوله: ﴿لَا تَجْعَلُوا﴾ أي: لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعا وحاجزا، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أي: لا تجعلوه شيئا معترضا بينكم وبين البرّ، وما بعده.

ب. وعلى المعنى الثاني: وهو أن العرضة: الشدة والقوّة، يكون معنى الآية: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدّة في الامتناع من الخير.

ج. ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو تفسير العرضة بالهمة.

د. أما على المعنى الرابع: وهو من قولهم: فلان لا يزال عرضة للناس، أي: يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾، وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾، وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن بدرت‏ منه الأليّة برّت‏

وعلى هذا فيكون قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ علة للنهي، أي: لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم إرادة أن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا، لأن من يكثر الحلف بالله يجترئ على الحنث ويفجر في يمينه.

2. قيل في تفسير الآية: أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها:

أ. فمن ذلك قول الزجاج: معنى الآية: أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتل بالله، فقال: علي يمين، وهو لم يحلف.

ب. وقيل: معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البرّ والتقوى والإصلاح.

ج. وقيل: معناها إذا حلفتم على أن لا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا عن اليمين.

3. قيل: إن قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ مبتدأ خبره محذوف، أي: البرّ والتقوى، والإصلاح أولى، قاله الزجاج، وقيل: إنه منصوب، أي: لا تمنعكم اليمين بالله البرّ والتقوى والإصلاح، وروي ذلك عن الزجاج أيضا؛ وقيل: معناه: أن لا تبروا، فحذف لا، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: لا تضلوا، قاله ابن جرير الطبري؛ وقيل: هو في موضع جرّ على قول الخليل والكسائي، والتقدير: في‏ ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾

4. ﴿سَمِيعٌ﴾ أي: لأقوال العباد ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يصدر منهم.

5. اللغو: مصدر لغا يلغو لغوا، ولغى يلغي لغيا: إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، وهو الساقط الذي لا يعتدّ به، فاللغو من اليمين: هو الساقط الذي لا يعتدّ به، ومنه: اللغو في الدية، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، قال جرير:

ويذهب بينها المرئيّ لغوا...كما ألغيت في الدّية الحوارا

وقال آخر:

وربّ أسراب حجيج كظّم‏...عن اللّغا ورفث التّكلّم‏

أي: لا يتكلمن بالساقط والرفث.

6. معنى الآية: لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أي: اقترفته بالقصد إليه: وهي اليمين المعقودة، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ ومثله قول الشاعر:

ولست بمأخوذ بلغو تقوله‏...إذا لم تعمّد عاقدات العزائم‏

7. اختلف أهل العلم في تفسير اللغو:

أ. فذهب ابن عباس، وعائشة، وجمهور العلماء أيضا: أنه: قول الرجل: لا والله، وبلى والله في حديثه وكلامه، غير معتقد لليمين، ولا مريد لها، قال المروزي: هذه معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء.

ب. وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه، وإلى هذا ذهبت الحنفية، والزيدية، وبه قال مالك في الموطأ.

ج. وروي عن ابن عباس أنّه قال لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان، وبه قال طاووس ومكحول.

د. وروي عن مالك؛ وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير، وأخوه عروة، كالذي يقسم ليشر بن الخمر، أو ليقطعن الرحم.

هـ. وقيل: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، قاله زيد بن أسلم.

و. وقال مجاهد: لغو اليمين: أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا

ز. وقال الضحاك: لغو اليمين: هي المكفرة، أي: إذا كفرت سقطت وصارت لغوا.

8. الراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي، ولدلالة الأدلة عليه.

9. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي: حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد وقصد، وآخذكم بما تعمدته قلوبكم، وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة.

10. ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه)، وثبت أيضا في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني)، وأخرج ابن ماجة، وابن جرير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبرّه أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه)، وأخرج أحمد، وأبو داوود، وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم)، وأخرج أبو داوود، والحاكم، وصححه عن عمر مرفوعا مثله، وأخرج النسائي، وابن ماجة عن مالك الجشمي قال قلت يا رسول الله! يأتيني ابن عمّي فأحلف أن لا أعطيه ولا أصله، فقال: كفّر عن يمينك.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/264

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، (العرضة) بضم العين فعلة بمعنى مفعول ـ كالقبضة والغرفة ـ وهي اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود على الإناء، فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه، تقول: فلان عرضة دون الخير، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات ـ من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد ـ ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني، فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه، فقيل لهم: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾، أي: حاجزا لما حلفتم عليه، وسمّي المحلف عليه يمينا لتلبّسه باليمين، كحديث: من حلف على يمين، الآتي ذكره، أي: على شيء مما يحلف عليه.

2. ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾، عطف بيان‏ ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾، أي: للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس ـ أفاده الزمخشريّ، وعلى هذا التأويل: الآية، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22]، والمعنى المتقدم في الآية اتفق عليه جمهور السلف، ورواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير، وقد ثبت في (الصحيحين) عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إني، والله! إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها)، وروى مسلم‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير)

3. في الآية وجه آخر ذكره كثير من المفسّرين، وهو النهي عن الجراءة على الله تعالى بكثرة الحلف به، وذلك لأنّ من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له، يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك، وقال الشاعر: (ولا تجعليني عرضة للوائم)، وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾ [القلم: 10]، وقال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]، والعرب كانوا يمدحون المرء بالإقلال من الحلف كما قال كثيّر:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن سبقت منه الألية برّت‏

والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين، وأيضا، كلّما كان الإنسان أكثر تعظيما لله تعالى كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجلّ وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.

4. قوله تعالى بعد ذلك‏ ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا﴾، هو علّة للنهي، أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأنّ الحلّاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم.

5. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية ـ إذ لم تقصدوا هتك حرمته ـ وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا قصد إليها، كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾، وهو المعنيّ بقوله عزّ وجلّ‏ ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، أي: تعمدته قلوبكم فاجتمع فيه، مع اللفظ، النيّة، يعني: ربط القلب به لفوات تعظيم أمره، ولهتك حرمته بنقض اليمين المقصودة.

6. روي عن عائشة أنها قالت: أنزلت هذه الآية في قول الرجل: لا والله، وبلى والله! أخرجه البخاريّ ومالك وأبو داوود، وهذا لفظ البخاريّ، وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة والتابعين، ولفظ رواية ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل: لا والله! وبلى والله! فذاك لا كفّارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله، ويروى في تفسير لغو اليمين: هو أن يحلف على الشيء يظنّه، ثم يظهر خلافه، ويروى: أن يحلف وهو غضبان: ويروى غير ذلك، كما ساقها ابن كثير، مسندة، وقد ظهر ـ للفقير ـ أن لا تنافي بين هذه الروايات، لأنّ كل ما لا عقد للقلب معه من الأيمان فهو لغو بأي صورة كانت وحالة وقعت، فكل ما روي في تفسير الآية فهو مما يشمله اللغو.

7. المراد من المؤاخذة: إيجاب الكفّارة، كما بيّن ذلك في آية المائدة: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾، ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾، يعني: لعباده فيما لغو من أيمانهم فلم يؤاخذهم به‏ ﴿حَلِيمٌ﴾، يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة تربّصا بالتوبة، والجملة تذييل للحكمين السابقين، فائدته الامتنان على المؤمنين، وشمول مغفرته وإحسانه لهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/129

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُواْ اللهَ﴾ بالحلف به ﴿عُرْضَةً﴾ شيئًا معترضًا مانعًا، فعرضة بمعنى: فاعلا، ﴿لأَيْمَانِكُم﴾ للأمور المحلوف عليها، سمَّاها يمينًا للتسبُّب، متعلِّق بـ (عُرْضَةً)، بمعنى الاعتراض، أولى من أن تعلَّق بـ (تجعلوا).

2. ﴿أَن تَبَرُّواْ﴾ بأن لا تبرُّوا، فحذف حرف الجرِّ ولا النافية، والباء متعلِّقة بـ (عُرْضَةً) بمعنى: مانعًا، والبرُّ: الإحسان بالطاعة لا الوفاء باليمين، يحلفون أن لا يفعلوا كذا من الخير لفلان، أو لكذا، فلا يجوز هذا الحلف ولو قليلا، و(أن تبرُّوا) بيان للأيمان بمعنى تلك الأمور، أو بدل للتقرير، وأولى من ذلك أن يكون المعنى: لا تجعلوا الله تقع عليه الأيمان الكثيرة فإنَّ ذلك جرأة بأن يحلفوا صدقًا أو كذبًا على حقير أو جليل، كما تقع الرمية على الغرض المنصوب لها تعالى الله عن شبه الخلق، أو المراد لفظ الجلالة أو أسماؤه، والأيمان على ظاهره لا بمعنى المحلوف عليه، وعرضة بمعنى: مفعول، فالمراد: إرادة أن تبرُّوا أو لتبرُّوا في زعمكم بالوفاء باليمين على أن لا تفعلوا الخير، ﴿وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ﴾ لا تمتنعوا من فعل البرِّ والتقوى والإصلاح بين الناس لحلفكم أن لا تفعلوا ذلك، بل افعلوه وكفِّروا [عن] أيمانكم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن سمرة: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك).

3. نزلت الآية في عبد الله بن رواحة إذ حلف أن لا يتكلَّم لزوج أخته بشير بن النعمان، ولا يصلح بينهما ولا يدخل عليه، فإذا قيل له: افعل، قال: قد حلفت ولا أنقض اليمين، وفي أبي بكر إذ حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة، وكان فقيرًا، ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عنه قول ولا حال ولا شيء ما.

4. ﴿لَّا يُوَاخِذُكُمُ اللهُ﴾ لا يوجب عليكم كفَّارة الحنث ولا عذابًا، ﴿بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ هو ما يتعمَّد من ألفاظ اليمين بلا قصد يمين، كقولك: (لا والله) و(بلى والله) وما يحلف به غلطًا، مثل أن يريد أن يقول: (قد قام زيد) فغلط فقال: (والله لقد قام زيد)، وما يحلف به لفظًا ولا يدري أنَّه قسم، مثل أن يقول: (تالله لأقومنَّ) ولا يدري أنَّ معناه: (والله لأقومنَّ)؛ وما يحلف به وقلبه غير حاضر بل ذاهل، وما يحلف به غضبان أو نائم أو سكران لعلَّةٍ بحيث لا يعرف ما قال؛ ومثله الحلف باللسان دون القلب كلُّ ذلك لغو.

5. روى البخاري وأبو داود عن عائشة موقوفًا: نزلت في قول الرجل: (لا والله، وبلى والله)؛ فأقول: الحديث تمثيل، وما ذكرته مثله لجامع عدم عزم القلب، ويدلُّ لذلك قوله تعالى : ﴿وَلَكِنْ يُّوَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وقوله: ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ الَايْمَانَ﴾ [المائدة: 89]، أي: بعقدكم الأيمان في قلوبكم، وكسب قلوبكم لها مع ألسنتكم، وعن أبي حنيفة: اليمين على معتقده المخالف للواقع، وعن أبي حنيفة أنَّه يوجب الكفَّارة في اللغو، وأنَّ المؤاخذة المنفيَّة عقاب الآخرة، ولا يوجبها في اليمين على ظِنَّة، وقيل: اليمين على المعصية لا يؤخذ بالكفَّارة بل بالترك، كما روي ضعيفًا: (الكفَّارة تركها)، وزعم بعض أنَّ يمين اللغو يمين المكرَه، وعن ابن عبَّاس: أن تحرِّم ما أحلَّ عليك، مثل: مالي عليَّ حرام، وبه أخذ مالك إلَّا في الزوجة، ولا يصحُّ ذلك، وعن زيد بن أسلم: قول الرجل: (أعمى الله بصره إن لم يفعل)، أو (هو مشرك إن لم يفعل) ما لم يكن من قلبه.

6. ﴿وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ إذ لم يؤاخذكم باللغو ولا بالجدِّ في أيمانكم عاجلاً، بل جعل لكم كفَّارة الحنث، وانتظركم للتوبة من اليمين على فعل المعصية أو ترك الطاعة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/43.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات في أحكام الأيمان، وهي عامة وخاصة، والثاني هو حلف الرجل ألا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي، فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار.

2. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ العرضة ـ بالضم كالغرفة ـ لها معان أظهرها هنا اثنان:

أ. أحدهما: أن تكون بمعنى المانع المعترض دون الشيء؛ أي: لا تجعلوا الله تعالى مانعا بينكم وبين عمل؛ بأن تحلفوا به على تركه فتتركوه تعظيما لاسمه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن جرير في سبب نزول الآية، وهو حلف أبي بكر على ترك الإنفاق على (مسطح) بعد أن خاض في قصة الإفك، وفيه نزل: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ الآية، ويؤيده أيضا أحاديث في الصحيحين وغيرهما منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) وفي حديث عائشة عند ابن ماجه وابن جرير قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه) وفي هذا المعنى أحاديث أخرى، ذلك أن الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنه لا يفعل كذا وقد يكون خيرا، وليفعلن كذا وقد يكون شرا، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجابا دون الخير، أو محضاء للشر، فنهى عن ذلك، وأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بوجوب تحري الخير والأحسن وإن حلف على غيره فليكفر عن يمينه بما هو منصوص في سورة المائدة.

ب. المعنى الثاني للعرضة ما يعرض للشيء أن ما ينصب ليعرض له الشيء كالهدف للسهام، يقال: فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه، قال الشاعر:

وإن تتركوا رهط الفدوكس عصبة... يتامى أيامى عرضة للقبائل

ويقال: جعلته عرضة لكذا؛ أي: نصبته له فكان معروضا ومعرضا له، يكثر وروده عليه، وقال الشاعر:

طلقتهن وما الطلاق بسبة... إن النساء لعرضة التطليق

والمعنى على هذا الوجه لا تكثروا الحلف بالله تعالى، فالذي يجعل الله عرضة لأيمانه هو كالحلاف في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾ فكثير الحلف حليف المهانة وقرينها.

3. ذكر الله تعالى في هذه الآيات صفات أخرى ذميمة نهى عن أهلها وبدأها بالخلاف بعدما تقدم: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ فالحلاف يعد في مقدمة هؤلاء الأشرار، ومن أكثر الحلف قلت مهابته وكثر حنثه واتهم بالكذب، ولا يكون الحلاف إلا كذابا، فهو على إهانته لاسم الله تعالى يفوته ما يريد من قبول قوله وتصديقه، فالآية الكريمة ترشدنا إلى ترك الحلف بالله تعالى إلا عند الحاجة إلى ذلك، وهذا الوجه أظهر من الذي سبقه، والعرضة بهذا المعنى أكثر استعمالا، وكانت العرب تتمدح بقلة الحلف وحفظ الأيمان، قال الشاعر:

قليل الألايا حافظ ليمينه... وإن سبقت منه الألية برت

الألايا: جمع ألية وهي اليمين كقضية وقضايا، وإنك لتجد كثيرا من أهل الدين لا يحفظون من أيمانهم ما كان يحفظ أهل الشرك في الجاهلية، فأين هم من قول الإمام الشافعي: ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا؟

4. قال محمد عبده: من مذام كثرة الحلف أنه يقلل ثقة الإنسان بنفسه، وثقة الناس به، فهو يشعر بأنه لا يصدق فيحلف، ولهذا وصفه الله تعالى بالمهين، وكثيرا ما يعرض نفسه للخطأ إذا حلف على المستقبل، ثم إنه لا يكون إلا قليل الخشية والتعظيم لله تعالى لا يهمه إلا أن يرضى الناس ويكون موثوقا به عندهم، فتعريض اسم الله تعالى للحلف بدون ضرورة ولا حاجة ينشأ عن فقد هيبة الله وإجلاله من النفس، فإن الناس يتعلمون كثرة الحلف من أمهاتهم، ومن الولدان الذين يتربون معهم وهم صغار، فيتعودون عدم احترام اسم الله تعالى.

5. قال محمد عبده بعد تقرير هذا المعنى: وقد نجد هذا الحلف فاشيا حتى في المشتغلين بعلم الدين، ذلك أن علم الدين أصبح صناعة لفظية لا أثر لها في القلوب ولا في الأعمال، وقد حدثني بعضهم حديثا أربع مرات وفي كل مرة كان يحلف عليه ويكذب فيه بما يزيد فيه وينقص منه.

6. قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾:

أ. على الوجه الأول بيان للأيمان لأنها بمعنى المحلوف عليه؛ أي: لا تجعلوه مانعا لما حلفتم على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بل إذا حلف أحدكم على ترك البر أو التقوى أو الإصلاح فليكفر عن يمينه وليفعل البر والتقوى والإصلاح، فلا عذر لأحد في ترك ذلك، ولا يرضى الله تعالى أن يكون اسمه مانعا منه.

ب. أما على الوجه الثاني فهو لتعليل النهي؛ أي: لا تجعلوه تعالى معرضا لأيمانكم لأجل البر والتقوى والإصلاح، فإن كثير الحلف لا يكون أهلا لذلك؛ لما تقدم من كونه يكون مهينا، غير معظم لله تعالى، وعرضة للكذب والحنث، وغير موثوق بقوله، فأنى يرضاه الناس مصلحا بينهم؟ والمصلح مرب ومؤدب وحاكم مطاع بالاختيار.

7. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: سميع لما تلفظون به من الحلف وغيره، عليم بما يترتب على كثرة الحلف وبغيره من أعمالكم فعليكم أن تراقبوه وتتذكروا عند داعية كل قول وعمل أنه سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم، لعلكم تقفون عند حدود هدايته لكم فتكونون من المفلحين، وإلا كنتم من الخاسرين.

8. هذا الختم للآية يتضمن الوعيد على كثرة الحلف، فإذا دخل فيه ما يجري في الكلام من قصد وروية كقول الإنسان: أي والله، لا والله: وعد هذا مما يؤاخذ عليه ويجري فيه الحكم السابق كان الحرج عظيما، وقد رفع الله هذا الحرج بقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ فاللغو: أن يقع الكلام حشوا غير مقصود به معناه، فهو يقول: إن هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد بها عقد اليمين لغو من القول لا تعد أيمانا حقيقية، فلا يؤاخذكم الله تعالى بها بفرض الكفارة عليها ولا بالعقاب ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ بأن تقصدوا جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا لصالح الأعمال، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فالقول الحشو الذي لا أثر له في القلب، ولا شأن له في العمل، مما يعفو عنه، ولا يعاقب عليه.

9. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ يغفر لعبده ما يلم به مما لا يفسد أخلاقه وأعماله، ولا يتعجل بالعقوبة على هذا اللمم الذي يضعف العبد عن التوقي منه؛ ولذلك لم يكلف عباده ما يشق عليهم فيما لم تقصده قلوبهم ولم تتعمده نفوسهم؛ لأنه مما لا يدخل تحت سلطة الاختيار، وقد ذكر بعض الفقهاء للغو اليمين غير هذا المعنى المتبادر ووضعوا لذلك أحكاما ذكرها المفسرون ولا حاجة إليها، وما قلناه هو المتبادر المأثور عن جمهور السلف.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/365

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره ـ ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوى قرابته، وفيه نزل: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ الآية، كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق.

2. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيما لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابا دون الخير، فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا، أو أن يفعل كذا ويكون شرا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحري وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين بما سيأتي في سورة المائدة.

3. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، فعليكم أن تراقبوه في السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين، ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.

4. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان في حشو الكلام دون أن تقصدوا به عقد اليمين، فلا يفرض عليكم فيه كفارة ولا يعاقبكم به.

5. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي ولكن يؤاخذكم بالكفارة أو العقوبة بما نوت قلوبكم وقصدته من اليمين، حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا من صالح الأعمال.

6. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فيغفر لعباده ما ألموا به من الذنوب، ولا يتعجلهم بالعقوبة، ولم يكلفهم ما يشق عليهم مما لم تقصده قلوبهم، ولا يدخل تحت سلطان الاختيار.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/161

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم ينتقل السياق من الحديث عن حكم المباشرة في فترة الحيض، إلى الحديث عن حكم الإيلاء.. أي الحلف بالهجران والامتناع عن المباشرة.. وبهذه المناسبة يلم بالحلف ذاته فيجعل الحديث عنه مقدمة للحديث عن الإيلاء.

2. التفسير المروي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ عن ابن عباس ـ ـ قال لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي ـ رحمهم الله ـ كما نقل ابن كثير، ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه مسلم ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير).. وما رواه البخاري ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه).. وعلى هذا يكون معناها: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا حلفتم ألا تفعلوا، فكفروا عن أيمانكم وأتوا الخير، فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين، وذلك كالذي وقع من أبي بكر حين أقسم لا يبر مسطحا قريبه الذي شارك في حادثة الإفك ـ فأنزل الله الآية التي في سورة النور: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.. فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها.

3. على أن الله كان أرأف بالناس، فلم يجعل الكفارة إلا في اليمين المعقودة، التي يقصد إليها الحالف قصدا، وينوي ما وراءها مما حلف عليه، فأما ما جرى به اللسان عفوا ولغوا من غير قصد، فقد أعفاهم منه ولم يوجب فيه الكفارة: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.. وقد روى أبو داوود ـ بإسناده ـ عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله).. ورواه ابن جرير عن طريق عروة موقوفا على عائشة: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾.. لا والله وبلى والله).. وفي حديث مرسل ـ عن الحسن بن أبي الحسن ـ قال مر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقوم ينتضلون ـ يعني يرمون ـ ومع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم حنث الرجل يا رسول الله، قال: كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة).. وورد عن ابن عباس ـ ـ لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.. كما روي عنه: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله، فذلك ليس عليك فيه كفارة.. وعن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة! فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك! كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجلّ، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك)

4. الذي يخلص من هذه الآثار أن اليمين التي لا تنعقد النية على ما وراءها، إنما يلغو بها اللسان، لا كفارة فيها، وأن اليمين التي ينوي الحالف الأخذ أو الترك لما حلف عليه هي التي تنعقد، وهي التي تستوجب الكفارة عند الحنث بها، وأنه يجب الحنث بها إن كان مؤداها الامتناع عن فعل خير أو الإقدام على فعل شر، فأما إذا حلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب، فبعض الآراء أنه لا تقوم لها كفارة أي لا يكفر عنها شيء، قال الإمام مالك في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه، والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، ويقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن تكون له كفارة.

5. يعقب السياق على حكم العدول عن اليمين إلى ما فيه البر والخير بقوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.. ليوحي إلى القلب بأن الله ـ سبحانه ـ يسمع ما يقال ويعلم أين هو الخير، ومن ثم يحكم هذا الحكم.

6. ويعقب على حكم يمين اللغو واليمين المعقودة التي ينويها القلب بقوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.. ليلوح للقلب بحلم الله عن مؤاخذة العباد بكل ما يفلت من ألسنتهم، ومغفرته كذلك ـ بعد التوبة ـ لما تأثم به قلوبهم، بهذا وذلك يربط الأمر بالله، ويعلق القلوب بالاتجاه إليه في كل ما تكسب وكل ما تقول.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/243

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذات الله سبحانه وتعالى، في جلالها وبهائها وعظمتها، ينبغى‏ أن تكون في قلب المؤمن بمكانتها المكينة من الإجلال والتعظيم، وأن تصان من كل ما يمسّ هذه المكانة من اهتزاز أو إزعاج.. وأسماؤه تعالى، لها ما لذاته سبحانه، من هذا الإجلال والتوقير والإعظام، فلا يتلفظ المؤمن باسم من أسمائه جلّ وعلا إلّا في مقام العبادة والتسبيح، وإلا في حال الضراعة والابتهال، فليس بالذي يقدر الله حقّ قدره من يتخذ اسم الله يمينا يحلف به، ويقدّمه بين يدى كل أمر يعرض له، ويتخذ من جلال الاسم الكريم وعظمته وسيلة يتوسل بها إلى نفاذ ما يحلف عليه إلى مشاعر من يحلف له، فيحترم حرمة اليمين، ويصدقه.

2. فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا تعرّضوا اسم الله تعالى للحلف به في كل ما يعترضكم من أمور دنياكم، تريدون لها التوثيق والتوكيد.

3. وقوله سبحانه: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ولو كان الحلف من أجل أمر تلتزمون فيه قول الحق، وترعون فيه تقوى الله، وتصلحون به بين الناس.. لأن الإكثار من الحلف بالله مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، يفتح للإنسان الطريق إلى الحلف بالله في مجال الكذب والفجور والإفساد بين الناس!

4. فالنهى عن الحلف بالله في مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، ليس نهيا مطلقا، وإنما هو نهى عن الإكثار واللامبالاة، حيث لا يتحرج المرء من الحلف في هذا المقام، وهو يلتزم حدود الصدق والتقوى.. فإن هذا الإكثار في الصدق ـ كما قلنا ـ يفتح الطريق إلى الحلف بالكذب والفجور!

5. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن تجاوز عنهم فيما يقع منهم من أيمان يجرى بها اللسان من غير قصد، فلا يراد بها إبطال حق، ولا إحقاق باطل.. فهذه الأيمان قد تجاوز الله عنها، ولكن ما انعقد عليه القلب منها، واحتوته النية، وصحبته العزيمة هو الذي تقع المؤاخذة عليه، فمن برّ وصدق فلا إثم عليه، ومن كذب وفجر فعليه وزر ما اكتسب.

6. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ يتجاوز عن سيئات المسيئين إذا أنابوا إليه، ومدّوا يد الرجاء إلى أبواب رحمته، (حليم) لا يعجل بأخذ المذنب بذنبه، بل يمهله الأيام والشهور والسنين، ليراجع نفسه، ويستغفر لذنبه، ويصطلح مع ربه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/256

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ جملة معطوفة على جملة ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 223] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعا من قربان الأزواج في حالة الحيض، وكون مضمون هذه الجملة تمهيدا لجملة ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة: 226]، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾، وجملة ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾

2. سلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222]، وقال التفتازاني: (الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة)، وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفا على الأوامر السابقة وهي‏ ﴿وَقَدِّمُوا﴾ [البقرة: 223] ﴿وَاتَّقُوا﴾ [البقرة: 223] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223].. أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئا من التقوي دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوي باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوي من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدا، فجيء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز، وقال عبد الحكيم: معطوف على جملة ﴿قُلْ﴾ [البقرة: 222] بتقدير قل أي: وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله: ﴿وَقَدِّمُوا﴾ [البقرة: 223] إن جعل قوله: ﴿وَقَدِّمُوا﴾ من جملة مقول‏ ﴿قُلْ﴾

3. تعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم، فالتقدير: ولا تجعلوا اسم الله، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة...وليس وراء الله للمرء مذهب‏

أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف.

4. العرضة اسم على وزن الفعلة وهو وزن دال على المفعول كالقبضة والمسكة والهزأة، وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أي الجانب، ومعنى العرض هنا جعل الشيء حاجزا من قولهم عرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العرضة على الحاجز المتعرض، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي، وأطلقت على ما يكثر جمع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في (الكشاف): (ولا تجعلوني عرضة للّوائم)،‏ والآية تحتمل المعنيين.

5. اللام في قوله: ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾ لام التعدية تتعلق بعرضة لما فيها من معنى الفعل: أي تجعلوا اسم الله معرّضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقت منا يمين، ويجوز أن تكون اللام للتعليل: أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا.

6. الأيمان جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، وهي اشتقت من اليمن وهو البركة، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يمينا لأن العرب‏ كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10] فكانوا يقولون أعطى يمينه، إذا أكد العهد، وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير:

حتى وضعت يميني لا أنازعه‏...في كف ذي يسرات قيله القيل‏

ثم اختصروا فقالوا صدرت منه يمين أو حلف يمينا، فتسمية الحلف يمينا من تسمية الشيء باسم مقارنه الملازم له، أو من تسمية الشيء باسم مكانه؛ كما سمّوا الماء واديا وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي، ولما كان غالب أيمانهم في العهود والحلف، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضها في بعض، شاع إطلاق اليمين على كل حلف، جريا على غالب الأحوال؛ فأطلقت اليمين على قسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف.

7. القصد من الحلف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان الله تعالى على صدقه في خبر أو وعد أو تعليق، ولذلك يقوله: بالله أي أخبر متلبسا بإشهاد الله، أو أعد أو أعلّق متلبسا بإشهاد الله على تحقيق ذلك، فمن أجل ذلك تضمن اليمين معنى قويا في الصدق، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأ عليه واستخف به، ومما يدل على أن أصل اليمين إشهاد الله، قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ [البقرة: 204] كما تقدم، وقول العرب يعلم الله في مقام الحلف المغلظ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي.

8. معنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز نهي المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلا معنويا دون فعل ما حلفوا على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس فاللّام للتعليل، وهي متعلقة بتجعلوا، و﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة، المطرد حذفها مع أن، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزا عن فعل البر والإصلاح والتقوى، فالآية على هذا الوجه نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص.

9. كانت العرب في الجاهلية تغضب فتقسم بالله وبآلهتها وبآبائها، على الامتناع من شيء، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة، وفي (الكشاف) (كان الرجل يحلف على ترك الخير من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم.

10. قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر ألا ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك، ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية، وقيل: نزلت في حلف عبد الله بن رواحة ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما، وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به في الامتناع من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، فالأيمان على ظاهره، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة، و﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ مفعول الأيمان، بتقدير لا محذوفة بعد (أن)والتقدير ألا تبروا، نظير قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176] وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحلف بالله على ترك الطاعات؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سببا في قطع ما أمر الله بفعله، وهذا النهي يستلزم: أنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح، أنه لا حرج في ذلك، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير، أو معناه: لا تجعلوا اسم الله معرضا للحلف، كما قلنا، ويكون قوله: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ مفعولا لأجله وهو علة للنهي؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبرارا أتقياء مصلحين، وفي قريب من هذا، قال مالك (بلغني أنّه الحلف بالله في كل شيء) وعليه فتكون الآية نهيا عن الإسراع بالحلف لأن كثرة الحلف، تعرض الحالف للحنث، وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونعر الحمق، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثيّر:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن سبقت منه الأليّة برّت‏

وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعارا لما يكثر الحلول حوله، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرّض للقاصدين، وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته.

11. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تذييل، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات، والمقصود لازمه، وهو الوعد على الامتثال، على جميع التقادير، والعذر في الحنث على التقدير الأول، والتحذير من الحلف على التقدير الثاني.

12. دلت الآية على معنى عظيم وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه، وهذا وإن كان مقصدا جليلا يشكر عليه الحالف الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضى به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر، والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، إذ قد علم الله تعالى أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبر اليمين أدب مع اسم الله تعالى، والإتيان بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمر الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل: الامتثال مقدّم على الأدب، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفّرت عن يميني وفعلت الذي هو خير)، ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثا من مائة عصا فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غير مقصد أيوب؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه، ولعل الكفّارة لم تكن مشروعة فهي من يسر الإسلام وسماحته، فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلّة اليمين بالكفّارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب.

13. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن، ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلت قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: 224] نهيا عن الحلف.

المؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه‏ ليعاتبه أو يعاقبه، قال كعب بن زهير:

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم‏...أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل‏

فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين.

14. المؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلّا ما أذن الله في كفّارته، كما في آية سورة العقود.

15. اللغو مصدر لغا إذا قال كلاما خطئا، يقال: لغا يلغو لغوا كسعا، ولغا يلغى لغيا كسعى، ولغة القرآن بالواو، وفي (اللسان): (أنه لا نظير له إلّا قولهم أسوته أسوا وأسى أصلحته) وفي الكواشي: (ولغا يلغو لغوا قال باطلا)، ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط، الذي لا يعتد به، وهو الخطأ، وهو إطلاق شائع، وقد اقتصر عليه الزمخشري في (الأساس) ولم يجعله مجازا؛ واقتصر على التفسير به في (الكشاف) وتبعه متابعوه.

16. (في) للظرفية المجازية المراد بها الملابسة، وهي ظرف مستقر، صفة اللغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى على جعل اللغو بمعنى المصدر، وهو الأظهر: لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو، أي غير المقصود من القول، فإذا جعلت اللغو اسما بمعنى الكلام الساقط الخاطئ، لم تصح ظرفيته في الأيمان، لأنه من الأيمان، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو.

17. الأيمان جمع يمين، واليمين القسم والحلف، وهو ذكر اسم الله تعالى، أو بعض صفاته، أو بعض شئونه العليا أو شعائره، فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدي، وبمناسك الحج، والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة: الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت، وربما حلفوا بدماء البدن، وربما قالوا والدماء، وقد يدخلون لاما على عمر الله، يقال: لعمر الله، ويقولون: عمرك الله، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام، فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل، أو براءة من حق، وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم وأبيك ولعمرك ولعمري، ويحلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله، ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسم ليلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على‏ فعل لا محالة منه، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه، أكده بالقسم، قال بلعاء بن قيس:

وفارس في غمار الموت منغمس‏...إذا تألّى على مكروهة صدقا

(أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة) فصار نطقهم باليمين مؤذنا بالغرم، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأكيد ونحوه، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيّر:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن سبقت منه الأليّة برّت‏

فأشبهه جريان الحلف على اللسان اللغو من الكلام.

18. اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية:

أ. فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان، لم يقصد المتكلم بها الحلف، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه، كقول العرب: لا والله، وبلى والله، وقول القائل: والله لقد سمعت من فلان كلاما عجبا، وغير هذا ليس بلغو، وهذا قول عائشة، رواه عنها في (الموطأ) و(الصّحاح)، وإليه ذهب الشعبي، وأبو قلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وأخذ به الشافعي، والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيما للتي كسبها القلب في هذه الآية، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا﴾ [المائدة: 89] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبيّن، فيحمل عليه مجمل‏ ﴿بِمَا عَقَّدْتُمُ﴾ فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف، وهي التي تجري على اللسان دون قصد، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة؛ لأن نفي الفعل يعم، فاليمين التي لا قصد فيها لا إثم ولا كفارة عليها، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: 89] فيكون في الغموس، وفي يمين التعليق، وفي اليمين على الظن، ثم يتبين خلافه، الكفارة في جميع ذلك.

ب. وقال مالك: (لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبيّن خلاف ظنه) قال في (الموطأ): (وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك) وهو مروي في غير (الموطأ)، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن وإبراهيم وقتادة والسدي ومكحول وابن أبي نجيح، ووجهه من الآية: أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة إلّا على الحنث لا أصل القسم؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية، وبينت في آية المائدة بالكفارة، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث، فهو اللغو، فلا مؤاخذة فيه، أي لا كفارة وأما قول الرجل: لا والله وبلى والله، وهو كاذب، فهو عند مالك قسم ليس بلغو، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق، والقائل: (لا والله) كاذبا، لم يتبين حنثه له بعد اليمين، بل هو غافل عن كونه حالفا، فإذا انتبه للحلف وجبت عليه الكفارة، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث، وإنما جعلنا تفسير (ما كسبت قلوبكم) كسب القلب للحنث، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: 224]، إما إذن في الحنث، أو نهي عن الحلف خشية الحنث، على الوجهين الماضيين، وقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾ بيان وتعليل لذلك، وحكم البيان حكم المبين، لأنه عينه.

ج. وقال جماعة: اللغو ما لم يقصد به الكذب، فتشمل القسمين، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في لا والله وبلى والله كان بقصد مع اعتقاد الصدق فتبين خلافه، وممن قال بهذا ابن عباس والشعبي وقال به أبو حنيفة، فقال: اللغو لا كفارة فيها ولا إثم، واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا، مقابلا لما كسبته القلوب، ونفى المؤاخذة عن اللغو وأثبتها لما كسبه القلب، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف، فاللغو هي التي لا حنث فيها؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضا حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلا لما كسبه القلب، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب، أريد به الغموس؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلا للأيمان المعقودة.

19. العقد في الأصل: الربط، وهو معناه لغة، وقد أضافه إلى الأيمان، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ﴾ [المائدة: 89] إلخ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس، والمنعقدة، وهو نوعان لا محالة، وظهر حكم الغموس، وهي الحلف بتعمد الكذب، فهو الإثم، وحكم المنعقدة أنه الكفارة، فوافق مالكا في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو، وهذا تحقيق مذهبه، وفي اللغو غير هذه المذاهب مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة، لا نطيل بها.

20. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/358

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كلام الله سبحانه وتعالى من قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة] في الأسرة وبيان أسس التلاؤم بين ركنيها ودعامتها؛ وهى الدين والأخلاق، لا المال ولا الجاه ولا الجمال؛ فإن تلك أمور قد تكون عند التفاضل بعد تحقق الأصل وهو التدين والخلق؛ فلا ينظر إلى هذه الأمور إلا بعد تأكد هذين الأصلين.

2. بين سبحانه بعد ذلك شيئا من العشرة الزوجية يتصل بالعلاقة الفطرية بين الزوجين؛ وفى هذه الآيات ذكر الأمر الذي يتصل بظلم الرجل لزوجه فيما يتصل بتلك العلاقة، وذلك بأن يمتنع عما يتقاضاه الطبع مضارة لها، وقد يكون له زوج أخرى يشبع عندها حاجته الفطرية، ويترك هذه كالمعلّقة، لا هي زوج تأنس بالحياة الزوجية، ولا هي مطلقة تأنس بأهلها ولا تذوق مضاضة الظلم والحرمان مما أحله الله؛ وقد يوثق ذلك بيمين يحلفها، ويتوهم أن من الخير البرّ بهذه اليمين، وأن يترك زوجه تأكلها الغيرة، وتكتوى بلوعة الظلم والأذى والمكايدة، وتستوحش بتلك النفرة المستحكمة.

3. بين سبحانه وتعالى الأمر، ووثق البيان، فنهى عن الأيمان إن حلف وكان الاستمرار على البر باليمين ظلما، وذكر العقوبة الرادعة لمن يعمد إلى مكايدة أهله، والإساءة إليها والإضرار بها إن استمر في غيه ولم يسلك الطريق الذي بينه رب العالمين للخروج من تبعة اليمين، وهو تحلتها، وهى الكفارة.

4. فى بيان الأمر الأول قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ العرضة بضم العين: تطلق على النصبة التي تتعرض للسهام ونحوها؛ وأطلقت على كل ما يتعرض للأشياء والأمور ويكون هدفا لها فيقال: فلان عرضة للسفر أي متعرض له، وتطلق العرضة على القوة وعلى الهمة؛ ومن ذلك قول بعض الشعراء في مدح الأنصار: (والأنصار عرضتها اللقاء) وتطلق العرضة على الحاجز الذي يحول ويمنع.

5. اليمين تطلق بمعنى الحلف والقسم؛ وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا وثقوا عهودهم بالقسم يقسمونه، وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه وأطلق على القسم كلمة اليمين؛ وتطلق اليمين على الأمور المحلوف بها؛ ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك)

6. كلمة العرضة في الآية الكريمة يصح أن تكون بمعنى القوة؛ والمعنى عليه لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم التي تمتنعون فيها عن أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، أي لا تتخذوا من قسم الله سبيلا للامتناع عن فعل الخير، ويصح أن تكون العرضة بمعنى المعرض للأمر كقول القائل: (فلا تجعلوني عرضة للوائم) ويكون المعنى على هذا كما قرر الزمخشري لا تجعلوا الله سبحانه وتعالى معرضا لأيمانكم فتبتذلوا القسم بالله بكثرة الحلف؛ وذلك لكى تبروا وتتقوا وتصلحوا؛ وذلك لأن من يكثر الحلف يكون مهينا بين الناس، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾ [القلم‏]، ولأن المكثر من الحلف لا يكون ممن يصون يمينه فيبر بها؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة] ومن لا يصون يمينه لا يبر بها بل يقع في الحنث الكثير وقد يكفر وربما لا يكفر؛ ومن يعرض اليمين في القليل والكثير، والعظيم والحقير من الأمور لا يكون متقيا لله، ولمهانته لا يصلح بين الناس.

7. يصح ـ وهو الراجح ـ أن تكون العرضة بمعنى الحاجز المعترض، ويكون المعنى على ذلك: لا تجعلوا الحلف بالله سبحانه وتعالى حاجزا ممانعا بينكم وبين فعل الخير، فلا تحلفوا في أمر يكون الامتناع فيه امتناعا عن خير وتقوى وإصلاح بين الناس؛ وذلك لأن الرجل كان يحلف على الامتناع عن بر غضبا على من يطلبه.. وقد روى أيضا أن عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه (زوج أخته) النعمان ابن بشير شيء، فحلف بالله ألا يدخل عليه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصمه، وإذا قيل له فيه قال قد حلفت بالله ألا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني؛ فكانت الآية الكريمة ناهية عن ذلك فمن حلف على شيء فرأى خيرا منه، فلا يصح أن يجعل الحلف بالله عرضة محاجزة دون فعل الخير، بل عليه أن يفعل الخير ويحنث ويؤدى كفارة اليمين المذكورة في سورة المائدة، في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة]

8. تفسير العرضة بمعنى المحاجز المعارض دون فعل الخير، هو الأرجح كما نوهنا، والإيمان حينئذ تفسر بأنها أفعال الخير المحلوف على الامتناع منها؛ ووجه الترجيح من ناحيتين:

أ. أولاهما ـ أن هذا التفسير هو المناسب لما يجئ بعد ذلك، وهو المقصد من السياق، وهو قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏﴾ فإن مقتضاها أنه لا يصح أن تكون اليمين محاجزة دون فيء الرجل إلى أهله، ومنع الأذى والضرر عنها.

ب. ثانيتهما ـ أن الأحاديث كثيرة متضافرة تحث الحالف على الحنث في يمينه إذا كان الحلف مؤداه الامتناع عن البر؛ فقد روى في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها)، وروى أيضا أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن ابن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)، وروى مسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى كفارته التي افترض الله عليه)

9. ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ هو بيان للخير الذي كانت اليمين تحاجز دونه، وتمنع القيام به؛ والمعنى: لا تجعلوا الله محاجزا دون أيمانكم لكى تتمكنوا من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، والنسق البياني الكريم يفيد أن علة النهى في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ هو ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، فالخير الذي يطلب، ولا يصح أن تحاجز اليمين دونه ثلاثة أنواع على حسب ما كان يقع من الناس في أيمانهم:

أ. أولها: البر بالرحم، كما حصل في يمين بكر.

ب. ثانيها: التقوى بأن يجعل بينه وبين أذى الناس وغضب الله بأذاهم وقاية، كما يتبين في حلف الرجل في أهله مضارة بهن وإيذاء لهن.

ج. الثالث: الصلح بين الناس كما حدث في يمين عبد الله بن رواحة مع ختنه النعمان بن بشير، وما من خير يحلف الناس على الامتناع عنه إلا وهو داخل في هذه الأنواع الثلاثة.

10. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالت كلماته الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أنه سميع لأيمانهم عند النطق بها وتوثيقهم القول بها، عليم بالدوافع إليها، والبواعث التي بعثت عليها، والنتائج التي تتأدى إليها؛ وإنه تقدست ذاته، وتعالت صفاته، يغفر لهم أيمانهم بالحنث ثم الكفارة في نظير الخير العميم والنفع العظيم، ومنع الضرر والضرار بالأهل، والبر بذوي الأرحام؛ ثم ذلك التذييل الكريم لا يخلو من إنذار بغضب الرحمن الرحيم إن أصروا على ما هم عليه ولم يثوبوا إلى رشدهم ويتخذوا تحلة أيمانهم طريقا للعودة إلى البر.

11. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ اللغو من الكلام: ما لا يعتد به، ولا يصدر عن فكر وروية؛ وأصله من لغا الطير، وهو صوت الطيور الذي لا يفهم منه شيء ويظن الإنسان أنه لا يقصد به شيء، وقد يطلق اللغو على الكلام القبيح الذي ينبغي ألا يعتد به؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ [النبأ] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص‏] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان‏]

12. إذا كان اللغو من الكلام ما لا يعتد به ولا يورد مورد الروية والتفكير، فلغو اليمين ما لا يعتد به ولم يصدر عن روية وتفكير، وقد روى في الآثار صور لأيمان اللغو، وأخذ بعض الفقهاء صورة منها وحصر اللغو فيها، وأخذ غيره بصورة أخرى، وقصر اللغو عليها، وأرى أن كل صور أيمان اللغو الواردة عن الصحابة تدخل في معنى يمين اللغو التي كان من فضل الله على عباده ورحمته بهم أن رفع عنهم إثمها، ولم يجعلها موضع مؤاخذة ولا اعتداد، فلا إثم ولا كفارة فيها، ولنسرد هذه الصور بإسنادها، وكلها يقع مثله في الحياة اليوم، كما وقع مثله بين الناس في الماضي:

أ. من صور يمين اللغو ما رواه الزهري عن عائشة أنها قالت: إن اللغو هو ما يكون بين القوم يتدارؤون به في الأمر، فيقول هذا والله وبلى والله، وكلا والله يتدارؤون في الأمر، ولا تعقد عليه قلوبهم؛ أي أن القوم يتحادثون أو يتذاكرون فتجرى على ألسنتهم ألفاظ اليمين لا يقصدون بها يمينا، فلا يقصدون توثيق قول، ولا تأكيد خبر، وقصر الشافعية اللغو على هذا.

ب. من صور اللغو ما روى عن عائشة أيضا أن اللغو هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه؛ أي أن الشخص يحلف على أمر يعتقد أنه الصدق، ثم يتبين أنه كان مخطئا في اعتقاده؛ فهذا لا يؤاخذ عليه رب العالمين، ولا كفارة فيه، وبهذا فسر الحنفية اللغو.

ج. من صور اللغو المروية عن ابن عباس يمين الغضب الذي يذهب فيه اللب، ويفقد التقدير؛ فقد روى عن ابن عباس أنّه قال: (لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان) وإن ذلك فيه بعض النظر، وهو سليم إن قصد به الغضب الذي يفقد فيه الغاضب وزن الأمور.

د. من صور اللغو ما روى مرسلا عن الحسن البصرى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مر على قوم ينتضلون ـ يعنى يترامون بالسهام ـ ومع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله؛ فقال‏ الذى مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (حنث الرجل يا رسول الله! قال: (كلا؛ أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة)، وهذه الصورة قريبة من الصورة الأولى أو الثانية.

13. نرى كما نوهنا من قبل أن هذه الصور كلها تدخل في معنى اللغو؛ لأن معنى اللغو يفهم من مقابله؛ وهو ما ليس بلغو، وغير اللغو هو ما يقصده القلب قصدا صحيحا مبنيا على علم صحيح، وهو موضع المؤاخذة والله سبحانه عبر عن موضع المؤاخذة بأنه ما اكتسبته القلوب أي قصدته واتجهت إليه بعزيمة وعلى علم صحيح؛ وكل الصور السابقة ليس فيها كسب للقلب مبنى على إرادة وعلم صحيح، فلا مؤاخذة، فتكون لغوا.

14. معنى عدم المؤاخذة أنه لا إثم في الآخرة ولا عقوبة في الحنث؛ لأنه لا يمين حتى يكون منع، وحتى تجب الكفارة.

15. سؤال وإشكال: إن الحلف بالله ولولغوا وتكرار ذلك فيه بلا شك ما لا يتفق مع ما للاسم الكريم من إجلال وما يستحق من صون وتحفظ عند النطق، وهو الأمر الذي اتفق عليه العلماء، فكيف لا تكون مؤاخذة في لغو الأيمان؟ والجواب: إنه بلا شك يجب أن يصان اللسان عن النطق بأيمان اللغو ما أمكن، وإن ثمة إثما إذا كررها وأكثر منها في الجليل والحقير، والصغير والكبير، حتى صار اللفظ يجرى على لسانه من غير احتياط؛ لأن ذلك قد يؤدى إلى الحلف غير لاغ، بل مع اكتساب القلب؛ ولكن ذلك الاسم الذي جاء من الإكثار والتكرار والاستمرار، ليس هو الإثم المنفى في الحلف الواحد فالإثم الثابت هو ما كان في الكل والاستمرار، والإثم المنفي ما كان في الجزء والانفراد، على أن نفى المؤاخذة إنما هو ليقدم على الفعل من غير تحرج، وذلك متحقق في كل أيمان اللغو، سواء أكانت ممن يكثر أم كانت ممن يقل، وإن كان ثمة لوم فهو موجه إلى الشخص في جملة أحواله وصفاته، لا في ذات اليمين منفردة.

16. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ هذا موضع المؤاخذة، وهو ما كسبته القلوب، أي قصدته وأرادته، ولم يجئ عفو الخاطر؛ أو لم يبن على علم ناقص وما قصدته القلوب نوعان:

أ. أحدهما: أن يقصد إلى فعل أمر أو الامتناع عن أمر مستحصدا عزيمته على ذلك، موثقا تلك العزيمة بيمين الله سبحانه وتعالى.

ب. وثانيهما ـ أن يحلف على شيء كاذب مؤكدا قوله لسامعه ليعتقد السامع صدقه، والحالف جازم بأنه كاذب؛ وتسمى هذه اليمين يمين الغموس، ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور، والكاذبون في التقاضى.

17. المؤاخذة في النوع الأول بوجوب الكفارة إن حنث في يمينه، وفى النوع الثاني بالإثم المستمر، حتى يتوب توبة نصوحا، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على يمينه ضياع حق أو حكم بباطل، ولقد قرر الشافعي أنه تجب مع ذلك كفارة يمين، ولم ير الحنفية فيها كفارة، إنما الكفارة فيما يقبل الحنث، وتلك لا تقبل الحنث.

18. عبر سبحانه وتعالى عن القصد والتعمد بقوله تعالى: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وكسب القلب أدق وأخص من مجرد التعمد؛ وذلك لأن كسب القلب معناه أن اليمين كان لها أثر فيه، قد اكتسبه منها، كما كسبت منه القصد والابتعاد عن معنى اللغو.

19. الأثر الذي تنتجه الأيمان المقصودة يختلف باختلافها:

أ. فإن كانت يمينا برة هي خير في ذاتها وفى موضوعها، والإصرار عليها لا ينتج إلا خيرا، اكتسبت القلوب عزيمة نحو الخير، وإصرارا عليه وإيمانا به، فتشرق بنور الله، وتستنير بذكر الله.

ب. وإن كانت اليمين فاجرة كاذبة في موضوعها لم يقصد الحالف فيها إلا تزكية الإثم، فإن القلب يكسب منها شرا، إذ ينكت فيه الإثم نكتة سوداء، وبتكرارها تحيط بالقلب خطيئاته، وتستغرقه سيئاته، ويرين الله سبحانه وتعالى عليه بغشاوة كثيفة من الآثام.

ج. وإن كانت اليمين غير فاجرة، ولكن الإصرار على موضوعها فيه منع للخير، يكون الكسب شرا إن أصر عليها، ويغفر الله إن اتخذ السبيل الذي يكون به تحلة الأيمان، وهو الكفارة السهلة الميسرة لكل إنسان.

20. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ ذيل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو، ولبيان أنه سبحانه يأخذ عباده بالرفق، ويسهل لهم سبيل العودة إلى الجادة المستقيمة إن حادوا عنها، وتنكبوا سبيل المؤمنين، ويرشدهم إلى ما يخرجون به مما يلقون بأنفسهم فيه من أقوال وأفعال؛ فهو يبين طريق التحلل من الأيمان إن حلفوا ليتركوا خيرا، أو ليرتكبوا شرا، وهو بحلمه وتدبيره وحكمته يبين لهم الحق والسبيل إليه؛ وإن سبقت الأيمان محاجزة دون الخير طلب إليهم ألا يتمسكوا بها ويفعلوا الخير، وإن رحمة الله سبحانه وتعالى في الأيمان وغفرانه وحلمه قد بدا في الإعفاء من يمين اللغو، وعدم اعتبارها، وفى المؤاخذة على ما تكسبه القلوب مع تسهيل العودة إلى فعل الخير، وفى بيان التحلل من اليمين إن حالت بين صاحبها والبر والتقوى والإصلاح بين الناس.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/742

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾، نهى الله سبحانه عن الجرأة عليه بكثرة الحلف به، لأن من أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة له، يقول الرجل لغيره تكلمت علي كثيرا حتى جعلتني عرضة لكذا.. وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾، ومن أكثر الحلف قلّت مهابته، وكثر حنثه، واتهم بالكذب.

2. ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، هذا تعليل للنهي عن اليمين، والمعنى ان الله نهاكم عنها من غير ضرورة لتكونوا بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.

3. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، بعد أن نهى الله سبحانه عن الحلف بلا ضرورة بيّن ان ما يدور كثيرا على الألسن، مثل بلى والله، ولا والله، ان هذا، وما اليه، ليس من اليمين الحقيقية في شيء، وإنما هو لغو يسبق الى اللسان من غير قصد، ولا يترتب عليه ضرر لأحد، ولذا لم يفرض الله له كفارة في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة.

4. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، لأنه جلت عظمته لا ينظر الى الصور والأقوال، وإنما ينظر الى النوايا والأفعال، ومثله الآية 88 من سورة المائدة: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾، فالعاقل البالغ القاصد المختار إذا حلف وخالف فعليه أن يكفر بعتق رقبة، أو اطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فان عجز عن ذلك صام ثلاثة ايام.. وتكلمنا عن اليمين وشروطها وأحكامها في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق، باب النذر واليمين والعهد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/338

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا﴾ إلى آخر الآية، العرضة بالضم من العرض وهو كإرائة الشيء للشيء حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للأكل، ومنه ما يقال للهدف: أنه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج أنها عرضة للنكاح، وللدابة المعدة للسفر أنها عرضة للسفر، وهذا هو الأصل في معناها، وأما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.

2. الأيمان‏ جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمعنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للإصبع التي يسب بها.

3. معنى الآية (والله أعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها أيمانكم التي عقدتموها بحلفكم أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما أمر به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية، وعلى هذا يصير قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ الآية، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى‏: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، أي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا.

4. يمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا﴾، من النهي أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أداكم إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم‏ ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حد قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾، والأنسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله‏ ﴿وَلَا تَجْعَلُوا﴾، كما مر.

5. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ نوع تهديد على جميع المعاني غير أن المعنى الأول أظهرها كما لا يخفى.

6. قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال ما لا يستتبع أثرا، وأثر الشيء يختلف باختلاف جهاته ومتعلقاته، فلليمين أثر من حيث إنه لفظ، وأثر من حيث إنه مؤكد للكلام، وأثر من حيث إنه عقد وأثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبته القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول: لا والله وبلى والله.

7. الكسب‏ هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما وأصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادية ثم أستعير لكل ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شر ككسب المدح والفخر وحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالأعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذم، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونحوها بالأعمال المستتبعة لذلك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما إن‏ الاكتساب‏ اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك، وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الإنسان لا غير.

8. هذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح، فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الأذن والإبصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الإنسان البتة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾

9. الظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والإدراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدأ الحياة هو القلب، أي أن الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وأن الآثار والخواص الروحية كالإحساسات الوجدانية مثل الشعور والإرادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الأعضاء مبدأ لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة، وربما يؤيد هذا النظر:

أ. ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا أنها تفقد الإدراك ولا تشعر بشيء وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضربانه.

ب. أن الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الأحكام البدنية أعني عرش الأوامر التي يمتثلها الأعضاء الفعالة في البدن الإنساني، إذ لا ريب أنها في عين التشتت والتفرق من حيث أنفسها وأفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد وحدة حقيقية.

10. لا ينبغي أن يتوهم أن ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن أمر الدماغ وما يخصه من الفعل الإدراكي، فإن الإنسان قد تنبه لما عليه الرأس من الأهمية منذ أقدم الأزمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الأمم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدإ الحكم‏ والأمر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدواب والأنعام، ورئاس السيف، فهذا ـ على ما يظهر ـ هو السبب في إسنادهم الإدراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لأنحاء الإدراك والأفعال والصفات الروحية.

11. في القرآن شيء كثير من هذا الباب، قال تعالى: ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾، وقال: ﴿أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾، وقال: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، وليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر وإن لم يتضح كل الاتضاح بعد، وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك وللدماغ الوساطة.

12. لا يخلو قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الإثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للإشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾، وقال: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾

13. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما لا ينبغي صدوره من المؤمن، وقد قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى أن قال‏ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/222

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فسّروا جعله تعالى عرضة للأيمان بإكثار الحلف بالله جرأة على الله، والأولى: لا تجعلوا أيمانكم تعرض وتقطع البر وعمل الخير، ومن الإثم العظيم إذا كانت غموساً فقد جعلوه عرضة لأيمانهم.

2. ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وروى المرتضى عن جده القاسم عليهما السلام: أنه سئل عن هذه المسألة؟ فقال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ لا تكثروا الحلف بالله في كل حال وعند كل مقام، وقّروا الله وأجلِّوه عن أن تجعلوه عرضة لأيمانكم، وإن أصلحتم بين الناس، وإن أردتم بأيمانكم الإصلاح)، وقال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (وقال الله سبحانه: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وذلك فمعناه أن يحلف الرجل أن لا يبر له رحماً، وأن لا يصلح بين اثنين من المسلمين، لأن الله تبارك وتعالى قد أمر بالإصلاح بين المسلمين بقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:9]، ولا ينبغي للرجل إذا أَمر بخير فعُصي، أو أصلح بين اثنين فلم يُطَع؛ أن يحلف أن لا يصلح بينهما، ولا يعود في الدخول في شيء من أمرهما، فإذا قيل له أصلح بينهما قال قد حلفت أن لا أفعل فلست أقدر لمكان يميني ولست أستطيع أن أحنث في قسَمي فنهاه الله عن ذلك، وقال: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقول: ولا تجعلوا أيمانكم علة تعرض وتقطع بينكم وبين طاعة الله في صلة أرحامكم والإصلاح بين إخوانكم؛ بل بروا واتقوا وعن أيمانكم كفِّروا، وقد يدخل في تفسير هذه الآية أن يكون الله سبحانه نهى عباده عن القسم به في كل حق وباطل، وأن يجعله عرضة ليمينه في النازل وغير النازل)

3. الرواية عن الإمام القاسم عليه السلام معناها أن قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ إلى آخره؛ تفسير للمحلوف عليه فهو مرتبط بقوله: ﴿لِأَيْمَانِكُمْ﴾ كأنه قيل: لأيمانكم لتَبَرُّنًّ ولتتّقُنَّ ولتُصلِحُنَّ، أما تفسير الإمام الهادي عليه السلام فقد جعل قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ وما بعده راجع إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً﴾ أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم يعرض عن أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، وعلى هذا لا يكون: ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ تفسيراً للمحلوف عليه؛ بل كأنه قيل: لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم من أجل كراهة أن تبروا، وهذا ضعيف لعموم الأيمان وخصوص السبب، وأقرب منه أن يكون التقدير ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم من أن تبروا.. إلى آخره، واستعمال مِن في المحلوف منه ظاهر كقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ وعليه تكون الأيمان خاصة بالحلف من البر والمعنى في هذا مستقيم، والنهي عن الحلف من البر أقرب، لكنه غير صحيح؛ لعدم الدليل على تقدير مِن، فلم يبق إلا تفسير الآية بما روي عن الإمام القاسم عليه السلام أو الإمام الهادي عليه السلام، وتفسير الإمام القاسم أظهر باعتبار استعمال العرب لكلمة عرضة، وما ذكره الإمام الهادي عليه السلام قد حكى مثله (صاحب اللسان) عن الفراء.. والهادي والقاسم عليهما السلام عربيان، وفي كل من التفسيرين مرجح، والراجح عندي تفسير الإمام القاسم عليه السلام لما ذكرت، وإن كان تفسير الإمام الهادي عليه السلام أوفق للنظر.

4. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فهو يسمع الأيمان وغيرها ويعلم ما في صدور الحالفين من إجلال لله أو خلافه ويعلم كل شيء، قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: تدل على تحريم التَّجَاري على الله في الأيمان واعتيادها وإن برَّت وأن يتحرز عن تعودها)

5. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ الراجح في معنى (اللغو) أنه الملغي مع كونه خطأً في اللفظ، أو كذباً غير متعمد وإن تعمد لفظه، والمراد بالملغي الذي لا يترتب عليه في العادة إلزام فعل أوترك، ولا يؤخذ به مال أو نحوه فهو ساقط لا يعتد به، فهي كقوله تعالى بعد النهي عن دعوة الرجل لمن تبناه والأمر بدعوته لأبيه أو بالأخ أو المولى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5] وذلك أن الإنسان إذا تعود اليمين يسبق لسانه بها كما أن تعود الدعوة للمتبني يسبق لسانه بها خطأً، ولأن الله تعالى قابل اللغو بما كسبت القلوب فقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وهو كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5] ويدخل في هذا: اليمين الفاجرة إذا تعمدها الحالف وإن كان يظنها صدقاً؛ لأنه قد تعمد اليمين وليست ملغاة لأنه يترتب عليها أخذ مال أو نحوه، وعلى هذا فليس له أن يحلف إلا بما يشهد به لو كان شاهداً لأنه باليمين شاهد لنفسه كما في اللعان، وقد دخل في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على مال أخيه فاقتطعه ظالماً لقي الله يوم القيامة وهو معرض عنه) رواه الهادي في (الأحكام) بصيغة الجزم، وقال: إن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ إلى آخرها [آل عمران:77] نزلت في رجل حلف لرجل عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يميناً فاجرة باطلة فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على مال أخيه..) الحديث، ولا يقال: إنها من اللغو؛ لأنها ليست من الساقط الذي لا يعتد به كيف وهو يترتب عليها الحكم له بمال أخيه فلم تُلغَ مع أنه يشترط في الساقط الذي لا يعتد به أن يكون ظاناً صدقه مطمئناً به، أعني ظاناً لمدلول اليمين وإلا أثم بالخبر وإن لم يأثم باليمين لكونها خطأً، فالأيمان أقسام:

أ. الأول: كثرة الأيمان لغير موجب ولا حاجة تصلح لها اليمين.

ب. الثاني: اليمين الفاجرة المتعمدة المعلوم فجورها.

ج. الثالث: اليمين الفاجرة المجهول فجورها وهي متعمدة ويستفيد بها شيئاً من الدنيا.

د. الرابع: اليمين المتعمدة التي يظن صدقها وهي لا تفيده شيئاً من مال أو نحوه.

هـ. الخامس: اليمين غير المتعمدة فيما يظنه الواقع.

و. السادس: اليمين الخطأ فيما لا يظنه الواقع ولا يعلم.

6. الأولى محرمة على تفسير الإمام القاسم عليه السلام، والثانية بلا خلاف، والثالثة في الراجح لعموم الأدلة، والثلاث الباقية لا إثم فيها؛ إلا أن الإثم في السادسة في الخبر، ويمكن جعلها أربعاً:

أ. الأولى: كثرة الأيمان.

ب. الثانية: المتعمدة التي يقتطع بها مال المسلم.

ج. الثالثة: الملغاة.

د. الرابعة: اليمين الفاجرة المتعمدة التي يعلم كذبها ولا تفيده شيئاً، وهي إثم.

7. هذه الأقسام في غير المعقودة فهي قسم وحدها، وقد جعلها علماؤنا ثلاثاً: الغموس، واللغو، والمعقودة، ويمكن جعل الغموس ما يأثم بها، واللغو الملغاة الساقطة كما فصَّلْت، والمعقودة تأتي ـ إن شاء الله ـ في (سورة المائدة)

8. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فهو لا يؤاخذ باللغو، ولا يعاجل بعقوبة كسب القلوب، ويقبل التوبة ممن يتوب.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/334

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل: إن الآية نزلت في عبد الله بن رواحة الذي حلف أن لا يدخل على ختنه‏ ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته، فكان يقول: إني حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أفعله فنزلت الآية، وقال المفسرون: إن كلمة ﴿عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ تحتمل عدة معان:

أ. أحدها: المانع والحاجز من الاعتراض بين الأشياء، فتكون نهيا عن جعل اليمين حاجزا بين الإنسان وبين البر والتقوى والإصلاح.

ب. ثانيها: الحجة والمبرّر عن الامتناع عن هذه الأمور، باعتبار اضطرار الإنسان إلى الالتزام بيمينه.

ج. ثالثها: المعرض، بمعنى أن تكون اليمين عادة تجعل الله معرضا للحلف به دائما في الحق والباطل، وقد قيل إن من أكثر ذكر شيء، فقد جعله عرضة له‏.

2. قد يبدو لنا أن الآية لا تبتعد عن الأجواء الثلاثة، من خلال اختيار المعنى الثالث، الذي يوحي بأن الابتذال والإكثار من اليمين في كل شيء قد يؤدي إلى المنع من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، لأن العادة قد تجعله‏ يحلف على ترك هذه الأمور في بعض الأوضاع الانفعالية التي يمر بها، فيجعل ذلك حجة للانحراف عن خط البر والتقوى والإصلاح بين الناس، ومانعا عن السير في هذا الاتجاه، ولا يبعد أن لا تكون هذه المعاني التي يذكرها المفسرون مدلولا للفظ، بل هي استيحاء من جو الكلمة، ومعناها أن المعنى الثاني يرجع إلى الأول، لأن كونه حجة في المنع يجعله حاجزا عنها عن البر والتقوى، والله العالم.

3. ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾، أي: لا تندفعوا أيها المؤمنون في هذا الأسلوب اللاإنساني المغلّف بغلاف إيماني، كما لو كان إيمانكم بالله الذي لا بد من أن يطلّ بكم على الخير والبر والإصلاح بين الناس، حركة في الكلمة التي تؤدي إلى حركة سلبية في الواقع فتلجؤون إلى الحلف بالله، تقدمونها أمامكم لتتخذوها حاجزا بينكم وبين الانطلاق مع البرّ في الحياة، والتقوى في الموقف، والإصلاح بين الناس، في حاجة الحياة إليكم في عملية الانفتاح على الناس والالتزام بالخط، وحل المشاكل.. لتجعلوا حلفكم بالله حجة لكم على هذه السلبية، ليقول بعضكم لبعض: إنني لا أملك الدخول في عملية السلام الاجتماعي، أو في تقديم الخير لهذا أو ذاك، أو الالتزام بهذا الخط أو ذاك، لأني حلفت بالله على الامتناع عن ذلك، ولليمين قدسيتها لأنها تمثل قدسية الإيمان بالله، الذي يعني الحلف باسمه أن يكون الشاهد علينا في التزاماتنا بما نفعل أو نترك أو نتخذ من مواقف وعلاقات.

4. إن مثل هذا الفهم الخاطئ لليمين، في خط الإيمان، يمثل خطورة كبري على حركة الإنسان في مقدساته، لأنه يهدم القيم الإنسانية والروحية التي‏ يحبها الله باسم الله، وهذا هو الإخلال بالتوازن في حركة الإنسان والإيمان.

5. إن الله لا يريدكم أن تحوّلوا اسمه إلى كلمة مبتذلة تكررونها في تغطية العقد النفسية، والأحقاد الذاتية، والمشاعر السلبية، والانحرافات العاطفية.. ليكون حجة لكم ومانعا عن‏ ﴿أَنْ تَبَرُّوا﴾ بما يمثله البرّ في معنى الخير في داخل الذات وفي خدمة الإنسان والحياة، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله بالسير على منهاجه في تأكيد القيم الروحية والأخلاقية التي تمنح الأرض، في إنسانها، انضباطا وتوازنا وقوة في حساب المسؤولية، ﴿وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ عندما يختلفون أو يتنازعون أو يتحاربون، فإن الإصلاح يمثل عمق الصلابة في ثبات الواقع الإنساني، وابتعاده عن الضياع والاهتزاز.

6. لا تجعلوا اسم الله يعترض هذه القيم الأخلاقية، لتمنعوها من الانطلاق، ليكون حاجزا بينكم وبين تأكيدها في حياتكم، ولا تبتذلوا اسمه بالحلف الكثير، فإذا دعيتم لمثل هذه الأمور، بادرتم بفعل العادة أو السرعة الانفعالية إلى الحلف، الذي يوحي بالابتعاد عن حركة هذه القيم في حياة الناس، فإن الله هو إله البر، ورب التقوي، الذي يوحي لرسله ولعباده بالإصلاح بين الناس، فكيف تجعلون اسمه ضد ذلك كله؟ وكيف تغفلون عنه وتتحدثون في ما بينكم بمختلف الأمور والأساليب من دون الالتفات إليه!؟

7. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ يسمع كل ما تتكلمون به، وما تهمسون به حتى وساوس النفس في هينمات الشعور، ﴿عَلِيمٌ﴾ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فكيف لا يعلم حواراتكم وكلماتكم يا أيها المؤمنون!؟ وهذا يفرض عليكم أن تستحضروا رقابة الله في كل ما تفيضون فيه من كلمات وأفكار، مما لا يتناسب مع الخط الإلهي في ما يريد للإنسان أن يفعله أو يتركه، حتى ينضبط الإنسان في وسائل التعبير ومنطلقات الفكر، فلا يبتعد عن مواقع رضى الله في حياته العامة والخاصة.

8. قد نستطيع أن نفهم من هذه الآية دور اليمين في الإسلام، فإن اليمين تعني التزام الإنسان بفعل شيء وتركه من خلال إدخال الله كعنصر شاهد ومؤكد على صدق هذا الالتزام وعلى توثيقه.. وبذلك يستمد الحالف من قداسة اسم الله المبرر والحجة على تأكيد موقفه في الالتزام العملي بالحلف، في ما إذا طلب منه التراجع عنه، وهذا ما درج عليه الناس في حالات الانفعال الشديد، حيث نراهم يحلفون بالله على ترك كثير من الأشياء التي لا يحسن بهم تركها، أو يحلفون به على فعل بعض الأشياء التي لا ينبغي لهم فعلها، فيبتعدون بذلك عن خط البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس في ما إذا تعلق الحلف ببعض الأمور التي تبتعد عن هذه الخطوط..

9. شددت الآية على رفض ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يتلاعب باسم الله ويبتذله ويتخذه حجة في ما لا يرضي الله، فلا قداسة لأي يمين لا يجد الإنسان صلاحا فيه باسم قداسة اسم الله، لأن تقديس الله الحقيقي لا يتحقق إلا بامتثال أوامره ونواهيه في ما يصلح به أمر الحياة والإنسان، فلا يمكن أن يلزم الله الإنسان بالسير على يمين تضاد أمر الله ونهيه في ما يحبه أو يبغضه..

10. ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، في ما رواه أبو أيوب الخزاز، عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام قال سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين، فإنه عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾، وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (جعفر الصادق) عليه السّلام‏ في قوله الله عز وجل: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين ألا أفعل‏، وقد أفتى الفقهاء بأن من حلف على شيء، فرأى خيرا منه، فله أن ينقض يمينه ويفعل الذي هو خير.

11. من خلال ذلك، يتحدد دور اليمين، ليتمثل في الحالات التي يريد الإنسان أن يلزم نفسه بفعل طاعة أو ترك معصية أو عادة سيئة، أو الدخول في شأن من شؤون الدنيا التي لا تنفعه في إيمانه ولا في حياته.. ففي مثل هذه الحالات، يتحول اليمين إلى عنصر يدعم الإرادة ويقويها وينميها، من خلال ما يمثله من الالتزام بالشيء على أساس اسم الله، في ما يمثله هذا الاسم من قداسة وعظمة واحترام.. فيجتمع للإنسان، من خلال يمينه، شيئان.

أ. أحدهما: قداسة المضمون، باعتباره شيئا يريد الله فعله أو يريد تركه في ذاته.

ب. ثانيهما: قداسة الالتزام، باعتبار ارتباطه باسم الله، وبذلك يتحول اليمين إلى عنصر تربوي ضاغط يستفيد منه الإنسان في دنياه وفي آخرته.

12. قراءات وحجج: قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أن الإنسان لا يتحمل مسئولية مثل هذا اليمين، لأن الله لا يؤاخذ الناس على أعمالهم، إلا من خلال الالتزامات والدوافع‏ الداخلية التي تمثلها الأعمال أو تدل عليها الكلمات، ولا بد في الالتزام من نية وعمل أو كلمة تظهر منها النية، فلا قيمة لنية بدون عمل، ولا قيمة لعمل لا ينطلق من نية.. وقد يتوهم البعض من الآية، أن الله يؤاخذ الإنسان بما كسبته القلوب من النوايا، وإن لم تتمثل في عمل أو في كلمة، وربما يؤكدون ذلك بالأحاديث الشريفة التي جاء في بعضها: (فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وجاء في بعضها الآخر: (إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة)، لكن الآية لا تفيد ذلك، لأنها في مجال التمييز بين اليمين اللغو الذي لا ينطلق من النية القلبية والالتزام الداخلي، وبين اليمين الجدي الذي يرتبط بالنية والالتزام، وليست في مجال الحديث عن النية المجرّدة.

13. الحديثان المذكوران، ينطلقان من موقع الحديث عن اختلاف مسئولية العمل من خلال اختلاف النية الدافعة له، لأن النيّة تنوّع العمل وتلوّنه بلونها، فيختلف حسنه وقبحه حسب اختلاف النية، كما يذكرون ذلك في ضرب اليتيم الذي يختلف حاله بين التحريم والتحليل حسب اختلاف القصد، فإذا كان الضرب للتأديب، كان حلالا، وربما يصل إلى حد الوجوب، وإذا كان للتشفّي والانتقام والعبث، كان محرما، وإذا كان الله لا يؤاخذ الإنسان باللغو في يمينه، فلا يمنعنا ذلك من القول: إن الإكثار من اليمين يعتبر من العادات السيئة المرغوب عنها في الشرع، لأنها تمثل إساءة غير مقصودة لاسم الجلالة في ما يمثله ذلك من التلاعب والاستهانة به.

14. ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ التي لا توحي في مدلولها النفسي بأيّ شيء، لأنها جرت على سبيل العادة التي يعتادها الناس في التلفّظ بصيغة اليمين، من دون أن ينطلق من أي التزام عقدي بالإتيان بمتعلقه، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام‏ ـ تعليقا على هذه الآية ـ قال هو: (لا والله) و(بلى والله) و(كلا والله)، لا يعقد عليها أو لا يعقد على شيء، وعلى هذا فلا مسئولية على الحالف، لأنه لم يقصد الحلف، بل تكلم باليمين من دون شعور كأية لازمة في اللفظ يعتادها الإنسان من دون قصد.

15. ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي: عقولكم أو نفوسكم، أو المنطقة الداخلية في الرأس التي تنتج الفكرة، وتبدع النيّة، وتحرّك الإرادة.. وبذلك كانت الأفكار والنيات والإرادات حركة كسب في الذات، منطلقة من اختيار الإنسان الذاتي، مما يفرض عليه أن يتحمل مسئولية هذا الكسب، باعتبار أنه إنتاجه العملي في الداخل الذي ينعكس، سلبا أو إيجابا، على إنتاجه الخارجي في عمله.

16. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ لما يصدر من المؤمن من هذا اللغو الذي أراد له أن يعرض عنه لكراهته له، ولكن بالدرجة التي لم تصل بها إلى حد الإلزام، وفي ضوء ذلك، قد نستوحي من هذه الفقرة أن الإتيان بالمكروهات قد يلتقي بالحاجة إلى المغفرة والرحمة، لما في ذلك من الحزازة العملية، التي لا يحب الله للإنسان أن يقوم بها، باعتبار أن المنهج التربوي القرآني يؤكد على الهدف الإيماني في تحرك الإنسان.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/264

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حدث خلاف بين صهر أحد الصحابة وابنته، وهذا الصحابي هو (عبد الله بن رواحة) حيث أقسم أن لا يتدخّل في الإصلاح بين الزّوجين، فنزلت الآية تنهى عن هذا اللّون من القسم وتلغي آثاره.

2. كما قرأنا في سبب النّزول أنّ الآيتين الكريمتين ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القسم، فكانت هذه مقدّمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء والقسم وترك المقاربة الجنسيّة.

3. (الأيمان) جمع (يمين) و(عرضة) بضم العين، تقال للبضاعة وأمثالها التي تعرض أمام الناس في السوق، وقد تطلق العرضة على موانع الطريق لأنّها تعترض طريق الإنسان، وذهب البعض إلى أنّ المراد بها ما يشمل جميع الأعمال، فالآية تنهى عن القسم بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة وعن الاستخفاف باسمه سبحانه، وبهذا حذّرت الآية من القسم إلّا في كبائر الأمور، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث الكثيرة، وقد روي عن الصادق عليه السّلام: (لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنّ الله سبحانه يقول: ولا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ)، وهناك أحاديث متعدّدة وردت في هذا المجال.

4. لو أخذنا سبب نزول الآية بنظر الاعتبار يكون مؤدّاها أنّ القسم ليس بعمل مطلوب في الأعمال الصالحة، فكيف بالقسم بترك الأعمال الصالحة!؟ وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعا من أعمال الخير فتقول: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي عن إرادة واختيار في هذه الآية يشير الله تعالى إلى نوعين من القسم:

أ. الأوّل: القسم اللغو الذي لا أثر له، ولا يعبأ به، هذا النوع من القسم يتردّد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكرّرونه في كلامهم عن عادة لهم، فيقولون: لا والله.. بلى والله.. على كلّ شيء، وإنّما سمّي لغوا لأنّه لا هدف له ولم يطلقه المتكلّم عن عزم ووعي، وكلّ عمل وكلام مثل هذا لغو، من هنا فالقسم الصادر عن الإنسان حين الغضب لغو (إذا أخرجه الغضب تماما عن حالته الطبيعية)، وحسب الآية الكريمة لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا القسم، وعليه أن لا يرتّب أثرا عليه، ويجب الالتفات إلى أنّ الإنسان يجب أن يتربّى على ترك مثل هذا القسم وعلى كلّ حال فإن العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفّارة عليه، لأنه لم يكن عن عزم وإرادة.

ب. الثاني: القسم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القسم الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القسم معتبر، ويجب الالتزام به، ومخالفته ذنب موجب للكفّارة إلّا في مواضع سنذكرها، وقد أشارت الآية من سورة المائدة إلى هذا النوع من القسم بقولها (ما عقدتم الايمان)

5. الإسلام لا يحبّذ القسم كما أشرنا آنفا، لكنّه ليس بالعمل المحرّم، بل قد يكون مستحبّا أو واجبا تبعا لما تترتّب عليه من آثار، وهناك أيمان لا قيمة لها ولا اعتبار في نظر الإسلام، منها:

أ. القسم بغير اسم الله وحتّى القسم باسم النبي وأئمّة الهدى عليهم السّلام مثل هذا القسم غير المتضمّن اسم الله تعالى لا أثر له ولا يلزم العمل به ولا كفّارة على مخالفته.

ب. القسم على ارتكاب فعل محرّم أو مكروه أو ترك واجب أو مستحب، حيث لا يترتّب عليه شيء، كأن يقسم شخص على عدم أداء دين، أو على قطع رحم، أو على فرار من جهاد، وأمثالها أو يترك إصلاح ذات البين مثلا كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأشخاص الذين واجهوا بعض السلبيات من إصلاح ذات البين فأقسموا على ترك هذا العمل، فإن أقسم على شيء من ذلك فعليه أن لا يعتني بقسمه ولا كفّارة عليه، وقيل إنّ هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾

6. أمّا الأيمان ـ التي تحمل اسم الله ـ على أداء عمل صالح أو مباح على الأقل، فيجب الالتزام به، وإلّا وجبت على صاحبه الكفّارة، وكفّارته كما ذكرته الآية من سورة المائدة، إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/138

101. الإيلاء والتربص والطلاق

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈101⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 226 ـ 227]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، فمضت أربعة أشهر؛ فهي تطليقة بائنة، وتعتد بعد ذلك ثلاثة قروء، ويخطبها زوجها في عدتها، ولا يخطبها غيره، فإذا انقضت عدتها خطبها زوجها وغيره(1).

2. روي أنّه قال: إذا حال بينه وبينها مرض، أو سفر، أو حبس، أو شيء يعذر به؛ فإشهاده فيء(2).

__________

(1) عبد الرزاق: ١١٦٦٧

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٤

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الفيء: الجماع(1).

2. روي أنّه قال: الفيء: الرضا(2).

3. روي أنّه قال: لا إيلاء إلا بغضب(3).

4. روي أنّه قال: الإيلاء إيلاآن: إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا؛ أما الإيلاء في الغضب فإذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه، وأما ما كان في الرضا فلا يؤخذ به(1).

5. روي أنّه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليها طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف؛ فإما أن يطلق، وإما أن يفيء(4).

6. روي أنّه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بتطليقة، ولا يخطبها هو ولا غيره إلا من بعد انقضاء العدة(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(2) الدرّ المنثور: ابن المنذر

(3) ابن جرير: ٤/٤٦

(4) عبد الرزاق في مصنفه: ١١٦٥٦

عائشة:

روي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر: أنه سمع عائشة (ت 57 هـ) وهي تعظ خالد بن العاصي المخزومي في طول الهجرة لامرأته، تقول: يا خالد، إياك وطول الهجرة؛ فإنك قد سمعت ما جعل الله للمؤلي من الأجل، إنما جعل الله له تربص أربعة أشهر، فاحذر طول الهجرة، قال محمد بن مسلم: ولم يبلغنا أنه مضى في طول الهجرة طلاق لأحد، ولكن عائشة حذرته ذلك، فأرادت أن تعطفه على امرأته، وحذرت عليه أن تشبهه بالإيلاء(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

علقمة:

روي عن علقمة بن يزيد النخعي (ت 62 هـ) أنه سئل علقمة عن الرجل يؤلي من امرأته، فيكون بها نفاس أو شيء؛ فلا يستطيع أن يطأها، فقال: إذا فاء بقلبه ولسانه، ورضيا بذلك؛ فهو فيء(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٥

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم﴾ هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره السلطان؛ إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه(1).

2. روي أنّه قال: إن فاء كفّر، وإن لم يفعل فهي واحدة، وهي أحق بنفسها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾: وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر يمينه بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام(1).

4. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ في الذي يقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرمت عليه، فتعتد عدة المطلقة، وهو أحد الخطاب(3).

5. روي أنّه قال: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فإن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء(4).

6. روي أنّه قال: الإيلاء: أن يحلف بالله ألا يجامعها أبدا(5).

7. روي أنّه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء(6).

8. روي أنّه قال: لا إيلاء إلا بحلف(7).

9. روي أنّه قال: إذا آلى على شهر أو شهرين أو ثلاثة دون الحد برت يمينه، لا يدخل عليه إيلاء(7).

10. روي عن يزيد بن الأصم: تزوجت امرأة، فلقيت ابن عباس، فقلت: تزوجت تهلل بنت يزيد، وقد بلغني أن في خلقها شيئا، ثم قال والله، لقد خرجت وما أكلمها، قال عليك بها قبل أن تنقضي أربعة أشهر(8).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٦٢

(2) ابن أبي شيبة: ق1، ج4، ص٥٠

(3) ابن جرير: ٤/٧٢

(4) سعيد بن منصور في السنن: ٢/٥١

(5) الشافعي: ٢/٨٢

(6) البيهقي: ٧/٣٨١

(7) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(8) عبد الرزاق: ١١٦٠٤

ابن أبي ليلى:

روي عن ابن أبي ليلى (ت 83 هـ) أنّه قال: إن آلى منها يوما أو ليلة فهو إيلاء(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، يحلف ألا يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك لا أيما ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى: ‌‌﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم﴾ (1).

2. روي أنّه قال: إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يوما أو شهرا، قال فإنا نرى ذلك يكون إيلاء، وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسها؛ فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء، والفيء: أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها، فمن فعل ذلك قبل أن تمضي الأربعة أشهر فقد فاء، ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عدتها فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة(2).

3. روي أنّه قال في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض، قال لا عذر له حتى يغشى(3).

4. روي أنّه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، قال فإن كان به مرض ولا يستطيع أن يمسها، أو كان مسافرا فحبس، قال فإذا فاء وكفر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء(4).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٨

(2) ابن جرير: ٤/٥٠

(3) ابن جرير: ٤/٥٤

(4) ابن جرير: ٤/٥٧

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أتى رجل عليا، فقال: إني حلفت ألا آتي امرأتي سنتين، فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي، قال فلا إذن(1).

2. روي أنّه قال: الفيء: الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع، وإن كان في سجن أو سفر(2).

3. روي أنّه قال في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها، أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارض يحبسه، أو لا يجد ما يسوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر أنها أحق بنفسها(2).

__________

(1) عبد الرزاق: ١١٦٣١

(2) ابن جرير: ٤/٥٤

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن حماد: قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلف أن لا يجامعها، ولا يكلمها، ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنها، أو ليحرمنها، أو ليسوءنها؟ قال نعم(1).

2. روي أنّه قال: كل يمين منعت جماعا حتى تمضي أربعة أشهر فهي إيلاء(2).

3. روي أنّه قال في النفساء يولي منها زوجها: هذه في محارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه، وأشهد على الفيء(3).

4. روي أنّه قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر كفر عن يمينه(4).

5. روي أنّه قال في الإيلاء: يوقف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين يكفرها إذا حنث(5).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٠

(2) ابن جرير: ٤/٤٨

(3) ابن جرير: ٤/٥٤

(4) ابن جرير: ٤/٦٢

(5) ابن جرير: ٤/٦٣

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم﴾: هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٧٣

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال والله لأغضبنك، والله لأسوءنك، والله لأضربنك، وأشباه هذا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٩

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ إذا مضى أربعة أشهر أخذ، فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلق(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٥

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذلك رحمة رحمها الله، فملّكها أمرها لانقضاء الأربعة أشهر بما ظلمها وأضر بها، ولا يحل لرجل أن يهجر امرأته أربعة أشهر إلا من معذرة، التي قال الله: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ [النساء: ٣٤] (1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٢

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: كل شيء دون الأربعة فليس بإيلاء(1).

__________

(1) الشافعي في الأم: ٥/٢٧٠

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، ثم وقع عليها قبل الأربعة أشهر؛ فليس عليه كفارة؛ لأن الله تعالى قال ﴿فإن فاءو فإن الله غفور رحيم﴾، أي: لتلك اليمين(1).

2. روي أنّه قال في الرجل يقول لامرأته: والله، لا أطؤك الليلة، فتركها من أجل ذلك، إن تركها حتى تمضي أربعة أشهر فهو إيلاء(2).

3. روي أنّه سئل عن رجل قال لامرأته: والله، لا أقربك حتى تفطمي ولدك، قال: والله، ما هذا بإيلاء، وفي لفظ: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب(3).

__________

(1) عبد الرزاق: ١١٧٠٨

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(3) ابن جرير: ٤/٤٨

ابن سيرين:

روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنّه قال: ما أدري ما هذا الذي يحدثون!؟ إنما قال الله: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم﴾ إلى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٨

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته، فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسها، فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة، فإن رفعت أمرها، قيل له: إما أن تفيء فتمسها، وإما أن تطلق، وعزم الطلاق أن يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(1).

__________

(1) الكافي: 6/131

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ هذا في الرجل يولي من امرأته يقول: والله، لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك، وكان أهل الجاهلية يعدونه طلاقا، فحد لهم أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر عن يمينه وكانت امرأته، وإن مضت الأربعة الأشهر ولم يفئ فيها فهي تطليقة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب، ويخطبها زوجها في عدتها، ولا يخطبها في عدتها غيره، فإن تزوجها فهي عنده على تطليقتين(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

حماد:

روي عن حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) أنّه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، ثم فاء؛ فليشهد على فيئه، وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته فليشهد على فيئه، فإن أشهد وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزئه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها؛ فهي امرأته، وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء، وأشهد على فيئه، ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر؛ فقد بانت منه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٧

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ معناه يحلفون.. والاسم: ألوة، وألوة، والاء، وإلوة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ معناه رجعوا عن اليمين.. والفيء: الجماع.. والفيء: الرّضا(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 99

(2) تفسير الإمام زيد، ص 100

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال في الرجل يقول: والله، لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضار به امرأته من اعتزالها، ولا نعلم فريضة الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أن هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده أقسم إلا على أمر يتحرى به فيه الخير، فلا نرى وجب على هذا ما وجب على المولي الذي يولي في الغضب(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٧

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ): كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته، فمضت الأربعة الأشهر؛ فإنه يوقف، فيقال له: أمسكت أو طلقت؟ فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٨٤

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن الرجل يهجر امرأته من غير طلاق ولا يمين سنة لم يقرب فراشها، قال: ليأت أهله، وقال: أيما رجل آلى من امرأته ـ والإيلاء: أن يقول: لا والله لا أجامعك كذا وكذا، ويقول: والله، لأغيظنك، ثم يغاضبها ـ فإنه يتربص بها أربعة أشهر، ثم يؤخذ بعد الأربعة أشهر فيوقف، فإن فاء ـ والإيفاء: أن يصالح أهله ـ فإن الله غفور رحيم، فإن لم يفئ جبر على أن يطلق، ولا يقع بينهما طلاق حتى يوقف، وإن كان أيضا بعد الأربعة أشهر يجبر على أن يفيء أو يطلق(1).

2. روي أنّه سئل عن رجل آلى من امرأته بعد ما دخل بها، فقال: (إذا مضت أربعة أشهر وقف، وإن كان بعد حين، فإن فاء فليس بشيء وهي امرأته، وإن عزم الطلاق فقد عزم)، وقال: الإيلاء ان يقول الرجل لا مرأته: والله، لأغيظنك ولأسوءنك، ثم يهجرها ولا يجامعها حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر فقد وقع الإيلاء، وينبغي للإمام أن يجبره على أن يفيء أو يطلق، فإن فاء فإن الله غفور رحيم، وإن عزم الطلاق فإن الله سميع عليم، وهو قول الله تعالى في كتابه(2).

3. روي أنّه قال في حديث طويل ـ: فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل فقد فاء مثل قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي رجعوا، ثم قال ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(3).

4. روي أنّه قال: الإيلاء: هو أن يحلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها، فإن صبرت عليه فلها أن تصبر، وإن رافعته إلى الإمام أنظره أربعة أشهر، ثم يقول له بعد ذلك: إما أن ترجع إلى المناكحة، وإما أن تطلق، وإلا حبستك أبدا(4).

5. روي أنّه سئل عن رجل آلى من امرأته، فقال: (الإيلاء: أن يقول الرجل: والله، لا أجامعك كذا وكذا، فإنه يتربص أربعة أشهر، فإن فاء ـ والإيفاء أن يصالح أهله ـ فإن الله غفور رحيم، وإن لم يفئ بعد الأربعة أشهر حبس حتى يصالح أهله أو يطلق، جبر على ذلك، ولا يقع طلاق فيما بينهما حتى يوقف، وإن كان بعد الأربعة أشهر، فإن أبى فرق بينهما الإمام(5).

6. روي أنّه قال في الإيلاء: إذا آلى الرجل من امرأته، لا يقربها ولا يمسها ولا يجمع رأسه ورأسها، فهو في سعة ما لم يمض الأربعة أشهر، فإذ مضى الأربعة أشهر فهو في حل ما سكتت عنه، فإذا طلبت حقها بعد الأربعة أشهر وقف فإما أن يفيء فيمسها، وإما أن يعزم على الطلاق فيخلي عنها، حتى إذا حاضت وتطهرت من محيضها، طلقها تطليقة من قبل أن يجامعها بشهادة عدلين، ثم هو أحق برجعتها ما لم يمض الثلاثة أقراء(6).

7. روي أنّه قال: أيما رجل آلى من امرأته ـ والإيلاء: أن يقول الرجل: والله، لا أجامعك كذا وكذا، ويقول: والله، لأغيظنك، ثم يغايظها، ولأسوءنك، ثم يهجرها فلا يجامعها ـ فإنه يتربص بها أربعة أشهر، فإن فاء ـ والإيفاء: أن يصالح ـ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وإن لم يفئ جبر على الطلاق، ولا يقع بينهما طلاق حتى توقف، وإن عزم الطلاق فهي تطليقة(6).

8. روي أنّه سئل عن رجل آلى من امرأته، فمضت أربعة أشهر، فقال: يوقف، فإن عزم الطلاق بانت منه، وعليها عدة المطلقة، وإلا كفر يمينه وأمسكها(6).

9. روي أنّه قال: إذا بانت المرأة من الرجل، هل يخطبها مع الخطاب؟ قال: يخطبها على تطليقتين، ولا يقربها حتى يكفر عن يمينه(6).

__________

(1) الكافي: 6/130

(2) الكافي: 6/132

(3) الكافي: 5/16

(4) تفسير القمّي: 1/73

(5) التهذيب: 8/8

(6) تفسير العيّاشي: 1/113

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ يعني: يقسمون: ﴿مِنْ نِسَائِهِم﴾ فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٤

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: أجل الإيلاء أربعة أشهر بعد ما يأتيان السلطان، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق، والإمساك: المسيس(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/113

الرسّي:

قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ المؤلي: الحالف بالله، أو ببعض الأيمان: ألا يقرب أهله، فأنظره الله أربعة أشهر وأجله، فإن فاء ـ والفيء: أن يرجع إلى مداناة أهله ـ كان ذلك له، وكان الله غفورا رحيما فيما أخطأ به على نفسه من اليمين، وإن مضى لحاجته، لم يكن له إضرار بزوجته، فإن عزم على فراقها فإن الله سبحانه كما قال ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ولم يذكر الله في الإيلاء كفارة؛ ولكنه قال ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/105

العسكري:

قيل للإمام العسكري (ت 260 هـ): جعلت فداك، كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، وصارت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؟ فقال: أما عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد، وأما عدة المتوفى عنها زوجها، فإن الله عز وجل شرط للنساء شرطا، وشرط عليهن شرطا، فلم يحابهن فيما شرط لهن، ولم يجر فيما شرط عليهن فأما ما شرط لهن في الإيلاء أربعة أشهر إن الله عز وجل يقول: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك وتعالى أنه غاية صبر المرأة عن الرجل، وأما ما شرط عليهن، فإنه أمرها أن تعتد إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، فأخذ منها له عند موته ما أخذلها منه في حياته عند إيلائه قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ولم يذكر العشرة أيام في العدة إلا مع الأربعة أشهر، وعلم أن غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثم أوجبه لها وعليها(1).

__________

(1) الكافي: 6/113

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الإيلاء معلوم في اللغة أنه اليمين، وكذلك كان‏ ابن عباس يقرأ: للذين يقسمون من نسائهم، وما هو لليمين من الحكم، لا يجب لغيرها نحو الكفارة التي تجب للحنث فيها، ثم يجب له على كل حال، على أي وصف كانت اليمين، فكذلك حكم الإيلاء، وهو قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وروى عن على التفريق بين الغضب والرضا، ثم أوجب التربص للمولى، فمن كانت يمينه بدون أربعة أشهر فهو بعد المدة ليس بمول، فلم يلزمه الحكم الذي جعل الله للإيلاء؛ ألا ترى أنه في المدة ذكر (الفيء)، وهو لو وجد منه لم يجب عليه ما في الفيء من‏ الكفارة!؟ فكذا بمضي المدة لا يلزمه الطلاق، وبه يقول على وابن عباس وابن مسعود فيقول ابن مسعود: يلزمه حكم يمين يوم، وابن عباس يقول: الإيلاء يمين الأبد، وذلك عندنا على إرادة الإتمام، ولو جعله شرطا لكان الحكم يلزمه بمضي الأربعة الأشهر؛ فلا وجه للزيادة عليه، وهو قول عبد الله بن مسعود: يلزمه بدونه.

2. ثم اختلف الصحابة في الوقف بعد الأربعة الأشهر، على اتفاقهم على حق لزوم الطلاق أو حقه بمضي المدة، ثم لا يجوز أن يحلف بحق الطلاق فيلزم، ويجوز أن يحلف بالطلاق فيلزم؛ لذلك كان الطلاق أحق مع ما ذلك زيادة في المدة للتربص، وجميع المدد التي جعلت بين الزوجين لم تحتمل الزيادة عليها لما جعلت له المدة، فمثله مدة الطلاق، وهذا على أن الله ـ تعالى ـ حذر نقض اليمين بقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: 91]، وأطلق في هذا أربعة أشهر، بما روى في قراءة أبى بن كعب، أنه‏ قرأ: (فإن فاؤوا فيهن)، يعنى في الأربعة الأشهر، ففي غير ذلك حكم النهى له آخذ.

3. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ كقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 231]، وليس ذلك على إحداثه بعد مضى المدة، كذلك الأول.

4. اختلف في الإيلاء على وجوه:

أ. قال ابن مسعود: الإيلاء على يوم فقط، وأما التربص بأربعة أشهر؛ لأنه لم يذكر في الكتاب للإيلاء مدة، وإنما ذكر المدة للتربص.

ب. وقال ابن عباس‏: الإيلاء على الأبد، ذهب في ذلك إلى أن الإيلاء كان طلاق القوم، والطلاق يقع إلى الأبد.

ج. وقال آخرون: من ترك القربان في حال الغضب فهو مول، وإن لم يحلف، لكن هذا ليس بشيء؛ لأن الله تعالى ذكر الإيلاء، والإيلاء هي اليمين، دليله ما ذكرنا [من حرف ابن مسعود وابن عباس: (للذين يقسمون) فدل هذا أن حكم الإيلاء لا يلزم إلا باليمين على ترك القربان‏]

د. وروى عن على بن أبى طالب‏: أن رجلا سأله ـ أنه حلف ألا يقرب امرأته سنتين، فقال: هو إيلاء، وأنها تبين إذا مضت أربعة أشهر، فقال: إنما حلفت ذلك لمكان ولدى، فقال: لا يكون إيلاء، فرأى في ذلك إيلاء إذا كان عاصيا وإذا كان إيلاؤه هو ترك قربانه إياها بمكان الولد لم ير ذلك إيلاء، ثم لا يجوز أن يحمل ما حمل هؤلاء.

5. ما حمل على بن أبى طالب، واعتباره بالعصيان وغير العصيان، فالإيلاء هو اليمين، والأيمان لا يختلف وجوبها ووجوب أحكامها في حال العصيان وفى حال الطاعة، فعلى ذلك حكم الإيلاء، ولو حمل على ما حمل ابن مسعود، لكان لا يبقى الإيلاء بعد مضى اليوم، فإذا لم يكن يمين بعد اليوم لم يبق حكمها، ولو حمل على ما قال ابن عباس،، لكان لا فائدة لذكر التربص، فإذا بطل ما ذكرنا ثبت قولنا: إن مدة الإيلاء إذا قصرت عن أربعة أشهر لم يلزمه حكم الإيلاء، ولو كان على الأبد لكان لا فائدة في ذكر المدة، وألا يعتبر العصيان ولا الطاعة ولا الغضب ولا الرضاء على ما ذكرنا، وروى في بعض الأخبار، أنّه قال: الإيلاء ليس بشيء، معناه ما قيل: إن الإيلاء كان طلاق القوم، فقوله: (ليس بشيء) يقع للحال دون مضى المدة.

6. ثم اختلفوا أيضا بعد مضى المدة أربعة أشهر بقوله: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا﴾ لذلك كان له الفيء بعد مضى الأربعة الأشهر، وروى في بعض الأخبار الوقف فيه، وروى عن عمر وعلى‏ وعثمان‏ وعائشة وابن عمر في المولى: إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق، إلى هذا يذهبون، لكن هذا يحتمل أن يكون من الراوي دون أن يكون ما قالت الصحابة، وأما عندنا (2): إن قولهم: ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر، فذلك لا يوجب الفيء بعد مضيها؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ليس أنه يمسكها بعد مضى الأجل، ولكن معناه: إذا قرب انقضاء أجلهن فأمسكوهن، فعلى ذلك جعل لهم الفيء، إذا قرب انقضاء أربعة أشهر، وأما ما روى من (الوقف)، فليس فيه الوقف بعد مضى أربعة أشهر، يحتمل الوقف في الأربعة الأشهر، وأما عندنا: فإنها تبين إذا مضت أربعة أشهر؛ لما روى عن سبعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أو ثمانية، أنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر بانت منه، من نحو: عمر وعلى وابن مسعود وعثمان وابن عباس وجابر وزيد بن ثابت‏، فاتبعناهم.

7. اختلف في الطلاق إذا وقع: قال قوم: هو رجعى، وهو قول أهل المدينة، فهو على قولهم؛ تعنّت‏ مثله، وروى عن أبى بن كعب‏ في قوله: (فإن فاؤوا) أي فيهن يعنى في الأربعة الأشهر، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فثبت أنه جعل الرحمة والمغفرة فيها.

8. ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ ولو لم يجعل له القربان والنقض في المدة لكان لا سبيل له إلى نقضها بعد مضى المدة؛ إذ هي تتأكد؛ فثبت أنه لا بما اعتبروا يلزم.

9. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: بما جعل له الخروج مما ضيق على نفسه؛ لأنه لا تطول عليه المدة.

ب. ويحتمل: أن المغفرة كانت بما ارتكب ما إذا مضى عليه وجد ذاته مستحقّا للعقوبة، فغفر له صنيعه، ورحمه بأن يجاوز عنه ما فعل.

10. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ روى عن ابن عباس‏ أنّه قال: عزيمة الطلاق مضىّ أربعة أشهر، وقد ذكرنا قول الصحابة: إن عزيمة الطلاق انقضاء.

11. عليم: بترك الفيء وتحقيق حكمه، أو عليم بما أراد بالإيلاء، كأنه قال إنه عن علم بما يكون من خلقه وبما به صلاحهم وما إليه مرجعهم، خلقهم، وهو السميع بجميع ما به تناجوا وأسروا وجهروا، والله الموفق.

12. الفيء: الجماع، وهو الرجوع في الحاصل؛ لأنه حلف ألا يقربها، فإذا قربها رجع عن ذلك، وهكذا روى عن ابن عباس‏ وابن مسعود أنهما قالا: الفيء: الجماع.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/147

(2) يقصد الحنفية

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ الآية: فالمؤلون من نسائهم: هم الحالفون ألا يقربوهن، فإذا هجروهن أربعة أشهر وجب على الإمام أن يحبس من فعل ذلك، ويأمره بأن يفي إليها ويصالحها، فإن فعل ذلك، وإلا فيطلقها، فإن لج ولم يفعل جبره على طلاقها، وحمله صاغراً على فراقها(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 285

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي يقسمون والألية القسم قال الشاعر:

كفينا من تغيب من نزار... وأحببت الألية مقسمينا

وفي الكلام حذف وتقديره للذين يؤلون أن يعتزلوا من النساء فترك أن يعتزلوا بما دل عليه الخطاب وظاهر الكلام، واليمين هو بالله عز وجل وهو أن يحلف على وجه الإضرار أن لا يجامعها فإن حلف على غير وجه الإضرار فليس بمولٍ.

2. ثم قال ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ أي رجعوا، والفيء الرجوع من حال إلى حال كقوله: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:9]، أي ترجع ومنه قول الشاعر:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له... ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

3. والفيء الرجوع إليها وذلك أن المولي إذا انقضى أربعة أشهر يقفه الإمام ويقال له: فيء فإن فاء ورجع وإلا فرق بينه وبين زوجته ويلزم المولي بعد الأربعة الأشهر الكفارة إذا رجع وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ غفور للإثم لا للكفارة.

4. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي من بعد أن تمضي الأربعة الأشهر ولم يرجع وهو الطلاق فإن الله سميع لطلاقه عليم بنيته.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/110

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله تعالى: ﴿يُوَلُّونَ﴾ أي يقسمون، والألية: اليمين، قال الشاعر:

كفينا من تعنّت من نزار...وأحللنا إليه مقسمينا

وفي الكلام حذف، تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم لكنه إنما دل عليه ظاهر الكلام.

2. اختلفوا في اليمن التي يصير بها موليا على قولين:

أ. أحدهما: هي اليمين بالله وحده.

ب. الثاني: هل كل عين لزم الحلف في الحنث بها ما لم يكن لازما له وكلا القولين عن الشافعي.

3. اختلفوا في الذي إذا حلف عليه صار موليا على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: هو أن يحلف على امرأته في حال الغضب على وجه الإضرار بها، أن لا يجامعها في فرجها، وأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير الغضب فليس بمول، وهو قول عليّ، وابن عباس وعطاء.

ب. الثاني: هو أن يحلف أن لا يجامعها في فرجها، سواء كان في غضب أو غير غضب، وهو قول الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والشافعي.

ج. الثالث: هو كل يمين حلف بها في مساءة امرأته على جماع أو غيره، كقوله والله لأسوءنك أو لأغيظنك، وهو قول ابن المسيب، والشعبي، والحكم.

4. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ يعني رجعوا، والفيء والرجوع من حال إلى حال، لقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9] أي ترجع، ومنه قول الشاعر:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له‏...ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

5. في الفيء ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: الجماع لا غير، وهو قول ابن عباس، ومن قال إن المولي هو الحالف على الجماع دون غيره.

ب. الثاني: الجماع لغير المعذور، والنية بالقلب وهو قول الحسن وعكرمة.

ج. الثالث: هو المراجعة باللسان بكل غالب أنه الرضا، قاله ابن مسعود، ومن قال إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته.

6. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وفيه ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أراد غفران الإثم وعليه الكفارة، قاله عليّ وابن عباس وسعيد بن المسيب.

ب. الثاني: غفور بتخفيف الكفارة إسقاطها، وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث برا، قاله الحسن، وإبراهيم.

ج. الثالث: غفور لمأثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير، قاله ابن زيد.

7. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ الآية، قرأ ابن عباس وإن عزموا السّراح، وفيه ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أن عزيمة الذي لا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك، واختلف من قال بهذا في الطلاق الذي يلحقها على قولين:

أحدهما: طلقة بائنة، وهو قول عثمان، وعليّ، وابن زيد، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس.

الثاني: طلقة رجعية، وهو قول ابن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة.

ب. الثاني: أن تمضي الأربعة الأشهر، يستحق عليها أن يفيء، أو يطلّق، وهو قول عمر، وعلي في رواية عمرو بن سلمة، وابن أبي ليلى عنه، وعثمان في رواية طاووس عنه، وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر في رواية نافع عنه، روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من‏ أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلّا طلق) وهو قول الشافعي، وأهل المدينة.

ج. الثالث: ليس الإيلاء بشيء، وهو قول سعيد بن المسيب، في رواية عمرو ابن دينار عنه.

8. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يسمع إيلاءه.

ب. الثاني: يسمع طلاقه.

9. في‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعلم نيته.

ب. الثاني: يعلم صبره.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/289

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُوَلُّونَ﴾ معناه: يحلفون ـ بلا خلاف بين أهل التأويل ـ وهو المروي عن سعيد بن المسيب وهو مأخوذ من الألية قال الشاعر:

كفينا من تغيّب من نزار...وأحنثنا إليّة مقسمينا

ويقال: ألي الرجل ـ من امرأتهـ يؤلي إيلاء، وألية، وألوّة، وهو الحلف قال الأعشى:

إني أليت على حلفة...ولم أقلها سحر الساحر

وجمع أليّة: ألايا، وأليّات، كعشية، وعشايا، وعشيات، فأما جمع ألوّة، فألايا، كركوبة وركائب، وجمع ألية: ألاء كصحيفة، وصحائف، ومنه ائتلى يأتلى‏ ائتلاء، وفي التنزيل‏ ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾، وتقول: لا تألوا ألياً، وألوّ، نحو العتي، والعتوّ، وما ألوت جهداً، ولا ألوته نصحاً، أو غشا، ومنه قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، وقال الشاعر: (نحن فصلنا جهدنا لم نأتله)‏، أي لم نقصر، وأصل الباب التقصير، فمنه لا يألوا جهداً، ومنه الألية: اليمين، لأنها لنفي التقصير، وعود ألوة، وألوة: أجود العمود، لأنه خالص.

2. الإيلاء في الآية: اعتزل النساء، وترك جماعهن على وجه الإضرار بهن، وكأنه قيل: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ أن يعتزلوا نساءهم‏ ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ منهم.

3. اليمين التي يكون بها الرجل مؤلياً: هي اليمين بالله عزّ وجلّ، أو بشيء من صفاته التي لا يشركه فيها غيره، على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه، ويكون الحلف على الامتناع من الجماع على جهة الغضب، والضرار، وهو المروي عن علي عليه السلام، وابن عباس، والحسن، وقال ابراهيم، وابن سيرين، والشعبي: في الغضب، وقال سعيد بن المسبب: هو في الجماع، وغيره من الضرار، نحو الحلف ألّا يكلمها.

4. التربصّ بالشيء انتظارك به خيراً، أو شراً يحل، وتقول: تربصت بالشيء تربصاً، وربصت به ربصاً، ومنه قوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ و﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلّها...تطلّق يوماً أو يموت حليلها

ومالي على هذا الأمر ربصة: أي تلبث، وأصله الانتظار.

5. ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ معناه: فان رجعوا، ومنه قوله: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي ترجع من الخطأ الى الصواب، والفرق بين الفيء والظل: ما قال المبرد: إن الفيء ما نسخ الشمس، لأنه هو الراجع، وأما الظل: فما لا شمس فيه، وكل فيء ظل، وليس كل ظل فيء، ولذلك أهل الجنة في ظل، لا في فيء، لأنه لا شمس فيها، كما قال الله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾، وجمع الفيء أفياء، تقول: فاء الفيء: إذا تحول عن جهة الغداة برجوع الشمس عنه، وتفيأت في الشجر، وفيأت الشجرة، والفيء: غنائم المشركين، أفاء الله علينا فيهم، لأنه من رجع الشيء الى حقه، والفيء الرجوع عن الغضب، إن فلاناً لسريع الفيء من غضبه.

6. اختلف في الذي يكون المولى به فايئاً:

أ. عندنا(2): يكون فايئاً بأن يجامع، وبه قال ابن عباس، ومسروق، وسعيد بن المسيب.

ب. وقال الحسن، وابراهيم، وعلقمة: يكون فايئاً بالعزم في حال العذر إلّا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه، وهذا يكون ـ عندنا ـ للمضطر الذي لا يقدر على الجماع، ويجب على الفايئ ـ عندنا ـ الكفارة، وبه قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ولا عقوبة عليه، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام، وقال الحسن، وابراهيم: لا كفارة عليه، لقوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: أي لا يتبعه بكفارة، ولا عقوبة.

7. يجوز في‏ ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ ثلاثة أوجه: الجر بالإضافة، وعليه جميع القراء، ويجوز النصب، والرفع في العربية ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ كما قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ أي يكفتهم‏ أحياء، وأمواتاً، و﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ كقوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾، ومثله‏ ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾

8. إنما جعل اختصاص الإيلاء بحال الغضب، لأن مدة التربص جعل فسحة للمرأة في التخلص من المضارة، فإذا لم يكن ضرار لم يصح إيلاء، ومن لم يخص بحال الغضب، حمله على عموم الإيلاء، وهو الأقوى، ومتى حلف بغير الله في الإيلاء، فلا تنعقد يمينه، ولا يكون مؤلياً، وقال الجبائي: إذا حلف بما يلزمه فيه عزم، نحو الصدقة، أو الطلاق، أو العتاق، فهو إيلاء، وإلّا، فهو لغو، نحو قوله: وحياتك، وما أشبهه، وقال الشافعي: لا إيلاء إلا بالله، كما قلناه، ومتى حلف ألا يجامع أقل من أربعة أشهر، لا يكون مؤلياً، لأن الإيلاء على أربعة أشهر، أو أكثر، ومتى حلف ألّا يقربها، وهي مرضعة خوفاً من أن تحبل، فيضر ذلك بولدها، لا يلزمه حكم الإيلاء، وهو المروي عن علي عليه السلام، وبه قال الحسن، وابن شهاب، ويجوز أن يكون في الآية تقديم، وتأخير، ويكون تقديره‏ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (مِنْ نِسائِهِمْ﴾، ويجوز أن يكون معناه: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ﴾ أجل‏ ﴿نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ كما تقول: غضبت لفلان: أي من أجل فلان، وإذا مضت أربعة أشهر لم تبن منه إلا بطلاق، ويلزمه الحاكم، إما الرجوع والكفارة، وإما الطلاق، فان امتنع حبسه حتى يفيء، أو يطلق، وفيه خلاف.

9. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ عزيمة الطلاق في الحكم ـ عندنا ـ أن يعزم، ثم يتلفظ بالطلاق، ومتى لم يتلفظ بالطلاق بعد مضي أربعة أشهر، فان المرأة لا تبين منه إلا أن تستدعي، فان استدعت، ضرب الحاكم مدة أربعة أشهر ثم توقف بعد أربعة أشهر، فيقال له: فيء (3)، أو طلق، فان لم يفعل، حبسه حتى يطلق، ومثل هذا قال أهل المدينة غير أنهم قالوا: متى امتنع من الطلاق والفيئة، طلق عنه الحاكم طلقة رجعية، وقال أهل العراق:

10. الإيلاء: أن يحلف ألّا يجامعها أربعة أشهر فصاعداً، فإذا مضت أربعة أشهر فلم يقربها، بانت منه بتطليقة لا رجعة له عليها، وعليها عدة ثلاث حيض، يخطبها في العدة، ولا يخطبها غيره، فان فاء قبل أربعة أشهر: أي إن جامع، كفر يمينه، وهي امرأته، وقال الحسن، وقتادة، وابن مسعود، وابراهيم، وابن عباس، وحماد: هو مضي أربعة: أشهر قبل أن يفيء من غير عذر.

11. العزم: هو العقد على فعل شيء في مستقبل الوقت، والعزم على الشيء هو إرادته له: إذا كانت مقدمة للفعل بأكثر من وقت واحد، وتكون متعلقة بفعل العازم، ولا يدخل بينهما، وبين الفعل سهو، ولا نسيان، يقال: عزم عزماً: إذا عقد على أن يفعل الشيء، واعتزم اعتزاماً، وعزمت عليك لتفعلن: أي أقسمت، وعزم الراقي: كأنه أقسم على الداء، ورجل ماضي العزم: حاد في أمره، وما لفلان عزيمة: أي ما يثبت على أمر، لتلونه، ومنه قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، وعزائم القرآن التي تقرأ على ذوي الآفات، لما يرجى من البرء بها، وأصل الباب العزم على العقد على الشيء.

12. الطلاق: حل عقدة النكاح بما يوجبه في الشريعة، تقول: طلقت تطلق طلاقاً، فهي طالق ـ بلا علامة التأنيث، حكاه الزجاج، وقال قوم: لأنه يختص بالمؤنث، قال الزجاج: هذا ليس بشيء، لأن في الكلام شيئاً كثيراً يشترك فيه المؤنث، والمذكر ـ بلا علامة التأنيث ـ نحو قولهم: بعير ضامر، وناقة ضامر، وبعير ساعل، وناقة ساعل، وزعم سيبويه، وأصحابه: أن هذا واقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث، لأن المعنى: هي طالق حقيقة ـ عندهم ـ أنه على جهة النسب، نحو قولهم: امرأة مذكار، ورجل مذكار، ورجل مئناث، وامرأة مئناث، ومعناه: ذات ذُكرانٍ، وذات أناث، وكذلك مطفل: ذات طفل، وكذلك طالق: ذات طلاق، فان أجريته على الفعل قلت طالقة، قال الشاعر:

أيا جارتا بيني فإنك طالقه!...كذاك أمور الناس غاد وطارقه‏

تقول: طلقها، وتطلق تطلقاً، وأطلق إطلاقاً، واستطلق استطلاقاً، وانطلق انطلاقاً، وتطلقت المرأة عند الولادة، فهي مطلوقة إذا تمخضت، والطلق: الشوط من الجري، والطلق: قيد من قدّم أو عقب.

13. السامع: هو المدرك، والله تعالى يوصف بما لم يزل بأنه‏ سميع، ولا يوصف فيما لم يزل بأنه سامع، وإنما يوصف بأنه سامع إذا وجدت المسموعات، وإنما ذكر عقيب الأول‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه لما أخبر عن المولى أنه يلزمه الفيء، أو الطلاق بين أنه إن فاء ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بأن يقبل رجوعه، ولا يتبعه بعقاب ما ارتكبه، وذكر هاهنا أنه‏ ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لما أخبر عنه بإيقاع الطلاق، وكان ذلك مما يسمع، أخبر أنه لا يخفى عليه، وأنه يسمعه، لأنه على صفة يوجب إدراكه لذلك، وأنه عالم ببيانه، فلا الذي ذكر في الآية الأولى يليق بهذه الآية، ولا الذي ذكرها هنا يليق هناك، وذلك من عظم فصاحة القرآن، وجلالة مواقعه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/232

(2) يقصد الإمامية

(3) تفسير الطوسي: ‏2/235

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإيلاء: اليمين، وهو الأَلِيَّةُ والأُلْوَةُ، آلى يُؤْلي إيلاء، وفي عرف الشرع اسم لِقَسَمٍ مخصوص، وهو يمتنع به عن جماع زوجته أربعة أشهر فصاعدًا.

ب. التربص: الانتظار.

ج. أصل الفيء: الرجوع، ومنه الفيء الذي هو الظل، قال أبو العباس: الفيء ما نسخ الشمس؛ لأنه هو الرافع، والظل ما لا شمس فيه.

د. العزم: العقد على الشيء، يقال: عزم يعزم عزمًا إذا عقد على أن يفعل.

هـ. الطلاق: أصله الانطلاق، وفي عرف الشرع: انطلاق المرأة بحل عقد النكاح بسبب من جهة الرجل يوجب نقصان عدد الطلاق.

و. السميع: هو على حال يصح أن يسمع المسموعات إذا وجدت.

2. بَيَّنَ الله تعالى حكم الإيلاء؛ لأنه من جملة الأيمان، وشريعة من شرائع الإسلام، فقال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ يحلفون، وفيه حذف (أن يعتزلوا عن وَطْء نسائهم)، فحذف لدلالة الباقي عليه.

3. ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ التوقف والتلبث في أربعة أشهر، فكل يمين يمتنع به من جماع أربعة أشهر فما فوقها فهي إيلاء، وما كان دون أربعة أشهر فليس بإيلاء، واختلفوا:

أ. فقيل: الإيلاء الحلف على الامتناع من الجماع على جهة الغضب والضرر، عن علي وابن عباس والحسن.

ب. وقيل: في الغضب والرضاء، عن إبراهيم والشعبي وجماعة الفقهاء، وهو الظاهر.

ج. وقيل: هو الجماع وغيره من الضرار، نحو أن يحلف ألا يكلمها، عن سعيد بن المسيب، وقد سقط خلافه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاؤُوا﴾:

أ. قيل: رجعوا إلى أمر الله بالفيء، وهو الجماع في الأربعة الأشهر، عن ابن عباس ومسروق وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة وأصحابه، فإن لم يقدر عليه فبالقول.

ب. وقيل: المراجعة بالعزم في حال العذر، عن الحسن وإبراهيم وعلقمة، ويُشهِد على فيئه.

ج. وقيل: الفيء باللسان في جميع الأحوال، عن إبراهيم، وإذا فاء فعليه الكفارة، عن ابن عباس وقتادة وجماعة الفقهاء.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿غَفُورٌ﴾:

قيل: أنه لا يتبعه عقوبة.

وقيل: لا يتبعه كفارة، عن الحسن وإبراهيم.

قيل: معنى: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي لا يتبعه كفارة ولا عقوبة.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾:

أ. قيل: عزيمة الطلاق ألا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر، فيقع عليها تطليقة، عن ابن مسعود وابن عباس وعلي، وهو قول إبراهيم وحماد والحسن وأبي علي وأبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقال مالك والشافعي: إذا مضت أربعة أشهر وطلبت يوقف، ويقال: إما أن تفيء أو تطلق، فإن لم يفعل طلقها القاضي، ثم تلك التطليقة:

بائنة، عن جماعة الفقهاء وأكثر الصحابة.

وعن ابن عمر وسعيد بن المسيب رجعية.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: يسمع قوله، ويعلم ضميره.

ب. وقيل: يسمع إيلاءه، ويعلم عزيمته.

8. يدل قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ أن فيه يمينًا، ولم يبين صفته لذلك اختلفوا:

أ. فقيل: لا يكون موليًا إلا أن يحلف بِالله.

ب. وقيل: يكون موليًا بكل يمين، وعليه يدل الظاهر، وعليه الفقهاء.

9. يدل قوله تعالى: ﴿أَرْبَعَةِ﴾ على تقديرٍ، ولا خلاف أن ما فوقه حكمه حكم الأربعة، وفائدة التقدير منع ما دونه:

أ. وقد قال بعضهم: إذا حلف على أقل من أربعة أشهر يكون موليًا.

ب. ومنهم من قال: إذا حلف على أربعة يكون موليًا فقط، والصحيح ما قدمناه.

10. تدل الآية الكريمة على:

أن الإيلإء حكم شرعي، وعليه بنى الفقهاء كتبهم في الإيلاء.

يدل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاؤُوا﴾ على حق لها عليه يجب رفع الإيلاء لأجله.

يدل قوله تعالى: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أنه عاص بالإيلاء؛ إذ لا يليق الكلام إلا بذلك.

يدل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ على تحريمه؛ فإن للطلاق مدخلاً فيه، وتفصيل ذلك مبين في كتب الفقه.

11. القراءة المشهورة: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ على المستقبل. وعن ابن مسعود (للذين آلوا) على الماضي، وعن ابن عباس (يُقْسِمُون) وهذا محمول على أنهما فسرا الإيلاء؛ لأنه يخالف قراءة العامة.

12. ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ بالجر على الإضافة، وعليه القراءة، ويجوز في العربية النصب والرفع، ويجوز: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ كقوله تعالى: ﴿أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ﴾ والنصب كقوله تعالى: ﴿كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/904

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. آلى الرجل من امرأته يؤلي إيلاء من الإلية والألوة: وهي الحلف، قال الشاعر:

كفينا من تغيب من نزار،...وأحنثنا ألية مقسمينا

وائتلى وتألى بمعناه، وفي التنزيل: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾، وقرأ: ولا يتأل، وجمع الإلية ألايا وأليات، كعشية وعشايا وعشيات، وجمع الألوة ألايي كركوبة وركائب.

ب. التربص: الانتظار، ويقال: تربصت به، قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها...تطلق يوما، أو يموت حليلها

ج. الفئ: الرجوع، يقال: فاء يفئ فيئا: إذا تحول عن جهة الغداة برجوع الشمس عنه، والفرق بين الفئ والظل، ما قال المبرد: إن الفئ: ما نسخ الشمس لأنه هو الراجع، والظل: ما لا شمس فيه، وكل فئ ظل، وليس كل ظل فيئا،وأهل الجنة في ظل لا في فئ، لأن الجنة لا شمس فيها، وفي التنزيل: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾، وجمع الفئ أفياء، والفئ: غنائم المشركين، أفاء الله علينا منهم، وهو من رجوع الشئ إلى حقه، وفلان سريع الفئ من غضبه أي: الرجوع.

د. العزم: هو العقد على فعل شئ في مستقبل الأوقات، وهو إرادة متقدمة للفعل بأكثر من وقت واحد يتعلق بفعل اللازم، يقال: عزم على الشئ يعزم عزما، واعتزم وعزمت عليك لتفعلن أي: أقسمت، وعزم الراقي: كأنه أقسم على الداء، وما لفلان عزيمة أي: ما يثبت على شئ لتلونه، وعزائم القرآن: التي تقرأ على ذوي الآفات لما يرجى من البرء بها.

هـ. الطلاق: حل عقد النكاح بسبب من جهة الرجل، وامرأة طالق زعم قوم أن تاء التأنيث إنما حذفت لأنه لاحظ فيه للمذكر، وهذا ليس بشئ، لأن في الكلام أشياء كثيرة يشترك فيها المذكر والمؤنث، لا يثبت فيها الهاء في المؤنث، يقال: بعير ضامر، وأمثاله كثيرة، وقال سيبويه: إنه وقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث، لأن المعنى شئ طالق، وحقيقته أنه على جهة النسب نحو قولهم: امرأة مطفل أي: ذات طفل، وطالق أي: ذات طلاق، فإذا أجريته على الفعل قلت: طالقة، قال الأعشى:

أيا جارتي بيني، فإنك طالقة،...كذاك أمور الناس: غاد، وطارقة

وأصل الطلاق من الانطلاق، وطلقت المرأة عند الولادة فهي مطلوقة: إذا تمخضت، والطلق: الشوط من الجري، والطلق: الحبل الشديد الفتل.

و. السميع: من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المسموعات إذا وجدت، وهي ترجع إلى كونه حيا لا آفة به، والسامع: المدرك، ويوصف القديم سبحانه في الأزل بأنه سميع، ولا يوصف في الأزل بأنه سامع، إنما يوصف به إذا وجدت المسموعات.

2. بين الله تعالى تعالى حكم الإيلاء لأنه من جملة الإيمان والأقسام، وشريعة من شرائع الاسلام، فقال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ أي: يحلفون، وفيه حذف أي: أن يعتزلوا عن وطء نسائهم على وجه الإضرار بهن.

3. ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي: التوقف والتثبت في أربعة أشهر، واليمين التي يكون الرجل بها موليا هي اليمين بالله عز وجل، أو بشئ من صفاته التي لا يشاركه فيها أحد غيره، على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه، ويكون الحلف على الامتناع من الجماع على وجه الغضب والضرار، وهو المروي عن علي وابن عباس والحسن، وقيل في الغضب والرضا، عن إبراهيم والشعبي وجماعة من الفقهاء، وقيل: هو في الجماع وغيره من الضرار، نحو أن يحلف لا يكلمها، عن سعيد بن المسيب.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾:

أ. قيل: أي: رجعوا إلى أمر الله بأن يجامعوا عند القدرة عليه، أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع، عن ابن عباس ومسروق وسعيد بن المسيب، وهو مذهبنا (2)، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: يكون فائيا بالعزم في حال العذر، إلا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه، عن الحسن وإبراهيم وعلقمة، وهذا يكون عندنا للعاجز عن الجماع.

5. يجب على الفائي عندنا كفارة، ولا عقوبة عليه، وبه قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وقال الحسن وإبراهيم: لا كفارة عليه، ولا عقوبة لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ومعنى غفور عندنا أنه لا يتبعه بعقوبة.

6. من حلف أن لا يجامع أقل من أربعة أشهر، لا يكون موليا، ومن حلف أن لا يقربها وهي مرضعة مخافة أن تحبل، فيضر ذلك بولدها، لا يلزمه حكم الإيلاء، وإذا مضت أربعة أشهر، ولم يجامع ألزمه الحاكم إما الرجوع والكفارة، وإما الطلاق، فإن امتنع حبسه حتى يفئ أو يطلق.

7. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ عزيمة الطلاق عندنا: أن يعزم، ثم يتلفظ بالطلاق،ومتى لم يتلفظ بالطلاق على الوجه المشروع، فإن المرأة لا تبين منه، إلا أن تستعدي، فإن استعدت، وأنظره الحاكم أربعة أشهر، فإنه يوقف عند الأشهر الأربعة، ويقال له: فئ أو طلق، فإن لم يفعل حبسه حتى يطلق، وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: متى امتنع من الطلاق، والفئة، طلق عنه الحاكم طلقة رجعية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا مضت أربعة أشهر، ولم يفئ بانت منه بتطليقة، ولا رجعة له عليها، وعليها العدة، يخطبها في العدة، ولا يخطبها غيره.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: يسمع قوله، ويعلم ضميره.

ب. وقيل: يسمع ايلاءه، ويعلم نيته.

9. إنما ذكر عقيب الأول ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه لما أخبر عن المولى أنه يلزمه الفئ، أو الطلاق، بين أنه إن فاء فإن الله غفور رحيم بأن يقبل رجوعه، ولا يتبعه بعقاب ما ارتكبه، وذكر ههنا أنه سميع عليم، لما أخبر عنه بإيقاع الطلاق، وكان ذلك مما يسمع، أخبر بأنه لا يخفى عليه، وأنه يسمعه، فكل لا يليق إلا بموضعه، وذلك من عظيم فصاحة القرآن.

10. يجوز في ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ ثلاثة أوجه: الجر على الإضافة، وعليه القراءة وهذه الإضافة غير حقيقية، فإن الأربعة في محل النصب، وإن كان مجرور اللفظ، ويجوز في العربية الرفع والنصب تربص أربعة أشهر، كقوله ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ ومثله: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ وتربص أربعة أشهر، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ أي: تكفتكم أحياء وأمواتا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/570

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾:

أ. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا، فأبت أن تعطيه؛ حلف أن لا يقربها السنة، والثلاث، فيدعها لا أيّما ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام؛ جعل الله تعالى ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية.

ب. وقال سعيد بن المسيّب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوّجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدا، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية.

2. يؤلون: قال ابن قتيبة: يؤلون، أي: يحلفون، يقال: آليت من امرأتي، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها، والاسم: الأليّة، وقال الزجّاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء وأليّة وألوة وألوة وإلوة، وهي بالكسر أقلّ اللغات، قال كثير:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...وإن بدرت منه الأليّة برّت‏

وحكى ابن الأنباريّ عن بعض اللغويّين أنّه قال: (من) بمعنى: (في) أو: (على)، والتقدير: على وطء نسائهم، فحذف الوطء، وأقام النساء مقامه، كقوله تعالى: ﴿مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾، أي: على ألسنة رسلك، وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يؤلون، يعتزلون من نسائهم.

3. التّربّص: الانتظار، ولا يكون مؤليا إلا إذا حلف بالله لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون، لم يكن مؤليا، وهذا قول مالك، وأحمد، والشّافعيّ‏، وفاؤوا: رجعوا، ومعناه رجعوا إلى‏ الجماع، قاله عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومسروق، والشّعبيّ، وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع، فإنه يقول: متى قدرت جامعتها، فيكون ذلك من قوله فيئة؛ فمتى قدر فلم يفعل، أمر بالطلاق، فإن لم يطلّق، طلّق الحاكم عليه.

4. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، قال عليّ، وابن عباس: غفور لإثم اليمين.

5. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي: حقّقوه‏، وفي عزم الطّلاق قولان:

أ. أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة أشهر استحقّ عليه أن يفيء، أو يطلّق، وهو مرويّ عن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعائشة، وطاووس ومجاهد، والحكم، وأبي صالح، وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلا من الصحابة، وهو قول مالك، وأحمد، والشّافعيّ.

ب. الثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر، فتطلق بذلك من غير أن يتكلّم بطلاق، واختلف أرباب هذا القول فيما سيلحقها من الطّلاق على قولين:

أحدهما: طلقة بائنة، روي عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب.

الثاني: طلقة رجعيّة، روي عن سعيد بن المسيّب، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، وابن شبرمة.

6. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: سميع لطلاقه، عليم بنيّته.

ب. الثاني: سميع ليمينه، عليم بها.

__________

(1) زاد المسير: 1/196

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. آلى يؤالي إيلاء، وتألى يتألى تأليا، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم منه ألية وألوة، كلاهما بالتشديد، وحكى أبو عبيدة ألوة وألوة وألوة ثلاثة لغات، وبالجملة فالألية والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، وفي الحديث حكاية عن الله تعالى: (آليت أفعل خلاف المقدرين)، وقال كثير:

قليل الألايا حافظ ليمينه‏...فإن سبقت منه الألية برت‏

2. هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة، أما في عرف الشرع فهو اليمين على ترك الوطء، كما إذا قال: والله لا أجامعك، ولا أباضعك، ولا أقربك، ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه، وأنا أقول: هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي، أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار.

3. روي‏ أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقا، قال سعيد بن المسيب: كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا، فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.

4. سؤال وإشكال: المتعارف أن يقال: حلف فلان على كذا أو آلى على كذا، فلم أبدلت لفظة على في قوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ بلفظة (من)؟، والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر، كما يقال: لي منك كذا.

ب. الثاني: أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين.

5. ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ التربص التلبث والانتظار يقال: تربصت الشيء تربصا، ويقال: ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله: بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.

6. ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ فإن رجعوا، والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود: فيء، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل، فقالوا: الفيء ما كان بالعشي، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء، لأنه لا شمس فيها، قال الله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30] وأنشدوا:

فلا الظل من برد الضحى يستطيعه‏...ولا الفيء من برد العشي يذوق‏

وقيل: فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب، أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة وقيل: لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ معناه فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين.

7. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يغرم عزما وعزيمة، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت، والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقا، وقال الليث: طلقت بضم اللام، وقال ابن الأعرابي: طلقت بضم اللام من الطلاق أجود، ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالا في الشرع، وأصله من الانطلاق، وهو الذهاب، فالطلاق عبارة عن‏ انطلاق المرأة.

8. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالإيلاء، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

9. اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال:

أ. الأول: قول ابن عباس أنه لا يكون موليا حتى يحلف على أن لا يطأها أبدا.

ب. الثاني: قول الحسن البصري وإسحاق: إن أي مدة حلف عليها كان موليا وإن كانت يوما، وهذان المذهبان في غاية التباعد.

ج. الثالث: قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون موليا حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.

د. الرابع: قول الشافعي وأحمد ومالك: إنه لا يكون موليا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر.

10. فائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة، وهذه المدة تكون حقا للزوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه، وعن أبي حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه.

11. استدل القائلون بأنه لا يكون موليا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر بوجوه:

أ. الأولى: أن الفاء في قوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ/ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏﴾ تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخيا عن انقضاء الأربعة أشهر.

ب. الثانية: أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج.

ج. الثالثة: أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعا، وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم، عليم بما في قلوبهم.

د. الرابعة: أن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾.. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا﴾ ظاهره التخيير بين الأمرين، وذلك يقتضي أن يكون وقت ثبوتهما واحدا، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.

هـ. الخامسة: أن الإيلاء في نفسه ليس بطلاق، بل هو حلف على الامتناع من الجماع مدة مخصوصة إلا أن الشرع ضرب مقدارا معلوما من الزمان، وذلك لأن الرجل قد يترك جماع المرأة مدة من الزمان لا بسبب المضارة، وهذا إنما يكون إذا كان الزمان قصيرا، فأما ترك الجماع زمانا طويلا فلا يكون إلا عند قصد المضارة، ولما كان الطول والقصر في هذا الباب أمرا غير مضبوط، بين تعالى حدا فاصلا بين القصير والطويل، فعند حصول هذه تبين قصد المضارة، وذلك لا يوجب ألبتة وقوع الطلاق، بل اللائق بحكمة الشرع عند ظهور قصد المضارة أنه يؤمر إما بترك المضارة أو بتخليصها من قيد الإيلاء، وهذا المعنى معتبر في الشرع كما قلنا في ضرب الأجل في مدة العنين وغيره.

12. سؤال وإشكال: ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾.. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ تفصيل لقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم، والجواب: هذا ضعيف لأن قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ﴾ هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ ورد عقيب ذكرهما، فيكون هذا الحكم مشروعا عقيب الإيلاء، وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله: أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت، لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول، أما هاهنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص، فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعا عقيب هذين الأمرين، وهذا كلام ظاهر.

13. سؤال وإشكال: الإيلاء الطلاق في نفسه، فالمراد من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ الإيلاء المتقدم، والجواب: هذا بعيد لأن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ لا بد وأن يكون معناه: وإن عزم الذين يؤلون الطلاق، فجعل المؤلي عازما، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا، وأما الطلاق فهو متعلق العزم، ومتعلق العزم متأخر عن العزم، فإذا الطلاق متأخر عن العزم لا محالة، والإيلاء إما أن يكون مقارنا للعزم أو متقدما، وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر.

14. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء، والجواب: هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء، بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء، وهو كلام غيره حتى يكون‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تهديدا عليه.

15. استدل القائلون بأنه لا يكون موليا حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد، أن عبد الله بن مسعود قرأ، فإن فاءوا فيهن، والجواب الصحيح: أن القراءة الشاذة مردودة لأن كل ما كان قرآنا وجب أن يثبت بالتواتر فحيث لم يثبت بالتواتر قطعنا أنه ليس بقرآن وأولى الناس بهذا أبو حنيفة، فإنه بهذا الحرف تمسك في أن التسمية ليست من‏ القرآن، وأيضا فقد بينا أن الآية مشتملة على أمور ثلاثة دلت على أن هذه الفيئة لا تكون في المدة، فالقراءة الشاذة لما كانت مخالفة لها وجب القطع بفسادها.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/429

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُؤْلُونَ﴾ معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة، وقرأ أبي وابن عباس (للذين يقسمون)، ومعلوم أن ﴿يَقْسِمُونَ﴾ تفسير ﴿يُؤْلُونَ﴾، وقرئ (للذين آلوا) يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾، وقال الشاعر:

فآليت لا أنفك أحدو قصيدة... تكون وإياها بها مثلا بعدي

وقال آخر:

قليل الألايا حافظ ليمينه... وإن سبقت منه الألية برت

وقال ابن دريد:

ألية باليعملات يرتمي... بها النجاء بين أجواز الفلا

قال عبد الله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.

2. آلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم، وقيل: لأن زينب ردت عليه هديته، فغضب صلّى الله عليه وآله وسلم فآلى منهن، ذكره ابن ماجه.

3. يلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء، وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط، واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي قول: لا إيلاء له، وفي قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء، وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه.

4. اختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين:

أ. فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، وبه قال الشافعي في الجديد.

ب. وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي، قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء، فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر بـ ﴿اللَّهُ﴾ فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد بـ ﴿اللَّهُ﴾ ونواه.

5. إن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك، وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمؤل، وهو أصح لأن الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل، ووجه ما رواه ابن القاسم مبني على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة.

6. إن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمؤل، قال مالك وغيره، قال الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال قال مالك: كل كلام نوي به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.

7. اختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن:

أ. فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا.

ب. وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق، قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.

ج. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شي كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور.

د. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء، قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفي العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد، قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بألفي وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر.

8. احتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل، ووجه قول إسحاق ـ في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ ـ القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.

9. اختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب:

أ. فقال ابن عباس: لا إيلاء إلا بغضب، وروي عن علي بن أبي طالب في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشارة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.

ب. وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد، قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك، ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم.

10. اختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع:

أ. قيل: لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد، قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه.

ب. والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.

11. ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته، قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ فكان ذلك لجميع الأزواج، قال ابن المنذر: وبه أقول، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران، وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الأمة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.

12. قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما، وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول، وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.

13. الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطئ زوجته ضرارا من غير يمين.

14. ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها... تطلق يوما أو يموت حليلها

15. فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ وقد آلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن، وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:

ألا طال هذا الليل واسود جانبه... وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

فو الله لولا الله لا شيء غيره... لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يكفني... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر.

16. ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ معناه رجعوا، ومنه ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ ومنه قيل للظل بعد الزوال: في، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفئ فيئة وفيوءا، وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع، قال:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له... ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

17. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالإيلاء، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

18. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما بالضم، وعزيمة وعزيما وعزمانا، واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك، قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله.

19. الطلاق من طلقت المرأة تطلق على وزن (نصر ينصر) طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا، قال الأعشى: (أيا جارتا بيني فإنك طالقه)، ويجوز طلقت بضم اللام مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش، والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعي، وبعير طلق بضم الطاء واللام غير مقيد، والجمع أطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه، فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها، وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة.

20. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: ﴿سَمِيعٌ﴾ وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي، وقال أبو حنيفة: ﴿سَمِيعٌ﴾ لإيلائه، ﴿عَلِيمٌ﴾ بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر، وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شي حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق، قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا﴾ بعد انقضائها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وتقديرها عندهم: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا﴾ فيها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وقال ابن العربي: (وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه)، وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق.

21. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ دليل على أن الأمة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/103، مع العلم أنا ذكرنا بعض ما ذكره من مسائل فقهية التي ليست لها صلة مباشرة للتوضيح أكثر.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُؤْلُونَ﴾ أي: يحلفون: والمصدر إيلاء وأليّة وألوة، وقرأ ابن عباس: الذين آلوا يقال آلى يؤالي إيلاء ويأتلي بالتاء ائتلاء، أي: حلف، ومنه: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾، ومنه: (قليل الألايا حافظ ليمينه)‏

اختلف أهل العلم في الإيلاء، فقال الجمهور: إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليا وكانت عندهم يمينا محضا، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء، وروي عن ابن عباس: أنه لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يمسها أبدا، وقالت طائفة: إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوما؛ أو أقل؛ أو أكثر؛ ثم لم يطأ أربعة أشهر؛ بانت منه بالإيلاء، وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، وقتادة، وإسحاق، قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.

2. ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ يشمل الحرائر والإماء إذا كنّ زوجات، وكذلك يدخل تحت قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ العبد إذا حلف من زوجته، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، قالوا: وإيلاؤه كالحر، وقال مالك والزهري وعطاء وأبو حنيفة وإسحاق: إن أجله شهران، وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.

3. التربص: التأني، والتأخر، قال الشاعر:

تربّص بها ريب المنون لعلّها...تطلّق يوما أو يموت حليلها

وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعا للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة، والسنتين، وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل: إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها.

4. ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ أي: رجعوا ومنه: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء، لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفيء فيئة وفيوءا، وإنه لسريع الفيئة، أي: الرجعة، ومنه قول الشاعر:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له‏...ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم: على أن الفيء: الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك؛ وقالت طائفة: إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر أجزأه، وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل، وقد أوجب الجمهور على المولي إذا فاء بجماع امرأته الكفارة، وقال الحسن والنخعي: لا كفارة عليه.

5. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ العزم: العقد على الشيء، ويقال: عزم يعزم عزما وعزيمة وعزمانا، واعتزم اعتزاما، فمعنى عزموا الطلاق: عقدوا عليه قلوبهم، والطلاق: من طلقت المرأة تطلق، كنصر ينصر، طلاقا فهي طالق وطالقة أيضا، ويجوز طلقت بضم اللام، مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش، والطلاق: حلّ عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر كما قال مالك؛ ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال ﴿سَمِيعٌ﴾، وسميع يقتضي مسموعا بعد المضيّ، وقال أبو حنيفة: ﴿سَمِيعٌ﴾ لإيلائه‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ بعزمه الذي دل عليه مضيّ أربعة أشهر.

6. أهل كل‏ مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي ـ أي: يحلف من امرأته ـ أربعة أشهر، ثم قال مخبرا لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدّة: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم‏ ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ أي: وقع العزم منهم عليه، والقصد له‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لذلك منهم‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة، فمن حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدّة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت فهو بالخيار إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضيّ المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها؛ وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبرّ في يمينه؛ اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين آلى من نسائه شهرا، فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلا لما صح عنه صلّى الله عليه وآله وسلم من قوله: (من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه)

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/267

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اشتملت هذه الآية على حكم الإيلاء، وهو لغة، الامتناع باليمين، وخصّ في عرف الشرع: بالامتناع باليمين من وطء الزوجة، ولهذا عدى فعله بأداة (من) تضمينا له معنى: يمتنعون من نسائهم، وهو أحسن من إقامة (من) مقام (على)، وجعل سبحانه للأزواج مدّة أربعة أشهر يمتنعون فيها من نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإمّا أن يفيء وأما أن يطلق.

2. اشتهر عن عليّ وابن عباس أنّ الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا، كما وقع لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ مع نسائه، وظاهر القرآن مع الجمهور، وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر، فاحتجّ على محمد بقول عليّ كرّم الله وجهه، فاحتجّ عليه محمد بالآية فسكت، وقد اتفق الأئمة على أن المولى إذا فاء إلى المواصلة لزمته كفارة يمين، وإنما ترك ذكرها هنا لأنها معلومة من موضع آخر في التنزيل العزيز، فعموم وجوب التكفير ثابت على حالف.

3. قال صديق خان في (تفسيره): اعلم أن أهل كل مذهب قد فسّروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لا يدل عليه اللفظ ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح وهو أنّ الله جعل الأجل لمن يولي (أي: يحلف من امرأته) أربعة أشهر؛ ثم قال مخبرا لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدّة ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾، أي: رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أي: لا يؤاخذهم بتلك اليمين، بل يغفر لهم ويرحمهم؛ ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾، أي: وقع العزم منهم عليه والقصد له‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾، لذلك منهم‏ ﴿عَلِيمٌ﴾، به، فهذا معنى الآية الذي لا شكّ فيه ولا شبهة، فمن حلف أن لا يطأ امرأته ـ ولم يقيد بمدة، أو قيّد بزيادة على أربعة أشهر ـ كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت فهو بالخيار: إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء، وأمّا إذا وقّت بدون أربعة أشهر: فإن أراد أن يبر في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين آلى من نسائه شهرا، فإنه اعتزلهن حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلا لما صح‏ عنه صلّى الله عليه وآله وسلم من قوله: (من حلف على يمين فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه)

4. قال الحراليّ: في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام، ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام، فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر، ولذلك رأى العلماء أنّ الطلاق أمانة في أيدي الرجال، كما أنّ العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء، فلذلك انتظمت آية تربّص المرأة في عدتها بآية تربّص الزوج في إيلائه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/132

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُولُونَ﴾ يحلفون أحرارًا أو عبيدًا، ولو خصيِّين أو مجبوبين ﴿مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ على جماع نسائهم، أو ضُمِّن (يُولُونَ) معنى يبعدون بالإيلاء، بل الابتداء واحد لا يخلو عن بعد الفعل المبتدإ عن المبتدإ منه، أو لهم في نسائهم تربُّص أربعة أشهر، أن لا يجامعوهنَّ مطلقًا أو مدَّة تزيد على أربعة أشهر.

2. ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ من إضافة الحدث إلى ظرفه، أي: تربُّصٌ في أربعة أشهر لا يحكم عليه فيها بجماع، ولا يقع طلاق بذلك تحقيقًا أو حكمًا، فإن لم يطيقوا الجماع لمرضهم أو مرضهنَّ أو رتقهنَّ، أو صغر بحيث لا تطيق غيوب الحشفة، أو حدَثٌ في ذكر الرجل، أو بعد المسافة، أو منع جبَّار أو عدوّ، أو غير ذلك من الموانع، فإنَّهم يشهدون على الفيء، وتلزمه كفَّارة مرسلة للحنث يعطيها بعد الفيء، وهي في ذمَّته بلا أجل محدود، ﴿فَإِن فَآءُواْ﴾ رجعوا قبل تمامها إلى جماعهنَّ فجامعوا إن قدروا، أو أشهدوا على الفيء إن لم يقدروا كما مرَّ، ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لم يعاقبهم الله على ترك الجماع في تلك المدَّة لأنَّه غفور رحيم، أولم يعاقبهم بوقوع الطلاق، والأوَّل أنسب لذكر الغفر والرحمة.

3. ﴿وَإنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ﴾ بالتصمُّم على ترك الجماع حتَّى مضت الأربعة وقع الطلاق واحدًا، وتزوَّجن بلا عدَّة بعدُ، بل الأربعة عدَّة سابقة ولا رجعة، وسمَّى ترك المراجعة ـ وهي الفيء ـ تطليقًا، وعدَّه الله عليه، ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ أي لأنَّ الله ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عنه قولهم ولا عزمهم، وهذا هو مذهب أصحابنا(2)، ومذهب أبي حنيفة والحنفيَّة، وقال غيرهم من أصحاب المذاهب: فاءوا للجماع ولو بعد الأربعة، فهنَّ باقيات بلا طلاق، وإلَّا أجبرهم الإمام أو نحوه على الطلاق بعد الأربعة، وهنَّ أزواجهم ما لم يطلِّقوا، وإن أبوا طلَّق عليهم الإمام أو نحوه، وقال الشافعيُّ: لا إيلاء إِلَّا بأكثر من أربعة أشهر، وبعد تمام ما زاد على الأربعة يجبر على الفيء أو الطلاق؛ وإن أبى طلَّق عليه نحوُ الإمام، وإن حلف على أربعة فلا حكم إيلاء عليه، ولكن إن فاء لزمته كفَّارة الحنث، كما عندنا إن حلف على أقلَّ من أربعة، وإنَّما يلحق الإيلاء إذا كان غضبًا على المرأة أو عقابًا لها، أو أراد ولده ـ مثلاً ـ ذلك أو صديقه أو نحو ذلك، أمَّا إن آلى منها لئلَّا يلزمه غسل في الشتاء، أو لئلَّا يلحقه هزال، أو ليتمَّ رضاع ولده فعندي لا إيلاء في ذلك، فإن حنث فكفَّارة يمين، ثمَّ رأيت بعضه لعليِّ بن أبي طالب سأله رجل آلى من امرأته سنتين، فقال: لزمك حكم الإيلاء، فقال: إنَّما آليت لأنَّها ترضع ولدي، فقال: لا إذَنْ، وعبارة بعض: إنَّما الإيلاء لغضب، أي: أو لقصد إضرار لها.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/45.

(2) يقصد الإباضية

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة انتقل إلى حكم اليمين الخاصة فقال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ الآية، فالإيلاء من المرأة: أن يحلف الرجل أنه لا يقربها، وهو مما يكون من الرجال عند المغاضبة والغيظ، وفيه امتهان للمرأة وهضم لحقها وإظهار لعدم المبالاة بها، فترك المقاربة الخاصة المعلومة ضرارا معصية، والحلف عليه حلف على ما لا يرضي الله تعالى به لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين وما يترتب على ذلك من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما وأقاربهما.

2. الظاهر أن حكم هذا الإيلاء (الحلف) يدخل في معنى الآية السابقة على الوجه الأول من الوجهين اللذين أوردناهما، وهو أنه يجب على المؤلي أن يحنث ويكفر عن يمينه، ولكنه إذا لم يفعل هذا الواجب لم يكن آثما في نفسه فقط، فيقال: حسبه ما يلقى من جزاء إثمه، بل يكون بإثمه هاضما لحق امرأته، ولا يبيح له العدل هذا الهضم والظلم، ولذلك أنزل الله فيه هذا الحكم، وهو التربص مدة أربعة أشهر، وقد قيل: إن هذه هي المدة التي لا يشق على المرأة البعد فيها عن الرجل، وهي كافية لتروي الرجل في أمره ورجوعه إلى رشده.

3. ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ أي: رجعوا إلى نسائهم بأن حنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو آخرها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة؛ لأن الفيئة توبة في حقهم.

4. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ أي: صمموا قصده وعزموا على ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: فليراقبوا الله تعالى عالمين أنه سميع لإيلائهم وطلاقهم عليم بنيتهم فيه، فإن كانوا يريدون به إيذاء النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربية النساء لأجل إقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان المعاشرة بالمعروف، فهو يغفر لهم.

5. المعنى أن من حلف على ترك غشيان امرأته فلا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر؛ فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين: الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن يراقب الله تعالى فيما يختاره منهما، فإن لم يطلق هو بالقول كان مطلقا بالفعل؛ أي: أنها تطلق منه بعد انتهاء المدة رغم أنفه منعا للضرار، وقيل ترفع أمرها إلى الحاكم فيطلق عليه، والمسألة خلافية في هذا، ولكن لا خلاف في عدم جواز بقائها على عصمته وعدم إباحة مضارتها، وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وهدى إلى مراقبته في العزم على الطلاق، وذكر المؤلي بسمعه تعالى لما يقول وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله.

6. هذا حكم الإيلاء من المرأة إذا أطلقه الزوج فلم يذكر زمنا، أو قال: لا أقربك مدة كذا وذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر فلا يلزمه شيء إذا أتمها وفي الأربعة خلاف.

7. عدى الإيلاء هنا بـ ﴿مِنَ﴾ لما فيه من معنى المفارقة والانفصال، وهو من البلاغة والإيجاز بمكان، ويقال في غيره ألى وآلى وائتلى أن يفعل كذا؛ أي: حلف، وصار الإيلاء حقيقة شرعية في الحلف المذكور.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/369

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد بيان أحكام اليمين العامة انتقل إلى حكم يمين خاصة هي يمين الإيلاء فقال: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق، والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضى الله تعالى، لما فيه من ترك التوادّ والتراحم بين الزوجين، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها، وقد كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي أيّم ولا هي ذات بعل، وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا، فأزال الله ذلك الضرر عنهنّ، وضرب للزوج مدة يتروّى فيها، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعله، وإن رأى المصلحة في المفارقة فارقها.

2. ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهنّ في أثناء هذه المدة أو في آخرها، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة، لأن الفيئة توبة في حقهم، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير.

3. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم.

4. خلاصة ذلك ـ إن من حلف على ترك غشيان امرأته، لا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر، فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد أمرين: الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن‏ يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلق بالقول كان مطلقا بالفعل: أي إنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه.

5. فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وذكّر المولى بسمعه لما يقول، وعلمه بما يسرّه في نفسه ويقصده من عمله.

6. هذا حكم الإيلاء إذا أطلقه الزوج ولم يذكر زمنا أو ذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر، فلا يلزمه شيء إذا أتمها.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/163

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول، ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو إعناته، كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى.. لكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد إعنات المرأة وإذلالها؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى.

2. توفيقا بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة، جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء، لا يتجاوز أربعة أشهر، وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كيلا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر.

3. على أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور، ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره، فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة، ويرجع إلى زوجه وعشه، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته، وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق، فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي، وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد، فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/245

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تبين هاتان الآيتان الكريمتان، حكما من أحكام الله في العلاقة بين الرجل والمرأة، حين تتأزم بينهما الأمور، وتتصادم النفوس! ومما يأخذ الرجل به المرأة من أدب أن يهجرها، أي لا يتصل بها اتصال الرجل بالمرأة، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾، وليس لهذا الهجر زمن محدد، إذ هو مقدور بالقدر الذي يعدّ كافيا للتأديب والإصلاح! هذا، إذا لم يكن الهجر محكوما بيمين آلى بها الرجل على نفسه ألا يقرب زوجه، فإذا كان ذلك عن يمين، وهو ما يسمى (بالإيلاء) لم يكن المزوج أن يهجر زوجه أكثر من أربعة أشهر، فإن رجع خلال هذه الأشهر، وقبل انتهائها، إلى زوجه وأعاد الحياة الزوجية إلى ما كانت عليه قبل هذا الإيلاء، فزوجه حل له، وعليه كفارة يمينه: ﴿فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يقابل سيئاتكم بالغفران والرحمة، فليذكر الزوجان ذلك، وليلق كل منهما صاحبه بالغفران والرحمة، فذلك هو الذي يمسك الحياة الزوجية بينهما، ويقيمها على طريق السلامة والأمن.

2. إن أصر الرجل على موقفه طوال هذه الأشهر الأربعة ـ فإن إمساك المرأة بعدها في عصمته هو إضرار بها، والطلاق في تلك الحال خير لها، إذ بهذا يتحدد موقفها وتتعرف إلى مكانها في الحياة، وذلك على ما فيه من أذى، خير من إمساكها بهذا القيد الثقيل الذي يحول بينها وبين أن تتحرك إلى أي اتجاه، ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

3. الدلالة على عزيمة الطلاق هنا هو عدم مراجعة الزوجة خلال أربعة الأشهر، فإن طلق الزوج عند انتهاء هذه الأشهر انتهى الأمر، وإلا طلق عليه القاضي، وأخلى سبيل المرأة من هذا المقام الذي أقامها فيه الزوج، والذي لا يراد منه غير الإضرار، لا الإصلاح، كما دلّ على ذلك هذا الزمن المتطاول.. أربعة أشهر، لم ير فيها الزوج بابا يدخل منه ليصلح ما بينه وبين زوجه.. فلم يبق إلا التفرقة بينهما: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/258

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام، كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19] فامتثاله من التقوي، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى، وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلّا بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك، وعن سعيد بن المسيب: (كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألّا يقربها مضارة للمرأة) أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم، قال: ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى) فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً﴾ [البقرة: 224]

2. الإيلاء: الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقا يقال آلى يولي إيلاء، وتألى يتألى تأليا، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوّة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة، وقال الراغب: (الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ [آل عمران: 118] ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ [النور: 22] وصار في الشرع الحلف المخصوص) فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي‏ يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيرا، ويذكرونه كثيرا، قال المتلمس: (آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه‏)، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا﴾ [النور: 22] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ فعدّاه بمن، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين، وأيّا ما كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحلف على الوصف المخصوص.

3. مجيء اللام في‏ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأجل مثل هذا لك ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة، وعدى فعل الإيلاء بمن، مع أن حقه أن يعدّى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البعد، كأنه قال للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمن للابتداء المجازي.

4. النساء: الزوجات كما تقدم في قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل‏ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة: 173]

5. التربص: انتظار حصول شيء لغير المنتظر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى (في) كقوله تعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ﴾ [سبأ: 33]

6. تقديم‏ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ على المبتدأ المسند إليه، وهو تربص، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذكر المسند إليه، و﴿فَأْوُوا﴾ رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق‏ ﴿فَأْوُوا﴾ بالظهور المقصود، والفيئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود.

7. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم، وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه‏ القرآن، قصد الإضرار بالمرأة، وقد يكون الإيلاء مباحا إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعا، غير قصد الإضرار المذموم شرعا، وقد آلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من نسائه شهرا، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك، والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.

8. أما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغيل، وكالحمية من بعض الأمراض في الرجل والمرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمر، إن لم يقيدوها بالحلف.

9. عزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مول من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة، فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ دليل على شرط محذوف، دل عليه قوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾ فالتقدير: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.

10. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ دليل الجواب، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلا محدودا، لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا مندوحة لهم غير هذين.

11. جعل الله للمولي أجلا وغاية، أما الأجل فاتفق عليه علماء الإسلام، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء، وبعض العلماء: كإسحاق بن راهويه وحماد يقول: هو إيلاء، ولا ثمرة لهذا الخلاف فيما يظهر، إلّا ما يترتب على الحلف بقصد الضرّ من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومن أمره إياه بالفيئة.

12. أما الغاية فاختلفوا أيضا في الحاصل بعد مضي الأجل:

أ. فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفيء أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وروي ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. وقال أبو حنيفة: إن مضت‏ المدة ولم يفيء فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر.

13. احتج المالكية بأن الله تعالى قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فدل على أن هنالك مسموعا؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلّا لفظ المولي، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية، وقوله‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ يرجع للنية والقصد، وقال الحنفية ﴿سَمِيعٌ﴾ لإيلائه، الذي صار طلاقا بمضي أجله، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد ﴿عَلِيمٌ﴾ بنية العازم على ترك الفيئة، وقول المالكية أصح؛ لأن قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ جعل مفرعا عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام.

14. خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر، وهو أجل حدده الله تعالى، ولم نطلع على حكمته، وتلك المدة ثلث العام، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمنا طويلا، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم، مثل ثلث المال في الوصية، وأشار به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر، وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب، وعزا ابن كثير في (تفسيره) روايتها لمالك في (الموطأ) عن عبد الله بن دينار، ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا، وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني، ولا رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها، وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى (بالمنتقى)، ولم يعزها إلى شيء من روايات (الموطأ): أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار(2).

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/366

(2) إلى آخر الأثر سبق ذكره.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى، فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلى القدير في قوله تعالى‏ ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية؛ وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة] أو بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة] على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص.

2. الإيلاء مصدر آلى يؤلى بمعنى حلف، وخصه الأصفهاني بالحلف على التقصير في الأمر فقال: (حقيقة الإيلاء والأليّة الحلف المقتضى لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه)، وقد خص في الشرع بالحلف على الامتناع عن القرب من امرأته ومسيسها، وكان ذلك التخصيص مشتقا من هذه الآية: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾

3. التربص الانتظار، والترقب، ومعنى الجملة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للذين يحلفون ويجعلون موضع حلفهم الابتعاد عن نسائهم وتجنبهن متجنين عليهن ظالمين ـ تربص أربعة أشهر ينتظرونها، والله يرقبهم فيها، وحكم الله يترقبهم، فإطلاق التربص من غير أن يضاف إلى الحالفين، ولا أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كان بمعنى الانتظار، وهو من العبيد توسعة لهم، ومن الله سبحانه وتعالى وشرعه ترقب لهم حتى يقطع السبيل على ظلمهم إن طال الأمد وقست قلوبهم، وتلك المدة التي وسع لهم فيها ليعودوا إلى رشدهم، ويقلعوا عن غيهم، وإلا حقت عليهم كلمة الله سبحانه وتعالى؛ هي أربعة أشهر، وبعدها يوضع حد لذلك الظلم والمضارة في العشرة الزوجية.

4. إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني والإنسان؛ ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضى الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا؛ فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها، واشتط واتخذ المضارة والكيد، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله؛ إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر، والأمور تضطرب، وتحل البغضاء محل المحبة، والمضرة محل المودة؛ فوجب أن تنته هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا.

5. إن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع، والهجر غير الجميل في المبيت، فإنه أذى شديد، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر، بل لأنه يدل‏ على البغض الشديد، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها، وأعطته قلبها، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر.

6. جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر، وبعدها يكون الفصم، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء.. ولما ذا كانت المدة أربعة أشهر؟ ذكر بعض العلماء أن تلك المدة أقصى ما تصبر عليه المرأة في المضارة بذلك الهجر غير الجميل، ولقد سأل عمر نساء عن مقدار ما تصبر المرأة عن زوجها، فقالت بعضهن شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة، وينفد صبرها في أربعة أشهر، ولقد كان عمر بعد هذا يسترد الغزاة ويستبدل بهم غيرهم بعد أربعة أشهر، ثم إن التقدير بأربعة أشهر هو الذي يتفق مع جملة الأحكام الشرعية؛ ذلك لأن الرجل أبيح له أن يتزوج أربعا من النساء، وإذا كان في كل شهر يقرب نساءه مرة، ويبادل بينهن، فإن قسمها يكون مرة كل أربعة أشهر، فكان من تناسق الأحكام الشرعية أن جعلت المدة التي تصبر فيها المرأة مع هذا الهجر أو تتصبر أربعة أشهر؛ وذلك فوق أن الفطرة تقول: إن ذلك أقصى غاية الصبر على البعد المتعمد.

7. ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏﴾ وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر، والله يرقبه، والشرع يترقبه، إنما هي لكى يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره، وقرب من امرأته ومسها، وحنث في يمينه، كفّر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلّة الأيمان، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهليهم، وأقاموا المودة، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه‏ وحشة؛ ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم؛ لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه، ما دام الخير يريد والشرّ يجتنب؛ والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره، والأليف وأليفه؛ ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها.

8. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذا هو الفرض القاسي الغليظ، بعد الفرض الرحيم الرفيق؛ وهذه هي العقوبة التي وضعها الشارع الحكيم؛ أي أنهم إن أصروا طول الأشهر الأربعة ولم يرعووا عن غيهم، فإن الطلاق واقع لا محالة بحكم الشارع وكان ذلك الاستمرار هو عزيمة الطلاق القاطعة، وإرادته من الزوج حين صمم عليها؛ لأن الشارع جعله عقوبة لفعله، فمن لم يأت امرأته أربعة أشهر كاملة بيمين حلفها، فإن طلاقها يقع، وهو عقوبة ثابتة مقررة يعتبر الزوج قد اعتزمها وأصر عليها.

9. هذه الآية الكريمة تفيد وقوع الطلاق عقوبة للزوج إن أصر على يمينه ولم يحنث فيها، ولم يتحلل منها ويحسن عشرة أهله؛ وهو في ذلك إنهاء لحال ظالمة للمرأة لا تقوم فيها حقوق الزوجية، ولا هي حرة يختارها من يريد الزواج، وهو منع للمرأة أن تتردى في مهاوى الرذيلة بسبب هذه المضارة، بل يفتح لها الباب لتختار زوجا عادلا بدل هذا الظالم.

10. سؤال وإشكال: إن إيقاع الطلاق بحكم الشارع هو عقوبة، فكيف تنسب عزيمة الطلاق إلى الزوج الذي حلف فعوقب بإيقاع الطلاق بغير إرادته، ورغم أنفه، مع أن من يعزم أمرا ويقطعه لا بد أن يكون مختارا حرا، وأن يكون الفاعل للأمر ينسب إليه على وجه الجزم واليقين؟ والجواب: عن ذلك من وجهين:

أ. أحدهما: أن طائفة من العلماء قرروا أن الطلاق لا يقع فور انتهاء الأربعة الأشهر، بل يمهل الحالف إما أن يفيء إلى أهله بأن يقربها ويحسن العشرة، وإما أن يقع الطلاق عليه؛ فإن لم يفئ واستمر مستمسكا بقوله، فقد اختار الطلاق واعتزمه حقا وصدقا، وأراده عن بينة وعلم، ولا ينفى تلك العزيمة أن يوقعه القاضي، أو يوقعه هو؛ لأنه باشر سببه واختار الطلاق وأصر عليه، وذلك هو قول طائفة من الصحابة والتابعين، وقول مالك والشافعي وأحمد والليث وإسحاق بن راهويه، وأبى ثور، وداوود الظاهري، وأما قول أبى حنيفة فهو أن الطلاق يقع بانتهاء الأربعة الأشهر، والفيء إنما وقته في الأربعة الأشهر، فلا زيادة فوقها بنص الشارع، وحينئذ يقال كيف اعتزم الطلاق وهو لم يوقعه؟ وحينئذ يكون الجواب هو:

ب. الثاني:أن هذه العقوبة حتمية بأمر الشارع أعلنها دفعا للظلم، أو منعا لاستمراره، أو حملا على العشرة الحسنة ويجب أن يضعها الزوج الحالف نصب عينيه طول مدة الإيلاء، وأن يعرف أنها نتيجة لازمة لاستمراره عليه، فإن أصر عليها من بعد، فقد ارتضى الطلاق واعتزمه، وكيف لا يقال إنه اعتزم الطلاق من استمر أربعة أشهر مصرا على الامتناع الظالم وهو يعرف أن نتيجته الطلاق الحتمي؟ وكيف يعطى فرصة أخرى من ترك فرصة أربعة أشهر؟، والطلاق في هذه الحال هو عقوبة عادلة؛ لأنه من جنس الجريمة، وهو نتيجة طبيعية لمن يظلم زوجه في العشرة الزوجية؛ وهو باب الفضيلة، إذ يمنع الزوج من أن تتقحم في الرذيلة.

11. الطلاق الذي يقع يكون رجعيا عند الأئمة الثلاثة؛ ودليلهم أن كل طلاق رجعى إلا ما ورد النص بأنه بائن، وليس منه ذلك الطلاق؛ وعلى هذا يكون له الرجعة في العدة؛ وقد روى عن مالك أنه اشترط للرجعة أن يفيء إلى أهله، فلا تتم بمجرد القول، بل لا بد من الدخول، وقال أبو حنيفة: الطلاق بائن لأنه دفع للضرر، ولا يتحقق إلا بالبينونة، وإلا كان تمكينا للزوج من معاودة الظلم.

12. أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق؛ فقد جعل جزاء الشرط كونه سميعا عليما، إذ قال‏ ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى سميع إلى ما كان من الزوج الحالف، قد سمع يمينه التي لم يرد بها خيرا، وكلامه الذي لم يرد به إلا ضرا؛ عليم بما وقع منه من مضارة وإيذاء، وأنه لم يحسن العشرة الزوجية، ولم يحسن الفراق، فإنه لم يسرحها بمعروف، بل تركها هملا حتى أنقذها الله من ظلمه بحكمه العادل الحاسم الرحيم؛ وإن الله سبحانه إذا كان عليما بما وقع، سميعا لما قيل فإنه لا بد يوم القيامة مجاز الإحسان إحسانا والسوء سوءا؛ والطلاق ليس العقوبة الكاملة، إنما العقوبة الكاملة يوم الجزاء الأوفى، وعندئذ تجزى كل نفس بما كسبت، وإلى الله مرجع الأمور.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/750

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الإيلاء في الشريعة أن يحلف الزوج بالله على ترك وطء زوجته، واشترط فقهاء الإمامية لانعقاده أن تكون الزوجة مدخولا بها، والا لم يقع الإيلاء، وان يحلف الزوج على ترك الوطء مدة حياة الزوجة، أو مدة تزيد على الأربعة أشهر، لأن للزوجة حق المواقعة على الزوج مرة كل أربعة أشهر على الأقل.

2. وقالوا: إذا وطأ الزوج في الأربعة أشهر يكفر، ويزول المانع، كأن لم يكن شيء، وان مضى أكثر من أربعة أشهر، ولم يطأ فان صبرت ورضيت فلها ذلك، ولا يحق لأحد أن يعترض، وان لم تصبر رفعت أمرها الى الحاكم الشرعي، وبعد مضي الأشهر الأربعة يجبره على الرجوع، أو الطلاق، فان امتنع ضيق عليه وحبسه، حتى يختار أحد الأمرين، ولا يحق للحاكم أن يطلق قهرا عن الزوج.. وإذا رجع كفر كفارة اليمين المتقدم ذكرها.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/340

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ الآية، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا وإضرارا، وهو المراد في الآية، والتربص‏ هو الانتظار، والفيء هو الرجوع، والظاهر أن تعدية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربص بالأربعة أشهر فإنها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، فإن السمع إنما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، دلالة على أن الإيلاء لا عقاب عليه على تقدير الفيء، وأما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ الآية، فالمعنى أن من آلى من امرأته يتربص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وإن عزم الطلاق وأوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم.

3. في الكافي، عن الباقر والصادق عليه السلام أنهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في الكف عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسها ـ فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة، فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسها وإما أن تطلق، وعزم الطلاق أن يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل الله في كتابه وسنة رسول الله.. وفيه، أيضا عن الصادق عليه السلام في حديث: والإيلاء أن يقول: والله لا أجامعك كذا وكذا ـ أو يقول: والله لأغيظنك ثم يغاظها، الحديث.

4. في خصوصيات الإيلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة، والبحث فقهي مذكور في الفقه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/227

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ أي يحلفون بالله ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ أي أزواجهم أن لا يطؤوهن ﴿تَرَبُّصُ﴾ انتظار وكف عن مطالبة الزوج ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ فهذا من حقوق الزوج على زوجته بحكم أحكم الحاكمين.

2. ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ رجعوا إلى أزواجهم وخرجوا عن أيمانهم بالحنث فيها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لهم ذلك الحلف وإن كان من سوء العشرة للزوجات وخلاف المعروف من المعاشرة، وفي هذا ترغيب في الفيء والرجوع إلى المعاشرة بالمعروف وذلك رحمة للزوجين.

3. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ أي جعلوا الطلاق عزيمة لا رخصة فيها، أي طلقوا طلاقاً هو عزيمة لإيجابه الفرقة بين الزوجين، وخرجوا من رخصة الخيار إلى العزيمة وفي قوله تعالى: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا﴾ ﴿وَإِنْ عَزَمُوا﴾ يدل مجموع ذلك: أنها لا تتربص أكثر من أربعة أشهر، أي لا حق له في ذلك، وعلى هذا فيؤمر باختيار أحد الأمرين، ويحبس إن امتنع ويضيق عليه حتى يطلق أو يفيءَ.

4. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمع الطلاق ولا يخفى عليه إيقاع العزيمة في الفراق فيجب العمل بأحكام الطلاق ولا يجوز إلغاؤه بحال.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/339

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ الإيلاء: هو الحلف على ترك مقاربة الزوجة، كوسيلة من وسائل المضارّة، أي: يحلفون على ترك وطء نسائهم للإضرار بهنّ، لتبقى المرأة في حالة تجميد من ناحية العلاقة الجنسية في الزواج، لارتباطها بزوجها لبقاء الزواج، وانفصاله الجسدي عنها، الأمر الذي يؤدي إلى مشكلة إنسانية معقدة، لأن الله لا يريد للمرأة الذي أن تعيش في حالة اضطهاد نفسي وجسدي في نطاق الزواج، الذي قد يحوّله الرجل بهذه الطريقة إلى سجن، ولذلك أراد الله أن يضع لهذه المسألة حدّا معقولا، فهو لا يريد إلغاء الحلف كلية، باعتبار أنه حالة طبيعية قد تمس الحاجة إليها من خلال غضب‏ جامح أو انفعال شديد، لا يملك فيه الإنسان نوازعه النفسية، فترك له التنفيس عن ذلك بهذه الطريقة، ليأخذ وقته في التأمل والتفكير واتخاذ الموقف المناسب بعد سكون غضبه وهدأة انفعاله، من دون أن تكون المدة المفروضة بالغة الضرر بالنسبة إلى المرأة، وذلك هو ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ فله الاستمرار في يمينه في نطاق هذه المدة، فقد أمهل الزوج الحالف مدة أربعة أشهر، فلا سبيل للشرع عليه هذه المدة، لأن الزوجة لا تملك عليه في حق الاتصال في تلك المدة، فإذا بلغت المدة أربعة أشهر.

2. جاء في الحديث عن الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السّلام، كما في الكافي، أنهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته، فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها، فسكتت ورضيت فهو في حلّ وسعة، فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسّها وإما أن تطلّق وعزم الطلاق أن يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزله الله تبارك وتعالى في كتابه‏

3. فإذا بلغت المدة أربعة أشهر، ﴿فَإِنْ فاؤوا﴾: أي رجعوا إلى أمر الله بإعطاء المرأة حقها الجنسي إذا كان قادرا على ممارسته، أو تراجعه عن التزامه بالترك إذا لم يكن قادرا عليه في ذلك الوقت، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لهم يمينهم ولا يحاسبهم عليها، لأن المولى لا يعاقب على هذا السلوك اللاأخلاقي، باعتبار صدوره عن إرادة للإضرار بالزوجة، وهو أمر لا يرضاه الله، لأنه لا يريد للمؤمن أن يفكر بالإضرار بأيّ إنسان، لا سيما زوجته، ولا يريده أن يحوّل التفكير ـ على تقدير صدوره ـ إلى ضرر فعلي، ولذلك كان الرجوع إلى الوضع الطبيعي بمثابه الكفارة عن هذا الفعل المبغوض له، وإن كان ذلك بدرجة لا تصل إلى حد التحريم.

4. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ وأكدوه ونفّذوه بإطلاق‏ صيغة الطلاق بشروطه الشرعية، لأن الزوج لم يجد صلاحا لنفسه أن يستمر على الحياة الزوجية مع هذه الزوجة، ولا يملك أن يبقى معها في حالة التجميد بمقتضى يمينه، لأن الشريعة لا تسمح له بذلك.

5. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لما اتفقا عليه، فهو الذي يسمع الكلمات التي تحلّ المشكلة بالطلاق أو بغيره، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تضمره صدورهم، وعليم بأسرار الواقع كله.

6. هذا التفصيل بين حالة الرجوع وحالة عزم الطلاق، خاضع للتخيير بين الأمرين، فلا يسمح له بالبقاء على يمينه وتجميد الحياة الزوجية، كما تفيده الآية، وهناك أحكام تفصيلية في موضوع الإيلاء وحدوده وشروطه، يرجع إليها في الفقه.. أما ما نريد الإشارة إليه، فهو أن الله قد فرض على الإنسان أن يتراجع عن يمينه في الحالة التي يتحول فيها اليمين إلى عنصر مضاد للحكم الشرعي، وإلى وسيلة من وسائل الضغط النفسي على الآخرين بالاعتداء على حقوقهم الشرعية، وبذلك كانت هذه الآية نموذجا تطبيقيا للآية السابقة: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾ إلخ.

7. سؤال وإشكال: ما خصوصية الأربعة أشهر؟ والجواب: ذكر مالك بن أنس في الموطأ، عن عبد الله بن دينار قال خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه‏...وأرّقني أن لا خليل ألاعبه‏

فو الله لولا الله أني أراقبه‏...يحرّك من هذا السرير جوانبه‏

فسأل عمر ابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك.. لكننا لا نستطيع تأكيد حدّ المرأة في المسألة الجنسية في مدة زمنية معينة من خلال تجربة امرأة واحدة في حاجتها الغريزية، بلحاظ أقصى ما تصبر عليه من الحرمان، لأن النساء يختلفن في ذلك من حيث النوع، كما أن الرجال يختلفون فيه، ولا سيما إذا لا حظنا الأحاديث التي تدل على أن قوة شهوة المرأة بأضعاف شهوة الرجل، وأنها لولا الحياء الذي ركّب فيها، لاندفعت في اتجاه هذه الشهوة إلى درجة الانحراف.

8. جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام، في رواية صفوان بن يحيى‏ أنه سأله عن الرجل يكون عنده المرأة الشابة، فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها، ليس يريد الإضرار بها يكون لهم مصيبة، أيكون في ذلك آثما؟ قال إذا تركها أربعة أشهر، كان آثما بعد ذلك‏، وفي ضوء هذا، أفتى العلماء في المذهب الإمامي، أن المرأة لا تملك حقا على الرجل في الجماع إلا مرّة في الأربعة أشهر، استنادا إلى هذه الرواية واستيحاء من حكم الإيلاء، لكن يمكن للفقيه أن يستفيد من قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، أن حق المرأة في الوقاع كحق الرجل فيه، بحيث يجب عليه الاستجابة لحاجتها الجنسية إذا طلبت ذلك منه، كما يجب عليها الاستجابة له في حال طلبه ذلك منها، لأن الدرجة التي ذكرت قد يكون المراد بها القوامة التي يملك بها حق الطلاق مما يميزها عنه، لأن طبيعة الزواج من الناحية الشرعية يفرض إشباع الغريزة لدى كلّ من الطرفين في نطاقه، لئلا يضطر إلى الانحراف بالبحث عن ذلك خارج نطاقها، وقد تكون المرأة أكثر إلحاحا وحاجة من الرجل، في نطاق التشريع، لأن الله أباح للرجل الزواج بأكثر من واحدة، ولم يبح ذلك للمرأة، فكيف يمكن أن تعصم نفسها وتشبع غريزتها في مستوى ثلاث مرات في السنة؟.. وقد جاء في الرواية عن الإمام جعفر الصادق في رواية بعض رجاله، قال‏: من جمع من النساء ما لا ينكح، فزنى منهن شيء، فالإثم عليه‏.

9. قد يخطر بالبال، أن الأربعة أشهر تمثل الحد الأقصى الذي يمكن للرجل أن يقف عنده في الأوضاع الطارئة، كما في حال اليمين على الترك أو المصيبة أو السفر، على بعض الآراء، أو نحو ذلك.. لا في الحالات الطبيعية، ولعل تشريع القسمة للزوجات، بل للزوجة الواحدة، يوحي بالتأكيد على تهيئة الأجواء المناسبة التي تقود الزوجين إلى الاستمتاع الدائم في مدى أربعة أيام، على الأكثر، باعتبار أن المبيت إذا لم يكن مشروطا، في القسم، بالجماع، كما هو منطوق بعض الأخبار وفتوى المشهور من الفقهاء، فهو منفتح عليه من خلال طبيعة الغريزة في أجواء الإثارة الطبيعية بالمضاجعة الليلية في حياة الزوجين.

10. إننا نريد إثارة هذه المسألة، من أجل التنبيه إلى ضرورة التوفيق بين العناوين القرآنية للحياة الزوجية وبين طبيعة الفتاوى والروايات الواردة في هذا المجال، وإلى الانطلاق من ارتكاز الزواج في الرجل والمرأة على تحصين‏ النفس ضد الانحراف لمصلحة العفة الجنسية، وهذا مما لا يتفق مع الحدود التي وضعها الفقهاء لحق المرأة في الجنس، فلا بد من ملاحظة ذلك في مسألة الاجتهاد، والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/273

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القسم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء تقليد جاهلي كان شائعا بين العرب، واستمرّ معمولا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق، كان الرجل في الجاهلية ـ حين يغضب على زوجته ـ يقسم على عدم وطئها، فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القسم ليصالحها ويعايشها، وطبعا لا يواجه الرجل غالبا صعوبة في ذلك لأنه يتمتع بعدة زوجات.

2. الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّا، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدّة أقصاها أربعة أشهر أن يتّخذ قرارا بشأن زوجته: إمّا أن يعود عن قسمه ويعيش معها، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها.

3. الغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال، ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏﴾ أي إن عادوا وجدوا الله غفورا رحيما، والعبارة تدلّ أيضا أنّ العودة عن هذا القسم ليس ذنبا، بالرغم من ترتب الكفّارة عليه.

4. ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة، وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة، ولم يطلّق، ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بإلقاء الزوج في السجن، ويشدد عليه حتّى يختار أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.

5. ينبغي التأكيد هنا على أنّ الإسلام، وإن لم يلغ حكم الإيلاء نهائيا، فقد أزال آثار هذه الظاهرة، لأنّه لم يسمح للرجل أن ينفصل عن زوجته بالإيلاء، وتعيينه مدّة للذين يؤلون من نسائهم لا يعني إلغاء حقّ من حقوق الزوجيّة، لأنّ حقّ المرأة على زوجها ـ في إطار الوجوب الشرعي ـ الوطء كلّ أربعة أشهر، هذا طبعا في حالة عدم انجرار المرأة إلى الذنب على أثر طول المدّة، وإلّا يجب أن تقلّل المدّة إلى مقدار تأمين الحاجة الجنسية وخاصّة بالنسبة للمرأة الشابّة التي يخشى انحرافها.

6. تقدّم الحديث في الآيات السّابقة عن القسم اللّغو، وقلنا أنّ كلّ قسم على فعل ما يخالف الشّريعة المقدّسة فهو من مصاديق اللّغو في القسم، فلا إشكال من نقضه، وعلى ذلك فالقسم على ترك الواجبات الزوجيّة لا أثر له إطلاقا، في حين أنّ الإسلام قد جعل له كفّارة (وهي كفّارة نقض القسم واليمين المذكورة في الأبحاث السّابقة) وهذا في الحقيقة عبارة عن عقوبة لبعض الرجال الّذين يتوسّلون بهذه الذريعة لتضييع حقوق الزّوجة حتّى لا يقوموا بتكرار هذا العمل مرّة أخرى.

7. في اوروبا نلاحظ وجود ما يشبه الإيلاء ويطلقون عليه الانفصال البدني وتوضيحه: أنه بما أن الطلاق كان محضورا في الديانة المسيحية لذا قام الغربيوّن بعد الثورة الفرنسيّة الكبرى باستخدام ظاهرة الانفصال الجسمي بين الزوجين باعتبارها إحدى سبل الطّلاق، وذلك بأن يعيش الرجل في مكان والمرأة في مكان آخر عند عدم وجود الوفاق بينهما، وتبقى كلّ الحقوق الزوجيّة محفوظة سوى نفقة الرجل وتمكين المرأة، فالرجل لا يستطيع أن يتزوّج بامرأة أخرى ولا المرأة كذلك على أن لا تتجاوز مدّة الانفصال ثلاث سنوات يجب على الزوجين بعدها أن يعودا إلى حياتهم الزوجيّة، فالبرّغم من أنّ القانون الغربي سمح للزّوجين أن ينفصلا في ثلاث سنين، إلّا أنّ الإسلام لم يسمح لهذا الانفصال أن‏ يستمر أكثر من أربعة أشهر واستمرار هذه المدّة جائز حتّى مع عدم القسم، وبعد هذه المدّة يجب على الرجل أن يعيّن أمره، فإذا أراد أن يماطل أكثر من هذه المدّة فإنّ الحكومة الإسلاميّة تستدعيه وترغمه على اتّخاذ قراره النّهائي.

8. ممّا يلفت النّظر أنّ الكثير من آيات القرآن تختتم أبحاثها بصفات الله تعالى وهذه الصفات لها ارتباط مباشر بمحتوى الآيات دائما، ومن جملة هذه الآيات ما نحن فيه، فعند ما كان الحديث عن الإيلاء والتصميم على نقض هذا القسم الممنوع تذكر الآية بعدها جملة ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وهي إشارة إلى أنّ هذا السلوك السليم سبب لغفران الله تعالى وشمول رحمته لهؤلاء الأشخاص، وعند ما كان الحديث يدور حول التصميم على الطّلاق كانت العبارة ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يعني أنّ الله تعالى يسمع كلامكما ومطّلع على دوافع الطّلاق والفرقة وسوف يجازيكم وفقا لهذا العمل.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/142

102. الطلاق والعدة والرجعة والمعروف

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈102⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: أرسل عثمان بن عفان إلى أبي يسأله عن رجل طلق امرأته، ثم راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة، قال أبي: كيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: نعيذك بالله أن تكون منافقا، ونعوذ بالله أن نسميك منافقا، ونعيذك بالله أن يكون منك هذا في الإسلام ثم تموت ولم تبينه، قال: إني أرى أنه أحق بها، ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة(1).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٠٩٨٧

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا أراد الرجل الطلاق طلقها من قبل عدتها في غير جماع، فانه إذا طلقها واحدة ثم تركها حتى يخلو أجلها، وشاء أن يخطب مع الخطاب فعل، فإن راجعها قبل أن يخلو الأجل أو العدة فهي عنده على تطليقة، فإن طلقها الثانية، فشاء أيضا أن يخطب مع الخطاب، إن كان تركها حتى يخلو أجلها، وإن شاء راجعها قبل أن ينقضي أجلها، فإن فعل فهي عنده على تطليقتين، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهي ترث وتورث ما كانت في الدم في التطليقتين الأولتين(1).

2. روي أنّه قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحل للأزواج(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/119

(2) الشافعي: ٢/١٠٥

عائشة:

روي عن عروة وعمرة، عن عائشة (ت 57 هـ)، قالت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد بانت من زوجها، وحلت للأزواج، قالت عمرة: وكانت عائشة تقول: إنما القرء الطهر، وليس بالحيضة(1).

__________

(1) مالك: ٢/٥٧٦ ـ: ٥٧٧

علقمة:

روي عن علقمة بن يزيد النخعي (ت 62 هـ): أن رجلا طلق امرأته، ثم تركها، حتى إذا مضت حيضتان والثالثة أتاها، وقد قعدت في مغتسلها لتغتسل من الثالثة، فأتاها زوجها، فقال: قد راجعتك، قد راجعتك، ثلاثا، فأتيا عمر بن الخطاب، فقال عمر لابن مسعود وهو إلى جنبه: ما تقول فيها؟ قال أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١٠٩٨٨

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثلاث حيض(1).

2. روي أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل؛ فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل فهو أحق برجعتها، ما لم تضع حملها، ولا يحل لها أن تكتمه حملها، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ (3).

4. روي أنّه قال: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال(4).

5. روي أنّه قال: ﴿حَكِيمٌ﴾ محكم لما أراد(5).

6. روي أنّه قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي؛ لأن الله يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (6).

7. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤] فنسخ، واستثنى، وقال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩] (7).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٨٨

(2) ابن جرير: ٤/١١٠

(3) ابن جرير: ٤/١١٦

(4) تفسير الثعلبي: ٢/١٧٣

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٨

(6) ابن جرير: ٤/١٢٠

(7) أبو داوود: ٣/٥٩٢

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة؛ فقد برئت منه، وبرئ منها، ولا ترثه، ولا يرثها(1).

__________

(1) مالك: ٢/٥٧٨

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿الْعَزِيزِ﴾ في نقمته إذا انتقم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٨

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، يعني: ويصدقون بالغيب الذي فيه جزاء الأعمال(1).

2. روي عن عبد الله بن سعيد بن جبير قال: جاء أعرابي، فسأل: من أعلم أهل مكة؟ فقيل له: سعيد بن جبير، فسأل عنه، فإذا هو في حلقة، وهو حديث السن، فسأله: ابن أخ له تزوج امرأة، ثم عرض بينهما فرقة، وبها حبل، فكتمت حبلها حتى وضعت، هل له أن يراجعها؟ قال لا، قال فاشتد على الأعرابي، فقال له سعيد: ما تصنع بامرأة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فلم يزل يزهده فيها حتى زهد فيها(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٦

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ قال يطلقها وليس لها من الأمر شيء(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٢١٠

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثلاث حيض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ ما كانت في العدة، إذا أراد المراجعة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ إذا أطعن الله، وأطعن أزواجهن؛ فعليه أن يحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، وينفق عليها من سعته(3).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٨٩

(2) ابن جرير: ٤/١١٧

(3) ابن جرير: ٤/١١٩

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ قال بما أعطاها من صداقها، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإذا قذفته جلدت وأقرت عنده(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/١٢٢

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، يعني: الحمل، لا تقل المرأة: لست حبلى، وهي حبلى، ولا تقل: إني حبلى، وليست حبلى(1).

2. روي أنّه قال: ثم نسخ من القرء عدة من لم يدخل بها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفضل ميراثه على ميراثها، وكل ما فضل به عليها(3).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٦

(2) الحارث المحاسبي في فهم القرآن

(3) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٢١١

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الأقراء: الحيض، ليس بالطهر؛ قال الله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، ولم يقل: لقروئهن(1).

2. روي أنّه قال: الطلاق مرتان، بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، إنما اللاتي ذكرن في القرآن: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾؛ هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمت حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بت الثلاث التطليقات فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره(2).

3. روي أنّه قال: قال الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك، فقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ الآية(3).

__________

(1) عبد الرزاق: ١٠٩٩٣

(2) ابن جرير: ٤/١١١

(3) ابن جرير: ٤/١١٦، وابن أبي حاتم: ٢/٤١٦

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: العزيز في نعمته(1).

2. روي أنّه قال: تعتد بالحيض، وإن كانت لا تحيض في السنة إلا مرة(2).

3. روي أنّه قال: نسخ من القرء امرأتين؛: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم﴾، ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤] (3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٨

(2) الدرّ المنثور: وكيع

(3) الحارث المحاسبي في فهم القرآن

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: القرء ما بين الحيضتين(1).

2. روي أنّه قال: الأقراء: الأطهار(1).

3. روي أنّه قيل له: أصلحك الله، رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع بشهادة عدلين؟ فقال: (إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها، وحلت للأزواج)، قيل له: أصلحك الله، إن أهل العراق يروون عن علي أنّه قال هو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة؟ فقال: (كذبوا(1).

4. روي عن زرارة، قال سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: إن من رأيي أن الإقراء التي سمى الله في القرآن إنما هي الطهر فيما بين الحيضتين، وليس بالحيض، قال فدخلت على الإمام الباقر فحدثته بما قال ربيعة، فقال: (كذب، ولم يقل برأيه، وإنما بلغه عن الإمام علي)، فقلت: أصلحك الله، أكان علي يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه، فإذا جاءت دفعته، قلت: أصلحك الله، رجل طلق امرأته، طاهرا من غير جماع، بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد انتقضت عدتها، وحلت للأزواج، قيل: إن أهل العراق يروون عن الإمام علي أنه كان يقول: هو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة؟ فقال: كذبوا، وكان يقول علي: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها)، وفي رواية ربيعة الرأي: ولا سبيل له عليها، وإنما القرء ما بين الحيضتين، وليس لها أن تتزوج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، فإنك إذا نظرت في ذلك لم تجد الأقراء إلا ثلاثة أشهر، فإذا كانت لا تستقيم مما تحيض في الشهر مرارا وفي الشهر مرة، كانت عدتها عدة المستحاضة ثلاثة أشهر، وإن كانت تحيض حيضا مستقيما، فهو في كل شهر حيضة، بين كل حيضتين شهر، وذلك القرء(2).

5. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته، متى تبين منه؟ قال: حين يطلع الدم من الحيضة الثالثة(3).

6. روي أنّه قال: المطلقة تبين عند أول قطرة من الحيضة الثالثة(3).

7. روي أنّه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها: تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدق من بيتها شيئا إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقا على الرجل؟ قال والداه، قالت: فمن أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال زوجها، قالت: فما لي من الحق عليه مثل ما له علي؟ قال لا، ولا من كل مائة واحدة، فقالت: والذي بعثك بالحق نبيا لا يملك رقبتي رجل أبدا(4).

__________

(1) الكافي: 6/89

(2) تفسير العيّاشي: 1/114

(3) تفسير العيّاشي: 1/115

(4) من لا يحضر الفقيه: 3/276

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ كان أهل الجاهلية يطلق أحدهم، ليس لذلك عدة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، فنهاهن الله عن ذلك(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ علم الله أن منهن كواتم يكتمن الولد، وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته وهي حامل، فتكتم الولد، وتذهب به إلى غيره، وتكتم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدم فيه(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، فجعل عدة الطلاق ثلاث حيض، ثم إنه نسخ منها المطلقة التي طلقت ولم يدخل بها زوجها، فقال في سورة الأحزاب [٤٩]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾، فهذه تزوج إن شاءت من يومها، وقد نسخ من الثلاثة، فقال: ﴿واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم﴾ [الطلاق: ٤]، فهذه العجوز التي لا تحيض، والتي لم تحض، فعدتهن ثلاثة أشهر، وليس الحيض من أمرها في شيء، ونسخ من الثلاثة قروء الحامل، فقال: ﴿أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، فهذه ليست من القروء في شيء، إنما أجلها أن تضع حملها(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ قال للرجال درجة في الفضل على النساء(5).

6. روي أنّه قال: بالجهاد(6).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد

(2) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٩٢

(3) ابن جرير: ٤/١١١

(4) الدرّ المنثور: عبد بن حميد، وتفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٢٨ ـ

(5) عبد الرزاق: ١/٩٣

(6) تفسير الثعلبي: ٢/١٧٣

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ فالبعولة والبعول واحد: وهو الأزواج.. بعل الشيء أيضا ربّه، ومالكه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ معناه منزلة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ معناه يمسكنّ أنفسهنّ لا يتزوجنّ حتّى تنقضي عدّتهنّ(1).

4. روي أنّه قال: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فالقروء: الحيض واحدها قرء.. والجمع: أقراء.. وقال بعضهم القرء: الطّهر(1).

5. روي أنّه قال: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ معناه بلغ النّساء في عدّتهنّ منتهى كل قرء أو شهر.. وعدّة المطلّقة إذا كان مدخولا بها ثلاثة قروء إن كانت تحيض وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر؛ فثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا؛ فحتّى تضع حملها.. وإن طلّقها قبل أن يدخل بها؛ فلا عدّة عليها.. والمتوفى عنها زوجها دخل بها أو لم يدخل صغيرة كانت أو كبيرة.. كانت تحيض أو لا تحيض.. فعدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام من ساعة موت زوجها.. إلّا أن تكون حاملا فعدّتها أن تضع حملها(1).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾: المعنى يريد به الحيض والحبل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 100

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، وذلك أن الرجل كان إذا طلق زوجته كان أحق بردها إن كان قد طلقها ثلاثا، فلما أنزل الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، فضرب الله حينئذ أجلا لمن مات أو لمن طلق، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: ٢٤٠]، فنسخها بآية الميراث التي فرض لهن فيها الربع والثمن(1).

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للزهري: ص٢٠.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أحق برجعتها صاغرة؛ عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/١١٧

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ قال الإمارة(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٢١٠

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحل لها أن تقول: إني قد حضت، ولم تحض، ولا يحل أن تقول: إني لم أحض، وقد حاضت، ولا يحل لها أن تقول: إني حبلى، وليست بحبلى، ولا أن تقول: لست بحبلى، وهي حبلى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿عَزِيزٌ﴾ في نقمته، ﴿حَكِيمٌ﴾ في أمره(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/١٠٩

(2) ابن جرير: ٤/١٢٤

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: عدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة أقراء، وهي ثلاث حيض(1).

2. روي أنّه سئل عن المرأة إذا طلقها زوجها، متى تكون أملك بنفسها؟ قال: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت(2).

3. روي أنّه قال: إذا قال الرجل لا مرأته: أنت طالقة، ثم راجعها، ثم قال أنت طالقة، ثم راجعها، ثم قال أنت طالقة، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فإن طلقها ولم يشهد فهو يتزوجها إذا شاء(3).

4. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها، ثم طلقها من غير أن يدخل بها، حتى فعل ذلك بها ثلاثا، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره(4).

5. روي أنّه قال:﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ [البقرة: 228]: يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلقت وهي حبلى، والزوج لا يعلم بالحمل، فلا يحل لها أن تكتم حملها، وهو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع(2).

__________

(1) التهذيب: 8/126

(2) تفسير العيّاشي: 1/115

(3) تفسير العيّاشي: 1/118

(4) تفسير العيّاشي: 1/119

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، يعني: فضيلة بما أنفقوا عليهن من أموالهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٨

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾ يعني: يصدقن بالله بأنه واحد لا شريك له، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يصدقن بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لهن من الحق على أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن(2).

3. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ لأزواجهن عليهن فضيلة في الحق، وبما ساق إليها من الحق(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ في ملكه، ﴿حَكِيمٌ﴾ حكم الرحمة عليها في الحبل(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٥

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٤

ابن العلاء:

روي عن أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) أنّه قال: العرب تسمي الطهر قرءا، وتسمي الحيض قرءا، وتسمي الطهر مع الحيض جميعا قرءا(1).

__________

(1) النحاس في ناسخه: ٢/٢٨

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ طاعة قال يطعن الأزواج الرجال، وليس الرجال يطيعونهن(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/١١٩

(2) ابن جرير: ٤/١٢٢

الشافعي:

3. روي أنّه قال: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، يقال: إصلاح الطلاق بالرجعة(1).

__________

(1) البيهقي في السنن الكبرى: ٧/٣٦٧

الرسّي:

قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أرحامهن﴾ هو: ما جعل الله في الأرحام من طمثهن وحملهن؛ لأن ينقطع به ما بين الأزواج وبينهن إذا كان من أزواجهن، فينقطع بينهم الميراث والرجعة؛ وربما كرهت المرأة من زوجها المراجعة التي للزوج عليها ملك، ما لم تستكمل العدة، ويكون رأي زوجها ـ لو علم له منها بحمل ـ أن يرتجعها، ويكون ذلك له عليها ما لم تضع حملها، فتكتم ـ لكراهتها لزوجها ـ ما خلق الله من الولد في رحمها، حتى تضع وتلد، فلا يكون له عليها ملك ولا رد، فتكون بذلك لزوجها مضارة، وبه مضرة، وبأمر الله فيما أمرها به من ذلك غير مؤتمرة، وكذلك إن كتمت ما خلق الله في رحمها من طمثها وحيضها، الذي تنقضي به عدتها، وتزول نفقتها وموارثتها ـ كانت في ذلك كله لله عاصية، وعن أمره ونهيه عاتية(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/106

الهادي إلى الحق:

سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله سبحانه: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] فقيل: ما القروء، ومتى أول الثلاثة، ومتى آخرها؟، فقال: القروء هو المحيض والدم نفسه، لا شيء في المعنى غيره، وإنما سمى قروءا لما تقري المرأة في خرقها منه وتجمع، وكل ما جمع فاجتمع فقد قُرِي فيما يجتمع فيه من خرق أو كرسف، أو إناء أو حوض، أو غير ذلك من الأوعية والأشياء.. ألا ترى أن العرب تقول للمسافر اقرأ في الحوض ولا تني، تريد اجمع الماء ولا تهرقه، واقره في حوضك ولا تفرقه، قال عمرو بن كلثوم:

تربك وقد دخلت على خلاء... وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر... هجان اللون لم تقرأ جنينا

أي: لم تضم رحمها على ولد.. وأما أول الأقراء المأمور بها، لمن طلق بها على العدة من النساء، فأول دم تراه من بعد ذلك الطهر الذي طلقها فيه وعلى وجهه بعلها، فأما من طلق منهن حائضا، فإنها لا تعتد بتلك الحيضة في الأقراء، وتبتدأ من بعد ما يأتي بعد تلك من أقرائها، حتى تأتي على ما ذكر من عدتها، وهو عند كمال الثلاثة من حيضها، واغتسالها بالماء وطهرها، ثم هي من بعد ذلك أولى بنفسها(1).

__________

(1) تفسير الإمام الهادي: 1/151

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف الناس في الأقراء في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾:

أ. قال بعضهم: الأقراء: هي الأطهار.

ب. وقال آخرون: هي الحيض، وهو قولنا(2)

2. على ذلك اختلف الصحابة:

أ. قال عمر وعلى‏ وعبد الله بن مسعود: هي الحيض.

ب. وقالت عائشة وزيد بن ثابت‏ وابن عمر: هي الأطهار، وبه أخذ أهل المدينة، وقالوا: قلنا ذلك بالسنة والأخبار عن الصحابة واللسان، والمناقضة، أما السنة: فقوله لعمر: (مر ابنك فليراجعها، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل من غير جماع؛ فتلك العدة التي أمر اللَّه تعالى أن تطلق لها النساء)؛ فدل أن العدة التي تطلق لها النساء هي الأطهار.

3. الجواب لهذا من وجهين:

أ. أحدهما: أنه جعل ذلك عدة للطلاق، لا عدة عن الطلاق، والعدة للطلاق غير العدة عن الطلاق؛ وكذا نقول في الطهر الذي تطلق فيه النساء: إنها عدة للطلاق، لا عنها.

ب. الثاني: أن من قول الرجل أن له الإيقاع في آخر أجزاء الطهر، وقد ذكر في الخبر: (الطلاق لقبل عدتهن)، ولو كان المعنىّ به: الطهر، لكان الطلاق في آخر أجزاء الطهر قبل الحيض ـ في آخر أجزاء الطهر، لا في القبل، فثبت أن القول بجعل الطهر عدة عن‏ الطلاق بعيد.

4. أما اللسان فهو قول الناس: قرأ الماء في حوضه‏ عن تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة ونحو ذلك إذا لم يكن من ذي روح، فإذا كان كذلك فلا دلالة فيه على جعل ذلك طهرا، وقال: القرء: هو الانتقال من حال الى حال؛ يقال: أقرأ النجم: إذا غاب، وأقرأ: إذا طلع، ونحوه، لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان القرء هو الانتقال من حال إلى حال لكان يقال للنجم إذا طلع: أقرأ؛ فيكون الاسم للظهور، لا للغيبوبة، أو لهما جميعا؛ فلا دلالة في ذلك.

5. الأصل عندنا قوله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ فأمر بالإمساك عند بلوغ أجلهن، والبلوغ: اسم للتمام، ثم لا يخلو بلوغ الأجل من أن يكون بالإشراف على أول أجزاء الطهر أو عند انتهائه، فإن كان على انتهاء الطهر فلا غاية له ينتهى إليه ليقطع عليه الحكم، وإن كان على الإشراف عليه أيضا كذلك، ثم لو حمل على الانتهاء أيضا يبعد بما يعرف ذلك بالحيض الذي يقطع جهة الإمساك؛ فحمل على ما يعرف، لا على ما لا يعرف ـ والله أعلم فثبت أنه الحيض؛ لأن لها الغاية.

6. قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ [الطلاق: 4]، كذا اتفقوا فيه أنه مذكور على البدل، ولم يعرف ذكر الأبدال فى‏ الأشياء إلا على أثر الأصول حيثما ذكر ـ ذكر الحيض عند ذكر البدل ـ فبان أن المبدل من ذلك إنما هي الحيض، المجعولة أصولا في تقضى العدة هو الحيض، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (عدة الأمة حيضتان)؛ ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض.

7. ثم الدليل على أن المراد من قوله تعالى: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ وإن احتمل الطهر، يرجع الى الحيض وجوه:

أ. أحدها يبين ذلك ما روى عن‏ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (إن عدة الأمة حيضتان)، وأفرطت في الحجاج، حيث فهمت من الحيض القرء، وهو أوضح عند أهل اللسان بالسماع من المفهوم له به مع ما في ذلك تجهيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم باللسان، وهو أفصح العرب وأعلم البشر، حيث عبر عن الطهر بالحيض.

ب. ووجه آخر: أنهم اتفقوا على أنه لو طلق في بعض الطهر فالبقية منه عدة، ومثله من الاعتداد قرءان ونصف، والكتاب أوجب الاعتداد بالثلاث؛ فثبت أن الأمر بالاعتداد أمر بالحيض، لا بالأطهار للمعنى الذي وصفنا، وإن كان القرء اسما للطهر والحيض في اللغة.

ج. ثم الأصل في المسألة: أن أول ابتداء الحل لزوجها ولغيره بالطهر، وكذلك نهاية الحل إنما جعلت بالأطهار.

د. ثم الأصل: أن ابتداء حرمتها على الزوج الأول بالطهر، فيجعل انتهاء الحرمة في مثله بالطهر، وحاصل هذا أنه جعل نهاية الحل فيه وفى غيره بما به ابتداء الحل، فكذا يجعل نهاية الحرمة فيه وفى غيره بما به ابتداؤه، وإذا ثبت أن المنظور في الحل والحرمة في الابتداء بالابتداء، وجب أن يكون المنظور في الحل والحرمة بالانتهاء.

8. في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ وفى قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ وفى قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وفى نحو هذه الآيات دلالة تأخر البيان، حيث لم يبين ما الأقراء؟، ولم يبين الاعتزال من أي موضع، ومن أي مكان؟، ولم يبين المخالطة في ماذا، وفى أي شيء؟ فالاختلاف فيه باق إلى يوم التناد؛ فبطل قول من ينكر تأخر البيان، وثبت قول من أقر به.

9. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ دلائل: أحدها: أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن، إذ هو غير مستحسن في العقل، ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]، وقد يلزم (إصلاح ذات البين) في غير الإيمان، وكذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد، وقد يجوز ذلك للمسلم في غير داره؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة في أحد لا يمنع لزوم ذلك في غير المذكور.. وفيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه، وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن في الخلق؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق، وفى الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط، والله أعلم.

10. اختلف في قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾:

أ. قال بعضهم: الحبل والحيض، وكذلك روى عن على وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس‏، أنهم قالوا: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ الحبل والحيض؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم، ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم؛ فبان أن الحامل لا تحيض، وعلى ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما ذلك دم عرق انقطع)، وهو الأمر الظاهر المتعارف في النساء أن الحبل يحبس الدم.

ب. وقال بعض أهل التأويل: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ الحبل خاصة دون الحيض؛ لوجهين:

أحدهما: أنهن في الجاهلية كن يكتمن ذلك فيلحقن بغير الآباء، فأوعدن على ذلك بعد الإسلام؛ فثبت أن الحيض لا يحتمل.

الثاني: أن الحيض لا ينسب بكونه في الرحم، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه، والله أعلم.

11. الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة، وما فيه من الدلالة أنهن مؤتمنات فيما يخبرن؛ لوجهين:

أ. أحدهما: ما جاء في الخبر من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها.

ب. الثاني: لولا أنها ممن يقبل خبرها فيه‏ لما أوعدن على الكتمان.

12. يحتمل الكتمان من وجهين:

أ. أحدهما: أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزواجهن بقولهن: العدة باقية، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعا.

ب. ويحتمل: ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة.

ج. ويحتمل قول أبى حنيفة، في كتمانها، إذ قال في المرأة إذا جاءت بولد في العدة، فشهدت امرأة على الولادة والحبل: لم يكن ظاهرا أن يقبل قولها؛ إذ هي أمرت بالإظهار، والكتمان أورث تهمة في القبول.

د. ويحتمل: ألا يحل لهن أن يكتمن الحبل فيلحقن بغيرهم من الأزواج، والله أعلم.

13. قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أنهن لا يملكن الرجعة، ولا منع أزواجهن عن المراجعة، بل ذلك إلى بعولتهن.

ب. ويحتمل: ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ في نكاح في العدة، لا في حق الرجعة؛ إذ الزوج يملك نكاحها في العدة، وغيره من الناس لا يملك، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾

14. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ فيه دليل أن قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ إنما عنى به المطلق طلاقا لم يقطع على نفسه جهة العود، وقوله في ذلك: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: إصلاح ما بينهن.

ب. ويحتمل: إن أرادوا إمساكهن بالمعروف، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ فهو ممسك لها وإن كان مضرّا.

15. الأصل في هذا: أنه وإن قال ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ليس على ألا يصير ممسكا لها بغير المعروف، وأصل هذا: أن ليس في القول بأن‏ ﴿لَمْ تَفْعَلُوا﴾ دليل الجواز، والفساد إذا فعل ذلك، ثم اختلف في قوله تعالى: ﴿فِي ذَلِكَ﴾ أي في الوقت الذي يعيد به، أو ﴿فِي ذَلِكَ﴾ القروء.

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾:

أ. روى عن ابن عباس‏، أنّه قال إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

ب. وقال آخرون: لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة.

ج. وقال غيرهم: لهن من الحق في المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم الأبضاع‏ إلى الأزواج؛ فيدل هذا على أن الخلوة، والتسليم منها، يحل محل قبض الحق منها لزوجها.

د. وقيل: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ الحقوق ما تلزمهن من حقوق الأزواج، يلزم مثلها على الأزواج لهن، وإن كانت مختلفة.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾:

أ. قيل‏: هو الطلاق بيد الرجل وليس بيدها.

ب. وقيل‏: هي الإمارة والطاعة والأمر.

ج. وقيل‏: هي ما فضل الله به عليها من الجهاد والميراث وغيره.

د. وقيل: لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل، وذلك ليس لهن.

هـ. وقيل: هي فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر.

18. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي من الحقوق على الأزواج، ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة، ويحتمل ما أتبع من قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار، وعليها من الحقوق مقابل الأول: البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدا.. ومقابل الثاني: أن يحسن إليهن في البر باللسان والقول المعروف الذي فيه تطيب نفسه به، كما وصف الحميدة منهن، (من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا دعوتها أجابتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها)، ومقابل الثالث: ألا تتلقاه بمكروه، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه.

19. (الدرجة): التي ما له من الملك فيها، والفضل في الحقوق عليها، وما جعل (قواما عليها)، وغير ذلك، ويحتمل: ما لهن من قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وعليهن بذل حقهم المعروف، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت، مع حفظ ماله عندها، والله أعلم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/155

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

أ. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي لهن من العدل في حكم الله عز وجل مثل الذي أوجب عليهن، وللرجال عليهن درجة وفضيلة، يجب عليهن معرفتها والقيام بحقها.

ب. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾: أي إذا بلغن المدة التي جعل الله لهن فأمسكوهن بمعروف إن رغبتم فيهن، وإلا فاتركوهن، ولا تراجعوهن ضراراً ليطول حبسهن وتعبهن.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 285

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ وأراد بالمطلقات المخليات ويقال: شاة طالق إذا كانت ترعى بغير راع طلقت بضم الطاء من الطلق وهو ما يأخذ المرأة عند الولادة؛ ثم قال ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ والقروء هي الحيض قال الشاعر:

يا رب ذي ضغن علي فارض... له قرؤ كقرؤ الحائض

وأصله من الجمع يقال: قرى الطعام في شدقه وقرء الماء في الحوض أي جمعه، ويقال: ما قرأت المرأة نسلاً قط أي لم يجمع رحمها على ولد، وسمي القرء بذلك لاجتماع الدم في الرحم.

2. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ يعني من الحمل وإنما توجيه الوعيد إلى من كتم ذلك لأمرين.

أ. أحدهما: لما يستحقه الخروج من الرجعة.

ب. والآخر لإلحاق نسب الولد بغيره كما يعمل أهل الجاهلية.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/111

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ يعني المخليات، والطلاق: التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع: طالق، فسميت المرأة المخلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها، وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة، ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء، وأما قولهم طلقت المرأة فمعناه غير هذا، إنما يقال طلقت المرأة إذا نفست، هذا من الطلق وهو وجع الولادة، والأول من الطّلاق.

2. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أي مدة ثلاثة قروء، واختلفوا في الأقراء على قولين.

أ. أحدهما: هي الحيض، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي‏ موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسدي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل العراق، استشهادا بقول الشاعر:

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض‏...له قروء كقروء الحائض‏

ب. الثاني: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي، وأهل الحجاز، استشهادا بقول الأعشى:

أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة...تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة...لما ضاع فيها من قروء نسائكا

3. اختلفوا في اشتقاق القرء على قولين:

أ. أحدهما: أن القرء الاجتماع، ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه، وقيل: قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه، وقيل: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم يجتمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم:

تريك إذا دخلت على خلاء...وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر...هجان اللون لم تقرأ جنينا

وهذا قول الأصمعي، والأخفش، والكسائي، والشافعي، فمن جعل القروء اسما للحيض سمّاه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن.

ب. الثاني: أن القرء الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيؤه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وكذلك قالت العرب: أقرأت حاجة فلان عندي، أي دنا وقتها وحان قضاؤها، وأقرأ النجم إذا جاء وقت أفوله، وقرأ إذا جاء وقت طلوعه، قال الشاعر: (إذا ما الثّريّا وقد أقرأت)، وقيل: أقرأت الريح، إذا هبت لوقتها، قال الهذلي:

كرهت العقر عقر بني شليل‏...إذا لقارئها الرّياح‏

يعني هبت لوقتها، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء.

4. من جعل القرء اسما للحيض، فلأنه وقت خروج الدم المعتاد، ومن جعله اسما للطهر، فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنه الحيض، وهو قول عكرمة، والزهري، والنخعي.

ب. الثاني: أنه الحمل، قاله عمر وابن عباس.

ج. الثالث: أنه الحمل والحيض قاله عمر ومجاهد.

6. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وعيد من الله لهن، واختلف في سبب الوعيد على قولين:

أ. أحدهما: لما يستحقه الزوج من الرجعة، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: لإلحاق نسب الوليد بغيره كفعل الجاهلية، وهو قول قتادة.

7. ثم قال تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ البعل: الزوج، سمّي بذلك، لعلوه على الزوجة بما قد ملكه عن زوجيتها ومنه قوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ [الصافات: 125] أي ربّا لعلوه بالربوبية، ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي برجعتهن، وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن، ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ يعني إصلاح ما بينهما من الطلاق.

8. في قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن، وهو قول الضحاك.

ب. الثاني: ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين، مثل ما لأزواجهن، وهو قول ابن عباس.

ج. الثالث: أن الذي لهن على أزواجهن، ترك مضارتهن، كما كان ذلك لأزواجهن، وهو قول أبي جعفر.

9. في قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ خمسة تأويلات:

أ. أحدها: فضل الميراث والجهاد، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: أنه الإمرة والطاعة، وهو قول زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن.

ج. الثالث: أنه إعطاء الصداق، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإن قذفته حدّت، وهو قول الشعبي.

د. الرابع: أفضاله عليها، وأداء حقها إليها، والصفح عما يجب له من الحقوق عليها، وهو قول ابن عباس وقتادة.

هـ. الخامس: أن جعل له لحية، وهو قول حميد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/291

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القرء: الطهر ـ عندنا ـ وبه قال زيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر، وسالم، وأهل الحجاز، وروي عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وبه قال أهل العراق، ورووه عن علي عليه السلام أنه الحيض، وأصل القرء يحتمل وجهين في اللغة:

أ. أحدهما: الاجتماع، فمنه قرأت القرآن، لاجتماع حروفه، ومنه قولهم: ما قرأت الناقة سلّا قط: أي لم تجمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطلٍ أدماء بِكر... هجان اللون لم تقرأ جنينا

ومنه أقرأت النجوم: إذا اجتمعت في الأفول، فعلى هذا، يقال: أقرأت المرأة: إذا حاضت، فهي مقرئ، في قول الأصمعي، والأخفش، والكسائي والفراء، وأنشدوا له: (قروء كقروء الحائض)، فتأويل ذلك: اجتماع الدم في الرحم، ويجيء على هذا الأصل أن يكون القرء: الطهر، لاجتماع الدم في جملة البدن، هذا قول الزجاج.

ب. الثاني:أن يكون أصل القرء: وقت الفعل الذي يجرى على آخر عادة، في قول أبي عمرو بن العلاء، وقال: هو يصلح للحيض، والطهر، يقال: هذا قارئ الرّياح أي وقت هبوبها قال الشاعر:

شنئت العقر عقر بني شليل... إذا هبت لقارئها الرياح

أي لوقت شدة بردها، وقال آخر:

رجا أياس أن تؤوب ولا أذى... إياساً لقرؤ الغائبين يؤوب

أي لحين الغائبين، فعلى هذا يكون القرء الحيض، لأنه وقت اجتماع الدم في الرحم على العادة المعروفة فيه، ويكون الطهر، لأنه وقت ارتفاعه على عادة جارية فيه، قال الأعشى في الطهر:

وفي كل عام أنت جاشم غزوة... تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الحمد رفعة... لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والذي ضاع هاهنا الاطهار، لأنه بعد غيبته، فيضيع بها طهر النساء، فلا يطأهن، والوقت الجاري في الفعل على عادة راجع الى معنى الاجتماع، وذلك، لاجتماع الفعل مع الوقت الدائر، فالاجتماع أصل الباب، وأخذ القرء من الوقت رداً له الى فرع، وكلا الأمرين يحتمل في اللغة.

2. من خفف الهمزة في (قروء) قال قرؤ، ومثله ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ واستشهد أهل العراق بأشياء يقوى أن المراد الحيض، منها قوله عليه السلام في مستحاضة سألته: دعي الصلاة أيام أقرائك.. واستشهد أهل المدينة بقوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي طهر لم يجامع فيه كما يقال لغرّة الشهر، وتأوله غيرهم: لاستقبال عدتهن، وهو الحيض.

3. سؤال وإشكال: لو كان المراد ـ في الأقراء في الآية ـ الاطهار، لوجب استيفاء الثلاثة أطهار بكمالها، كما أن من كانت عدتها بالأشهر، وجب عليها ثلاثة أشهر على الكمال، وقد أجمعنا على أنه لو طلقها في آخر يوم الطهر الذي ما قربها فيه، لا يلزمها أكثر من طهرين آخرين، وذلك دليل على فساد ما قلتموه! والجواب: تسمى القرآن الكاملان، وبعض الثالث ثلاثة أقراء، كما تسمى ـ الشهران وبعض الثالث: ثلاثة أشهر قال الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ وإنما هي شوال، وذي القعدة، وبعض من ذي الحجة، وروي عن عائشة أنها قالت: الأقراء الاطهار.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ ثلاثة أقوال: أحدها: قال إبراهيم: الحيض، وثانيها ـ قال قتادة: الحبل، وثالثها ـ قال ابن عمر، والحسن: هو الحبل، والحيض، وهو الأقوى لأنه أعم.

5. إنما لم يحل لهن الكتمان، لظلم الزوج بمنعه المراجعة ـ في قول ابن عباس ـ، وقال قتادة: لنسبة الولد الى غيره، كفعل الجاهلية.

6. إنما قال: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ولم يقل: ثلاثة أقرء على جمع القليل:

أ. لأنه لما كانت كل مطلقة يلزمها هذا، دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة، للإشعار بذلك، فالقروء كثيرة إلّا أنها ثلاثة في القسمة.

ب. ووجه آخر ـ أن بناء الكثير فيه أغلب في الاستعمال، لأنه على قياس الباب في جمع فعل الكثير، فأما القليل، فقياسه، أفعل دون أفعال، فصار بمنزلة ما لا يعتد به فجاء مجيء قولهم: ثلاثة شسوع، فاستغني فيه ببناء الكثير عن القليل.

ج. ووجه ثالث ـ أن يذهب مذهب الجنس نحو قولهم: ثلاثة كلاب يعنون ثلاثة من الكلاب إذا أريد رفع الإيهام.

7. الشرط بقوله: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معناه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذه صفته فيما يلزمه، لا أنه يلزم المؤمن دون غيره، وخرج ذلك مخرج التهديد، ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ يعني أزواجهن أحق برجعتهن، وذلك يختص بالرجعيات وإن كان أول الآية عاماً في جميع المطلقات الرجعية والبائنة.

8. سمي الزوج بعلا، لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها، تقول: بعل يبعل بعولة، وهو بعل، وقوله ﴿أَ تَدْعُونَ بَعْلًا﴾ أي ربّاً، لأنه بمعنى من سميتموه باستعلاء الربوبية تخرصاً، وقيل أنه صنم، والبعل النخل يشرب بعروقه، لأنه مستعل على شربه، وبعل الرجل بأمره إذا ضاق به ذرعاً، لأنه علاه منه ما ضاق به صدره، وبعل الرجل في معنى بطر، لأنه استعلى معظماً، وكبراً، وامرأة بعلة: لا تحسن لبس الثياب، لأن الحيرة تستعلي عليها، فتدهشها، وبعل الرجل يبعل بعلا إذا دهش دهشاً.

9. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ قال الضحاك: لهن من حسن العشرة بالمعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لهم، وقال ابن عباس: لهن على أزواجهن من التصنع والتزين مثل ما لأزواجهن عليهن، وقال الطبري: لهن على أزواجهن ترك مضارتهن، كما أن عليهن لأزواجهن.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾:

أ. قيل معناه: فضيلة منها الطاعة، ومنها أن يملك التخلية، ومنها زيادة الميراث على قسم المرأة، والجهاد، هذا قول مجاهد، وقتادة.

ب. وقال ابن عباس: منزلة في الأخذ عليها بالفضل في المعاملة حتى قال: ما أحب أن استوفي منها جميع حقي، ليكون لي عليها الفضيلة.

11. رجل: تقول: رجل بين الرجولة أي القوة، وهو أرجلهما أي أقواهما، وفرس رجيل قوي على المشي، والرّجل معروفة، لقوتها على المشي، ورجل من جراد أي قطعة منه تشبيهاً بالرجل، لأنها قطعة من الجملة، والراجل الذي يمشي على رجله، وارتجل الكلام ارتجالا، لأنه قوي عليه من غير ركوب فكرة، ولا روية، وترجّل النهار، لأنه قوي ضياؤه بنزول الشمس الى الأرض، ورجّل شعره إذا طوله، لأنه قوي بكثرته من غير أن يركب بعضه بعضاً، فيقلّ في رأي العين، والمرجَل معروف، وأصل الباب: القوة.

12. الدرجة: المنزلة، تقول: درجت الشيء أدرجه درجاً، وأدرجته إدراجاً، ودرج القوم قرناً بعد قرن أي فنوا، وأدرجه الله إدراجاً، لأنه كطي الشيء بمنزلة بعد منزلة والدرج سفيط للطيب، لأنه بمنزلة ما يدرج فيه، ومدرَجة الطريق: قارعته، وأصل الباب الطي، فالدرجة منزلة من منازل الطي، ومنه الدرجة التي يرتقى فيها.

13. قيل إن في الآية نسخاً، لأن التي لم يدخل بها، لا عدة عليها بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ الى قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ ولأن الحامل عدتها وضع ما في بطنها بقوله‏ ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/238

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الطلاق: عن الإطلاق، وهو التخلية من حِبَالةَ الزوج، يقال: أطلقت البعير، وطلقت المرأة، وقد صار التطليق في عرف الشرع يختص بالزوجات حتى يقع من غير نية، والإطلاق والانطلاق يستعمل فيه وفي غيره.

ب. التربص: الانتظار.

ج. القرء: الطهر والحيض، وهو من الأضداد، وقيل: في أصله وجهان:

أحدهما: من الاجتماع، ومنه أَقرأَتِ النجوم إذا اجتمعت للغروب، و﴿ما قرأت الناقة سلًى قَط﴾: أي لم يجتمع رحمها على ولد، ومنه المِقْرَاةُ للحوض لاجتماع الماء فيه، ومنه القرآن، فسمي الحيض قُرْءًا لاجتماع الدم في الرحم، عن الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي وأنشدوا: (له قروء كقروء الحائض)

الثاني: أن يكون من الوقت، وأصله وقت الفعل الذي يجري على عادة، عن أبي عمرو بن العلاء وهو يصلح للحيض والطهر، يقال: هذا قاري الرياح، أي: وقت هبوبها، وجمعه في التكثير قروء، وفي التقليل: أقراء، وقيل: إن أريد به الطهر، تجمع على قروء، وقال الشاعر: (لِمَا ضَاعَ فيه مَنْ قُروء نِسَائِكَا)، وقيل: بل يجمع على قروء، ويراد به الحيض، كقوله: له قروء كقروء الحائض.. وروي عن أبي عبيدة أنها عبارة عن الانتقال، وليس بالجيد، واسأل أبو عمرو غلام ثعلب: ما القرء؟ قال: الوقت، قيل: فهي اسم للمحيض أو الطهر؟ فقال: لهما، فقال: أيهما أقيس؟ فقال: الحيض.

د. الحلال ضد الحرام، وهو ما له أن ينتفع به، وليس لأحد منعه لإحلال غيره له، وأصله من الحل.

هـ. الرحم رحم المرأة.

و. البعل الزوج، والجمع: بعول كالفحول والذكور.

ز. الدرجة: المنزلة.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن مقاتل والكلبي قالا: كان الرجل في ابتداء الإسلام إذا طلق امرأة وهي حبلى فهو أحق برجعته ما لم تضع ولدها، فنسخ ذلك بآية الطلاق، وجعل التطليقات ثلاثًا، فطلق إسماعيل بن عبد الله امرأته وهي حبلى، وقال مقاتل: هو رجل من الأنصار يسمى مالكًا، وقبل: اسم المرأة قتيلة، ولم يعلم بِحَبَلِها، ولم تخبره هي، فلما علم حبلها راجعها، فولدت، وماتت، ومات الولد، فأنزل الله تعالى الآية.

ب. وذكر القاضي أن الآية نزلت، وكانوا يطلقون، فإذا تشارف انقضاء العدة راجعوا ضرارًا بذلك في طلاق بعد طلاق، فنزلت الآية، وبين ثلاثة أحكام: أحدها: حد الطلاق بثلاثة، والثاني: في حرمة المراجعة على وجه الإضرار، والثالث: وقت المراجعة.

3. بَيَّنَ الله تعالى المطلقات وأحكام الطلاق، فقال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ وقال: يعني المخليات عن حبالة الأزواج بالطلاق و﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ينتظرن فلا يتزوجن.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾:

أ. قيل: ثلاث حيض، عن عمرو وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى والحسن ومجاهد ومقاتل وأبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقيل: ثلاثة أطهار، عن زيد وعائشة وابن عمر ومالك والشافعي.

5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ للمطلقاتِ التي وجبت عليهن العدة: ﴿أَنْ يَكْتُمْنَ﴾ يسترن فلا يظهرن.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾:

أ. قيل: الحيض، عن عكرمة وإبراهيم.

ب. وقيل: الحَبَل، عن ابن عباس وقتادة ومقاتل وأبي علي.

ج. وقيل: الحيض والحبل، عن ابن عمر والحسن.

7. اختلف لما نهى الله تعالى عن ذلك:

أ. قيل: لئلا يظلم الزوج بمنع المراجعة، عن ابن عباس.

ب. وقيل: بنسبة الولد إلى غيره كفعل الجاهلية، عن قتادة.

ج. وقيل: لأنها أمينة في انقضاء العدة، فلا ينبغي أن تقدم أو تؤخر.

﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني من كان يؤمن بِالله واليوم الآخر فهذه صفته وحكمه، فلا ينبغي أن تخالفَه ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ يعني أزواجهن ﴿أَحَقَّ﴾ أولى ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ بمراجعتهن ما دُمْنَ في العدة، وتقديره: أحق بردهن إليهم ﴿فِي ذَلِكَ﴾ أي في وقت الحيض والعدة، ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ قيل: أرادوا أداء ما أوجب الله عليهم من ترك الإضرار، بتطويل العدة وغيرها ﴿وَلَهُنَّ﴾ أي للنساء على أزواجهن ﴿مِثْلُ الَّذِي﴾ لهم ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ من الحق في حسن العشرة، وترك المضارة.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾:

أ. قيل: أي أن الطاعة التي تجب عليهن هو المعروف، وهو ما عرف من حق الزوج على المرأة.

ب. وقيل: بالمعروف بالحسن الجميل الموافق للشرع.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾:

أ. قيل: في الفضل، عن ابن عباس، بما يساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال.

ب. وقيل: بالعقل.

ج. وقيل: بالميراث.

د. وقيل: بالجهاد، عن قتادة.

هـ. وقيل: بالأخذ عليها بالفضل في المعاملة، عن ابن عباس.

و. وقيل: بالقيام عليهن.

ز. وقيل: في التزوج عليهن.

ح. وقيل: بالطلاق والرجعة.

ط. وقيل: بالشهادة.

ي. وقيل: فضيلة في الحق، عن القتيبي وأبي مسلم.

ك. قال القاضي: ولا مانع من حمله على الجميع.

10. ﴿وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي قادر على ما يشاء لا يُمتنع، حكيم فيما يفعل، فلا يفعل إلا الحسن، وقيل: حكيم عليم بجميع الأشياء.

11. تدل الآيات الكريمة على:

أ. الآية وإن كان لفظها الخبر فمعناها الأمر؛ إذ الخبر بأنها متعبدة بذلك فتؤول معناه إلى الأمر، فتدل على تعبد يلزمها عند الطلاق، وهو تربص وهو العدة.

ب. أن كل مطلقة يلزمها ذلك إلا ما قام الدليل، فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ وقيل: إن هذه الآية مخصوصة بآية سورة الأحزاب، وقيل: منسوخة، وهو الأولى؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب لا يجوز.

ج. أن ذلك يلزم صاحبة الأقراء، فالآيسة والصغيرة غير داخلة في الآية، فدخلت في قوله: ثلاثة أشهر، وكذلك الأمة غير داخلة في الآية؛ لأنها لا تعتد بثلاثة أقراء.

د. أنه لا يحل كتمان الحيض والحبل، وتدل أن في ذلك القول قولها لولا ذلك لما كان للنهي عن الكتمان معنى.

هـ. تحريم المضارة بالزوج بكتمانه.

و. أن من علم شيئًا في الشرع يحرم عليه كتمانه؛ لأنه إذا حرم عليها كتمان الحيض لما يتعلق به من الحكم فتحريم كتمان الشرائع أولى.

ز. يدل قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ على بقاء الزوجية؛ لأن الطلاق لا يمنع منه.

ح. أن للطلاق تأثيرًا يزال بالرد لو لم يكن كذلك لم يكن للرجعة معنى، واختلفوا في ذلك، فقيل: إنها صارت بغرض أنْ تَبِين، وقيل: تحريم الوطء.

ط. أن حق الرد ثابت في العدة.

ي. أن الردة تزيل الأثر الثابت بالطلاق.

ك. أن تلك الردة في طلاق دون طلاق؛ لأنه قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾

ل. أن الزوج ينفرد بالمراجعة، ولا يحتاج إلى رضاها، وَعَقْدٍ وإشهاد.

م. أن الرجعة إنما تحسن إذا أراد به الإصلاح، وإنما شرط ذلك في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامه؛ لإجماع الأمة أنه مع إرادة الأضرار أن يثبت أحكام الرجعة فهي كالطلاق في حال الحيض.

ن. يدل قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ على حق لكل واحد من الزوجين، وهذا من العجيب الجامع من الفوائد مع قلة الحروف، وإنما أراد بذلك ما يرجع إلى العشرة وحقوق النكاح.

12. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالطلاق، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

أ. مسائل نحوية:

ب. قيل: ثلاثة قروء على جمع التكثير، ولم يقل: أقراء على جمع التقليل، لوجوه:

قيل: لما كانت مطلقة يلزمها هذا دخله معنى الكثرة، فذكر بناء على التكثير.

وقيل: إن بناء التكثير فيه أغلب على قياس الباب في جمع فُعْلِ، فأما القليل فقياسه أَفْعُل دون أفعال.

وقيل: إنه ذهب به مذاهب الجنس، كقولهم: ثلاثة كلاب، أي: ثلاثة من الكلاب.

ج. لَمْ يقل ثلاث قروء كما يقال: ثلاث حيض لأنه أتبع التذكير اللفظ، ولفظ القرء مذكر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/906

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القروء: جمع قرء، وجمعه القليل أقرء، والكثير: أقراء وقروء، وصار بناء الكثير فيه أغلب في الاستعمال يقال: ثلاثة قروء، مثل ثلاثة شسوع، استغنى ببناء الكثير عن بناء القليل، ووجه آخر: وهو أنه لما كانت كل مطلقة يلزمها هذا، دخله معنى الكثرة، فاتى ببناء الكثرة للإشعار بذلك، فالقروء كثيرة إلا أنها ثلاثة في ثلاثة في القسمة، وهذا الحرف من الأضداد، وأصله في اللغة يحتمل وجهين:

أحدهما: الاجتماع، ومنه قرأت القرآن لاجتماع حروفه، وما قرأت الناقة سلا قط،أي لم يجتمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل، أدماء، بكر،...هجان اللون، لم تقرأ جنينا

فعلى هذا يقال: أقرأت المرأة فهي مقرئ: إذا حاضت، وأنشد: (له قروء كقروء الحائض)، وذلك لاجتماع الدم في الرحم، ويجئ على هذا أن يكون القرء الطهر لاجتماع الدم في جملة البدن.

الثاني: إن أصل القرء الوقت الجاري في الفعل على عادة،، وهو يصلح للحيض والطهر، يقال: هذا قارئ الرياح أي: وقت هبوبها، قال الشاعر:

شنئت العقر، عقر بني شليل،...إذا هبت لقاريها الرياح

أي: لوقت هبوبها، وشدة بردها، والذي يدل على القرء الطهر قول الأعشى:

وفي كل عام أنت جاشم غزوة،...تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا، وفي الأرض رفعة...لما ضاع فيها من قروء نسائكا

فالذي ضاع ها هنا الأطهار لا الحيض.

ب. البعولة: جمع بعل، ويقال: بعل يبعل بعولة وهو بعل، وسمي الزوج بعلا لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها، وقوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ أي: ربا، وقيل: إنه صنم، والبعل: النخل يشرب بعروقه، لأنه مستعل على شربه، وبعل الرجل بأمره: إذا ضاق به ذرعا، لأنه علاه منه ما ضاق به ذرعه، وبعل الرجل: بطر لأنه استعلى تكبرا، وامرأة بعلة: لا تحسن لبس الثياب، لأن الحيرة تستعلي عليها فتدهشها.

ج. الرجال: جمع رجل يقال: رجل بين الرجلة أي: القوة، وهو أرجلهما أي: أقواهما، وفرس رجيل: قوي على المشي، وسميت الرجل رجلا لقوتها على المشي، ورجل من جراد أي: قطعة منه تشبيها بالرجل لأنها قطعة من الجملة، والراجل: الذي يمشي على رجله، وارتجل الكلام ارتجالا، لأنه قوي عليه من غير ركوب فكرة، وترجل النهار: لأنه قوي ضياؤه بنزول الشمس إلى الأرض، ورجل شعره: إذا طوله وأصل الباب: القوة.

د. الدرجة المنزلة.

2. ثم بين سبحانه حكم المطلقات والطلاق، فقال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ أي: المخليات عن حبال الأزواج بالطلاق، وإنما يعني المطلقات المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن في الآية بيان عدتهن.

3. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ معناه: ينتظرن بأنفسهن انقضاء ثلاثة قروء، فلا يتزوجن لفظه خبر ومعناه أمر، والمراد بالقروء:

أ. قيل: الأطهار عندنا(2)، وبه قال زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ومالك والشافعي وأهل المدينة، قال ابن شهاب: ما رأيت أحدا من أهل بلدنا، إلا وهو يقول: الأقراء الأطهار إلا سعيد بن المسيب.

ب. والمروي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد، ورووه أيضا عن علي: إن القرء الحيض، والمراد بثلاثة قروء: ثلاثة حيض، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، واستشهدوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم للمستحاضة: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، والصلاة إنما تترك في أيام الحيض.

4. استشهد من ذهب إلى أن القرء الطهر:

أ. بقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: في طهر لم تجامع فيه، كما يقال لغرة الشهر.

ب. وبقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لما طلق ابن عمر زوجته، وهي حائض مرة: (فليراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك ا وتلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهم﴾ لقبل عدتهن، فأخبر أن العدة الأطهار دون الحيض، لأنها حينئذ تستقبل عدتها، ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض.

ج. وروى أصحابنا عن زرارة قال: سمعت ربيعة الرأي يقول: إن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن، إنما هي الطهر فيما بين الحيضين، وليست بالحيض، قال: فدخلت على أبي جعفر، فحدثته بما قال ربيعة، فقال: كذب! لم يقل برأيه، وإنما بلغه عن علي عليه السلام، فقلت: أصلحك الله أكان علي يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه، فإذا جاء الحيض قذفته، قلت: أصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرة من غير جماع بشهادة عدلين، قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج، قال قلت: إن أهل العراق يروون عن علي عليه السلام أنه كان يقول: هو أحق بردها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة؟ فقال: كذبوا.

5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ أي: للمطلقات اللاتي تجب عليهن العدة ﴿أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: أراد به الحيض، عن إبراهيم وعكرمة.

ب. وقيل: أراد به الحبل، عن ابن عباس وقتادة.

ج. وقيل: أراد به الحيض، والحبل عن ابن عمر والحسن، وهو المروي عن الصادق عليه السلام قال: قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض والطهر والحمل، وهذا القول أعم، فالأخذ به أولى، وإنما لم يحل لهن الكتمان لئلا يظلمن الزوج بمنع المراجعة، عن ابن عباس.

د. وقيل: بنسبة الولد إلى غيره كفعل الجاهلية، عن قتادة.

6. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذه صفته وحليته، وليس هذا بشرط حتى إنها إذا لم تكن مؤمنة يحل لها الكتمان،ولكن المراد أن الإيمان يمنع من ارتكاب هذه المعصية، كما يقول الرجل لصاحبه: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، وهذا على وجه الوعيد.

7. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني: إن أزواجهن أولى بمراجعتهن، وهي ردهن إلى الحالة الأولى في ذلك الأجل الذي قدر لهن في مدة العدة، فإنه ما دامت تلك المدة باقية، كان للزوج حق المراجعة، ويفوت بانقضائها، وفي هذا ما يدل على أن الزوج ينفرد بالمراجعة، ولا يحتاج في ذلك إلى رضاء المرأة، ولا إلى عقد جديد، واشهاد، وهذا يختص بالرجعيات، وإن كان أول الآية عاما في جميع المطلقات الرجعية والبائنة.

8. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ لا إضرارا، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة وتركها، حتى إذا قرب انقضاء عدتها، راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى، وتركها مدة كما فعل في الأولى، ثم راجعها وتركها مدة، ثم طلقها أخرى، فجعل الله الزوج أحق بالمراجعة على وجه الإصلاح، لا على وجه الإضرار، وإنما شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها، لإجماع الأمة على أن مع إرادة الإضرار يثبت أحكام الرجعة.

9. ﴿وَلَهُنَّ﴾ أي للنساء على أزواجهن ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ من الحق ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهذا من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة، وإنما أراد بذلك ما يرجع إلى حسن العشرة، وترك المضارة، والتسوية في القسم والنفقة والكسوة، كما أن للزوج حقوقا عليها مثل الطاعة التي أوجبها الله عليها له، وأن لا تدخل فراشه غيره، وأن تحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه،وروي أن امرأة معاذ قالت: يا رسول الله! ما حق الزوجة على زوجها؟ قال(: أن لا يضرب وجهها، ولا يقبحها، وأن يطعمها مما يأكل، ويلبسها مما يلبس، ولا يهجرها)، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾:

أ. قيل: معناه فضيلة منها الطاعة، ومنها أن يملك التخلية، ومنها زيادة الميراث على قسم المرأة والجهاد، هذا قول مجاهد وقتادة.

ب. وقيل: معناه منزلة في الأخذ عليها بالفضل في المعاملة حتى يقول ما أحب أن أستوفي منها جميع حقي، ليكون لي عليها الفضيلة، عن ابن عباس.

ج. وقيل: معناه ان المرأة تنال اللذة من الرجل، كما ينال الرجل منها، وله الفضل بنفقته، وقيامه عليها، عن الزجاج.

11. في تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم قال: حق الرجال على النساء، أفضل من حق النساء على الرجال، وفي كتاب من لا يحضره الفقيه روي عن الباقر عليه السلام قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله! ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدق من بيتها بشيء إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه، لعنتها ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وملائكة الغضب، وملائكة الرحمة، حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول الله! من أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قالت: فما لي من الحق عليه مثل ما له من الحق علي؟ قال: لا ولا من كل مائة واحدة، فقالت: والذي بعثك بالحق لا يملك رقبتي رجل أبدا.

12. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: قادر على ما يشاء، يمنع ولا يمنع، ويقهر ولا يقهر، فاعل ما تدعو إليه الحكمة.

13. قيل في الآية: إن المطلقة قبل الدخول، والمطلقة الحاملة نسختا من هذه الآية بقوله: ﴿فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن﴾ وقيل: إنهما مخصوصتان من الآية كما ذكرناه في أول الآية.

14. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾: جواب الشرط محذوف وتقديره إن كن يؤمن بالله لا يكتمن، وكذلك جواب الشرط من قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ محذوف وتقديره إن أرادوا إصلاحا فبعولتهم أحق بردهن مثل الذي عليهن إضافة مثل غير حقيقية لأن الذي عليهن مفعوله.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/573

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها، قالت: أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها، وإن كانت حبلى وهي كارهة، قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها، فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾، ثم نزلت: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

2. الطّلاق: التّخلية، قال ابن الأنباريّ: هي من قول العرب: أطلقت الناقة، فطلقت: إذا كانت مشدودة، فأزلت الشدّ عنها، وخلّيتها، فشبّه ما يقع للمرأة بذلك، لأنها كانت متّصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب كالشّدّ لها فلما طلّقها قطع الأسباب، ويقال: طلقت المرأة وطلّقت، وقال غيره: الطّلاق: من أطلقت الشيء من يدي، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرّقوا بينهما، ليكون التّطليق مقصورا في الزوجات.

3. القروء: يراد بها: الأطهار، ويراد بها الحيض، يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في المستحاضة: (تقعد أيام أقرائها)، يريد: أيام حيضها، وقال الأعشى:

وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة...تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا، وفي الحيّ رفعة...لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهنّ، واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين:

أ. أحدهما: أن أصله الوقت، يقال: رجع فلان لقرئه، أي: لوقته الذي كان يرجع فيه، ورجع لقارئه أيضا، قال الهذلي:

كرهت العقر عقر بني شليل‏...إذا هبت لقارئها الرياح‏

فالحيض يأتي لوقت، والطّهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة.

ب. الثاني: أن أصله الجمع، وقولهم: قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعا، والقرء: اجتماع الدّم في البدن، وذلك إنما يكون في الظّهر، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرّحم، وكلاهما حسن، هذا قول الزجّاج.

4. اختلف الفقهاء في الأقراء على قولين‏:

أ. أحدهما: أنها الحيض، روي عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصّامت، وأبي الدّرداء، وعكرمة، والضحّاك، والسّدّيّ، وسفيان الثّوريّ، والأوزاعيّ، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل، فإنه قال قد كنت أقول: إن القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض.

ب. الثاني: أنها الأطهار، روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزّهريّ، وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشّافعيّ، وأومأ إليه أحمد.

5. لفظ قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾، لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾، والمراد بالمطلّقات في هذه الآية، البالغات المدخول بهن غير الحوامل.

6. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنّه الحمل، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجّاج.

ب. الثاني: أنه الحيض، قاله عكرمة، وعطيّة، والنّخعيّ، والزّهريّ.

ج. الثالث: الحمل والحيض، قاله ابن عمر، وابن زيد.

7. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، خرّج مخرج الوعيد لهنّ والتوكيد، قال الزجّاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، وفي سبب وعيدهم بذلك قولان:

أ. أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرّجعة، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، قاله قتادة.

ج. وقيل: كانت المرأة إذا رغبت عن زوجها، قالت: إني حائض، وقد طهرت، وإذا زهدت فيه، كتمت حيضها حتى تغتسل، فتفوته.

8. البعولة: الأزواج، و﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى العدّة، قاله مجاهد، والنّخعيّ، وقتادة في آخرين.

9. في الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوّله، ولا يوجب تخصيصه، لأن قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾، عامّ في المبتوتات والرّجعيّات، وقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ خاصّ في الرّجعيّات.

10. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته، طلّقها واحدة وتركها، فإذا قارب انقضاء عدّتها راجعها، ثم تركها مدة، ثم طلّقها، فنهوا عن ذلك، وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرّجعة على غير وجه المضارّة بتطويل العدّة عليها، غير أنه قد دلّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، على صحة الرّجعة وإن قصد الضّرار، لأن الرّجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضّرار؛ لما كان ظالما بفعلها.

11. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو: المعاشرة الحسنة، والصحبة الجميلة، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج؛ فقال: (أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلّا في البيت)، وقال ابن عباس: إني أحبّ أن أتزيّن للمرأة، كما أحبّ أن تتزيّن لي لهذه الآية.

12. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقال مجاهد: بالجهاد والميراث، وقال أبو مالك: يطلّقها، وليس لها من الأمر شيء، وقال الزجّاج: تنال منه من اللذّة كما ينال منها، وله الفضل بنفقته، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وقالت ابنة سعيد بن المسيّب: ما كنا نكلّم أزواجنا إلا كما تكلّمون أمراءكم.

13. اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنها تدخل في ذلك، واختلف هؤلاء في المنسوخ منها:

فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وحكم المطلّقة قبل الدخول بقوله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾، وهذا مرويّ عن ابن عباس، والضحّاك في آخرين.

وقال قوم: أوّلها محكم، والمنسوخ قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، قالوا: كان الرجل إذا طلّق امرأته كان أحقّ برجعتها، سواء كان الطلاق ثلاثا، أو دون ذلك، فنسخ بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾

ب. الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأوّلها عامّ، والآيات الواردة في العدد خصّت ذلك من العموم، وليس بنسخ، وأما ما قيل في الارتجاع، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾، أي: في العدّة قبل انقضاء القروء الثلاثة، وهذا القول هو الصحيح.

__________

(1) زاد المسير: 1/198

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى في هذا الموضع أحكاما كثيرة للطلاق، فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾

2. المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها، وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة:

أ. فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة، لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع، والعدة غير واجبة عليها بالإجماع.

ب. أما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولا بها أو لا تكون:

فإن لم تكن مدخولا بها لم تجب العدة عليها، قال الله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]

وأما إن كانت مدخولا بها فهي إما أن تكون حائلا أو حاملا:

● فإن كانت حاملا فعدتها بوضع الحمل لا بالأقراء قال الله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]

● وأما إن كانت حائلا فإما أن يكون الحيض ممكنا في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط، أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالأقراء، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ [الطلاق: 4] وأما إذا كان الحيض في حقها ممكنا فإما أن تكون رقيقة، وإما أن تكون حرة، فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة، أما إذا كانت المرأة منكوحة، وكانت مطلقة بعد الدخول، وكانت حائلا، وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة، فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالأقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية.

3. سؤال وإشكال: العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب، يقال في الثوب: إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد، أو حصل فيه بياض قليل، فأما إذا كان الغالب عليه البياض، وكان السواد قليلا، كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذبا، فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصا أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسما واحدا، فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى، والجواب:

أ. أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها: إنها مطلقة.

ب. أما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل.

ج. أما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء إنما يكون حيث تحصل الأقراء، وهذان القسمان لم تحصل الأقراء في حقهما.

د. أما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم.

4. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ لا شك أنه خبر، والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار، وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافيا في المقصود، لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف، أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم، وعرف أنه مهما انقضت هذه العدة حصل المقصود، سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب.

ب. الثاني: قال الزمخشري: التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعارا بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا، ونظيره قولهم في الدعاء: رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.

5. سؤال وإشكال: لو قال يتربص المطلقات: لكان ذلك جملة من فعل وفاعل، فما الحكمة في ترك ذلك، وجعل المطلقات مبتدأ، ثم قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ إسناد الفعل إلى الفاعل، ثم جعل هذه الجملة خبرا عن ذلك المبتدأ، والجواب: قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب (دلائل الإعجاز): إنك إذا قدمت الاسم فقلت: زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك: فعل زيد، وذلك لأن قولك: زيد فعل يستعمل في أمرين.

أ. أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل، كقولك: أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد.

ب. الثاني: أن لا يكون المقصود ذلك، بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل، كقولهم: هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر، بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [النحل: 20] ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: 61] وقول الشاعر:

هما يلبسان المجد أحسن لبسة...شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما

والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت: عبد الله، فقد أشعرت بأنك تريد الإخبار عنه، فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة.

6. سؤال وإشكال: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء كما قيل: ﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ [البقرة: 226] وما الفائدة في ذكر الأنفس، والجواب: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص.

7. سؤال وإشكال: لفظ أنفس جمع قلة، مع أنهن نفوس كثيرة، والقروء جمع كثرة، فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة، والجواب: أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية، أو لعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء.

8. سؤال وإشكال: لم لم يقل: ثلاث قروء، كما يقال: ثلاثة حيض، والجواب: لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر.

9. حقيقة القروء: القروء جمع قرء وقرء، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر، قال أبو عبيدة: الأقراء من الأضداد في كلام العرب، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعا، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر، ومنهم من عكس الأمر، وقال قائلون: إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال:

أ. الأول: أن القرء هو الاجتماع، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي.

ب. الثاني: وهو قول أبي عبيد: أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة.

ج. الثالث: وهو قول أبي عمرو بن العلاء: أن القرء هو الوقت، يقال: أقرأت النجوم إذا طلعت، وأقرأت إذا أفلت، ويقال: هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها، وأنشدوا للهذلي: (إذا هبت لقارئها الرياح)، وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر، لأن لكل واحد منهما وقتا معينا.

10. أمر الله تعالى المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء أن تخرج عن عهدة التكليف، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين، واختلفوا فيه:

أ. فمذهب الشافعي أنها الأطهار، روي ذلك عن ابن عمر، وزيد، وعائشة، والفقهاء السبعة، ومالك، وربيعة، وأحمد في رواية.

ب. وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق.

11. فائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعندهم أطول، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءا، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها، وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم‏ بانقضاء عدتها، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، أو يمضي عليها وقت صلاة.

12. حجة من ذكر أن القروء هي الأطهار من وجوه:

أ. الأولى: قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] ومعناه في وقت عدتهن، لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض، أجاب الزمخشري عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن، كما يقول لثلاث بقين من الشهر، يريد مستقبلا لثلاث، وأقول هذا الكلام يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه، فكذا هاهنا قوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه، ولما كان الأمر حاصلا بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة، وذلك هو المطلوب.

ب. الثانية: ما روي عن عائشة أنها قالت: هل تدرون الأقراء؟ الأقراء الأطهار، ثم قال الشافعي: والنساء بهذا أعلم، لأن هذا إنما يبتلي به النساء.

ج. الثالثة: القرء عبارة عن الجمع، يقال: ما قرأت الناقة نسلا قط، أي ما جمعت في رحمها ولدا قط ومنه قول عمرو بن كلثوم: (هجان اللون لم تقرأ جنينا)، وقال الأخفش يقال: ما قرأت حيضة، أي ما ضمت رحمها على حيضة، وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء، وأقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه، وقرأ القارئ أي جمع الحروف بعضها إلى بعض، إذا ثبت هذا فنقول: وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن، فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم، لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم، قلنا: الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم، وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعا واشتمالا في الدم آخر الطهر، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج، فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين.

د. الرابعة: أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه، وهو أقل ما يسمى بالأقراء الثلاثة وهي الأطهار، لأن الاعتداد بالأطهار أقل زمانا من الاعتداد بالحيض، فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع.

هـ. الخامسة: أن ظاهر قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة، وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم، فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير، إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض، فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة، وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل، وكل ما كان كذلك لم يكن واجبا فإذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجبا وهو المطلوب.

13. حجة من ذكر أن القرء هو الحيض من وجوه:

أ. الأولى: أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى.

ب. الثانية: أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول: إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض، وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث، لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءا فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر.

الثالثة: لهم: أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ [الطلاق: 4] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضا لما كان الأشهر شرعت بدلا عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها، فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضا أن يكون الكمال معتبرا في المبدل، فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض، أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض.

الرابعة: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان)، وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض.

الخامسة: أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد.

السادسة: لهم: أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر، فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر.

السابعة: لهم: أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة، لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض، فحينئذ يحرم للغير التزوج بها، وإن جعلنا القرء طهرا، فحينئذ يحل للغير التزوج بها، وجانب التحريم أولى بالرعاية، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال)، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

14. أجاب من ذكر أن القرء هو الطهر عما ذكره المخالفون أن الله قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [الحج: 197] والأشهر جمع وأقله ثلاثة، ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث، وذلك هو شوال، وذو القعدة، وبعض ذو الحجة، فكذا هاهنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر.

15. أجاب من ذكر أن القرء هو الحيض عن هذا الجواب من وجهين:

أ. الأول: أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل، فلم يلزمنا أن نترك الظاهر هاهنا من غير دليل.

ب. الثاني: أن في العدة تربصا متصلا، فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج، لأنه ليس فيها فعل متصل، فكأنه قيل: هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الاستغراق.

16. أجاب من ذكر أن القرء هو الطهر عن هذا الجواب من وجهين:

أ. الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة، فحمله على الحيض يوجب الزيادة، لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة، لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة، وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة، فنحن أيضا نقول: لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر، صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه.

ب. الثاني: في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءا تاما، وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء.

17. عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه.

18. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ انقضاء العدة لما كان مبنيا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء، وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذرا جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشافعي اثنان وثلاثون يوما وساعة، لأن أمرها يحمل على أنها طلقت طاهرة فحاضت بعد ساعة، ثم حاضت يوما وليلة وهو أقل الحيض، ثم طهرت خمسة عشر يوما وهو أقل الطهر، مرة أخرى يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوما، ثم رأت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملا فادعت أنها أسقطت كان القول قولها، لأنها على أصل أمانتها.

19. للمفسرين في قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. الأول: أنه الحبل والحيض معا، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما:

أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زمانا من انقضاء عدتها بوضع الحمل، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل.

وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولا فكتمته، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها، فثبت أنه كما أن لها غرضا في كتمان الحبل، فكذلك في كتمان الحيض، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.

ب. الثاني: أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط، واحتجوا عليه بوجوه:

أحدها: قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 6]

ثانيها: أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه‏ مخلوق في الرحم.

ثالثها: أن حمل قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ على الولد الذي هو جوهر شريف، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح، فوجب حمل اللفظ على الكل.

ج. الثالث: المراد هو النهي عن كتمان الحيض، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الأقراء، ولم يتقدم ذكر الحمل، وهذا أيضا ضعيف، لأن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.

20. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، تريد إن كنت مؤمنا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء، وهو كما قال في الشهادة: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283] وقال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 283] والآية دالة على أن كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد.

21. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾، هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية، وفي البعولة قولان:

أ. أحدهما: أنه جمع بعل، كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كعوبة، ولا في كلب: كلابة، واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة، كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات، وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان، كما أنهما زوجان، وأصل البعل السيد المالك فيما قيل، يقال: من بعل هذه الناقة؟ كما يقال: من ربها، وبعل اسم صنم كانوا يتخذونه ربا، وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسؤدد.

ب. الثاني: أن البعولة مصدر، يقال: بعل الرجل يبعل بعولة، إذا صار بعلا، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها، وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال في أيام التشريق: (إنها أيام أكل وشرب وبعال)، وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها، ومنه‏ الحديث‏ (إذا أحسنتن ببعل أزواجكن)، وعلى هذا الوجه كان معنى الآية: وأهل بعولتهن.

22. ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص، وفائدة قوله تعالى: ﴿أَحَقَّ﴾ مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ كان تقدير الكلام: فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر، فبين أن الزوج الأول أحق منه، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة.

ب. الثاني: إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ﴾ من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة.

23. 24. معنى الرد: يقال: رددته أي رجعته قال تعالى في موضع‏ ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾ [الكهف: 36] وفي موضع آخر: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ﴾

25. سؤال وإشكال: ما معنى الرد في المطلقة الرجعية؟ وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت، والجواب: أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك، فلا جرم سميت الرجعة ردا، لا سيما ومذهب الشافعي أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة، ففي الرد على مذهبه شيئان:

أ. أحدهما: ردها من التربص إلى خلافة.

ب. الثاني: ردها من الحرمة إلى الحل.

26. سؤال وإشكال: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿فِي ذَلِكَ﴾، والجواب: أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص، فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة.

27. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ المعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 231] والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة، حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة، فنهوا عن ذلك، وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح، وهو قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾

28. سؤال وإشكال: إن كلمة (إن) للشرط، والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة، والجواب: أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها، فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها، بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة، حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم.

29. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ لما بين الله تعالى أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر، والمقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعيا حق الآخر، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة، ونحن نشير إلى بعضها:

أ. فأحدها: أن الزوج كالأمير والراعي، والزوجة كالمأمور والرعية، فيجب على الزوج بسبب كونه أميرا وراعيا أن يقوم بحقها ومصالحها، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج.

ب. ثانيها: روي عن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي) لقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾

ج. ثالثها: ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لمقدمة الآية.

30. ﴿وَلِلرِّجَالِ﴾ يقال: رجل بين الرجلة، أي القوة، وهو أرجل الرجلين أي أقواهما، وفرس رجيل قوي على المشي، والرجل معروف لقوته على المشي، وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية، وترجل النهار قوي ضياؤه.

31. ﴿دَرَجَةٌ﴾ الدرجة هي المنزلة وأصلها من درجت الشيء أدرجه درجا، وأدرجته إدراجا إذا طويته، ودرج القوم قرنا بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئا فشيئا، والمدرجة قارعة الطريق، لأنها تطوي منزلا بعد منزل، والدرجة المنزلة من منازل الطريق، ومنه الدرجة التي يرتقي فيها.

32. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فضل الرجل على المرأة أمر معلوم، إلا أن ذكره هاهنا يحتمل وجهين:

أ. الأول: أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور:

أحدها: العقل.

الثاني: في الدية.

الثالث: في المواريث.

الرابع: في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة و.

الخامس: له أن يتزوج عليها، وأن يتسرى عليها، وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج و.

السادس: أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه.

السابع: أن الزوج قادر على تطليقها، وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها، شاءت المرأة أم أبت، أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج، وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضا على أن تمنع الزوج من المراجعة.

الثامن: أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور، ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان)، وفي خبر آخر: (اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة)، وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر، فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن، وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب عنه أقبح، واستحقاقه للزجر أشد.

ب. الثاني: أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين، لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة، واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة، وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال: إن نصيب المرأة فيها أوفر، ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة، وهي التزام المهر والنفقة، والذب عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها عن مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوبا، رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34] وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها)

33. ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب لا يمنع، مصيب أحكامه وأفعاله، لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/434

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق، وفي كتاب أبي داوود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك وقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ الآية.

2. المطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ على ما يأتي، وكذلك الحامل بقوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، والمقصود من الأقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة، وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي، وقال قوم: إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن.

3. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ التربص الانتظار، على ما قدمناه، وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري، ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره، وقيل: معناه ليتربصن، فحذف اللام.

4. قرأ جمهور الناس ﴿قُرُوءٍ﴾ على وزن فعول، اللام همزة، ويروى عن نافع (قرو) بكسر الواو وشدها من غير همز، وقرأ الحسن (قرء) بفتح القاف وسكون الراء والتنوين، وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي، وقال أبو زيد: (قرء) بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ، وأقرأت طهرت، وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف، يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين، والقرء: انقطاع الحيض، وقال بعضهم: ما بين الحيضتين، وأقرأت حاجتك: دنت، عن الجوهري، وقال أبو عمرو ابن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس.

5. اختلف العلماء في الأقراء:

أ. فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي.

ب. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي.

6. أصل القرء لغة:

أ. من جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر:

كرهت العقر عقر بني شليل... إذا هبت لقارئها الرياح

فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة... تسد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة عزا وفي الحي رفعة... لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وقال آخر في الحيض:

يا رب ذي ضغن علي فارض... له قروء كقروء الحائض

يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض، وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني، ويقال لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمع في جوفها، وقال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكر... هجان اللون لم تقرأ جنينا

فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر، قال أبو عمر بن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز، قلت: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهري وغيره، واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف مقصور.

ب. وقيل: القرء، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا، وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا، ويكون معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا، ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، ولكن عرفنا بدليل آخر، إن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإدا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما، قال الكيا الطبري: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقول الشاعر:

ومبرإ من كل غبر حيضة... وفساد مرضعة وداء مغيل

يعني أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها.

7. هذا ما للعلماء وأهل اللسان في تأويل القرء، وقالوا: قرأت المرأة قرءا إذا حاضت أو طهرت، وقرأت أيضا إذا حملت، واتفقوا على أن القرء الوقت.

8. المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها:

أ. فدليلنا قول الله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾، يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم لعمر: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، أخرجه مسلم وغيره، وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء، ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى، قال أبو بكر ابن عبد الرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في أن الأقراء هي الأطهار، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر، وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر، قال أبو عمر: لا أعلم أحدا ممن قال: الأقراء الأطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلغي الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله تعالى يقول: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة.

ب. وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر، وبه قال أحمد ابن حنبل، وإليه ذهب داوود بن علي وأصحابه، والحجة على الزهري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره، وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض، احتج الكوفيون بقول صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم: إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء)، وقال تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾، فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما، وقال عمر بحضرة الصحابة: عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت، ولم ينكر عليه أحد، فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا! وقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، وهذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول: إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا، وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة، قلت: هذا يرده قوله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ﴾ فأثبت الهاء في ثمانية أيام، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد، ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر، وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه، وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، والله أعلم، وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قاله سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي، وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل، وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج، إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها، وروي نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف، بدليل قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ على ما يأتي، وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت.

9. الجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان، وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع، وقال الأصم عبد الرحمن بن كيسان وداوود بن علي وجماعة أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء، واحتج الجمهور بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان)، رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان) فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف، وروي عن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، وقالت به فرقة من العلماء.

10. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ أي من الحيض، قاله عكرمة والزهري والنخعي، وقيل: الحمل، قاله عمر وابن عباس، وقال مجاهد: الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك، وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع، قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية، وحكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري، فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه.

11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالعدة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

12. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه، أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق، وليس قوله: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾ على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن، وإنما هو كقولك: إن كنت أخي فلا تظلمني، أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه، لأن هذا ليس من فعل أهل الإيمان.

13. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ البعولة جمع البعل، وهو الزوج، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة، وفي جمع الفحل: فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب: لعوبة، وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على فعول، والبعولة أيضا مصدر البعل، وبعل الرجل يبعل مثل منع يمنع، بعولة، أي صار بعلا، والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لأيام التشريق: (إنها أيام أكل وشرب وبعال)، فالرجل بعل المرأة، والمرأة بعلته، وباعل مباعلة إذا باشرها، وفلان بعل هذا، أي مالكه وربه، وله محامل كثيرة.

14. ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أي بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العدة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات، لأن قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه.

15. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ﴾ حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث، وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء، قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شي من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق، قال ابن المنذر: وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب.

16. لفظ ﴿أَحَقَّ﴾ يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها)

17. الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه.

﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي زينة من غير مأثم، وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن، وقبل: إن لهن على أزواجهن ترك، مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن، قال الطبري: وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله تعالى فيكم، والمعنى متقارب، والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية.

18. قول ابن عباس: (إني لأتزين لامرأتي)، قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت، لأن اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي)، وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال، وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به، فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع، والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة ﴿النَّحْلِ﴾، ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره، وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها.

19. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي منزلة، ومدرجة الطريق: قارعته، والأصل فيه الطي، يقال: درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها، ويقال: رجل بين الرجلة، أي القوة، وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما، وفرس رجيل، أي قوي، ومنه الرجل، لقوتها على المشي، فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد، وقال حميد: الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها، قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه، وقيل: الدرجة الصداق، قاله الشعبي، وقيل: جواز الأدب، وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع، قال الماوردي: (يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها)، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح)

20. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ أي منيع السلطان لا معترض عليه، ﴿حَكِيمٌ﴾ أي عالم مصيب فيما يفعل.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/113

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصص بقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ فوجب بناء العام على الخاص، وخرجت من هذا العموم المطلقة قبل الدخول، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى: ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾

2. التربص: الانتظار، قيل: هو خبرا في معنى الأمر: أي: ليتربصن، قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه، وزاده تأكيدا وقوعه خبر للمبتدأ، قال ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره.

3. القروء: جمع قرء، وروي عن نافع أنه قرأ: (قرو) بتشديد الواو، وقرأه الجمهور: بالهمز، وقرأ الحسن: بفتح القاف وسكون الراء والتنوين، قال الأصمعي: الواحد قرء بضم القاف، وقال: أبو زيد بالفتح، وكلاهما قال أقرأت المرأة: حاضت، وأقرأت: طهرت، وقال الأخفش: أقرأت المرأة: إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف، وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض: قرءا، ومنهم من يسمي الطهر: قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمى الحيض مع الطهر: قرءا، وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل: الوقت؛ يقال: هبت الرياح لقرئها ولقارئها، أي: لوقتها، ومنه قول الشاعر:

كرهت العقر عقر بني شليل‏...إذا هبّت لقارئها الرّياح‏

فيقال للحيض: قرء، وللطهر: قرء، لأن كل واحد منهما له وقت معلوم، وقد أطلقته العرب تارة: على الأطهار، وتارة: على الحيض، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى:

أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة...تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة...لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أي: أطهارهن، ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر:

يا رب ذي حنق عليّ قارض‏...له قروّ كقروّ الحائض‏

يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض، وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض وهو جمعه، ومنه: القرآن، لاجتماع المعاني فيه.

4. الحاصل أن القرء في لغة العرب مشترك بين الحيض والطهر، ولأجل هذا الاشتراك، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسدي، وأحمد بن حنبل، وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي، واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت، فصار معنى الآية عند الجميع: والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات فهي على هذا مفسرة في العدد، مجملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها:

أ. فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية: الحيض، بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (دعي الصّلاة أيام أقرائك) وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان) وبأن المقصود من العدّة استبراء الرحم، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر.

ب. واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لعمر: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وذلك لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء، قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول: بأن الأقراء هي الأطهار، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدّة.

5. عندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعا، أما قول الأولين: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (دعي الصّلاة أيام أقرائك) فغاية ما في هذا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أطلق الأقراء على الحيض، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك فإنه يطلق تارة على هذا، وتارة على هذا، وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية، وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلم في‏ الأمة: (وعدّتها حيضتان) فهو حديث أخرجه أبو داوود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا، وأخرجه ابن ماجة، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا أيضا، ودلالته على ما قاله الأولون قوية، وأما قولهم: إن المقصود من العدّة استبراء الرحم، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض، على فرض تفسير الأقراء بالأطهار، وليس كذلك، بل هي مشتملة على الحيض، كما هي مشتملة على الأطهار، وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله تعالى: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ يصير ذلك محتملا، ولا تقوم الحجة بمحتمل، وأما استدلالهم بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لعمر: (مره فليراجعها) الحديث، فهو في الصحيح، ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه.

6. يمكن أن يقال: إنها تنقضي العدّة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض، ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة، ويرتفع الخلاف، ويندفع النزاع.

7. استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله: قروء، وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة، وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية.

﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ قيل: المراد به: الحيض؛ وقيل: كلاهما، ووجه النهي عن الكتمان: ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه؛ فإذا قالت المرأة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع؛ وإذا قالت: لم تحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرّت به، وكذلك الحمل، ربما تكتمه لتقطع حقه من الارتجاع، وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج، وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدّق فيها المرأة إذا ادعت انقضاء عدّتها.

8. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فيه وعيد شديد للكاتمات، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ لم تستحق اسم الإيمان.

9. البعولة: جمع بعل وهو الزوج، سمي: بعلا، لعلوّه على الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب، ومنه قوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ أي: ربا؛ ويقال: بعول، وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكور، وذكورة، وهذه التاء لتأنيث الجمع، وهو شاذ لا يقاس عليه، بل يعتبر فيه السماع؛ والبعولة أيضا تكون مصدرا من: بعل الرجل يبعل، مثل: منع يمنع، أي: صار بعلا.

10. ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أي: برجعتهنّ، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها، فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ لأنه يعم المثلثات وغيرهنّ.

11. ﴿فِي ذَلِكَ﴾ يعني: في مدة التربص، فإن انقضت مدّة التربص فهي أحق بنفسها، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ وشهود ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك؛ والرجعة تكون باللفظ، وتكون بالوطء، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف.

12. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ أي: بالمراجعة: أي: إصلاح حاله معها وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها فهي محرّمة، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ قيل: وإذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة، وإن ارتكب بذلك محرّما وظلم نفسه، وعلى هذا: فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح، والزجر لهم عن قصد الضرار، وليس المراد به: جعل قصد الإصلاح شرطا لصحة الرجعة.

13. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال عليهنّ، فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم، وهي كذلك، تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه لأزواجهنّ من طاعة، وتزين، وتحبب ونحو ذلك.

14. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي: منزلة ليست لهنّ، وهو قيامه عليها في الإنفاق، وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوّة، وله من الميراث أكثر مما لها، وكونه يجب عليها امتثال أمره، والوقوف عند رضاه، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهنّ خلقن من الرجال لما ثبت أن حوّاء خلقت من ضلع آدم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/270

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت، وأريد بالمطلقات: المدخول بهن من ذوات الأقراء، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر، أما غير المدخولة فلا عدّة عليها لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ [الأحزاب: 49]؛ وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: 4]، وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، فهذه الآية من العام المخصوص.

2. سؤال وإشكال: ما معنى الإخبار عنهن بالتربّص؟ والجواب: قال الزمخشريّ: هو خبر في معنى الأمر، وأصل الكلام (وليتربص المطلقات)، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء: (رحمك الله) أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل توكيد، ولو قيل (ويتربص المطلقات) لم يكن بتلك الوكادة.

3. سؤال وإشكال: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء كما قيل تربص أربعة أشهر، وما معنى ذكر الأنفس؟ والجواب: قال الزمخشريّ: في ذكر الأنفس تهييج لهنّ على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أنّ أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.

4. القرء: من الأضداد، يطلق على الحيض والطهر، نص عليه من أئمة اللغة: أبو عبيد والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم، والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل، استوفاه ابن القيّم في (زاد المعاد) فانظره، ولمن نظر إلى موضوعه اللغويّ أن يقول: تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض، فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به.

5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ أي: المطلقات ﴿أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، من الحيض أو الولد، استعجالا في العدة أو إبطالا لحقّ الزوج في الرجعة ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ﴾، أي: إن جرين على مقتضى الإيمان به، المخوف من ذاته‏ ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، المخوف من جزائه، ودلّ هذا على أن المرجع في هذا إليهنّ، لأنه أمر لا يعلم إلّا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة على ذلك، فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحقّ، وهذه الآية دالة على أنّ كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه، فأمره عند الله شديد.

6. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ أي: أزواجهن ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، أي: برجعتهنّ، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها ﴿فِي ذَلِكَ﴾، أي: في زمان التربص، وهي أيام الأقراء، أما أذا انقضت مدة التربص فهي أحقّ بنفسها ولا تحلّ له إلّا بنكاح مستأنف بوليّ وشهود ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك‏ ﴿إِنْ أَرَادُوا﴾، أي: بالرجعة ﴿إِصْلَاحًا﴾، لما بينهم وبينهن، وإحسانا إليهن، ولم يريدوا مضارتهن، وإلّا فالرجعة محرمة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 231]

7. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن، فليؤدّ كلّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف:

أ. كما ثبت في (صحيح مسلم): عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته في حجّة الوداع: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهنّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف)

ب. وعن معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله! ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)، رواه أبو داوود وقال: معنى (لا تقبح): لا تقل قبحك الله.

ج. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلّا بإذنه)، متفق عليه.

د. وعن ابن عمر: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، متفق عليه.

هـ. وعن طلق بن عليّ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور)، رواه الترمذيّ‏ والنسائيّ.

و. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح)، متفق عليه.

ز. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال إني لأحبّ أن أتزيّن للمرأة كما أحب أن تتزيّن لي، لأنّ الله يقول: ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

8. المعروف: ما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره، مما قبله العقل، ووافق كرم النفس، وأقره الشرع، وقد قال بعض الفقهاء: لا يجب عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ ونحوه، لأنّ المعقود عليه منفعة البضع، فلا يملك غيرها من منافعها.. لكن مفاد الآية يردّ هذا ويدلّ على وجوب المعروف من مثلها لمثله؛ وبه أفتى ابن تيمية وفاقا للمالكية، وإليه ذهب أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوز جانيّ واحتجّا بما روي: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت وعلى ما كان خارجا من البيت من عمل، رواه الجوزجانيّ من طرق، واستدلّ بالآية أيضا على وجوب إخدامها، إذا كان مثلها لا يخدم نفسها.

9. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، أي: زيادة في الحق وفضيلة، كما قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]، وعن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، أي: غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/134

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أطهار أو حِيَض، إلَّا إن لم تُمَسَّ فلا عدَّة عليها، وإلَّا التي لم تبلغ والآيسة فثلاثة أشهر، وإلَّا الأمَة فحيضتان، وإن أيست أو لم تبلغ فخمسة وأربعون يومًا، وإلَّا الحامل فعدَّتها الوضع، وذلك بالقرآن إلَّا الأمَة فبالسنَّة، والجملة إخبار لفظًا ومعنى، أي: الشرع تربُّصهنَّ، وأجاز بعضٌ كونَ الاسميَّة بمعنى الأمر، وبعضٌ الإخبارَ عن المبتدإ بالطلب، بل هو كثير؛ فـ (يتربَّصْنَ) أمرٌ معنى، أو مع المطلَّقات، وفي كونها أمرًا مبالغة بإخراجه مخرج الخبر حتَّى لا يخالف فيكون كالكذب، وبكونه كأنَّه امتثل فأخبر به، وقال: ﴿يَتَربَّصْنَ﴾ لأنَّ نفوس النساء إلى الرجال مائلات أضعاف ما يميلون إليهنَّ إلَّا أنَّهنَّ يكتمن، والواحد: قرء، بضمِّ القاف، أو فتحها وإسكان الراء، وهو الحيض، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (دعي الصلاة أيَّام أقرائك)، رواه أبو داود والنسائي عن عائشة  ، أو الطهر، لقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] إذ لا يشرع الطلاق في الحيض أي عند عدَّتهنَّ، فثلاثة قروء عبارة عن العدَّة، لقوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾.

2. والعدَّة طهر، لقوله تعالى : ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾، فينتج أنَّ القرء طهر، وأجيب بأنَّ المعنى: طَلِّقُوهُنَّ مستقبِلاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ وهي الحِيَض الثلاث، والقرينة حديث: (طلاق الأمَة تطليقتان، وعدَّتها حيضتان)، وحديث: (دعي الصلاةَ أيَّام أقرائك)، وبأنَّ مدار استبراء الرحم الحيض لا الطهر، فإنَّ الانتقال من الحيض إلى الطهر يدلُّ على انسداد فم الرحم، وهو مظنَّة العلوق، فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده، وليست اللام للتوقيت، وبأنَّ بعض الطهر ليس طهرًا، وإلَّا كفى من الطهر الثالث أيضًا جزءٌ، فإن لم يحسب الطهر الذي طلَّق فيه لزم ثلاثة أطهار وبعض طهر، وإن حُسب فطهران وبعض طهر، والشافعيُّ يقول بطهرين وبعضِ الطهرِ الذي طلَّق فيه، ولا يرد على غير مذهبه أنَّ الحيضة التي وقع فيها طلاق، إن اعتبرت الحيضة كانت ثلاث حيض وبعض حيضة، لأنَّا نقول: تجب الحيضة الرابعة تامَّة؛ لأنَّ الحيضة الواحدة لا تقبل التجزيء، فلزم مضيُّ البعض الذي وقع فيه الطلاق ضرورة، لا باعتبار أنَّه ممَّا وجب بالعدَّة، والكلام في العدَّة التي تعقب الطلاق لا في التي وقع فيها الطلاق، وحديث البخاري ومسلم في قصَّة ابن عمر: (مره فليراجعها..) إلخ الذي رجَّحوه في الثاني لا في الأوَّل، واختار القروء على الأقراء لكثرتهنَّ بكثرة المطلَّقات.

3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَّكْتُمْنَ﴾ لتفويت الرجعة، وإلحاق الولد بغير الأب ﴿مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الحيض والولد، ووجه كون الحيض في الرحم أنَّه يجتمع فيها الدم ثمَّ يخرج، ولا يخفى أنَّ المطلَّقات المذكورات ذوات قروء، لقوله: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فكيف يكون الولد في أرحامهنَّ؟ فنقول: إذا كتمن الحمل حكمنا بأنَّهنَّ من ذوات القروء، أو الضمائر للمطلَّقات مطلقًا في ضمن المقيَّد كالاستخدام البديعيِّ، وفي الوجهين بعدٌ، فإن قلنا: ما في أرحامهنَّ من الحيض فلا بُعْدَ، إلَّا أنَّ الكون في الرحم أنسب بالحمل، ففسَّرتهما بالحمل والحيض معًا، وتحريم الكتم عليهنَّ إيجاب للعمل بما قلن إذ لم يتبيَّن كذبه بنظر الأمينات، فهنَّ مؤتمنات، وإلَّا كان حرج عظيم، فيتعلَّق بقولهنَّ ما يعلَّق إلى حيض من تحريم وطء، وما يحرم بالوطء وغير ذلك كعتق وعدم طلاق، وفي الأثر: سئل عزَّان بن الصقر عن المطلَّقة إذا ادَّعت أنَّها حامل، قال: تنظر إليها الأمينات نسوة، فإنْ قلن: إنَّها حامل فلها النفقة ولو كان الطلاق ثلاثًا أو بائِنًا، وإنْ لم يقلن: إنَّها حامل فلا نفقة لها بعد العدَّة، ولها النفقة في عدَّة غير الثلاث والبَائِنِ، وإنْ وضَعَت في وقت يحكَم عليه فيه بالولد وقد طلبت النفقة ولم يُعْطِ فعليه أن يعطيها نفقتها منذ طلَّقها، وإنْ اشتبه على النساء فلم يقلن: إنَّها حامل ولا غير حامل فطلبت هي النفقة وقالت: إنِّي حامل، فلها النفقة إلى سنتين، فإنْ جاءت بولد في السنتين فالولد له ولا تردُّ له النفقة، وإن جاءت بولد بعد السنتين فالولد لها وتردُّ عليه النفقة، وإنْ لم تلِده وقالت: ضُرِبَ في بطني، فلا نفقة لها بعد السنتين، ولا يرجع عليها بما أنفق عليها لأنَّه يمكن أنْ يكون كما قالت، وليس كما قال بعضٌ: إنَّ الآية شاملة للبكورة والثيوبة وعيب الفرج فتصدَّق في ذلك؛ لأنَّا نقول: ذلك ممَّا ينكشف للأمينات فينظرن أهي بكر أم ثيِّب ويمسسن وكذا ما أمكن.

4. ﴿إِن كُنَّ يُومِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ أو لم يؤمنَّ، لأنَّ الكافر مخاطب بالفروع، وإنَّما ذكر الإيمان إشارة إلى أنَّ الكتم ينافيه، وإلى أنَّه لا يجترئ عليه من آمن وإلَّا كان منافقًا، وأنَّه من اجترأ عليه فكأنَّه غير مؤمن.

5. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ أزواجهنَّ المطلِّقون، جمع بعل شذوذًا، أو مصدر، أي: أهل بعولتهنَّ، أي: نكاحهنَّ، يقال: باعَلها، أي: جامعها، والأوَّل أولى، ﴿أَحَقُّ﴾ أي أحقَّاء، فهو خارج عن التفضيل إذ لا حقَّ لها ولا لغيرها من الرجال في الرَّجعة، أو باق عليه، أي: أحقُّ ما يمكن فعلهم الرجعة دون الفرقة، أو هم أحقُّ بالرجعة من المرأة في طلب الفرقة، وجاء عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ برجعتهنَّ ولو أبَينَ، ويشهدون على الرجعة فيخبرهنَّ الشهود ليُبِحن أنفسهُنَّ لهم، وإنْ لم يعلمن بالطلاق راجعوهنَّ بالشهود ولو بلا إخبار، ﴿فِي ذَالِكَ﴾ متعلِّق بـ (رَدِّ) أو بـ (أَحَقُّ)، أي: في ذلك التربُّص أو زمانه، وهو مقدار العدَّة، وبعد ذلك يكون الأمر بأيديهنَّ إنْ شئن تزوَّجنهم وإلَّا فلا.

6. ﴿إِنَ اَرَادُواْ﴾ أي الأزواج المطلِّقون ﴿إِصْلَاحًا﴾ بينهم وبينهنَّ ولم يريدوا إضرارهنَّ، وذلك حثٌّ على الإصلاح بالرجعة، ولو قصدوا الإضرار لصحَّت الرجعة أيضًا ولو ظلموهنَّ بقصد إطالة العدَّة، ولا مفهوم مخالفة في قوله: ﴿إنَ اَرَادُوا﴾ لتحقُّق الفائدة الأخرى وهي الحثُّ.

7. ﴿وَلَهُنَّ﴾ أي للنساء على أزواجهنَّ من الحقوق مطلقًا بلا شرط طلاق ورجعة، ﴿مِثْلُ الَّذِي﴾ لهم من الحقوق، ﴿عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وفي ذلك احتباك، إذ حذف من الأوَّل لفظ (عليهم) لدلالة لفظ (عَلَيْهِنَّ) في الثاني، وحذف من الثاني لفظ (لهم) لدلالة لفظ (لَهُنَّ) في الأوَّل، كأنَّه قيل: (ولهنَّ عليهم مثل الذي لهم عليهنَّ بالمعروف شرعًا)، يعاشِرنَهم بحسن العشرة وترك الضرار، ويعطونهنَّ حقوقهنَّ من النفقة والكسوة والسكنى والجماع ونحو ذلك، ويعطينهم المطاوعة في الفراش وعدم الخروج بلا إذن ونحو ذلك، والآية عامَّة لِمَا اتُّفق فيهم وفيهنَّ ولِمَا اختلف كما رأيت، كأنَّه قيل: لهنَّ حقوق عليكم كما لكم حقوق عليهنَّ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ألا إنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فأمَّا حقُّكم على نسائكم فلا يوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تَكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقُّهنَّ عليكم أنْ تُحسِنوا إليهنَّ في كِسوتهنَّ وطعامهنَّ) رواه الترمذي وصحَّحه، والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص، وعن ابن عبَّاس  : (إنِّي لأحبُّ أنْ أتزيَّن للمرأة كما أحبُّ أنْ تتزيَّن لي)؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وممَّا لهنَّ أن لا يعجِّل القيام عنها إذا جامعها حتَّى تقضي حاجتها.

8. ﴿وَلِلرِّجَالِ﴾ الأزواج، ولفظ الرجال إشارة إلى أنَّ للرجل فضلاً على المرأة ولو لم يكن زوجًا لها؛ ولذلك لم يقل: ولهم، ﴿عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ مرتبة رفيعة فوق مرتبتهنَّ وشرف؛ لأنَّ حقوقهم في أبدانهنَّ لا يجدن الخروج والتصرُّفات إلَّا بإذنهم، وحقُّهم في الجماع أعظم من حقِّهنَّ عليهم فيه، وهم قوام وحرس عليهنَّ، وكأنَّهنَّ إماء لهم بالمهر؛ حتَّى إنَّ لهم منعهنَّ عن النَّفل وعليهنَّ طاعتهم.

9. ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ﴾ لا يردُّه شيء عن الانتقام ممَّن خالف أحكام الزوجين أو غيرهما، ولا يفعل إلَّا الحقَّ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فعله كلُّه عدل؛ لأنَّه عالم بعواقب الأمور والمصالح.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/47.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر في الآية السابقة أن للمؤلين من نسائهم حالين: الفيئة بالرجوع إلى معاشرتهن، وعزم الطلاق وإمضاؤه، ناسب أن يذكر بعده شيئا من أحكام الطلاق معطوفا على ما قبله متمما له فقال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ الآية.

2. قال محمد عبده المراد بالمطلقات الأزواج اللواتي تحقق فيهن معنى الزوجية وعهدن أن يكن مطلقات، وأن يتزوجن بعد الطلاق، وهن الحرائر ذوات الحيض بقرينة السياق، فلا يأتي هنا ما يقوله الأصوليون في كلمة: المطلقات هل اللام فيها للاستغراق أم للجنس؟ وهل هو عام مخصوص أم لا؟ لأن وصل الآية بما قبلها يمنع كل ذلك، كما يمنعه التربص بالزواج، ولولا ذلك لكان البحث في موضعه، وأما حكم من لسن كذلك في الطلاق كاليائسة والتي لم تبلغ سن الحيض فمذكور في سورة الطلاق، وهن كأنهن لا يدخلن في مفهوم المطلقات:

أ. فإن اليائسة من شأنها ألا تطلق لأن من أمضى زمن الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض كان من مقتضى الطبع والفطرة ومن أدب الشرع والدين أن يحفظ عهدها ويرعى ودها بإبقائها على عصمة الزوجية، وإن كان بعض السفهاء لا يحترمون تلك العشرة الطويلة، ولا يراعون ذلك الميثاق الغليظ فيقدموا على طلاق اليائسة، ثم إن اليائسة إذا طلقت فلا تكاد تتزوج، وما خرج عن مقتضى الشرع واستقامة الطبع فلا يعتد به.

ب. والتي لم تبلغ سن المحيض قلما تكون زوجا، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة فيندر أن يتحول فيطلق.

3. حاصل ما تقدم أن ما يتبادر في هذا المقام من لفظ المطلقات يفيد أنهن الزوجات المعهودات المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزوجية فينتظر أن يرغب الناس في التزوج بهن.

4. معنى التربص مدة ثلاثة قروء هو ألا تتزوج المطلقة حتى يمر عليها ثلاثة قروء، وهي جمع قرء ـ بضم القاف وفتحها ـ ويطلق في اللغة على حيض المرأة وعلى طهرها منه، والأصل فيه الانتقال من الطهر إلى الحيض كما نقل عن الشافعي في قول له، ولذلك لا يقال للطاهر التي لم تر الدم ذات قرء أو قروء، ولا للحائض التي استمر لها الدم، فلما كان القرء وسطا بين الدم والطهر أو عبارة عن الصلة بين هاتين الحالتين عبر به قوم من الفقهاء عن أحدهما وقوم عن الآخر، ولكل منهم شواهد في اللغة، أطال المفسرون في إيرادها والترجيح بينها، فالمالكية والشافعية وآل البيت على أن القرء هو الطهر، والحنفية والحنابلة في أصح الروايتين على أن القرء هو الحيض، وأدلة الأولين أقوى.

5. قال محمد عبده: والخطب في الخلاف سهل؛ لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاثة أطهار، ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل، فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة.

6. أورد الحكم بلفظ الخبر دون الأمر وغيره من ضروب الإنشاء ـ كقوله: كتب على المطلقات كذا ـ لتأكيده والاهتمام به كأنه يقول: إن هذا التربص واقع كذلك لا محالة، كما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا النوع من الإسناد الخبري في مقام الأمر، فعندما يقال المطلقات يلتفت ذهن السامع ويكون متهيئا لسماع ما يقال عنهن، فإذا قيل: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ الآية ـ وفيه الإسناد والحكم ـ يتقرر عنده أنه مأمور به أمرا مؤكدا كأنه قال: إننا أمرناهن بذلك وفرضناه عليهن فامتثلن الأمر وجرين عليه بالاستمرار حتى صار شأنا من شئونهن اللازمة لهن لا ينصرفن عنه، بل لا يخطر في البال مخالفتهن له وليس في الأمر بصيغته ما يفيد هذا التأكيد والاهتمام؛ لأن المأمور بالشيء قد يمتثل وقد يخالف، وهذا الضرب من التعبير معهود في التنزيل في مقام التأكيد والاهتمام يقع في الكتاب مواقعه لا يعدوها، ولا يخفى ذلك على من طعم البلاغة وذاقها.

7. في التعبير بقوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ من الإبداع في الإشارة، والنزاهة في العبارة، ما عهد في كل القرآن، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان، فالكلام في المطلقات وهن معرضات للزواج، وخلو من الأزواج، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوقن إليه، والاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، على إقرارهن عليه وعدم إيئاسهن منه، مع اجتناب إخجالهن، وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ على ما فيه من الإيجاز، الذي هو من مواقع الإعجاز، فأفاد أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن، ويكففن جماح أنفسهن، إلى تمام المدة الممدودة، والعدة المعدودة، ولكن بطريق الرمز والتلويح لا بطريق الإبانة والتصريح، فإن التربص في حقيقته وظاهر معناه التريث والانتظار، وهو يتعلق بشيء يتريث عنه، وينتظر زوال المدة المضروبة دونه، ولولا كلمة ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ لما أفادت الجملة تلك المعاني الدقيقة، والكنايات الرشيقة، وما كان ليخطر على بال إنسان يريد إفادة حكم العدة أن يزيد هذه الكلمة على قوله: يتربصن ثلاثة قروء ولو لم تزد لكان الحكم عاريا عن تأديب النفس والحكم على شعورها ووجدانها، ولعل الإرشاد إلى ما تنطوي عليه نفوس النساء من تلك النزعة في ضمن الإخبار عنهن بأن من شأنهن امتلاكها والتربص بها اختيارا، هو أشد فعلا في أنفسهن وأقوى إلزاما لهن أن يكن كذلك طائعات مختارات، كما أن فيه إكراما لهن ولطفا بهن، إذ لم يؤمرن أمرا صريحا وهذا من الدقائق التي نحمد الله تعالى أن هدانا إلى فهمها، فأنى لأمثالنا من البشر أن يأتوا بمثلها؟

8. قال محمد عبده بعد بيان هذه النكتة التي شرحناها: وزعم بعض الناس أن معنى التربص بالأنفس هنا ضبطها ومنعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة، وعللوا ذلك بأن النساء أشد شهوة من الرجال، ومنهم من قدر هذه الشدة والزيادة بأضعاف كثيرة حدها وعدها عدا، وهذا من نبذ الأقوال وطرحها بغير بينة ولا علم، فإن الرجال كانوا وما زالوا هم الذين يطلبون النساء ويرغبون فيهن، ثم يظلمونهن حتى بالتحكم في طبائعهن والحكم على شعورهن، ويأخذ بعضهم ذلك من بعض بالتسليم والتقليد، وأقول: إن من دقق النظر في أقوال الرجال في النساء في كل عصر ولا سيما أقوال كتاب الصحف في زماننا، ووزناها بموازينها، رأى فيها من الأغلاط والأوهام ما يبطله النظر والاختبار، وأظهر أوهامهم ما يكتبونه في حب المرأة وفي الموازنة بينها وبين الرجل فيما تقدم وفي غيره، وأن المقلدين للمخطئ في ذلك أضعاف المقلدين للمصيب.

9. ثم بين تعالى حكمة هذا التربص بالزواج في سياق حكم آخر فقال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ كما كن يفعلن أحيانا في الجاهلية إذ كانت المرأة تتزوج بعد فراق رجل بآخر ويظهر لها أنها حبلى من الأول فتلحق الولد بالثاني، فهذا محرم في الإسلام، لأنه شر ضروب الغش والزور والبهتان، ينفي عن قوم من هو منهم، ويلحق بآخرين من ليس منهم، وفي ذلك من المضار ما لا يجهل وقد حرمه الله في الإسلام، وأمر بأن تعتد المرأة بعد فراق زوجها ليظهر أنها بريئة من الحمل، ونهى أن تكتم الحمل إذا علمت به.

10. اختار كثير من المفسرين أن ما خلق الله في أرحامهن يشمل الولد والحيض وهو المروي عن ابن عمر فقد تكتم المرأة حيضتها لتطيل أجل عدتها، وذلك محرم أيضا، وقد فشا في مطلقات هذا الزمان اللواتي لا يطمعن في الزواج؛ لأن الحكام يفرضون لهن نفقة ما دمن في العدة فيرغبن في استدامة هذه النفقة بكتمان الحيض وادعاء عدم مرور القروء الثلاثة عليهن، وما يأخذنه بعد انقضاء العدة حرام، وما هن ممن يتفكرن في ذلك إذ لا علم لهن بأحكام الحلال والحرام، ولا يبالين ما عساهن يعرفنه منها، لأنهن لم يتربين على آداب الدين وأعماله، بل لم يلقن عقائده ولم يذكرن بآياته، حتى صار أكثرهن أقرب إلى أهل الإباحة منهن إلى أهل الدين، وإنما يجتنب الحرام ويتحرى الوقوف عند حدود الحلال أهل الإيمان الصحيح، ولذلك قال تعالى عقب النهي: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهذا وعيد شديد وتهديد عظيم، كأنه يقول: إذا كن يعرفن من أنفسهن الإيمان بالله الذي أنزل الحلال والحرام لمصلحة الناس، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء بالقسطاس، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وإلا كن غير مؤمنات بما أنزله الله تعالى من هذه الأحكام التي هي خير لهن ولأزواجهن، وحافظة لحقوقهم وحقوقهن، إذ التصديق الجازم بأن الله تعالى أنزل هذا الحكم وجعل في اتباعه المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يكون سببا طبيعيا لامتثاله مع إعظامه وإجلاله، وعلى هذا الحد ما ورد في الحديث الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ، فمن لنا بمن يبلغ النساء المؤمنات هذا التشديد؟ ومن لنا بمن يهتم بتلقين البنات عقائد الإيمان وتربيتهن على الأعمال التي تمكن هذه العقائد في العقل والوجدان؟ وأي رجل يفعل هذا والرجال أنفسهم لم يعد لهم هم في الدين إلا قليل منهم! وهؤلاء يرون النساء متاعا لا أناسي مثلهم، فيدعونهن وشأنهن، لا يتفكرون في أسباب ما يلقون من عواقب إهمالهن، ورزايا جهلهن.

11. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ قال محمد عبده: هذا لطف كبير من الله سبحانه وتعالى وحرص من الشارع على بقاء العصمة الأولى، فإن المرأة إذا طلقت لأمر من الأمور سواء كان بالإيلاء أو غيره فقلما يرغب فيها الرجال، وأما بعلها المطلق فقد يندم على طلاقها، ويرى أن ما طلقها لأجله لا يقتضي مفارقتها دائما، فيرغب في مراجعتها ولا سيما إذا كانت العشرة السابقة بينهما جرت على طريقتها الفطرية، فأفضى كل منهما إلى الآخر بسره حتى عرف عجره وبجره، وتمكنت الألفة بينهما على علاتهما، وإذا كانا قد رزقا الولد فإن الندم على الطلاق يسرع إليهما؛ لأن الحرص الطبيعي على العناية بتربية الولد وكفالته بالاشتراك تغلب بعد زوال أصر المغاضبة العارضة على النفس، وقد يكون أقوى إذا كان الأولاد إناثا؛ لهذا حكم الله تعالى لطفا منه بعباده بأن بعل المطلقة، أي زوجها أحق بردها في ذلك، أي في زمن التربص وهي العدة، وفي هذا بيان حكمة أخرى للعدة غير تبين الحمل أو براءة الرحم وهي إمكان المراجعة، فعلم بذلك أن تربص المطلقات بأنفسهن فيه فائدة لهن وفائدة لأزواجهن، وإنما يكون بعل المرأة أحق بها في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، وأما قصد مضارتها ومنعها من التزوج بعد العدة حتى تكون كالمعلقة لا يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى ولا يمكنها من التزوج، فهو آثم بينه وبين الله تعالى بهذه المراجعة، فلا يباح للرجل أن يرد مطلقته إلى عصمته إلا بإرادة إصلاح ذات البين ونية المعاشرة بالمعروف، وإنما قال الإمام: إنه آثم بينه وبين الله تعالى؛ لإفادة أن ذلك محرم لأمر خفي يتعلق بالقصد فلم يكن شرطا في الظاهر لصحة الرجعة، وما كل ما صح في نظر القاضي يكون جائزا تدينا بين الإنسان وربه؛ لأن القاضي يحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، والطلاق الذي تحل فيه الرجعة قبل انقضاء العدة يسمى طلاقا رجعيا، وهناك طلاق بائن لا تحل مراجعة المطلقة بعده وسيأتي ذكره في محله.

12. من مباحث اللفظ أن كلمة ﴿أَحَقَّ﴾ هنا بمعنى حقيقين كما قالوا.

13. ولما كانت إرادة الإصلاح برد الرجل امرأته إلى عصمته إنما تتحقق بأن يقوم بحقوقها كما يلزمها أن تقوم بحقوقه ذكر جل شأنه حق كل منهما على الآخر بعبارة مجملة تعد ركنا من أركان الإصلاح في البشر وهي قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

14. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هذه كلمة جليلة جدا جمعت على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ وسيأتي بيانه، وقد أحال في معرفة مالهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم، وما يجري عليه عرف الناس، وهو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشئون والأحوال، فإذا هم بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس: إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية، وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها، إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل؛ أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.

15. قال محمد عبده: هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوربية التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنا ونصف، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء كما كن في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالا، ونحن لا نقول: إن الدين المسيحي أمرهم بذلك لأننا نعتقد أن تعليم المسيح لم يخلص إليهم كاملا سالما من الإضافات والبدع، ومن المعروف أن ما كانوا عليه من الدين لم يرق المرأة وإنما كان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي، وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن النساء يفخرون علينا، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء، ويزعم الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا.

16. ذكر محمد عبده في الدرس أن أحد السائحين من الإفرنج زاره في الأزهر وبينا هما ماران في المسجد رأى الإفرنجي بنتا مارة فيه فبهت، وقال: ما هذا؟ أنثى تدخل الجامع، فقال له الإمام: وما وجه الغرابة في ذلك؟ قال: إننا نعتقد أن الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح وليس عليهن عبادة، فبين له غلطه وفسر له بعض الآيات فيهن، قال: فانظروا كيف صرنا حجة على ديننا؟ وإلى جهل هؤلاء الناس بالإسلام حتى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس لجمعية كبيرة فما بالكم بعامتهم؟

17. إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من الرياسة، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن ويجعل لهن في النفوس احتراما يعين على القيام بحقوقهن ويسهل طريقه، فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبا عالما بما يجب عليه عاملا به، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه، وإن بدرت منه بادرة في حقه رجع على نفسه باللائمة، فكان ذلك زاجرا له عن مثلها.

18. خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات والمعاملات كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن، وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة؟ العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه، إذ يستحيل أن تتوجه إلى المجهول المطلق والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببا للعناية بفعله والتوقي من إهماله، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات والحقوق مع الجهل بها إجمالا وتفصيلا؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا لأهله ولا للناس؟ والنصف الآخر قريب من ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلا قليلا مما يجب عليه من ذلك ويترك الباقي، ومنه إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه من علم وعمل، أو إلزامه إياه بما له عليه من السلطة والرياسة.

19. إن ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود، ولكن ما يطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات ـ إن كانت في بيت غني ونعمة ـ يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، كما يختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجل النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة؟ ألا ترى أن فروض الكفايات قد اتسعت دائرتها؟ فبعد أن كان اتخاذ السيوف والرماح والقسي كافيا في الدفاع عن الحوزة صار هذا الدفاع متوقفا على المدافع والبنادق والبوارج، وعلى علوم كثيرة صارت واجبة اليوم ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس، ألم تر أن تمريض المرضى ومداواة الجرحى كان يسيرا على النساء في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وعصر الخلفاء، وقد صار الآن متوقفا على تعلم فنون متعددة وتربية خاصة، أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام؟ أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على عورته وتكتشف مخبآت بيته؟ وهل يتيسر للمرأة أن تمرض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون الصحة وبأسماء الأدوية؟ نعم؛ قد تيسر لكثيرات من الجاهلات قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية السامة أو بجعل دواء مكان آخر.

20. روى ابن المنذر والحاكم ـ وصححه ـ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، والمراد بالأهل النساء والأولاد ذكورا وإناثا، وزاد بعضهم هنا العبد والأمة، وهو من: أهل المكان أهولا: عمر، وأهل الرجل وتأهل تزوج، وأهل الرجل: زوجه وأهل بيته الذين يسكنون معه فيه والأصل فيه القرابة، وجمع الأهل أهلون، وربما قيل الأهالي، وإذا كان الرجل يقي نفسه وأهله نار الآخرة بتعليمهم وتأديبهم، فهو كذلك يقيهم بذلك نار الدنيا وهي المعيشة المنغصة بالشقاء وعدم النظام.

21. الآية الكريمة تدل على اعتبار العرف في حقوق كل من الزوجين على الآخر ما لم يحل العرف حراما أو يحرم حلالا مما عرف بالنص، والعرف يختلف باختلاف الناس والأزمنة، ولكن أكثر فقهاء المذاهب المعروفة يقولون: إن حق الرجل على المرأة ألا تمنعه من نفسها بغير عذر شرعي، وحقها عليه النفقة والسكنى إلخ، وقالوا: لا يلزمها عجن ولا خبز ولا طبخ ولا غير ذلك من مصالح بيته أو ماله وملكه، والأقرب إلى هداية الآية ما قاله بعض المحدثين والحنابلة، قال في حاشية المقنع بعد ذكر القول بأنه لا يجب عليها ما ذكر، وقال أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني: عليها ذلك واحتجا بقضية علي وفاطمة ما فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قضى على ابنته بخدمة البيت وعلى علي ما كان خارجا من البيت من عمل، ورواه الجوزجاني من طرق، قال: وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنتقل من جبل أسود إلى جبل أحمر أو من جبل أحمر إلى جبل أسود لكان نولها (أي: حقها) أن تفعل ذلك) رواه بإسناده، قال: فهذا طاعة فيما لا منفعة فيه فكيف بمؤنة معاشه؟ قال الشيخ تقي الدين يجب عليها المعروف من مثلها لمثله، قال في الإنصاف: والصواب أن يرجع في ذلك إلى عرف البلد)

22. وما قضى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين بنته وربيبه وصهره عليهما السلام هو ما تقضي به فطرة الله تعالى، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين، على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة، وهو لا ينافي استعانة كل منهما بالخدم والأجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، ولا مساعدة كل منهما للآخر في عمله أحيانا إذا كانت هناك ضرورة، وإنما ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن التعاون ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾:.

23. وما قاله الشيخ تقي الدين وما بينه به في الإنصاف من الرجوع إلى العرف لا يعدو ما في الآية قيد شعرة، وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من شريعتهم، فانظر في معاملتهم لنسائهم تجدهم يظلمونهن بقدر الاستطاعة لا يصد أحدهم عن ظلم امرأته إلا العجز، ويحملونهن ما لا يحملنه إلا بالتكلف والجهد، ويكثرون الشكوى من تقصيرهن، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهن ليقولن كما يقول أكثر فقهائهم: إنه لا يجب لنا عليهن خدمة، ولا طبخ، ولا غسل، ولا كنس ولا فرش، ولا إرضاع طفل، ولا تربية ولد، ولا إشراف على الخدم الذين نستأجرهم لذلك، إن يجب عليهن إلا المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع، وهذا الأمران عدميان؛ أي: عدم الخروج من المنزل بغير إذن، وعدم المعارضة بالاستمتاع، فالمعنى أنه لا يجب عليهن للرجال عمل قط، ولا للأولاد مع وجود آبائهم أيضا، وأقول: إن هذه مبالغة في إعفائهن من التكاليف الواجبة عليهن في حكم الشرع والعرف، يقابلها المبالغة في وضع التكاليف عليهن بالفعل، ولكن الجاهلين بالمذاهب الفقهية يتهمون رجالها بهضم حقوق النساء، وما هو إلا غلبة التقاليد والعادات مع عموم الجهل.

24. قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ يوجب على المرأة شيئا وعلى الرجال أشياء؛ ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة والقيام على المصالح المفسرة بقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس؛ لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف؛ لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة، ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف فإن نشزت عن طاعته كان له تأديبها بالوعظ والهجر والضرب غير المبرح ـ إن تعين ـ تأديبا، يجوز ذلك لرئيس البيت لأجل مصلحة العشيرة وحسن العشرة، كما يجوز مثله لقائد الجيش ولرئيس الأمة (الخليفة أو السلطان) لأجل مصلحة الجماعة، وأما الاعتداء على النساء لأجل التحكم أو التشفي أو شفاء الغيظ فهو من الظلم الذي لا يجوز بحال، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ـ إلى أن قال ـ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه من حديث ابن عمر، وسيأتي تفصيل لهذه السلطة في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

25. ختم الآية بقوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قال محمد عبده: إن لذكر العزة والحكمة هاهنا وجهين:

أ. أحدهما: إعطاء المرأة من الحقوق على الرجل مثل ما له عليها بعد أن كانت مهضومة الحقوق عند العرب وجميع الأمم.

ب. الثاني: جعل الرجل رئيسا عليها، فكأن من لم يرض بهذه الأحكام الحكيمة يكون منازعا لله تعالى في عزة سلطانه، ومنكرا لحكمته في أحكامه فهي تتضمن الوعيد على المخالفة كما عهدنا من سنة القرآن.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/370

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يراد بالمطلقات هنا الأزواج اللاتي يعهد في مثلهنّ أن يطلقن، وأن يتزوجن بعد ذلك، وهنّ الحرائر ذوات الحيض بقرينة ما قبلها وما بعدها من ذكر التربص بالزواج، ولأنهنّ المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزواج، أما من لسن كذلك كاليائسات، فليس من شأنهنّ أن يطلقن، إذ من أمضى مدة الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض، فأدب الشرع وداعي الفطرة يحتمان عليه أن برعى عهدها ويحفظ ودعا ـ إلى أنّ مثل هذه لو طلقت فقلما تتزوج بعد، والتي لم تبلغ الحلم لا تكاد تتزوّج، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة، فيندر أن يتحوّل عنها فيطلقها.

2. التربص: الانتظار، والقروء: واحدها قرء (بضم القاف وفتحها) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية، والشافعية المراد به الطهر، وما في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾

3. بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولى إما أن يفيء ويرجع إلى معاشرة زوجه، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان ـ ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق.

4. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهنّ من ذوات الحيض، فلسن يائسات انقطع عنهنّ الحيض، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض ـ ينتظرن ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوّجن، ليظهر أنهنّ غير حوامل، وفي قوله ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ إشارة إلى أنه يجب عليهنّ أن يملكن رغبتهنّ في الزواج، ويكبتن جماح شهواتهنّ إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوي عليها نفوس النساء، وإلى أنهنّ يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا، إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهنّ إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.

5. ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به، أو حيض ليطلن عدتهنّ، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج، لأن القضاة يفرضون لهنّ النفقة ما دمن في العدة، فهنّ يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة، وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأى للإمام مالك، وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتلحق الولد ب الثاني، فلما جاء الإسلام حرّم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل.

6. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يقتضى الامتثال مع التعظيم والإجلال، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد.

7. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.

8. الخلاصة ـ إنه لا يباح للرجل أن يردّ مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين، ونية المعاشرة بالمعروف وإنما كان أحق بردها، لأنه بعد الطلاق قلّما يرغب فيها الرجال، ولأنه قد يندم على طلاقها، ويرغب في مراجعتها، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي‏ المرأة وإذنها ـ وسيأتي ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة بعده إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره.

9. لما كانت إرادة الإصلاح بردّ المرأة إلى العصمة، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هي على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر ـ وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة، وللمرأة مثل ذلك، بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجرى عليه العرف بينهم، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شيء آخر بإزائه، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنّه قال إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية.

10. المراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متبادلة متكافئة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.

11. هذه الحقوق أجملها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما قضى به بين بنته وصهره، فقضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علىّ بما كان في خارجه من الأعمال، وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة، وعلى الرجل السعي والكسب في خارجه، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة، يرشد إلى ذلك‏ قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾

12. الخلاصة ـ إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهنّ إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع الماضية، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا في الحضارة والمدنية، فهي وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها، وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وكانت في أوربا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية، أو أسوأ منها حالا.

13. من العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدّعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن.

14. الدرجة التي للرجال عليهن هي الرئاسة، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضى وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كل ضدّ الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختلّ النظام، والرجل هو الأحق بهذه الرئاسة، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي المطالبة بطاعته فيما لا يحرّم حلالا، ولا يحلل حراما، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها بالوعظ والهجر في المضاجع، والضرب غير المبرّح، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة، أما الاعتداء عليها للتشفي من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما

15. ورد في الحديث عن ابن عمر من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها)، ولا شكّ أن من موجبات هذه الرئاسة التي للرجال أن يعلموهنّ ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات، ومعرفة ما لهن من الحقوق، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه، وما يجب عليهن لتربية أولادهن، ومعاملتهن للناس، ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعدّ لها، وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة، وتنكشف على مخبآت بيته؟ وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية؟ وهل يمكن الأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة؟ أو هي تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسيء إليهم في مستأنف حياتهم عندما يصيرون رجالا في المجتمع، ولله درّ حافظ إبراهيم حين يقول:

الأمّ مدرسة إذا أعددتها...أعددت شعبا طيب الأعراق‏

16. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم، وفي اعتبار كل الشرائع، وأن أعطى الرجل حق الرئاسة عليها، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزّته وسلطانه، ومنكرا لحكمته في أحكامه، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لمن خالف ما فرض الله وقدره من الأحكام.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/164

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق؛ وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة.. إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق.. ويبدأ بحكم العدة والرجعة.

2. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ﴾ يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ـ أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف..

3. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾.. لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة.. إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات، أو حتى يطهرن منها.. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني.. إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة، رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها، والإمساك بزمامها، مع التحفز، والتوفز، الذي يصاحب صورة التربص، وهي حالة طبيعية، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر، وأن تنشئ حياة جديدة.. هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل، لأنه هو الذي طلق؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هي‏ التي وقع عليها الطلاق.. وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا.. يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة.

4. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.. لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض.. ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر، فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.. وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا، فهناك الجزاء.. هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه، فلا يخفى عليه شيء منه.. فلا يجوز كتمانه عليه ـ سبحانه ـ تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن.

5. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة، فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد، وعواطف تستجاش، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء! فإذا سكن الغضب، وهدأت الشرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات، والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج.. وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق، كما أن إيقاعه الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء، وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات، إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق.. إلى آخر تلك المحاولات.

6. الطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما، فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع، فالطريق مفتوح: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾.. في ذلك.. أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة.. إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد؛ ولم يكن القصد هو إعنات الزوجة، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك، انتقاما منها، أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر.

7. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.. وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار، وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة.

8. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾.. أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة، وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق؛ وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي! فتذهب إليه، وترده إلى عصمتها! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف، وهي درجة مقيدة في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها.

9. ثم يجيء التعقيب: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس، وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/246

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من أحكام المطلقة المدخول بها، غير المتوفّى عنها زوجها، وغير الحامل، وغير اليائسة من الحيض ـ أن تعتد ثلاثة قروء، والقرء يجيء لغة بمعنى الطهر، وبمعنى الحيض أيضا، فهو ضد، والمراد بالعدة هنا هو استبراء الرحم، ولا يتحقق الاستبراء ويقع موقع اليقين إلا بأن ترى المرأة الدم ثلاث مرات.. أي تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، فإذا كان ذلك فقد استبرأت رحمها، وتم انفصام العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها، وحل لها أن تتزوج.

2. الطلاق الشرعي هو أن يطلق من انتهى موقفه إلى الطلاق ـ امرأته في طهر لم يمسسها فيه، فإذا جاءها الحيض طلقها طلقة أولى رجعية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها طلقة ثانية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها الطلقة الثالثة.

3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ أي يحرم على المرأة المطلقة المعتدة بالقروء أن تكتم ما خلق الله في رحمها من الولد، فتقر بالواقع، إذ القول هنا قولها، وما تعلمه هو أمانة حملتها، فإذا لم تؤد الأمانة على وجهها فقد أصبحت في الخائنات الآثمات.

4. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ تذكير لهن بالله وبالإيمان به، فإن من شأن من يؤمن بالله أن يتقيه وأن يستقيم على طريقه القويم، وأن يقول قولة الحق، له أو عليه.

5. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ ذلك إشارة إلى الوقت الذي تكون المرأة فيه حلّا لزوجها لم تحرم عليه، بأن كانت في العدّة بعد طلاقها للمرة الثانية.. فهو أحق بها من غيره، إن أراد أن يصلح ما أفسد، ويقيم البيت الذي تهدم.

6. فى قوله تعالى: ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ إشارة إلى أن هذا الحق ليس خالصا للأزواج في ذلك الوقت، فللمرأة هنا أن تتزوج من تشاء، وزوجها لا يعدو أن تكون واحدا ممن يتقدمون لها، وأحقيته بها ليست حقا شرعيا، وإنما هي حق أدبىّ، لسالف العشرة بينها وبين زوجها.

7. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي للنساء من الحقوق على أزواجهن مثل ما للأزواج على النساء من حقوق.. فهذا ما يقتضيه العدل، وما تقوم عليه الحياة بين شريكين، أراد الله لهما أن يكون كل منهما سكنا لصاحبه، وليست هذه الحقوق التي للرجل على المرأة، والتي للمرأة على الرجل من قبيل الحقوق التي يقتضيها الغريم من غريمه، ويأخذها بيد السلطان والقانون إن ماطله الغريم والتوى بحقه، وإنما هي حقوق تفيض بها النفس في سماحة ورضى، وتنبع من عاطفة إنسانية لا يملك الإنسان دفعها، أشبه بتلك العاطفة التي بين الآباء والأبناء، بل ربما كانت أكثر من هذا.. إنها عاطفة الأليف إلى أليفه، والعاشق إلى معشوقه.

8. هذا ما ينبغي أن يكون عليه ما بين الزوجين من تواد وتعاطف، وحبّ، وتراحم، وتعاون.. طواعية واختيارا، لا قهرا ولا قسرا.. وإلا فقدت الحياة لزوجية روحها، وصارت جسدا باردا، لا يلبث أن يذيل ويموت!

9. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي درجة في التفاوت بينهما في الحقوق والواجبات، بمعنى أن للرجل على المرأة حقوقا أكثر درجة مما لها عليه من حقوق، وأن عليه لها من الواجبات أكثر مما لها عليه.. وصاحب الحق أولى بالفضل ممن لزمه الواجب المقابل لهذا الحق! والتعبير بدرجة يعنى أن هذا التفاوت لا يمسّ جوهر الاعتبارات الإنسانية فيهما، فهما إنسانان متساويان في الإنسانية، ولكن اختلافهما النوعي أدى إلى الاختلاف الوظيفي في الحياة بينهما: فكما كانا رجلا وامرأة.. في الجنس، كانا أولا وثانيا، في الرتبة.. وليس هذا بالذي يدخل الضيم على أي منهما، ما دام يحيا حياته على النحو الذي يلائم طبيعته.

10. هذا، والدرجة التي للرجل على المرأة ليست بالتي تجيء عن طريق القهر والقسر، وإنما تستدعيها تصرفات الرجل وآثاره في الحياة الزوجية، وفى مدّها بأسباب الحياة والنماء والاستقرار.. فهذا هو الذي يعطى الرجل ـ من غير أن يطلب ـ مكان الصدارة والقيادة، وإلا كان متخليا عن هذا المكان لمن هو أولى به منه، من زوجة أو ولد!

11. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إشارة إلى أن العزة التي تقوم إلى جانبها الحكمة هي العزة الرشيدة البارة بأهلها وبالناس حولها.. فالمكانة التي منحتها الحياة للرجال، فجعلت لهم على النساء درجة، وأقامت لهم سلطانا عليهن ـ هذه المكانة إن لم تلتزم جانب الحكمة والاعتدال كانت أداة سفه وطيش تدمر حياة صاحبها، وتفسد الحياة على من يصحبه، وسنعرض لقضية المرأة والرجل عند تفسير قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ إن شاء الله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/260

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ عطف على الجملة قبلها لشدة المناسبة وللاتحاد في الحكم وهو التربص، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة، ولذلك لم يقدم قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: 229] على قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ لأن هذه الآي جاءت متناسقة منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام وإلقائها بأسلوب سهل لا تسأم له النفس، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس، وسيأتي كلامنا على الطلاق عند قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾

2. جملة ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ خبرية مراد بها الأمر، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازا مرسلا مركبا، باستعمال الخبر في لازم معناه، وهو التقرر والحصول، وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر: 19] بأن يكون الخبر مستعملا في المعنى المركب الإنشائي، بعلاقة اللزوم بين الأمر مثلا كما هنا وبين الامتثال، حتى يقدر المأمور فاعلا فيخبر عنه ويجوز جعله مجازا تمثيليا كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال: فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء: (رحمه الله ثقة بالاستجابة) قال التفتازاني: فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس: رحمه الله، أو في المستقبل، أو الحال، كما في هذه الآية.

3. قد تقدم في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] وأنه أطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.

4. التعريف في (المطلقات) تعريف الجنس، وهو مفيد للاستغراق، إذ لا يصلح لغيره‏ هنا، وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وليس هذا بعام مخصوص في هذه، بمتصل ولا بمنفصل، ولا مراد به الخصوص، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة المقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء بما ثبت في السنة أن عدة الأمة حيضتان، رواه أبو داوود والترمذي، فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض، والآيسات من المحيض، والحوامل، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق، إلّا أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل.

5. قال المالكية والشافعية: إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة بمخصصات منفصلة، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء، وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف، وإنما لجئوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخا، وشرط النسخ تقرر المنسوخ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالأقراء لكل المطلقات، والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخا، أصل غير جدير بالتأصيل؛ لأن تخصيص العام هو وروده مخرجا منه بعض الأفراد بدليل، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص لظهور بطلانه ولا بنسخ الخاص للعام لظهور سبقه، والناسخ لا يسبق وبعد، فمهما لم يقع عمل بالعموم فالتخصيص ليس بنسخ.

6. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء، وزيد ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ تعريضا بهن، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات، الراميات بأنفسهن إلى التزوج، فلذلك أمرن أن يتربصن بأنفسهن، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى الرجال، قال في (الكشاف): (ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن) وقد زعم بعض النحاة أن‏ ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ تأكيد لضمير (المطلقات)، وأن الباء زائدة، ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي، ذكره صاحب (المغني) ورده من جهة اللفظ بأن حق توكيد الضمير المتصل أن يكون بعد ذكر الضمير المنفصل أو بفاصل آخر، إلّا أن يقال: اكتفى بحرف الجر؛ ومن جهة المعنى بأن التوكيد لا داعي إليه إذ لا يذهب عقل السامع إلى أن المأمور غير المطلقات الذي هو المبتدأ، الذي تضمن الضمير خبره.

7. انتصب‏ ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، على النيابة عن المفعول فيه؛ لأن الكلام على تقدير مضاف؛ أي مدة ثلاثة قروء، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب.

8. القروء جمع قرء ـ بفتح القاف وضمها ـ وهو مشترك للحيض والطهر، وقال أبو عبيدة: إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقا على أحد طرفيه، وتبعه الراغب، ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين، وأحسب أن أشهر معاني القرء عند العرب هو الطهر، ولذلك ورد في حديث عمر أن ابنه عبد الله لما طلق امرأته في الحيض سأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وما سؤاله إلّا من أجل أنهم كانوا لا يطلقون إلّا في حال الطهر ليكون الطهر الذي وقع فيه الطلاق مبدأ الاعتداد، وكون الطهر الذي طلقت فيه هو مبدأ الاعتداد هو قول جميع الفقهاء ما عدا ابن شهاب فإنه قال يلغى الطهر الذي وقع فيه الطلاق.

9. اختلف العلماء في المراد من القروء في هذه الآية، والذي عليه فقهاء المدينة وجمهور أهل الأثر أن القرء هو الطهر وهذا قول عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر وجماعة من الصحابة من فقهاء المدينة ومالك والشافعي في أوضح كلامية، وابن حنبل، والمراد به الطهر الواقع بين دمين، وقال علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة إنه الحيض، وعن الشافعي في أحد قوليه أنه الطهر المنتقل منه إلى الحيض، وهو وفاق لما فسر به أبو عبيدة، وليس هو بمخالف لقول الجمهور: إن القرء الطهر، فلا وجه لعده قولا ثالثا.

10. مرجع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة من حمل المطلق، وانتظار الزوج لعله أن يرجع، فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظارا للرجعة، فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم، في استبراء الأمة في انتقال الملك، وفي السبايا، وفي أحوال أخرى، مختلفا في بعضها بين الفقهاء، فتعين أن ما زاد على حيض واحد ليس لتحقق عدم الحمل، بل لأن في تلك المدة رفقا بالمطلق، ومشقة على المطلقة، فتعارض المقصدان، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمدا بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها، وحصول الطهر بعدها، فالذين جعلوا القروء أطهارا راعوا التخفيف عن المرأة، مع حصول الإمهال للزوج، واعتضدوا بالأثر، والذين جعلوا القروء حيضات زادوا للمطلق إمهالا؛ لأن الطلاق لا يكون إلّا في طهر عند الجميع، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء.

11. قروء صيغة جمع الكثرة، استعمل في الثلاثة، وهي قلة توسعا، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس بوجود صريح العدد، وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة، وتبين المطلقة الرجعية من مفارقها، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة، قال الجمهور: إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة، بعد تحقق أنه دم الحيض.

12. من أغرب الاستدلال لكون القرء الطهر الاستدلال بتأنيث اسم العدد في قوله تعالى: ﴿ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، قالوا: والطهر مذكر فلذلك ذكر معه لفظ (ثلاثة)، ولو كان القرء الحيضة والحيض مؤنث لقال ثلاث قروء، حكاه ابن العربي في (الأحكام)، عن علمائنا، يعني المالكية ولم يتعقبه وهو استدلال غير ناهض؛ فإن المنظور إليه في التذكير والتأنيث إما المسمّى إذا كان التذكير والتأنيث حقيقيا، وإلّا فهو حال الاسم من الاقتران بعلامة التأنيث اللفظي، أو إجراء الاسم على اعتبار تأنيث مقدر مثل اسم البئر، وأما هذا الاستدلال فقد لبّس حكم اللفظ بحكم أحد مرادفيه.

13. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم، فهو خبر عن التشريع، فهو إعلام لهن بذلك، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته، كقول النابغة: (كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا) أي كتمتك حال ليل.

14. ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ موصول، فيجوز حمله على العهد، أي ما خلاق من الحيض بقرينة السياق، ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل، وهو الظاهر وهو من العام الوارد على سبب خاص؛ لأن اللفظ العام الوارد في‏ القرآن عقب ذكر بعض أفراده، قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذكر قبله، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس، لأن الحكم نيط بكتمان ما خلق الله في أرحامهن، وهذا محمل اختلاف المفسرين، فقال عكرمة والزهري والنخعي: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ الحيض، وقال ابن عباس وعمر: الحمل، وقال مجاهد: الحمل والحيض، وهو أظهر، وقال قتادة: كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد (أي لئلا يبقى بين المطلّقة ومطلّقها صلة ولا تنازع في الأولاد) وفي ذلك نزلت، وهذا يقتضي أن العدة لم تكن موجودة فيهم، وأما مع مشروعية العدة فلا يتصور كتمان الحمل؛ لأن الحمل لا يكون إلّا مع انقطاع الحيض، وإذ مضت مدة الأقراء تبين أن الحمل من الزوج الجديد.

15. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ شرط أريد به التهديد دون التقييد، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد، على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، كما يستعمل الخبر في التحسر والتهديد، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي، وإنما المعنى أنهن إن كتمن فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان.

16. جيء في هذا الشرط بإن، لأنها أصل أدوات الشرط، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا، فإذا كان الشرط مفروضا، فرضا لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه جيء بإن، وليس لأن هنا، شيء من معنى الشك في حصول الشرط، ولا تنزيل إيمانهن المحقق منزلة المشكوك، لأنه لا يستقيم، خلافا لما قرره عبد الحكيم.

17. المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان الكامل، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام، فليس إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر بمراد هنا؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب.

18. ليس في الآية دليل على تصديق النساء في دعوى الحمل والحيض كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء، فلا بد من مراعاة أن يكون قولهن مشبها، ومتى ارتيب في صدقهن وجب المصير إلى ما هو المحقق، وإلى قول الأطباء والعارفين، ولذلك قال مالك: (لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها في مدة شهر من يوم الطلاق لم تصدق، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوما مع يمينها) وقال عبد الملك: خمسون يوما، وقال ابن‏ العربي: لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء، وجرى به عمل تونس كما نقله ابن ناجي، وعمل فاس كما نقله السّجلماسي، وفي الآية دلالة على أن المطلقة الكتابية لا تصدق في قولها إنها انقضت عدتها.

19. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾، البعولة جمع بعل، والبعل اسم زوج المرأة، وأصل البعل في كلامهم، السيد، وهو كلمة ساميّة قديمة، فقد سمّى الكنعانيون (الفينيقيون) معبودهم بعلا قال تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾ [الصافات: 125] وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه، ولأن الزوج كان يعتبر مالكا للمرأة وسيدا لها، فكان حقيقا بهذا الاسم، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام فما بعده من الشرائع، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف، فأطلق العرب لفظ الزوج على كلّ من الرجل والمرأة، اللذين بينهما عصمة نكاح، وهو إطلاق عادل؛ لأن الزوج هو الذي يثنى الفرد، فصارا سواء في الاسم، وقد عبر القرآن بهذا الاسم في أغلب المواضع، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله تعالى: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود: 72]، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ [النساء: 128] وهاته الآية كذلك، لأنه لما جعل حق الرجعة للرّجل جبرا على المرأة، ذكّر المرأة بأنه بعلها قديما، وقيل: البعل: الذكر، وتسمية المعبود بعلا لأنه رمز إلى قوة الذكورة، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بعلا، وجاء جمعه على وزن فعولة، وأصله فعول المطرد في جمع فعل، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه، ونظيره قولهم: فحولة وذكورة وكعوبة وسهولة، جمع السّهل ضد الجبل، وزيادة الهاء على مثله سماعي؛ لأنها لا تؤذن بمعنى، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة.

20. ضمير ﴿بُعُولَتِهِنَّ﴾، عائد إلى (المطلقات) قبله، وهن المطلقات الرجعيات كما تقدم، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشئوا طلاقهن، وأطلق اسم البعولة على المطلقين، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات، إلّا أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم؛ لقوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1]، أي أمر المراجعة، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء، فللمطلقين بحسب هذه الحالة حالة وسط بين حالة الأزواج وحالة الأجانب، وعلى اعتبار هذه الحالة الوسط أوقع عليهم اسم البعولة هنا، وهو مجاز قرينته واضحة، وعلاقته اعتبار ما كان، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2]، وقد حمله الجمهور على المجاز؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقا رجعيا امرأة أجنبية عن المطلق بحسب الطلاق، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة، ما دامت المرأة في العدة، ولو بدون رضاها، وجب إعمال مقتضى الحالتين، وهذا قول مالك والشافعي، قال مالك: (لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية، ولا أن يدخل عليها بدون إذن، ولو وطئها بدون قصد مراجعة أثم، ولكن لا حد عليه للشبهة، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى، ما دامت تلك في العدة)

21. إنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته، ويشكل على قولهم إن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلّقها وهي في العدة؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف، بموافقة عليّ، رواه في (الموطأ)، فيدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث، فما لم تنقض العدة فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء، فصار ذلك شكا في مانع الإرث، والشك في المانع يبطل إعماله.

22. حمل أبو حنيفة والليث بن سعد البعولة على الحقيقة، فقالا: (الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلّقته؛ لأن الله سماهم بعولة) وسوغا دخول الطلاق عليها، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة، وقال به الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى، ونسب إلى سعيد بن المسيب والحسن والزهري وابن سيرين وعطاء وبعض أصحاب مالك، وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية.

23. ﴿أَحَقَّ﴾: قيل: هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة، أتى به لإفادة قوة حقهم، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل، كقوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45] لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من، وقيل: هو تفضيل على بابه، والمفضل عليه محذوف، أشار إليه في (الكشاف)، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه: أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق: هما حق الزوج في الرجعة إن رغب فيها، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها، فصار المعنى: وبعولتهن أحق برد المطلقات، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز.

24. ﴿فِي ذَلِكَ﴾ الإشارة بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى التربص بمعنى مدته، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة، أي لا بعد ذلك كما هو مفهوم القيد.

25. هذا تقرير معنى‏ الآية، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة بل الآية جامعة لأمرين: حكم المراجعة، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات، وذلك أن المتفارقين لا بد أن يكون لأحدهما أو لكليهما، رغبة في الرجوع، فالله يعلم الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال، والمرأة أهل الغضب والإباء.

26. الرد: تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ [البقرة: 217] والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة وهو المراجعة، وتسمية المراجعة ردا يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعا لعصمة النكاح، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأوّلوا التعبير بالرد بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة، فسميت المراجعة ردا عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي.

27. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح، وليس هو للتقييد.

28. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، لا يجوز أن يكون ضمير ﴿لَهُنَّ﴾ عائدا إلى أقرب مذكور وهو (المطلقات)، على نسق الضمائر قبله؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة حتى يكون لهن حقوق وعليهن حقوق، فتعين أن يكون ضمير ﴿لَهُنَّ﴾ ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله‏ ﴿بِرَدِّهِنَّ﴾ بقرينة مقابلته بقوله‏ ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، فالمراد بالرجال في قوله: ﴿وَلِلرِّجَالِ﴾ الأزواج، كأنه قيل: ولرجالهن عليهن درجة، والرجل إذا أضيف إلى المرأة، فقيل: رجل فلانة، كان بمعنى الزوج، كما يقال للزوجة: امرأة فلان، قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ﴾ [هود: 71] ـ ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ [هود: 81]، ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله تعالى‏ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة: 226] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن، إذا لم يكن له سبب، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة، حين ذكر طلاقهن بقوله‏ ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ [البقرة: 227]، إلى ذكر المطلقات‏ بتلك المناسبة، ولما اختتم حكم الطلاق بقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ صار أولئك النساء المطلقات زوجات، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر، فعادت إلى أحكام الزوجات بأسلوب عجيب والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولا عليهن، وتظاهرا بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة، فناسب أن يذكّروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال.

29. في الآية احتباك، فالتقدير: ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر، وبالعكس، وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاونا بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها، وأعظم ما أسّست به هو ما جمعته هذه الآية.

30. تقديم الظرف للاهتمام بالخبر؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون، فقدم ليصغى السامعون إلى المسند إليه، بخلاف ما لو أخر فقيل: (ومثل الذي عليهن لهن بالمعروف)، وفي هذا إعلان لحقوق النساء، وإصداع بها وإشادة بذكرها، ومثل ذلك من شأنه أن يتلقى بالاستغراب، فلذلك كان محل الاهتمام، ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية، كانت زوجة أم غيرها، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة وتنافس عند الرغبة، ومظهر استخفاف وقلة إنصاف، عند الغضب، فأما الأول فناشئ عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة وصدق المحبة، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل، ومحل تنافسه، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مرّة بن محكان السعدي:

يا ربّة البيت قومي غير صاغرة...ضمّي إليك رحال القوم والقربا

فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمرها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة، وأما الثاني فالرجل مع ذلك يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته، ربما أشتد معها في خشونة المعاملة، وإذا تخالف رأياهما أرغمها على متابعته، بحق أو بدونه، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتا بحسب تفاوتهم في الحضارة والبداوة، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافة، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه.

31. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنّه قال: كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني قالت: ولم تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت: قد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت عليّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: (قد خبت وخسرت) الحديث، وفي رواية عن ابن عباس عنه (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام، وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا) ويتعين أن يكون هذا الكلام صدرا لما في الرواية الأخرى وهو قوله: (كنا معشر قريش نغلب النساء) إلى آخره، فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء، وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة، فكانت فيهم رقة زائدة، وفي الحديث‏ (جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية)، وقد سمى عمر بن الخطاب ذلك أدبا فقال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار)، وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له، وإن شاءوا، زوجوها بمن شاءوا وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم، فهم أحق بذلك فنزلت آية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: 19]

32. في حديث الهجرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له (انظر أي زوجتيّ شئت أنزل لك عنها) فقال عبد الرحمن (بارك الله لك في أهلك ومالك) الحديث، فلما جاء الإسلام بالإصلاح، كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة، ضبط حقوق الزوجين بوجه‏ لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياء التي قد يخفى أمرها قد جعل لها التحكيم قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35] وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله، وأول إعلام هذا العدل بين الزوجين في الحقوق، كان بهاته الآية العظيمة، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام.

33. المثل أصله النظير والمشابه، كالشبه والمثل، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: 17]، وقد يكون الشيء مثلا لشيء في جميع صفاته وقد يكون مثلا له في بعض صفاته، وهي وجه الشبه، فقد يكون وجه المماثلة ظاهرا فلا يحتاج إلى بيانه، وقد يكون خفيا فيحتاج إلى بيانه، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسا أو أنواعا أو أشخاصا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة، فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها، وأن تجهز طعامه، أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مئونة الارتزاق كيلا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها، وعلى هذا القياس فإذا تأتّت المماثلة الكاملة فتشرع، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها، بدليل ما رتب على حكم النشوز، قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: 34] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة [النور: 30] ثم قال ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 30] الآية ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ [المؤمنون: 5 ـ 6] إلّا إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر، يدخل تحت قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ والمماثلة في بعث الحكمين، والمماثلة في الرعاية، ففي الحديث: (الرجل‏ راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها، والمماثلة في التشاور في الرضاع، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ [البقرة: 233] ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 6]

34. تفاصيل هاته المماثلة، بالعين أو بالغاية، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة، ومرجعها إلى نفي الإضرار، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة، وقد أومأ إليها قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي لهن حق متلبسا بالمعروف، غير المنكر، من مقتضى الفطرة، والآداب، والمصالح، ونفي الإضرار، ومتابعة الشرع، وكلها مجال أنظار المجتهدين.

35. لم أر في كتب فروع المذاهب تبويبا لأبواب تجمع حقوق الزوجين، وفي (سنن أبي داوود)، و(سنن ابن ماجه)، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة، والآخر لحقوق الزوج على الرجل، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولى للمرأة فهي ولية كما يقولون، وكانوا لا يدخرونها تربية، وإقامة وشفقة، وإحسانا، واختيار مصير، عند إرادة تزويجها، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء، بيد أنهم كانوا مع ذلك لا يرون لها حقا في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها، ولا بطلب ما لها منهم، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ [النساء: 127] وقال: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232] فحدد الله لمعاملات النساء حدودا، وشرع لهن أحكاما، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة، ثم فصلتها الشريعة تفصيلا، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام أو الفضائل، وعطف النساء على الرجال.

36. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الباء للملابسة، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة، المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصا أو قياسا، أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة، التي ليس في الشرع ما يعارضها، والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين، في مختلف العصور والأقطار، فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح، قد سلبها حق المماثلة للابن، فدخل ذلك تحت الدرجة، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلّا برضاها قد أثبت لها حق المماثلة للذكر، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلاثها إلّا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها حق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق، وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر، وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة، أو من تفرقة، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ قطعا أو ظنا فكونوا من ذلك بمحل التيقظ، وخذوا بالمعنى دون التلفظ.

37. دين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني، والمربية الأولى، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها، والتي تصادف عقولا لم تمسها وسائل الشر، وقلوبا لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان، فإذا كانت تلك التربية خيرا، وصدقا، وصوابا، وحقا، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة، فهيأت لأمثالها، من خواطر الخير، منزلا رحبا، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حبا، ودين الإسلام دين تشريع ونظام، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام، إلى الارتقاء وسيادة العالم.

38. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ مطردة، ولزيادة بيان المراد من قوله‏ ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية.

39. ﴿لِلرِّجَالِ﴾ خبر عن (درجة)، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 34] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعا في الجاهلية، والرجال جمع رجل، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة، وأما قولهم: امرأة رجلة الرّأي، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل.

40. الدرجة ما يرتقى عليه في سلم أو نحوه، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء ومهل، يقال: درج الصبي، إذا ابتدأ في المشي، وهي هنا استعارة للرفعة المكنّى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل: دركة، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه، والعبرة بالمقصد الأول، فإن كان المقصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة، ولا عبرة بنزول الصاعد وصعود النازل.

41. هذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى، وأقوى جسما وعزما، وعن إرادته يكون الصدر، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف، وتفوق بعض أفراد الآخر نادرا، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية، لأن واضع الأمرين واحد.

42. هذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم: من الإذن بتعدد الزوجة للرجل، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر، ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة، والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة، ولأنه مظنة الصواب غالبا، ولذلك إذا لم يمكن التراجع، واشتد بين الزوجين النزاع، لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ [النساء: 35]

43. يؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج بلحن الخطاب، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما أسست الآية حكم المساواة والتفضيل، بين الرجال والنساء الأزواج إبطالا لعمل الجاهلية، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء، كالجهاد وذلك مما اقتضته القوة الجسدية، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة، والتفضيل في باب العدالة، وولاية النكاح والرعاية، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه، وإنما عدت هذه درجة، مع أن للنساء أحكاما لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: 32] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل، فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعيا لأحوال طبقات الناس، مع احتمال أن يكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ [النساء: 34] أن ذلك يجريه ولاة الأمور، ولنا فيه نظر عندما نصل إليه إن شاء الله تعالى.

44. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ العزيز: القوى، لأن العزة في كلام العرب القوة ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: 8] وقال شاعرهم: (وإنما العزة للكاثر)، والحكيم: المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم، والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظا، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرها، إن أبوا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلما لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا يتقي أحدا، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/370

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أشارت الآيات السابقة إلى أمثل السبل لاختيار الزوج، وهو أن يكون أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق، لا المال والنسب، ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ [البقرة]، ثم أشارت الآيات أيضا إلى حسن العشرة الواجبة، ولطف المودة الواصلة، وبينت أن العلاقة بين الزوجين طهر لا دنس فيه، ونظافة لا رجس معها يستوى في ذلك الحس والمعنى، والمخبر والمظهر، وأوجبت أن تكون العلاقة قائمة على العدل من غير ضرار ولا ظلم، وبينت الحكم في الظلم الواقع إن استمر عليه مرتكبه، ووثق إصراره بيمين يحلفها، وذكرت أن القطع في هذه الحال أولى من الوصل، والإنهاء أولى من البقاء لأن بقاء الحياة الزوجية في هذه الحال استمرارا للظلم، وبقاء للإثم، ولا منفعة ترجى، ولا جدوى تلتمس؛ ولذلك قرر الله سبحانه وتعالى حكمه الصارم وهو الطلاق القاطع لهذا الظلم المستمر، ولقد بينت بعد ذلك هذه الآية الكريمة التي تلوناها، والتي سنتكلم في معناها حكم الطلاق، وفصلت أحواله ومراته الآيات من بعدها.

2. قبل أن نخوض في معنى هذه الآية الكريمة، والإشارة إلى دقائق ألفاظها ومعانيها، نقرر أن شريعة القرآن شرعت الزواج عقدا أبديا في أصل شرعته؛ لأنه شرع لمعان وأغراض لا تتحقق إلا مع البقاء والدوام، فقد شرع لإقامة الأسرة، وتنظيم الحياة بين الرجل والمرأة، وإنجاب النسل، والقيام على تربيته وتهذيبه والسير به في مدارج الحياة، وتلك أغراض لا تكون على الوجه الأكمل إلا إذا استمرت الحياة الزوجية موصولة موثقة بروابط من المودة والأخلاق والشرع إلى أن يقضى الله قضاءه، ذلك حكم الشرع، وهو سنة الوجود، وهو أكثر أحوال الزواج بين بنى الإنسان، لا يختلف في ذلك شرقي عن غربي ولا مسلم عن مسيحي.

3. الإسلام هو دين المبادئ السامية، يبين المثل العليا ويدعو الناس إليها، فهو يشير إلى المثل السامي في الزواج في مثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم‏] وبقوله سبحانه وتعالى في العلاقة الزوجية: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة]

4. لكن الإسلام مع دعوته إلى تلك المثل العالية في العلاقة الزوجية يعترف بالحقائق الواقعة ويعالجها، ويطب لها، ليأخذ النفوس إلى السير في طريق الكمال، فإن عجزت أو انبتّت في الطريق عالج ذلك العجز، وكذلك عالج الأمر في شأن الزواج فشرعه أبديا، ولكن الشرط في استمراره أن يكون الوداد هو الرابطة الواصلة، وأن تلك الرابطة قد تتقطع أسبابها وتنفر القلوب بعد مودتها، وتنفصم عروتها، فهل يبقى المثل السامي للزواج وهو الاستمرار ولا يلتفت إلى النفرة المستحكمة والعداوة المسيطرة، ونيران البغضاء الملتهبة؟ لذلك اتجه الإسلام إلى علاج تلك الأدواء القائمة والطب لها، فلم يكتف بالمثل العليا يعلنها ويدعو إليها، بل اعترف بالواقع وعالجه، وطب للأسقام، فكان دين الحقائق الثابتة، والسمو النفسي.

5. النزاع بين الزوجين أمر يقع، مهما يكن الزوجان، ومهما تكن درجة كمالهما، وقد كان نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يختلفن معه في الشأن الذي يربط بينهما، بمطالبته بما ليس عنده، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة لقومه وأمته في أخلاقه ومعاملته لأهله، في الغضب والرضا، وفى الوفاق وفى الخلاف، ولكن أنى يكون للناس أخلاق النبيين، والوحى ينزل عليهم من السماء، ونفوسهم علت إلى الملكوت الأعلى ولقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)

6. دعا الإسلام إلى إصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة بينهما تسير في غير طريق المودة:

أ. ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء]

ب. ودعا الزوجين من له بهما صلة أن يتدخلوا عند الشقاق بينهما أو عند خوفه، بأن يحكموا حكمين عند خوف الشقاق وتوقع النزاع؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء]

ج. وإذا تعذر الإصلاح ولم يمكن التوفيق وصار الأمر نيرانا، ولم يكن سلاما كان لا بد من التفريق؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء]،

7. لا بد إذن من التفريق بينهما؛ لأن عقد الزواج أصبح غير صالح للبقاء، ولكن من الذي يملك التفريق؟ لا شك أنهما إن اتفقا عليه وقع الطلاق، ولا ضير في ذلك ما دام لم يكن في نوبة غضب جامحة، ولم يكن لأمر عارض، فيجب الاحتياط لذلك ما أمكن الاحتياط، هذا إذا لم يتفقا فهل يقع الطلاق بإرادة منفردة من غير حكم قضائي؟ لقد قال بعض الذين يظنون أن في ذلك صلاحا أنهما إن لم يتفقا على الطلاق لا يقع إلا بأمر القضاء، وإن ذلك القول له وجهته لو كانت كل أمور الأسرة يجرى فيها التقاضى، ويسوغ فيها الإعلان، وأن تتكشف أسرارها بين الناس، ولكن الأمور بين الزوجين لا تجرى فيها البينات، وهى مستورة بستر الله لا يسوغ إعلانها، وليس من مصلحة المجتمع إظهار العيوب الخاصة فيها، وهب السبب المسوغ للطلاق هو النفرة الشديدة فكيف يمكن إثباتها؟ إنها لا تعرف إلا من صاحبها؛ لذلك لم يكن الطلاق في الإسلام في عامة أحواله بيد القضاء، بل جرى الأمر فيه على أن يكون بيد الزوج إن كان هو الراغب، وبيد القضاء إن كانت هي الراغبة فيه.

8. سؤال وإشكال: لماذا كان بيد الزوج مطلقا وبيد الأخرى مقيدا؟ والجواب: أن الزوج تكلف في سبيل الزواج ما لا كثيرا، وسيعقب الطلاق تكليفات مالية أخرى، فوق ما يحمله الزواج الجديد من أعباء جديدة، فكل هذا يدفعه إلى التأني والتروي فلا يندفع وراء هوى جامح إلا إذا إيفت مشاعره، وفسدت مداركه، أما المرأة فعكس ذلك، فلو كان الطلاق بيدها من غير تدخل قضاء لاندفعت وراء هواها جامحة، ولكان في ذلك ظلم شديد على الرجل بضياع ماله، وتكليفه بأعباء مالية جديدة فكان لا بد أن يتدخل القضاء ليعرف أكان‏ الزوج ظالما فيذوق وبال أمره بضياع ماله، وهدم الحياة الزوجية التي أقامها على الظلم، أو ليعرف أن الزوجة ظالمة بالنشوز فيقضى بالطلاق، ويكلفها المغارم المالية التي غرمها الزوج في سبيل الزواج كما هو مذهب مالك؟ وليس السبيل لمعرفة الحق في الأمر هو الإثبات بالبينات فقط، إنما هو الإثبات بتحكيم الحكمين من أهلها وأهله.

9. سؤال وإشكال: ألا يخشى ألا تكون النفرة مستحكمة، ويطلق الزوج لنوبة غضب جامحة، وتحت تأثير هوج ليست فيه إرادة مستقيمة؟ والجواب: احتاط الشارع الإسلامي لأمر ذلك الغضب في الطلاق بأحكام شرعها قبل الطلاق وبعده:

أ. فهو أولا: فرض أمر الحكمين والإصلاح ما أمكن الإصلاح إذا كان شقاق بين الزوجين كما أشرنا من قبل.

ب. وأوجب ثانيا: أن يكون الطلاق في وقت لا تكون المرأة فيه على حال تسوغ النفرة، إلا إذا كانت مستحكمة، فمنع الطلاق في حال الحيض ومنع الطلاق في الطهر الذي دخل بها فيه، وظواهر السنة أن يكون الطلاق في هذه الأحوال باطلا.

ج. واحتاط الشارع الإسلامي ثالثا بالنسبة للزوج المدخول بها وهى التي قامت معها الحياة الزوجية فعلا، فلم يسوغ أن يكون الطلاق في هذه الحال باتا، فلم يسوغه إلا واحدة، ولم يسوغه إلا رجعيا في أثناء العدة.

د. واحتاط الشارع رابعا: فجعل للزوج الحق في مراجعة زوجته من غير عقد جديد ولا مهر جديد مدة طويلة تقارب نحو ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة الطويلة، مع الإصرار والباب مفتوح وتدخل أهل الخير بينهما محتمل، فإن ذلك يكون دليلا على استحكام النفرة، وإن القلوب قد تشعب ودها، ولم يعد من الصالح بقاء الحياة الزوجية في ظلها.

هـ. واحتاط الشارع الإسلامي خامسا فسوغ لهما أن يستأنفا حياة زوجية جديدة، إن عادت القلوب النافرة، واستقامت على الحق، وندم كل واحد على ما فرط منه في جنب صاحبه.

و. فإن تكرر الطلاق من بعد، تكررت الاحتياطات السابقة، فإن كانت الثالثة فهي التحريم المؤقت، حتى تكون التجربة القاسية بزواجها من رجل آخر زواجا صحيحا للدوام والبقاء وقيام العشرة الزوجية الجديدة ثم انتهائها بأي سبب من أسباب الإنهاء الشرعية الصحيحة، فإنها بعد ذلك تحل لزوجها الأول، وقد صقلته التجربة وصقله البعد، والله عليم بذات الصدور.

10. سقنا هذا القول في مقدمة تفسير هذه الآيات الكريمة المشتملة على أحكام الطلاق؛ لأن ذلك القول خلاصتها، وهو مرماها، ولنضع الأحجار في أفواه الذين يعيبون أحكام الطلاق في القرآن، وهى أحكام قد اشتقت من الفطرة وطبيعة الحياة الزوجية، والاحتياط لها ما أمكن الاحتياط ولم يكن شيء منها معروفا من قبل، ولم يصل العقل البشرى لأدق منها وأحكم من بعد؛ إنها شريعة اللطيف الخبير.

11. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ التربص معناه: التأني والانتظار، وقد قال بعض العلماء أنه مقلوب التصبر، فهو تكلف الأناة، وتكلف الانتظار مع صعوبة الاحتمال، كما هو الشأن في أمر الصبر والتصبر، وسواء أصح ذلك القول أم لم يصح، فالتصبر والتربص متلاقيان في المعنى، ومتشابهان في اللفظ.

12. التعبير ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ يدل على الأمر، وهو الطلب اللازم المؤكد، وإن كانت الصيغة في ظاهرها صيغة خبرية، وقد قرر الخبراء بالبيان العربي أن أوكد الصيغ دلالة على اللزوم الموثق: الصيغ الخبرية التي تساق للطلب، مثل‏ ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة]، ومثل هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها.

13. سؤال وإشكال: مع ذلك لماذا كان النسق البيانى‏ السامي في أن يجيء الأمر في هذا المقام بتلك الصيغة الخبرية، فيكون معنى يتربصن: ليتربصن؟ والجواب: من عدة وجوه:

أ. أولها: الإشارة إلى أن ذلك التربص يجب أن يكون من ذات نفس المطلقة، لأنه هو الذي يليق بكرامتها، ويتفق مع فطرتها، فإن كانت الرغبة تدفعها إلى الزواج العاجل السريع إن كان الزوج الجديد كفئا، فإن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، فلا يليق بالحرة الكريمة أن تنتقل بين الأزواج انتقالا سريعا، لَا فاصل فيه بين الزوجين.

ب. ثانيها: أن نداء الفطرة يوجب عليها الانتظار لتستبرئ رحمها، حتى إذا كان حمل نسب لأبيه ولا يتنازعه الأزواج، فهن إذا انتظرن وامتنعن عن الزواج هذه المدة فكأن ذلك من أنفسهن لَا من أمر فوقهن، وكأن ذلك إلزام الفطرة قبل أن يكون إلزام الشرع.

ج. ثالثها: الإشارة إلى أن الأمر بالتربص أجيب وحصل التربص فعلا، فالتعبير بصيغة الخبر إشارة إلى الأمر والتنفيذ معا.

14. من أبلغ الإشارات السامية الإتيان بكلمة ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ في الإلزام بالتربص، فإن فيها الإشارة إلى ما في معنى التربص من الصيانة لأنفسهن عن الابتذال والاحتفاظ بكرامتهن، ولقد قال الزمخشري في ذكر (الأنفس) تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص، ولما ذا كانت تلك الإشارات المتعددة على المرأة؟ لأن التربص لا يعرف إلا من جانبها، فمداه لا يعرف إلا منها، فكان ذلك التشديد النفسي، لتتغلب على أهوائها ولا تقول إلا حقا.

15. كانت مدة التربص بحكم القرآن الكريم هي ثلاثة قروء، والقروء جمع قرء، بضم القاف وفتحها، وقد اتفق علماء اللغة على أن كلمة القرء تطلق على الحيضة وعلى المرة من الطهر الذي يكون بين الحيضتين، وأصل معنى القرء بمعنى الجمع عند بعض علماء اللغة، ووافقهم الشافعي ولكن خالف في ذلك أبو عمر ابن عبد البر، وقال: أن القرء مهموز لا مقصور، والذى يكون بمعنى الجمع مأخوذ من قريت لا من قرأت، ولكن علماء اللغة على غير ما قاله ابن عبد البر.

16. القرء كما يطلق في أصل معناه على الجمع، يطلق على الانتقال والخروج من حال إلى حال، فيطلق على الانتقال من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض، ويطلق القرء أيضا بمعنى الوقت، وهو المعنى الذي جرى فيه الاشتراك وهو وقت الطهر، أو وقت الحيض، هذا هو الأصل اللغوي لكلمة (قرء)، وقد اتفق علماء اللغة على أنه يجوز إطلاقه على مدة الحيضة، وعلى مدة الطهر، ولكن اختلف مفسر والسلف في المراد بالقرء في الآية: أهو مدة الطهر بين الحيضتين، أم هو مدة الحيضة؟

أ. فعمر وعلى وابن مسعود وأبو موسى الأشعري، ومجاهد وقتادة وعكرمة والسدى وغيرهم على أن المراد في الآية مدة الحيضة، وبهذا أخذ فقهاء العراق، وعلى رأسهم أبو حنيفة، ثم جاء على ذلك الرأي من بعد أحمد بن حنبل.

ب. وقالت عائشة، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري وغيرهم: إن المراد بالقرء مدة الطهر بين الحيضتين، وبهذا أخذ فقهاء الحجاز، وعلى رأسهم إمام دار الهجرة مالك، ثم جاء من بعده الشافعي ونهج هذا المنهاج.

17. حاول كل واحد من الفريقين المختلفين من الفقهاء، أن يلتمس من آي القرآن ومن السنة ما يؤيد مذهبه، ويوضح تفسيره، وقد استدلّ الحنفية والحنابلة في تفسير القرء بالحيضة بأدلة، منها:

أ. أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فسر القرء بمعنى الحيض، وذكر ذلك في عدة مواضع، فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، ولا شك أن المراد في هذا الحديث الحيض؛ لأنه الذي تفسد الصلاة فيه، وأيضا فإن فاطمة بنت أبى حبيش فشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الدم فقال لها صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما ذلك عرق، فانظري إذا أتى قرؤك؛ فلا تصلى، وإذا مر القرء فتطهري ثم صلى من القرء إلى القرء)، وفوق ذلك فقد قدر عمر على جمع من الصحابة ووافقوه ولم يعرف لهم مخالف عدة الأمة بالحيض دليلا على أنهم فهموا القرء حيضة؛ لأن عدة الأمة من جنس عدة الحرة، وإن كانت نصفها، فكان لا بد أن يكون المراد من القرء من الآية الحيض في نظرهم.

ب. وإن الدليل على أن المراد بالقرء في تقدير العدة هو الحيض لا الطهر أن القرآن الكريم جعل الأساس في تقدير العدة بالأقراء كون المعتدة حائضا أو غير حائض، فكان الأساس هو الحيض، فقد قال تعالى: واللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.. [الطلاق‏] وإذا كان الحيض هو الأساس في تقدير الأقراء، فلا بد أن تكون الأقراء هي الحيضات.

ج. وإن الغرض الأول من العدة لا يتحقق إلا بالحيض؛ لأن الغرض براءة الرحم، وذلك لا يتحقق إلا بالحيض، ولأن الحيض هو الأساس للطهر الذي يتخلل الحيضتين، فكأن الأنسب للسياق البياني أن تقدر العدة بالحيضات لا بالأطهار التي تتخللها، وفوق هذا أننا لو قدرناها بالأطهار لكانت العدة دون الثلاثة إن احتسبنا الطهر الذي حصل فيه، وتكون أكثر من الثلاثة إن لم تحتسبه، وإن احتسبنا الأقراء بالحيضات كانت الأقراء ثلاثة ما دام هو طلاق السنة الذي لا يكون إلا في طهر، وهو المفروض شرعا، ثم فوق كل ذلك إن الذي يتفق مع معنى الجمع الذي هو في معنى القرء هو الحيض؛ لأنه دليل الامتلاء والاجتماع الكامل، فهو الفيض بعد أن امتلأ الإناء.

هذه حجج الحنفية والحنابلة الذين قرروا أن القرء هو الحيض في الآية: وأن العدة تقدر بالحيضات، لا بالأطهار التي تتخللها.

18. أما الشافعية والمالكية ومن سلك مسلكهم، فقد قالوا في الأحاديث السابقة إنها إن صحت تكون دليلا على أن الحيض تطلق عليه كلمة قرء، ولا مشاحة في ذلك وليست دليلا على أنه المراد في الآية الكريمة، وأما قول عمر إن عدة الأمة حيضتان، فهو سير على رأيه في تفسير القرء بالحيضة، ولا يدفع رأى صحابي برأي صحابي مثله بل يختار أقواهما، والاستدلال بآية ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ [الطلاق‏] لا ينتج؛ لأن الأقراء إذا فسرت بالطهر لا تكون إلا لذات الحيض، إذ هو فاصل بين حيضتين، وقد استدلّ لهؤلاء الذين فسروا الأقراء بالأطهار بأدلة من الكتاب والسنة واللغة والرأي:

أ. أما الكتاب والسنة فقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق‏] وقد وردت السنة بأن الطلاق لا يكون في الحيض، ولا يتصور أن يكون الطلاق في العدة مع نهى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن الطلاق في الحيض إلا إذا فسرنا القرء بالطهر لا بالحيض.

ب. وأما استدلالهم باللغة والرأي، فلأن القرء معناه الجمع، يتم في الطهر لا في الحيض؛ لأن الحيض، مؤداه أن يرخى الرحم فيخرج الدم، فهو تفريغ لا جمع، والجمع في الطهر، ولأن القرء معناه في اللغة الانتقال، فيكون المطلوب ثلاثة انتقالات، وهى الانتقال من الطهر إلى الحيض، ثم من الحيض إلى الطهر، ثم من الطهر إلى الحيض وبه تتم العدة، وذلك يقتضى أمرين:

أولهما: أن يفسر القرء بالأطهار؛ لأنها التي بها تتحقق الانتقالات الثلاثة، ولا يفسر بالحيضات؛ لأن بها تتحقق انتقالات أربعة لا ثلاثة.

الثاني: أنه يحتسب من الأطهار الثلاثة الطهر الذي حصلت فيه الطلقة.

19. فى الحق أننا بعد ذلك الاستدلال الطويل نميل إلى رأى عمر وعلى وابن مسعود، وهو رأى الحنفية؛ لأن الأساس في تقدير العدة بالاتفاق هو الحيض، سواء أفسرنا القرء بالطهر أم بالحيضة؛ لأن الطهر زمن بين حيضتين، والمناسب أن يكون الحيض هو وحدة التقدير؛ لأنه الأمر الإيجابي في المقام، والطهر أمر سلبى، ولأنه المناط المفرق بين الحامل وغير الحامل، والمفرق بين العدة بالأشهر، والعدة بالأقراء.

قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ خاص بالمعتدات من المطلقات ذوات الحيض غير الحوامل، أما غير المطلقات وهن المتوفى عنهن أزواجهن فقد بينت عدتهن بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة]، وأما الحوامل فقد بينت عدتهن بقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق‏]، ومن لا يحضن ليأس من الحيض، أو لأنهن لم يرين الحيض، فقد ثبتت عدتهن بقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق‏]

20. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ أودع الله أحشاء المرأة أمانات ناط بها أحكاما، فكانت الأمينة على تلك الأحكام كما كانت الأمينة بمقتضى نظام الله في الكون، على الأنساب والأولاد، وبمقدار عظم الأمانة كان عظم التكليف؛ لذلك قرر سبحانه وتعالى أنه لا يحل لهن أن يكتمن أمانة الله التي خلقها في أرحامهن من ولد لينسبنه إلى غير أبيه، فإن ذلك خيانة للأمانة وكذب على الله، وافتراء على الحق، وكذلك لا يكتمن ما خلق في أرحامهن من دم تلفظه الأرحام بعد أن خلقه الله سبحانه وتعالى فيها، وذلك لتطول العدة ويمتد الإنفاق، كما كان يفعل ذلك كثيرات من نساء هذا العصر، مما اضطر الحكومة أن تمنع سماع دعوى نفقة المعتدة لأكثر من سنة ميلادية، ولا يزلن مع ذلك يكتمن ما خلق الله في أرحامهن!.

21. عبر الله سبحانه وتعالى عن الدم والولد بأنه ما ﴿خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ للإشارة إلى أن الكتمان كذب على الله، ونفى لخلقه وتكوينه، وفى ذلك مضاعفة الجرم وعظم الإثم، وذلك فوق أن هذا التعبير عام شامل كامل لموضوعي الإنكار والكتمان وهما الحمل والحيض.

22. قرن سبحانه وتعالى النهى عن الكتمان بقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ للحث على عدم الكتمان، والإخبار بما خلق الله، لتستقيم الأحكام، وتتقرر الحقوق، وفي ذلك تعظيم لأمر الكتمان، بأنه ينافي الإيمان، لأن الإيمان يبعث على الصدق، ويدعو إلى المحافظة على الأمانة، وليس من المحافظة على أمانة الله ووديعته جحودها وكتمانها، وما ترتب على ذلك من ضياع الحقوق التي تعلقت بها، والاستهانة بأحكام الله سبحانه وتعالى التي ناطها بها، وأي مؤمنة ترضي لنفسها أن تعاند أحكام الله، وتخون أمانته، وتجحد وديعته!.. وفوق ذلك في هذه الجملة السامية تهديد ووعيد، باليوم الآخر، وما يكون فيه من عذاب شديد، ثم ما يكون فيه من إظهار ما كتم، وكشف ما أسر، وإظهار ما أخفى.

23. قرر الفقهاء مجتمعين أن القول قول المرأة في الإخبار عن عدتها، ابتداء وانتهاء، ولكن قرروا مع ذلك أمدا ينته للكتب الفقهية، فإننا لا نمس من أقوال الفقهاء إلا ما له صلة بفهم ألفاظ القرآن الكريم والله سبحانه وتعالى بكل شيء محيط.

24. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ في هذه الجملة السامية بيان لبعض المقاصد الشرعية التي أرادها الشارع الحكيم من شرعية العدة، وهو أن يكون لدى المطلق فرصة مراجعة نفسه، بعد أن تكون قد ذهبت عنه نوبة الألم التي أدت إلى الفراق، وقد تكون سحابة صيف تقشعت، وعارضا قد زال، وفى هذا بيان لعلاج الله سبحانه وتعالى لنفوس المطيقين، إذ جعل لهم وقت التربص من جانب المرأة، وقت تروية وتدبر من جانب الرجل، وفرصة لائحة لمن يريد الإصلاح من الأهل والعشيرة، وكل من يهمهم أمر الزوجين، وما كان بينهما من ثمرة لهذا الزواج، والبعولة هم الأزواج، قال فيه الزمخشري إنه جمع بعل على وزن فعول، ولكن ألحقت به التاء، وجوز أن تكون مصدرا على وزن فعولة أريد به الجمع، أو يكون الكلام على حذف مضاف تقديره أهل بعولة.

25. تسمية المطلق بعلا، بعد أن أوقع الطلاق فعلا، دليل على أن الطلاق الرجعى الذي تجوز فيه المراجعة لا تنفصم به عرى الزوجية، بل تستمر قائمة، ويعتبر المطلق زوجا، وتعتبر المطلقة زوجا أيضا، وكذا يتوارثان إذا مات أحدهما والعدة قائمة.

26. فى اعتبار كل مطلقة زوجة إذا كان الطلاق الأول أو الثاني وهى ذات عدة ما دام الطلاق من غير فداء بالمال ـ إشارة إلى أن الطلاق الأول والثاني رجعى دائما ما دام إلى عدة، ومن غير فداء، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء، فقد قرروا أن ذلك حكم الشارع، وأنه لا يسوغ للمطلق أن يجعل بائنا ما اعتبره الشارع رجعيا، وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: إنه يسوغ للمطلق أن يجعل الطلاق بائنا ولو كان بعد الدخول ودون الثالثة ومن غير فداء؛ لأن الرجعة حقه فله أن يسقطها، لكن الجمهور يرون أن الشارع الذي أعطى الزوج حق الطلاق هو الذي قيد ذلك التقييد فالرجعة ليست حقا مطلقا للزوج ولكنها فرصة، وقيد في الطلاق، فلا يرفع القيد، ولا يزيل الرخصة التي رخصها الله سبحانه وتعالى له، ونظم بها أمر الطلاق، ولكنه يستطيع ألا ينتفع بها من غير أن يسقطها، فإنها لتدارك ما فاته، إن جمحت به نفسه، فنطق بالطلاق ثم تبين خطؤه.

27. تسمية المطلق زوجا أو بعلا فهم منه فقهاء الحنفية أن الطلاق الرجعى لا يزيل الحقوق الزوجية ما دامت العدة قائمة، والتربص فيها لازما؛ ولذلك لا يعتبرون الرجعة إعادة للزواج، أو في معنى إنشائه، بل يعتبرونها استدامة لأحكام الزواج واستمرارا له؛ لأنه لم يزل ما دامت العدة قائمة؛ ولذلك لا يعتبرون الدخول بها حراما قبل النطق بالرجعة، ويعتبرون الدخول نفسه رجعة، وفهموا أن الرد في قوله تعالى: ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ معناه الاستدامة والاستمرار على أحكام الزواج، لكن الشافعية فهموا أن الرجعة ليست استدامة لأحكام الزواج، ولكنها إعادة له؛ ولذا لم يسوغوا الدخول قبل النطق بالرجعة، والدخول لا يعتبر رجعة لأنه قبل النطق بها حرام، والحرام لا يكون سببا لنعمة الحلال.

28. الرجعة عمل من جانب الزوج وحده، وليس فيها مهر جديد، ولا تعتبر عقدا يحتاج إلى رضا المرأة، وقد اشترط بعض الشافعية والحنابلة الإشهاد عليها لقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق‏] وكان ذلك القول الكريم بعد بيان الطلاق والرجعة، والحنفية استحسنوا الشهادة في الرجعة القولية ولم يوجبوها.

29. قيد الله سبحانه وتعالى جواز الرجعة بقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ أي أن الرجل لا يسوغ له أن يفكر في الرجعة إلا إذا حاول إصلاح حاله، وتقويم معوج نفسه، وحملها على الاستقامة في المعاملة، والعمل على خير الأسرة، وإبعاد الغضب عن أن يكون حكما في الحياة الزوجية، كما يحاول أخذ زوجه بالرفق، والتقويم بالموعظة الحسنة، وتقريبها بالمودة الواصلة، مع الإرشاد الحكيم، والإعراض عن البهتان، وتجنيبها الزلات، وسياسة الأسرة على أسس قويمة من الرحمة ولطف العشرة، والحزم الصادق، من غير إرهاق، ومن غير إعنات.

30. إن راجع الرجل زوجه وهو على هذه النية فقد اختار الطريقة المثلى، وسيكون التوفيق من الله، وإن راجعها في نوبة رضا غير مدركة، ولم يفكر في الأمر فعسى الله أن يحدث أمرا، وإن راجعها على نية الكيد والأذى والمضارة فهو إثم عند الله، والله عزيز حكيم.

31. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ هذا هو القانون العادل الشامل، نطق به القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، وقد شرعه الإسلام في وقت لم يعترف أي قانون من قوانين العالم بأن للمرأة أي حق من حقوق، وفرضت عليها القوانين في العصور الغابرة كل الواجبات، فجاء الإسلام ووضع تلك القاعدة العادلة، وهى أن الحقوق يجب أن تكون متكافئة مع الواجبات، فما على الإنسان من واجبات يكافئ ماله من حقوق، وما من حق إلا تعلق به واجب، فإذا كان للرجل سلطان في البيت وعلى المرأة واجب الطاعة، فلها حق، وهو العدل.. وإذا كانت المرأة قارة في البيت قائمة بشئونه، وفرض عليها ذلك الواجب فلها حق الإنفاق.. وإذا كان عليها أن تعد البيت إعدادا حسنا بمقتضى العرف فلها حق المهر.. وإذا كان عليها أن تؤنس زوجها، فعليه ألا يوحشها، وقد أدرك ذلك المعنى الجليل، وهو التساوي بين الحقوق والواجبات الصحابة الأولون، حتى أن ابن عباس كان يقول: (إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي)

32. التساوي بين الحقوق والواجبات ليس مقصورا على ما بين الرجل والمرأة، بل إنه قانون شامل سنه الإسلام وأيده العقل، وبه يقوم العدل، فقد جعل الواجب على المرء بمقدار ما له من حق، وعلى هذا السنن المستقيم جعل الإسلام عقوبة العبد نصف عقوبة الحر؛ لأن الرق الذي أسقط بعض حقوق الآدمية، أسقط أيضا بعض واجباتها.

33. ليس معنى أن الواجبات على المرأة مساوية للحقوق التي لها على الرجل أن المرأة مساوية للرجل من كل الوجوه، فإن الإسلام قرر فقط تساوى الحقوق والواجبات، بالنسبة لها وليس لذلك علاقة بشأن المساواة بينها وبين الرجل في نوع‏ الحقوق والواجبات، ولكى لا يفهم أحد هذا المعنى قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فالرجل ليس مساويا للمرأة، وليست المرأة مساوية الرجل؛ لأن قانون المساواة يوجب أولا تحقق المماثلة، ومن البداهة أنه لا مماثلة بينهما، فهما وإن كانا من جنس واحد إلا أنهما نوعان متقابلان غير متماثلين، وإن كان كلاهما متمما للآخر، ومن ازدواجهما يتكامل النوع الإنساني ويسير في مدارج الكمال.

34. إذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين، فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة، ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين، وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة فوجد الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه، فجعل له الرئاسة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء]، هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهى درجة تجعل له حقوقا، وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر النص الكريم فإذا كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب.

35. يلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قيد المماثلة بين حقوق المرأة وواجباتها بالمعروف، كما قيدها بما للرجال من درجة تضاعف واجباتهم، والتقييد بالمعروف معناه التقييد بالأمر الذي لا تستنكره العقول، بل تقره وترضاه، ويتعارفه العقلاء، فلا يطالب الرجل بخدمة البيت كما تطالب بها المرأة، فعلى المرأة أن تقوم بواجباتها، وتطالب بحقوقها بالنسبة لنفسها ولأولادها في دائرة العقل، والعرف المستمد من قضايا الحق والعدل، وألف العقول والفضلاء؛ لأنه لا يستقيم أمر الأسرة بغير ذلك التقييد العادل، وذلك التوزيع الحكيم.

36. ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وفى ذلك دلالة على ثلاثة أمور:

أ. أولها ـ أن تلك المماثلة بين الحقوق والواجبات في الحقوق الزوجية بل في كل شئون الاجتماع الإنساني هي مقتضى الحكمة الإلهية والعدل الربانى، وإن ذلك أقصى ما تصل إليه المعاملة الإنسانية من سمو.

ب. ثانيها ـ إن الله سبحانه وتعالى القاهر القادر العزيز هو الذي أعز المرأة بعد ذلها، وأعطاها حقوقها بعد هضمها، وليس لها أن تطلب العزة من غير شرع الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، وقد أعلاها بعد خفض، وكرمها بعد المهانة، فما يسوغ لامرأة مسلمة من بعد أن تتمرد على حكم العزيز الحكيم، وإن حكمته اقترنت بعزته، فما للرجل من درجة هو مقتضى الحكمة، والله بكل شيء محيط.

ج. ثالثها ـ إشعار الرجل بأن الله فوقه، وهو القادر القوى الغالب، وهو المعز المذل، الحكم العدل اللطيف الخبير، فإن تجاوز الرجل شرعه، وعدا ما حده له الكبير المتعال، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وناله عقابه وحرم من ثوابه.

37. تلك شريعة الله العادلة، فليتدبرها الذين يشتطون في القول والعمل، وليعلموا أن القرآن أول صوت سجل حقوق المرأة المعقولة كاملة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق‏]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/755

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، لفظ المطلقات عام يشمل بظاهره كل زوجة وقع عليها الطلاق، آيسة كانت، أو غير آيسة، حرة أو مملوكة، حاملا أو حائلا، مدخولا بها أولا، كبيرة أو صغيرة دون التسع.. لكن هذا الظاهر غير مراد بالاتفاق، لأن بعض المطلقات لا عدة عليها بنص القرآن، وهي التي لم يدخل بها الزوج، قال تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾، ومنها الآيسة، فقد ذهب أكثر فقهاء الشيعة الإمامية الى انه لا عدة عليها، وإن كان قد دخل بها الزوج، وكذلك الصغيرة دون التسع، وأيضا من المطلقات من تعتد بقرئين كالأمة المملوكة، وأيضا منهن من تعتد بثلاثة أشهر، لا بثلاثة قروء، وهي الشابة في سن من تحيض ولا تحيض، كما ان الحامل تعتد بوضع الحمل، قال تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾

2. على هذا يكون المراد بالمطلقات في الآية من دخل بها الزوج بعد أن أكملت التسع، ولم تكن حاملا، ولا آيسة، وكانت من ذوات الحيض.. وقد فسر الإمامية والمالكية والشافعية القرء بالطهر، والمراد بالطهر أيام النقاء بين الحيضتين، فإذا طلقها في آخر لحظة من طهرها احتسب من العدة، وأكملت بعده طهرين، أما الحنفية والحنابلة فقد فسروا القرء بالحيض، وعليه فلا بد من ثلاث حيضات بعد الطلاق.

3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، وفهم هذه الجملة على حقيقتها يتوقف على التمهيد بما يلي: قسّم فقهاء السنة الطلاق إلى قسمين: سنة وبدعة.. ونترك تفسير طلاق السنة، وطلاق البدعة إلى فقهاء السنة أنفسهم، فلقد جاء في كتاب المغني لابن قدامة ما نصه بالحرف: (معنى طلاق السنة الطلاق الذي وافق أمر الله، وأمر رسوله، وهو الطلاق في طهر لم يصبها فيه)، وقال: (ان طلاق البدعة هو أن يطلقها حائضا، أو في طهر أصابها فيه)، وقال الرازي في تفسير الآية 1 من سورة الطلاق: (فالطلاق حال الطهر لازم، وإلا لا يكون سنيا)، وعلى هذا يكون طلاق الزوجة في حال الحيض، أو في طهر واقعها الزوج فيه طلاقا غير شرعي، بل هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما طلاقها في طهر لم يواقعها فيه فهو على سنة الله ورسوله.

4. بهذا يتضح السر في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الطهر والحيض، لأن معرفة وقوع الطلاق على سنة الله ورسوله، أو على البدعة والضلالة تتوقف على معرفة حال المطلقة، وانها هل هي طاهر أو حائض.. وبديهة ان السبيل إلى معرفة هذين الوصفين، وهما الطهر والحيض منحصر بالمرأة، ولا وسيلة للمعرفة بالوصفين إلا هي بالذات، ولذا تصدق فيهما ما لم يعلم كذبها، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: فوض الله الى النساء ثلاثة أشياء: الطهر والحيض والحمل، وفي رواية ثانية والعدة.

5. الشيعة يتفقون مع السنة على أن الطلاق إذا وقع في الحيض، أو في طهر واقعها فيه يكون بدعة، وإذا وقع في طهر لم يواقعها فيه يكون على سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكن الشيعة قالوا: ان طلاق البدعة فاسد لا يقع من الأساس، وان الطلاق الصحيح الذي تنقطع معه العصمة بين الزوجين هو طلاق السنة، أي الواقع في طهر لم يصبها فيه، وقال فقهاء السنة: كلا، إن طلاق البدعة صحيح، وتترتب عليه جميع الآثار، ولكن المطلق يأثم.. وبكلمة: ان السنة لا يفرقون بين طلاق السنة وطلاق البدعة من حيث الصحة، وإنما يفرقون بينهما من حيث الإثم والمعصية فقط، أما الشيعة فقد فرقوا بينهما من حيث الصحة، لا من حيث الإثم.

6. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، هذا تخويف وتهديد على كتمان ما في الرحم، وليس شرطا لوجوب الصدق، لأن معناه ان الإيمان يمنع من الكذب، فهو تماما كمن يقول للكاذب: ان كنت تخاف الله فلا تكذب.

7. سبقت الاشارة إلى أن المطلقة أمينة في الطهر والحيض والحمل، ومعنى هذا ان القول قولها في العدة بقاء وانقضاء، وبديهة ان حق الزوج في الرجعة يتوقف على بقاء العدة، كما ان صيانة الأنساب تتصل مباشرة بالطهر والحيض، وكذلك صحة الطلاق وفساده عند فقهاء الإمامية، فإذا كانت حائضا وقالت: انها طاهر حين الطلاق لم يقع الطلاق، وتبقى على العصمة الزوجية، وإذا قالت: انقضت عدتي بالأقراء، وكانت بعد لم تنقض فقد فوتت حق الرجعة على الزوج، وإذا تزوجت في هذه الحال تكون زانية.. ومن أجل هذا وغير هذا نهى الله سبحانه النساء عن كتمان ما في أرحامهن، وهددهن عليه.

8. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، قوله: ﴿فِي ذَلِكَ﴾ إشارة إلى زمن التربص، وهو أيام العدة، ومحصل المعنى ان الله سبحانه بعد أن بيّن وجوب العدة ذكر في هذه الآية حق المطلق في الرجعة على مطلقته ما دامت في العدة إذا كان الطلاق رجعيا، وهذا الحق ثابت له، سواء أرضيت أم لم ترض.. ولا تحتاج الرجعة إلى عقد ومهر، كما انها لا تحتاج إلى شهود عند فقهاء الإمامية، ويأتي بيان ذلك مع دليلهم في سورة الطلاق.

9. المراد بقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ إصلاح حاله معها، وعدم قصد الإضرار بها من الرجعة.

10. سؤال وإشكال: إذا أرجع الرجل مطلقته أثناء العدة بقصد الإضرار، لا بقصد الإصلاح، فهل تكون الرجعة صحيحة تترتب عليها آثار الزوجية، أو تكون باطلة لا يترتب عليها شيء؟ والجواب: تصح الرجعة، ويأثم الرجل، لأن قصد الإصلاح شرط للحكم التكليفي، وهو اباحة الرجعة وحليّتها، وليس شرطا للحكم الوضعي، وصحة الرجعة، وترتّب الآثار عليها.

11. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ليس المراد بالمماثلة هنا الاتحاد في الجنس، بحيث يستحق هو عليها النفقة والمهر، كما تستحق هي عليه ذلك، وإنما المراد بالمماثلة الوجوب واستحقاق المطالبة.. وقال الفقهاء: حقه عليها أن تطيعه في الفراش، وحقها عليه أن يملأ بطنها، ويكسو جلدها، وقال صاحب تفسير المنار، يرجع في تفسير وتحديد حق الزوج على الزوجة، وحق الزوجة على الزوج إلى ما جرت عليه عادة الناس إلا ما كان منه محرما في الشريعة.. فما يراه العرف حقا لأحد الزوجين فهو كذلك عند الله.

12. الذي نستظهره من سياق الآية ان الحق الذي عليها هو العدة والصدق في الاخبار عنها، وعدم الاعتراض على الرجعة المستوفية للشروط، والحق الذي لها أن يقصد الرجل من إرجاعها الإصلاح، لا الإضرار، وحسن الصحبة، لا سوء المعاملة.. أما سائر الحقوق الأخرى التي لكل من الزوجين على الآخر فالآية أجنبية عنها، وتستفاد من أدلة مستقلة عن الآية.

13. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، اختلف العلماء والمفسرون في المراد من هذه الدرجة التي امتاز بها الرجل عن المرأة.. فقيل: هي العقل والدين، وقيل: هي الميراث، وقيل: هي السيادة، أي ان عليها ان تسمع من الرجل وتطيع.. ومن الطريف ان بعضهم فسر الدرجة باللحية، كما جاء في أحكام القرآن للقاضي أبي بكر الأندلسي، وغير بعيد أن يكون المراد بالدرجة جعل الطلاق والرجعة بيد الرجل، دون المرأة.

14. لقد سبق الإسلام الشرائع والقوانين كلها الى تحريز المرأة، واقرار حقوقها بعد ان كان الرجل يعاملها معاملة السلع والحيوانات، حتى في أوروبا وأميركا إلى عهد قريب.. وإذا ميز الإسلام الرجل عن المرأة بأشياء فان هذا التمييز تفرضه الفروق الطبيعية بينهما، أو مصلحة الجماعة، وليس من العقل والعدل المساواة في كل شيء بين من تهتم بالفساتين والموضة وتسريحات الشعر وما اليها، وبين من يشعر بالمسؤولية عنها وعن أولادها، ويتحمل المصائب والمشاق من أجلها وأجلهم.. ومهما يكن، فان فقهاء الإسلام ذكروا فروقا بين الرجل والمرأة في الأحكام الشرعية نشير إلى جملة منها فيما يلي(2):

أ. ان دية المرأة نصف دية الرجل(3).

ب. الطلاق والرجعة بيد الزوج دون الزوجة.

ج. ليس لها أن تمتنع عن فراشه، ولا أن تسافر، وتخرج من بيته إلا برضاه، وله أن يفعل ما يشاء.

د. لا تجب عليها صلاة الجمعة، حتى ولو تحققت الشروط الموجبة بالنسبة إلى الرجل.

هـ. لا يجوز لها أن تتولى الإمرة، ولا القضاء إلا عند أبي حنيفة في حقوق الناس خاصة دون حقوق الله.

و. لا يجوز أن تكون إماما في الصلاة للرجال، ويجوز أن يكون الرجل إماما للنساء.

ز. لا تقبل شهادتها إطلاقا في غير الأموال، لا منفردة ولا منضمة الى الرجال إلا في مسألة الولادة، وتقبل في الأموال منضمة الى الرجال، على أن تكون شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد.

ح. للأنثى من الميراث سهم، وللذكر سهمان.

ط. على المرأة أن تستر عن الرجال الأجانب شعرها وجميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، ولا يجب على الرجل أن يستر عن النساء سوى القبل والدبر.

ي. لا جهاد عليها، ولا جزية، ولا تقتل في الحرب ما لم تقاتل.

ك. لا تشارك الأم الأب في الولاية على وليدهما الصغير في الزواج، ولا التصرف في أمواله، ويستقل الأب في جميع ذلك.

ل. لا تصح معها المسابقة والرماية.

م. أفتى الفقهاء بأن من قتل إنسانا عن خطأ يحمل الدية عن القاتل من يتقرب اليه بالأب، كالاخوة والأعمام وأولادهم، ويسمون بالعاقلة، ولا تدخل المرأة معهم.

ن. إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به بلا شرط، وإذا قتل رجل امرأة فلا يقتل بها الا بعد أن يدفع وليها نصف الدية لورثة القاتل.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/341

(2) الكثير مما ذكر مسائل خلافية، ونرى أن كل ما ينافي العدالة مخالف لشريعة الله

(3) هي مسألة خلافية، والراجح مساواة المرأة للرجل

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات في أحكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها، وفي خلالها شيء من أحكام الصلاة.

2. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، أصل‏ الطلاق‏ التخلية عن وثاق وتقييد ثم أستعير لتخلية المرأة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

3. التربص‏ هو الانتظار والحبس، وقد قيد بقوله تعالى: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة أعني عدة الطلاق، وهو حبس المرأة نفسها عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدة الإشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الأنساب، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين والأحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة، فقوله تعالى‏ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ بمنزله قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، والجملة خبر أريد به الإنشاء تأكيدا.

4. القروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا، فهو على ما قيل من الأضداد، غير أن الأصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حالة جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية أطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القراءة، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأن الأصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾، وقوله: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما، وبه سمي القرآن قرآنا، قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسما جامع للأمرين: الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لأن كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا، بدليل أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك.

5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك وفي تقييده بقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مع عدم اشتراط أصل الحكم بالإيمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أن هذا الحكم من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الإسلامية فلا استغناء في الإسلام عن هذا الحكم، وهذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس إن أردت خيرا، وقولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء.

6. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ما داما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما أن الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل أصلا يشتق منه الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، وللأرض المستعلية بعل، وللصنم بعل، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.

7. الضمير في بعولتهن للمطلقات إلا أن الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الأعم منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة، والتقييد بقوله إن أرادوا إصلاحا، للدلالة على وجوب أن يكون الرجوع لغرض الإصلاح لا لغرض الإضرار المنهي عنه بعد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، الآية.

8. لفظ ﴿أَحَقَّ﴾ اسم تفضيل حقه أن يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الأول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق، والزوج الأول أحق بها لسبق‏ الزوجية، غير أن الرد المذكور لا يتحقق معناه إلا مع الزوج الأول، ومن هنا يظهر: أن في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في أيام العدة، وهذه الأحقية إنما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على أن الحكم مخصوص بالرجعيات، لا أن ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، وأما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.

9. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، المعروف‏ هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثني عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الأدب.

10. حيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفطرة ولم يتعدوا طور الخلقة، ومن أحكام الاجتماع المبني على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده وأجزاؤه فيكون ما عليهم مثل ما لهم إلا أن ذلك التساوي إنما هو مع حفظ ما لكل من الأفراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شئون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقوي من حيث العمل قوته، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، وعلى هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة وعلى المرأة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحياة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل، والإسلام يرى في ذلك أن للرجال عليهن درجة، والدرجة المنزلة.

11. من هنا يظهر: أن قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، قيد متمم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: أن النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن فجعل لهن مثل ما عليهن، من الحكم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/230

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ثلاث حيض كاملات، أي يجب عليهن أن يتربصن بأنفسهن، أي ينتظرن بها، ويكففن عن الزواج، وعلى هذا فالقروء من بعد العلم إذا كانت مكلفة ليتحقق منها الانتظار والكف عن الزواج.

2. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ﴾ أي للمطلقات ﴿أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ من الولد إن كانت قد علقت فليس لها أن تكتمه لئلا تطول عدتها، فأما كتمان الخروج من العدة فأعتقد أنه غير مذكور في الآية، وأن دم الحيض لا يخلق في الرحم وإنما يمر منه، ولكن يحرم كتمان الخروج من العدة؛ لأنه خيانة لله وللمطلِّق؛ حيث يكلف زيادة الإنفاق بغير حق ويجعل له الرجعة ولا رجعة له، فأما كتمان الخروج من العدة لغير محذور فلعله لا إثم فيه كردِّ خاطب غير مرغوب وتخاف من رده لغير عذر فترده بإيهام بقائها في العدة.

3. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر آمنَّ بأنه لا يحل لهن فلم يفعلنه، وهذا تأكيد لتحريم ذلك الكتمان ودلالة على أن من كتمت فليست بمؤمنة؛ لأن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل.

4. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي في مدة التربص، وهذا أحسن من التعبير بالعدة؛ لأنه يدخل فيه بقية الطهر الذي طلقها فيه مستقبلة لعدتها ﴿إِنْ أَرَادُوا﴾ بردِّهن ﴿إِصْلَاحًا﴾ لا إن كان المراد الضرار أو الحبس عن الأزواج مع سوء العشرة والإهمال فليس أحق بها لغير الإصلاح بل هو ظالم بإرجاعها وإن كانت مازالت في التربص.

5. ﴿وَلَهُنَّ﴾ متى ردوهن ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ من الحق ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي لا يستنكر، فلها حق الإنفاق بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف، وعليها طاعة الزوج في نفسها في غير معصية الله، وقد قيل: عليها عمل ما داخل البيت أي من صناعة الطعام، وفرش الفراش ونحو ذلك، وإرضاع ولدها وحضانته، وعلى الزوج ما تحتاج إليه من خارج مع المسكن والذي في هذه الآية ذكر الذي لها، أما الذي عليها فيؤخذ من دليل آخر.

6. ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ وهذه الدرجة مبينة في (سورة النساء) في قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ الآية [النساء:34] وقوله تعالى: ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ معنى المماثلة، المماثلة في العدل أي يجب لهن بقدر ما يجب عليهن ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فما حكم به فهو حق مطابق للحكمة، ومن خالف حكمه فلا بد من جزائه بما يستحق؛ لأن ذلك من عزته.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/340

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ﴾ اللائي انفصلن عن أزواجهن بالطلاق‏ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فلا يتزوجن بأي رجل آخر قبل انتهاء مدة الانتظار، وهي ثلاثة أطهار بما فيها الطهر الذي جرى فيه الطلاق، بناء على تفسير القرء بالطهر، أو ثلاث حيضات التي تبدأ بعد انتهاء الطهر الأول بناء على تفسير القرء بالحيض، فهي في هذه المدة المصطلح عليها بالعدة، بمنزلة الزوجة في كل الأجواء المنفتحة في العلاقة الزوجية، فتكون المسألة زواجا مجمّدا، أو طلاقا مع وقف التنفيذ.

2. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، لأن اختصاصها بالمعرفة في البداية للحبل ـ على تفسير ـ أو للدم في العادة الشهرية ـ على تفسير ـ يجعل المسألة أمانة لديها كأيّ شيء لا يعرف ـ غالبا ـ إلا من قبل الشخص المعني، لأن القضية ـ في دائرة الحق ـ لا تتصل بها في نتائجها الشرعية، بل تشمل الزوج في أكثر من جهة، الأمر الذي يجعل الكتمان وإخفاء الحقيقة خيانة للأمانة الشرعية، فلا يجوز لها أن تخفي الحمل الذي تطول العدة إلى نهايته وتدعي الحيض، لتقصير مدة العدة، أو تدعي الحمل لإطالتها لحاجة في نفسها، لأن في ذلك تجاوزا لحدود الله وانحرافا عن خط المسؤولية الشرعية.

3. ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فإن الإيمان بالله يمنع المؤمن من التعدي على حدود الله، من موقع إحساسه بالعبودية لله، كما أن إيمانه باليوم الآخر يدفعه إلى اختيار الأعمال التي تؤدي به إلى النجاة من عذاب الله والحصول على جنته ورضوانه، وقد جاء في المجمع عن الصادق عليه السّلام‏ في هذه الآية: الحبل والحيض‏.

4. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ لأنها لم تخرج من حكم الزوجة، مما يجعل اختيار الزوج للرجعة والعودة إلى الحياة الزوجية من جديد، تماما كما لو أخرج الزوجة من بيته ثم قرر استعادتها إليه، لأن المبادرة في الطلاق الرجعي كانت من خلاله، فله أن يصحّح الخطأ الذي وقع منه، ويتراجع عن القرار الذي شعر بالندم عليه، وهذا هو المنهج الإسلامي التربوي في العلاقات الإنسانية، الذي يفتح أكثر من نافذة للإنسان للتراجع عن قراره الذي يشعر بالخطإ فيه.

5. ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ بحيث كان الأساس في الرجوع إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح من أجل إصلاح المسألة إذا ما اكتشف الزوج خطأه تجاه الزوجة، أو اكتشفت الزوجة خطأها تجاه الزوج سواء أكان ذلك بمبادرة ذاتية أم كان من خلال تدخل المصلحين بينهما، أما إذا كان الهدف من الرجعة أن يستزيد الزوج في الإمعان في تعذيبها وإيلامها وإرباك حياتها، للإضرار بها حتى تبقى في حالة اهتزاز دائم، من أجل ابتزازها للحصول منها على تنازلات مادية أو معنوية، وكان الزوج إنسانا مضارا، فإن الظاهر من الآية أن الحق الذي للزوج في الرجعة لن يكون له أية شرعية في حالة إرادة الإضرار، بحيث لا تصح الرجعة من الناحية الوضعية القانونية، كما لا تحل من الناحية التكليفية، ولكن الفقهاء لم يلتزموا بذلك، لأنهم اعتبروا الزوجة في العدة زوجة أو بحكم الزوجة، فتكون الحالة تماما كما هي حالة الزوجة إذا أراد الإضرار بها في نطاق الحياة الزوجية، وجاء في مجمع البيان: إن الشخص ـ في الجاهلية ـ كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة وتركها [مدة]، حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها وتركها مدة ثم طاقها أخرى وتركها مدة، كما فعل في الأولى، ثم راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى، فجعل الله الزوج أحقّ بالمراجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار، وإنما شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها، لإجماع الأمة على أن مع إرادة الإضرار يثبت أحكام الرجعة)

6. ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، هل المراد من هذه الفقرة أن حقوق الزوجة كحقوق الزوج، بطريقة شمولية، بمعنى أنه إذا كان للزوج حق الاستمتاع بالزوجة، فإن للزوجة حق الاستمتاع به، فليس له أن يمنعها من ذلك عند حاجتها، كما ليس لها أن تمنعه عند حاجته، وهكذا في الجوانب الأخرى، فالحق مشترك بينهما كما أن الواجب مشترك بينهما، إلا في ما دل الدليل عليه كالنفقة التي تجب على الزوج دون الزوجة، لتمنحه الدرجة التي تقررها الفقرة التالية!؟ أو أن هذه المساواة جاءت لتقرير المبدأ، من خلال أن أحدهما لا يملك حقا مطلقا على الآخر، بل إن لكل منهما حقا على الآخر يقابله واجب تجاهه، فلا ينافي ذلك أن يزيد حق أحدهما على الآخر، كما يقرره الفقهاء في حديثهم عن أن حق المرأة في الاستمتاع لا يساوي حق الرجل فيه، لأن حقه في ذلك مطلق، بينما حق المرأة فيه بحدود تكاد تلحقه بالعدم؟ ربما كان هذا الاحتمال هو الأقرب لدى الكثيرين من المفسرين، وقد جاء في المجمع أن المراد بذلك، في الآية، (ما يرجع إلى حسن العشرة وترك المضارة والتسوية في القسم والنفقة والكسوة، كما أن للزوج حقوقا عليها مثل الطاعة التي أوجبها الله عليها له، وأن لا تدخل فراشه غيره، وأن تحفظ ماءه فلا تحتال في إسقاطه)، ونستفيد من ذلك، أن الآية لم تقرر الحق، بل هي إشارة إلى ما ثبت من الحق في السنة فلا مجال للاستدلال بها على ذلك.

7. نستقرب الاحتمال الأول بلحاظ الفقرة التالية: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فإن الحديث عن امتياز الرجال بالدرجة المميزة، والمنزلة المحددة يدل على أن الفقرة السابقة واردة لتقرير المساواة في الحقوق الزوجية الطبيعية التي شرّع الزواج على أساسها، مثل إرادة العفة وتحصين الإنسان نفسه بالزواج، ليملك الحصول على إشباع غريزته من دون حاجة إلى البحث عنها في مكان آخر لدى إنسان آخر، فلا معنى لأن يأخذ الرجل كل حقه إلى حد التعسّف، بينما لا تحصل الزوجة من ذلك إلا على مثل رشفة الماء السريعة في أجواء العطش الشديد في الصيف الحارق، وهكذا في مسألة حقه في منع زوجته من الخروج من بيتها بغير إذنه، حتى لو لم يكن هناك سبب يدعوه إلى ذلك إلا الحالة المزاجية الذاتية التي تتعمد الإضرار بها.

8. إذا كنا في مجال الحديث عن الدرجة أو المنزلة المميزة، فإننا نتصور أنها إشارة إلى القوامة التي يملك الرجل من خلالها حق الطلاق، دون أن تملكه الزوجة، في مقابل قيامه بالمسؤولية المادية عن الحياة الزوجية، ووجود بعض العناصر المميزة في شخصيته، مما يجعل إدارته للعلاقة الزوجية أكثر توازنا وواقعية من خلال ظروفه التي تسمح له بحرية الحركة أكثر منها، في تكوينها الجسدي وفي دور الأمومة ونحوها، إنها أفكار نثيرها، في الجانب التفسيري، من أجل توجيه التفكير نحو المناقشة الفكرية التي تتحرر من المألوف إلى الفهم الجديد المنفتح على الآيات بكل موضوعية وعمق.

9. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فهو العزيز في ذاته، من خلال أن القوة له جميعا لتكون له العزة جميعا، وهو الحكيم في تقديره للأمور وتدبيره لشؤون خلقه، فلا ينتقص أحد من عزته في ما يقرره من التشريع، ولا يشك أحد في حكمته في تقرير مصالح عباده في كل حركة التشريع والتنفيذ.

10. جاء في الكافي ـ بسند صحيح ـ عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام، قال‏: جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيته إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وإن خرجت من بينها بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وملائكة الغضب، وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقا على الرجل؟ قال: والده، فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قالت: فما لي عليه من الحق مثل ما له عليّ؟ قال: لا ولا من كل مائة واحدة، قال فقالت: والذي بعثك بالحق، لا تزوجت زواجا أبدا، ـ وفي رواية ـ لا يملك رقبتي رجل أبدا(2).. لا بد لنا من أن نحمل هذا الحديث على:

أ. الإشارة إلى الحق المعنوي الذي يفرض على المرأة ـ من ناحية روحية ـ أن تنفتح على زوجها انفتاح الإنسان المؤمن على الإنسان الذي حمله الله مسئوليته، من أجل إيجاد الضوابط النفسية للالتزام بالحدود التي فرضها الله عليه، وذلك بتقوية الطاقة الروحية في خلفيات سلوك المرأة مع الرجل، لتعتبر حياتها معه جهادا على هدى‏ الحديث المأثور: (جهاد المرأة حسن التبعل)، أو عبادة تتقرب إلى الله لتصبر على المشاكل المتنوعة التي تحصل في الحياة الزوجية، وليكون ذلك أساسا للانسجام مع متطلباتها في موقع الرجل القيادي في هذه الخلية الاجتماعية الإنسانية لتحقيق التوازن من خلال العنصر الروحي والعاطفي الذي يشد المرأة إلى زوجها، لأن ذلك هو الذي يحميها من الانحراف وفقدان التوازن والسقوط تحت تأثير العوامل الطارئة.

ب. لعل وقوع الحديث عن حقوق الزوج على الزوجة، في سياق الحديث عن حقوق الوالد على ولده، يشير إلى ذلك باعتبار أن الله يريد للولد أن يتحسس حق والده عليه من الناحية المعنوية والروحية، التي تتحول إلى ناحية شعورية تؤدي إلى إيجاد قاعدة للتوازن في داخل الحياة العائلية بعيدا عن الحسابات المادية، فإن للجانب الشعوري دورا في العلاقات الإنسانية أقوى من الجانب المادي، لأنه هو الذي يقوي عنصر التضحية في حركة الإنسان تجاه الإنسان الآخر، ويتعاظم هذا الجانب‏ في الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال‏: (ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، فإن الكلمة توحي بالروحية الانقيادية للموقع القيادي للزوج، لا للذات في طبيعتها الإنسانية.

ج. لولا هذه الملاحظة الإيحائية في فهمنا للمسألة، لكان هذا الحديث غير منسجم مع الآية الكريمة: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فإننا لا نستطيع التوفيق بين الدرجة التي يتميز بها الرجل عن المرأة، وبين المائة بالمائة في ميزته عليها حتى لا حق لها معه بنسبة الواحد بالمائة، مما لا يجعل الحديث موافقا لكتاب الله الذي هو الأساس في قبول الحديث من حيث انسجام الحديث مع المفاهيم العامة للقرآن.

د. في ضوء ذلك، يختلف اتجاه الآية عن اتجاه الرواية، فإن الآية تؤكد على الحقوق القانونية الشرعية، بينما تؤكد الرواية على الحق المعنوي الروحي.

هـ. أما مسألة عدم خروج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، فإننا لا نحتمل أن يكون ذلك حكما مستقبلا بذاته إلى جانب الأحكام الأخرى ـ كما هو المشهور بين الفقهاء ـ بل أستقرب ما ذهب إليه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي من اعتباره حكما مرتبطا بحق الرجل في الاستمتاع كلما أراد منها ذلك، فليس للمرأة الحرية في الخروج من بيتها في أي وقت شاءت، بل لا بد لها من استئذان زوجها في ذلك، للتعرف على حاجاته وللتفاهم على تنظيم مسألة البقاء في البيت والخروج منه، لتركيز الحقوق الزوجية على قاعدة صلبة قائمة على التنسيق بينهما، بعيدا عن حركة التمرد على الزوج من جهة الزوجة، لأن ذلك ما تفرضه التزاماتها العقدية التي يفرضها عقد الزواج في التشريع الإسلامي.

و. إننا نرتكز في هذا الفهم الاجتهادي على عناوين (المعاشرة بالمعروف) و(الإمساك بالمعروف) ونحو ذلك.. فإنها لا تنسجم مع إعطاء الزوج الحق المطلق في منع الزوجة من الخروج من البيت إلا بإذنه، الذي يملك ـ بمقتضى هذه الفتوى المشهورة ـ أن يحركها من خلال مزاجه الذاتي، لا من خلال دراسة المرأة في حاجاتها الذاتية أو الاجتماعية أو الإنسانية، بحيث يكون له الحق في تحويل البيت إلى سجن دائم من حين العقد إلى حين الوفاة لمجرد رغبته الشخصية أو عقدته الذاتية، دون أن يكون في ذلك أي إثم أو خطيئة من ناحية الحكم الشرعي، فله أن يسافر مدة طويلة من دون أن يأذن لها في الخروج من بيته، مع توفير حاجاتها المادية من النفقة الواجبة، وله أن‏ يفصلها عن المجتمع كليا وعن جذورها العائلية، وعلاقاتها الاجتماعية.. فيمنعها من الخروج في الوقت الذي يكون مشغولا عنها بعمله أو بعلاقاته الاجتماعية العامة والخاصة.

ز. إن هذا لا يصدق عليه (المعاشرة بالمعروف) أو (الإمساك بالمعروف) وربما كان مصداقا للظلم في النظرة العامة بلحاظ الارتكاز الإنساني للعدل في وعي الناس للعلاقات الزوجية التي هي جزء من العلاقات الإنسانية، فإن المرتكز في الذهنية العامة، أن حبس إنسان في البيت بشكل دائم، من دون ذنب جناه سوى كونه مرتبطا بالزوج في عقد الزواج، يعتبر تصرفا غير عادل، كما أنه يتنافى مع الخط العام الذي ارتكز عليه التشريع الإسلامي في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78] أو: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] أو في الحديث النبوي‏: (لا ضرر ولا ضرار)، فإن هذا الحكم الشرعي ـ على أساس الفتوى المشهورة ـ من أوضح مصاديق الحرج والعسر والضرر، بحسب المفهوم العرفي أو العقلائي لهذه العناوين.

11. قد يستدل بعض الفقهاء على حرية الزوج المطلقة، في منع زوجته من الخروج بغير إذنه بالحديث المعروف الذي رواه في الكافي بسنده عن‏ عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله جعفر الصّادق عليه السّلام قال‏: (إن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خرج في بعض حوائجه، فعهد إلى امرأته عهدا ألّا تخرج من بيته حتى يقدم، قال وإن أباها مرض، فبعث المرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن زوجي خرج وعهد إلي أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم، وإن أبي قد مرض، فتأمرني أن أعوده؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، فثقل فأرسلت إليه ثانيا بذلك، فقالت: فتأمرني أن أعوده؟ فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال فمات أبوها، فبعثت إليه: إن أبي قد مات، فتأمرني أن صلي عليه؟ فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال فدفن الرجل، فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك) (3)، فإنهم يرون أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منع هذه المرأة من الخروج من بيتها لعيادة أبيها أولا، ولحضور جنازته ثانيا إطاعة لزوجها، فلو كان لها الحق في الخروج في مثل هذه الحالة التي كان فيها زوجها في السفر، بحيث لا حاجة له بها من ناحية الاستمتاع، لكان خروجها أمرا راجحا في نفسه لقضاء حق أبيها، من دون الابتعاد عما لزوجها من الحق، لكننا نلاحظ:

أ. أن المورد من موارد الحق الزوجي الطبيعي، لأنه أراد منها أن تكون على استعداد دائم لاستقباله، لأن من الممكن أن يأتي في أية لحظة فيجدها في البيت.

ب. كما أن هناك نقطة أخرى، وهي أن الزوج الذي يكون على علاقة طبيعية مع أهل زوجته، أو الذي لا يكون على مثل هذه العلاقة، لا يمكن أن يمنع زوجته من عيادة أبيها أو حضور جنازته، لأنه من الحقوق الاجتماعية أو العائلية العامة في نظر الناس، بحيث يعدّ الإنسان الذي لا يقوم بها، أو الذي يمنع منه، خارجا عن المألوف وبعيدا عن الحس الإنساني مما لا يقبله أي‏ إنسان لنفسه، ولذلك نجد أن الأشخاص المعقّدين من أهل زوجاتهم لا يمانعون في ذهاب زوجاتهم إلى آبائهن أو أمهاتهن، وربما يبادرون ـ هم ـ إلى الذهاب للعيادة أو لحضور الجنازة، مما يعني أن المورد هو مورد إحراز رضى الزوج في الخروج لعدم شمول المنع لمثل هذه الحالة، الأمر الذي يجعل أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لها في البقاء في البيت وعدم الخروج، واردا على سبيل الاستحباب لإفهامها أن طاعتها لزوجها، حتى في مورد عدم الوجوب، أفضل ـ عند الله ـ من عيادة أبيها وحضور جنازته، لا سيما أن ذلك يؤكد الانسجام بينهما، ويعمق الإحساس بالمودّة والرحمة بينهما، فإذا رأى الزوج أن زوجته تلتزم بأمره، حتى في مثل هذه الحال الصعبة القاسية من الناحية العاطفية، فإن علاقته بها ستزيد وستمتد إلى أبعد من الحالة الطبيعية في العلاقة الزوجية، مما يؤدي إليه ذلك من عمق المحبة لها، فينعكس ذلك إيجابا على ثبات الزواج.

ج. ربما نستوحي ذلك من حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لها إن الله غفر لها ولأبيها بطاعتها لزوجها للتدليل على فضل مبادرتها تجاه زوجها، بحيث حصلت على غفران الله لها ولأبيها، فكانت حصة أبيها من امتناعها عن زيارتها له وحضور جنازته أكثر من حصته على تقدير حضورها عنده أو بعد وفاته، مما يوحي بالاستحباب لا بالوجوب، والله العالم بحقائق أحكامه.

12. هناك عدة أحكام ومفاهيم في هذه الآية، تتعلق ببعض أوضاع المطلقات التشريعية، ولا بد لنا من الحديث عنها في عدة نقاط:

أ. إن المطلقة التي قاربها زوجها، لا بد لها من العدة قبل أن تتزوج إنسانا آخر، والعدة أن تنتظر مدة ثلاثة قروء، فإذا خرجت من القرء الثالث، جاز لها الزواج، وقد اختلف في معنى القرء، فقال بعضهم: إنه الحيض وعلى هذا، فلا بد لها من انتظار الحيضة الثالثة، واستشهدوا بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، والصلاة إنما تترك في أيام الحيض وقال بعضهم: إنه الطهر، فلا بد في حلية تزويجها من انقضاء الطهر الثالث، فيجوز لها الزواج في بداية الحيضة الثالثة، وروي عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: إن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن، إنما هي الطهر في ما بين الحيضتين وليس بالحيض، قال فدخلت على أبي جعفر عليه السّلام فحدثته بما قال ربيعة، فقال: كذب ولم يقل برأيه، وإنما بلغه عن علي عليه السّلام، فقلت: أصلحك الله، أكان علي عليه السّلام يقول ذلك؟ قال نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، فتقرأ فيه الدم فتجمعه، فإذا جاءت قذفته، قلت: أصلحك الله، رجل طلّق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين؟ قال إذا دخلت في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج، قال قلت: إن أهل العراق يروون عن علي عليه السّلام أنه كان يقول: هو أحق برجعتها، ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة؟ فقال: كذبوا.‏

ب. لا يجوز للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها في أثناء العدة، والظاهر منه بادئ ذي بدء الولد، وقد وردت بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت، أنه الأعم من الولد والدم، وهو أشمل، وقد يؤيد ذلك، بأن الله قد فوض إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض والطهر والحمل، كما روي عن‏ الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، وقد فسر حرمة الكتمان، بأن ذلك يوجب منع الزوج عن المجامعة فيكون ظلما له، أو بنسبة الولد إلى غيره كما كان يفعل في الجاهلية، وقد أثارت الآية الجانب الإيماني في التشديد على الالتزام بالحكم الشرعي، فربطت الموضوع بالإيمان بالله واليوم الآخر، للإيحاء بأن قضية الإيمان تفرض الالتزام، فلا إيمان بدون التزام.

ج. إن للزوج حق الرجعة في أثناء العدة، في غير موارد الطلاق البائن، من دون حاجة إلى عقد جديد، ولا حق لها في الامتناع عن ذلك، وقد ورد أن المطلّقة الرجعية بمنزلة الزوجة في أثناء العدة، ولذا وجبت لها النفقة، وثبت التوارث بينها وبين الزوج، وحرم عليها الخروج بغير إذنه.. إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الطلاق الرجعي بمنزلة تجميد حالة الزوجية في زمن معيّن، وليس إلغاء لها، وقد قيّدت أحقية الرجعة بإرادة الزوج الإصلاح من خلال ذلك، وعدم قصده المضارة، والظاهر أنه قيد للتكليف بالجواز لا لصحة الرجعة، فقد ثبت نفوذها حتى في غير حالة القصد الطيّب.. فهو أشبه بالإرشاد منه بالتقييد، للإيحاء بأن الرجوع مما ينبغي أن يكون بقصد الإصلاح لا بقصد المضارة، انطلاقا من حكمة التشريع المرتكزة على علاج المشاكل لا تعقيدها.

13. في أجواء الحديث عن الطلاق، جاءت هذه اللفتة القرآنية: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ لتضع العلاقة بين الرجل والمرأة في نطاقها الإسلامي، الذي يرتكز على الأسلوب الواقعي الحكيم، من خلال تشريعه لبناء الأسرة في حياة المجتمع، فالرجل والمرأة يلتقيان في خط المسؤولية على صعيد واحد، فليس هناك أيّ انتقاص من شخصية المرأة كإنسان في ما أوجبه الله وما حرّمه، وفي ما أباحه وما دعا إليه.. فالمرأة الزانية والسارقة في نص القرآن، كالرجل الزاني والسارق في ما ألزمهما به من حدّ وعقوبة، والمرأة الصالحة كالرجل الصالح في ما أعدّ الله لهما من ثواب، فلا زيادة لثواب الرجل على صلاته وصومه وصدقه وعفته على ثواب المرأة في ذلك كله، وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]

14. نستشف من هذه الآية وغيرها أن الرجل والمرأة سواء في التقييم من حيث طبيعة المسؤولية كمبدإ، ومن حيث نتائجها العامة والخاصة.. ما يعني تسوية مطلقة في هذا المجال، وتبقى القضية، في مجال العلاقات بينهما، تتخذ سبيلا آخر في حساب المسؤولية المشتركة، من حيث توزيع الأدوار في نطاق نظام العائلة وفي غيره، فقد جعل الإسلام للرجل امتيازا نابعا من بعض‏ الخصائص الذاتية التي قد تجعله أكثر قدرة على الممارسة، ومن تحمله المسؤولية المالية للعلاقة، وذلك على أساس تنظيمي لقانون الأسرة، وذلك ما أوضحته الآية الكريمة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]، فإن الآية تحدد الموقع للرجل في نطاق العائلة، في مركز القوامة التي تعني الإدارة والرعاية والإشراف.. أما خارج نطاق العائلة، فلا قوامة ولا رعاية ولا تمييز، فللمرأة الحرية في أن تمارس كل ما تستطيع ممارسته في الحياة كإنسانة في حدود التشريع الإسلامي العام، كما كان للرجل أن يمارس الدور نفسه من غير فرق في ذلك بين مجالات العلم والعمل ومراكز المسؤولية في الحياة، مع بعض الاستثناءات التي تقتضيها طبيعة الاحتياط للعدالة وذلك في مجالات القضاء والشهادة والحكم.. وربما كانت الدراسة لهذه الاستثناءات تضع القضية في الموضع الدقيق للفكرة الإسلامية، التي يلاحظ الإنسان معها أن بعض هذه الاستثناءات قد وردت في نطاق مسئولية الرجل من حيث صفاته الأخلاقية والعلمية والعملية، على أساس الاحتياط لحقوق الناس في شهادة أمينة، وقضاء متزن، وحكم قوي عادل..

15. في ضوء ذلك، نفهم أن الدرجة، التي جعلت للرجل في نطاق التشريع الإسلامي العام، لا تعتبر امتيازا للرجل على حساب كرامة المرأة وإنسانيتها، بالمستوى الذي يبرّر هذا التمايز الاجتماعي الذي يضغط على المرأة لحساب الرجل، بحيث تتحول إلى أداة للمتعة، أو كمية مهملة لا تمثل شيئا كبيرا في مقياس الإنسانية.. فإن دراسة المساحة الواقعية بين ما هو التشريع الإسلامي في عدالته وإنسانيته، وبين ما هي الممارسة العملية في ظلمها وانحرافها، تبين لنا البون الشاسع بين معنى الإسلام، وبين سلوك المسلمين الذي لا يتحمل الإسلام سلبياته في أي حال.

16. ربما يثير البعض اعتراضا على التشريع الإسلامي للطلاق، لأنه يسيء إلى استقرار الحياة الزوجية عندما يفسح المجال لفسخها في أيّة لحظة، ولو من دون مبررات معقولة، مما يسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية للزوجة وللأولاد بشكل خاص.. ولا يزال علماء الاجتماع يتابعون الحديث عن المشاكل الصعبة الناتجة عن ذلك، من تعقيد لأولاد الطلاق في نطاق الإحصائيات الكثيرة البالغة الدلالة على النتائج الوخيمة للطلاق، لكننا نريد هنا أن نؤكّد على أن تشريع الطلاق ينسجم مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة العلاقات الإنسانية التي تمثل العلاقة الزوجية إحدى مظاهرها، لأنها مثل العلاقات التي تجمع الناس مع بعضهم تحت تأثير أي عنصر من العناصر المتنوعة: اجتماعية، وفكرية، وعاطفية، واقتصادية، ودينية، وسياسية.. وقد يكون من الطبيعي أن يخضع استمرارها وامتدادها للظروف النفسية والحياتية التي يعيشها الطرفان، فإن من الصعب بقاء أية علاقة بشكل طبيعي ومعقول في حالة فقدان العناصر التي تكفل الاستمرار.

17. لنتصور ـ في هذا المجال ـ شريكين في علاقة مادية، اختلّت ثقتهما ببعضهما البعض، أو اكتشفا اختلاف أفكارهما أو مزاجيهما بالمستوى الذي تتحول فيه الشركة إلى مشاكل وحوادث يومية.. فإن الحل المعقول لذلك أن تفسخ الشركة لئلا تتحول الحياة بينهما إلى جحيم لا يطاق لكل من الطرفين، فإذا انتقلنا إلى العلاقة الزوجية، رأيناها ترتكز على عنصري المودّة والرحمة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، فإذا استمرت الحياة بينهما على هذا الأساس، أمكن لها أن تكون طبيعية مستمرة، سواء كان الاستمرار ناشئا من التعاون بينهما في تحقيق ذلك، أو من تضحية أحدهما بمزاجه وسلوكه لمصلحة الفريق الآخر.. أما إذا تحطم هذا الأساس، فحدثت العداوة بدلا من المحبة، والقسوة بدلا من الرحمة، أو اكتشف أحد الطرفين أو كلاهما أن الانسجام مفقود في أكثر من جهة.. فإن أمامنا أحد حلين:

أ. إما أن نقول لهما: استمرا على هذه العلاقة وليصبر كل منكما على صاحبه، وليضحّ كل منكما بمزاجه وذوقه وطريقته في الحياة.. وهذا حل غير عملي، لأن الزواج من العلاقات المستمرة المتصلة بكل جوانب الحياة اليومية للإنسان بشكل متداخل، فليس من الطبيعي أن يفرض على الإنسان الاستمرار في الخضوع للضغط النفسي إلى ما لا نهاية، بل قد يؤدي ذلك إلى الانفجار ـ ولو بعد حين ـ كنتيجة للحياة الرتيبة التي تخلق المزيد من المشاكل على أساس حالة التماس الدائم، ولعل من أوضح الدلائل على صعوبة هذا الحل وعدم واقعيته، أن الفئات التي حرمت الطلاق لجأت إلى حلّ الانفصال الجسدي والهجران، لإدراكها أن الاستمرار غير عملي، ولكنها وقعت في مشكلة أخرى، وهي الإحساس بالارتباط الذي لا يمثل أي شيء للطرفين، في الوقت الذي لا يستطيعان معه التخلص منه، ليتفرغا لعلاقة جديدة ناجحة بدلا من العلاقة القديمة الفاشلة، مما يجعل الحياة لديهما جحيما لا يطاق، أو طريقا للانحراف.

ب. فلم يبق إلا الحل الثاني، وهو أن نقول لهما: إن بإمكانهما أن ينفصلا ويبحثا عن تجربة جديدة، باعتبار ذلك ضرورة حياتية، فيكون أبغض الحلال إلى الله، تماما كما هي العملية الجراحية عند استفحال المرض.

18. في ضوء هذه الفكرة، لا ينبغي للمؤمن أن يلجأ إلى الطلاق إلا بعد استنفاد كل الوسائل المفضية إلى استمرار الحياة الزوجية، حيث يكون الطلاق حلّا لمشكلة المرأة والرجل معا، أما الأولاد، فقد لا يكون الطلاق هو المشكلة الكبيرة في حياتهم، نتيجة ما يحصل لهم من تعقيد، بل هي المشاكل الحاصلة من الخلافات والمنازعات بين آبائهم، فإن تأثيرها عليهم أشد من تأثيرات الطلاق، بل ربما يكون الطلاق حلّا ضروريا للجزء الكبير من المشكلة، وتخفيفا للكثير من السلبيات.

19. قرأت للدكتور بروتللي أحد الأطباء النفسيين الفرنسيين في إحدى المجلات النسائية المصرية: (لا يوجد ما يسمى ابن الطلاق.. إن ذلك مجرد عذر سهل وتبرير غير واع لكل حماقات سوء التربية ولعدم كفاية النصح والعجز عن التفتح، ولكن ما يوجد حقا هو الصراع بين أبوين متنافرين، فالطلاق إذا لا يخلق حالة، ولكنه يعمل على تسوية مشكلة، والصراع هو الذي لا يتحمله الطفل، فحين يتفتح الطفل يكون محتاجا إلى الدفء والحنان والاستقرار والأمانة، وكلها مستوحاة من الأب والأمام معا)، إن مشكلة الطفل في الطلاق هي أنه لا يعيش جو الحنان الطبيعي بين أبويه، ولكن هذا الجو لم يكن موجودا في ظل المشاحنات الزوجية، بل قد يكون الموجود شيئا مضادا له في ما يستتبعه من التأزم والتعقيد.. وربما يحصل على العاطفة في خارج الحياة الزوجية بعد الطلاق أكثر مما فقده في داخلها، بالمستوى الذي يعتبر تعويضا كاملا عما فقده..

20. لا بد لنا من الإشارة إلى حقيقة أساسية في كل قضايا التشريع الإسلامي في الحياة، وهي: أن أي تشريع في جانب السلب والإيجاب لا يمكن أن يكون حلّا مطلقا للمشكلة، بل كل ما هناك، أنه يمثل الحل النسبي الذي يجمع إلى الإيجابيات بعض السلبيات، ففي جانب الإلزام بالفعل، لا بد من أن تكون إيجابيات الفعل أكثر من سلبياته، وفي جانب الإلزام بالترك، يكون الأمر بالعكس، فتكون إيجابيات الترك أكثر من سلبياته.. وهكذا تكون النتيجة الحاسمة في موضوعنا هذا، وهي أن الطلاق يعتبر عملا إيجابيا في حركة العلاقة الزوجية في الحياة، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يخلو من بعض‏ السلبيات في نتائجه العملية بالنسبة إلى الزوجين والأولاد وإلى المجتمع بشكل عام.

21. سؤال وإشكال: لماذا جعل الإسلام الطلاق بيد الزوج، ولم يجعله بيد الزوجة بمفردها أو بالإضافة إلى الزوج؟ والجواب: الإسلام حمّل الزوج مسئولية الحياة الزوجية في المهر والإنفاق على الزوجة والأولاد، فهو الذي يخسر في انهدام العلاقة أكثر مما تخسره الزوجة من ناحية مادية ومعنوية، فقد دفع المهر والنفقة الزوجية من دون أي تعويض، وهو الذي يتابع تحمل المسؤوليات المالية للأولاد، ويواجه بناء بيت زوجي جديد على أساس نفقات جديدة، بينما لا تتحمل الزوجة أية مسئوليات مادية تجاه زوجها، ولا تواجه أية خسارة في زواجها الجديد ـ لو تزوجت ـ بل الأمر بالعكس، نعم قد تواجه بعض المشاكل الاقتصادية إذا كانت فرص الزواج قد ضاعت منها، ولكن ذلك لا يمنع من وجود بعض فرص العمل التي يمكن أن تعوضها عما فاتها من الاكتفاء الاقتصادي في فرصة الزواج من قبل الزوج.. وفي ضوء ذلك، لا يمكن أن نعطي الزوجة حق إنهاء العلاقة بطريقة طبيعية أصلية، لأنها لا تتحمل مسئولية الحياة الزوجية من جميع الجهات.. وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الإسلام لم يسدّ الباب أمام الزوجة في أخذ المبادرة في طلاق نفسها لبعض الأسباب، فرخّص لها أن تجعل لنفسها الوكالة من قبل الزوج في طلاق نفسها في ضمن العقد ـ على رأي بعض الاجتهادات الفقهية ـ، أو أن تكون العصمة بيدها ـ على بعض الاجتهادات الأخرى ـ وهناك حالات أخرى يمكن للحاكم الشرعي أن يتدخل بها في‏ الطلاق، كما إذا رفض الزوج الطلاق والإنفاق، فإن للحاكم الشرعي أن يطلّقها، وهناك بعض الحالات الأخرى التي يختلف فيها المجتهدون، ومجالها البحث الفقهي لا التفسيري.

22. سؤال وإشكال: ما الحكمة في العدة بعد الطلاق، الذي يكون على المرأة فيه العدة، وهو ما يسمى بالطلاق الرجعي؟ والجواب: قد تكون الحكمة في المحافظة على عدم اختلاط الأنساب ـ كما يعبر الفقهاء ـ ليظهر من خلال هذه الفترة، ما إذا كانت المرأة حاملا أو غير حامل، فلا يبقى هناك مجال للاشتباه، بينما يؤدي الزواج المباشر بعد الطلاق إلى اشتباه المولود بين أن يكون ثمرة الزواج الأول، وبين أن يكون ثمرة الزواج الثاني على أساس أقل الحمل وهو ستة أشهر، وقد يكون هناك جانب آخر ـ من الحكمة ـ وهو أن يفسح الإسلام المجال للزوجين للتفكير الهادئ في إيجابيات العلاقة الزوجية وسلبياتها، بعيدا عن الأجواء المتوترة في داخل هذه العلاقة، لأن الإنسان الذي يعيش في الأجواء المحمومة للمشكلة، لا يستطيع أن يفهم طبيعتها الحقيقة بشكل سليم، أما إذا انفصل عنها ـ ولو قليلا ـ فإنه يستطيع أن يحصل على وضوح الرؤية، الذي يساعده على التفكير الهادئ والقرار المتزن، وفي ضوء ذلك، كانت العدة الرجعية تجميدا للعلاقة الزوجية باسم الطلاق، فقد جعل الشارع للمرأة ـ في هذه الفترة ـ حق النفقة والسكنى على الرجل، وجعل للرجل الحق في الرجوع من دون أية اتفاقات جديدة من المهر ونحوه، ومن دون عقد جديد، بل يكفي أن يعبّر عن رجوعه بأية طريقة، وبأي أسلوب لتعود العلاقة الزوجية كما كانت.. وجعل الإرث بينهما ثابتا في هذه الفترة، فلو مات أحدهما ورثة الآخر، كتأكيد لبقاء العلاقة في بعض أحكامها القانونية، وإن كانت منحلّة قانونا.

23. قد يعترض بعض الناس على ما ذكرناه، بأن العدة شرّعت في حالات إمكانات الحمل، وأما في حالات عدمها، كما إذا كانت المرأة عقيما، أو كان الزوج عقيما، أو غائبا عن المرأة غيبة لا مجال فيها للحمل.. وما إلى ذلك من الموارد التي تقطع فيها بعدم الحمل، فقد أثبتت الشريعة الإسلامية العدة من دون أن تتحقق العدة في نطاقها الطبيعي، ولنا أن نجيب عن ذلك، بأن الشارع ـ في تشريعه للأحكام ـ يتحرك من خلال الصفة النوعية للأشياء، فيلاحظ الأوضاع العامة، فيوجب الفعل فيه أو يحرّمه، وإن كانت بعض خصوصياتها لا تخضع للحكمة النوعية، وذلك كوسيلة احتياطية للحصول على الغاية، ولإمكانية وجود حالات نادرة تحدث في بعض هذه الخصوصيات كما يمكن للعاقر أن تحمل صدفة لبعض الطوارئ، أو للغائب أن يعود من دون أن يشعر به أحد.. وما شاكل ذلك، مما يخلق جوا من الارتباك والاختلاف حول تحقق الشرط وعدمه، فربما أراد الشارع أن تسير الأمور بشكل منضبط، ولو على حساب بعض الحالات الجزئية، هذا مع ملاحظة الجانب الثاني المتمثل في إفساح المجال للرجوع بعد الطلاق، والله العالم.

24. سؤال وإشكال: لماذا جعل الرجوع حقا للرجل، ولم يجعل حقا مشتركا بينهما مع‏ أن المشكلة قد تكون في حياة المرأة، لا في حياة الرجل؟ والجواب: لعل السر في ذلك، أن العلاقة الزوجية هي مسئولية الرجل في الإدارة والإنفاق، ولذا جعل الطلاق بيده، الأمر الذي يجعل قضية الرجوع بيده، لأننا ذكرنا ـ في حديثنا المتقدم ـ أن الطلاق الرجعي يعتبر تجميدا للحياة الزوجية في الحكم، وليس إلغاء نهائيا، وقد نستوحي ذلك من اعتبار الرجوع امتدادا للحياة الزوجية، لا علاقة جديدة، فلو طلقها الزوج بعد الرجوع من دون أن يدخل بها، لا يكون طلاقه هذا طلاقا قبل الدخول، بل يكون طلاقا بعد الدخول لأنه استمرار للعلاقة السابقة، ولم يترك القرآن الكريم القضية لمزاج الزوج ونزوته، بل أراد أن تكون خاضعة لإرادة الإصلاح المشتركة التي ترتكز على أساس القيام بالحقوق والمسؤوليات اللازمة على الطرفين، وعلى أيّ حال، فإن المشكلة التي تثار في جعل الرجوع بيد الزوج، هي المشكلة نفسها المثارة في جعل الطلاق بيده، وبذلك يكون التفسير هو التفسير في ما تعالج به قضية تنظيم العلاقة الزوجية، والله العالم بحقائق أحكامه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/281

(2) نرى معارضة هذا الحديث للقرآن الكريم، وهو ما أشار إليه في تعليقه عليه

(3) لا نرى صحة هذا الحديث لمعارضته القرآن الكريم

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام في الآية السّابقة عن الطّلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطّلاق وما يتعلّق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية، في البداية ذكرت الآية عدّة الطّلاق‏ ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾

2. (قروء) جمع (قرء) تطلق على الحيض وعلى النقاء منه، ويمكن الاستفادة من كلا هذين المعنيين مفهوما كليّا يجمع بينهما، وهو الانتقال من حالة إلى حالة أخرى، ويرى (الرّاغب) في المفردات أنّ (القرء) في الحقيقة هي كلمة يراد منها الانتقال من حالة الحيض إلى الطّهر، وبما أنّ كلا هذين العنوانين مأخوذان في معنى الكلمة، فتستعمل أحيانا بمعنى الحيض وأخرى بمعنى الطّهر، ويستفاد من بعض الرّوايات وكثير من كتب اللّغة أنّ القرء تعني الجمع بين الحالتين، وبما أنّ حالة الطّهر يجتمع في المرأة مع وجود دم الحيض في رحمها فتطلق هذه المفردة على الطّهر وعلى كلّ حال، فقد ورد التّصريح في الروايات أنّ المقصود بالقروء الثلاثة في الآية أن تطهر المرأة ثلاث مرّات من دم الحيض‏.

3. بما أنّ الطّلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطّهر الّذي لم يجامعها زوجها فيه فيحسب ذلك الطّهر مرّة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرّة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرّد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة، فيجوز لها حينئذ الزّواج.

4. المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى‏ ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين، وفي الرّواية عن الإمام الصّادق عليه السّلام في تفسير الآية قال: (قد فوّض الله إلى النّساء ثلاثة أشياء: الحيض والطّهر والحمل)

5. يمكن أن يستفاد من الآية هذا المعنى أيضا، لأنّ الآية تقول:‏ ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ ويخبرن بخلاف الواقع، وهذا يعني أن كلامهنّ مقبول.

6. جملة ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ كما ذهب إليه جماعة من المفسّرين يمكن أن يراد بها معنيان: (الجنين) و(العادة الشهريّة) لأنّ كلا هذين المعنيين قد جعلهما الله في أرحام النساء أي يجب على المرأة أن لا تكتم حملها وتدّعي العادة الشهريّة بهدف تقليل مدّة العدّة (لأنّ عدّة الحامل وضع حملها) وهكذا يجب عليها أن لا تخفي وضع حيضها وتبيّن خلاف الواقع، ولا يبعد استفادة كلا هذين المعنيين من العبارة أعلاه.

7. للزّوج حقّ الرّجوع إلى زوجته في عدّة الطّلاق الرّجعي، فتقول الآية: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾، وبهذا يستطيع الزّوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصّة إذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق الرّجعي، فإذا قصد الرّجوع يتحصّل بمجرّد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد، وجملة: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ في الحقيقة هي لبيان أنّ هدف الرّجوع يجب أن يكون بنيّة الإصلاح لا كما كان عليه الحال في العصر الجاهلي من أنّ الزّوج يستخدم هذا الحق لغرض الإضرار بالزّوجة حيث يتركها في حالة معلّقة بين الزّواج والطّلاق، فهذا الحقّ يكون للزّوج في حالة إذا كان نادما واقعا وأراد أن يستأنف علاقته الزّوجيّة بجديّة، ولم يكن هدفه الإضرار بالزّوجة.

8. ضمنا يستفاد ممّا ورد في ذيل الآية من مسألة الرّجوع هو أنّ حكم العدّة والاهتمام بحساب أيّامها يتعلّق بهذه الطائفة من النساء، وبعبارة أخرى أنّ الآية تتحدّث بشكل عام عن الطّلاق الرّجعي ولهذا فلا مانع من أن تكون بعض أقسام الطّلاق بدون عدّة أصلا.

9. ثمّ تبيّن الآية حكما رابعا وتقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، يقول الطبرسي في مجمع البيان أنّه يستفاد من هذه العبارة العجيبة والجامعة فوائد كثيرة جدّا، فهي قد جرّت البحث إلى مسائل أهم بكثير من الطّلاق والعدّة، وقرّرت مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الرّجال والنساء فتقول: كما أنّ للرّجال حقوقا على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرّجال أيضا، فيجب عليهم مراعاتها، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة ولم يتحيّز إلى أحد الطّرفين.

10. كلمة ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقيّة تكرّرت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرّة (من هذه الآية الكريمة إلى الآية 241) كيما تحذّر النساء والرّجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق الطّرف المقابل، وعليهم احترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة الزوجيّة وتحصيل رضا الله تعالى.

11. سؤال وإشكال: جملة ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ تكمّل القاعدة السابقة في الحقوق المتقابلة بين الرّجل والمرأة، وفي الواقع أنّ مفهومها هو أنّ مسألة العدالة بين الرّجل والمرأة لا تكون بالضّرورة بمعنى التساوي في الحقوق وأن يكونا في عرض واحد، فهل يلزم أن يكون الجنسان، متساويين تماما في الواجبات والحقوق؟ والجواب: لو أخذنا بنظر الاعتبار الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسميّة والروحيّة لا تّضح الجواب عن السؤال: المرأة بطبيعة مسئوليتها الحسّاسة في إنجاب الأبناء وتربيتهم تتمتّع بمقدار أوفر من العواطف والمشاعر والإحساسات، في حين أنّ الرجل وطبقا لهذا القانون انيطت به مسئولية الواجبات الاجتماعيّة التي تستلزم قوّة الفكر والابتعاد عن العواطف والأحاسيس الشخصيّة أكثر، ولو أردنا إقامة العدالة فيجب أن نضع الوظائف الاجتماعيّة التي تحتاج إلى تفكّر وتحمّل أكثر بعهدة الرّجال، والوظائف والمسؤوليّات التي تحتاج إلى عواطف وإحساسات أكثر بعهدة النّساء، ولهذا السبب كانت إدارة الاسرة بعهدة الرّجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أيّ حال فلا يكون هذا مانعا من تصدّي المرأة للمسؤوليّات الاجتماعيّة المتوائمة مع قدراتها الجسميّة وملكاتها البيولوجيّة فتؤدّي تلك الوظائف والمسؤوليّات إلى جانب أداء وظيفة الامومة في الاسرة، وكذلك لا يكون هذا التفاوت مانعا من تفوّق بعض النّساء من الجهات المعنويّة والعلميّة والتقوائيّة على كثير من الرّجال، فما نرى من إصرار بعض المثقّفين على مقولة التساوي بين الجنسين في جميع الأمور هو إصرار لا تؤيّده الحقائق على أرض الواقع حيث ينكرون في‏ دعواهم هذه الثّوابت العلميّة في هذا المجال، فحتّى في المجتمعات التي تنادي بالمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات نشاهد عملا بونا شاسعا مع نداءاتهم، فمثلا الإدارة السياسيّة والعسكريّة لجميع المجتمعات البشريّة هي في عهدة الرّجال (إلّا في موارد استثنائيّة) حيث يرى هذا المعنى أيضا في المجتمعات الغربيّة التي ترفع شعار المساواة دائما، وعلى كلّ حال، فالحقوق التي يختّص بها الرّجال مثل حقّ الطّلاق أو الرّجوع في العدّة أو القضاء (إلّا في موارد خاصّة اعطي فيها حقّ الطّلاق للزّوجة أو حاكم الشرع) ترتكز على هذا الأساس ونتيجة مباشرة لهذه الحقائق العمليّة.

12. ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ جملة: ﴿لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ ناظرة إلى مسألة الرّجوع في عدّة الطّلاق فقط، ولكن من الواضح إنّ هذا التفسير لا يتواءم وظاهر الآية، لأنّ الآية ذكرت قبل ذلك قانونا كليّا حول حقوق المرأة ووجوب رعاية العدالة بجملة ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ثمّ أوردت العبارة مورد البحث بشكل قانون كلّي آخر بعد ذلك.

13. أخيرا تقول الآية: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وهذا إشارة إلى ما يرد في هذا المجال من إشكالات وتساؤلات وأنّ الحكمة الإلهيّة والتدبير الرّباني يستوجبان أن يكون لكلّ شخص في المجتمع وظائف وحقوق معيّنة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابليّاته الجسميّة والرّوحيّة، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهيّة تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقا مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحقّ.

14. العدّة وسيلة للعودة والصّلح‏: أحيانا ينشأ في مناخ الاسرة وبسبب عوامل مختلفة بعض الاختلافات الجزئيّة وتتهيّأ الأرضيّة النفسيّة لكلّ من الزّوجين بشكل يشتد فيه حس الانتقام وتنطفأ فيه أنوار العقل والوجدان، وفي الغالب تكون حالات الفرقة وتشتّت العائلة ناشئة من هذه الموارد والحالات، ولكن يشاهد في كثير من الحالات أنّ كلّ من الزّوجة والزّوج بعد حصول النّزاع والفرقة بفترة قليلة من الزّمان يصيبهم النّدم وخاصّة بعد مشاهدة انهدام الاسرة وتلاشي المحيط العائلي الدّافئ لتصبّ حياتهم في بحر المشاكل المختلفة، وهنا تقول الآية الكريمة: أنّ على النّساء العدّة والصبر ريثما تهدأ تلك الأمواج النفسيّة وتنقشع سحب النّزاع والعداوة عن سماء الحياة المشتركة، وخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حكم الإسلام في وجوب بقاء المرأة وعدم خروجها من بيت زوجها طيلة مدّة العادة حيث يبعث ذلك على حسن التفكّر وإعادة النّظر في قرار الطّلاق ممّا يؤثّر ذلك كثيرا في رسم وصياغة علاقاتها مع زوجها، ولذلك نقرأ في سورة الطّلاق آية ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾.. ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، وفي الغالب نلحظ أنّه يكفي لاستعادة المناخ الملائم والأجواء الدّافئة للأسرة قبل الطّلاق قليل من تقوية المحبّة وإعادة المياه إلى مجاريها.

15. العدّة وسيلة لحفظ النّسل‏: إنّ إحدى الأغراض المهمّة للعدّة هو اتّضاح حالة المرأة بالنّسبة إلى الحمل، فصحيح أنّ رؤية المرأة لدم الحيض مرّة واحدة دليل على عدم الحمل، ولكن أحيانا ترى المرأة دم العادة حين الحمل أيضا وفي بدايته، فمن أجل رعاية هذا الموضوع والحكم بشكل كامل كان على المرأة أن تصبر لترى العدّة ثلاث مرّات وتطهر منها حتّى تقطع تماما بعدم حملها من زوجها السّابق فيمكنها بعد ذلك الزّواج المجدّد، وطبعا هناك فوائد أخرى للعدّة سنشير إليها في مواردها.

16. تلازم الحقّ والوظيفة: هنا يشير القرآن الكريم إلى أصل أساس، وهو أنّه كلّما كانت هناك وظيفة ومسئوليّة كان هناك حقّ إلى جانبها، يعني أنّ الوظيفة والحقّ لا ينفصلان أبدا، فمثلا أنّ على الوالدين وظائف بالنّسبة للأولاد، وهذه الوظائف تسبّب إيجاد حقوق في عهدة الأولاد، أو أنّ القاضي موظّف في تحقيق العدالة في المجتمع ما أمكنه ذلك، وفي مقابل هذه الوظيفة والمسؤوليّة له حقوق كثيرة في عهدة الآخرين، وهكذا بالنّسبة إلى الأنبياء عليهم السّلام وأقوامهم، وفي الآية الكريمة إشارة إلى هذه الحقيقة حيث تقول أنّ النساء لهنّ من الحقوق بمقدار ما عليهنّ من الواجبات والوظائف، وهذا التّساوي بين الحقوق والواجبات يسهّل عمليّا إجراء العدالة في حقّهن، وكذلك يثبت عكس هذا المطلب أيضا فمن جعل له حقّا ففي مقابله عليه واجبات ومسئوليّات لا بدّ من أدائها، ولذلك لا نجد أحدا له حقّ من الحقوق في أحد الموارد وليست في ذمتّه وظيفة ومسئوليّة.

17. قصّة المرأة في التّاريخ وحقوقها المهدورة: عانت المرأة خلال العصور التاريخيّة المختلفة ألوانا من الظلم والاضطهاد والتعسّف، ويشكّل هذا التاريخ المؤلم المرّ جزء هامّا من الدراسات الاجتماعية بشكل عامّ يمكن تقسيم تاريخ حياة المرأة إلى مرحلتين:

أ. المرحلة الاولى: مرحلة ما قبل التاريخ، وليس لنا معلومات صحيحة عن وضع المرأة في هذه المرحلة، ومن الممكن أن تكون قد تمتّعت آنذاك بحقوقها الإنسانية الطبيعيّة.

ب. والمرحلة الثانية: مرحلة التاريخ، والمرأة كانت خلالها في كثير من المجتمعات شخصيّة غير مستقلة في جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستمرّ هذا الوضع في قسم من المجتمعات حتّى القرون الأخيرة.

18. هذا اللون من التفكير بشأن المرأة مشهود حتّى في القانون المدنيّ الفرنسيّ المشهور بتقدّميته، على سبيل المثال نشير إلى بعض فقراته المتعلّقة بالشؤون المالية للزوجين: يستفاد من المادّتين 215 و217 أنّ المرأة المتزوجة لا تستطيع بدون إذن زوجها وتوقيعه أن تؤدّي أيّ عمل حقوقي، وتحتاج في كلّ معاملة إلى إذن الزوج، هذا إذا لم يرد الرجل أن يستغلّ قدرته وأن يمتنع عن الإذن دون مبرّر، وحسب المادّة 1242 يحقّ للرجل أن يتصرّف لوحده بالثروة المشتركة بين المرأة والرجل بأيّ شكل من الأشكال، ولا يلزمه استئذان المرأة بشرط أن يكون التّصرّف في إطار الإدارة، وإلّا لزمت موافقة المرأة وتوقيعها، وأكثر من ذلك ورد في المادة 1428،: إنّ حقّ إدارة جميع الأموال الخاصّة بالمرأة موكول إلى الرجل ـ على أنّ المعاملة الخارجة عن حدود الإدارة تتطلّب موافقة المرأة وتوقيعها ـ.

19. في أرض الرسالة الإسلامية ـ أي الحجاز ـ كانت المرأة تعامل معاملة الكائن غير المستقل، وكانوا يستثمرونها بشكل فظيع قريب من حالة التوحّش، وبلغ وضع المرأة من الانحطاط بحيث إن صاحبها كان يستفيد منها للارتزاق أحيانا، فيعرضها للإيجار، ما كان يعانيه هؤلاء من فقر حضاري وفقر مادّي جعل منهم قساة لا يتورّعون عن ارتكاب جريمة (الوأد) بحقّ الأنثى.

20. المرحلة الجديدة في حياة المرأة مع ظهور الإسلام وانتشار تعاليمه السامية، دخلت حياة المرأة مرحلة جديدة بعيدة كلّ البعد عمّا سبقها، في هذه المرحلة أصبحت المرأة مستقلّة ومتمتّعة بكلّ حقوقها الفردية والاجتماعية والإنسانية.

21. تقوم تعاليم الإسلام بشأن المرأة على أساس الآيات التي ندرسها في هذا المبحث حيث يقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فالمرأة بموجب هذه الآية تتمتّع بحقوق تعادل ما عليها من واجبات ثقيلة في المجتمع، الإسلام اعتبر الرجل كالمرأة كائنا ذا روح إنسانيّة كاملة، وذا إرادة واختيار ويطوي طريقه على طريق تكامله الذي هو هدف الخلقة، ولذلك خاطب الرجل والمرأة معا في بيان واحد حين قال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ووضع لهما منهجا تربويا وأخلاقيا وعلميا ووعدهما معا بالسعادة الأبدية الكاملة في الآخرة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾، وأكّد أنّ الجنسين قادران على انتهاج طريق الإسلام للوصول إلى الكمال المعنويّ والماديّ ولبلوغ الحياة الطيّبة المفعمة بالطمأنينة، نظير ما جاء في قوله‏ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

22. الإسلام يرى المرأة كالرجل إنسانا مستقلّا حرّا، وهذا المفهوم جاء في مواضع عديدة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، و﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾، وهذه الحريّة قرّرها الإسلام للمرأة والرجل، ولذلك فهما متساويان أمام قوانين الجزاء: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾

23. لمّا كان الاستقلال يستلزم الإرادة والاختيار، فقد قرّر الإسلام هذا الاستقلال في جميع الحقوق الاقتصادية، وأباح للمرأة كلّ ألوان الممارسات المالية، وجعلها مالكة عائدها وأموالها، يقول سبحانه في سورة النساء: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾، كلمة (اكتساب) ـ خلافا لكلمة (كسب) ـ لا تستعمل إلّا فيما يعود نتيجته على الإنسان نفسه‏، ولو أضفنا إلى هذا المفهوم القاعدة العامّة القائلة: (الناس مسلّطون على أموالهم) لفهمنا مدى الاحترام الذي أقرّه الإسلام للمرأة بمنحها الاستقلال الاقتصادي، ومدى التساوي الذي قرّره بين الجنسين في هذا المجال، فالمرأة ـ في مفهوم الإسلام ـ ركن المجتمع الأساسي، ولا يجوز التعامل معها على أنّها موجود تابع عديم الإرادة يحتاج إلى قيّم.

24. المفهوم الصحيح للمساواة: وهنا ينبغي الالتفات إلى مسألة الاختلافات الروحية والجسمية بين المرأة والرجل، وهي مسألة التفت إليها الإسلام بشكل خاصّ وأنكرها بعضهم منطلقين من تطرّف في أحاسيسهم، إن أنكرنا كلّ شيء فلا نستطيع أن ننكر الاختلافات الصارخة بين الجنسين في الناحية الجسمية والناحية الروحية، وهذه مسألة تناولتها تأليفات مستقلّة ملخّصها: إنّ المرأة قاعدة انبثاق الإنسان، وفي أحضانها يتربّى الجيل ويترعرع، وهي لذلك خلقت لتكون مؤهلة جسميا لتربية الأجيال، كما أنّ لها من الناحية الروحية سهما أوفى من العواطف والمشاعر، وهل يمكن مع هذا الاختلاف الكبير أن ندّعي تساوي الجنسين في جميع الأعمال واشتراكهما المتساوي في كلّ الأمور!؟ أليست العدالة أن يؤدّي كلّ كائن واجبه مستفيدا من مواهبه وكفاءاته الخاصّة!؟ أليس خلافا للعدالة أن تقوم المرأة بأعمال لا تتناسب مع تكوينها الجسمي والروحي!؟ من هنا نرى الإسلام ـ مع تأكيده على العدالة ـ يجعل الرجل مقدّما في بعض الأمور مثل الإشراف على الأسرة و.. ويدع للمرأة مكانه المساعد فيها، العائلة والمجتمع يحتاج كلّ منهما إلى مدير، ومسألة الإدارة في آخر مراحلها يجب أن تنتهي بشخص واحد، وإلّا ساد الهرج والمرج.. فهل من الأفضل أن يتولّى هذه المسؤولية المرأة أم الرجل؟ كلّ المحاسبات البعيدة عن التعصّب تقول: إنّ الوضع التكويني للرجل يفرض أن تكون مسئولية إدارة الأسرة بيد الرجل، والمرأة تعاونه.

25. مع إصرار المصرّين ولجاج المتعصّبين على إنكار الواقع، فإنّ وضع الحياة الواقعية في عالمنا المعاصر وحتّى في البلدان التي منحت المرأة الحريّة والمساواة بالشكل الكامل ـ على زعمهم ـ يدلّ على أنّ المسألة على الصعيد العملي هي كما ذكرناه وإن كانت المزاعم خلاف ذلك.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/146