...
41. الأنبياء والميثاق والرسول المصدّق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈41⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 81 ـ 82]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾: يقول لليهود: أخذت ميثاق النبيين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٤٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ يعني: فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إقراره في التوراة: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يعني: العاصين(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٦.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ الرسول هو: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمخاطبون هم: أهل الكتاب، ومعنى ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ هو: مصدق لما كان في كتابكم، من ذكر محمد ونبوته، وإرسال الله له إلى الخلق كافة بوحيه، فكان معهم في كتبهم مذكورا موصوفا، فلما أن كان ذكره وصفته في كتبهم، ثم بعثه الله عز وجل على الصفة والحال التي أعلمهم بها، ووعدهم إياها ـ كان ذلك تصديقا من الله لما وعدهم به، ولما أخبرهم بعلمه(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/168.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ الآية، قال مجاهد: هذا خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود (ميثاق الذين أوتوا الكتاب)؛ على ما ذكر في آية أخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 187] لأن الميثاق لا يؤخذ على النبيين أن يصدّقوا، لكنه يجوز هذا، ثم اختلف فيه:
أ. قيل: ميثاق الأوّل من الأنبياء ـ ليصدّقنّ بما جاء به الآخر منهم، لو أدرك.
ب. وقيل: أخذ الله ميثاقا على النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى قومهم؛ ففعلوا، ثم أخذوا مواثيق قومهم أن يؤمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويصدقوه وينصروه.
ج. وقيل: أخذ الله على النبيين ميثاقا على أن يبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين الله.
د. قال الكسائي فيه بوجهين:
• أحدهما: يقول: ميثاق الذين منهم النبيّون وهم بنو إسرائيل، وكل ميثاق ذكره الله ـ تعالى ـ في القرآن في أهل الكتاب، فإنما يراد به بنو إسرائيل.
• الثاني: ذكره كما ذكرنا من تصديق بعضهم بعضا، وتبليغ كتب الله إلى قومهم.
2. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ أخذ عليهم الميثاق؛ ليأخذوا على قومهم المواثيق أن يؤمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج وينصروه، ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ قال الله تعالى للأنبياء: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ قيل: هو عهدي، والإصر: قيل: هو العهد، ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ بالعهد لنؤمنن به ولننصرنه، وأخذنا على قومنا ليؤمنن به ولينصرنه، وقال الله تعالى: ﴿فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾
أ. يقول الله تعالى: وأنا على إقراركم بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الشاهدين.
ب. وقيل: قال الله: فاشهدوا أني قد أخذت عليكم بالعهد، وأنا معكم من الشاهدين أنكم قد أقررتم بالعهد.
3. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ العهد والإقرار بنقض العهد، والرجوع عن الإقرار ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/417.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾: أي عهدي(1).
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 261.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ وفي الميثاق الذي أخذه الله عليهم هو أن يأخذوا على قومهم بتصديق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ يعني محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة والإنجيل ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ والإصر العهد أي قبلتم على ذلكم عهدي ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ يعني على ما ائتمنتكم بذلك ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليهم وعليكم(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/146.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الميثاق المقصود في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا على قومهم بتصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.
ب. الثاني: أنه أخذ ميثاقهم ليؤمنن بالآخرة، وهذا قول طاوس.
2. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني من التوراة، والإنجيل، ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ والإصر: العهد، وفيه تأويلان:
أ. أحدهما: معناه: قبلتم على ذلك عهدي.
ب. الثاني: أخذتم على المتّبعين لكم عهدي.
3. ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ يعني على أممكم بذلك، ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم، وعليهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/407.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ قرأ نافع (لما آتيناكم) على الجمع، الباقون على التوحيد بالتاء، وقرأ حمزة (لما) بكسر اللام، الباقون بفتحها، التقدير اذكروا {إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ} لأن (إذ) لما مضى.
2. معنى أخذ الميثاق من النبيين بنصرة من لم يلقوه ولم يدركوا زمانه هو أنهم ينصرونه بتصديقه عند قومهم، ويأمرونهم بالإقرار به، كما قيل: إنما أخذ الله ميثاق النبيين الماضين بتصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا قول علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وقتادة والسدي، وقال طاووس: أخذ الميثاق الأول من الأنبياء لتؤمنن بالآخر، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال تقديره: وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين بتصديق كل أمة نبيها، والعمل بما جاءهم به، وإنهم خالفوهم فيما بعد، وما وفوا به وتركوا كثيراً من شريعته، وحرفوا كثيراً منه.
3. ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ﴾ قيل في معنى (ما) في لما وجهان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى الذي وتقديره الذي آتيتكموه من كتاب، لتفعلن لأجله كذا.
ب. الثاني: أنها بمعنى الجزاء، وتقديره، لان آتيكم شيئاً ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾، ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾، لأجله، وتقديره أي شيء آتيتكم، ومهما آتيتكم، ويكفي جواب القسم من جواب الجزاء، كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾
4. في معنى (من) قولان:
أ. أحدهما: أنها للتبيين ل (ما) كقولك ما عندك من ورق وعين.
ب. الثاني: أن تكون زائدة، وتقديره الذي آتيتكم: كتاب وحكمة، فيكون في موضع خبر (ما)، وأنكر هذا القول أكثر النحويين، لأن (من) لا تزاد إلا في غير الواجب من نحو النفي والاستفهام، والجزاء، والأول أصح، لأنه لا يجوز أن يحكم بزيادة حرف أو لفظ مع إمكان حمله على فائدة.
5. اللام في قوله: (لما) لام الابتداء، واللام في قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ لام القسم، كما تقول لعبد الله: والله لتأتينه، وقال قوم: اللام الأول خلف من القسم يجاب بجوابه، نحو لمن قدم ما أحسن، ولمن أتاك لأتيته، وأنكر هذا القائل أن تكون الثانية تأكيداً للأولى، لوقوع (ما) و(لا) في جوابها، كما تقع في جواب القسم، والقول الأول أصح، لأن فيه افصاحاً بالقسم، نحو لزيد والله ما ضربته والقول الثاني: صواب على تقدير آخر، وان يكون اللام خلفاً من القسم، كافياً منه، فلا يحتاج إلى ذكره معه ومن ذكره معه لم يجعله خلفاً منه، لأنه أضعف منه، والخلف أقوى من الدال الذي ليس بخلف، لأنه بمنزلة الأصل الموضوع للمعنى يفهم به من غير واسطة.
6. من كسر اللام في قوله: (لما) يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون على التقديم والتأخير.
ب. الثاني: بمعنى أخذ الله ميثاقهم لذلك.
7. قال بعضهم القراءة بالكسر لا تجوز، لأنه ليس كل شيء أوتي الكتاب وهذا غلط من وجهين:
أ. أحدهما: أنه أوتي الكتاب لعلمه به مهتدياً بما فيه، وان لم ينزل عليه.
ب. والآخر: أنه يجوز ذلك على التغليب بالذكر في الجملة، لأنه بمنزلة من أوتي الكتاب بما أوتي من الحكم والنبوة.
8. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون (لما) آتيتكم من كتاب وحكمة، بمعنى لتبلغن ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم يحذف؟ والجواب: لأنه لا يجوز الحذف في الكلام من غير دليل ينبئ عن المراد، ومن زعم أن الدليل على حذف الفعل لام القسم، فقد غلط، لأنها لام الابتداء التي تدخل على الأسماء، نحو ﴿لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
9. قيل في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ قولان:
أ. أحدهما: وقبلتم على ذلك عهدي.
ب. الثاني: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ من المتبعين لكم كما يقال: أخذت بيعتي أي قبلتها، وأخذتها على غيرك بمعنى عقدتها على غيرك.
10. الإصر العقد، وجمعه اصار وأصله العقد ومنه المأصر، لأنه عقد يحبس به عن النفوذ إلا بإذن، ومنه الأصر الثقل، لأنه عقد يثقل القيام به، ومنه قولهم مالك اصرة تأصرني عليك أي عاطفة تعطفني عليك من عقد جوار أو نحوه.
11. ﴿فَأَشْهِدُوا﴾ معناه فاشهدوا على أممكم بذلك ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم، وعليهم روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
12. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ التولي عن الايمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كفر ـ بلا خلاف ـ وإنما قال: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ولم يقل الكافرون، لأن تقدير الكلام فأولئك هم الفاسقون في كفرهم أي المتمردون فيه بخروجهم إلى الأفحش منه، وذلك أن أصل الفسق الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه، فلذلك قيل للخارج عن أمر الله إلى أفحش منازل الكفر، فاسق.
13. موضع (هم) من الاعراب يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون رفعاً بأنه مبتدأ ثان والفاسقون خبره، والجملة خبر أولئك.
ب. والآخر: أنه لا موضع له، لأنه فصل جاء ليؤذن أن الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة ويسمي الكوفيون ذلك عماداً.
14. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ وإن كان شرطاً وجزاء في المستقبل فان الماضي يدخل فيه من وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون تقديره فمن يصح أنه تولى، كما قال: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ﴾ أي إن يصح أن ﴿قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ﴾
ب. والآخر: مساواة الماضي للمستقبل، فيدخل في دلالته.
15. إنما جاز جواب الجزاء بالفاء ولم يجز ب (ثم)، لأن الثاني يجب بوجوب الأول بلا فصل، فلذلك جاء بالفاء دون (ثم)، لأنها للتراخي بين الشيئين، وذلك نحو قولك إن تأتني، فلك درهم، فوجوب الدرهم بالإتيان عقيبه بلا فصل.
16. إنما جاز وقوع الماضي موقع المستقبل في الجزاء ولم يجز في قام زيد غداً، لأن حرف الجزاء، لما كان يعمل في الفعل قوي على نقله من الماضي إلى الاستقبال، وليس كذلك (غد) وما أشبهه مما يدل على الاستقبال، لأنه نظير الفعل في الدلالة من غير عمل يوجب القوة، فلذلك جرى على المناقضة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/514.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الميثاق من المواثقة والمعاهدة، فهو من وثَّقْتُ) أي أحكمت، ويقال: وثقت أي أحكمت، ويقال: وثقت الشيء أحكمته، وسميت اليمين ميثاقًا؛ لأنه إحكام في الأمر، والميثاق هو الاستخلاف لإحكام الأمر، ومنه ﴿تُؤْتُونِ مَوْثِقًا﴾
ب. الإصر: العهد، وجمعه آصار، وأصله العقد، والآصرة: القرابة، وكذلك كل عقدة وقرابة وعهد فهو آصر، تقول العرب: ما تَأْصِرني على فلان آصرةً، أي ما تعطفني عليه قرابة، والأصل النقل.
2. لما تقدم ذكر الأنبياء عقبه بذكر نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أخذ الله تعالى من عهده على الأنبياء فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ أي عهدهم المؤكد عليهم ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾:
أ. بفتح اللام تقديره:
• الذي آتيتكم.
• وقيل: أي كتاب آتيتكم.
• وقيل: مهما آتيتكم، عن الزجاج والمبرد.
ب. وبالكسر لأجل ما آتيتكم.
3. ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ للأنبياء، عند جل المفسرين، وقال أبو مسلم: إنه خطاب لأهل الكتاب، وقد تقدم ذكرهم في قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾
4. ﴿فَاشْهَدُوا﴾ خطاب للنبيين اشهدوا على أمتكم ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ أي أعطيناكم كتابًا أنزل عليكم، وآتيناكم: أعطيناكم ﴿وَحِكْمَةٍ﴾ علم وفقه.
5. سؤال وإشكال: ليس كل نبي أوتي الكتاب فَلِمَ عَمَّ؟ والجواب: لوجهين:
أ. أحدهما: أنه أوتي؛ لعلمه به مهتديًا بما فيه، وإن لم ينزل عليه.
ب. الثاني: أنه على التغليب؛ لأنه بمنزلة من أوتي الكتاب بما أوتي من الحكمة والنبوة.
6. قال أبو علي: وفي الكلام محذوف، أخذ الميثاق على الرسل وأمرهم بأخذه على الأمم، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه.
7. اختلفوا في هذا الميثاق:
أ. فقيل: إنما أخذ عليهم الميثاق ليصدق بعضهم بعضًا، ويأمر بعضهم بالإيمان بالبعض، ومعنى النصرة: النصرة بالتصديق والحجة، عن سعيد بن جبير والحسن وطاووس.
ب. وقيل: إنما أخذ الميثاق على الأنبياء ليأخذوه على أممهم بتصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾، وإن بعث لتنصرنه، عن علي وابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي علي، وأبي مسلم.
ج. وقيل: بل أخذ ميثاق الأمم واجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم؛ لأنهم متبوعون، فاكتفى بذكرهم عن ذكر الأمم، عن ابن عباس.
د. وقيل: أخذ الميثاق على أهل الكتاب الَّذِينَ أرسل إليهم النبيون، عن مجاهد والربيع، وقال أبو مسلم: يعني ميثاق الرسل المأخوذ على الأمم بما في كتبهم من الإقرار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره من الأوامر.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾:
أ. قيل: نبي.
ب. وقيل: محمد.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾:
أ. قيل: أي يصدق الكتب التي معكم، بأن يكون على الصفة التي تجدونها فيه.
ب. وقيل: يصدقه بأنه حق.
10. ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ لتصدقنه ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ قيل: بالتصديق والنصرة على الأعداء ﴿قَالَ﴾ الله تعالى: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾:
أ. قيل: قبلتم على ذلك عهدي، نظيره ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾
ب. وقيل: أخذتم عهد الأمم، يعني قَبِلْتُم أنتم وأخذتم العهد على الأمم.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا﴾:
أ. قيل: يعني الأنبياء ﴿أَقْرَرْنَا﴾ بما أمرتنا بذلك.
ب. وقيل: الأمم قالت: أقررنا.
12. ﴿قَالَ﴾ الله تعالى: ﴿فَاشْهَدُوا﴾:
أ. قيل: فاعلموا ذلك، عن ابن عباس ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ﴾ أعلم ذلك.
ب. وقيل: فاشهدوا على أممكم بذلك ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم وعليهم، عن علي.
ج. وقيل: ليشهد بعضكم على بعض.
د. وقيل: قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا عليهم، ويكون كناية عن غير مذكور، عن سعيد بن المسيب.
هـ. وقيل: فاشهدوا بذلك على عبادي لتعلموا.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾:
أ. قيل: أعرض بعد هذا العهد.
ب. وقيل: بعد الإقرار والإشهاد.
14. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن طاعة الله وولايته إلى معصيته وعداوته.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الواجب على الرسول الإبلاغ والإتيان.
ب. أن من الواجب عليهم تصديق بعضهم لبعض.
ج. أنه تعالى أخذ العهد على الجميع بتصديق نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. أن الإعراض فسق وخروج من الدين.
هـ. أن الفسق من أسماء الشرع؛ لأنه أجراه مجرى الذم، فدل أنه في الشرع منقول إلى ذلك.
16. قرأ حمزة ﴿لَما﴾ بكسر اللام والباقون بفتحها، فالمكسورة لام الإضافة، والمفتوحة لام الابتداء، قال الأخفش: لام الابتداء دخلت على ﴿مَا﴾ الخبر، كقولك: لزيد أفضل من عمرو، و﴿مَا﴾ اسم والذي بعده صلة له، وجوابه في قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ وإن شئت جعلت خبر ﴿مَا﴾ في ﴿كِتَابٌ﴾ فتكون ﴿مِنَ﴾ زائدة، تقديره لما آتيناكم من كتاب وحكمة، ثم ابتدأ فقال: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ يعني يجيئكم، وإن شئت قدرت ثم أن جاءكم، وقال الفراء: من فتح اللام جعلها لامًا زائدة، والمعنى أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول لتؤمنن به، والجواب في قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ وقال الزجاج: هي لام التحقيق دخلت على ما الجزاء، واللام في ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ جواب الجزاء كقوله: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ﴾ وقال الكسائي ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ متصل بما قبله، وجواب الجزاء في قوله: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، فأما المكسورة فهي لام الإضافة على معنى الذي، تقديره ﴿الَّذِي﴾ آتيناكم يعني أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتيناكم من الكتاب، وقال صاحب النظم: من كسر اللام فهي بمعنى ﴿بَعْدِ﴾، يعني بعدما آتيناكم من كتاب، وعن سعيد بن جبير أنه قرأ ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بتشديد الميم، ومعناه حين آتيناكم، وقرأ أبو جعفر ونافع ﴿آتَيْنَاكُمْ﴾ بالنون على التفخيم كما يقول الملك: فعلنا، وقرأ الباقون بالتاء على التوحيد.
17. مسائل نحوية:
أ. العامل في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ﴾ محذوف، تقديره: واذكر إذ أخذ الله، وقيل: هو عطف ما تقدم في السورة من قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ﴾ ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ ونحوه، عن أبي مسلم.
ب. اللام التي في ﴿لَما﴾ بالفتح لام الابتداء، واللام الثانية لام القسم: لعبد الله والله لتأتينه)، كأنه قال: والله لتؤمنن به، وقيل: بل اللام الأولى خلف من القسم يجاب بجوابه، نحو: من أتاك لآتينه.
ج. معنى ﴿مَا﴾ في ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بمَعْنَى ﴿الَّذِي﴾، وقيل: بمعنى الجزاء، على تقدير: لأن آتيناكم شيئًا من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول لتؤمنن به لأجله، وقيل: بتقدير أي متى آتيتكم ومهما آتيتكم، وتكفى جواب القسم من جواب الجزاء، نحو ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾
د. في معنى ﴿مِن﴾ قولان: الأول: تبيين، كقولك: ما عندك من عين وورِقٍ.. الثاني: أنها زائدة، على تقدير الذي آتيتكم: كتاب وحكمة، فتكون في موضع خبر ﴿مَا﴾
هـ. اتصال لام ﴿لَما﴾ بالكسر: قيل: فلتؤمنن به، على التقديم والتأخير، وقيل: بأخذ الميثاق.
و. موضع ﴿هُمْ﴾ من الإعراب فيه قولان: الأول: أنه رفع بأنه مبتدأ، و﴿الْفَاسِقُونَ﴾ خبره، والجملة خبر.
ز. ﴿أُولَئِكَ﴾ قيل: لا موضع له؛ لأنه فصل جاء ليؤذن أن الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة، وهو يسمى العماد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/297.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما تقدم ذكر النبيين، عقبه سبحانه بذكر نبينا، وما أخذ من عهده عليه أجمعين، فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ العامل في ﴿إِذِ﴾:
أ. قيل: محذوف، وتقديره واذكر إذ أخذ الله.
ب. وقيل: هو عطف على ما تقدم من قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾:
أ. روى عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وقتادة أن الله أخذ ميثاق على الأنبياء قبل نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن يخبروا أممهم بمبعثه ونعته، ويبشرهم به، ويأمرهم بتصديقه.
ب. وقال طاووس: أخذ الله الميثاق على الأنبياء عليهم السلام على الأول والآخر، فأخذ الله ميثاق الأول لتؤمنن بما جاء به الآخر.
ج. وقال الصادق: تقديره وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين، بتصديق نبيها، والعمل بما جاءهم به، وأنهم خالفوهم فيما بعد، وما وفوا به، وتركوا كثيرا من شريعته، وحرفوا كثيرا منها.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾
أ. إذا كانت ﴿مَا﴾ بفتح اللام: موصولة فتقديره للذي آتيتكموه أي: أعطيتكموه ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ أي: نبي، وقيل: يعني محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي: لما آتيتكم من الكتب، ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ أي: لتؤمنن بالرسول ولتنصره، أو يريد: لتؤمنن بالذي آتيتكموه، ولتنصرن الرسول، وعلى هذا يكون المعنى أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، ويكون النصرة بالتصديق والحجة، وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وطاووس.
ب. وإذا كانت ﴿مَا﴾ بفتح اللام: للجزاء فتقديره: أي شيء آتيتكم، ومهما آتيتكم من كتاب، لتؤمنن، فالشرط: ايتاؤه إياهم الكتاب والحمة، ومجئ الرسول، والجزاء: القسم والمقسم عليه، وهو قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ فأغنى جواب القسم عن الجزاء، كقوله ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، وقوله ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ ﴿مِنَ﴾ هذه لتبيين لما نحو قولك: ما عندك من ورق وعين، وهذا خاتم من فضة، ويكون على هذا تقديره: إن الله تعالى قال لهم: مهما أوتيتم كتابا وحكمة، ثم يجيئكم به رسول مصدق لما معكم من ذلك الكتاب والحكمة، والله لتؤمنن به، ولتنصرنه، فأقروا بذلك، وأعطوا عليه مواثيقهم، وهذا أشبه بما ذكر أن الميثاق أخذ على الأنبياء ليأخذوا على أممهم بتصديق محمد إذا بعث، ويأمروهم بنصرته على أعدائه، إن أدركوه، وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي واختار أبوا علي الجبائي، وأبوا مسلم، ويكون معنى قوله ﴿جَاءَكُمُ﴾ جاء أممكم وأتباعكم، وإنما خرج الكلام على النبيين لأن ما لزمهم لزم أممهم.
ج. إذا كانت ﴿مَا﴾ بكسر اللام، فالمعنى أخذ الله ميثاقهم لما أتوه أي: لأجل ما أوتوه من الكتاب والحكمة، ولأنهم الأفاضل، وخيار الناس، ويكون اللام للتعليل، فيقضي أن يكون الإيتاء سابقا لأخذ الميثاق، وقوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾: متعلق بأخذ الميثاق، وهو في الحاصل راجع إلى معنى الشرط والجزاء، وقوله ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ أي: البشارة للأمم به.
4. ﴿قَالَ﴾، أي: قال الله لأنبيائه، ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ به وصدقتموه {َأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}:
أ. معناه: وقبلتم على ذلك عهدي، ونظيره: (فإن أوتيتم هذا فخذوه)
ب. وقيل: معناه وأخذتم العهد بذلك على أممكم.
5. ﴿قَالُوا﴾ أي: قال الأنبياء وأممهم ﴿أَقْرَرْنَا﴾ بما أمرتنا بالإقرار به ﴿قَالَ﴾ الله ﴿فَاشْهَدُوا﴾:
أ. قيل: بذلك على أممكم ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم، وعلى أممكم، عن علي.
ب. وقيل: فاشهدوا أي: فاعلموا ذلك أنا معكم أعلم، عن ابن عباس.
ج. وقيل: معناه ليشهد بعضكم على بعض.
د. وقيل: قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم، فيكون ذلك كناية عن غير مذكور، عن سعيد بن المسيب.
6. هذه الآية من مشكلات آيات القرآن، وقد غاص النحويون في وجوه إعرابها وتحقيقها، وشقوا الشعر في تدقيقها، ولا تراها في موضع أوجز لفظا، وأكثر فائدة، وأشد تهذيبا مما ذكرته هنا، وبالله التوفيق.
7. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: فمن أعرض عن الإيمان بمحمد بعد هذه الدلالات والحجج، وبعد أخذ الميثاق على النبيين الذين سبق ذكرهم، والمقصود بهذه الأمم دون النبيين، لأنه قد مضى أزمانهم، وجاز ذلك، لأن أخذ الميثاق على النبيين يتضمن الأخذ على أممهم، وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: لم يبعث الله نبيا، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث الله محمدا وهو حي، ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره بأن يأخذ العهد بذلك على قومه.
8. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ولم يقل الكافرون، لأن المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر، بتمردهم، وذلك أن أصل الفسق: الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه، وفي الكفر ما هو أكبر، وما هو أصغر بالإضافة إليه.
9. قرأ حمزة وحده ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بكسر اللام، والباقون بفتحها، وقرأ نافع ﴿آتَيْنَاكُمْ﴾ على الجمع، والباقون ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ على التوحيد.. والوجه في قراءة حمزة ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بكسر اللام أنه يتعلق بالأخذ، كأن المعنى: أخذ ميثاقهم لهذا، ويكون ﴿مَا﴾ على هذا موصولة، والعائد إلى الموصول من الجملة المعطوفة على صلته، وهي قوله ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ مظهر بمنزلة المضمر، وهي قوله: (ما معكم)، لأنه بمنزلة ما أوتوه من الكتاب والحكمة، فهذا يكون مثل قوله ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأنه في معنى لا يضيع أجرهم، ويجوز أن يكون ﴿مَا﴾ على هذه القراءة حرفا، فيكون بمعنى المصدر، قال أبو علي: ومن فتح اللام فقال ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ فإن ﴿مَا﴾ فيه يحتمل تأويلين أحدهما: أن يكون موصولة والآخر: أن يكون للجزاء، فمن قدر ﴿مَا﴾ موصولة فالقول فيما يقتضيه قوله ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ من الراجع إلى الموصول، ما تقدم ذكره في قراءة حمزة، وأما الراجع إلى الموصول من الجملة الأولى، فالضمير المحذوف من الصلة، تقديره: لما آتيتكموه.
10. مسائل نحوية:
أ. اللام في ﴿لَما﴾ فيمن قدر ﴿مَا﴾ موصولة: لام ابتداء، وهي المتلقية لما أجري مجرى القسم من قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ وموضع ﴿مَا﴾ رفع بالابتداء، والخبر ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ ولتؤمنن: متعلق بقسم محذوف، والمعنى: والله لتؤمنن به.
ب. الذكر الذي في ﴿بِهِ﴾ يعود إلى الذي آتيتكموه الذي هو المبتدأ، ونحوه قولك: لعبد الله، والله لتأتينه، والذكر الذي في {لتنصرنه} يعود إلى رسول الله المتقدم ذكره.
ج. إذا قدرت ﴿مَا﴾ للجزاء كانت ﴿مَا﴾ في موضع نصب بآتيتكم، وآتيتكم في موضع جزم بالشرط، وجاءكم في موضع جزم بالعطف، على ﴿آتَيْتُكُمْ﴾
د. اللام الداخلة على ﴿مَا﴾ لا يكون المتلقية للقسم، ولكن يكون بمنزلة اللام في لئن لم ينته المنافقون، والمتلقية قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ كما أنها في قوله ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ قوله ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾، وهذه اللام الداخلة على ﴿أَنْ﴾ لا يعتمد القسم عليه، فلذلك جاز حذفها تارة، وإثباتها تارة كما قال ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيلحق هذه اللام إن مرة، ولا تلحق أخرى، كما أن ﴿أَنْ﴾ كذلك في قوله: والله إن لو فعلت لفعلت، ووالله لو فعلت لفعلت.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/784.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾، قال الزجّاج: موضع (إذ) نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله، قال ابن عباس: الميثاق: العهد، وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان:
أ. أحدهما: أنه تصديق محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، روي عن عليّ، وابن عباس، وقتادة، والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه أخذ ميثاق الأوّل من الأنبياء ليؤمننّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاووس.
2. قال مجاهد والرّبيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتّاب، وهي في قراءة ابن مسعود: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) واحتجّ الرّبيع بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾، وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التّابع، وهذا معنى قول ابن عباس والزّجّاج.
3. اختلف العلماء في لام (لما) فقرأ الأكثرون (لما) بفتح اللام مع التخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير (لمّا) مشدّدة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم، وقال الفرّاء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ من الأخذ، قال الفرّاء: ومن نصب اللام جعلها زائدة، و(ما) هاهنا بمعنى الشّرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة، قال ابن الأنباريّ: اللام في قوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ على قراءة من شدّد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، لأن أخذ الميثاق يمين، وعلى قراءة من خفّفها، معناها: القسم، وجواب القسم اللام في قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ وإنما خاطب، فقال: آتيتكم، بعد أن ذكر النّبيّين وهم غيّب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطبا لهم: لما آتيتكم، وقرأ نافع (آتيناكم) بالنون والألف.
4. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ قال عليّ عليه السلام: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمّد وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضا.
5. الإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة، قال ابن قتيبة: أصل الإصر الثقل، فسمي العهد إصرا، لأنه منع من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد، وكلّهم كسر ألف (إصري) وروى أبو بكر، عن عاصم ضمّه، قال أبو عليّ: يشبه أن يكون الضمّ لغة.
6. ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ قال ابن فارس: الشّهادة: الإخبار بما شوهد، وفيمن خوطب بهذا قولان:
أ. أحدهما: أنه خطاب للنّبيين ثم فيه قولان:
• أحدهما: أن معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله عليّ بن أبي طالب.
• الثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل.
ب. الثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيّب، فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور.
__________
(1) زاد المسير: 1/300.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم، ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم.
2. إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لم يضم إليها مقدمة أخرى، وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم.
3. سؤال وإشكال: لقائل أن يقول: هذا إثبات للشيء بنفسه، لأنه إثبات لكونه رسولا بكونه رسولًا، والجواب: أن المراد من كونه رسولًا ظهور المعجز عليه، وحينئذ يسقط هذا السؤال.
4. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ﴾ فقال ابن جرير الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين، وقال الزجاج: واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين.
5. ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم، ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:
أ. الأول: وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاووس.
ب. الثاني: إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي.
6. الذين ذكروا أن هذا الميثاق هذا مختص بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم احتجوا على صحته من وجوه:
أ. الأول: أن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى، والمأخوذ منهم هم النبيون، فليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه:
• الأول: أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل، وهو الموثق له، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال ميثاق الله وعهده، فيكون التقدير: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم.
• الثاني: أن يراد ميثاق أولاد النبيّين، وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال: فعل بكر بن وائل كذا، وفعل معد بن عدنان كذا، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا هاهنا.
• الثالث: أن يكون المراد من لفظ ﴿النَّبِيِّينَ﴾ أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون.
• الرابع: أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: 1]
ب. الثاني: ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي)
ج. الثالث: ما نقل عن علي أنه قال: (إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه)، فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم.
7. الذين ذكروا أن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه، وهذا قول كثير من العلماء، احتجوا على صحته بوجوه:
أ. الأول: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال: (ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفاً، فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين، بل هم أمم النبيّين)، قال: (ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم)، أجاب القفال، فقال: (لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا هاهنا، وقال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقه: 44، 45، 46] وقال في صفة الملائكة: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 29] مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا هاهنا، ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] فكذا هاهنا)
ب. الثاني: أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام، أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه.
ج. الثالث: ما روي عن ابن عباس أنه قيل له: إن أصحاب عبد الله يقرؤن: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ونحن نقرأ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ فقال ابن عباس: (إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم)
د. الرابع: أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وبقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]
8. ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ قرأ الجمهور ﴿لَما﴾ بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير لما مشددة، أما القراءة بالفتح فلها وجهان:
أ. الأول: أن (ما) اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ والتقدير: للذي آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، وعلى هذا التقدير (ما) رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة (ما) وموصولتها محذوف والتقدير: لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: 41]، وعليه سؤالان:
• الأول: إذا كانت (ما) موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز، وقوله ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ ليس فيه راجع إلى الموصول، والجواب: يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90] ولم يقل: فإن الله لا يضيع أجره، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30] ولم يقل: إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا هاهنا.
• الثاني: ما فائدة اللام في قوله ﴿لَما﴾ والجواب: هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك: لزيد أفضل من عمرو، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم، وهذه اللام المتلقية للقسم، فهذا تقرير هذا الكلام.
ب. الثاني: وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن (ما) هاهنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، فاللام في قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ هي المتلقية للقسم، أما اللام في ﴿لَما﴾ هي لام تحذف تارة، وتذكر أخرى، ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك: والله لو أن فعلت، فعلت فلفظة (أن) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا هاهنا، وعلى هذا التقدير كانت (ما) في موضع نصب بآتيتكم ﴿وَجَاءَكُمُ﴾ جزم بالعطف على ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ و﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ هو الجزاء، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر.
9. الوجه في قراءة (لما) بكسر اللام هو أن هذا لام التعليل كأنه قيل: أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل وما على هذه القراءة تكون موصولة، وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول.
10. قراءة (لما) بالتشديد ذكر الزمخشري فيه وجهين:
أ. الأول: أن المعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق له، وجب عليكم الإيمان به ونصرته.
ب. الثاني: أن أصل (لما) لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات، وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت (لما) ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى.
11. قرأ نافع (آتيناكم) بالنون على التفخيم، والباقون بالتاء على التوحيد:
أ. حجة نافع قوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163]، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12]، ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ [الصافات: 117]، ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى.
ب. وحجة الجمهور قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الحديد: 9]، و﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: 1] وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ﴾ وقال بعدها: ﴿إِصْرِي﴾ وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي﴾ [الإسراء: 2] ولم يقل من دوننا كما قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُ﴾
12. ذكر الله تعالى النبيّين على سبيل المغايبة، ثم قال: ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ وهو مخاطبة إضمار والتقدير: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم: لما آتيتكم من كتاب وحكمة، والإضمار باب واسع في القرآن، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً، ثم قال تعالى بعده ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات.
13. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ﴾ إشكال، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم، فالإشكال أظهر، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب، بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه.
ب. الثاني: أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع.
14. الكتاب هو المنزل المقروء، والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها.
15. كلمة (من) في قوله ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ دخلت تبييناً لما كقولك: ما عندي من الورق دانقان.
16. سؤال وإشكال: ما وجه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم؟ والجواب: إن حملنا قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ أي جاء في زمانكم.
17. سؤال وإشكال: كيف يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدقا لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم؟ والجواب: المراد به حصول الموافقة في التوحيد، والنبوات، وأصول الشرائع، فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذلك في الحقيقة ليس بخلاف، لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف، إلا أنه في الحقيقة وفاق، وأيضاً فالمراد من قوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب، كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم، فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم.
18. سؤال وإشكال: حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق، والجواب:
أ. يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولًا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه، فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق.
ب. ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية المتقدمة وجب الانقياد له.
فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ يدل على هذين الوجهين، أما على الوجه الأول، فقوله ﴿رَسُولٌ﴾ وأما على الوجه الثاني، فقوله ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾
19. ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ المعنى ظاهر، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولًا، ثم الاشتغال بنصرته ثانياً، واللام في ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ لام القسم، كأنه قيل: والله لتؤمنن به.
20. قوله تعالى: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ يحتمل وجهين:
أ. إن فسرنا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ معناه: قال الله تعالى للنبيّين أأقررتم بالإيمان به والنصرة له.
ب. وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ أي قال كل نبي لأمته أأقررتم، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه، وإن كان النبيون أخذوه على الأمم، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقول، وأكدوا ذلك بالإشهاد.
21. الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر، إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته.
22. ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ أي قبلتم عهدي، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى: ﴿وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: 48] أي يقبل منها فدية وقال: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: 104] أي يقبلها.
23. الإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ [البقرة: 286] فسمى العهد إصراً لهذا المعنى، قال الزمخشري: سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد، ومنه الإصار الذي يعقد به وقرئ ﴿إِصْرِي﴾ ويجوز أن يكون لغة في إصر.
24. في قوله تعالى: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ في قوله: ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ خطاب للملائكة.
ج. الثالث: أن قوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172] على أنفسنا وهذا من باب المبالغة.
د. الرابع: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى.
هـ. الخامس: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له.
و. السادس: إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم.
25. ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ هو للتأكيد وتقوية الإلزام، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره، فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد، لأنه تعالى لا يخفي عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
26. ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم، وقوله ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ هذا شرط، والفعل الماضي ينقلب مستقبلًا في الشرط والجزاء.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/274.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل: أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالإيمان بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والسدي والحسن، وهو ظاهر الآية، قال طاوس: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر، وقرأ ابن مسعود ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، قال الكسائي: يجوز أن يكون ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، وقال البصريون: إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم، لأنهم قد اتبعوهم وصدقوهم.
2. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿لَما﴾ بمعنى الذي، قال سيبويه: سألت الخليل ابن أحمد عن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ فقال: لما بمعنى الذي، قال النحاس: التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه، ثم حذف الهاء لطول الاسم.
3. ﴿الَّذِي﴾ رفع بالابتداء وخبره ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، و﴿مِنَ﴾ لبيان الجنس، وهذا كقول القائل: لزيد أفضل منك، وهو قول الأخفش أنها لام الابتداء، قال المهدوي: وقوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف، والتقدير ثم جاءكم رسول مصدق به.
4. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ الرسول هنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول علي وابن عباس، واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين، كقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ﴾، فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم.
5. اللام من قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف، وهو كما تقول في الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، كأنك قلت أستحلفك.
6. فصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو ﴿لَما﴾ في قراءة ابن كثير على ما يأتي، ومن فتحها جعلها متلقية للقسم الذي هو أخذ الميثاق.
7. اللام في ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ جواب قسم محذوف، أي والله لتؤمنن به، وقال المبرد والكسائي والزجاج: ﴿مَا﴾ شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن، ومعناه (لمهما) آتيتكم، فموضع ﴿لَما﴾ نصب، وموضع ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ جزم، و﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ معطوف عليه،﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾
8. اللام في قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ جواب الجزاء، كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ﴾ ونحوه، وقال الكسائي: لتؤمنن به معتمد القسم فهو متصل بالكلام الأول، وجواب الجزاء قوله ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد.
9. قرأ أهل الكوفة ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بكسر اللام، وهي أيضا بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ، أي أخذ الله ميثاقهم لأجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به من بعد الميثاق، لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدم، قال النحاس: ولأبي عبيدة في هذا قول حسن، قال: المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به لما آتيتكم من ذكر التوراة، وقيل: في الكلام حذف، والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا، ودل على هذا الحذف ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، وقيل: إن اللام في قوله ﴿لَما﴾ في قراءة من كسرها بمعنى بعد، يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كما قال النابغة:
çتوهمت آيات لها فعرفتها...لستة أعوام وذا العام سابعé
أي بعد ستة أعوام، وقرأ سعيد بن خبير ﴿لَما﴾ بالتشديد، ومعناه حين آتيتكم، واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت ﴿مِنَ﴾ على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما، وقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الأولى منهن استخفافا.
10. قرأ أهل المدينة ﴿آتَيْنَاكُمْ﴾ على التعظيم، والباقون ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ على لفظ الواحد، ثم كل الأنبياء لم يؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض، ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب، والمراد أخذ ميثاق جميع الأنبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لأنه أوتي الحكم والنبوة، وأيضا من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب.
11. ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ من الإقرار، والإصر والأصر لغتان، وهو العهد، والإصر في اللغة الثقل، فسمي العهد إصرا لأنه منع وتشديد.
12. ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ أي اعلموا، عن ابن عباس، الزجاج: بينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، وقيل: المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم، ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم وعليهم، وقال سعيد بن المسيب: قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور.
13. ﴿فَمَنْ﴾ شرط، فمن تولى من أمم الأنبياء عن الإيمان بعد أخذ الميثاق ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي الخارجون عن الإيمان، والفاسق الخارج.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/125.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ فقال سعيد بن جبير، وقتادة، وطاووس والحسن، والسدّي: إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضا بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضا بذلك، فهذا معنى النصرة له والإيمان به، وهو ظاهر الآية، فحاصله: أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر وينصره، وقال الكسائي: يجوز أن يكون معنى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ بمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا، ودلّ على هذا الحذف قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ وما في قوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بمعنى الذي، قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ فقال ما بمعني الذي، قال النحاس: التقدير في قول الخليل: الذي آتيتكموه، ثم حذفت الهاء لطول الاسم، واللام لام الابتداء، بهذا قال الأخفش، وتكون: ما، في محل رفع على الابتداء، وخبرها: من كتاب وحكمة.
2. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد محذوف، أي: مصدّق به، وقال المبرد والزجاج والكسائي: ما شرطية دخلت عليها لام التحقيق، كما تدخل على إن.
3. ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف كما تقول: أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا، وهو سادّ مسدّ الجزاء، وقال الكسائي: إن الجزاء قوله: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾، وقال في الكشاف: إن اللام في قوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ لام التوطئة واللام في قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ جواب القسم، وما: يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن سادّ جواب القسم والشرط جميعا، وأن تكون موصولة بمعنى: للذي آتيتكموه لتؤمنن به.
4. قرأ حمزة: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بكسر اللام، وما بمعنى الذي، وهي معلقة بأخذ، وقرأ أهل المدينة: آتيناكم على التعظيم، وقرأ الباقون: ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ على التوحيد؛ وقيل: إن ما في قراءة من قرأ بكسر اللام: مصدرية، ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول الله مصدق لما معكم، واللام لام التعليل: أي لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به.
5. ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ هو من الإقرار، والإصر في اللغة: الثقل، سمّي العهد إصرا لما فيه من التشديد، والمعنى: وأخذتم على ذلك عهدي.
6. ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ جملة استئنافية كأنه قيل: ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل: قالوا: أقررنا، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك.
7. ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ أي: قال الله سبحانه فاشهدوا، أي: ليشهد بعضهم على بعض ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي: وأنا على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين.
8. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ أي: أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: الخارجون عن الطاعة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/409.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَ اَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ﴾ أمرهم أن يعطوا الله الميثاق في الإيمان بمحمَّد فأعطوه فأخذه منهم، أو أَخْذُه منهم بمعنى إلزامه إيَّاهم الميثاقَ بالإيمان به صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإذا لزمهم ذلك فأولى أن يلزم أممهم، والعهد مع المتبوع عهد مع التابع، أو أراد ميثاق النبيئين وأممهم فحذف، والأوَّل أولى؛ لأنَّ المفهوم أولى من المضمر إذا احتملا، أو أراد الميثاق الذي وَثِقوه على أممهم، أو ميثاق أولاد النبيئين وهم بنو إسرائيل، ويبعد أنَّه سمَّى بني إسرائيل أنبياء تهكُّما بهم إذ قالوا: نحن أولى بالنبوءة من محمَّد لأنَّا أهل كتاب، والنبيئون منَّا، ونحن أبناء الله وأحبَّاؤه؛ وقد ائتمنهم على الإيمان به فكفروا، فقال: وإذ أخذ الله ميثاق هؤلاء الأنبياء، كمن ائتمنته على شيء فخان وادَّعى الوفاء، أو لم يدَّعه، فقلتَ له: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟، وخرَّج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنَّهم لن يهدوكم وقد ضلُّوا، فإمَّا أن تصدِّقوا بباطل، وإمَّا أن تكذِّبوا بحقٍّ، وإنَّه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إِلَّا أن يتَّبعني)
2. ﴿لَمَآ ءَاتَيْنَاكُمْ﴾ اللَّام للابتداء، أو موطِّئة، و(مَا) مبتدأ شرطيَّة، أو موصولة؛ والرابط الهاء في (بِهِ) عائدة لـ (مَا) لا لـ (رَسُولٌ)، وجملة (لَتُومِنُنَّ بِهِ)، مع القسم المقدَّر خبر، أو جواب، أي: فوالله لتومننَّ به، أو والله لتومننَّ به، وجملة جواب القسم لا محلَّ لها، والقسم وجوابه محلُّه الجزم أو الرفع، وجملة (لَمَا..) إلخ جواب (مِيثَاقَ)؛ أو (لَتُومِنُنَّ بِهِ) جواب قسم مقدَّر قبل (لَمَا)، أو جواب (مِيثَاقَ) أغنى عن الخبر؛ أو عن جواب الشرط، ورابط الموصول محذوف، أي: آتيناكموه.
3. ﴿مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ هو ما آتاهم الله من كتاب وحكمة، وجملة (جاءكم رسول) عطفت على الصلة، ورابطها هو (ما) من قوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾، لأنَّ الذي معهم هو الذي آتاهم.
4. ﴿لَتُومِنُنَّ بِهِ﴾ أي: بما آتاكم، والإيمان بما آتاهم متضمِّن للإيمان بالرسول المصدِّق لِمَا معهم، ﴿وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ أي: الرسول المصدِّق لما معكم على الترتيب، كقولك: لئن جاء زيد بولده لتكرمنَّه ولتجعلنَّه من جملة أولادك، أي: تكرم زيدا وتجعل ولده كولدك، أو لتنصرنَّ ما آتاكم بالعمل به، أو لتؤمننَّ بالرسول ولتنصرنَّ ما آتيناكم، كقولك لئن جاء زيد على فرس لأضيِّفنَّه وأَعلِفَنَّها؛ ويجوز عود الهاءين للرسول ويقدَّر رابط الخبر، أي: لتؤمننَّ به فيه، فهاء فيه لـ (مَا ءَاتَيْنَاكُمْ)
5. ﴿قَالَ﴾ للنبيئين، ﴿ءَآقْرَرْتُمْ﴾ بذلك؟ والاستفهام تقرير، والمراد حمل المخاطب على الإقرار، ولذا أجابوا بـ (أقررنا) إنشاءً، ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُم﴾ أي: الإيمان والنصر، ﴿إِصْرِي﴾ أي: عهدي على أممكم، سمِّي إصرا لثقله، أو لأنَّه يأصر، أي: يشدُّ، وكأنَّه قيل: فماذا قالوا؟ فقال: ﴿قَالُواْ أَقْرَرْنَا﴾ وأخذنا على ذلك إصرك، فحُذِف للعلم به إنشاء للإقرار كما مرَّ، لا إخبار به، والتقدير: أقررنا بذلك وأخذنا إصرك، فحذف للعلم به مِمَّا قبلُ، قال سعيد بن جبير والحسن وطاوس: أخذ الله الميثاق على كلِّ نبيء أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، وينصره بنفسه وقومه، وإن لم يدركه أَمَر قومه أن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوه، فيؤمن آدم بشيت، وشيتُ بإدريس، وإدريس بنوح، إلى أن يؤمن موسى بعيسى، وعيسى بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم، ولو لم يُعلِمهم بأسماء مَن بعدهم، وقال عليٌّ وابن عبَّاس وقتادة والسُّدِّيُّ: أخذ الميثاق على الأنبياء كلِّهم أن يؤمنوا بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم، ويأمروا أقوامهم بالإيمان به ونصره، ويأخذوا العهد عن أقوامهم في ذلك إن أدركوه نصروه.
6. ﴿قَالَ﴾ الله، ﴿فَاشْهَدُواْ﴾ اِعزموا بقلوبكم فاشهدوا على أنفسكم وأتباعكم بذلك، أو ليشهد بعضكم على بعض، فكلُّ واحد شاهد ومشهود عليه، أو فاشهدوا أيُّها الملائكة على الأنبياء وأممهم بالإقرار، ولكن لم يَجْرِ للملائكة ذكرٌ، أو اشهدوا أيُّها الأنبياء على أممكم، ﴿وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليكم وعلى أممكم بإقرار، وهذا تحذير عن النكث عظيم، ﴿فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَالِكَ﴾ بعدما ذكر من الإقرار والميثاق الأكيد، والشهادة العظيمة، ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ المتولُّون، ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن الإيمان خروجا شنيعا فظيعا، إذ كان ارتدادًا بعد إيمان وبعد العهد والتوكيد بالإقرار والإشهاد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/310.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم، ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم، وإن كان ناسخا لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك، آمنوا به ونصروه أيضا، مبالغة في تشهير أمره، ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره، وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين.
2. قرئ في السبع بفتح اللام من ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ وكسرها، فعلى الأول هي موطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، وما حينئذ تحتمل الشرطية، و﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ سادّ مسد جواب القسم والشرط، وتحتمل الموصولة بمعنى (للّذي أتيتكموه لتؤمننّ به) وعلى الثاني، أعني كسر اللام فما إما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم الكتاب ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، وإما موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه، وجاءكم رسول مصدق له.
3. ﴿فَاشْهَدُوا﴾، أي يا أنبياء، بعضكم على بعض، بالإقرار، وفي قوله تعالى: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ توكيد عليهم.
4. من أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء، فمع أممهم أولى، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا، وهو حيّ، ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، قال ابن كثير: وهذا لا يضادّ ما قاله طاووس والحسن وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس.
5. من أثر عليّ عليه السلام هذا، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم كما نقل القاضي عياض في (الشفاء) عن أبي الحسن القابسيّ قال: استخص الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بفضل لم يؤته غيره أبانه به، وهو ما ذكره في هذه الآية.
6. بقي أن أبا مسلم الأصفهانيّ ذهب إلى أن في قوله تعالى: ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾، حذف مضاف، أي أممهم، وعبارته: (ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند مبعثه، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين، بل هم أمم النبيين)، قال: (ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما يليق بالأمم)، أجاب القفال، فقال: (لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، فكذا هنا) (2)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/343.
(2) إلى آخر كلامه كما ذكرناه عند ذكر تفسير الرازي
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الرازي عند تفسير ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾: (المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم، ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين، فهذا هو المقصود من الآية)، وقال محمد عبده: هذا رجوع على أصل الموضوع الذي افتتحت السورة بتقريره وهو التنزيل، وكون الدين عند الله واحدا، وهو ما كان عليه إبراهيم وسائر النبيين، وكون الله تعالى مختارا فيما يختص به بعض خلقه من مزية أو نبوة، وقد سيقت تلك المسائل لإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإزالة شبهات من أنكر من أهل الكتاب بعثة نبي من العرب واستتبع ذلك محاجتهم وبيان خطئهم في ذلك وفي غيره من أمر دينهم، وهذه المسألة التي تقررها هذه الآية من الحجج الموجهة إليهم لدحض مزاعمهم وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأن ما يعطونه من كتاب وحكمة وإن عظم أمره فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل من بعدهم مصدقا لما معهم منه وأن ينصروه، أي فالآية متصلة بما قبلها بالنظر إلى أصل الموضوع.
2. أما أخذ الميثاق من المرء وهو العهد الموثق المؤكد فهو عبارة عن كون المأخوذ منه وهو المعاهِد (بكسر الهاء) يلتزم للآخذ وهو المعاهَد (بفتح الهاء) أن يفعل كذا مؤكدا ذلك باليمين أو بلفظ من المعاهدة أو المواثقة.
3. في قوله تعالى: ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما أن معناه الميثاق من النبيين، فالنبيون هم المأخوذ عليهم، وعلى هذا يكون حكمه ساريا على أتباعهم بالأولى، كما قال محمد عبده.
ب. وثانيهما أن إضافة ميثاق إلى النبيين على أنهم أصحابه فهو مضاف إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول عهد الله وميثاق الله، وحينئذ يكون المأخوذ عليه مسكوتا عنه للعلم به، وتقديره: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم، أو الخطاب لأهل الكتاب والمعنى: وإذا أخذ الله عليهم ميثاق النبيين الذين أرسلوا إلى قومكم، أو التقدير ميثاق أمم النبيين.
4. كل من القولين مروي عن السلف، وممن قال بالثاني من آل البيت جعفر الصادق قال هو على حد ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: 1] فالخطاب فيه للنبي والمراد أمته عامة، والمقصود من الوجهين أو الطريقين في تفسير العبارة واحد وهو أن الواجب على الأمم التي أوتيت الكتاب إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه وجب ذلك عليهم بميثاق الله على أنبيائهم أو ميثاقه عليهم أنفسهم على لسان أنبيائهم.
5. اللام في قوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ لام التوطئة لأخذ الميثاق، قال الزمخشري: لأنه في معنى الاستحلاف أي أن الميثاق بمعنى القسم، فأخذه بمعنى الاستحلاف، و(ما) التي دخلت عليها اللام هي المتضمنة لمعنى الشرط ولمعنى مهما آتيتكم ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ واللام في ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ لام جواب القسم وجعلوا ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ سادا مسد جواب القسم وجواب الشرط جميعا، ويجوز أن تكون (ما) موصولة والعائد حينئذ محذوف أي: لما آتيتكموه: وقرأ حمزة (لما) بكسر اللام وهي لام التعليل و(ما) على هذه موصولة حتما، والمعنى أنه أخذ ميثاقهم لأجل ما ذكر، وقرأ نافع (آتيناكم) بالإسناد إلى ضمير الجمع تفخيما.
6. ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ قال فيه بعض المفسرين: إن لفظ ﴿رَسُولٌ﴾ فيه على إطلاقه، وقال بعضهم: إن المراد به هنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرد على هذا القول إشكال بناء على أن الميثاق قد أخذ على النبيين أنفسهم وهو أن هذا الرسول ما جاء في عصر أحد منهم، وكان الله تعالى يعلم ذلك عند أخذ الميثاق عليهم لأن علمه أزلي أبدي، وأجيب عنه بأنه ميثاق مبني على الفرض أي إذا فرض إن جاءكم وجب عليكم الإيمان به ونصره.
7. يكون المراد منه بيان مرتبته صلّى الله عليه وآله وسلّم مع النبيين إذا فرض أن وجد في عصرهم، وهو أنه يكون الرئيس المتبوع لهم، فما قولك إذا في أتباعهم لاسيما بعد زمنهم؟ وإنما كان له صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الاختصاص لأن الله تعالى قضى في سابق علمه بأن يكون هو خاتم النبيين الذي يجيء بالهدى الأخير العام الذي لا يحتاج البشر بعده إلى شيء معه سوى استعمال عقولهم واستقلال أفكارهم، وأن يكون ما قبله من الشرائع التي يجيئون بها هداية موقوتة خاصة بقوم دون قوم، واحتج القائلون بأن المراد بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بحجج منها حديث (والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني) رواه أبو يعلى من حديث جابر.
8. أما المعنى على الوجه الأول مع القول بأن الميثاق أخذ على الأنبياء فهو أنه لما كان القصد من إرسالهم واحدا وجب أن يكونوا متكافلين متناصرين إذا جاء واحد منهم في زمن آخر آمن به ونصره بما استطاع ولا يلزم من ذلك ان يكون متبعا لشريعته، كما آمن لوط لإبراهيم وأيد دعوته إذ كان في زمنه.
9. كل من القولين حجة على الذين يجعلون الدين سببا للخلاف والنزاع والعداوة والبغضاء، كما فعل أهل الكتاب في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والكيد له، فكان يدعوهم إلى كلمة سواء فلا يلقى منهم إلا الخلاف والشحناء.
10. سؤال وإشكال: سئل محمد عبده في الدرس عن إيمان نبي بنبي آخر يبعث في عصره، هل يستلزم ذلك نسخ الثاني لشريعة الأول؟ والجواب: قال: لا يستلزم ذلك ولا ينافيه، وإنما المقصود تصديق دعوته ونصره على من يؤذيه ويناوئه فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء مما جاء به الأول وجب التسليم له وإلا صدقه بالأصول التي هي واحدة في كل دين ويؤدي كل واحد مع أمته أعمال عبادتها التفصيلية ولا يعد ذلك اختلافا وتفرقا في الدين، فإن مثله يأتي في الشريعة الواحدة كأن يؤدي شخصان كفارة اليمين أو غيرها بغير ما يكفر به الآخر هذا بالصيام وذاك بإطعام المساكين وسبب ذلك اختلاف حال الشخصين فأدى كل واحد ما سهل عليه.. ولنا ان نضرب للمسألة مثل عاملين يرسلهما الملك في عصر واحد على ولايتين مستقلتين متجاورتين فلا شك انه يجب على كل منهما تصديق الآخر ونصره عند الحاجة وأنه يجب ان يكونا متفقين في الأصول العامة للسلطنة أو ما يعبر عنه أهل هذا العصر بالقانون الأساسي، وما يناسب ذلك، وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالي واستعدادهم وحال البلاد يقتضي اختلاف الأحكام الجزئية كأن تكون الضرائب قليلة في إحداهما كثيرة في الأخرى، وكل من العاملين يؤمن للآخر بذلك وإن لم يعمل بعمله، وكذلك يؤمن كل من النبيين المرسلين بكل ما جاء به الآخر وإن وافقه في الأصول دون جميع الفروع، ولا يعقل أن ينسخ ما جاء به الأول على لسان رسول آخر لقوم آخرين، وأما إذا بعث الرسولان في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء، ولا تنس موسى وهارون عليهما السلام، وأما مجيء النبي بعد النبي فيجوز أن ينسخ معظم فروع شرعه، وبهذا يتضح لك معنى تصديق نبينا بالكتب السابقة ولمن جاؤوا بها من الرسل وأنه لا يقتضي أن يكون شرعه التفصيلي موافقا لشرائعهم، ولا أن يقر أقوامهم على ما درجوا عليه.
11. قال تعالى لمن أخذ عليهم هذا الميثاق: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ﴾ أي قبلتم ﴿عَلَى ذَلِكُمْ﴾ الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصره ﴿إِصْرِي﴾ أي عهدي.
12. ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء، وقيل معناه فليشهد كل واحد على نفسه كما قال: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأعراف: 172]، وقيل معناه فبينوا هذا الميثاق للناس، وقيل معناه فاعلموا ذلك علما يقينا، كالعلم بالمشاهد بالبصر، وقال محمد عبده: إن هذا الأمر بالشهادة دليل على ترجيح قول جعفر الصادق أن العهد مأخوذ من الأنبياء على أممهم، والمعنى أن الله تعالى أمر الأنبياء بأن يشهدوا على أممهم بذلك وهو سبحانه معهم شهيد، وقال أيضا: إن العبارة ليست نصا في أن هذه المحاورة وقعت وهذه الأقوال قيلت، والمختار عنده ان المراد بها تقرير المعنى وتوكيده على طريق التمثيل.
13. من مباحث اللفظ في الآية أن الإقرار من قر الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، زيدت عليه همزة التعدية، فقيل أقر الشيء إذا أثبته وأقر به إذا نطق بما يدل على ثبوته، والأخذ التناول، وفسرناه هنا بالقبول وهو غايته لأن آخذ الشيء يقبله، وهو مستعمل كذلك في التنزيل قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: 46] ثم قال: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يؤخذ منها عدل} [البقرة: 123] فقال مرة إنه لا يؤخذ منها عدل ولا يقبل منها عدل، والمعنى واحد و(الإصر) في الأصل عقد الشيء وحبسه بقهره، والمأصر محبس السفينة، وفسر الإصر في ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: 157] بما يحسبهم عن الخير ويقعدهم عن عمل البر، وعلى هذا قال الراغب في الآية التي نفسرها: (إن الإصر هو العهد الموكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب والخيرات)، والأظهر عندي: أن يقول هو العهد الذي يحبس صاحبه ويمنعه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه، وتقدم تفسير الشهادة في آية: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾
14. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي إن من مقتضى ذلك الميثاق أن دين الله واحد وأن دعاته متفقون متحدون فمن تولى بعد الميثاق على ذلك عن هذه الوحدة واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، كأولئك الذين كانوا يجحدون نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويؤذونه، فأولئك هم الفاسقون أي الخارجون من ميثاق الله والناقضون لعهده وليسوا من دينه الحق في شيء، أقول: وهذا يؤكد أن الميثاق مأخوذ على الأمم.
__________
(1) تفسير المنار: 3/350.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم، وإظهارا لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبيّ من العرب، وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها، وهى أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبيّ آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه، فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدّقه في الأصول التي هي واحدة في كل دين، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين، فمثل هذا قد يأتي في الشريعة الواحدة، ففي كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام، وآخر بإطعام الطعام، وما سبب هذا إلا حال الشخصين، فكل منهما أدى ما سهل عليه، ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة، وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم، وفي حال البلاد في اليسر والرخاء، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى، والقوانين صارمة في واحدة، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.. وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره، أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.
3. في الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.
4. صفوة القول: إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى ـ أنه إذا جاء نبيّ بعده، وصدق بما معه يؤمن به وينصره، وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.
5. ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ أي قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصر له، وقبلتم العهد على ذلك؟ ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي قالوا أقررنا بذلك، قال الله تعالى: ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم، لا يعزب عن على شيء.. وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.
6. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شيء.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/200.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يصور الله تعالى حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات، على عهد من الله وميثاق، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق.. لقد أخذ الله ـ سبحانه ـ موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله، موثقا على كل رسول، أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه، أن يؤمن به وينصره، ويتبع دينه، وجعل هذا عهدا بينه وبين كل رسول.
2. التعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل؛ ويجمعهم كلهم في مشهد، والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة: هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، وهم يجيبون: ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾، فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ هذا المشهد الهائل الجليل، يرسمه التعبير، فيجف له القلب ويجب؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارئ الجليل، والرسل مجتمعين.
3. في ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلا متساندا مستسلما للتوجيه العلوي، ممثلا للحقيقة الواحدة التي شاء الله ـ سبحانه ـ أن تقوم عليها الحياة البشرية، ولا تنحرف، ولا تتعدد، ولا تتعارض، ولا تتصادم.. إنما ينتدب لها المختار من عباد الله؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به، فما للنبي في نفسه من شيء؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي، ولا مجد ذاتي، إنما هو عبد مصطفى، ومبلغ مختار، والله ـ سبحانه ـ هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء، ويخلص دين الله ـ بهذا العهد وبهذا التصور ـ من العصبية الذاتية، عصبية الرسول لشخصه، وعصبيته لقومه، وعصبية أتباعه لنحلتهم، وعصبيتهم لأنفسهم، وعصبيتهم لقوميتهم.. ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد، الذي تتابع به وتوالى ذلك الموكب السني الكريم.
4. في ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير صلّى الله عليه وآله وسلّم ومناصرته وتأييده، تمسكا بدياناتهم ـ لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته، ولكن باسمها تعصبا لأنفسهم في صورة التعصب لها! ـ مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهدا ثقيلا غليظا مع ربهم في مشهد مرهوب جليل.. في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذين يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم، فسقة عن عهد الله معهم، فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه، الخاضع لناموسه، المدبر بأمره ومشيئته: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق، ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ، شاذ في هذا الوجود الكبير، ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/421.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النبيّون صلوات الله عليهم قائمون على أمر واحد، هو الدعوة إلى الله، وكشف معالم الطريق للناس إليه، ودعوة الناس بدعوة الحق والخير كما أمر الله، ومن ثمّ كانت الجامعة بينهم، وكان النسب والقرابة! إذ كانوا جميعا يعملون في ميدان واحد، وغاية واحدة.. ونجاح الدعوة لأىّ منهم هو نجاح ضمنى لهم جميعا، وهو انتصار في موقع من مواقع الحق الذي يجاهدون في سبيله.
2. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ هو توكيد لهذه الجامعة التي تجمع بين النبيين، وتوثيق للأمر الذي شدّوا أيديهم عليه وعلى الجهاد في سبيله، فلقد أخذ الله العهد على النبيين واحدا واحدا، فيما ندبهم له، وفيما دعاهم إليه، وهو أن تتوحد في مجال الجهاد رايتهم، وألا ينسخ بعضهم بعضا، أو ينعزل بعضهم عن بعض.. فإذا قام نبيّ منهم يدعو إلى الله، ثم جاء نبيّ آخر يدعو بتلك الدعوة، كان على كل منهما أن يصدّق الآخر، ويؤمن به، وينصره فيما يدعو إليه، لأن نصرة هذا النبيّ نصرة له، ونصرة لرسالتيهما معا، وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم، في إيمان بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم بعضا، ونصرة بعضهم لبعض.. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعا، إذ هم المؤمنون بالله، وكتبه ورسله، فكل دعوة نبيّ هي دعوة جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء، ومعاداة أي نبيّ وأتباع أي نبيّ هي محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين: (إنما المؤمنون إخوة) وأتباع الأنبياء، المؤمنون برسالات الأنبياء، هم جميعا إخوة، يجمعهم التوحيد بالله، والعبودية لله!
3. في قوله تعالى: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ اللام موطئة للقسم الذي تضمنه العهد والميثاق الذي واثق الله به النبيين وعاهدهم عليه، والتقدير ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ لئن آتيتكم النبوة وما معها من كتاب وحكمة ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾
4. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ وصف للرسول الذي يجب الإيمان به ونصرته، وهو أن يكون ما معه من كتاب، وما يدعو إليه من دين، قائما على السنن الذي دعا إليه أنبياء الله ورسله، من الإيمان بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، فمن دعا إلى غير هذه الدعوة فليس نبيا وليس رسولا، فما أكثر أدعياء النبوة، ومدّعى الرسالة.
5. ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ الإصر العهد الموثّق.. وفي استحضار النبيّين، وأخذ الإقرار من أفواههم، وإشهادهم عليه، ثم شهادة الله على ما شهدوا عليه.. كل هذا يدل على مال هذا الأمر الذي عاهدهم الله عليه من شأن وخطر عظيمين: ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.. وكفى بالله شهيدا.
6. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ توكيد لهذا العهد، وتجريم لمن نقضه، ووقف من أنبياء الله ورسله موقف المشاق المنابذ.
7. في الآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين نقضوا عهد الله، هذا الذي أخذه على أنبيائهم وعلى أتباع أنبيائهم، فكذّبوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبهتوه، وكتموا ما في أيديهم من كتاب الله الذي لو استقاموا على ما فيه لكانوا أول المصدقين بمحمد، والمؤمنين به، إذ كانت التوراة تشهد لمحمد ولرسالته، وتبشّر به، كما يقول الله تعالى في أهل الكتاب، وموقفهم من الرسول الكريم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه أيضا: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
8. وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب هؤلاء الذين يكذبون رسل الله ويبهتونهم، بالفسق.. والفسق ـ في اللغة ـ هو الخروج من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، ثم كثر استعماله في الخروج من خير إلى شر.
9. أهل الكتاب هؤلاء كانوا على الإيمان قبل أن يمتحنوا بالدعوة التي حملها إليهم رسول الله، فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدى القوم الفاسقين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/510.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عطف ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ﴾ على ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ﴾ [آل عمران: 80] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم ليبلّغوه إليكم، فالمعطوف هو ظرف (إذ) وما تعلق به، ويجوز أن يتعلق (إذ) بقوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ مقدما عليه، ويصح أن تجعل (إذ) بمعنى زمان غير ظرف والتقدير: واذكر إذ أخذ الله ميثاق النبيين، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ معطوفا بحذف العاطف، كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله: ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾، ويصح أن تكون جملة ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ وما بعدها بيانا لجملة ﴿أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاق النبيين: من أنّ النبيين أعطوا ميثاقا لله فقال: أأقررتم قالوا: أقررنا إلخ، ويكون قوله: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ هو صيغة الميثاق.
2. هذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذنهم فيه بأنّ رسولا يجيء مصدّقا لما معهم، ويأمرهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون هذا الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال، بدليل قوله: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾.. إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، وبدليل قوله قال: ﴿فَاشْهَدُوا﴾ أي على أممكم، وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 129]، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام: (قال لي الربّ أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به)، وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولو كان المراد نبيئا إسرائيليا لقال أقيم لهم نبيئا منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعلّ النص الأصلي أصرح من هذا المترجم، والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة ففي متى قول المسيح (وتقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكنّ الذي يصبر ـ أي يبقى أخيرا ـ إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى) وفي إنجيل يوحنا قول المسيح (وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ـ وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم ـ ومتى جاء المعزّي روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي) إلى غير ذلك.
3. في أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا المعنى هو ظاهر الآية، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وطاووس والسدي، ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظرا إلى قوله: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ـ توهموه متعينا لأن يكون المراد بمن تولّى من النبيين المخاطبين، وستعلم أنه ليس كذلك ـ فتأوّلوا الآية بأنّ المراد أخذ العهد على أممهم، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل:
أ. فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبيائهم منهم.
ب. ومنهم من قدّر حذف المضاف أي أمم النبيئين أو أولاد النبيئين وإليه مال قول مجاهد والربيع، واحتجوا بقراءة أبي، وابن مسعود، هذه الآية: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب، ولم يقرأ ميثاق النبيئين، وزاد مجاهد فقال: إن قراءة أبي هي القرآن، وإنّ لفظ النبيئين غلط من الكتّاب، وردّه ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان (2).
4. قوله: {لما آتيناكم} قرأ الجمهور (لما) بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصوله مبتدأ وآتيناكم صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله ومن كتاب بيان للموصول وصلته، وعطف ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ﴾ على آتيناكم أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول، ولتؤمننّ اللام فيه لام جواب القسم والجواب سدّ مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على المذكور أي لتؤمننّ بما آتيناكم وبالرسول، أو هو عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره، وقرأه حمزة: بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلق بقوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ أي شكرا على ما آتيتكم وعلى أن بعثت إليكم رسولا مصدّقا لما كنتم عليه من الدين ولا يضرّ عمل ما بعد لام القسم فيما قبلها فأخذ الميثاق عليهم مطلقا ثم علّل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق، ولا يصح من جهة المعنى تعليق ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بفعل القسم المحذوف، لأنّ الشكر علة للجواب، لا لأخذ العهد، ولام ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ لام جواب القسم، على الوجه الأول، وموطئة للقسم على الوجه الثاني، وقرأ نافع، وأبو جعفر: آتينكم ـ بنون العظمة ـ وقرأه الباقون ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ بتاء المتكلم.
5. جملة ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾، والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق.
6. الإصر: بكسر الهمزة، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسدّ به، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ في سورة البقرة [286]
7. ﴿فَاشْهَدُوا﴾ إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق، وكذلك قوله: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ كقوله: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] وإن كانت شهادة على أممهم بتبليغ ذلك الميثاق فالمعنى فاشهدوا على أممكم بذلك، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيئون على الأمم.
8. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي من تولّى ممن شهدتم عليهم، وهم الأمم، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة المائدة [12]: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾
9. وجه الحصر في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أنه للمبالغة لأنّ فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/143.
(2) ليس المعتبر الإجماع على المصحف، وإنما على التواتر الشفهي للقراءة
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين عاصروا الرسالة المحمدية، وكيف كانوا يتعصبون لما عندهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ تشددا في التمسك بما عندهم على أن يكون على هواهم، وبين سبحانه كيف أداهم ذلك إلى الظلم، وإلى فساد الاعتقاد، بعد هذا بين سبحانه وتعالى وحدة الشرائع السماوية، وأنها يكمل بعضها بعضا، وأنها كالقصر المشيد، كل لبنة منه جزء من كيانه، وهو جماع لبناته وأركانه وأشكاله؛ وأكد سبحانه تلك الوحدة في الرسالة الإلهية ببيان أنها ميثاق الله على الأنبياء، وأن الله سبحانه أخذه عليهم ليصدق بعضهم بعضا فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾
2. الميثاق مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به الأمر، ويثبت ويؤكد؛ والميثاق الذي أخذه الله على النبيين هو ميثاق بمقتضى الهداية التي جاؤوا بها، والحق الذى يناصرونه، وهو مشتق من معنى النبوة، والرسالة الإلهية؛ فإن هذه الرسالة بمقتضى وظيفتها وعملها هي عهد موثق بين العبد المختار، والرب الذي اختاره، كمن يرسل رسولا، فإنه يكون ثمة عهد بين الرسول ومن أرسله، بأن يقوم بواجب الرسالة على الوجه الأكمل.. وإنه بمقتضى هذا العهد الموثق الذي اشتق من منصب الرسالة الاسمى، تكون الرسالة الإلهية واحدة في مقصدها وغايتها، وهى إسعاد البشرية، وتنظيم العلاقات الإنسانية على دعائم من الأخلاق الفاضلة المنبعثة من النفس العابدة، والروح الزاهدة، التي لا تحرم طيبات ما أحل الله، وإذا كانت الوسائل تختلف أحيانا قليلة، فالغاية واحدة، وهى الرحمة، وإقامة الحق والقسط بين الناس.
3. كل نبيّ متمم ما بدأ به النبيّ الذي سبقه، أو بالأحرى يؤكد ما جاء به ويوثقه ويقويه، حتى ختم الله أنبياءه بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان خاتم النبيين، ولذلك كان حقا على كل نبيّ أن يصدق ويؤمن بما يجيء به النبيّ الذي بعده، والذى أعلمه الله تعالى به، وإذا كان حقا على النبيّ المبعوث أن يؤمن بمن سبقه، ومن يجيئون بعده ممن أخبره الله تعالى بمجيئهم، فإنه بلا ريب حق على الذين يتبعونه أن يصدقوا ذلك النبيّ الذي يجيء بعده؛ لأنهم يتبعونه في كل ما يؤمن به؛ فحق على اليهود والنصارى بمقتضى العهد الذي أخذه الله على النبيين، وبمقتضى إيمان هؤلاء النبيين، وتنفيذا لهذا العهد، أن يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلا ما كانوا متبعين لموسى وعيسى عليهما السلام، إنما يكونون متبعين لأهوائهم وشهواتهم؛ ولذا يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه جابر: (لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعنى)
4. هذا هو معنى النص الكريم بالإجمال، بقى أن ننظر في تخريج هذه المعاني السامية من الألفاظ المقدسة، فنقول: إن في الآيتين قراءتين:
أ. إحداهما: القراءة بفتح (اللام) وتكون اللام في هذه الحال هي اللام الموطئة للقسم، التي تشعر بأن في الكلام قسما تضمنه سابقها؛ وأن ما بعدها يتضمن الجواب؛ وتكون (ما) شرطية، ويكون معنى الكلام: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن؛ أي أنه ميثاق الله وعهده إن أتاكم علم الكتاب والحكمة، وهى الشريعة الحاكمة، وجاء رسول أن تؤمنوا، فالعهد الأساس بينكم معشر الرسل، وبين من أرسلكم، أنه إن جاء كتاب الرسالة، وشريعتها التي هي حكمتها الحاكمة هو أن تؤمنوا بكل رسول يجيء بعدكم مصدقا لما معكم كإيمانكم بكتابكم: هذا تخريج معانى الآية على قراءة فتح (اللام)
ب. وثانيتهما القراءة بكسر (اللام) وتكون (ما) بمعنى الذى، فهو اسم موصول، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ عطف على الصلة، ويكون المعنى: أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين بسبب الكتاب الذي نزل، والحكمة التي جاؤوا بها، وتصديق النبيّ الذي جاء من بعدهم ـ أخذ عليهم عهدا بأن يؤمنوا به.
5. قوله تعالى: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ﴾ جواب القسم الذي تضمنه معنى الميثاق؛ لأن الميثاق المؤكد الموثق هو في حكم القسم المؤكد الموثق، وقوله تعالى: ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ عطف على لتؤمنن أي أن مقتضى العهد والميثاق على النبيين أن يؤمنوا بما جاء به الرسول الذي صدق ما معهم؛ وأن ينصروه إذا اختلف مع المشركين.
6. سؤال وإشكال: إنهم قد مضوا، فكيف تتصور منهم النصرة؟ إن تصور الإيمان منهم ممكن باعتبار أن الله تعالى مخبرهم بمبعثه، ولكن النصرة غير متصورة، والجواب: أن الكلام بالنسبة للأنبياء فرضى، وبالنسبة لأتباعهم واقعى؛ وكأن المراد أن هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء في عهد الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لآمنوا به، ولا تبعوه ونصروه وآزروه؛ لأن ذلك ميثاق الله الذي ربط النبوات بعضها ببعض، فهي متلاقية عند غاية واحدة، وإذا كان النبيون لا يفرض فيهم إلا ذلك فاتباعهم يجب عليهم أن يفعلوه إن كانوا متبعين لهم.
7. بعد أن صور الله سبحانه وتعالى ذلك العهد الموثق بمقتضى الرسالة الإلهية قال: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ في الجملة السابقة بيّن سبحانه عهد الله على النبيين، وفي هذه الجملة يوثقه ويؤكده بأخذ إقرار منهم بهذا الميثاق، وبأخذ عهد آخر عليهم، وهو أن يتولوا هم أخذ العهد على غيرهم بأن يقوموا بعهد الله تعالى الذي عاهدهم عليه؛ أي أنه سبحانه يأمرهم بأن يأخذوا ذلك العهد على أتباعهم؛ وهذا معنى ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ أي أخذتم من أتباعكم على ذلك الميثاق ـ أن ينفذوه وأن يتبعوه، وأن يقوموا بحقه عليهم، فثمة إذن عهدان: عهد الله على النبيين، وعهد النبيين على أتباعهم.
8. وهذا هو الإصر الذي أخذوه عليهم، فالإصر هنا هو العهد الموثق الشديد، وقد قال الراغب في أصل اشتقاق (أصر): (والإصر عقد الشيء وحبسه بقهره يقال أصرته فهو مأصور)، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ [الأعراف] أي الأمور التي تثبطهم، وتقيدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات.. و(الإصر) العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب، وعن الخيرات، قال تعالى: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾
9. وإذا كان أتباع النبيين قد أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالرسول ويصدقوه وينصروه، فإنه في عنق اليهود والنصارى أن يؤمنوا بمحمد وينصروه ويؤيدوه؛ لأن ذلك جزء من الرسالة التي أتوا بها.
10. ولقد زكى سبحانه العهد الذي أخذه النبيون على أتباعهم بقوله تعالى: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ أي أن الله سبحانه قد أخذ هذا الإقرار على أنبيائه، وأخذوا هم ذلك الميثاق على أتباعهم، وبعد ذلك أمرهم سبحانه بأن يشهدوا على أتباعهم بأنهم أخذوا ذلك الميثاق عليهم، فمعنى قوله تعالى: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ أي فاشهدوا أيها الأنبياء على أتباعكم بأنكم أخذتم عليهم تلك العهود بأن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقا لما معكم، وأنهم إذا لم يفعلوا فقد خالفوا العهد والميثاق، ونقضوا عهد الله تعالى الذي أمر النبيين بأخذه عليهم، ثم أكد سبحانه وتعالى تلك الشهادة بشهادته سبحانه وتعالى، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ وأي شهادة أجل وأعظم من شهادة خالق السماوات والأرض ومن فيهما، وإن هذا كله ينتهي بلا ريب إلى أن اليهود والنصارى عليهم أن يتبعوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن ينصروه، وأن يؤمنوا به، وعليهم أن يعلموا أن ذلك اتباع لدينهم، وأنهم إن ناوؤوا الرسول، فإنما يناوءون أنبياءهم، وأنهم بمخالفتهم له قد خرجوا عن دينهم الذي ارتضوا، والذى يزعمون أنهم يناقضون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لتأييده ونصرته.
11. هذه الآية السامية تدل على وحدة الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، فما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى هو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذا قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى]
12. ولهذه الوحدة الدينية في الرسالة الإلهية سمى الله سبحانه كل مكذب لنبي مكذبا لدين الله، ولو كان يدعى أنه يتبع دينا ولذا سمّى الخارجين فاسقين فقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، أي فمن أعرض بعد ذلك عن الإيمان بمحمد وعن نصرته وتأييده، فأولئك هم الفاسقون، أي الخارجون على كل دين غير المؤمنين بأي نوع من الإيمان، فلم يؤمنوا لا بأنبيائهم ولا بمحمد، ولا بمن يدّعون الإيمان بهم، وقد أكد فسقهم بالإشارة بالبعيد، وبتعريف الطرفين الذي يفيد انحصارهم في الفسق وانحصار الفسق فيهم، وأكد أيضا بضمير الفصل الذي يفيد التخصيص.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1293.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا فرق بين النبي والمصلح من حيث الصدق في النية، والإخلاص في العمل، ويفترق النبي عن المصلح بأن النبي لا يخطئ، لأنه يقول ويفعل بوحي من الله، أما المصلح فيعتمد على نظره واجتهاده، والمجتهد يخطئ ويصيب، ومن ثم أمكن الاختلاف بين المصلحين في الاجتهاد ووجهة النظر، وصح نفي المسئولية عن المخطئ، أما الاختلاف بين الأنبياء فمحال، لأنهم جميعا يعتمدون على مصدر واحد، وهو الوحي الذي يوجه الجميع، فالأنبياء أشبه بموظفي الدولة لتبليغ أوامرها إلى الرعايا والمواطنين.
2. ويترتب على هذا ان الله إذا بعث نبيين إلى أمة واحدة، وفي عصر واحد فإنهما يكونان متفقين في كل شيء، كما حدث لموسى وهارون عليه السلام، وإذا اختلف زمن الأنبياء وتعدد فإنهم متفقون جميعا، من حيث الفكرة والمبدأ، بخاصة في الأصول الأساسية، كالإيمان بالله واليوم الآخر، وان كان هناك من اختلاف فإنما هو في الشكل، وفي الأحكام العملية التي تستدعيها بعض الظروف والملابسات، حتى هذه يعترف جميع الأنبياء بأنها صدق وحق، وضرورية في حينها، وعليه فلا اختلاف بين الأنبياء إطلاقا.. ومن أجل هذا صدّق كل نبي ما جاء به الآخر متقدما عليه كان أو متأخرا عنه.
3. سؤال وإشكال: من الممكن أن يصدّق اللاحق السابق، بل ان ذلك واقع بالفعل، فها نحن نؤمن بنبوة عيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وآمن ابراهيم بما جاء به نوح، وموسى بما جاء به الاثنان، وعيسى بما جاء به الثلاثة، وآمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجميع.. ان هذا معقول جدا، ولكن كيف يعقل ان يؤمن السابق بمن لم يوجد بعد؟ والجواب: ان الله سبحانه يوحي إلى النبي السابق بأنه سيرسل بعده نبيا اسمه وصفاته كذا، وان على السابق أن ينوّه باللاحق، ويبلّغ الجيل الذي هو فيه من أمته، حتى يبلغ الجيل الذي يليه، وهكذا فإذا أتى اللاحق وجد السبيل ممهدا لتصديقه والايمان برسالته.
4. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، المفهوم من دلالة السياق ان المراد بالنبيين هنا الأنبياء والأمم التابعة لهم، لا الأنبياء وحدهم، والمراد بالرسول خصوص محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، والمعنى ان الله سبحانه بعد أن بيّن للأنبياء، والأمم التابعة لهم الدين أصولا وفروعا أخذ عليهم جميعا عهدا بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويناصروه، كما انه هو بدوره يصدّق من سبقه من الأنبياء، وما تركوه من الكتب، كالتوراة والإنجيل.
5. ثم ان أخذ الله سبحانه الميثاق من الأنبياء انما يكون بطريق الوحي اليهم، أما أخذه تعالى الميثاق من الأمم التابعة للأنبياء فيكون بواسطة الأنبياء، أي ان كل نبي يأخذ الميثاق من علماء أمته أن يؤمنوا بمحمد ويناصروه، وبتعبير أدق ان أخذ الميثاق على المتبوع يلزمه حتما أخذه على التابع، وإذا وجب على النبي أن يؤمن بمحمد وجب ذلك على اتباعه بطريق أولى، ومعنى ايمان الأنبياء بمحمد ومناصرته، أن يعتقدوا بأنه آت من بعدهم، وأن يبشروا بذلك، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، وقال الإمام علي عليه السلام: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمره أن يأخذ العهد على قومه فيه، بأن يؤمنوا به، ويناصروه إذا أدركوا زمانه.
6. معنى ايمان أمم الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومناصرتهم له ان يصدقه علماؤهم ورؤساء أديانهم، ويعلنوا لمن يثق بهم ان محمد بن عبد الله هو النبي الذي بشر به الأنبياء، وجاء اسمه في الكتب السماوية، بحيث ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾، ولا يحرفون كلام الله كفرا وعنادا له ولمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما أخبر عنهم سبحانه في الآية 75 من سورة البقرة: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
7. ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾، الاستفهام هنا للتقرير والتوكيد، والإصر الميثاق، والمعنى ان الله قال للأمم بلسان أنبيائهم: أأقررتم بمحمد وقبلتم العهد؟ قالت الأمم: نعم، أقررنا بوجوب الإيمان به وبمناصرته، وقبلنا ذلك والتزمناه، والمراد بالأمم رؤساء الأديان وعلماؤهم العارفون بالكتب السماوية، ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾، أي قال الله بلسان أنبيائه للأمم: ليشهد بعضكم على بعض بأنه أقر بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوب مناصرته، ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ان الله وملائكته وأنبياءه يشهدون على أخذ هذا الميثاق من علماء الأديان وإقرارهم به.. ولكن برغم ذلك فقد أنكر أحبار اليهود والنصارى هذا الميثاق، وكذبوا محمدا، ونصبوا له المكائد والمصائد، كما سبق ذلك مفصلا فيما تقدم من الآيات.
8. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، أي من أعرض عن الايمان بمحمد بعد أخذ الميثاق عليه، والإقرار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوب مناصرته ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، المراد بالفسق هنا الكفر، لأن كل من حرّف آية من كتاب الله، أو أنكر نبيا من أنبياء الله على علم منه بنبوته فهو كافر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/98.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها والسياق سياق واحد مستمر جار على وحدته وكأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب والدين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيين وإنكار آيات نبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونفي أن يكون نبي من الأنبياء كموسى وعيسى عليه السلام يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين والملائكة أربابا على ما هو صريح قول النصارى، وظاهر قول اليهود.
2. شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك، وقد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء، وتبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى عليه السلام لموسى وشريعته، وتبشيره بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أممهم وأشهدهم عليهم، وبين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.
3. ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن أمته، وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن أمته بواسطته كما سيجيء بيانه.
4. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ الآية كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ الآية، وقوله بعد: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذا من غيرهم أيضا بواسطتهم.
5. على هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ﴿مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد، وبعبارة أخرى يجوز أن يراد بالنبيين، المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد: أن النبيين بعدما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعو إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.
6. ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ القراءة المشهورة، وهي قراءة غير حمزة بفتح اللام والتخفيف في ﴿لَما﴾ وعليها فما موصولة وآتيتكم، ـ وقرأ آتيناكم ـ صلته، والضمير محذوف، يدل عليه قوله: ﴿مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾، والموصول مبتدأ خبره قوله: ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ الآية واللام في لما ابتدائية، وفي لتؤمنن به لام القسم، والمجموع بيان للميثاق المأخوذ، والمعنى: للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة، ويمكن أن يكون ما شرطية وجزاؤها قوله ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، وهذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر، والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف، وأما قراءة كسر اللام في (لما) فاللام فيها للتعليل وما موصولة، والترجيح لقراءة الفتح.
7. الخطاب في قوله: ﴿آتَيْتُكُمْ﴾، وقوله: ﴿جَاءَكُمُ﴾، وإن كان بحسب النظر البدوي للنبيين لكن قوله بعد: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، قرينة على أن الخطاب للنبيين وأممهم جميعا أي أن الخطاب مختص بهم وحكمه شامل لهم ولأممهم جميعا فعلى الأمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا وينصروا.
8. ظاهر قوله: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾، التراخي الزماني أي إن على النبي السابق أن يؤمن وينصر النبي اللاحق، وأما ما يظهر من قوله: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ الآية أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق واللاحق للآخر، وأن على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيء إن شاء الله العزيز.
9. ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾، الضمير الأول وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر، قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ الآية، لكن الظاهر من قوله: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية، رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة، ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول، والمعنى لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقا لما معكم.
10. ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾، الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، والإصر ـ هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذا منه غير الأخذ وليس إلا أمم الأنبياء، فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من أممكم قالوا: أقررنا، وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ عطف بيان لقوله ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾، ويؤيده قوله: ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ من غير أن يذكر الأخذ في الجواب، وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الأمم ويبعده قوله: ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا﴾، لظهور الشهادة في أنها على الغير، وكذا قوله بعد: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ الآية من غير أن يقول: قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل نفسه وأمته إلا أن يقال: إن اشتراك الأمم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾، وقوله: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾، من غير أن يفيد قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ﴾، في ذلك شيئا.
11. ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء وأممهم جميعا، ويشهد لذلك كما مر قوله: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾، ويشهد لذلك السياق أيضا، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى عليه السلام وغيرهما كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾، وغيره، وربما يقال: إن المراد بقوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال: إن المخاطبين بقوله: ﴿فَاشْهَدُوا﴾، هم الملائكة دون الأنبياء، والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شيء منهما بغير قرينة، وقد عرفت أن القرينة على الخلاف.
12. من اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ ـ إلى قوله: ـ ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾، وقد مر في ذيل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية، الفرق بين النبوة والرسالة وأن الرسول أخص مصداقا من النبي، فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس، وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء، وهو ظاهر، فمحصل معنى الآية على ما مر: أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء وأممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم وينصرن الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم والمعاصر، وبشارة من المتقدم بالمتأخر وتوصية الأمة، ومن الأمة الإيمان والتصديق والنصرة، ولازم ذلك وحدة الدين الإلهي.
13. ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويبشروا أممهم بمبعثه، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ، بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق.
14. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الآية تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور، والمعنى واضح.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/332.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {وَ} اذكروا يا أهل الكتاب {إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} على الإيمان والنصرة لأي رسول أرسله الله وأتاهم مصدقاً لما معهم، والمقصود بهذا العهد: أتباعهم الذين أتاهم رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدقاً لما معهم من كتب الله، الذي لو بعث في حياة أنبيائهم الأولين لوجب عليهم الإيمان به ونصره بهذا العهد الموثق ليعلموا اتباعهم الذين بعث فيهم أنه رسول من الله يجب عليهم الإيمان به ونصره، ولعل هذا معنى ما حكاه الشرفي في (المصابيح) عن الإمام أبي الفتح الديلمي عليه السلام حيث قال: قال في (البرهان): والميثاق الذي أخذه الله عليهم هو: أن يأخذوا على قومهم بتصديق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذلك ما حكاه الشرفي عن الإمام المرتضى محمد بن الهادي عليهما السلام حيث قال: قال المرتضى عليه السلام: معنى ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمخاطبون فهم أهل الكتاب) انتهى المراد، ولعله يعنى الخطاب بحكاية أخذ الميثاق.
{وَ} أي اذكروا يا أهل الكتاب ﴿أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ بيان لما أخذ عليه ميثاقهم، كقول يعقوب عليه السلام: {حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ} [يوسف: 66] وجعل العهد معلقاً على ما آتاهم من الكتاب والحكمة أن يكون سبباً للإيمان بالرسول المصدق له، وهذا مناسب للآية التي قبل هذه ومؤكد لمعناها، لأنه دل على أن الواجب أن يكون الكتاب والحكمة سبباً للإيمان ولا يكون سبباً للدعوة إلى الشرك أو الكفر بالرسول المصدق لما معهم.
2. الآية الكريمة عامة للنبيئين توجب عليهم الإيمان بكل رسول يأتي مصدقاً لما معهم، وسياقها يوضح: أن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قَدْ تَنَاوَله العهدُ العامُ للنبيئين أن يؤمنوا به لو جاءهم في حياتهم لأنه مصدق لما معهم وينصروه، وذلك حجة على من ينتمي إليهم من أهل الكتاب العارفين بهذا الميثاق الممثل لوحدة النبيئين في هذا التكليف ومنع تعصب أتباعهم لهم بحيث يكفرون بالرسول المصدق لما معهم افراطاً في التعصب أوتستراً باسم الدين واسم اتباعهم لأنبيائهم.
3. {لَمَا آتَيْنَاكُم} على قراءة نافع (ما) موصولة مبتدأ، والخبر القسم المقدر وجوابه، أي والله لتنصرنه، والرابط مقدر أي من أجله أي بسبب ما آتيناكم، أو أغنى عن الرابط ضمير الرسول المصدق لما معكم وهو (ما آتيناكم) فكأنه قيل: ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ﴾ من كتاب وحكمة لتؤمنن بالرسول المصدق له.
4. ﴿قَالَ﴾ الله للنبيئين ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ أقررتم هذا الميثاق ورضيتموه ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ﴾ الذي هو الإيمان والنصرة ﴿إِصْرِي﴾ عهدي الثقيل الذي تتقيدون به، أي احتملتم الميثاق الذي حملتكم ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ رضينا وقبلنا، وكفى هذا في احتمالهم ما حملوا؛ لأنه قد لزمهم بحكم الله، فليس منهم إلا الرضى وكان الرضى هو أخذ الميثاق، إلا أن له وجهتين: وجهة القبول والرضى واجتناب الإباء لحكم الله، ووجهة تحمله بالرضى به نفسه.
5. ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ﴿فَاشْهَدُوا﴾ بهذا الميثاق المأخوذ عليكم لدى أممكم ليعلموا به ويعملوا بموجبه ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ به فحكمه لا يضيع أبداً.
6. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ﴿تَوَلَّى﴾ عن العمل بموجب هذا الميثاق، ويدخل فيه تولي أتباعهم؛ لأنه ملزم لهم من حيث دلالته على أنه الحق الذي يجب اتباعه لكونه الحق، ولذلك فالمتولون عن اتباع الرسول الذي أخذ الميثاق على الأنبياء بالإيمان به ونصرته من اتباع الأنبياء ﴿هُمْ﴾ أي الأتباع المتولون ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ أي الخبثة الفاجرون، وهذا لوضوح الحق وأنهم لم يعدلوا عنه إلا لفسقهم، فهي كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ [البقرة: 99]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/493.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ليست النبوّات ـ فيما أنزله الله سبحانه ـ حركات بشرية منفصلة عن بعضها البعض في الفكر والسلوك والهدف، لتكون مضادة لبعضها البعض في ما اختلفت فيه، وليس الأنبياء بشرا يتحركون من خلال تجاربهم الخاصة وأفكارهم المحدودة ونظراتهم المتنوعة في ما حولهم من قضايا الحياة لتكون القضية عندهم تنافسا على تأكيد الذات وتنافرا في قضايا الدعوة في ما يختلف فيه فكرها وأسلوبها.. بل القضية هي أن النبوات حلقات متصلة في سلسلة الوحي الذي يريد للحياة أن تتكامل فكرا وعملا وهدفا، من خلال هذه الحلقات التي تمثل مجموعة المراحل التي يكمل بعضها بعضا؛ فلكل مرحلة بعض من فكر، ونوع من أسلوب، ووجه من عمل.. وقد تختلف هذه في خصائصها التي تتنوّع في حساب الزمن، ولكنها تلتقي في النتيجة والهدف في نهاية المطاف تبعا لطبيعة التكامل، أما الأنبياء فهم القائمون على هذه المراحل، الذين يتلقّون وحي الله في وعي وانفتاح، ويعملون على أن تكون مرحلتهم استكمالا للمرحلة السابقة في ما نقص منها في حساب الزمن الجديد الذي يفرض معطيات وحلولا جديدة لمشاكل طارئة، فلا يتعقدون من الرسالة السابقة لحساب موقع رسالتهم، ولا يعيشون الشعور السلبي تجاه الرسل الذين سبقوهم، لأن القضية لا تمثل مواقع ذاتية لديهم يحاول فيها اللاحق أن يلغي دور السابق، وتعمل الحركة الجديدة على أن تنسف الحركة القديمة، بل هي قضية الرسالة الممتدة في الزمن في خطوط متصلة في مواكب الأنبياء التي ترسم للحياة حركتها التي تتكامل وتتعانق وتتصاعد لتحقق هدفها الكبير في لقاء الإنسان بالله، وهكذا رأينا السّيّد المسيح عليه السّلام يقول: (جئت لأكمل الناموس)، كما ثبت عن الرسول العظيم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، مما يوحي بالحقيقة الرسالية التي تجعل من كل رسول عنصرا، مما يوحي بالحقيقة الرسالية التي تجعل من كل رسول عنصرا متمّما للرسول الآخر، وقد جاءت هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب مميّز بارز، وذلك بالتأكيد على أن الله أخذ العهد والميثاق على النبيّين، أن يؤمن بعضهم ببعض، وأن ينصر بعضهم بعضا من خلال التصديق بالرسالة الذي يعلنه اللاحق للسابق، سواء كان ذلك في نطاق وحدة الزمن، أو في نطاق تعدّده، حيث تتمثل النصرة بالأمر بتصديقه من خلال اتباعه في ما يبشرهم ويدعوهم إلى الإيمان به.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ الذين أراد لهم أن يتحركوا في الحياة من خلال الرسالة التي حمّلهم مسئولية إبلاغها للناس، على أساس الخط الواحد الذي يمثل المسيرة الواحدة التي يرتبط فيها آخر الزمن بأوله، في عملية تكامل في الفكر والعمل والحركة الواعية، ليتوزع الأنبياء الأدوار تبعا للرسالة التي تحدد للإنسان حاجاته في مدى المتغيرات الحادثة في امتداد الزمن.
3. ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ في خط النظرية من خلال الكتاب، وفي خط التطبيق من خلال الحكمة، ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ برسالة جديدة وكتاب جديد وحكمة جديدة، ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ لأن الكتب الموحى بها من قبلي، والرسالات المنزلة على الناس مني، لا تتناقض ولا تختلف ولا يلغي بعضها بعضا، بل تتكامل وتنفتح في مفاهيمها المتنوعة في العقيدة والإنسان والكون والحياة، ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ لأنه يمثل الحقيقة الرسولية في مسيرة الرسالات، مما يؤكد أن الإيمان يفرض وحدة الرسل في شرعية الرسالة، ﴿وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ بالدعوة إلى الإيمان به من قبل اتباعهم في الخطوط العامة لرسالاتكم، بحيث يرون أن الإيمان به ونصرته جزء من الإيمان العام الذي ينتمون إليه.
4. وقد أكّد القرآن هذا الميثاق في الحوار الذي دار بين الله وبين الأنبياء: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ والإصر: الميثاق، ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ على أممكم التي بلغتموها ذلك، ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ عليهم وعليكم، هذا يعني أن الأنبياء استجابوا لله في إقرارهم الإعلاني ليبلّغوا ذلك لأممهم حتى يؤكدوا ذلك في التزامهم الديني برسلهم، لأن ميثاق الأنبياء يتحول إلى ميثاق يلتزمه المؤمنون بهم.
5. ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ وأعرض، وكان متمردا على الميثاق، فهو وكل من سار في هذا الاتجاه ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الذين تجاوزوا الحدّ في ما أراد الله لهم أن يقفوا عنده.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/134.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى وجود علائم لنبيّ الإسلام في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع الله ميثاقا بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشيء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم.
2. في الواقع، مثلما أنّ الأنبياء والأمم التالية تحترم الأنبياء السابقين ودياناتهم، فإنّ الأنبياء السابقين والأمم السابقة كانوا يحترمون الأنبياء الذين يأتون بعدهم، وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء الله، وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.
3. (الميثاق) من (الوثوق)، أي ما يدعو إلى الاطمئنان به والاعتماد عليه، و(الميثاق) هو الاتّفاق المؤكّد، وأخذ الميثاق من الأنبياء مصحوب بأخذ الميثاق من أتباعهم أيضا، كان موضوع هذا الميثاق هو أنّه إذا جاء نبيّ تنسجم دعوته مع دعوتهم (وهذا ما يثبت صدق دعوته) فيجب الإيمان به ونصرته.
4. ثمّ لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهدا بهذا الموضوع؟ وجوابا على ذلك ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾، ثمّ لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول الله: كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم ﴿قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾
5. ثم يذم الله تعالى ويهدد ناقضي العهود ويقول: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، فلو أن أحدا بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة ـ أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى، ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار.
6. سؤال وإشكال: هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة لنبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، أم أنّها تشمل كلّ نبيّ يبعث بعد نبيّ قبله؟ والجواب: يظهر من الآية أنّها تعبّر عن مسألة عامّة، وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها البارز، كما أنّ هذا المعنى الواسع يتّسق مع روح مفاهيم القرآن، لذلك إذا ما رأينا في بعض الأخبار أنّ المقصود هو نبيّ الإسلام الكريم، فما ذلك إلّا من قبيل تفسير الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها، وليس لأنّ المعنى جاء على سبيل الحصر، ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي عليه السّلام قال: (إنّ الله تعالى ما بعث آدم عليه السّلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلّا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حي، ليؤمننّ به ولينصرنّه)
7. سؤال وإشكال: أيمكن أن يظهر نبيّ من أولى العزم في زمان نبيّ آخر من أولي العزم حتّى يتبعه؟ والجواب: إنّ الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء وحدهم، بل ومن أتباعهم أيضا، كما قلنا في تفسير الآية، والواقع أنّ القصد من أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك عصر النبيّ التالي، كما أنّ الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضا إذا أدركوا ـ فرضا ـ عهد الأنبياء التالين، أي أنّ أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقا في أهدافهم وفي دعوتهم ولا صراع أو خلاف بينهم.
8. الآية الكريمة وإن تكن بخصوص الأنبياء، فهي تصدق طبعا بحقّ خلفائهم أيضا، إذ أنّ خلفائهم الصادقين لا ينفكّون عنهم، وهم جميعا يسعون لتحقيق هدف واحد، ولذلك كان الأنبياء يعيّنون خلفائهم، ويبشّرون الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشدّ أزرهم، ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا(2) لهذه الآية وكتب أحاديثنا بشأن نزول عبارة (ولتنصرنّه) في علي عليه السّلام وأنها تشمل قضية الولاية، إنّما هو إشارة إلى هذا المعنى.
9. هذه الآية ـ من حيث تركيبها النحوي ـ كانت موضع بحث بين المفسّرين ورجال الأدب.
10. يحدّثنا التاريخ أنّ أتباع دين من الأديان لا يتخلّون بسهولة عن دينهم ولا يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله، بل يتمسّكون بدينهم القديم تمسّكا جافّا جامدا، ويدافعون عنه كأنّه جزء من وجودهم، ويرون تركه إبادة لقوميّتهم، لذلك يشقّ عليهم القبول بالدين الجديد، إنّ منشأ الكثير من الحروب الدينية التي وقعت على امتداد التاريخ ـ وهي من أفظع حوادث التاريخ ـ هو هذا التعصّب الجاف والجمود على الأديان القديمة، غير أنّ قانون الارتقاء والتكامل يقول: هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد تلو الآخر، وتتقدّم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحقّ والعدالة والإيمان والأخلاق والإنسانية والفضيلة، حتّى تصل إلى الدين النهائي، خاتم الأديان، كالطفل الذي يتدرّج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأخرى حتّى يتخرّج من الكليّة والجامعة، فإذا أحبّ التلاميذ جوّ مدرستهم الابتدائية ذلك الحبّ الذي يربطهم بمدرستهم إلى درجة أنّهم يرفضون الانتقال إلى المدرسة الثانوية، فبديهيّ أنّ لا يكون نصيب هؤلاء سوى التخلّف عن ركب السائرين نحو التقدّم والارتقاء.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/574.
(2) يقصد الإمامية
42. الإسلام والكون والأنبياء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈42⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 83 ـ 85]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
سئل الإمام علي (ت 40 هـ) عن صفة الإسلام والإيمان والكفر والنفاق فقال: أما بعد فان الله تبارك وتعالى شرع الإسلام، وسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه لمن جأر به، وجعله عزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وزينة لمن تجلله، وعذرا لمن انتحله، وعروة لمن اعتصم به، وحبلا لمن استمسك به، وبرهانا لمن تكلم به، ونورا لمن استضاء به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وعلما لمن وعاه، وحديثا لمن روى، وحكما لمن قضى، وحلما لمن جرب، ولباسا لمن تدبر، وفهما لمن تفطن، ويقينا لمن عقل، وبصيرة لمن عزم، وآية لمن توسم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وتؤدة لمن أصلح، وزلفى لم اقترب، وثقة لمن توكل، ورجاء لمن فوض، وسبقة لمن أحسن، وخيرا لمن سارع، وجنة لمن صبر، ولباسا لمن اتقى، وظهيرا لمن رشد، وكهفا لمن آمن، وأمنة لمن أسلم، ورجاء لمن صدق وغنى لمن قنع، فذلك الحق سبيله الهدى، ومأثرته المجد، وصفته الحسنى، فهو أبلج المنهاج مشرق المنار، ذاكي المصباح، رفيغ الغاية، يسير المضمار، جامع الحلبة، سريع السبقة، أليم النقمة، كامل العدة، كريم الفرسان، فالإيمان منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والدنيا مضماره والموت غايته، والقيامة حلبته، والجنة سبقته، والنار نقمته، والتقوى عدته، والمحسنون فرسانه، فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه وبالفقه يرهب الموت، وبالموت يختم الدنيا، وبالدنيا تجوز القيامة، وبالقيامة تزلف الجنة، والجنة حسرة أهل النار، والنار موعظة للمتقين، والتقوى سنخ الإيمان(1).
__________
(1) الكافي: 2/49 و50.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال في الآية: كل آدمي أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص لله العبودية فهو الذي أسلم طوعا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٤٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: هو كقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: ٢٥]، فذلك إسلامهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ سجود المؤمن طائعا، وسجود ظل الكافر وهو كاره(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٤٩.
(2) ابن جرير: ٥/٥٥١ واللفظ له، وابن المنذر: ١/٢٧٦ من طريق ابن جريج، وابن أبي حاتم: ٢/٦٩٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَكَرْهًا﴾: من أسلم من مشركي العرب والسبايا، ومن دخل في الإسلام كرها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿طَوْعًا﴾ من أسلم من غير محاجة، ﴿وَكَرْهًا﴾ من اضطرته الحجة إلى التوحيد(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٧.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والله، لا يجعل الله من دخل في الإسلام طوعا؛ كمن دخله كرها(1)
2. روي أنّه قال في الآية: في السماء الملائكة طوعا، وفي الأرض الأنصار وعبد القيس طوعا(2).
__________
(1) أورده ابن أبي زمنين في تفسيره: ١/٣٠٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٩٦.
الوراق:
روي عن مطر الوراق (ت 125 هـ) أنّه قال في الآية: الملائكة طوعا، والأنصار طوعا، وبنو سليم وعبد القيس طوعا، والناس كلهم كرها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٥٢.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿طَوْعًا﴾ الذين ولدوا في الإسلام، ﴿وَكَرْهًا﴾ الذين أجبروا على الإسلام(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال في قوله عز وجل: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾: هو توحيدهم لله عز وجل(1).
__________
(1) التوحيد: 46/7.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: الملائكة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ يعني: المؤمنين ﴿طَوْعًا﴾، ثم قال سبحانه: ﴿وَكَرْهًا﴾ يعني: أهل الأديان، يقولون: الله هو ربهم، وهو خلقهم، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٧.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنما معنى قول الله سبحانه: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ هو: المعرفة به، والإقرار بربوبيته، وأنه الخالق غير مخلوق، والرازق غير مرزوق، كما قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، فهذا معنى ما أراد الله ـ والله أعلم ـ بقوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾؛ لأن الإسلام يخرج في اللغة على معنيين:
أ. فأحدهما: الإقرار بفعل الفاعل، والتسليم له، وترك المكابرة له في فعله، والمعاندة له بالإنكار لما يحدث من صنعه.. والمعنى.
ب. الثاني: فهو الاستسلام لأمر الآمر، والإنفاذ لما حكم به، والانقياد لجميع ما قيد إليه، وصرف من الأفعال فيه.
2. فعلى المعنى الأول ما يخرج به تفسير الآية، لا على المعنى الثاني الذي توهم الحسن بن محمد: أن عليه يخرج معناها، ولو كان ذلك كذلك، أو قارب شيئا من ذلك ـ لكان جميع الخلق لله مطيعين، وفي أمره سبحانه متصرفين، طائعين كانوا أو كارهين، ولو كان كما يقول هو ومن معه من الجاهلين، إذا لما وجد أنبياء الله لله في الأرض عاصين، ولكان الله تبارك وتعالى بإكراهه لهم على طاعته، وإدخالهم قسرا في مرضاته ـ مجتزيا مكتفيا عن نهيهم عن معصيته، ولما احتاج الخلق إلى المرسلين، ولما حذرهم الله من حذر، من مردة الجن والعالمين.
3. أما قوله: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، فالمطيع منهم في ذلك هو: من أطاع الحجة المركبة فيه، والشاهدة بالحق له وعليه، من اللب الذي ينال به التمييز بين كل شيئين، ويثبت له به الرضى والسخط في الحالين، فمن أنصف لبه، وقبل ما أدى إليه معقوله من معرفة ربه ـ كان منصفا طائعا، متحريا للحق خاضعا.. والمكره هو: من كفر وتعدى، وكابر لبه وأبى، وعند عن الحق وأساء، حتى إذا أدركه البلاء، واشتد عليه الشقاء، ونزلت به النوازل، واغتالته في ذلك الغوائل ـ رجع صاغرا إلى إنصاف لبه، ولجأ فيما ناله إلى ربه، واستسلم وأسلم له، كمن ذكر ذو الجلال، ممن تعدى في الغي والمقال، حين يقول ويخبر عنهم، ويقص ما كان من أخبارهم، حين يقول ويخبر عن فرعون، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90]، ومثل قوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: 65]، ومثل قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 33]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/169.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون} معنى أسلم هو: استسلم لأمره، وانقاد لما قضى به من حكمه.
2. معنى: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ فقد يخرج على ثلاثة وجوه:
أ. أحدها: أن يكونوا أطاعوا أمره مسرعين، كطاعة الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وكطاعة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
ب. وقد يكون معنى كرها: كمثل من كان لله عاصيا، ولطاعته مجانبا، فيرجع إلى طاعته، بما حكم الله به عليه، وأمر به أوليائه فيه، من قتله وقتاله، حتى يفيء إلى حكم الله صاغرا، وينقاد إلى ما أمر به راغما.
ج. وقد يمكن أن يكون معنى قوله: ﴿أَسْلَمَ﴾.. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ يخرج على: ما أراد الله سبحانه من خلق الأشياء، وهو الوجه الثالث؛ إذ كان لا يمتنع على الله شيء مما فطر من السماء والأرض وما بينهما، وما خلق وجعل فيهما، فإذا أراد الله سبحانه إيجاد شيء أوجده وكونه، وعلى أي صورة شاء جعله وركبه، لا يمتنع عليه من مفطوراتها ممتنع؛ فهو الموجد سبحانه للخلق من بعد العدم، الفاطر لهم، المكون الجاعل لأرواحهم، المركبة في أجسادهم، المقدر الخالق لألوانهم، الجابر لهم على ذلك سبحانه وتعالى.
3. فعلى هذا المعنى يخرج ما سألت عنه؛ ألا تسمع كيف يقول سبحانه في كتابه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، والأرض فليس تكلم ولا السماء، وإنما أخبر الله عز وجل بكون ما أرد من إنفاذ أمره، وأنه لا يمتنع عليه شيء خلقه؛ لأن العرب تعرف في لغتها: أن كل ما لابد من إيتائه طوعا أو كرها: أنه شيء لا حيلة فيه، ولا مرد له، وهو حتم نافذ؛ فجاز أن يقول: ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾؛ إذ هو جائز في اللغة، موجود في الكلام والمخاطبة؛ والمعنيان الأولان جواب مسألتك، إلا أنا نحب إذا وقع للمسألة وجوه تخرج عليها ـ أن نشرحها جميعا؛ ليكون ذلك إشفاء لقلب السائل، ولو اجتزينا بالوجه الذي يؤدي جواب المسألة لكان ذلك مغنيا، وحسبنا ذو القوة المتين.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/170.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ الدين كأنه يتوجه إلى وجوه يرجع إلى اعتقاد المذهب في الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع؛ كقوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: 50]، ويرجع إلى الجزاء، ثم قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ كأن كلا منهم يبغى دينا هو دين الله، ويدعي أن الدين الذي هو عليه دين الله، لكن هذا ـ والله أعلم ـ كل منهم في الابتداء يبغي دين الله في نفسه، لكن بان له من بعد وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين الله، وأن دين الله هو الإسلام، فلم يرجع إليه ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة؛ فهو باغ غير دين الله.
2. قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي: أفغير ما في دين الله من الأحكام والتوحيد.
ب. ويحتمل: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ﴾ يدينون، وليس على الاستفهام؛ ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين الله، كقوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]؛ وكقوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [النور: 50] الآية.
3. قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أسلم، أي: استسلم، وخضع له بالخلقة؛ إذ في خلقة كلّ دلالات وحدانيته.
ب. ويحتمل: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: الملائكة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ المؤمنين الذين أسلموا طوعا وكرها، يعني: أهل الأديان يقرون أن الله ربهم وهو خلقهم؛ كقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [الزخرف: 87] فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون، عن ابن عباس قال: (من في السّماوات أسلموا طوعا، وأمّا أهل الأرض: فمنهم من أسلم طوعا، ومنهم من أسلم كرها؛ مخافة السّيف)، وعن ابن عباس قال: (طوعا من ولد في الإسلام، وكلّ من أسلم ولم يولد في الإسلام فهو كره)
ج. وقيل: منهم من أسلم طوعا، ومنهم من جبروا عليه، والإسلام: هو تسليم النفس لله خالصا لا يشرك فيها غيره؛ كقوله: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ الآية [الزمر: 29] دلّت الآية أنه ما ذكرنا، والإسلام: هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضعوا، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه.
4. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية، هذا ـ والله أعلم ـ وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، كقوله: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: 150] ـ أمر الله تعالى المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعا؛ فآمنوا بهم جميعا، وقالوا: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ والإسلام ما ذكرنا.
5. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ اختلف فيه:
أ. يحتمل ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ حسنات من بغى غير دين الإسلام في الدنيا؛ وهو كقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: بالمؤمن به ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5]
ب. ويحتمل: من أتى بدين سوى دين الإسلام فلن يقبل منه، ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
ج. وقيل: إنها نزلت في نفر ارتدوا عن الإسلام بعد ما أسلموا، ثم تاب بعضهم؛ فنزل قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
د. يحتمل: {يبتغى}: يطلب، ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى الله تعالى فأخبر أن ذلك لا يقبله؛ ليصرف الطلب إلى غير ذلك، وذلك كما دانوا من عبادة الأوثان وغيرها؛ لتقربهم إلى الله زلفى، فأخبر أنه لا يقرب؛ ليصرف الطلب إلى حقيقة ذلك الدين على الأديان التي كانت معروفة، تأبى أنفس الكفرة عن قبول اسم الإسلام لدينهم، وادعوا أن دينهم هو دين الله؛ فأخبر الله تعالى أن دينه هو الإسلام، وأن من يبتغي الدين؛ ليدين الله به، غيره، فالله لا يقبل منه.
هـ. ويحتمل الابتغاء: الإرادة؛ فيكون فيه تحقيق الدين؛ إذ هي تجامع الفعل؛ فكأنه قال من دان غير دين الإسلام، فلن يقبل منه، وإن قصد به الله بالدين، أيد ذلك قوله: ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أنه فيمن أتى بغيره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/418.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي رغبة ورهبة من السيف(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/146.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ ستة أقاويل:
أ. أحدها: أن المؤمن أسلم طوعا والكافر أسلم عند الموت كرها، وهذا قول قتادة.
ب. الثاني: أنه الإقرار بالعبودية وإن كان فيه من أشرك في العبادة، وهذا قول مجاهد.
ج. الثالث: أنه سجود المؤمن طائعا وسجود ظل الكافر كرها، وهو مروي عن مجاهد أيضا.
د. الرابع: طوعا بالرغبة والثواب، وكرها بالخوف من السيف، وهو قول مطر.
هـ. الخامس: أن إسلام الكاره حين أخذ منه الميثاق فأقر به، وهذا قول ابن عباس.
و. السادس: معناه أنه أسلم بالانقياد والذلة، وهو قول عامر الشعبي، والزجاج.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/407.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أهل البصرة، وحفص يبغون بالياء، الباقون بالتاء، وقرأ يعقوب وحفص وإليه يرجعون بالياء، وكسر يعقوب الجيم، وفتح الياء، فمن قرأ بالياء أراد الاخبار عن اليهود وغيرهم من المشركين والتاء لجميع المكلفين، ومن قرأ بالتاء فيهما، فعلى الخطاب، فيهما.
2. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ﴾ عطف جملة على جملة مثلها لو قيل أو غير دين الله يبغون إلا أن الفاء رتبت، كأنه قيل أبعد تلك الآيات غير دين الله تبغون أي تطلبون.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ ستة أقوال:
أ. أولها: قال ابن عباس: أسلم من في السماوات والأرض بالحالة الناطقة عنه الدالة عليه عند أخذ الميثاق عليهم.
ب. الثاني: قول أبي العالية، ومجاهد: ان معناه (أسلم) أي بالإقرار بالعبودية وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، كقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ ومعناه ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الإقرار بالربوبية ليتنبهوا على ما فيه من الدلالة.
ج. الثالث: قال الحسن: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أكره أقوام على الإسلام وجاء أقوام طائعين.
د. الرابع: قال قتادة: أسلم المؤمن طوعاً، والكافر كرهاً عند موته، كما قال: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ واختاره البلخي، ومعناه التخويف لهم من التأخر عما هذه سبيله.
هـ. الخامس: قال عامر، والشعبي والزجاج، والجبائي أن معناه: استسلم بالانقياد والذلة، كما قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ أي استسلمنا، ومعناه الاحتجاج به.
و. وسادسها: قال الفراء والأزهري إنما قال: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ لأن فيهم من أسلم ابتداء رغبة في الإسلام، وفيهم من أسلم بعد أن قوتل وحورب، فسمي ذلك كرهاً مجازاً وإن كان الإسلام وقع عنده طوعاً.
4. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ نصب على أنه مصدر، وقع موقع الحال، وتقديره طائعاً أو كارهاً، كما تقول: أتاني ركضاً أي راكضاً، ولا يجوز أن تقول أتاني كلاماً أي متكلماً، لأن الكلام ليس بضرب من الإتيان والركض ضرب منه.
5. ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ معنا تردون إليه للجزاء فإياكم ومخالفة الإسلام فيجازيكم بالعقاب، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}
6. روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت، وكان ارتد بعد قتله المحذر بن ديار البلوي غدراً في الإسلام، وهرب وحديثه مشروح ثم ندم، فكاتب قومه سلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هل لي توبة، فنزلت الآيات إلى قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، فرجع فأسلم.
قيل في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناها الإنكار على الكفار ما ذهبوا إليه من الايمان ببعض النبيين دون بعض، فأمر الله تعالى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمؤمنين أن يقولوا: إنا نؤمن بجميع النبيين، ولا نفرق بين أحد منهم.
ب. الثاني: أن معناها موافقة ما تقدم الوعد به من إيمان النبي الامي بجميع من تقدم من النبيين على التفصيل.
7. قال له في أول الآية (قل) خطاباً للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فجرى الكلام على التوحيد، وما بعده على الجمع، وقيل في ذلك قولان:
أ. أحدهما أن المتكلم قد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع للتفخيم كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾
ب. الثاني: أنه أراد دخول الأمة في الخطاب الأول، والأمر بالإقرار.
8. يجوز أن يقال: في الواحد المتكلم، فعلنا ولا يجوز للواحد المخاطب فعلتم، والفرق بينهما: أن الكلام بالجملة الواحدة يصح بجماعة مخاطبين، ولا يصح الكلام بالجملة الواحدة بجماعة متكلمين، فلذلك جاز في فعلنا في الواحد للتفخيم، لأنه لا يصح أن يكون خطاباً للجماعة فلم يصرف عنهم، بغير قرينة لما يدخله من الإلباس في مفهوم العبارة.
9. قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ في الاخبار عن المسلمين إنما جاز ذلك، وإن كان قد أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن التقدير أنزل علينا على لسان نبينا كما تقول: أمرنا به ونهينا عنه ـ على لسان نبينا ـ، ومثل ذلك ما قاله في سورة البقرة من قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون ذلك إلا إخباراً عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أنزل عليه، وهذا غلط، لأن الآية الأخرى تشهد بخلافه.
10. سؤال وإشكال: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ بعد الإقرار بالإيمان على التفصيل؟ والجواب: معناه ونحن له مستسلمون بالطاعة في جميع ما أمر به، ودعا إليه، ولأن أهل الملل المخالفة، تعترف بصفة مؤمن، وينتفي من صفة مسلم.
11. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} الابتغاء: الطلب تقول: بغى فلان كذا أي طلبه، ومنه بغى فلان على فلان: إذا طلب الاستعلاء عليه ظلماً ومنه البغي: الفاجرة، لطلبها الزنى، ومنه ينبغي كذا، لأنه حقيق بالطلب.
12. الإسلام: هو الاستسلام لأمر الله بطاعته فيما دعا إليه، فكل ذلك اسلام، وان اختلفت فيه الشرائع، وتفرقت المذاهب، لأن مبتغيه ديناً ناج، ومبتغي غيره ديناً هالك.
13. الايمان، والإسلام واحد، لأن {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً} فهو مبطل، كما أن من يبتغي غير الايمان ديناً، فهو مبطل، وذلك كمن يبتغي غير عبادة الإله ديناً، فهو كافر، ومن يبتغ غير عبادة الخالق ديناً، فهو كافر، والإله هو الخالق، وقال عكرمة: إن قوماً من اليهود قالوا: نحن المسلمون، فأنزل الله تعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ فأمرهم بالخروج إلى الحج الذي هو من فرض الإسلام، فقعدوا عنه وبان انسلاخهم من الإسلام، لمخالفتهم له، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}
14. الخسران ذهاب رأس المال، ويقال: خسر نفسه أي أهلك نفسه، وقيل خسر عمله أي أبطل عمله بأن أوقعه على وجه يقبح لا يستحق عليه الثواب، وكل واحد منهما خسر لذهاب رأس المال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/518.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البغي أصله الطلب، بغى يبغي بغيًا، وبغى عليه أي يطلب الاستعلاء عليه ظلمًا، ويقال: أطاعه إذا انقاد لأمره فهو طَوْعُهُ.
ب. الكَرْهُ بفتح الكاف وضمها لغتان، وقيل: الكُرْهُ بالضم المشقة، وبالفتح أن يتكلف الشيء فيفعله كارهًا.
ج. الخسران: ذهاب رأس المال، وخسر نفسه: أهلك نفسه.
2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. عن ابن عباس قال: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما اختلفوا من دين إبراهيم كل فرقة تزعم أنها أولى بدينه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كلا الفريقين بريء من دينه) فغضبوا، وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ﴾
ب. وعن عكرمة أن قومًا من المشركين قالوا: نحن المسلمون، فنزل ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فقعدوا عنه، ففيهم نزل ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾
3. اختلف في علاقة الآيات الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما بَيَّنَ تعالى بطلان اليهودية والنصرانية، وسائر الأديان، وبين أن الدين الحق هو الإسلام بَيَّنَ بعده أن من يتبع غيره دينًا فهو ضال، وأنه لا يقبل ذلك منه.
ب. وقيل: لما أخذ عليهم الميثاق فنقضوا بَيَّنَ أنهم بنقض الميثاق يتبعون دينًا لا يقبل منهم.
4. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ﴾ يعني دين الإسلام ﴿يَبْغُونَ﴾ يطلبون ﴿وَلَهُ﴾ يعني لله ﴿أَسْلَمَ﴾ انقاد وخضع ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقيل: إسلام من في السماوات إسلام الملائكة، وإسلام من في الأرض إسلام المؤمنين.
5. في قوله تعالى: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أقوال:
أ. قيل: منهم من أسلم طائعًا، ومنهم من استسلم بالذلة، عن عامر والزجاج وأبي علي، قال القاضي: أما الطوع فمعروف، وأما الكره فتعذر الامتناع مما ينزل به من الآلام والشدة.
ب. وقيل: أسلم المؤمنون طوعًا والكافرون عند موتهم كرهًا، عن قتادة كقوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾
ج. وقيل: المراد انقيادهم فيما يتصرف فيهم عند خلقه وإعادته، عن الأصم.
د. وقيل: أراد من انقاد له على الخصوص، عن الحسن.
هـ. وقيل: أسلم بالإقرار والعبودية، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ عن أبي العالية ومجاهد.
و. وقيل: أسلم بحاله الناطقة عنه عند أخذ الميثاق عليه، عن ابن عباس.
ز. قال الحسن والمفضل: الطوع لأهلْ السماوات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعًا، ومنهم من أسلم كرهًا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾:
أ. قيل: إلى حُكْمِهِ وأمره.
ب. وقيل: إليه يرجعون للجزاء، فإياكم ومخالفة الإسلام فيجازيكم بالعقاب.
7. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ أي صدقنا أنه الإله الواحد لا شريك له ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني القرآن والإسلام ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ من التوراة ﴿وَعِيسَى﴾ من الإنجيل ﴿وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي ما أعطوا من الكتب والدين نشهد بأن جميع ذلك حق، وأنهم صادقون ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ كما فعلت اليهود آمنت بموسى، وكفرت بعيسى ومحمد، وكما فعلت النصارى آمنت بعيسى، وكفرت بمحمد، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون للطاعة فيما أمر به ودعا إليه.
8. الإيمان بهَؤُلَاءِ هو الإقرار بأن ما جاؤوا به كان حَقًّا، وإن نسخ بعد ذلك، والإقرار بأنهم صادقون، وإنما ذكر الإيمان بهم:
أ. قيل: رَدًّا على أهل الكتاب.
ب. وقيل: لموافقة ما تقدم الوعد به من الإيمان بالنبي الأمي وبجميع ما تقدم من النبيين على التفصيل، عن الحسين.
9. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ أي يطلب دينًا يدين به غير الإسلام ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ أي لن يرضى منه بذلك ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ من الهالكين؛ لأنه بهلاك نفسه فكأنه يخسر نفسه.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الدين والإسلام والإيمان واحد؛ لأن جميع ذلك مقبول، ولو كانوا أغيارًا لما قبل بظاهر الآية فدل أنها عبارات عن معنى واحد.
ب. أن الطاعات كلها من الدين والإسلام والإيمان، وكذلك ترك المعاصي لأن ذلك مقبول، ولأنه لو كان غيرها لجاز أن تبتغى ما ليس بدين وإيمان، والآية تمنع من ذلك.
ج. أن الإسلام الذي هو الانقياد قد يحصل طوعًا وكرهًا، فأما الذي به يستحق الثواب فما يجعل طوعًا.
د. أن الإيمان بجميع الرسل واجب.
هـ. أن الإسلام هو الذي يجب أن يتخذ دينًا وبه النجاة.
و. أن الله تعالى علّم نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿قُلْ آمَنَّا﴾ أن يخاطب عن نفسه بما ينبئ عن التفخيم والتعظيم.
ز. أن ما لا يثبت بالشرع فليس بدين؛ لأنه لا يقبل.
ح. أن من عدل عن الإسلام هلك، والعدول عنه قد يكون بالرد وبالتقصير وبالزيادة وبالنقصان، فيجب اجتناب جميعه.
11. قرأ أبو جعفر عن عاصم ويعقوب ﴿يَبْغُونَ﴾ و﴿يَرْجِعُونَ﴾ بالياء فيهما، ردَّا ذلك إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقرأ أبو عمرو تبغون) بالتاء خطابًا لليهود وغيرهم من الكفار ﴿يَرْجِعُونَ﴾ بالياء يرجع إلى جميع المكلفين في قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾، وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطابة قراءة العامة ﴿كُرْهًا﴾ بفتح الكاف، وعن الأعمش بضم الكاف، وهما لغتان.
12. مسائل نحوية:
أ. الفاء في قوله: ﴿أَفَغَيْرَ﴾ عطف جملة على جملة مثلها، ولو قيل: أوغير جاز إلا أن الفاء تَرَتُّبٌ، كأنه قيل: أَبَعْدَ تلك الآيات تبغون غير دين الله، والألف في ﴿أَفَغَيْرَ﴾ ألف الاستفهام، والمراد الإنكار، أو التقرير أنهم يفعلون ذلك، وقيل: الألف منقول إلى ﴿يَبْغُونَ﴾، تقديره: أيبغون غير دين الله.
ب. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ نصب على الحال، ﴿وَالنَّبِيُّونَ﴾ عُطِفَ على ﴿مُوسَى وَعِيسَى﴾ رفع؛ لأنه اسم ما لم يسم فاعله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/302.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عن ابن عباس قال: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم، كل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كلا الفريقين برئ من دين إبراهيم! فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾
2. لما بين سبحانه بطلان اليهودية، وسائر الملل غير الاسلام، بين عقيبه أن من يبتغي غير دينه فهو ضال، لا يجوز القبول منه فقال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ أي: أفبعد هذه الآيات والحجج، يطلبون دينا غير دين الله.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن معناه أسلم من في السماوات والأرض بحاله الناطقة عنه، الدالة عليه عند أخذ الميثاق عليه، عن ابن عباس.
ب. ثانيها: أسلم أي: أقر بالعبودية، وإن كان فيهم من أشرك بالعبادة، كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ ومعناه: ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الإقرار له بالربوبية ليتنبهوا على ما فيه من الدلالة، عن مجاهد، وأبي العالية.
ج. ثالثها: أسلم المؤمن طوعا وكرها، والكافر كرها عند موته، كقوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ عن قتادة، واختاره البلخي، ومعناه التخفيف لهم من التأخير عما هذه سبيله.
د. ورابعها: إن معناه استسلم له بالانقياد والذكر كقوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ أي استسلمنا، عن الشعبي والجبائي والزجاج.
هـ. وخامسها: إن معناه أكرم أقوام على الاسلام، وجاء أقوام طائعين، عن الحسن، وهو المروي عن أبي عبد الله، قال: كرها أي: فرقا من السيف.
و. وقال الحسن والمفضل: الطوع لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا، ومنهم من أسلم كرها.
4. ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ أي: إلى جزائه تصيرون، فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الاسلام، ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر له بأن يقول عن نفسه، وعن أمته: آمنا بالله، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ الآية، كما يخاطب رئيس قوم بأن يقول عن نفسه، وعن رعيته، وقد سبق معنى الآية في سورة البقرة.
5. سؤال وإشكال: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ بعد ما سبق من الإقرار بالإيمان على التفصيل؟ والجواب: معناه ونحن له مسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به، ونهى عنه، وأيضا فإن أهل الملل المخالفة للإسلام، كانوا يقرون كلهم بالإيمان، ولكن لم يقروا بلفظ الاسلام، فلهذا قال ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
6. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ﴾ أي: يطلب ﴿دِينًا﴾ يدين به ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ بل يعاقب عليه، ويدل عليه قوله ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي: من الهالكين، لأن الخسران ذهاب رأس المال.
7. في هذه الآية دلالة على أن من ابتغى الاسلام دينا، يقبل منه، فدل ذلك على أن الدين والإسلام والإيمان واحد، وهي عبارات من معبر واحد.
8. قرأ أبوا عمرو ﴿يَبْغُونَ﴾ بالياء، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالتاء مضمومة، وقرأ بالياء فيهما ابن عباس وحفص ويعقوب وسهل، والباقون بالتاء فيهما جميعا.. من قرأ بالتاء فيهما فلأن أول الآية خطاب للنبي، ومن قرأ بالياء فعلى تقدير: قل لهم أفغير دين الله يبغون، فجاء على لفظ الغيبة، لأنهم غيب.
9. مسائل نحوية:
أ. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾: عطف جملة على جملة، كما لو قيل: أو غير دين الله يبغون، إلا أن الفاء رتبت، فكأنه قيل: أبعد تلك الآيات غير دين الله يبغون.
ب. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾: مصدران وقعا مصدر الحال، وتقديره: طائعين وكارهين، كما يقال: أتاني ركضا أي: راكضا، ولا يجوز أن تقول: أتاني كلاما أي: متكلما، لأن الكلام ليس بضرب من الإتيان، والركض: ضرب منه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/787.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ قرأ أبو عمرو: (يبغون) بالياء مفتوحة، (وإليه ترجعون) بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين، وروى حفص عن عاصم: (يبغون) و(يرجعون) بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم، يعقوب على أصله.
2. قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كلّ فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم)، فغضبوا، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية.
3. المراد بدين الله، دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ انقاد، وخضع ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ الطّوع: الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقّة وإباء من النّفس.
4. في معنى الطّوع والكره ستة أقوال:
أ. أحدها: أن إسلام الكلّ كان يوم الميثاق طوعا وكرها، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السّدّيّ.
ب. الثاني: أن المؤمن يسجد طائعا، والكافر يسجد ظلّه وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد.
ج. الثالث: أن الكلّ أقرّوا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبي العالية، ورواه منصور عن مجاهد.
د. الرابع: أن المؤمن أسلم طائعا، والكافر أسلم مخافة السّيف، هذا قول الحسن.
هـ. الخامس: أن المؤمن أسلم طائعا، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت، وهذا قول قتادة.
و. السادس: أن إسلام الكلّ خضوعهم لنفاذ أمره في جبلّتهم، لا يقدر أحدهم أن يمتنع من جبلّة جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجّاج، وهو معنى قول الشّعبيّ: انقاد كلّهم له.
__________
(1) زاد المسير: 1/301.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بيّن الله تعالى في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله، فلهذا قال بعده: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾
2. قرأ حفص عن عاصم ﴿يَبْغُونَ﴾ و﴿يَرْجِعُونَ﴾ بالياء المنقطة من تحتها، لوجهين:
أ. أحدهما: رداً لهذا إلى قوله ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 82]
ب. الثاني: أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾
3. قرأ أبو عمرو تبغون بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكافر و﴿يَرْجِعُونَ﴾ بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
4. قرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب، لأن ما قبله خطاب كقوله: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ﴾ [آل عمران: 81] وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكفار ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السموات والأرض، وأن مرجعكم إليه وهو كقوله ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران: 101]
5. الهمزة للاستفهام، والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه، وموضع الهمزة هو لفظة ﴿يَبْغُونَ﴾ تقديره: أيبغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو {فَغَيْرَ دِينِ اللهِ} على فعله، لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان: أحدهما: التقدير: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون.. ولو قيل (أو غير دين الله يبغون) جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل: أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون؟
6. روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية.. ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله، ومعبودا سوى الله سبحانه.
7. ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، والإسلام، هو الاستسلام والانقياد والخضوع، وفي خضوع كل من في السموات والأرض لله وجوه:
أ. الأول: وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السموات والأرض لا لغيره، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلًا أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلًا أو فعلًا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرعد: 15] وقوله ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]
ب. الثاني: في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده، وإما أن ينزلوا عليه طوعاً أو كرهاً، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين، وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرها، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره.
ج. الثالث: أسلم المسلمون طوعاً، والكافرون عند موتهم كرها لقوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 85]
د. الرابع: أن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً.
هـ. الخامس: أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172] [السادس] قال الحسن: الطوع لأهل السموات خاصة، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره، وأقول: إنه سبحانه ذكر في تخليق السموات والأرض هذا وهو قوله ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] وفيه أسرار عجيبة.
8. ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ المراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق.
9. قال الواحدي: الطوع الانقياد، يقال: طاعة يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه، قال ابن السكيت: يقال طاع له وأطاع، فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال، وتقديره طائعاً وكارهاً، كقولك أتاني راكضاً، ولا يجوز أن يقال: أتاني كلاماً أي متكلماً، لأن الكلام ليس يضرب للإتيان.
ثم لما ذكره الله تعالى في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كونه مصدقاً لما معهم فقال: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
10. وحّد الضمير في ﴿قُلْ﴾ وجمع في ﴿آمَنَّا﴾ وفيه وجوه:
أ. الأول: إنه تعالى حين خاطبه، إنما خاطبه بلفظ الوحدان، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء.
ب. الثاني: أنه خاطبه أولًا بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو، ثم قال: ﴿آمَنَّا﴾ تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه.
ج. الثالث: إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله ﴿قُلْ﴾ ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال: ﴿آمَنَّا﴾ تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]
11. قدّم الله تعالى الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم، ويختلفون في نبوتهم، ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثني عشر في سورة الأعراف.
12. إنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد:
أ. إحداها: إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء، لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق.
ب. ثانيها: التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل.
ج. ثالثها: إنه قال قبل هذه الآية: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 83] وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله، فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف.
د. رابعها: أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل، وهاهنا أخذ الميثاق على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة.
13. سؤال وإشكال: لم عدّى ﴿أَنْزَلَ﴾ في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ والجواب: لوجود المعنيين جميعاً، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، وقيل أيضاً إنما قيل ﴿عَلَيْنَا﴾ في حق الرسول، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف، ألا ترى إلى قوله ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 4] وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 72]
14. اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون، وحقيقة الخلاف، أن شرعه لما صار منسوخاً، فهل تصير نبوته منسوخة؟
أ. من قال إنها تصير منسوخة قال: نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلًا، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل.
ب. ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال: نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال.
15. في قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الأصم: التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني: نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله.
ب. الثاني: قال بعضهم المراد ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى.
ج. الثالث: قال أبو مسلم ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أي لا نفرق ما أجمعوا عليه، وهو كقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: 94]
16. في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وجوه:
أ. الأول: إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
ب. الثاني: قال أبو مسلم: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: 33]
ج. الثالث: أن قوله ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يفيد الحصر والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم.
17. ثم إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84] أتبعه بأن بيّن في هذه الآية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} أن الدين ليس إلا الإسلام، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله، لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل، ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، ولذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]
18. ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولا عند الله، فكذلك يكون من الخاسرين، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب، وحصول العقاب، ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل.
19. ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام رجب أن لا يكون الإيمان مقبولًا لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ إلا أن ظاهر قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14] يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والآية الثانية على الوضع اللغوي.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/280.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ قال الكلبي: إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كلا الفريقين برئ من دينه)، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ يعني يطلبون.
2. نصبت ﴿غَيْر﴾ بيبغون، أي يبغون غير دين الله، وقرأ أبو عمرو وحده ﴿يَبْغُونَ﴾ بالياء على الخبر ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالتاء على المخاطبة، قال: لأن الأول خاص والثاني عام ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى، وقرأ حفص وغيره يبغون، و(يرجعون) بالياء فيهما، لقوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله ﴿لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾
3. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ أي استسلم وانقاد وخضع وذل، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم، لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه، قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك، لقوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [المؤمن]، قال مجاهد: إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ [النحل]،﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد]، وقيل: المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم، فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا، فالصحيح منقاد طائع محب لذلك، والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها، والطوع الانقياد والاتباع بسهولة، والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس.
4. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ مصدران في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين، وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ قال: (الملائكة أطاعوه في السماء والأنصار وعبد القيس في الأرض)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تسبوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف)، وقال عكرمة: ﴿طَوْعًا﴾ من أسلم من غير محاجة ﴿وَكَرْهًا﴾ من اضطرته الحجة إلى التوحيد، يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [الزخرف]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [العنكبوت]، قال الحسن: هو عموم معناه الخصوص، وعنه: ﴿أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وتم الكلام، ثم قال: ﴿وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، قال: والكاره المنافق لا ينفعه عمله، و﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ مصدران في موضع الحال.
5. عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ إلى آخر الآية.
6. ﴿غَيْرُ﴾ مفعول بيبتغ،﴿دِينًا﴾ منصوب على التفسير، ويجوز أن ينتصب دينا بيبتغ، وينتصب ﴿غَيْرُ﴾ على أنه حال من الدين، قال مجاهد والسدي: نزلت هذه الآية في الحارث ابن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة، وروي ذلك عن ابن عباس وغيره، قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الآيات.
7. ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ قال هشام: أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين، ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول، وقال المازني: الألف واللام مثلها في الرجل، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/128.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ﴾ عطف على مقدّر، أي: أتتولون فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول: لأنه المقصود بالإنكار، وقرأ أبو عمرو وحده ﴿يَبْغُونَ﴾ بالتحتية وترجعون بالفوقية، قال لأن الأوّل خاص والثاني عام، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى، وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين، وقرأ الباقون: بالفوقية فيهما، وانتصب: طوعا وكرها، على الحال، أي: طائعين ومكرهين، والطوع: الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما فيه مشقة، وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه، قوله: ﴿آمَنَّا﴾ إخبار منه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن نفسه وعن أمته ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ كما فرّقت اليهود والنصارى، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
2. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي: منقادون مخلصون.
3. ﴿دِينًا﴾ مفعول للفعل، أي: يبتغ دينا حال كونه غير الإسلام، ويجوز أن ينتصب: غير الإسلام، على أنه مفعول الفعل، ودينا: إما تمييز، أو حال، إذا أوّل بالمشتق، أو بدل من: غير، قوله: ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ إما في محل نصب على الحال، أو جملة مستأنفة، أي: من الواقعين في الخسران يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/410.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ تَبْغُونَ﴾ أتجهلون فتبغون غير دين الله؟ أو أتهملون أنفسكم عن التَّأَمُّل فتبغون غير دين الله؟ أو أتُوَلُّون فتبغون...إلخ، والهمزة مِمَّا بعد الفاء قدِّمت على العاطف لكمال صدريَّتها، ورجِّح لسلامته من حذف الجملة، ولأنَّه قد لا يوجد تقدير، كقوله تعالى: ﴿أفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ﴾ [الرعد: 34]، وقدَّر بعضهم: أَلَا مدبِّرَ للموجودات فمن هو قائم؟ والمعنى: أينتفي المدبِّر فلا أحد قائم؟ لا يمكن ذلك، والأَولى إن أمكن التقدير وصحَّ المعنى بلا تكلُّف قدِّر وإلَّا فلا، وإن لم نقدِّر فالعطف على (أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) عطف فعليَّة إنشائيَّة على اسميَّة إخباريَّة، لأنَّه أفاد نكتة قولك: هم في الحال يبغون، فكأنَّها اسميَّة، والإنكار في معنى الإخبار فإنَّها خبريَّة، كأنَّه قيل: لا ينبغي لهم أن يبغوا غير دين الله، أو لا نشترط الجامع بين الإخبار والإنشاء إذا كان العطف بغير الواو لإفادته وجها، بخلاف الواو فلمطلق الجمع، وقدَّم (غَيْرَ) للفاصلة وللاهتمام، ولأنَّه المقصود بالإنكار لا للحصر، لأنَّ المنكر اتِّخَاذ غير دين الله دينا ولو مع دين الله، ومن عبد الله مع غيره فليس عابدًا لله، ومن هذا يكون للحصر وجه لطيف؛ لأنَّ دين الله لا يجامع دين غيره، فإذا بغوا غيرَ دين الله ودينَه فإنَّهم لم يبغوا إِلَّا غير دينه.
2. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ والحال أنَّه أسلم له لا لغيره، أي: اِنقَادَ، ﴿مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ طَوْعًا﴾ إسلامَ طوع، كسبا أو طبعا، كالملائكة والمولود، وطُبِعت الملائكة في عبادتهم طبع من لا يعصي، ﴿اَوْ كَرْهًا﴾ بسيف أو إلجاءٍ بمشاهدة نزول عذاب، أو مَلَك الموت، ونتقُ الجبل إسلام طوعٍ من بعضٍ، وإسلام كرهٍ من بعضٍ، أو طائعين وكارهين كذلك، أو ذوي طوع وكره كذلك، أو طوع نفس راضية وكره نفس أسلمت بعد منافرة، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للجزاء.
3. اِدَّعى أهل الكتابين اليهود والنصارى متخاصمين عنده صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّهم على دين إبراهيم، كلٌّ يدَّعيه لنفسه وينفي عنه غيره، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كلُّكم بريءٌ من دينه)، فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك؛ ونزل تكذيبا لهم بأنَّه لا فريق منهم على دينه قولُه 8 : ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ويُقبَلُ إسلامُ من أسلم لنتق الجبل أو للسيف إن أقام عليه.
4. ﴿قُل﴾ يا محمَّد لهم ولسائر المشركين، ﴿ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ أفرد الضمير في (قُل) لأنَّ الخطاب فيه لتبليغ الوحي وهو المبلِّغ، وجمع بعدُ باعتباره واعتبار المبلَّغ إليهم وهم المؤمنون، فـ (ءَامَنَّا) عبارة عن نفسه وعن الأمَّة تغليبا، وذلك إخبار لا إنشاء، أو تعظيما لنفسه، إذ جمع خصالا متفرِّقة في غيره.
5. قال هنا: ﴿عَلَيْنَا﴾ وفي سورة البقرة: ﴿إِلَيْنَا﴾ [الآية: 136]، لأنَّ الخطاب هنا للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو المنزَّل عليه أوَّلاً وبالذات، فقال: ﴿عَلَيْنَا﴾ اعتبارا لجانب ابتدائه، وفي البقرة: ﴿إِلَيْنَا﴾ لجانب انتهائه فكان بـ (إِلَى)، وأيضًا المنزَّل عليه منزل عليهم بواسطة، وأيضا المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم، وأيضا هم متعبَّدون به، والصحف نزلت على إبراهيم، لكنَّهُم متعبَّدون بتفاصيلها، كما أنَّ القرآن منزَّل إلينا، وقدَّم ما نزل إليه على ما نزل على إبراهيم ومَن بعده مع أنَّهم قبله، لأنَّه المعرِّف له والمبيِّن والمفصِّل، والشاهد على أممهم بتصديقه وتكذيبه، والناسخ لِمَا نسخ، ولفضل ما نزل عليه.
6. ﴿وَمَآ أُنزِلَ عَلَىآ إِبْرَاهِيمَ﴾ من الصحف، ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالَاسْبَاطِ﴾ أولاده الاِثني عشر، ﴿وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ﴾ من التوراة والصحف والمعجزات كالعصا، ﴿وَعِيسَىٰ﴾ من الإنجيل والمعجزات كإبراء الأكمه، ﴿وَالنَّبِيئُونَ مِن رَّبِّهِمْ﴾ خصَّ هؤلاء بالذكر لأنَّ أهل الكتاب معترفون بنبوءتهم وكتبهم، ثمَّ عمَّ النبيئين، ولا نعرف كتابا أنزل عَلَى إسماعيل وإسحاق ويعقوب، والجواب أنَّه ما نزل عَلَى إبراهيم كأنَّه أنزل عليهم، كما نسب النزول إلينا وإلى الأسباط، وإنَّما الإنزال على الأنبياء، وذكر الإيتاء في موسى وعيسى ليشمل معجزاتهما مع كتبهما.
7. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ مخلصون في العبادة منقادون، لا كإيمان أهل الكتاب ببعض وكفرٍ ببعض، وتثليثٍ وإلحادٍ بالولادة وغيرها، فالآية تعريض بهم، ولم يذكر ما أنزل على آدم وشيت وإدريس لأنَّ اللَّوم والتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب، وهم لا يدَّعون تلك الصحف إيمانا وعملا، ولذا لم يذكرها أيضًا في سورة البقرة، وذلك أمْرٌ له صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يؤمن بالأنبياء وكتبهم كما أمروا ليؤمنوا به وبكتابه.
8. ارتدَّ اثنا عشر رجلا من العرب عن الإسلام، وخرجوا من المدينة إلى مكَّة، منهم الحارث بن سويد الأنصاريُّ، إِلَّا أنَّه تاب، ونزل في ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ الاِسْلَامِ﴾ أي: غير الانقياد لله والتوحيد، كاليهوديَّة والنصرانيَّة وعبادة الأصنام والنجوم والقمرين، والاستواء عَلَى المعقول، والتجسيم، ﴿دِينًا﴾ تمييز لإبهام الغيريَّة، أو بدل من (غَيْرَ)، أو مفعول به، فيكون (غَيْرَ) حالا من (دِينًا) على هَذَا
9. ﴿فَلَنْ يُّقْبَلَ مِنْهُ﴾ فعبادته كَلَا عبادة، لا ثواب عليها، وعليه العقاب الدائم الذي لا يشبهه عقاب، ﴿وَهُوَ فِي الَاخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ كالذين لا رأس مال لهم ولا فائدة، فإنَّهم أضاعوا ما جبلوا عليه من الإسلام: (كلُّ مولود يولد على الفطرة)، وأضاعوا أجنَّتهم وأزواجهم وقصورهم في الجنَّة، حرموا الثواب وعوقبوا بالنار الدائمة، و(فِي) متعلِّقة بمحذوف، أي: (خاسر في الآخرة من جملة الخاسرين)، و(خاسر) خبر و(من الخاسرين) خبر ثان، ولم أعلِّقه بـ (خاسرين) لأنَّ (ال) موصولة، فمعمول صلتها لا يتقدَّم إِلَّا في قول بعض: إنَّه يجوز في الفواصل ما يجوز في الشعر، ووجه آخر أنَّه يتوسَّع في الظروف، ووجه آخر هو أن نقول: (ال) حرف تعريف، وكذا تفعل في مثل ذلك كقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: 20]
10. المراد بالإسلام في الآية التوحيد وفعل الواجبات وترك المحرَّم، فذلك هو الدين في الآيَة، وقد يطلق الإيمان عَلَى التوحيد والفعل والترك المذكورين، وقد يطلق على التوحيد، وقد يطلق على الفعل والترك، وكذلك الإسلام يطلق على هذه الإطلاقات، وقد استُدِلَّ بالآية على أنَّ الإيمان هو الإسلام، إذ لو كان غيره لم يُقبل، وأجيب بأنَّ قوله: ﴿فَلَنْ يُّقْبَلَ مِنْهُ﴾ ينفي قبول كلِّ دين يُبَايِنُ دين الإسلام والإيمان، وإن كان غير دين الإسلام لكنَّه دين لا يباين دين الإسلام بل هو بحسب الذات، وإن كان غيره بحسب المفهوم، ولا يُقبل توحيدٌ بلا عملٍ وتقوىً، ولَا هُمَا بلا توحيد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/313.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين تعالى أن الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله، فلهذا قال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، أي استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده والجري تحت قضائه، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15]، وقال: {أَولَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شيء يتفيّأظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّداً لله وهُمْ داخِرُونَ} [النحل: 48]، {لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ والْمَلائِكَةُ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم له كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع ـ أفاده ابن كثير ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ يوم القيامة فيجزي كلا بعمله، والجملة سيقت للتهديد والوعيد.
2. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أي أولاد يعقوب ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض، كدأب اليهود والنصارى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي منقادون فلا نتخذ أربابا من دونه.
3. نكتة الجمع في قوله: ﴿آمَنَّا﴾ بعد الإفراد في ﴿قُلْ﴾ كون الأمر عامّا، والإفراد لتشريفه صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإيذان بأنه أصل في ذلك، أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة، والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك.
4. عدى ﴿أَنْزَلَ﴾ هنا بحرف الاستعلاء، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر، وقال صاحب (اللباب): الخطاب في البقرة للأمة لقوله: قولوا، فلم يصح إلا (إلى) لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعا، وهنا قال: قل)، وهو خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أمته، فكان اللائق به (على) لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها، وفيه نظر، لقوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 72] أفاده النسفيّ.
5. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ﴾ أي يطلب ﴿غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى، كدأب المشركين صريحا، والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين، ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ لأنه لم ينقد لأمر الله، وفي الحديث الصحيح: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ لضلاله وجوه الهداية في الدنيا، قال أبو السعود: (والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع، واقع في الخسران، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أنه حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك أفظع وأقبح)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/345.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين سبحانه أن دينه واحد وأن رسله متفقون فيه قال في منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ قرأ حفص عن عاصم (يبغون) بالياء على الغيبة وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، وهمزة الاستفهام الإنكاري داخلة على فعل محذوف والفاء الداخلة على (غير) عاطفة للجملة بعده على ذلك المحذوف الذي دل عليه العطف وعينه الكلام السابق، والمعنى: أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام.
2. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي والحال أن جميع من في السماوات والأرض من العقلاء قد خضعوا له تعالى وانقادوا لأمره طائعين وكارهين، قد اختلفوا في بيان الإسلام الطوع والكره:
أ. فذهب يعضهم إلى أن الإسلام هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام لا بالتكليف، أي إنه تعالى هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون المنقادون لتصرفه، وقال الرازي: إن هذا هو الأصح عنده ولم يذكر فيه معنى الطوع والكره وكأنه يعني أن ما يحل بالعقلاء من تصاريف الأقدار منه ما يصحبه اختيارهم عن رضى واغتباط فيكونون خاضعين له طوعا، ومنه ما ليس كذلك فيحل به وهم له كارهون ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]
ب. ويقابل هذا: أن الإسلام متعلق بالتكليف والدين فقط، وصاحب هذا القول يفسر إسلام الكره بما يكون عند الشدائد الملجئة إليه، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآيتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 32] وقال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: 65]، ومنهم من قال إن إسلام الكره ما يكون عند رؤية الآيات كما وقع لقوم موسى، وقيل ما يكون عند الخوف من السيف، وقيل ما يكون عند الموت إذ يشرف الكافر على الآخرة ولكنه إسلام لا ينفعه.
ج. وهناك مذهب ثالث وهو أن هذا الإسلام أعم من إسلام التكليف وإسلام التكوين فهو يشمل ما يكون بالفطرة وما يكون بالاختيار، وفي هذا المذهب وجوه قال الحسن الطوع لأهل السماوات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضه بالكره، وقيل إن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها، وقيل المسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك، وأما المكابرون فهم ينقادون لله كرها على كل حال في التكليف والتكوين، وهذه وجوه ضعيفة كما ترى.
د. وقال محمد عبده: (إن الذين أسلموا طوعا هم الذين لهم اختيار في الإسلام وأما الذين أسلموا كرها فهم الذين فطروا على معرفة الله تعالى كالأنبياء والملائكة، وإن كان لفظ الكره يطلق في الغالب على ما يخالف الاختيار ويقهره، فإن الله تعالى قد استعمله في غير ذلك، كقوله بعد ذكر خلق السماء في الكلام على التكوين ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: 11] فأطلق الكره وأراد به لازمه وهو عدم الاختيار)، وهذا سهو فيما يظهر لي وكنت في أيام حياته أراجعه في مثله قبل الكتابة والطبع، وبيانه أن تتمة الآية ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، فالظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله تعالى بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع، وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما فعل طوعا وما يفعل كرها، وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له، ومنه ما يكونون راضين به، فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضى، وصفوه الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص في الخضوع له، وأن الأنبياء كلهم كانوا على ذلك وقد أخذ ميثاقهم بذلك على أممهم ولكنهم نقضوه، فجاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه، فهم بذلك قد ابتغوا غير دينه الذي زعموه ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ فيجزيهم بما كانوا يعلمون.
3. كما ختم آية دعوة أهل الكتاب على الإسلام بقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ جاء هنا بعد ذكر توليتهم عن الإسلام يأمرنا بالإقرار به فقال مخاطبا لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أي آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وكماله ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ من كتابه بالتفصيل وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة البقرة ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ [البقرة: 136] إلخ وقد عدى الإنزال هناك بإلى الدالة على الغاية والانتهاء وهنا بعلى التي للاستعلاء، وكلا المعنيين صحيح كما قال في الكشاف راميا بالتعسف من فرق بين التعديتين باختلاف الأمور بالقول في الآيتين، إذ هو هناك المؤمنون وههنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن التعدية بإلى وردت في خطاب النبي والتعدية بعلى وردت في خطاب غيره في آيات أخرى، وقدم الإيمان بالله على الإيمان بإنزال الوحي لأنه الأصل المقصود بالذات، والوحي فرع له، إذ هو وحيه تعالى إلى رسله.
4. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أي وآمنا بما انزل على هؤلاء بالإجمال أي صدقنا بأن الله تعالى أنزل عليهم وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق لما أنزل علينا في أصله وجوهره والقصد منه كما أخبرنا الله تعالى في مثل قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى: 36] إلخ السورة وقوله: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الطور: 36] إلخ وقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163] إلخ وأما عين ما أوحى إليهم فلم يبق منه في أيدي الأمم شيء يعتمد على نقله.
5. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من التوراة للأول والإنجيل للثاني {و} ما أوتي ﴿النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله علينا خبرهم، فإن منهم من قصه علينا ومنهم من لم يقصصه، فإذا ثبت عندنا أن نبيا ظهر في الهند أو الصين قبل ختم النبوة نؤمن به، وارجع إلى آية البقرة في استبانة الفرق بين التعبير بالإنزال والتعبير بالإيتاء.
6. قال محمد عبده: وقد قدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما انزل على من قبلنا من كونه أنزل قبله في الزمن لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريقة لإثبات سواه لانقطاع سند تلك وفقد بعضها ووقوع الشك فيما بقي منها، فما أثبته كتابنا من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل وتفصيلا فيما فصل، وما أثبته لهم من الكتب كذلك، ونؤمن بأن أصول ما جاؤوا به واحدة هي الإيمان بالله وإسلام القلوب له والإيمان بالآخرة والعمل الصالح مع الإخلاص، فكما أن الإيمان بالله أصل للإيمان بما أنزل علينا كذلك ما أنزل علينا أصل للإيمان بما أنزل عليهم فقدم عليه.
7. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ كما يفرق أهل الكتاب، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا نفرق بينهم في الدين، فنقول بعضهم على حق وبعضهم على باطل، بل نقول إنهم كانوا جميعا على الحق لا خلاف بينهم في الأصول والمقاصد، فمثلهم كمثل الولاة الصادقين يرسلهم الملك العادل متعاقبين لعمارة الولاية وإصلاح أهلها، وما يكون من التغيير في بعض قوانينهم إنما يكون بحسب حال الولاية وأهلها، والمقصد واحد وهو العمران والإصلاح.
8. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون بالرضا والإخلاص منصرفون عن أهوائنا وشهواتنا في الدين لا نتخذه جنسية لأجل حظوظ الدنيا وإنما نبتغي به التقرب إليه تعالى بإصلاح النفوس وإخلاص القلوب والعروج بالأرواح، إلى سماء الكرامة والفلاح؛ افتتح الآية بذكر الإيمان وختمها بالإسلام الذي هو في كماله ثمرته وغايته وهذا هو الإسلام الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء، ولذلك قفى عليه بقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾
9. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ لأن الدين إذا لم يكن هو الإسلام الذي بينا معناه آنفا فما هو إلا رسوم وتقاليد يتخذها القوم رابطة للجنسية، وآلة للعصبية، ووسيلة للمنافع الدنيوية، وذلك ما يزيد القلوب فسادا، والأرواح إظلاما، فلا يزيد الناس في الدنيا إلا عدوانا، وفي الآخرة إلا خسرانا، ولذلك قال: ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي أنه يكون هنالك خاسرا للنعيم المقيم، في جوار الرب الرحيم، لأنه خسر نفسه إذ لم يزكيها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له جل علاه: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأعراف: 53] في الدين ويزعمون أنه مناط النجاة ووسيلة الفوز والسعادة إذ يهوون أن يسعدوا بغيرهم من الأنبياء والأولياء، وإن خسروا أنفسهم بسلوك سبل الشقاء: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 14 15] ولم أر أحدا من المفسرين نبه في هذا المقام على أن الأصل في خسران الآخرة هو خسران النفس، ولا نبه إليه محمد عبده، بل لم يقل في هذه الآية شيئا لظهور معناها.
10. أورد الإمام الرازي ههنا إشكالا وأجاب عنه قال: (واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا، لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام فلن يقبل منه} إلا أن ظاهر قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14] يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي)، وهذا الجواب مبهم وقد أراد بالآية الأولى الآية التي نفسرها وبالثانية ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ والمعنى أن أولئك الأعراب الذين نزلت فيهم الآية لم يسلموا الإسلام الشرعي وإنما انقادوا لأهله في الظاهر وهو يقتضي اتحاد الإيمان والإسلام.
11. وقال في تفسير هذه الثانية من سورة الحجرات ما نصه: (المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا؟ نقول: بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم، لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره، مثاله: الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس امرا ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، فكذلك المؤمن والمسلم، وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: 35 36])
12. وقال في تفسير الآية الثانية من هاتين ما نصه: (والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة، والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين، وهذا كما لو قال قائل لغيره: من في البيت من الناس؟ فيقول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد، فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد)
13. أنت ترى أن في كلامه اضطرابا وسببه تزاحم الاصطلاحات الكلامية والإطلاقات اللغوية في ذهنه، والصواب أن مفهومي الإسلام والإيمان في اللغة متباينان فالإسلام الدخول في السلم وهو يطلق على ضد الحرب وعلى السلامة والخلوص وعلى الانقياد كما تقدم في أوائل السورة، والإيمان التصديق ويكون بالقلب كأن يقول امرؤ قولا فتعتقد صدقه، ويكون باللسان كأن تقول له صدقت، وقد أطلق كل من الإيمان والإسلام في القرآن على إيمان خاص جعل هو المنجي عند الله تعالى وإسلام خاص هو دينه المقبول عنده:
أ. أما الأول فهو التصديق اليقيني بوحدانية الله وكماله وبالوحي والرسل وباليوم الآخر بحيث يكون له السلطان على الإرادة والوجدان فيترتب عليه العمل الصالح، ولذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]
ب. وأما الثاني فهو الإخلاص له تعالى في التوحيد والعبادة والانقياد لما هدي إليه على ألسنة رسله، وهو بهذا المعنى دين جميع النبيين الذين أرسلهم لهداية عباده، فالإيمان والإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل واحد منهما باعتبار، ولذلك عدا شيئا واحدا في الآيات التي ذكرت آنفا وفي قوله بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب وإسلامهم، ثم بيان حقيقة الإيمان الصادق ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 16 17] فهذا هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح وهما المطلوبان لأجل السعادة.
14. قد يطلق كل من الإيمان والإسلام على ما يكون منهما ظاهرا سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل أو نفاق:
أ. فمن الأول الشق الأول من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 62] الآية، فالمراد بالذين آمنوا في أول الآية الذين صدقوا بهذا الدين في الظاهر، وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ﴾ إلخ هو الإيمان الحقيقي الذي عليه مدار النجاة وقد تقدم شرحه آنفا.
ب. ومن الثاني قوله: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ أي دخلنا في السلم الذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنا حربا لهم وليس معناه الإخلاص والانقياد مع الإذعان وإلا لما نفى عنهم إيمان القلب، هذا هو التحقيق في المسألة ولله الحمد.
15. أما إطلاق الإسلام بمعنى ما عليه هؤلاء الأقوام المعروفون بالمسلمين من عقائد وتقاليد وأعمال فهو اصطلاح حادث مبني على قاعدة (الدين ما عليه المتدينون)، فالبوذية ما عليه الناس المعروفون بالبوذية واليهودية ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود والنصرانية ما عليه الأقوام الذين يقولون إنا نصارى وهكذا، وهذا هو الدين بمعنى الجنسية، وقد يكون له أصل سماوي أو وضعي فيطرأ عليه التغيير والتبديل حتى يكون بعيدا عن أصله في قواعده ومقاصده، وتكون العبرة بما عليه أهله لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم، وتحول دين أهل الكتاب إلى جنسية بهذا المعنى هو الذي صد أهل الكتاب عن اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما جاء به من بيان روح دين الله الذي كان عليه جميع الأنبياء على اختلاف شرائعهم في الفروع وهو الإسلام، فالإسلام معنى بينه القرآن فمن اتبعه كان على دين الله المرضي ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله وليس هو من معنى الجنسية المعروفة الآن التي تختلف باختلاف ما يحدث لأهلها من التقاليد، فالإسلام الحقيقي مباين للإسلام العرفي، لذلك جرينا في هذا التفسير على إنكار جعل الإسلام جنسية عرفية مع الغفلة عن كونه هداية إلهية، نعم إنه لو أقيم على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيره لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين.
__________
(1) تفسير المنار: 3/355.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين الله تعالى أن دين الله واحد، وأن رسله متفقون فيه ـ ذكر حال منكري نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة في السر والعلن، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السماوات والأرض، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟
2. وصفوة القول: إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.
3. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق، وفي هذا وعيد وتهديد لهم.
4. الإسلام: الانقياد والخضوع، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا، فأطلق الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأطلق الإسلام على توحيد الله والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله، والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار، ومن ثم عدّا شيئا واحدا في هذه الآيات، وبهما يكون الفوز بالنجاة في الآخرة، وأما ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لهم بعد، بدليل أنهم امتنّوا على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإسلام وترك القتال، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين، كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق، فمن اتبعه كان مرضيا عند الله، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله.
5. بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وينصروه ـ ذكر هنا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك، وخلاصة ذلك: إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه.
6. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه في الأكوان، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وهو القرآن المنزل عليه صلوات الله عليه أولا، وعلى أمته بتبليغه إليهم، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أي وصدقنا بأن الله أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾
7. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات، وخص هذين النبيين بالذكر، لأن الكلام مع اليهود والنصارى، ﴿وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي وما أوتى النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم.
8. قدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا، مع كونه أنزل قبله ـ لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه، فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع، وهو الإيمان بالله وإسلام القلب له مع العمل الصالح، والإيمان باليوم الآخر.
9. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشئون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.
10. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغى بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا، وتطهيرها من أدارن الذنوب والخطايا.
11. افتتحت الآية بالإيمان، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبيّ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد لله تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدى شيئا، بل تزيد النفوس فسادا، والقلوب ظلاما، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس في الدنيا، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم، والعذاب الأليم.
12. ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطر السليمة من توحيد الله والانقياد له كما جاء في الحديث (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه)، وخسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 3/202.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن دين الله واحد، جاءت به الرسل جميعا، وتعاقدت عليه الرسل جميعا، وعهد الله واحد أخذه على كل رسول، والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله، ونصرة منهجه على كل منهج، هو الوفاء بهذا العهد، فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله، وقد خاس بعهد الله كله، والإسلام ـ الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له ـ هو ناموس هذا الوجود، وهو دين كل حي في هذا الوجود، إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام، صورة كونية تأخذ بالمشاعر، وترتجف لها الضمائر، صورة الناموس القاهر الحاكم، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة، ومصير واحد.
2. ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل، ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله، فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه، في حين أنه مضطر أن يعيش في اطار هذا الكون، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني.. والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها، وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق؛ أو لا يؤدي ـ على كل حال ـ وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له، وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه، يملك معرفة أسرارها، وتسخيرها، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر.. الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون، ولكن ليطبخ بها ويستدفئ ويستضيء والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي، فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق، ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية!
3. إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير، خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها، حقيقة الإيمان.. وخواء حياتها من المنهج الإلهي، هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه، إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيدا عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق! ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب؛ وتحس الخواء والجوع والحرمان؛ وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات؛ وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير.. لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها.
4. إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف، يطاردها فتهرب منه، ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير! وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون! هاربون من أشباح تطاردهم، هاربون من ذوات أنفسهم.. وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة، وفراغ الحياة من كل تصور كريم! إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية.. إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون، وبين نظامهم وناموس الوجود.. إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون.
5. ولما كانت الأمة المسلمة ـ المسلمة حقا لا جغرافية ولا تاريخا! ـ هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله، وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه، فإن الله يأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعلن هذه الحقيقة كلها؛ ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات، واحترامها لجميع الرسل، ومعرفتها بطبيعة دين الله، الذي لا يقبل الله من الناس سواه: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾، هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وفي ولائه لكافة الرسل حملته، وفي توحيده لدين الله كله، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده.
6. مما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين ـ وهو القرآن ـ وما أنزل على سائر الرسل من قبل، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه، بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس، كما يتجلى في الآية قبلها ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
7. ظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر، واتباع النظام، وطاعة الناموس.. ومن ثم تتجلى عناية الله ـ سبحانه ـ ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة، كيلا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان، أو تصديق يستقر في القلب، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة، وهي لفتة ذات قيمة قبل التقرير الشامل الدقيق الأكيد: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
8. إنه لا سبيل ـ مع هذه النصوص المتلاحقة ـ لتأويل حقيقة الإسلام، ولا لليّ النصوص وتحريفها عن مواضعها لتعريف الإسلام بغير ما عرفه به الله، الإسلام الذي يدين به الكون كله، في صورة خضوع للنظام الذي قرره الله له ودبره به.. ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها، وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة، ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه، ودون أن يتبع شهادة أن محمدا رسول الله معناها وحقيقتها، وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة، واتباع الشريعة التي أرسله بها، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد.. ولن يكون الإسلام إذن تصديقا بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله.. دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا.. ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات، أو إشراقات وسبحات، أو تهذيبا خلقيا وإرشادا روحيا.. دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر، والإشراقات والسبحات، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد.. فإن هذا كله يبقى معطلا لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/422.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ تنكر هذه الآية على أهل الكتاب الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحدوا ما عندهم من حقّ فيه ـ تنكر عليهم هذا الموقف الذي لا ينبغي لعاقل أن يقفه، لأنه يورد بذلك الموقف، موارد الهلاك.. فأي دين غير دين الله يبغون؟ وما ذا ينكرون من أمر محمد وقد جاءهم بالحقّ الذي كان معهم مثله من كتاب الله الذي في أيديهم؟ وهل جاءهم محمد بغير ما جاء به الأنبياء من قبله من دعوة إلى توحيد الله، والإيمان به إلها واحدا، قيّوما، له ملك السماوات والأرض؟ إن ذلك هو الحق الذي قام عليه الوجود، وهو الدين الذي دان به لله كل مخلوق، في ملكوت السماوات والأرض.. فكيف يفسق أهل الكتاب هؤلاء، ويخرجون عن هذا الموكب الذي انتظم الوجود كلّه، في أرضه وسمائه، وفي أحيائه وجماداته؟
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ الإسلام هنا الانقياد والخضوع.. وكل ما في هذا الوجود منقاد لله، خاضع له، إن لم يكن عن ولاء ورضى، فهو عن قهر وسلطان! وما ذا تملك المخلوقات من أمرها؟ وهل غير الاستسلام والخضوع؟ إنها جميعا في يد القدرة القادرة المنصرفة وحدها من غير معترض أو معقب! فمن لم ينقد اختيارا انقاد اضطرارا، والله سبحانه وتعالى يقول ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾.. فهل لهؤلاء المحادّين لله، الكافرين به، ملجأ غير الله؟ وهل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ما يصبهم من ضرّ وأذى؟ {قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}
3. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ بعد أن كشفت الآيات السابقة موقف أهل الكتاب من رسل الله، وإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض، ونقضهم في هذا ما عاهد الله عليه أنبياءهم من الإيمان بكل رسول، ونصرته ـ بعد أن كشفت الآيات السابقة هذا، أمر الله نبيّه بأن يجهر بالحقّ الذي فسق عنه أهل الكتاب، وأن يقيم إيمانه على الدين الذي ارتضاه الله له، وللمؤمنين جميعا.. وهو الإيمان بالله، وما أنزل عليه من كتاب ربه، وما أنزل على الأنبياء قبله.. إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما تلقى موسى وعيسى من آيات ربهما وكتبه، وما تلقى النبيون جميعا من ربهم، لا تفرقة في هذا بين أحد منهم، فكلهم رسل كرام من رسل الله، سفراء بررة، بين الله وبين عباد الله!
4. في قوله تعالى هنا: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وفي قوله سبحانه في سورة البقرة: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ تفرقة بين النبيّ وأتباع النبيّ في التلقّى عن الله سبحانه وتعالى، فالنبي هو الذي تلقى الكتاب عن الله، وأتباعه هم الذين تلقوا الكتاب عن النبي، ولهذا كان خطاب النبي: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وكان خطاب أتباعه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾، و(علينا) فيها الدنوّ والمباشرة، بخلاف (إلينا) وما فيها من بعد ومجاوزة.
5. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ وقوله: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ـ ما يسأل عنه.. وهو: لماذا كان الوصف المصاحب لما تلقّاه النبيون: محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، هو (النزول)، على حين كان الوصف المصاحب لما تلقّاه موسى وعيسى هو (الإتيان) هكذا: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾؟ والجواب: على هذا ـ والله أعلم ـ هو أن ما تلقاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما تلقاه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام ـ كان وحيا من الله، على لسان ملك من ملائكته، هو جبريل عليه السّلام، فكان وصف هذا التلقي (بالنزول) هو الوصف المناسب لتلك الحال، أما ما تلقاه موسى وعيسى عليهما السلام، فكان تلقيا مباشرا من الله سبحانه وتعالى.. وفي موسى يقول الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ أما عيسى عليه السّلام، فقد أيده لله بروح القدس، لذى هو نفخة من روح الحق، فكان اتصاله بالله اتصالا مباشرا بهذا الروح الذي يملأ كيانه! وفي عيسى يقول الله سبحانه: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وروح القدس، هو جبريل، أو روح من عند الله.. تلازمه، وتنطق بلسانه!
6. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾.. الإسلام هو دين الله الذي شرعه لعباده، والذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا، ودعوا الناس إليه، فمن آمن منهم بما جاء به الرسل ـ من غير تحريف ولا تبديل ـ فهو مسلم من المسلمين، فإبراهيم عليه السلام.. يسأل الله أن يوفقه وأهله وذريته إلى دين الإسلام، فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ وفيه يقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.. وفيه يقول سبحانه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وعلى دينه ـ وهو الإسلام ـ كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا، فليس المراد (بالإسلام) هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، خاصة، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها، بل هي وما قبلها من الشرائع ـ من يهودية ونصرانية وغيرهما ـ على سواء.. فجميعها شريعة الله، وكلها (الإسلام) الذي هو الدين عند الله، ولا دين غيره.
7. الخلاف الذي بين الإسلام، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام، ولكان أتباعهما من المسلمين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/512.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء، والاستفهام للتوبيخ والتحذير، وقرأه الجمهور تبغون بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جار على طريقة الخطاب في قوله آنفا: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ﴾ [آل عمران: 80] وقرأه أبو عمرو، وحفص، ويعقوب: بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب، وكله تفريع ذكر أحوال خلف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به، والاستفهام حينئذ للتعجيب.
2. دين الله هو الإسلام لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.
3. معنى (تبغون) وتطلبون يقال بغى الأمر يبغيه بغاء ـ بضم الباء وبالمد، ويقصر ـ والبغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر، وقيل اسم، ويقال ابتغى بمعنى بغى، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد، وقياس مصدره البغي، لكنه لم يسمع البغي إلّا في معنى الاعتداء والجور، وذلك فعله قاصر، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء، فأماتوا المصدر القياسي لبغى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الشورى: 42] ويقال تبغّى بمعنى ابتغى.
4. جملة ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾) حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى: ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله﴾ [آل عمران: 20]
5. معنى ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة، أو الإسلام كرها هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لا إكراه في الدين، والكره ـ بفتح الكاف ـ هو الإكراه، والكره ـ بضم الكاف ـ المكروه.
6. معنى ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول لظهور فاعله، أي يرجعكم الله بعد الموت، وعند القيامة، ومناسبة ذكر هذا، عقب التوبيخ والتحذير، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دين أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارا قبل أن يسلمها اضطرارا، وقد دل قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ على المراد من قوله: ﴿وَكَرْهًا﴾، وقرأ الجمهور: وإليه ترجعون ـ بتاء الخطابـ، وقرأه حفص بياء الغيبة.
7. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ المخاطب بفعل قل هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليقول ذلك بمسمع من الناس: مسلمهم، وكافرهم، ولذلك جاء في هذه الآية قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي أنزل عليّ لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل، وعدّى فعل (أنزل) هنا بحرف (على) باعتبار أنّ الإنزال يقتضي علوّا فوصول الشيء المنزل وصول استعلاء وعدّي في آية سورة البقرة بحرف (إلى) باعتبار أنّ الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدّى بحرف (إلى)، والجملة اعتراض، واستئناف: لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاما جامعا لمعنى الإسلام ليدوموا عليه، ويعلن به للأمم، نشأ عن قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ [آل عمران: 83]
8. معنى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حبّ نبيئنا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة، وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: 119]، وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.
9. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ عطف على جملة ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، وردّ لقولهم: نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كلّ حال، والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام، وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة {مَنْ يَبْتَغِ} وكلمة ﴿غَيْرُ﴾ وروى السوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/146.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ هذه الجملة السامية فيها تصريح بوحدة الرسالة، فإن ما يجيء به الرسل جميعا واحد لا يتغير، وهو دين الله تعالى؛ ومن خالفه فقد خالف دينه سبحانه، ومن آمن ببعض الرسل، وكفر ببعض آخر، فهو يبغى غير دين الله، ويطلب سواه، ومعنى النص الكريم: أنهم إذا أعرضوا عن تصديق محمد طلبوا غير دينه سبحانه، والاستفهام هنا للتوبيخ، واستنكار ما يفعلون، وبيان أن مؤداه أنهم يطلبون غير دين الله سبحانه وتعالى، وأنهم لا يمكن أن يكونوا مؤمنين بنبي قط، إذا أنكروا رسالة نبيّ من الأنبياء، وخصوصا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي جاء بكتاب مصدقا لمن بين يديه من الكتب.
2. في هذا الكلام إشارة إلى أن دين الله واحد لا يتجزأ، فمن كفر ببعضه، فقد كفر بكله، وأن حقيقة هذا الدين تتجلى في كل ما جاء به الرسل لا في بعضه، وأنه يتلاقى كله في مجموعه، ولا يتعارض إلا ما يكون من جزئيات عملية ضئيلة، فلا تختلف رسالات الرسل في قواعد كلية.
3. هنا مباحث لفظية:
أ. أولها: أن الفاء هنا للترتيب والتعقيب، وهى مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى أنه ترتب على كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري توبيخا لهم على ما فعلوا وما أنكروا، وما ضللوا.
ب. ثانيها: إسناد الدين إلى الله تعالى، ففيه إشارة إلى أن من يكفر ببعضه إنما يكفر بالله، لا بنبي من الأنبياء فقط.
ج. ثالثها: تقديم المفعول على الفعل، أي تقديم كلمة (غير دين الله) على (يبغون) ففيه تنبيه إلى موضع الاستنكار وهو أنهم أرادوا غير دين الله تعالى، فقدم المفعول لأهميته، إذ هو موضع التنبيه والتوبيخ.
د. رابعها: التعبير ب ﴿يَبْغُونَ﴾ بدل يريدون، فإنه يفيد شدة إلحافهم وإصرارهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بذلك ظالمون.
4. بين سبحانه أن ذلك الأمر الذي ابتغوه وطلبوه كان تمردا على الله، وخروجا على طاعته، مع أنه سبحانه قد أسلم له كل من في السماوات والأرض طوعا وكرها؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي أنهم يبغون غير دين الله، ويخرجون عن طاعته؛ مع أنه قد أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها؛ وتقديم الجار والمجرور لإفادة القصر، أي له وحده، لا لأحد سواه، خضع وأخلص كل من في السماوات والأرض من عقلاء، ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أي أنهم خاضعون مستسلمون له بنوعين.
أ. أحدهما: بالطاعة، والإخلاص، والإذعان، وقبول كل ما يحكم به، والتقرب منه بعبادته، وأولئك هم الأخيار.
ب. ثانيهما: بالخضوع لقوته القاهرة، وكونه سبحانه مسير الأكوان؛ لأنه لا أحد من الخلق له أثر في تسييرها، وفيما يكسب من خير وشر، والجميع في قدرته وحفظه، وهذا الخضوع هو الخضوع كرها وقسرا، وهو سار على الأخيار والأشرار.
5. ثم هددهم سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ أي إليه وحده المرجع والمآب، يحاسب كلا على ما صنع من خير وشر.. اللهم اغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
6. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة شدة تعصب بعض الذين أوتوا الكتاب، وأنهم غلّقوا بهذا التعصب باب النور فلم تشرق قلوبهم بهداية الإيمان، ثم بين سبحانه أن صرح النبوة واحد، وأن كل نبيّ متمم لما جاء به سابقه مصدق له، ومبشر بالنبي الذي يجئ بعده، وأن ذلك عهد الله وميثاقه، وفي هذه الآية يشير إلى وحدة الرسالة الإلهية، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤمن بكل رسول جاء من قبله، وأن ذلك الإيمان جزء من رسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذلك أمره ربه بقوله تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ وهذا أمر من الله لنبيه بأن يبين لهم ارتباط شرائع الله، وأنها سلسلة متصلة، كل حلقة منها آخذة بالحلقة الأخرى، لتنتهي معها إلى نهاية واحدة، وهى الإخلاص.
7. وقد ابتدأ سبحانه بذكر الإيمان بالله، فقال: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ والإيمان بالله هو جماع الشرائع كلها، إذ الإيمان بالله يقتضى الإيمان بوجوده واحدا منفردا بالعبودية، ومنفردا بالتكوين والإنشاء، ويقتضى الإخلاص لذاته العلية فيطيعه فيما يأمره به، وينته عما ينهاه عنه، وتصديق رسله، وعدم الاستكبار على أحد منهم، وذلك هو الإيمان حقا وصدقا، والإسلام الذي هو دين النبيين أجمعين، وإذا كان الإيمان بالله يقتضى تصديق كل ما جاءت به رسل الله ـ ذكر سبحانه بعد ذلك الإيمان بما أنزل على النبيين، وهو عطف للمسبب على السبب وللنتيجة على المقدمة، لبيان شرف النتيجة في ذاتها، وأنها غرض مقصود لذاته، وليس فقط تابعا لغيره؛ وذلك لأن ما أنزل على الرسل فيه لبّ الشريعة السماوية المشتركة في كل الأديان التي ذكرها الله سبحانه بقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى]
8. الأنبياء الذين ذكرتهم الآية هم الأنبياء الذين يدعى اليهود والنصارى أنهم يتبعونهم، وفيهم إسماعيل أبو العرب، وفي ذكرهم بيان أن اليهود والنصارى قد خرجوا عن دينهم بكفرهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. الأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر، والمراد بما أنزل على الأسباط هو ما أنزل على ذريتهم كالذي أنزل على داوود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين جاؤوا من سلالة هؤلاء الأسباط، فكان المعنى: آمنا بما أنزل على إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب، ثم من جاء بعد ذلك من ذرية الأسباط الذين هم أولاد يعقوب، فأنبياء بنى إسرائيل لا يخرجون عن ذلك، ثم خص اثنين من أنبياء بنى إسرائيل بالذكر، وهما موسى وعيسى، فقال: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾
10. سؤال وإشكال: ما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون، أهو شيء آخر غير ما أنزل عليهم؟ والجواب: ما ذكر بأنه أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، هو الجزء الذي لا تختلف فيه الديانات السماوية قط، وهو لبها وخلاصتها، وأساسه التوحيد المطلق، والإيمان بفضائل الأخلاق، وغيرها مما لا يقبل النسخ والتغيير، وأما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون من ربهم فهو ما اختص به كل نبيّ من أحكام توافق زمنهم، ويصح أن نقول جوابا آخر وهو أن ما أوتيه موسى وعيسى والنبيون هو معجزاتهم التي أقاموا بها الدليل على رسالة ربهم، ويصح أن يكون الجواب شاملا للأمرين معا.
11. سؤال وإشكال: في سورة البقرة، قال الله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة] فلما ذا عبر هنا بقوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وهنالك ﴿أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ والجواب:
أ. قال الزمخشري: عدّى لـ (أنزل) في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء، لوجود المعنيين جميعا؛ لأن الوحى ينزل من فوق، وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالأخرى، ومن قال إنما قيل (علينا) لقوله: (قل)، و(إلينا) لقوله: (قولوا) تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على طريق الانتهاء ـ فقد تعسف، ألا ترى إلى قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة]، و﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ وإلى قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران]
ب. نميل إلى ما اعتبره الزمخشري تعسفا؛ لأن الخطاب في الأول من الله لنبيه، والوحى ينزل عليه، فكان من مقتضى الحقيقة أن يعبر بعلى، والثاني خطاب للمؤمنين، والوحى لا ينزل عليهم، ولكن ينتهي في نزوله إليهم، وكون الله تعالى عبر في مقام النزول على النبيّ ب (إلى)، وحكى عن اليهود أنهم قالوا في مقام النزول إلى المؤمنين بعلى، فلأسباب واضحة في مقامها لا يخل بالتعليل في هذا المقام.
12. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ هذه ثمرة الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بكل رسله، وبكل ما أنزل على رسله، فالنبي والمؤمنون معه إذ يؤمنون بكل ما جاء به الرسل لا يفرقون بين أحد منهم، فلا يؤمنون بواحد ويكفرون بآخرين، ولا يؤمنون بجماعة ويفردون بالكفر واحدا، بل هم في الإيمان سواء، وإذا كان بينهم تفاضل في أشخاصهم، فأصل الإيمان برسالتهم واجب لا تفرقة فيه؛ ولكن التفضيل يكون بأمور أخرى وراء أصل التصديق والإيمان؛ ولذا قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة]
13. ثم بين سبحانه الوصف الكامل لأهل الإيمان، وهو الإذعان لذات الله ولذات الحق، فيطلبون الحق مذعنين له مؤمنين به خاضعين، ولذا قال سبحانه: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي ونحن لله سبحانه وتعالى مذعنون مخلصون، لا نذعن إلا له، فلا نفكر في الأمور تحت تأثير عرض من أعراض الدنيا، أو عصبية جنسية أو دينية، أو حب رئاسة وسلطان، بل نطلب الأمر من الأمور وقد أخلصنا في طلبه، وخلصنا أنفسنا من شوائب الدنيا وأعراضها، فالإخلاص لله والإذعان له فيه الخلاص والاستقامة نحو الحق.
14. وقد بين سبحانه وتعالى أن الإخلاص لله سبحانه والإذعان المطلق هو لب الأديان كلها وروحها، وهو دين الله الحق، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ الإسلام هنا هو الإسلام في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران] فهو الإيمان بالله تعالى وحده، وإذعان العقل والنفس والقلب لله سبحانه وتعالى، فهو التوحيد، والانقياد، والإذعان، والإخلاص لذات الله، بحيث يحب الشيء لا يحبه إلا لله، وكأن المعنى: من يطلب غير الإخلاص دينا لله تعالى فلن يقبل منه؛ لأن عدم الإخلاص لله تعالى إشراك للهوى ومآرب الدنيا في الاتجاه إليه سبحانه، وذلك نوع من الشرك الخفي، ولذا أكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ أي أنه ليس من شأنه أن يقبل غير الإخلاص إذ إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده إلا ما كان خالصا له مجردا من كل هوى من أهواء الدنيا، ومن كان عنده ذلك الإخلاص الحق هو الذي قال سبحانه وتعالى في مثله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت]
15. إن الله تعالى إذا كان لا يقبل ذلك النوع من التدين، وهو الذي خلا من الإخلاص، فإن صاحبه يكون يوم القيامة من الخاسرين، ولذا قال سبحانه: ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أي أن الخسران يوم القيامة يكون شأنه، إذ خسر رضوانه تعالى، وخسر النعيم المقيم، وخسر رحمة الله، فألقى به في الجحيم.. اللهم هب لنا الإخلاص، وأنر به بصائرنا، وامنحنا قبولك ورضاك يا أرحم الراحمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1298.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، والمراد بالإسلام الانقياد والخضوع، وكل الناس تؤمن بالله من غير فرق بين الصالح والطالح، سوى ان الصالح يؤمن بالله طوعا في هذه الحياة، والطالح يؤمن به كرها يوم القيامة، حيث ينكشف الغطاء، ويرى كل جاحد البأس والعذاب وجها لوجه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾
2. هذا المعنى الذي فسّرنا به طوعا وكرها لا يصعب على أحد فهمه وهضمه مهما كان مستواه.. ولكن الرازي فسّر ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ تفسيرا فلسفيا على طريقته، وما قاله قريب الا انه للخاصة، لا للعامة، وننقله لأولئك لا لهؤلاء، قال: (ان كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد الا بإيجاده، ولا يعدم الا بعدمه، فإذن، كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا نهاية الانقياد والخضوع)(2)
3. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ مرّت الآية الأولى مع تفسيرها في الآية 136 من سورة البقرة، والخلاصة ان كلا من اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض، أما المسلمون فإنهم يؤمنون بالجميع لأن دعوة الأنبياء واحدة، وهدفهم واحد، فالتفرقة بينهم من حيث الايمان بنبوتهم حكم على الشيء الواحد بالسلب والإيجاب في آن واحد.
4. تجمل الاشارة إلى اني رأيت البعض يستدل بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على انه لا فرق بين المسلم واليهودي والنصراني ما دام كل منهم يؤمن بالله واليوم الآخر.. وهذا خطأ من وجهين:
أ. الأول ان المراد بالمذكورين في الآية كل من مات على الايمان والعمل الصالح من أهل الأديان السابقة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد بيّنا ذلك مفصلا عند تفسير الآية.
ب. الثاني ان لفظ الآية وان كان عاما بظاهره لكل زمان الا ان قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ يخصص آية اليهود والنصارى بالمؤمنين منهم قبل عصر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أما من آمن بالله واليوم الآخر، ولم يؤمن بمحمد بعد بعثته مع بلوغه دعوته فإن إيمانه ليس بشيء ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/102.
(2) نرى وضوح ما ذكره الرازي وأهميته، وأنه يمكن تبسيطه للجميع، ولا تعارض بينه وبين ما ذكره المفسر
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ﴾، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين، والمعنى فإذا كان دين الله واحدا وهو الذي أخذ عليه الميثاق من عامة النبيين وأممهم وكان على المتقدم من الأنبياء والأمم أن يبشروا بالرسول المتأخر ويؤمنوا بما عنده ويصدقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدقونك ولا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنه الدين الذي يبتني على الفطرة، وكذلك يجب أن يكون الدين، والدليل عليه أن من في السماوات والأرض من أولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.
2. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، هذا الإسلام الذي يعم من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين، ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي والتحقق لا محالة وهو التسليم التكويني لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي، ويؤيده أو يدل عليه قوله ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، وعلى هذا فقوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبب، وتقدير الكلام: أفغير الإسلام يبغون؟ وهو دين الله لأن من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعا من أنفسهم، وإن كرهوا ما شاءه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرها من غير طوع.
3. من هنا يظهر أن الواو في قوله: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، للتقسيم، وأن المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه، وكراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.
4. ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام دينا فإن مرجعهم إلى الله مولاهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم وشركهم.
5. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، أمر النبي أن يجري على الميثاق الذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من أمته: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ الآية.. وهذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء وأممهم جميعا كما مرت الإشارة إليه آنفا.
6. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إلى آخر الآية، هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم، ولا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيوب وغيرهم.
7. ﴿وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحا ومن دونهما، ثم جمع الجميع بقوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
8. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ الآية نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ، وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/336.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ تَبْغُونْ} أيها المتولون الفاسقون، وهو التفات فيه توبيخ لهم ـ على قراءة المثناة من فوق ـ فأما على قراءة ﴿يَبْغُونَ﴾ بالمثناة من تحت، فالكلام في المتولين بغير التفات.
2. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ فدين المتولين غير دين الله، ولن يقبل منهم إلا دين الله الذي ﴿لَهُ﴾ وحده ﴿أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ لأنه الغالب على أمره ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18] الذي له الحكم فيهم بما يشاء وليس لمخلوق أن يحكم بخلاف حكم الله ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله﴾ [الأنعام: 57] فمن أسلم وجهه له طوعاً رَشِد ومن لم يسلم له طوعاً فهو منقاد لقضائه فيه كرهاً فهو يجزيه بعصيانه الجزاء الأوفى ولا ينازعه فيه منازع، لأنه لله وحده ومرجعه إليه وحده، وكما أخذ الله الميثاق على النبيئين على الإيمان والنصرة للرسول المصدق بما أوتوه الذي يجيء بعدهم، فقد أمر الله هذا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يؤمن بما أوتوه فقال تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
3. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿آمَنَّا﴾ أنا ومن معي ﴿بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي وبما أنزل الله علينا لنتبعه من الكتاب والحكمة، وآمنا بما ﴿أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ وهذا الإيمان المفصل حجة على أهل الكتاب؛ لأن فيه التصديق بما معهم ولما معهم أعني ما ذكر من ذلك في التوراة، وما أوتي النبيئون من كتاب وحكمة.
4. وهذا أعني لفظ ﴿أُوتِيَ﴾ هنا مناسب للفظ {لَمَآ ءآتَيْناكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} وتطبيق له، وفيه تصريح بما ﴿أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من كتاب وحكمة وتقوية للحجة على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ لأنهم حاملون كلهم لرسالة واحدة ودين واحد أوحاه الله إليهم وهو عبادة الله وحده، وإسلام الوجوه له، وكلهم منقادون لأمره خاضعون لحكمه، ليس عندهم تعصب ولا أنانية ولا تكبر، فدينهم واحد يصدق بعضهم بعضاً.
5. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أوجهنا لله وحده لا نشرك به أحداً في عبادته، وهذه حجة للنبي ومن معه واضحة، لأن الله تعالى حكيم لا يجعل لنفسه شريكاً في ملكه ولا يرضى لنفسه شريكاً.
6. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ﴾ من يطلب أو من يرد غير الإسلام الذي هو إخلاص العبادة لله ديناً مخالفاً له ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ لأن الله لا يرضاه فهو مردود على صاحبه {وَهُوَفِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في نار جهنم لا يفيده دينه شيئاً بل هو وبال عليه.
7. الإسلام يعم عبادات: القلب، والبدن، واللسان؛ لأنها تكون خالصة لله أو غير خالصة وهو صفة لها كلها إذا خلصت لله، فالإيمان من الإسلام كما يفهم من تتبع الآيات الواردة في هذه السورة وغيرها، كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ إلى قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لله وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا}، فمعنى الإسلام: إسلام الوجه لله، أي إخلاص العبادة لله، وقد يستعمل بمعنى إسلام النفس لله وهو واحد، إلا أن إسلام النفس قد يكون أبلغ إذا كان كإسلام إبراهيم عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:131] وإسلامه عليه السلام وابنه في قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات:103] ومعناه: جعل نفسه سلَماً لله، أي خالصة لله ضد المشتركة، قال تعالى ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ [الزمر:29]، ولهذا يدخل الإنسان الذي كان مشركاً يدخل في الإسلام بالنطق بالشهادتين وبراءته مما كان يعبد من دون الله لأنه أسلم نفسه لله، ومقتضى ذلك:
أ. أن يستمر في طاعته والإخلاص له، فإذا فسق وتمرد مع براءته من الشرك لم يخرج عن الإسلام، ولكن ليس له حكم المؤمن لأن إسلامه ناقص إن كان معناه إخلاص العبادة لله لنقص العبادة عيناً وصفة، فإن كان معناه إسلامه نفسه فلأنه لم يستمر عليه بالعمل بموجبه، فإن فسقه ينافي إسلامه نفسه لله لأن معنى إسلامه نفسه لله: جعله نفسه لله وحده.
ب. ومقتضى ذلك: أن يعبده ويطيعه لكونه جعل نفسه عبداً له خالصاً وفسقه عدول عن التعبد له ومنازعة في العبودية، فلم يبق إسلامه صدقاً إلا باعتبار سلامته من الشرك، إن لم نقل: أنه أشرك بطاعة الشيطان شرك الطاعة المنافي لإسلامه نفسه لله؛ فأما باعتبار جعله نفسه عبداً لله فقد خالفه بفسقه ولا يلزم مثل هذا فيمن نطق بالشهادتين قبل أن يعمل الطاعات من صلاة وغيرها وقبل أن يعصي؛ لأنه لم يصدر عنه في تلك الحال ما يعارض معنى النطق بالشهادة وإسلامه نفسه لله تعالى، فالمسلم الكامل الإسلام قد أسلم عباداته كلها لله القلبية ومنها الإيمان، والقولية وأعمال جوارحه كلها جعلها سالمة لله تعالى؛ وبهذا ظهر: أن هذا الإسلام قد شمل الإيمان، وأنه لا حاجة إلى أن نقول: الإسلام في الآية هو الإيمان أي الإعتقاد والقول والعمل أي الدين كله؛ لئلا يلزم أن الإيمان غير الإسلام فيلزم أنه غير مقبول هناك؛ لأنا قلنا: الإسلام هو إخلاص الدين لله من حيث هو إخلاص الوجه، أو من حيث هو إخلاص النفس، وفي سورة هود: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آية:14] وفي سورة اقترب: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آية:108] وهذا باعتبار مفهوم الإسلام، مع أنه يصدق على الدين كله من حيث التطبيق.
8. لا أعتقد أن استعمال الإسلام بمعنى الدين والشريعة التي شرعها الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته إلا استعمال عرفي تعارفت به الأمة، ولذلك فلا يفسر به الإسلام في القرآن بمعنى أنه مفهومه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/495.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يطرح التساؤل في معرض الإنكار: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ في ما ينحرفون به من عقائد وأفكار، وفي ما يعبدونه من أصنام وأشخاص عندما يكذّبون الأنبياء تعصبا وعنادا بالباطل، ويبتعدون عن خط الإسلام لله؛ فيكف ينكرون رسالتك التي بشر بها النبيون الذين يؤمنون بهم من قبلك في الوقت الذي عرفوا أن الدين عند الله الإسلام الذي فرض على الإنسان إسلام العقل والقلب واللسان والحركة، وذلك بالانفتاح على كل الرسالات، ومن بينها هذه الرسالة التي جئت بها تأكيدا للخط الإسلامي الممتد في دروب الرسالات والتي تصدّق الرسل كلهم في رسالاتهم كلها!!؟
2. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا﴾ من خلال قناعتهم وإيمانهم الذي قادهم للانقياد لله والخضوع لربوبيته ووحدانيّته، ﴿وَكَرْهًا﴾ من خلال إخضاعهم لذلك من ناحية عملية بالسيطرة فيمن يعقل، أو بالتدبير الذاتي الذي ركب في ذواتهم في ما لا يعقل إذا كانت الآية شاملة لهما، وعبّر فيها بمن يعقل على سبيل التغليب، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ فيعرفهم ما عملوا وما قدموا، فيجزي كل واحد بما عمل، والله غالب على أمره في كل شيء.
3. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ في هذه الآية الكريمة تأكيد على مبدأ وحدة الرسالات ووحدة الرسل في قضية الإيمان في صلب العقيدة الإسلامية، لأن ذلك هو معنى الإسلام لله، من خلال ما تعنيه كلمة الإسلام، وذلك لأن إنكار أيّ نبي أو أيّ كتاب من كتب الأنبياء يعني إنكار حقيقة ثابتة من عند الله، مما يؤدي إلى أن يكون التمرّد هو طابع الإنسان المنكر أمام الله، فلا مجال للتفريق بينهم في الإيمان على أساس العصبيّة التي لا تستند إلى أساس من حقيقة بل ترجع إلى نوازع ذاتية مرضيّة معقّدة، وذلك ليس شأن المسلم، وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لكل هؤلاء الذين يثيرون الخلافات في الأنبياء ليفرقوا في الإيمان بين نبيّ ونبيّ، فيلتزمون بنبوة شخص وينكرون نبوّة آخر، في الوقت الذي يفرض الإيمان بالسابق الإيمان باللاحق من خلال بشارته به، وتصديق الآخر له، قل لهؤلاء: إن الإيمان الذي تدعو إليه هو الإيمان الشامل الذي يرتكز على الحجة الشاملة للجميع، ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ من الكتاب ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ الذين يلتزمون الوحي الإلهي النازل على إبراهيم في الصحف المنزلة عليه ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ في التوراة، ﴿وَعِيسَى﴾ في الإنجيل، ﴿وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ كما في زبور داوود، ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ فهم ـ جميعا ـ رسل الله في معنى إيماننا ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ بكل عقولنا وقلوبنا وإرادتنا وحركتنا، ولذلك فإننا نؤمن بالكتاب كله فلا عقدة عندنا من أيّ نبيّ من أنبياء الله، ولا مشكلة عندنا في أي كتاب من كتبه المنزلة، والعنوان الكبير الذي يجمع إيمان الرسالات في وجدان إنساني واحد، هو الانفتاح على الله بكل الذات الإنسانية فلا تنغلق عنه في معنى العقيدة والشرعية والمنهج والحركة والحياة، بل تلتزمه في ذلك كله، فهذا هو الدين الواحد المتنوع الأبعاد.
4. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هذه الآية الكريمة تدعو إلى أن يكون الإسلام لله هو الدين الذي يرتضيه الإنسان لنفسه، ليتحقق له من خلال ذلك الانقياد لأوامر الله ونواهيه، والخضوع لرسالات الله التي أرسل بها رسله، فمن لم يتخذ لنفسه ذلك الخط.. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، لأن الله لا يقبل من الإنسان أن يختار لنفسه ما يشتهي ويريد في ما يقبل وما يرفض، فلا قيمة لقبوله حقيقة على حساب رفض حقيقة أخرى، كما هو شأن الذين آمنوا بموسى عليه السّلام ورفضوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما السّلام، وكما هو شأن النصارى الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السّلام ورفضوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. {وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} الذين لم يأخذوا بأسباب الربح في قضية المصير، فوقعوا في قبضة الخسارة الدائمة في العذاب الأليم.
6. قد يكون من الضروري لنا أن لا نستغرق في المجالات في طرح الحقائق الدينية في حركة العقيدة، كما يفعل البعض عندما يطرحون وحدة الديانات لتبرير الانحراف البارز في بعض الرسالات، ولتمييع المواقف الفكرية التي تريد أن تضع القضايا في مواقعها الحقيقية؛ بل الأولى بنا أن نطرح الموضوع من خلال الأسلوب القرآني الذي يجمع للإنسان الإيمان كله في مستوى الرسالات المترابطة التي لا تنفصل حقائقها ولا تختلف إلا بحسب اختلاف طبيعة المرحلة، وفي مستوى الرسل الذين يصدق بعضهم ببعض، ويدعو كل واحد منهم أمته للإيمان بالبعض الآخر وعدم التفريق بينه وبينهم.. فذلك هو ما نؤمن به وندعو له، وندفع الحوار نحو الوصول للقناعة المشتركة على أساس ذلك، وفي هذا المجال نتطلع إلى معنى الإسلام بمعناه العام والخاص، فنجد أنهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض في حركة رسالة النبي محمد، لأن الإسلام بمعناه العام يريد للناس أن يخضعوا للحقائق الثابتة التي تقف في طليعتها رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسلما ثم ينكر هذه الحقيقة الثابتة من قريب أو بعيد.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/137.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية، وابتداء من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.
2. تبدأ الآية بالتساؤل: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ أيريد هؤلاء دينا غير دين الله؟ وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا.
3. ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كلّ من في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾، هذا الاستسلام والخضوع يكون (طوعا) أو اختياريا أحيانا، إزاء (القوانين التشريعية)، ويكون (كرها) أو إجباريا أحيانا أخرى، إزاء (القوانين التكوينية)، لتوضيح ذلك نقول: إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود:
أ. فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت ـ فرضا ـ يكتب لها الفناء والزوال، هذا نوع من (الإسلام والتسليم) أمام أمر الله، وبناء على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلّا منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.
ب. النوع الآخر من أوامر الله هي (الأوامر التشريعية) وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء، إنّ التسليم أمامها تسليم (طوعي) أو اختياري، فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون، إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ ـ على كلّ حال ـ عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الانحطاط والتخلّف والعدم.
4. لمّا كانت (أسلم) مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقا يسلم طوعا ـ كالمؤمنين ـ وفريقا يسلم كرها ـ كالكافرين ـ أمام القوانين التكوينية، وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله، فلما ذا إذا لا يسلمون لجميع قوانين الله ودين الحقّ؟
5. هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفا، وهو: أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء اختيارهم، أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلّا عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلّا إليه.
6. تستعمل عادة للعقلاء، إلّا أنها قد تكون عامّة للتغليب، و(طوعا) إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و(كرها) إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء.
7. ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ في هذه الآية يأمر الله النبيّ والمسلمين بأنّهم، فضلا عن إيمانهم بما أنزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكلّ الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله، إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعا كانوا قادة إلهيّين، وهم جميعا بعثوا لهداية الناس، إنّا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.
8. ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (يبتغ) من (الابتغاء) بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الأمور المحمودة وفي الأمور المذمومة.. هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلّيّة، وهي أنّ الدين الحقيقي هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأمّا بمفهومه الخاصّ فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان، فتقول الآية: أنّه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الاعتبار احترام سائر الشرائع الإلهيّة المقدسة، فكما أن طلّاب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية، فكذلك الإسلام، وأمّا الذين يتّخذون غير هذه الحقيقة دينا، فلن يقبل منهم هذا أبدا، ولهم على ذلك عقاب شديد ﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ذلك لأنّه تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيّات جاهلية وعنصرية، ولا شكّ أنّه هو الخاسر في هذه الصفقة، وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرمانا وعذابا وعقابا يوم القيامة.
9. ذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثمّ ارتدوا، وخرجوا من المدينة إلى مكّة، فنزلت الآية وأنذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين، وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ الآية أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجيء الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجيء الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، ثمّ يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله: إنّك على خير، بك اليوم آخذ، وبك أعطي، قال الله في كتابه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/579.
43. الكافرون بعد الإيمان وجزاؤهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈43⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 86 ـ 89]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هل لي من توبة، فنزلت: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأرسل إليه قومه؛ فأسلم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾، هم أهل الكتاب، عرفوا محمدا ثم كفروا به(2).
3. روي أنّه قال: أن الحارث بن سويد بن الصامت رجع عن الإسلام في عشرة رهط، فألحقوا بمكة، فندم الحارث بن سويد فرجع، حتى إذا كان قريبا من المدينة أرسل إلى أخيه الجلاس بن سويد: إني ندمت على ما صنعت، فاسأل رسول الله: هل لي من توبة؟، فأتى الجلاس النبي فأخبره، فأنزل الله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، فأرسل الجلاس إلى أخيه: إن الله قد عرض عليك التوبة، فأقبل إلى المدينة، واعتذر إلى رسول الله، وتاب إلى الله، وقبل النبي منه(3).
__________
(1) النسائي: ٧/١٠٧.
(2) ابن جرير: ٥/٥٦٠.
(3) أبو نعيم في معرفة الصحابة: ٢/٦٤٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: جاء الحارث بن سويد، فأسلم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم كفر، فرجع إلى قومه، فأنزل الله فيه القرآن: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿رَحِيمٌ﴾، فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك ـ والله ـ ما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصدق منك، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث، فأسلم، فحسن إسلامه(1).
2. روي أنّه قال: نزلت في الكفار كلهم، أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٥٨.
(2) تفسير البغوي: ٣/٦٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت محمد في كتابهم، وأقروا به، وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك، فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم؛ حسدا للعرب حين بعث من غيرهم(1).
2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في اليهود، كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٦٠.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: هم اليهود كفروا بالإنجيل وعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أصلحوا ما بينهم وبين الله ورسوله(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٦٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٧٠١.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر لهم ما كان في شركهم إذا أسلموا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٧٠١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فلا يعذبون ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ يعني: من بعد الكفر، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ في العمل فيما بقي، ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لكفره، ﴿رَحِيمٌ﴾ به فيما بقي(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ألا يهدى الله قوما هم معاندون مكابرون فيه، غير خاضعين له ولا متواضعين؛ إنما يهدي من خضع له وتواضع، فأما من عاند وكابر: فلا يهديه.
ب. ويحتمل أن هذا في قوم مخصوصين، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون أبدا؛ فأخبر الله تعالى أنه لا يهديهم، وأما من علم الله أنه يؤمن وتاب: فإنه يهديهم بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ الآية: أطمع من تاب وأصلح أن يهديه ويغفر له.
ج. ويحتمل: ألا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم؛ كقوله: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: 187، 188]
د. ويحتمل: لا يهديهم في وقت اختيارهم الضلالة، وقيل: بما اختاروا من الضلالة لا يهديهم، أي: لا يعينهم: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
2. دل قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ـ أن دين الإسلام هو الإيمان، وأن الكفر مقابله من الأضداد.
3. سؤال وإشكال: كيف يهدى قبل كفرهم!؟ والجواب:
أ. قيل: في وقت اختيارهم.
ب. وقيل: ذلك في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون، وكانت همتهم التعنت والمخالفة.
4. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم قالوا: إن الهدى: البيان، والبيان للكل، قالوا: بتقدم الفعل، فلو كان متقدما لكان في ذلك إعطاء الهدى للظالم؛ فأخبر ـ عزّ وجلّ ـ أنه لا يهدي الظالم، وهم يقولون: لا، بل يهدي الظالم؛ فذلك خروج عليه، وأمّا على قولنا: فإن التوفيق والقدرة إنما تكون معه؛ فكان قولنا موافقا للآية.
5. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي﴾ من ذكر ـ: فلو لم يكن الهدى غير البيان، فلقد هداهم إذن؛ على قول المعتزلة.
6. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ قيل: ﴿لَعْنَةُ اللهِ﴾: لعنة الله: هي الإياس من رحمته وعفوه، واللعن: هو الطرد في اللّغة، ولعنة الملائكة:
أ. ما قيل في آية أخرى قوله: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا﴾ الآية [غافر: 49، 50]
ب. وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77] إلى آخره.
ج. وقيل: يدعون عليهم باللعن.
7. قيل: لعنة المؤمنين قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 50] فذلك لعنهم عليهم.
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ملحق على قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ذكر الإسلام، ثم تاب بعضهم، ولم يتب البعض؛ فنزل قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ الآية.
9. في الآية دلالة قبول توبة المرتدين؛ لأن قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ الآية ـ قيل في القصّة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/421.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
أ. قال الحسن: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه بما يجدونه في كتبهم من صفاته ودلائله، فلما بعثه الله جحدوا ذلك، وأنكروه.
ب. وقال مجاهد، والسدي: نزلت في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد ارتد عن الإسلام، ثم تاب، وحسن إسلامه فقبل الله إسلامه بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فيما بعد تمام الآية، وكذلك رويناه عن أبي عبد الله عليه السلام.
ج. وقيل: نزلت في قوم أرادوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحكم لهم بالإسلام، وفي قلوبهم الكفر، فاطلعه الله على أسرارهم وما في ضمائرهم.
2. ﴿كَيْفَ﴾ أصلها للاستفهام، والمراد بها هاهنا إنكار أن تقع هذه الهداية من الله تعالى، وإنما دخل (كيف) معنى الإنكار مع أن أصلها الاستفهام، لأن المسئول يسأل عن أغراض مختلفة، فقد يسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يسأل للتوبيخ مما يظهر من معنى الجواب في السؤال، وقد يسأل لما يظهر فيه من الإنكار، فالأصل فيه الاستفهام، لكن من شأن العالم إذا أورد مثل هذا أن يصرف إلى غير الاستعلام إلا أنه يراد من المسئول طلب الجواب.
3. سؤال وإشكال: كيف خص هؤلاء المذكورون بمجيء البينات مع أنها قد جاءت كل مكلف للإيمان؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: لأن البينات التي جاءتهم هي ما في كتبهم من البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: للتبعيد من حال الهداية والتفحيش لتجويزها في هذه الفرقة.
أ. الهداية في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ تحتمل ثلاثة أشياء:
ب. أولها: سلوك طريق أهل الحق المهتدين بهم في المدح لهم والثناء عليهم.
ج. الثاني: في اللفظ الذي يصلح به من حسنت نيته، وكان الحق معتمده، وهو أن يحكم لهم بالهداية.
د. الثالث: في إيجاب الجواب الذي يستحقه من خلصت طاعته، ولم يحبطهما بسوء عمله.
4. سؤال وإشكال: كيف أطلق قوله: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ مع قوله ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾؟ والجواب: لأنه لا يستحق اطلاق الصفة بالهداية إلا على جهة المدحة كقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، فأما بالتقييد، فيجوز لكل مدلول إلى طريق الحق اليقين.
5. ليس في الآية ما يدل على صحة الإحباط للإيمان ولا إحباط المستحق عليه من الثواب، لأنه لم يجر لذلك ذكر، وقوله: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ يعني بعد إظهارهم الايمان وشهادتهم أن الرسول حق، وإن كانوا في باطنهم منافقين، وليس فيها أنهم كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين للثواب، فزال ذلك بالكفر فلا متعلق بذلك في صحة الإحباط.
6. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ إذا كان لعن الملائكة والناس أجمعين تابعاً للعن الله، فهلا اقتصر عليه في الذكر؟ والجواب: الوجه في ذلك أن لا يوهم أن لعنهم لا يجوز إلا لله عز وجل كما لا يجوز أن يعاقبهم إلا الله أو من يأمرهم بذلك.
7. ليس في قوله: والناس اجمعين دلالة على أنه يجوز للكافر أن يلعن نفسه، لأن لعنه لنفسه دعاء عليها بالابعاد من رحمة الله، وذلك يوجب رغبته فيما دعا به، ولا يجوز لأحد أن يرغب في أن يعاقبه الله، لأن ذلك ينافي الزجر به والتحذير منه، وأما رغبة المؤمن في أن يعاقب الله الكافر فجائز حسن، لأنه لا ينافي زجره بل هو أبلغ في زجره.
، 8. سؤال وإشكال: لم قال والناس اجمعين ومن وافق الكافر في مذهبه لا يرى لعنه؟ والجواب: عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: إن له أن يلعنه، وإنما لا يفعله لجهله بأنه يستحق اللعن، ويصح منه معرفة الله، ومعرفة استحقاق اللعن لكل كافر، فحينئذ يعلم أن له أن يلعنه وإنما لا يصح أن يلعن الكافر مع اعتقاده أنه لا يستحق اللعن، لأنه لو صح ذلك لأدى إلى أن يصح أن يلعن نفسه لمشاركته له فيما استحق به اللعن، وقد بينا فساده.
ب. الثاني: أن ذلك في الآخرة، لأن بعضهم يلعن بعضاً، وقد استقرت عليهم لعنة الجميع، وإن كانت على التفريق.
ج. الثالث: أن يحمل لفظ الناس على الخصوص، فيحمل على ثلاثة فصاعداً، فلذلك قال ﴿أَجْمَعِينَ﴾ وكان يجوز أن يرفع ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لأن الأول تقديره عليهم أن يلعنهم الله، فيحمل الثاني على معنى الأول، كما قال الشاعر:
çهل أنت باعث دينار لحاجتنا...أو عبد رب أخا عون بن مخراقé
والاتباع أجود ليكون الكلام على نسق واحد.
9. إنما ذكر وعيد الكفار هاهنا مع كونه مذكوراً في مواضع كثيرة في القرآن، للتأكيد وتغليظاً في الزجر لأنه لما جرى ذكر الكافر عقب ذلك بلعنه، ووعيده، كما إذا جرى ذكر المؤمن عقب ذلك بالرحمة ليكون أرغب له في فعل الطاعة والتمسك بالإيمان.
10. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ الخلود في اللغة هو طول المكث، ولذلك يقال خلده في السجن وخلد الكتاب في الديوان، وقيل للأثافي: خوالد ما دامت في موضعها، فإذا زالت لا تسمى خوالد، والفرق بين الخلود والدوام: أن الخلود يقتضي (في) كقولك خلد في الحبس ولا يقتضي ذلك الدوام، ولذلك جاز وصفه تعالى بالدوام دون الخلود، إلا أن خلود الكفار المراد به التأبيد بلا خلاف بين الأمة.
11. ﴿فِيهَا﴾ الهاء راجعة إلى اللعنة، ومعنى خلودهم فيها استحقاقهم لها دائماً مع ما توجبه من أليم العقاب، فأما من ليس بكافر من فساق أهل الصلاة فلا يتوجه إليه الوعيد بالخلود، لأنه لا يستحق إلا عقاباً منقطعاً به مع ثبوت استحقاقه للثواب الدائم، لأنه لو كان كذلك لأدى إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم، والعقاب الدائم لشخص واحد، والإجماع بخلافه، والإحباط ـ عندنا ـ باطل، فلا يمكن أن يقال يحبط أحدهما الآخر، وإنما حسن العقاب الدائم على المعاصي المنقطعة، كما حسن الثواب الدائم على الطاعة المنقطعة، فلا يجوز أن يستحق الدوام على الأصغر، ولا يستحق على الأكثر، فلما كانت نعم الله تعالى أعظم النعم كانت معاصيه أعظم المعاصي، وكانت طاعته أصغر منها، وأيضاً، فإنه يحسن الذم للدائم على المعاصي المنقطعة فالعقاب يجري مجراه.
12. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ التخفيف هو تغيير الشيء عن حال الصعوبة إلى السهولة، وهو تسهيل لما فيه كلفة ومشقة وأصله من خفة الجسم ضد ثقله، ومنه تخفيف المحنة معناه تسهيلها.
13. ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ معناه لا يمهلون وإنما نفى إنظارهم للإنابة لما علم من حالهم أنهم لا ينيبون كما قال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ على أن التبقية ليست واجبة، وإن علم أنه لو بقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين، ومن قال يجب تبقيته متى علم أنه لو بقاه لآمن، فجوابه هو الأول، وقيل في الفرق بين الانظار والامهال أن الانظار تأخير العبد لينظر في أمره، والامهال تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.
14. سؤال وإشكال: إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؟ والجواب: فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لأن توبتهم من غيره لا تنفع في التخلص منه، كما لا تنفع التوبة من الكبير في التخلص من الصغير، فأما من قال إن التوبة من معصية لا تصح مع الاقامة على معصية أخرى، فإنه يقول ذلك على وجه التأكيد.
15. سؤال وإشكال: إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب فلم شرط معها الإصلاح؟ والجواب: الوجه في ذلك إزالة الإبهام لئلا يعتقد، أنه إذا حصل الايمان، والتوبة من الكفر لا يضر معه شيء من أفعال القبائح، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ فذكر مع الايمان عمل الصالحات، لإزالة الإيهام بأن من كان مؤمناً في الحكم، لم يضره مع ذلك ما عمله من المعاصي، وقبول التوبة واجب، لأنها طاعة واستحقاق الثواب بها ثابت عقلا، فأما سقوط العقاب عندها، فإنما هو تفضل من الله، ولولا أن السمع ورد بذلك، وإلا، فلا دلالة في العقل على ذلك.
16. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دخلت الفاء لشبهه بالجزاء، إذا كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي يغفر لهم وليست في موضع خبر الذين، لأن الذين في موضع نصب بالاستثناء من الجملة الأولى التي هي قوله: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ الآية، وذكر المغفرة في الآية دليل على أن إسقاط العقاب بالتوبة تفضل، لأنه لو كان واجباً لما استحق بذلك الإثم بأنه غفور، لأنه لا يقال هو غفور إلا فيما له المؤاخذة، فأما ما لا يجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/522.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الهدى: الدلالة والبيان، ثم يستعمل في أشياء: منها الألطاف، ومنها: طريق الجنة، ومنها: الثواب، ومنها: الحكم بالهداية.
ب. البينات: جمع بينة، وهي الحجة.
ج. التخفيف: تغير الشيء عن حال الصعوبة إلى السهولة، ونقيضه التشديد، وأصله من خفة الجسم نقيض ثقله.
د. الإنظار: هو التأخير لينظر في أمره، ونظيره الإمهال، وهو تأخيره ليسهل ما يتكلفه من عمله.
هـ. الجزاء: المكافأة.
و. اللعن: الطرد والإبعاد، ومنه قيل للذئب: لعين، وللرجل الطريد: لعين، ورجل لُعْنَة بسكون العين وضم اللام يلعنه الناس، ولُعَنَة بفتح العين كثير اللعن، واللعَانُ: الملاعنة.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾:
أ. قيل: نزلت الآيات في أهل الكتاب، آمنوا بمحمد قبل بعثه، ثم كفروا به بعد البعثة حسدًا وبغيًا، عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: نزلت في رجل من الأنصار يقال له: الحارث بن سويد، ارتد ولحق بمكة، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله، هل لي من توبة؟ فسألوا، فنزلت الآية ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقال: إني لأعلم أنك تصدق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وأسلم، وحسن إسلامه، عن مجاهد والسدي.
ج. وقيل: نزلت في رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه، ولحق بأرض الروم، فتنصَّر، عن مجاهد.
د. وقيل: نزلت في قوم أرادوا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحكم لهم بحكم الإسلام، وفي قلوبهم الكفر، فأطلع الله نبيه على أسرارهم وما في ضمائرهم من الكفر.
3. لما بَيَّنَ تعالى أن الإسلام هو الدين الذي به النجاة بين حال من خالفه وتركه فقال سبحانه ﴿كَيْفَ﴾ استفهام ومعناه الجحد، أي لا يهدي، قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ أي لا يكون، قال الشاعر:
çكَيْفَ نَوْمي عَلَى الفِرَاشِ وَلَمَّا... يَشْمَلِ الشَّامَ غارةٌ شعواءُé
4. في معنى ﴿يَهْدِي﴾ وجوه:
أ. أولها: سلوك طريق أهل الحق والمهتدين بهم في المدح لهم والثناء عليهم، تقديره: كيف يمدح بنسبتهم إلى الهدى ويحكم برشدهم.
ب. ثانيها: في اللطف الذي يصلح به من حسنت نيته، وكان الحق معتمده، تقديره: كيف يزيدهم الهدى وحالهم هذا.
ج. ثالثها: في إيجاب الثواب الذي يستحقه من حصلت طاعته ولم يحبطها شيء من عمله، تقديره: كيف يهديهم الله إلى الجنة والثواب، عن أبي علي، قال أبو مسلم: كيف يثيب قومًا كفروا بعد إسلامهم.
5. ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وهي الحجج، وقيل في تقدير الآية قولان:
أ. أحدهما: كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، وبعد أن جاءهم البينات على الحذف، عن أبي مسلم.
ب. وثانيها: كيف يهدي الله قومًا شهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ثم كفروا بعد إيمانهم على التقديم والتأخير.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾:
أ. قيل: ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: هو القرآن.
ج. وقيل: سائر الحجج.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾:
أ. قيل: لا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنة.
ب. وقيل: لا يحكم بهدايتهم.
ج. وقيل: لا يكونون مهتدين بظلمهم، عن الأصم.
8. سؤال وإشكال: لم كرر نفي الهداية عنهم؟ والجواب:
أ. قيل: تأكيدًا وإياسًا لهم.
ب. وقيل: الأول في المرتدين والثاني عام في سائر الكفار.
9. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ يعني إنما لا يثيبهم ولا يهديهم؛ لأن جزاءهم المستحق هو اللعن، و﴿أُولَئِكَ﴾ المراد به الظالمون أو الَّذِينَ كفروا بعد إيمانهم ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ على أعمالهم ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ وإنما ذكر الله تعالى وعيد الكفار في آي من القرآن ليكون مقرونًا بذكرهم في جميع المواضع، ولكن يلعنهم كما ذكر كما يصلى على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متى ما ذكر، ويترحم على المؤمنين كلما ذكروا، ولعن الله إبعاده إياه من الخير والثواب.
10. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لم عم جميع الناس، ومن يوافقه لا يلعنه؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. الأول: أنه له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه لجهله، عن أبي مسلم.
ب. الثاني: أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضا فقد لعنه الجميع.
ج. الثالث: أن الناس على الخصوص والمراد به المؤمنون، عن الأصم وأبي علي والقاضي كأنه لا يعتد بغيرهم، ولما ذكر لعن الثلاثة قيل: أجمعين.
د. الرابع: وهو الأصح أن لا مكلف إلا وهو يلعن المبطل، فكأنه يلعن نفسه، وهو لا يعلم.
11. ﴿خَالِدِينَ﴾ دائمين فيها:
أ. قيل: في اللعنة لاستحقاقهم ذلك مع أليم العقاب، عن أبي علي.
ب. وقيل: في العقوبة الدائمة؛ لأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة إلى العقوبة.
12. ﴿فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ يعني يعاقبون حالا بعد حال قدرًا من العقاب لا يخفف عنهم في وقت من ذلك ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لا يؤخر عنهم العذاب وقتًا ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ يعني ندموا على ما أسلفوا وعزموا على ألا يعودوا إلى مثله ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي من بعد كفرهم ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ يعني أصلحوا أعمالهم فعملوا ما وجب عليهم من الطاعات وتركوا المعاصي، أزال التوهم بأن مجرد التوبة يكفي، وأنه متى ما ضم إليها شيئا من الفساد لم تصح، ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ يغفر لهم عند التوبة ﴿رَحِيمٌ﴾ يرحمهم بإيجاب الجنة لهم.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الهدى يكون بمعنى الإثابة لذلك قال: ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وذلك لا يليق إلا بالإثابة.
ب. أن الكفر يحبط ثواب الإيمان.
ج. أن الظالمين استحقوا اللعن، وتدل على وقوع اللعن ولا مانع منه.
د. أن التوبة تزيل العقاب وتوجب الغفران والرحمة.
هـ. أن مجرد التوبة لا تكفي في استحقاق الثواب إلا بعد أن يضم إليها القيام بالصالحات، خلاف قول المرجئة.
و. أن التوبة مقبولة بعد الكفر وسائر المعاصي.
14. مسائل نحوية:
أ. ﴿كَيْفَ﴾: استفهام، ومعناه الإنكار ههنا كقولهم: كيف تكفر شكري، وقد أنعمت عليك، وفي التنزيل ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾
ب. عطف الفعل على الاسم لأن الإيمان اسم، و﴿شَهِدُوا﴾: فعل لأن الإيمان مصدر، والمراد به الفعل، أي بعد أن آمنوا وشهدوا، و﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لـ ﴿النَّاسِ﴾ معطوف على اسم الملائكة.
ج. خفض ﴿الْمَلَائِكَة﴾؛ لأنه مضاف إليه، ويجوز في العربية رفع ﴿أَجْمَعِينَ﴾ على تقدير عليهم أن يلعنهم الله، فيحمل الثاني على تأويل الأول، إلا أن الإتباع أجود ليكون الكلام على منهاج واحد في الإعراب.
د. دخلت الفاء في قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه يشبه الجزاء إذا كان الكلام قد يتضمن معنى إن تابوا فإن الله يغفر ويرحم لهم، ولا يجوز أن يكون في موضع خبر ﴿الَّذِينَ﴾؛ لأن الَّذِينَ في موضع نصب بالاستثناء، ولا يحمل على المنقطع مع حسن المتصل؛ لأنه الأصل في الكلام والأسبق إلى الأفهام، عن علي بن عيسى.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/305.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخلود في اللغة: طول المكث، ولذلك يقال: خلد فلان في السجن، وقيل للأثافي خوالد ما دامت في مواضعها، وإذا زالت لا يسمى خوالد، والفرق بين الخلود والدوام أن الخلود يقتضي طول المكث في نحو قولك: خلد فلان في الحبس، ولا يقتضي ذلك الدوام، ولذلك وصف سبحانه بالدوام دون الخلود، إلا أن خلود الكفار المراد به التأييد، بلا خلاف بين الأمة.
ب. الإنظار: التأخير للعبد لينظر في أمره، والفرق بينه وبين الإمهال هو تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.
2. لما بين تعالى أن الاسلام هو الدين الذي به النجاة، بين حال من خالفه فقال ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ فيه وجوه:
أ. أحدها: إن معناه كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لهم، والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم.
ب. وثانيها: إنه على طريق التبعيد، كما يقال: كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته؟ أي: لا طريق يهديهم به إلى الإيمان، إلا من الوجه الذي هداهم به، وقد تركوه، ولا طريق غيره.
ج. وثالثها: إن المراد: كيف يهديهم الله إلى الجنة، ويثيبهم والحال هذه.
3. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآيات في رجل من الأنصار، يقال له: حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا، وهرب وارتد عن الاسلام، ولحق بمكة ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل لي من توبة؟ فسألوا، فنزلت الآية إلى قوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فحملها إليه رجل من قومه، فقال: إني لأعلم أنك لصدوق، ورسول الله أصدق منك، وأن الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة، وتاب، وحسن إسلامه، عن مجاهد والسدي، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقيل: نزلت في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، ثم كفروا بعد البعثة، حسدا وبغيا، عن الحسن والجبائي وأبي مسلم.
4. ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ عطف على قوله: ﴿بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ دون قوله: ﴿كَفَرُوا﴾، وتقديره بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾:
أ. قيل: أي: البراهين والحجج.
ب. وقيل: القرآن.
ج. وقيل: جاءهم ما في كتبهم من البشارة لمحمد.
6. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين، ولا يثيبهم، ولا يهديهم إلى طريق الجنة، لأن المراد الهداية المختصة بالمهتدين، دون الهداية العامة المرادة في قوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾
7. المراد بالإيمان هاهنا: إظهار الإيمان دون الإيمان الذي يستحق به الثواب، وليس في الآية ما يدل على أنهم قد كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين الثواب، فزال ذلك بالكفر، فلا متعلق للمخالف به.
8. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ على أعمالهم ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ وهي: إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وهي: دعاؤهم عليهم باللعنة، وبأن يبعدهم الله من رحمته ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة، وهو العذاب.
9. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ ولا يسهل عليهم ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي ولا يمهلون للتوبة ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، ونما نفى إنظارهم للتوبة والإنابة، لما علم من حالهم، أنهم لا ينيبون ولا يتوبون، كما قال ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ على أن التبقية ليست بواجبة، وإن علم أنه لو أبقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين.
10. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ أي: تابوا من الكفر، ورجعوا إلى الإيمان، وأصلحوا ضمائرهم، وعزموا على أن يثبتوا على الاسلام، وهذا أحسن من قول من قال وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة، وصلوا وصاموا، فإن ذلك ليس بشرط في صحة التوبة، إذ لو مات قبل فعل الصالحات، مات مؤمنا بالإجماع.
11. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ يغفر ذنوبهم ﴿رَحِيمٌ﴾ يوجب الجنة لهم، وذكر المغفرة دليل على أن اسقاط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه، وأن ما لا يجوز تعليقه بالمغفرة، وأن ما يعلق بالمغفرة، ما يكون له المؤاخذة به.
12. مسائل نحوية:
أ. ﴿كَيْفَ﴾ أصله الاستفهام، والمراد به هنا الانكار، لأنه لا تقع هذه الهداية من الله أي: لا يهديهم الله كقوله ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ أي: لا يكون، قال الشاعر: كيف نوما على الفراش، ولما... يشمل الشام غارة شعواء وإنما دخله معنى الانكار مع أن أصله الاستفهام، لأن المسؤول يسأل عن أغراض مختلفة، فقد يسأل للتعجيز إقامة البرهان، وقد يسأل للتوبيخ مما يظهر من معنى الجواب في السؤال، وقد يسأل لما يظهر فيه من الانكار.
ب. إنما عطف قوله ﴿شَهِدُوا﴾ وهو فعل على إيمانهم، وهواسم، لأن الإيمان مصدر، والمراد به الفعل، والتقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا.
ج. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد للناس.
د. دخلت الفاء في قوله ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه يشبه الجزاء إذ كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا فإن الله يغفر لهم، ولا يجوز أن يكون في موضع خبر الذين، لأن ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع نصب بالاستثناء من الجملة التي هي قوله ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾، ولا يحمل على المنقطع مع حسن الاتصال، لأنه الأصل في الكلام، والأسبق إلى الأفهام.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/789.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ رجلا من الأنصار ارتدّ، فلحق بالمشركين، فنزلت هذه الآية، إلى قوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فكتب بها قومه إليه، فرجع تائبا فقبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك منه وخلّى عنه، رواه عكرمة عن ابن عباس، وذكر مجاهد والسّدّيّ أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد.
ب. الثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدّوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
ج. الثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم كفروا به، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقال الحسن: هم اليهود والنّصارى، وقيل: إنّ (كيف) هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي الله هؤلاء.
2. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قال الزّجّاج أي: في عذاب اللعنة ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: يؤخّرون عن الوقت، ومعنى: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أي: أظهروا أنّهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممّن لا علم له.
3. هذه الآية استثنت من تاب ممّن لم يتب، وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمّنته الآيات قبلها من الوعيد، والاستثناء ليس بنسخ.
__________
(1) زاد المسير: 1/302.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما عظّم الله تعالى أمر الإسلام والإيمان بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} [آل عمران: 85] أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام، فقال: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ على أقوال:
أ. الأول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾
ب. الثاني: نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال: نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، وكانوا يشهدون له بالنبوّة، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً.
ج. الثالث: نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قوله أن اسألوا لي هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم توبته.
3. للناس في هذه الآية قولان(2):
أ. منهم من قال إن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ [آل عمران: 85] وما بعده من قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ [آل عمران: 86 ـ 90] نزل جميع ذلك في قصة واحدة.
ب. ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [آل عمران: 90] ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان:
• أحدهما: أنها في أهل الكتاب.
• الثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه.
4. اختلف العقلاء في تفسير قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾:
أ. المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ قالوا: إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف، ووضع الدلائل وفعل الألطاف، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً.
• الأول: المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17]، وقال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: 16] فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدى.
• الثاني: أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: 168.169] وقال: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ﴾ [يونس: 9]
• الثالث: أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالًا، ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية.
ب. أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ قالوا: المراد من الهداية خلق المعرفة، قالوا: وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد، فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه.
5. في قوله تعالى: ﴿وَشَهِدُوا﴾ قولان:
أ. الأول: أنه عطف، والتقدير: بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل.
ب. الثاني: أن الواو للحال بإضمار (قد) والتقدير: كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق.
6. سؤال وإشكال: تقدير الآية: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم، وبعد الشهادة بأن الرسول حق، وقد جاءتهم البينات، فعطف الشهادة بأن الرسول حق، على الإيمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان والجواب: إن مذهبنا(3) أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هو الإقرار باللسان، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب.
7. استعظم الله تعالى كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث:
أ. أحدها: بعد الإيمان.
ب. ثانيها: بعد شهادة كون الرسول حقاً.
ج. ثالثها: بعد مجيء البينات، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل.
8. سؤال وإشكال: قال الله تعالى في أول الآية: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا﴾ وقال في آخرها: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا تكرار؟ والجواب: قوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ﴾ مختص بالمرتدين، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
9. سؤال وإشكال: لم سمي الكافر ظالماً؟ والجواب: قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر، فكان ظالماً لنفسه.
10. ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته، ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة، على سبيل التأبيد والخلود.
11. لعنة الله، مخالفة للعنة الملائكة، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول، وكذلك من الناس، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك.
12. سؤال وإشكال: لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه؟ والجواب: فيه وجوه.
أ. الأول: قال أبو مسلم: له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه.
ب. الثاني: أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: 38]، وقال: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25] وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار.
ج. الثالث: كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال ﴿أَجْمَعِينَ﴾
د. الرابع: وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافرا، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك.
13. سؤال وإشكال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي خالدين في اللعنة، فما خلود اللعنة؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. الأول: أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم، من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء.
ب. الثاني: أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ﴾ [طه: 100، 101]
ج. الثالث: قال ابن عباس قوله ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور، واعلم أن قوله ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نصب على الحال مما قبله، وهو قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾
14. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ معنى الانظار التأخير قال تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280] فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين: إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة، نعوذ منه بالله.
15. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ والمعنى إلا الذين تابوا منه، ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها.
16. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وجهان:
أ. الأول: غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو.
ب. الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]
17. دخلت الفاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه الجزاء، وتقدير الكلام: إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/284.
(2) الكلام هنا للقفال
(3) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قال ابن عباس: إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: هل له من توبة؟ فنزلت ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فأرسل إليه فأسلم، أخرجه النسائي، وفي رواية: أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، فأنزل الله ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال: والله ما كذبني قومي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا أكذبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الله، والله تعالى أصدق الثلاثة، فرجع تائبا، فقبل منه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركه.
ب. وقال الحسن: نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشرون بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويستفتحون على الذين كفروا، فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [آل عمران]
2. ﴿كَيْفَ﴾ لفظة استفهام ومعناه الجحد، أي لا يهدي الله، ونظيره قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ [التوبة] أي لا يكون لهم عهد، وقال الشاعر:
çكيف نومي على الفراش ولما...يشمل القوم غارة شعواءé
أي لا نوم لي.
3. سؤال وإشكال: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما، لا يهديه الله، وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم، والجواب: معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام، فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك.
4. ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يؤخرون ولا يوجلون، ثم استثنى التائبين فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ هو الحارث بن سويد كما تقدم، ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/130.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا﴾ هذا الاستفهام معناه: الجحد، أي: لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ﴾ أي: لا عهد لهم، ومثله قول الشاعر:
çكيف نومي على الفراش ولمّا...تشمل الشّام غارة شعواءé
أي: لا نوم لي، ومعنى الآية: لا يهدي الله قوما إلى الحق كفروا بعد إيمانهم، وبعد ما شهدوا أن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ جملة حالية، أي: كيف يهدي المرتدّين، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم، ومنهم الباقون على الكفر؟ ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر، لأن المرتدّ قد عرف الحق ثم أعرض عنادا وتمرّدا.
3. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة، وهو: مبتدأ، خبره: الجملة التي بعده، وقد تقدّم تفسير اللعن.
4. ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ معناه: يؤخرون ويمهلون، ثم استثنى التائبين، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، أي: من بعد الارتداد ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة، وفيه دليل: على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام، مخلصا، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/412.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ﴾ هداية توفيق، وأمَّا هداية بيان فوقعت لهم، ﴿قَوْمًا﴾ هم هؤلاء الاثنا عشر المرتدُّون، استبعد هدايتهم أو نفاها لانهِماكهم في الضلال بالردَّة بعد غاية وضوح دين الإسلام، كما قال: ﴿كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ وذلك في الاثني عشر المذكورين، قضى الله عليهم أن لا يتوبوا إِلَّا الحارث بن سويد، وليس كلُّ مرتدٍّ لا يتوب، فإنَّ بعض المرتدِّين تابوا وأصلحوا، وقد شرط الله تعالى ـ أي: في سورة البقرة ـ في خذلانهم قوله: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ [البقرة: 217] فمن الجائز أن يموت المرتدُّ بعد توبته من الردَّة، والآية استبعاد لتوبة المرتدِّ لا نفي، وهي نفي في حقِّ الاثني عشر لعلم الله أنَّهم لم يتوبوا من قلوبهم، ولا يصلحون، ولو أرسلوا من مكَّة إلى أهلهم بالمدينة، انظروا هل لنا من توبة؟ فالآية مُؤْيِسَةٌ لهم عن أن يوفَّقوا، وقيل: الآية في اليهود والنصارى آمنوا به صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة، وَلَمَّا بُعث كفروا حسدا إذ كان من غيرهم.
2. ﴿وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ عطف على المعنى، كما يقال في غير القرآن: عطف توهُّم، كأنَّه قيل: بعدما آمنوا وشهدوا، أو حذف حرف المصدر، أي: وما شهدوا، أي: وشهادتهم، أو نزل الفعل منزلة الاسم كما هو أحد أوجه في: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، أو كفروا والحال أنَّهم قد شهدوا أنَّ الرسول حقٌّ.
3. والآية دليل على أنَّ الإقرار غير الإيمان، بل الإيمان تصديق بالقلب والإقرار ـ وهو الشهادة ـ إخبار باللِّسان عمَّا في القلب، وقد يشهد ويقرُّ ويوهم أنَّ قلبه مواطئ للسانه وليس كذلك، ولا يكفي الاعتقاد عن الإقرار في التوحيد عند الجمهور، وذلك أنَّ العطف يقتضي التغاير، والقيد ـ وهو الحال مثلا ـ غير المقيَّد.
4. ﴿وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الحجج الظاهرة على صدق النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عطف على (شَهِدُوا)، أو المراد: والحال أنَّهم جاءهم البيِّنات، ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ هؤلاء المرتدِّين أو مطلق الكافرين بالردَّة أو بغيرها، فقد ظلم نفسه وغيره.
5. ﴿أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمُ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ في اللَّعنة لا تزول عنهم، أي: هم أبدًا مطرودون عن الخير مذمومون، أو خالدون في العقوبة، أو النار المدلول عليها باللَّعنة، أمَّا لعنة الله فلا تتصوَّر بلا نار، وأمَّا لعنة الملائكة والناس فكذلك إلحاقا وتبعا لجريانهم على أمر الله لا بالذات، لجواز أن تكون بغير النار عقلا، والمراد بالناس المؤمنون وهم الكاملون في الناسية العاملون بمقتضى العقل، أو المراد الناس كلُّهم فإنَّ أجساد الكفرة كسائر الجماد تلعن العصاة الكفرة، ولا تقل: تلعنهم الكفرة؛ لأنَّهم يلعنون من خالفهم، ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 53]؛ لأنَّا نقول: لا اعتبار للعن الكافر؛ لأنَّه يلعن الكافرُ الآخَرَ لمخالفته كفرَهُ لا لمخالفة دين الله، ولأنَّ لعن الكافر لغيره لمخالفة دينه يشمل المؤمن، واللَّعن يكون على الوصف كلعن من يشرب الخمر، وعلى التعيين كما مرَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بحمار وُسم في وجهه فقال: (لعن الله تعالى من فعل هذا)، ولعن الملائكة قد لا ينفذ، كما يلعنون من خرجت بلا إذن من زوجها فإنَّها قد تتوب إن قضى الله أن تتوب، وقد يجعل الله لهم علامة أن لا يلعنوا من قضى الله له بالتوبة.
6. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ بأن ينقص بعضه ويدوم باقيه، لا يكون ذلك، ﴿وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ لا يرحمون فهو كناية أو مجاز، أو لا يُمهَلون بترك العذاب ساعة، من الإنظار بمعنى التأخير.
7. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ﴾ من الكفر الأصيل أو من كفر الردَّة، فالاستـثناء متَّصل، كأنَّه قيل: (الكفرة ملعونون كُفْرًا أصيلا أو كُفْرَ ردَّةٍ إِلَّا من تاب منهم فلا لعن عليه)؛ فلا حاجة إلى جعله منقطعا، ﴿مِنم بَعْدِ ذَالِكِ﴾ الارتداد أو الكفر مطلقًا، ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي: اعتقادهم وأعمالهم مع الخالق والمخلوق، أو دخلوا في الصلاح، فلا مفعول له، ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لهم ولكلِّ مذنب تائب.
8. نزلت الآية في الحارث بن سويد كما أخرجه النسائيُّ عن ابن عبَّاس، ارتدَّ فلحق بمكَّة وندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم هل له من توبة؟ فسألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فبعث بها إليه أخوه الحُلاس ـ بضمِّ وتخفيف، وقيل: بالتشديد ـ مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبا فقبله النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وحسن إسلامه، وخصوص السبب لا ينافي عموم الحكم المفاد باللَّفظ العام.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/317.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم، فإن الحائد عن الحق، بعد ما وضح له، منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، وقيل: نفي وإنكار له، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾
2. المعنيّ بهذه الآية إما أهل الكتاب والمراد كفرهم بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين جاءهم، بعد إيمانهم به قبل مجيئه، إذ رأوه في كتبهم وكانوا يستفتحون به على المشركين، وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام، فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية، وإما المعنيّ بالآية من ارتدّ بعد إيمانه، على ما روي في ذلك كما سنذكره.
3. ثم بين تعالى الوعيد على كلّ بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ أي الموصوفون بما تقدم ﴿جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ أي طرده وغضبه ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم، فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه، فقد لعن نفسه.
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في اللعنة أو العقوبة أو النار، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما، والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ﴾ [طه: 100 ـ 101]، ـ أفاده الرازيّ ـ
5. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أولا ينظر نظر رحمة إليهم.
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي الكفر بعد الإيمان ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أي وضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحة، وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم، وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه تاب عليه.
7. قال بعض مفسري الزيدية، ثمرة الآية جواز لعن الكفار، وسواء كان الكافر معيّنا أو غير معيّن، على ظاهر الأدلة، وقد قال النوويّ: ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام، وأشار الغزاليّ إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر، كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم، قال لأنه يدري بما يختم له، وأما الذين لعنهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأعيانهم يجوز أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم علم موتهم على الكفر، وأما ما ورد في الترمذيّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيّ، فقيل: اللعان مثل الضرّاب للمبالغة، والمعنى لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه.
8. من ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها، وذلك إجماع، إلّا توبة المرتد ففيها خلاف شاذ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذا الآية وغيرها، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته ـ رواه عنه في (شرح الإبانة) قيل وهو غلط، ولهذه الآية ولقوله تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا﴾ [النساء: 137]، فأثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان، ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضا عند جمهور العلماء، لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]، وقال إسحاق بن راهويه: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك، أي لظاهر آية النساء ـ انتهى ـ قلت: وفي (زاد المستقنع) و(شرحه): من فقه الحنابلة ما نصه: (ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل، لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام)، وهو قريب من مذهب إسحاق، وحكى في (فتح الباري) مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزيّ من أئمة الشافعية.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/347.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ استبعاد لهداية هؤلاء كما قال البيضاوي وإيئاس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم، وفسرت المعتزلة الهداية بالألطاف الذي يكون من الله للمؤمنين أو بالهداية إلى الجنة، وأهل السنة بخلق المعرفة، قالهما الرازي، وكلاهما ضعيف، وفسرها ابن جرير بالتوفيق والإرشاد فأما الإرشاد فقد أوتوه ولولا ذلك لكانوا معذورين، ولولاه لما كان لإيمانهم بعد مجيء البينات معنى، والصواب ما أشرنا إليه من أن المعنى استبعاد هدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من إيمانهم، ووجه الاستبعاد أن سنة الله تعالى في هداية البشر إلى الحق هي أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع عدم الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المطلوب، وكل ذلك قد كان لهؤلاء ولذلك آمنوا من قبل ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ ثم كفروا مكابرة لأنفسهم ومعاندة للرسول حسدا له وبغيا عليه، أو المعنى: بأي كيفية تكون هداية من كفروا بعد إيمانهم والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات التي تبين بها الحق من الباطل والرشد من الغي، ولم يغن عنهم ذلك شيئا لغلبة العناد والاستكبار على نفوسهم والحسد والبغي على قلوبهم، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم باستحباب العمى على الهدى ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي مضت سنته بأن الظالم لا يكون مهتديا.
1. في تفسير الآية طريقتان(2):
أ. إحداهما شهادتهم بأن الرسول حق: هي أنهم كانوا يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، ثم إنهم كفروا به وعاندوه بعد مجيئهم بالبينات لهم وظهور الآيات على يديه، والله لا يهدي أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم والجانين عليها، ووضع الوصف ﴿الظَّالِمِينَ﴾ مكان الضمير لبيان سبب الحرمان من الهداية، فإن الظلم هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه لأجل الوصول إلى الحق في كل شيء بحسبه، فذكره من قبيل ذكر الدليل على الشيء بعد ادعائه وما كان من تنكب هؤلاء باختيارهم لطريق الحق وهو العقل وهدى النبوة بعد ما عرفوه بالبينات وهو نهاية الظلم.. والهداية هنا هي التي أمرنا بطلبها في سورة الفاتحة وهي الإيصال إلى الحق لأن سائر معاني الهداية عام لهم ولغيرهم.
ب. الثانية: هي أنهم كفروا بعد ما سبق لهم من الإيمان بالرسل، فالرسول على هذا القول للجنس وجاءهم البينات على ألسنتهم وذلك بتركهم ما اتفق عليه أولئك الرسل من التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله وإخلاصه له بالبراءة من حظوظ النفس وأهوائها في الدين واستبدالهم بهذه الهداية ما وضعوا لأنفسهم من التقاليد والبدع، وحاصل المعنى على هذه الطريقة: كيف ترجو يا محمد هداية هؤلاء المعاندين لك ظنا أن معرفتهم بالكتاب والإيمان جعلتهم أقرب الناس إلى معرف حقيقة ما جئت به بعد ما علمت من كفرهم بحقيقة ما كانوا عليه من الإسلام بنقضهم الميثاق وتحريفهم الكلم.. والكلام على هذه الطريقة مبني على اعتبار الأمة كالشخص لتكافلها كما قرره مرارا، فالمراد بكفرهم بعد إيمانهم كفر مجموع الحاضرين وأمثالهم بعد إيمان مجموع سلفهم لا أن كل واحد من الكافرين كان مؤمنا ثم كفر.
2. ذكر هنا بعض والآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.. وعلق عليها بقوله: إن الآيات متصلة بما قبلها، وذلك أنه لما بين حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي بعث جميع الأنبياء والذي لا يقبل غيره من أحد، ذكر حال الكافرين به وجزاءهم وأحكامهم، وقد رآها أصحاب أولئك الروايات في سبب نزولها صادقة على من قالوا إنها نزلت فيهم فذهبوا إلى ذلك، وأظهر تلك الروايات وأشدها التئاما مع السياق رواية من يقول إنها نزلت في أهل الكتاب وهو الذي اختاره ابن جرير ومحمد عبده وقال إن الكلام من أول السورة معهم.
3. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ قال محمد عبده: لعنة الله عبارة عن سخطه ولعنة الملائكة والناس إما سخطهم وهو الظاهر هنا وإما الدعاء عليهم باللعنة، أي أنهم متى عرفوا حالهم فإنهم يلعنونهم: والمشهور أن معنى اللعنة الطرد والإبعاد.. وقوله: دعاء على غيره أي بالطرد لأنه هو معنى اللعن في الأصل.
4. الجمهور يفسرون لعن الله لمن يلعنه بطرده من جنته أو من رحمته أي الخاصة إذ الرحمة العامة مبذولة لكل مخلوق، ويفسرون السخط والغضب منه بنحو ذلك لأن ما أطلق عليه تعالى من الأوصاف التي تدل في البشر على الانفعالات تفسر بآثارها التي هي أفعال، لكن السلفيين يعدون هذا تأويلا، ويقولون إن تلك الأوصاف كغيرها شؤون لله تعالى لا يدرك البشر كنهها وتلك الأفعال التي فسرت بها هي آثارها كما هو المفهوم من اللغة، ومحمد عبده كان سلفي العقيدة في سنيه الأخيرة التي عرفناه فيها فلا يبالي بإمضاء جميع الصفات على ظاهرها مع التنزيه، وكأنه رأى أن تفسير مثل (عليه اللعنة) بعليه السخط أقرب من تفسيره بعليه الطرد، فما قاله أقرب إلى الذوق الصحيح في أسلوب الكلام، ومثله قوله: {فعليهم غضب ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106] فعبر عن وقوع الغضب الذي هو صفة بعلى وعن العذاب الذي هو فعل باللام.
5. سؤال وإشكال: استشكلوا قوله تعالى: والناس اجمعين مع العلم بأن من على عقيدتهم لا يلعنونهم، والجواب: أشار الأستاذ إلى الجواب عن ذلك بأن كل الناس يلعنونهم متى عرفوا حقيقة حالهم، فالمعنى أن هذه الحالة التي هم عليها مجلبة للعنة بطبعها من كل من عرفها، وصحح الرازي أن المراد به ما يجري على ألسنة جميع الناس من لعن الكافر والمبطل، وقال أبو مسلم: له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه: كأنه يفسر اللعن باستحقاقه، وهناك وجه ثالث وهو أن ذلك يكون في الآخرة ويؤيده قوله تعالى: {وقال: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم بعضا ويلعن بعضكم بعضا} [العنكبوت: 25] وقيل إن المراد بالناس المؤمنون.
6. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في اللعنة أي يكونون مطرودين أو مسخوطا عليهم إلى الأبد، أو في أثرها وهو عذاب جهنم: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ الذي هو من لوازمها لأن علته ما تكيفت به نفوسهم الظالمة، وهي معهم لا تفارقهم والشيء يدوم بدوام علته: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ من الإنظار وهو التأخير والإمهال.
7. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من ذنبهم وتابوا إلى ربهم: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ الظلم الذي دنسوا به أنفسهم فتركوه مستقبحين له نادمين على ما أصابوا منه: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم بما صار للإيمان الراسخ من السلطان على نفوسهم، والتصريف لإرادتهم، أو أصلحوا نفوسهم بالأعمال الصالحة التي تمد الإيمان وتغذيه وتمحو من لوح القلب تلك الصفات الذميمة وتثبت فيه أضدادها: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فينالهم من مغفرته، ما يزكي نفوسهم بمقتضى سنته، ويصيبهم من رحمته ما يؤهلهم لدخول جنته.
8. قال محمد عبده في هذه الآية ما مثاله: عطف الإصلاح على التوبة لأن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا شأن لها ولا قيمة في نظر الدين، ولذلك جرى القرآن على عطف العمل الصالح عليها عند ذكرها أو وصفها بالنصوح، وترى كثيرا من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا تابوا عنه، ذلك بأنه لم يكن للتوبة أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، كي لا يعودوا إلى ما اقترفوا، ويهديهم إلى اتخاذ الوسائل لإصلاح شأنهم، وتقويم أمرهم،
9. ثم ذكر تعالى ما هو بمعنى الاستثناء من هذا للتائبين ممن لا تقبل توبتهم أو ما هو أعم من ذلك فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 3/362.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، ولا يقبل من أحد غيره، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم.
2. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة؟
3. شهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.
4. في الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به.
5. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي إن الله لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكّبوا عن الطريق القويم؛ وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.
6. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أي هؤلاء يستحقون سخط الله وغضبه، وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾
7. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد، ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنّسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.
9. في هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شؤونهم، وتقويم المعوجّ من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/206.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو الإسلام كما يريده الله؛ ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشر في جيل منكود من أجيال الناس! ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به، وعملائهم هنا أو هناك! فأما الذين لا يقبلون الإسلام على النحو الذي أراده الله، بعد ما عرفوا حقيقته، ثم لم تقبلها أهواؤهم، فهم في الآخرة من الخاسرين، ولن يهديهم الله، ولن يعفيهم من العذاب: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان؛ ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء، وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة، ثم يعرض عنها هذا الإعراض.
2. لكن الإسلام ـ مع هذا ـ يفتح باب التوبة، فلا يغلقه في وجه ضال يريد أن يتوب؛ ولا يكلفه إلا أن يطرق الباب، بل أن يدلف إليه فليس دونه حجاب، وإلا أن يفيء إلى الحمى الآمن، ويعمل صالحا، فيدل على أن التوبة صادرة من قلب تاب: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/424.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ الاستفهام هنا ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من الله، بعد أن أعطى الله ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتابـ وخاصة اليهود ـ الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول الله، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب الله التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات الله، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما يقول الله تعالى: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾.. وكما يقول سبحانه ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
2. الواو في قوله تعالى: ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ وفي قوله: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى: ﴿كَفَرُوا﴾ وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال، بمعنى أنهم كفروا في تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة، ويرون آياتها.. فهم والحال كذلك في أمر مختلف.. الكفر عن علم وعمد!
3. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكاري الذي بدأت به الآية، وهو: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾.. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترؤوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فكيف يهدى الله هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
4. كلمة (القوم) هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة، ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.. إنهم بمعزل من رحمة الله.. تحيط بهم لعنة الله ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب الله، يحاربون من حارب الله، ويلعنون من يلعنه الله.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم، فهم على عداوة ـ ظاهرة أو خفية ـ معهم.
5. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ ويقول سبحانه: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾
6. الضمير في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعود إلى اللعنة، أي هم خالدون في هذه اللعنة الواقعة عليهم من الله والملائكة والناس، لا تزايلهم أبدا.
7. في قوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم في هذه الدنيا، كما هي واقعة عليهم يوم القيامة.. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا.
8. الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم الله به من لعنة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة.. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين، ورجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة الله تسعه، ورحمة الله تعالى تناله، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به، وينزل منازل المؤمنين، الذين رضى الله عنهم، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا، وفي هذا ما يفتح لهؤلاء المذنبين باب الرجاء في رحمة الله، وينصب لهم معالم النجاة، إن هم أرادوا النجاة والخلاص.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/516.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام، و﴿كَيْفَ﴾:
أ. استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة، وهي إما الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به، وإسنادها إلى الله ظاهر؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها، وإسنادها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها.
ب. ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في الاستبعاد، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم، إذ عبد اليهود الأصنام غير مرة، وعبد النصارى المسيح، وقد شهدوا أنّ محمدا صادق لقيام دلائل الصدق، ثم كابروا، وشككوا الناس، وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم.
1. قيل نزلت في اليهود خاصّة، وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت، ومنهم الحارث بن سويد، وأبو عامر الراهب، وطعيمة بن أبيرق.
﴿وَشَهِدُوا﴾ عطف على ﴿أَيْمَانُهُمْ﴾ أي وشهادتهم، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطف الفعل عليه.
2. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم عليهم.
3. تقدم معنى ﴿لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ في سورة البقرة، وتقدم أيضا معنى ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ في سورة البقرة، ومعنى ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الكناية عن المغفرة لهم، قيل نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري من بني عمرو بن عوف الذي ارتدّ ولحق بقريش وقيل بنصارى الشام، ثم كتب إلى قومه ليسألهم هل من توبة، فسألوا رسول الله فنزلت هذه الآية فأسلم ورجع إلى المدينة وقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ علة لكلام محذوف تقديره الله يغفر لهم لأنه غفور رحيم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/148.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن لله سبحانه وتعالى سننا محكمة في خلقه، وكما أن الكون يجرى على قوانين ثابتة لا تقبل التخلف إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى، كذلك هناك سنن في النفوس لا تقبل التخلف إلا أن يشاء ربك، ومن سننه تعالى في النفوس أنه لا يهدى إلا من طلب الحق مخلصا في طلبه، لا يرين على بصيرته هوى يظلمها، ولا يعوق طريق الهداية عرض أو عصبية، وإذا كان الله يهدى الضال عن جهالة، فإنه لا يهدى من يضل عن بينة؛ لأنه أركس نفسه في الشر، وسد ينابيع الخير في قلبه، وسد مطالع النور فلا تصل إليه؛ تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، وإن أولئك اليهود أضلهم الله على علم، فهم آمنوا بالله تعالى ثم كفروا به، ثم شهدوا بأن الرسول حق وجاءتهم البينات المثبتة المنيرة، ثم بعد ذلك كفروا به، لقد كانوا يعلنون بين المشركين أنه سيجيء رسول يحطم الأصنام، ويستبشرون بمقدمه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ولذا قال سبحانه وتعالى في شأنهم وشأن من يماثلهم بعد أن قص الكثير من قصصهم: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
2. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ هذا استفهام للنفي واستبعاد الإيمان مع الحال التي عليها هؤلاء، فالمعنى أن هؤلاء مع حالهم التي هم عليها، وهى استيلاء الهوى على قلوبهم، وسيطرة الغرض على نفوسهم، وطمس العصبية لإدراكهم ـ لا يمكن أن يتحقق منهم إيمان وإخلاص صادق فلا يهديهم الله، فالنفي الذي اشتمل عليه الاستفهام هو النفي مع هذه الحال؛ ولذا كانت صيغة الاستفهام بلفظ كيف التي يستفهم بها عن الحال، ويكون النفي فيها أيضا مقيدا بهذه الحال التي هم عليها، وحالهم التي أوجبت هذا النفي مكونة من عناصر أربعة: إيمان في الابتداء، وشهادة بأن الرسول حق، وكون البينات قد جاءتهم موضحة لهذا الحق، ثم بعد ذلك يكفرون، فلو كان حالهم حال ضلال عن غير علم لأنار الله أبصارهم، ولو كانوا مخلصين جهلوا الحقيقة وطلبوها لكانت هداية الله لهم ثابتة، ولكنهم غير ذلك، فهم قد كانوا مؤمنين، ويشهدون بالحق، وذلك عن بينة وعن أدلة يقينية ملزمة، ومع ذلك استولى عليهم التعصب بالباطل، فكان العمى الذي أرادوه، فلا هداية إلى الحق من بعد، وذلك لأن الله تعالى يهدى إلى الحق من أخلص وطلبه، فإن الإخلاص يقذف في القلب بالنور فيكون الإشراق الروحي، وتكون الهداية الربانية، أما من قصد إلى الباطل، ولم يخلص وعكرت بصيرته بالهوى، فإنه يكون محروما من هداية الله، حتى يغير من حاله بأن يتوب عن غيه، ويخلص وينيب.
3. الآية عامة لا ريب في ذلك، فهي تبين من يحرمه الله من هدايته، وهو الذي لا يذعن للحق إلا إذا كان متفقا مع غرضه، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور]، لكن المفسرين يذكرون لهذه الآية سببا للنزول، فيروى النسائي عن ابن عباس أنه قال كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ثم ندم، فأرسل إلى قومه يطلب إليهم أن يسألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل من توبة؟ فنزلت الآية، وروى عن مجاهد أنه جاء الحارث بن سويد فأسلم عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم كفر فرجع إلى قومه نادما، فأنزل الله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ فحملها إليه رجل من قومه، فقال الحارث: (إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة) ثم رجع وأسلم.
4. وروى عن الحسن البصرى أنه قال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رأوا نعت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وأنكروه وكفروا بعد إقرارهم.. وهذا هو الذي أميل إليه، فقد قال تعالى في شأن اليهود: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة]، وإن قصص القرآن فيه بيان تعصب اليهود، ومعاملتهم للمسلمين، وتلقيهم لهداية القرآن، وتواصيهم بالنفاق والكفر.
5. مهما يكن سبب النزول فإن الآية تقرر حقيقة ثابتة، وهى أن النفس التي تشهد بالحق وتؤمن به ثم تكفر للهوى والعصبية لا يرجى لها هداية إلا أن تزيل منها درن الغرض، وتنخلع عن العصبية الجامحة بالتوبة النصوح.
6. سؤال وإشكال: ما حقيقة الهداية الإلهية في هذا المقام؟ والجواب: نقول في الإجابة غير متعرضين لما بين المعتزلة والأشاعرة من خلاف: إن الهداية هنا هي الهداية المطلوبة في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة] والمذكورة في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى] وهى بيان الطريق الحق، والإرشاد إلى سبيل المعرفة الحقيقية؛ وإن من يكون على هذه الحال، وهى الإيمان، والشهادة بالحق ومجيء البينات السابقة ـ لا يحتاج إلى بيان فوق ما جاء إليه، بل يحتاج إلى عقاب صارم يجعله عبرة لكل من يكون على مثل حاله.
7. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ على أي شيء يكون العطف في العبارة السامية ﴿وَشَهِدُوا﴾؟ والجواب: قد ذكر الزمخشري موضع العطف، فقال: (فيه وجهان: أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، ويجوز أن تكون الواو للحال، بإضمار قد، بمعنى كفروا وقد شهدوا بأن الرسول حق، ولماذا لا تكون عطفا على كفروا نفسها ويكون من باب الجمع بين المتناقضات، كما تقول قتل القتيل وبكى عليه، أي أن حال هؤلاء مذبذبة متناقضة، فهم يكفرون بالرسول ويشهدون بأنه حق، والعطف بالواو لا يقتضى ترتيبا، فيصح أن يكون الكفر في الوقوع متأخرا عن الشهادة ولكن يجيء سؤال: لماذا ذكر الكفر أولا؟ والجواب عن ذلك أن الكفر هو موضع الاستنكار، فكان تقديمه لهذا المعنى)
8. ذكر الله تعالى أنهم شهدوا بأن الرسول حق، وجاء الحق وصفا للرسول، ولعل الظاهر أن يكون وصفا لما جاء به وهو القرآن، ولكن وصف به؛ لأن اليهود ما كانوا ينكرون الشرائع السماوية، وما كان السبب في كفرهم هو ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل كان السبب هو الحسد لشخصه وللعرب، فأشار سبحانه إلى أنهم كانوا يشهدون لشخصه، فأوصافه عندهم، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فشهادتهم منصبة على شخص الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهم يعرفون شخصه من أوصافه فهو في علمهم حق وكل ما جاء به هو الحق.
9. ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الحكيم للإشارة إلى أنهم ظالمون، فهم ظلموا أنفسهم، وظلموا الرسول! وظلموا الحقائق وطمسوا على بصائرهم، فلا يمكن أن تدخل الهداية إلى قلوبهم، وفي النص الكريم إشارة إلى أن الظلم يحدث في نفس الظالم ظلمة شديدة لا ينفع معها ضوء، فتغلق كل الأبواب التي ينفذ منها النور إلى موضع الإدراك، إذ إن أساس الظلم هو تسلط الهوى والغرض الفاسد والحقد والحسد على النفس، فتنحرف عن مدارك الحق ومشارق العرفان، فلا يمكن أن يكون للهداية موضع في النفس، فلا يهديه الله سبحانه، وإن الظلم بطبيعته يفسد الإدراك كله؛ لأن إدراك الحقائق يستلزم صدق النفس في طلبها، وصدق النفس في طلب الحقائق لا يمكن أن يكون مع الظلم، الذي يجعل الهوى مسيطرا، فالظلم ظلمات في النفس، وظلمات يوم القيامة.
10. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ بعد أن شرح الله سبحانه نفس الذين سيطر الهوى عليهم بين الله جزاءهم في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إليهم في أوصافهم السابقة، فالإشارة ليست إلى أشخاصهم؛ لأنه لم يذكر أشخاصا، إنما ذكر أوصافا، فالإشارة إلى من عندهم هذه الأوصاف، وقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة الجزاء الأول لهم، وهو اللعنة المؤكدة الثابتة المجمع عليها، وهى لعنة من الله وهى أعلاها، ولعنة من الملائكة، ولعنة من الناس أجمعين، أي أنها لعنة من الخالق والمخلوقين العقلاء سواء منهم من كانت طبيعته روحية ملكية، ومن كانت طبيعته إنسانية لها صلة بأعلاق الأرض ولها صلة بالروحانية السماوية؛ ذلك بأن الظلم أبغض الصفات الإنسانية عند الله والناس، فالله سبحانه قد كتب العدل على نفسه، ولذا روى أنه ورد في حديث قدسي: (يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا)، والظالمون الذين سيطر الغرض والهوى على نفوسهم فلا يؤمنون بشيء، ولا يذعنون للحق إذا عارض أهواءهم الظالمة، لا يحبهم أحد، فإن من غلب عليه هواه، وأحب نفسه أبغضه الناس.
11. سؤال وإشكال: ما اللعنة التي ضربها الله على الذين اتخذوا إلههم هواهم؟ والجواب: قال علماء اللغة: إن اللعن في الأصل معناه الطرد، وإذا أسند إلى الله تعالى كان المراد الطرد من رحمته، وإني أرى أنه قد يستعمل بمعنى غضب الله تعالى وسخطه، وهذا معنى لازم للطرد الذي هو الأصل في المعنى اللغوي لأن الطرد يترتب عليه السخط والمقت والغضب؛ إذ لا يطرد من رضى الله عنه، ولا يطرد محبوب، وعلى ذلك تكون اللعنة هنا بمعنى سخط الله تعالى وغضبه، وسخط الملائكة وغضبهم، ولا مانع من أن يراد الطرد من رحمته إذا اجتمع مع الغضب في مثل قوله تعالى: ﴿وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء]، فهذه معان متلازمة مترتب بعضها على بعض، فيترتب على الغضب الطرد من الرحمة، ويترتب على الطرد من الرحمة عذاب السعير، فإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه أن الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر وتلعن تلك القلوب المنحرفة التي لا تخضع لحق، ولا تؤمن للبينات، بل تتجه إلى طمس المعالم التي تنير وتهدى، فالمراد المعنى الإنساني العام لا الإحصاء والجمع لآحاد بنى الإنسان.
12. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ هذا تأكيد للجزاء الأول وتصريح يلازمه، فاللعنة دائمة مستمرة، وهم فيها خالدون لا تزايلهم ولا تنفصل عنهم أبدا، فهم في سخط من الله مستمر، وسخط من الملائكة والناس دائم، وإنه يترتب على سخط الله عذابه، وإذا كان سخط الله دائما فعذابه دائم لا يقبل التخفيف، ولذا قال سبحانه: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ لأن تخفيف العذاب لازم لتخفيف الغضب والسخط، وإذا انتفى الملزوم فقد انتفى اللازم.
13. هذا العذاب في الآخرة عاجل لا يقبل التأخير، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يؤجلون ولا يؤخرون لمعذرة يعتذرون بها أو ليتمكنوا من إصلاح خطئهم، فإن الآخرة دار جزاء عما عملوا في الدنيا.
14. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب ويحسن التوبة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾ [الزمر] فباب التوبة مفتوح، والتوبة أحب إلى الله من العقاب، ولذلك فتح باب التوبة لهؤلاء، التي كانت حالهم ما بينا، استثنى التائبين في هذا النص الكريم، والمعنى أن اللعنة مستمرة، والعذاب لا يخفف إلا للذين تابوا من بعد إجرامهم وأصلحوا، ومعنى ذلك أن يقوموا بعمل صالح، فالتوبة الحقيقية مظهرها العمل الصالح، وهو ركن من أركانها وغايتها الجوهرية، فمن ادعى التوبة من غير عمل، فهو كاذب فيها، ومن تاب تلك التوبة النصوح.
15. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي بمقتضى اتصافه البالغ بالغفران يقبل التوبة، وبمقتضى الرحمة يجبّ ما كان من سيئات، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1304.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾، المراد بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالقوم أحبار اليهود والنصارى، لأن الله سبحانه وصف هؤلاء القوم بأنهم آمنوا به، وشهدوا له بالرسالة، ولكنهم بعد ان بعث، وجاءهم بالبيّنات والدلائل على نبوته أنكروه، ورفضوا متابعته، وهذه الأوصاف تنطبق كل الانطباق على أحبار اليهود والنصارى، لأنهم وجدوا اسم محمد مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وانهم لذلك آمنوا به قبل مبعثه، غير انهم لما بعث، وجاءهم بالبينات كفروا به بغيا وحسدا، وحرّفوا كل آية تدل عليه تصريحا أو تلويحا.
2. سؤال وإشكال: الظاهر من قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ان الله سبحانه لا يريد رجوعهم إلى الإسلام لو حاولوا التوبة والإنابة، وينبغي على هذا أن لا يستحقوا ذما ولا عقابا؟، والجواب: ان الله سبحانه يقيم للعبد الدلائل على الحق فإن آمن به كان من المهتدين، وكانت هدايته من الله، لأنه أقام له الدلائل على الحق، وأيضا تكون الهداية من العبد، لأنه اهتدى باختياره، فإن ارتد بعد الهداية مكابرة وعنادا فإن الله يدعه وشأنه في هذه الحياة، ولا ينصب له دلائل جديدة، حيث لا مزيد، وأيضا لا يجبره على الهداية، لأنه لا تكليف مع الجبر والقهر.
3. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، أي انهم مستحقون لذلك، ولعنة الله عبارة عن غضبه وسخطه، ولعنة الملائكة والناس عبارة عن الدعاء عليهم بأن يعذبهم الله، ويبعدهم عن رحمته، وجاء في نهج البلاغة ان عليا أمير المؤمنين عليه السلام كان يخطب على منبر الكوفة: فاعترضه الأشعث قائلا: يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك، فقال له أمير المؤمنين: ما يدريك ما عليّ مما لي، عليك لعنة الله، ولعنة اللاعنين، قال الشيخ محمد عبده معلقا على ذلك: (كان الأشعث في أصحاب علي كعبد الله بن أبيّ في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كل منهما رأس النفاق في زمنه)
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، ضمير فيها يعود إلى جهنم بقرينة قوله: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾، ولا ينظرون معناه لا يمهلون، بل يعجل لهم ما يستحقون من العذاب، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، جاء في الحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وقال الإمام علي عليه السلام: ما كان الله ليفتح لعبد باب التوبة، ويغلق عليه باب المغفرة.
5. سؤال وإشكال: إذا أسلم، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ولكنه تهاون في الأحكام لا في الأصول، كما لو ترك الصوم والصلاة عن كسل وتهاون فهل تقبل توبته؟ والجواب: أجل، انها مقبولة، لأن التوبة كانت عن الكفر بالذات، لا عن الصوم والصلاة، أما قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ فان المراد منه أصلحوا ضمائرهم، وثبتوا على الإسلام، ولم يرتدوا عنه ثانية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/104.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب.
ب. وإن كان يمكن أن تستقل بنفسها وتنفصل عما تقدمها، وهو ظاهر.
2. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾، الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار، والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وقد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.
3. ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾:
أ. إن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يفيده قوله: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
ب. وإن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة والحمية ونحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
ج. وكيف كان الأمر فانضمام قوله: ﴿وَشَهِدُوا﴾ الآية إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحق والظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.
4. قيل في قوله: ﴿وَشَهِدُوا﴾ الآية إنه معطوف على قوله: ﴿أَيْمَانُهُمْ﴾ لما فيه من معنى الفعل، والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا (إلخ) أو أن الواو للحال، والجملة حالية بتقدير (قد)
5. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ الآية أي دخلوا في الصلاح، والمراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر وتطهر باطنهم بالإيمان، وأما الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان مما يتفرع على ذلك ويلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة ولا ركنا منها، ولا في الآية دلالة عليه.
7. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وضع العلة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإن الله غفور رحيم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/340.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الهدى قد يكون بمعنى البيان للحق الذي تقوم به الحجة وهو عام للمكلفين، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت:17] وقد يكون الهدى تنوير البصيرة بحيث يزداد صاحبه فهماً وعلماً وحكمة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11] وهذا لا يكون للظالمين المستحقين للخذلان، ولعله المراد في هذه الآية كيف يهديهم وهم لا يستحقون إلا الخذلان.
2. قوله تعالى: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ معناه: أن إيمانهم حجة عليهم ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ حين آمنوا وشهادتهم هذه حجة عليهم، ولبقاء حكمها من حيث هي حجة عليهم صح عطفها على ﴿كَفَرُوا﴾ لأن حاصله: أنه أجتمع منهم الكفر، والشهادة أن الرسول حق، وكذلك ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ لأنها ما زالت آيات بينات في حال كفرهم فهي حجة عليهم فكيف يهديهم وهو ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
3. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾ أنهم مطرودون من رحمة الله في الآخرة أو في الدارين، ولعنة الملائكة والناس الدعاء عليهم بأن يلعنهم الله، وهذا يفيد أن استغفار الملائكة لمن في الأرض إما خاص بالذين آمنوا، وإما مخصوص بالأحياء ومعناه طلب توفيقهم للتوبة التي هي سبب المغفرة.
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في لعنة الله التي هي الطرد من رحمته، والطرد من رحمته هنا معناه: مصيرهم في عذابه في نار جهنم ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ متى أمر بهم إلى النار وجاء وقت تعذيبهم فلا يمهلون.
5. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي بعد كفرهم الذي كان بعد إيمانهم فجددوا الإيمان وندموا على ما فرطوا وعزموا أن لا يعودوا إلى معصية، والتوبة هي الرجوع إلى الله، ولأن العاصي كالعبد الآبق من سيده كانت توبته بالرجوع إلى الله، والرجوع إلى الله: الإقلاع عن معصيته، والعزم على طاعته في كل شيء، والدخول في الطاعة بالإستغفار، وعمل الواجب الفوري كالإيمان.
6. ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما قد أفسدوا بردتهم وفي حالها من إفساد الدين بكشف تغريرهم وتكذيب أنفسهم فيما قد كذبوا ونحو ذلك؛ لأنهم قد يكونون أفسدوا بردتهم وأفسدوا فيها، كما حاول الذين قالوا: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ إلى آخره.
7. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ولكونه غفوراً رحيماً يغفر لهم ويرحمهم وهذا مبالغة في الوعد بالمغفرة والرحمة؛ لأنه كالحجة على أنه سيغفر لهم ويرحمهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/497.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن ابن عباس: أن رجلا من الأنصار ارتدّ فلحق بالمشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت إليه قال: والله ما كذبني قومي على رسول الله، ولا كذب رسول الله على الله، والله عزّ وجلّ أصدق الثلاثة، فرجع ثانيا، فقبل منه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتركه.. ونلاحظ في هذه الرواية نقطة مهمّة وهي قبول توبة المرتد، وربما يرى البعض أنّ المرتد الملّي تقبل توبته، ولعل الكثيرين في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ومنهم هذا الشخص ـ كانوا من الكافرين الذين أسلموا بحيث لم يكن إسلامهم فطريا ليكون ارتدادهم عن فطرة، ولكن الظاهر أن الآية مطلقة لكل مرتد، مليّا كان أو فطريا، لأن السياق يتحدث عن المبدأ العام وهو قبول التوبة إلى الله في كل مورد من موارد الكفر والتمرّد، وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام ـ كما في مجمع البيان ـ في سبب نزول هذه الآية.. أنها (نزلت في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا، وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة، ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل لي من توبة؟ فسألوا، فنزلت الآية إلى قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فحملها إليه رجل من قومه، فقال: إني لأعلم أنك لصدوق، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصدق منك، وأن الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه)
2. إنّ الله يفتح للإنسان أبواب الهداية من خلال البيّنات التي تجتمع لديه، والبراهين التي تحصل عنده، مما لا يبقى معه شك ولا ريب، وبذلك تنطلق الدعوة إلى الإيمان، كعقيدة وموقف، من موقع القناعة الثابتة المرتكزة على أساس الحجة الواضحة، وفي هذا الجوّ الذي تقوم فيه الحجة عليه، لا يسمح الله له بالسلبيّة واللامبالاة فضلا عن الإنكار والعناد، فإن الإيمان يمثل قضية المصير الذي لا مجال للتلاعب به، وقضية الحياة التي يرتبط فيها سلوك الفرد بسلامة المجتمع، الأمر الذي يجعل منه شيئا أساسيا، ويعطي صفة التمرد والمكابرة لمن ينحرف عنه، وقد عالج القرآن في هذه الآيات الموقف الإلهي من هؤلاء، فتساءل في البداية عن جوّ الإنكار ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ فقد أقام الله لهم الحجة التي فرضت عليهم الإيمان في أعماقهم والشهادة الداخلية في كيانهم والإعلان عن ذلك بألسنتهم؛ فقد دخلوا في الإسلام وأصبحوا جزءا من مجتمع المسلمين، فلا مجال للشك والشبهة بعد أن كانت القضية في مستوى الوضوح الكبير، ولكنهم كفروا وأظهروا الكفر، فكيف يهديهم الله، في الوقت الذي لا يريدون فيه لأنفسهم السير في طريق الهدى، وظلموا أنفسهم بكفرهم، وقد جرت حكمة الله أن يقود الإنسان إلى الهداية من طريق الاختيار والإرادة والحجة والبرهان.. فإذا تمت لديه عناصرها ثم انحرف عنها غرورا وطغيانا وكبرا، فإن الله يتركه لنفسه ولا يتدخل بطريقة غيبيّة لفرض الهداية عليه على أساس الجبر، ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ بعد أن قامت عليهم الحجة من قبله.
3. أما جزاء هؤلاء المتمردين فتحدده الآية الثانية ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لأنهم تمردوا على الله الذي خلقهم ورزقهم وأفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وفتح لهم أبواب الخير والهداية بأوسع مما بين السماء والأرض، فاستحقوا غضبه وسخطه واحتقار الملائكة والناس، لأنهم هم الذين قادوا أنفسهم إلى موقع الحقارة الذاتية والعملية بكفرهم بالله؛ ولكن الله لا يغلق عنهم أبواب الرجوع إليه، فإن أبواب التوبة مفتوحة لمن أراد أن يتوب إلى الله ويصلح أمره وعمله، لأن الكفر لا يمثل ـ عند الله ـ عقدة لا انفكاك لها، كما هو شأن البشر الذين تتحرك العقدة في نفوسهم فتمنعهم عن العفو والصفح والمغفرة، بل الكفر يمثل الانحراف عن خط الحق، فإذا استقام الإنسان في خطه بعد انحرافه كانت رحمة الله له بالانتظار لتشمله باللطف والرضوان؛ وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لأنه أهل المغفرة والرحمة، فقد سبقت رحمته غضبه في كل مجال كان للرحمة سبيل.
4. نلاحظ في الحديث عن الإصلاح مع التوبة، أن التوبة لا بد من أن تتحرك في نفس الإنسان كوسيلة من وسائل التغيير الوجداني الفكري، الذي يتحول إلى حالة في التغيير الواقعي في خطوات الإنسان العملية وممارساته، فلا بدله من أن يمحو الماضي المنحرف بالحاضر المستقيم، لتكون عملية التوبة وسيلة من وسائل محو الماضي الأسود بالواقع الجديد الأبيض، فلا تكفي التوبة باللسان ما لم يصدقها العمل الصالح الذي يمثل عملية الإصلاح في الداخل والخارج.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/141.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص (مرتد) تقول الآية: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، فالآية تقول: إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الاهتداء، لأنهم قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
2. المراد من (البينات) في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد من (الظالم) هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى، ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سببا في إضلال الآخرين.
3. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.
4. (اللعن) في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته، هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد استنكار كلّ عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.
5. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ تضيف الآية هنا أنّهم فضلا عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي، ولا شكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.
6. وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم، فتقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
7. إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة ـ تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب ارتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية، لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وإلّا فإنّ التوبة لن تكون كاملة، فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.
8. يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الارتداد، فثمّة (المرتدّ الفطري) وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك، وهناك (المرتدّ الملّي) وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.
9. توبة المرتدّ الملّي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلما بالمولد، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد، هذا المرتدّ ـ وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه ـ يحكم بالإعدام إن ثبت ارتداده، وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه، لكن هذه الشدّة تخصّ ـ كما قلنا ـ المرتدّ الفطري، وبشرط أن يكون رجلا.
10. قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد، وربّما اعتبر نوعا من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام، غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساسا، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها إنّ الارتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من قوانين العالم اليوم، إذ لو أجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتدّ عنه متى شاء، لتحطّمت الجبهة الداخلية سريعا، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء وعملائهم، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج، وبناء على ذلك فإنّ هذا الحكم حكم سياسي في الواقع، ولا بدّ منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.
11. أضف إلى ذلك أنّ من يتقبّل الإسلام بعد التحقّق والتدقيق، ثمّ يتركه ليعتنق دينا آخر، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية، وهو بذلك يستحقّ أشدّ العقوبات، أمّا تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة، فلأنّ جميع العقوبات تخفّف بشأنها.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/584.
44. عاقبة من استبدلوا الإيمان بالكفر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈44⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 90 ـ 91]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: لن تقبل توبتهم ما أقاموا على كفرهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٩.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ)، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٧١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ تابوا من الذنوب، ولم يتوبوا من الأصل(1).
2. روي أنّه قال في الآية: إنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم، ولكنهم على ضلالة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٦٦.
(2) ابن جرير: ٥/٥٦٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ تموا على كفرهم(1).
2. روي أنّه قال: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٦٦.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كلما نزلت عليهم آية كفروا بها، فازدادوا كفرا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ هو كل كافر(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٨.
(2) ابن جرير: ٥/٥٧١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ ازدادوا كفرا حتى حضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٢٥.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ فماتوا وهم كفار، ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ فعند موته إذا تاب لم تقبل توبته(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٦٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم أخبرهم عنهم وعن الكفار وما لهم في الآخرة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فيود أحدهم أن يكون له ملء الأرض ذهبا، يقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب لافتدى به، ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ ما قبل منه، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وله عذاب، وجيع نظيرها في المائدة(1).. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يعني: من مانعين يمنعونهم من العذاب(2).
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: 36.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٨٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ [آل عمران: 90]، هذا إخبار من الله عز وجل بحال من عصاه، وصد عن أمره وعاداه: أنه لا يقبل منه التوبة على ما هو عليه من المعصية والمناواة؛ ألا تسمع كيف يقول عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾، فأخبر سبحانه: أنهم كفروا ثم ازدادوا، ولم يتوبوا بإخلاص ولا نية، ولم يرجعوا بإقلاع ولا حقيقة، ولم يخبر عز وجل لهم بتوبة وإخلاص، وإنما أخبر بتماديهم في ضلالهم، وتزايدهم في كفرهم وعنادهم، ولو كانت توبتهم بصحة ونية، وعزيمة وبصيرة ـ لقبل الله توبتهم، وغفر خطيئتهم؛ ألا تسمع كيف يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
2. وقد يمكن ويكون أيضا، وينتظم تفسير هذه الآية، ويدخل فيها: رجل مقر بأمر الله غير مشرك، وهو كافر لنعمه، مرتكب لمعاصيه، وهو يتوب بقوله، ويخالف بفعله؛ فهذا كافر نعمة، لن يقبل منه إلا إخلاص التوبة، والرفض لما هو عليه من الخطيئة، وليس ذلك كما قالت المرجئة: أن التوبة نافعة مع الإصرار على الخطيئة؛ إذ كان قولهم واعتقادهم: أن الإسلام قول بلا عمل؛ فضلوا في قولهم، وخسروا في مذهبهم، وهلكوا بذلك عند خالقهم.
3. وقد قيل في تفسير هذه الآية: أنهم جماعة رجعوا إلى مكة عن الإسلام، منهم: الحارث بن سويد، فلما بعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، يطلبون منه الإقالة والمتوبة ـ لم يقبل ذلك منهم صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما نزل من الله سبحانه قبول التوبة بلغهم ذلك، فرجع الحارث بن سويد إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقبل منه، وقال الآخرون: نحن نتربص بمكة بمحمد ريب المنون، فإن يظهر يقبل منا كما قبل من صاحبنا، وإلا كنا فيما نحن فيه من التمتع بما له رجعنا، وله قصدنا.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/171.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ الآية:
أ. قيل: قوله: ﴿كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا﴾]، أي: ماتوا على ذلك، فذلك زيادتهم الكفر.
ب. وقيل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بعيسى بعد الإيمان بالرسل جميعا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾:
أ. قيل: لن تقبل توبتهم التي تابوا مرة ثم تركوها.
ب. وقيل: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ التي أظهروا باللسان، وما كان ذلك في قلوبهم، أي: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ ليست لهم توبة إلا أن] يكون توبة منهم فترد؛ كقوله: ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ [النجم: 26]
ج. وقيل: هم قوم علم الله أنهم لا يتوبون أبدا؛ فأخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ كقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]
د. وقيل: لا تقبل توبتهم عند الموت؛ كقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ [غافر: 84] وكقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: 159]، وكقوله: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ﴾ [الأنعام: 158]: أخبر أنه لا ينفع الإيمان في ذلك الوقت؛ فعلى ذلك قوله: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ في ذلك الوقت؛ إذا داموا على الكفر إلى ذلك الوقت.
هـ. وقيل: ذلك في قوم مخصوصين، أي: لا يكون منهم توبة؛ كقوله: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 48]، أي: لا شافع لهم، ويحتمل عند رؤية بأس الله وجزاء فعله عند القيامة أو معاينة الموت؛ يدل على ذلك الآية التي تقدمت.
3. ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ يقول: لو كان معهم لافتدوا به أنفسهم ـ ما قبل منهم، ولكن لا يكون؛ كقوله: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: 48]، أي: لا يكون لهم شفيع، لا أن كان لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم، ولكن لا يكون لهم؛ فهذا يدل على أن قوله: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أي: لا يتوبون، وروى عن أنس بن مالك أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم يا ربّ، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك!)
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/423.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ هم اليهود كفروا بعيسى ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ برسول الله صلوات الله عليه، وقيل إنها نزلت في قوم أظهروا التوبة بعد الردة فأطلع الله رسوله على سرائرهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/146.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ فيه أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم اليهود كفروا بالمسيح ثم ازدادوا كفرا بمحمد لن تقبل توبتهم عند موتهم، وهذا قول قتادة.
ب. الثاني: أنهم أهل الكتاب لن تقبل توبتهم من ذنوب ارتكبوها مع الإقامة على كفرهم، وهذا قول أبي العالية.
ج. الثالث: أنهم قوم ارتدوا ثم عزموا على إظهار التوبة على طريق التورية، فأطلع الله نبيّه على سريرتهم، وهذا قول ابن عباس.
د. الرابع: أنهم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا إلى حضور آجالهم، وهذا قول الحسن.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/408.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ أربعة أقوال:
أ. قال ابن عباس: هي فرقة ارتدت ثم عزمت على إظهار التوبة على جهة التورية، فاطلع الله نبيه على ذلك بإنزال هذه الآية.
ب. وقال أبو العالية لم تقبل توبتهم من ذنوب أصابوها مع الاقامة على كفرهم.
ج. وقال قتادة: هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ عند حضور موتهم.
د. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ التي كانت في حال إيمانهم.
2. سؤال وإشكال: لمَ لم تقبل التوبة من هذه الفرقة؟ والجواب:
أ. قيل: لأنها كفرت بعد إيمانها ثم ازدادت كفراً إلى انقضاء أجلها، فحصلت على ضلالتها، فلم تقبل منها التوبة الاولى في حال كفرها بعد إيمانها، ولا التوبة الثانية في حال إيجابها.
ب. وقيل: إنما لم تقبل توبتهم، لأنهم لم يكونوا فيها مخلصين بدلالة قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾
ج. وقال الطبري: إنه لا يجوز تأويل من قال لن تقبل توبتهم عند حضور موتهم، لأنه لا خلاف بين الأمة أن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلمين في وجوب الصلاة عليه ومواريثه ودفنه في مقام المسلمين واجراء جميع أحكام الإسلام عليه، ولو كان إسلامه غير صحيح، لما جاز ذلك، وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن نتعبد بإجراء احكام الإسلام عليه وان كان إسلامه على وجه من الإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب عليه، كما أنا تعبدنا بإجراء أحكام الإسلام على المنافقين وإن كانوا كفاراً، وإنما لم يجز قبول التوبة في حال الإلجاء إليه، لأن فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، وقال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ فأما إذا عاد في الذنب، فلا يعود إليه العقاب الذي سقط بالتوبة، لأنه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله، فلا يجوز عقابه عليه كما لا يجوز عقابه على ما لم يعمله سواء قلنا أن سقوط العقاب عند التوبة كان تفضلا أو واجباً، وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة وعليه إجماع الأمة، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} وقال: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ وغير ذلك من الآي.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ الملء أصله الملأ، وهو تطفيح الأناء، ومنه الملأ الاشراف، لأنهم يملئون العين هيبة وجلالة، ومنه رجل مليء بالأمر، وهو أملأ به من غيره، والملأ اسم للمقدار الذي يملأ، والملأ بفتح العين مصدر ملأت الأناء ملأ، ومثله الرعي بكسر الراء: النبات، وبفتح الراء مصدر رعيته، قال الزجاج: ومن قال هما سواء فقد غلط.
4. ﴿ذَهَبًا﴾ نصب على التمييز، والتمييز على ضربين تمييز المقادير وتمييز الاعداد وكله مستحق النصب لاشتغال العامل بالإضافة أو ما عاقبها من النون الزائدة، فجرى ذلك مجرى الحال في اشتغال العامل بصاحبها، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل، ومثل ذلك، عندي ملء زق عسلا وقدر نحيي سمناً.
5. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ الفدية البدل من الشيء في إزالة الاذية، ومنه قوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ لأنه بدل منه في ازالة الذبح عنه، ومنه فداء الأسير بغيره، لأنه بدل منه في إزالة القتل والأسر عنه، وقيل في معنى الافتداء هاهنا قولان:
أ. أحدهما: البيان عن أن ما كلفه في الدنيا يسير في جنب ما يبذله في الآخرة من الفداء الكثير لو وجد إليه السبيل، قال قتادة يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً، لكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت أيسر من ذلك، فلم تفعل.
ب. الثاني: ما حكاه الزجاج أنه لو افتدى به في دار الدنيا مع الاقامة على الكفر لم يقبل منه.
6. في دخول الواو في قوله تعالى: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قولان:
أ. قال قوم: هي زائدة أجاز ذلك الفراء، والمعنى لو افتدى به، قال الزجاج: وهذا غلط، لأن الكلام يجب حمله على فائدة إذا أمكن، ولا يحمل على الزيادة.
ب. الثاني: أنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الإجمال، وذلك أن قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ قد عم وجوه القبول بالنفي، ثم أتى بالتفصيل، لئلا يتطرق عليه سوء التأويل، ولو قيل: بغير واو لم يكن قد عم النفي وجوه القبول، فقد دخلت الواو لهذه الفائدة من نفي التفصيل بعد الجملة، فأما الواو في قوله ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ فإنها عاطفة على محذوف في التقدير، والمعنى ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ليعتبر ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/527.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المَلْءُ بالفتح مصدر من ملأت الإناء ملأ، وبالكسر اسم للمقدار الذي يُمْلأُ، ونظيره الرِّعْيُ بكسر الراء النبات الذي يرعى، وبالفتح مصدر رعيته رَعْيًا، وقيل: هما سواء، قال الزجاج: وذلك غلط؛ فأصل المَلْء المصدر بالفتح.
ب. الذهب معروف يذكَّر، وربما يؤنث، فيقال: ذَهَبَةٌ، ويجمع على الأذهاب، ورجل ذَهِبٌ بكسر الهاء إذا رأى معدن الذهب فدهش.
ج. الفدية: البدل من الشيء في إزالة الأذية، منه ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾، والافتداء افتعال من الفدية، تقول: فديت الرجل أفديه، إذا كسرت مددت، وإذا فتحت قصرت تقول: فِدَاءٌ وفَدًى، وفديت هذا بهذا جعلته بدلاً عنه.
د. الناصر: المعين.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾:
أ. قيل: نزلت الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفرا بمحمد، عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني.
ب. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد لما رأوه وعرفوه بعد إيمانهم ببعثه وصفته، ثم ازدادوا كفرًا بذنوبهم وإصرارهم، عن أبي العالية.
ج. وقيل: نزلت في الكفار كلهم أشركوا بِاللهِ بعد إقرارهم أنه خالقهم، ثم ازدادوا كفرًا بالإقامة على كفرهم حتى ماتوا عليه، عن مجاهد.
د. وقيل: نزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد، قالوا: نقيم بمكة، فلما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة منهم من تاب، ومنهم من كان مات على كفره، فنزلت فيهم الآية.
3. لما تقدم ذكر التوبة المقبولة بَيَّنَ منها ما لا يقبل، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جحدوا الحق ﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾:
أ. قيل: هم اليهود والنصارى آمنوا بمحمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة ثم كفروا بعده فازدادوا كفرًا وماتوا عليه، عن الحسن.
ب. وقيل: هم اليهود كفروا بالمسيح وازدادوا كفرًا بمحمد، عن قتادة.
ج. وقيل: هم سائر الكفار على حسب ما ذكرنا في النزول.
د. وقيل: كفروا، وكلما نزلت آية كفروا بها فازدادوا كفرًا.
هـ. وقيل: ازدادوا كفرًا بقولهم: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ عن قطرب.
و. وقيل: هم أهل الكتاب لا تقبل توبتهم من ذنوبهم مع الإقامة على الكفر، عن أبي العالية.
ز. وقيل: هم الكفار أشركوا بِاللهِ ثم أقاموا عليه، عن مجاهد.
ح. وقيل: هم فرقة ارتدت، ثم عزمت على إظهار الإسلام تورية فأطلع الله رسوله على سريرتهم، عن ابن عباس.
ط. وقيل: هم المرتدون أقاموا على الردة إلى وقت الأجل.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾:
أ. قيل: التوبة الأولى في حال الاختيار، والثانية: في حال الإلجاء.
ب. وقيل: لأنهم لم يكونوا مخلصين.
ج. وقيل: لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة، عن الحسن وقتادة وأبي علي وأبي مسلم.
د. وقيل: بعد الموت، عن مجاهد.
هـ. وقيل: لأنهم أحبطوها بالكفر، عن أبي علي والقاضي.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾:
أ. قيل: الهالكون المعذبون، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: الضالون في دينهم الجائرون عن الحق، عن الأصم.
ج. وقيل: الضالون عن الإيمان والصواب، عن أبي علي.
6. ثم بَيَّنَ تعالى حال من مات على كفره فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ أي بذله عوضا:
أ. قيل: لو افتدى به في دار الدنيا مع الإقامة على الكفر لا يقبل منه، حكاه الزجاج.
ب. وقيل: إنه في الآخرة لو كان له ما بين المشرق والمغرب ذهبًا لافتدى به لو وجد إليه السبيل، ولكن لا يقبل منه، قال قتادة: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان ملء الأرض ذهبًا أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد سئلت أيسر من ذلك، ورواه أيضًا عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من مضى ذكرهم ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ موجع، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ من معين ينجيهم من العذاب.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أنه تعالى لا يقبل توبة هَؤُلَاءِ، ويستحيل أن يقال: إنه لا تقبل إذا أتوا بها على وجهها؛ لأن قبولها واجب، ولأنه لو كان كذلك لكانت ناقضة للآية الأولى وآيات كثيرة فلا بد من حملها على بعض الوجوه التي ذكرناها.
أنه لا استدراك بعد الممات؛ فكان ترغيبًا للاستدراك في حال الصحة.
أن من استحق العقاب لو افتدى بجميع الدنيا لم ينفعه، ففيه ترغيب على الزهد في الدنيا والإنفاق في سبيل الله، والإكثار من الطاعة قبل حلول الأجل ودوام الحسرة.
9. مسائل نحوية:
أ. ﴿ذَهَبًا﴾ نصب على التفسير، ومعنى التفسير أن يكون الكلام تامًّا وهو مبهم، كقولك عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، تقول: درهمًا فسرت له، ومثله أحسن الناس وجهًا، وإنما استحق النصب لاشتغال العامل بالإضافة، أو ما عاقبها من النون الزائدة، فلما لم يكن له ما يرفعه أو يخفضه نصب لأنه أخف الحركات، وقيل: نصب بإضمار ﴿مِنَ﴾ أي ﴿مِنَ﴾ ذهب، فلما حذف ﴿مِنَ﴾ نصب، عن الكسائي.
ب. في دخول الواو في ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قولان:
• الأول: لتفصيل نفي القبول بعد الإجمال؛ لأن قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ عم جميع القبول بالنفي، ثم أتى بالتفصيل لئلا يتطرق عليه سوى التأويل.
• الثاني: لأنه زيادة ذكر للتفخيم، وتقديره ذهبًا لو افتدى به، قال الزجاج: وهو غلط.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/310.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المل ء: أصله الملأ، وهو تطفيح الإناء، ومنه الملأ: الأشراف، لأنهم يملأون العين هيبة وجلالة، ومنه رجل ملئ بالأمر، وهو أملأ به من غيره، فالملء: اسم للمقدر الذي يملأ، والملؤ: المصدر.
ب. الفدية: البدل من الشيء في إزالة الأذية، ومنه فداء الأسير، لأنه بدل في إزالة القتل، والأسر عنه، إذا كسر مد، وإذا فتح قصر، تقول: فدى لك، أو فداء لك، ويجوز قصر هذا الممدود للضرورة، والافتداء: افتعال من الفدية.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾:
أ. قيل: نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، عن الحسن.
ب. وقيل: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد والقرآن، عن قتادة وعطاء.
ج. وقيل: نزلت في أحد عشر من أصحاب الحرث بن سويد، لما رجع الحرث قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحرث، فلما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، دخل في الاسلام من دخل منهم، فقبلت توبته، فنزل في من مات منهم كافرا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ الآية.
3. لما تقدم ذكر التوبة المقبولة، عقبه الله بما لا يقبل منها، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قد ذكرنا الاختلاف في سبب نزوله، وعلى ذلك يدور معناه، وقيل: كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفرا إلى كفرهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾:
أ. قيل: لأنها لم تقع على وجه الإخلاص، ويدل عليه قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾، ولو حققوا في التوبة لكانوا مهتدين.
ب. وقيل: لن تقبل توبتهم عند رؤية البأس، لأنها تكون في حال الإلجاء، ومعناه: إنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة، عن الحسن وقتادة والجبائي.
ج. وقيل: لأنها أظهرت الاسلام تورية، فأطلع الله تعالى رسوله على سرائرهم، عن ابن عباس، وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة إذا حصلت شرائطها، عليه إجماع الأمة.
5. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ عن الحق والصواب، وقيل: الهالكون المعذبون.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي: على كفرهم ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ أي: مقدار ما يملأ الأرض من الذهب ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ بذله عوضا:
أ. قيل: معناه: إن الكافر الذي يعتقد الكفر، وإن أظهر الإيمان، لا ينفعه الانفاق بمعنى أنه لا يوجب له الثواب.
ب. وقيل: معناه انه لا يقبل منه في الآخرة لو وجد إليه السبيل، قال قتادة: يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، لكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد سئلت أيسر من ذلك فلم تفعل! ورواه أيضا أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. مسائل نحوية:
أ. ﴿ذَهَبًا﴾: منصوب على التمييز، وإنما استحق النصب لاشتغال العامل بالإضافة، أو ما عاقبها من النون الزائدة، فجرى ذلك مجرى الحال في اشتغال العامل بصاحبها، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل.
ب. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قال الفراء: هذه الواو زائدة، وغلطه الزجاج، لأن الكلام إذا أمكن حمله على فائدة، يحمل عليها، ولا يحمل على الزيادة، وقال: إذا دخلت الواو في مثل هذا كان أبلغ في التأكيد، كقولك: لا آتيك وإن أعطيتني، لأنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الاجمال، ولو جعلنا الواو زائدة، لأوهم ذلك أنه لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا في الافتداء، ويقبل في غيره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/791.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربّص بمحمّد ريب المنون، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراسانيّ.
ج. الثالث: أنها نزلت في اليهود والنّصارى، كفروا بمحمّد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية، قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفرا.
2. في علّة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم ارتدّوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشّرك، ولم يتوبوا من الشّرك، قاله أبو العالية.
ج. الثالث: أنّ معناه: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراسانيّ، والسّدّيّ.
د. الرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، وهو قول مجاهد.
3. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما فتح مكة، دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حيّا في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا.
4. قال الزجّاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه، قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأ، المصدر بالفتح لا غير، والملاءة: التي تلبس، ممدودة، والملاوة من الدّهر: القطعة الطّويلة منه، يقولون: ابل جديدا، وتملّ حبيبا، أي: عش معه دهرا طويلا.
5. ﴿ذَهَبًا﴾ منصوب على التّمييز، وقال ابن فارس: ربما أنّث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب.
6. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قال الفرّاء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صوابا، كقوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، قال الزجّاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بيّنة، فليست ممّا يلقى، قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به.
__________
(1) زاد المسير: 1/303.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا فيما به يزداد الكفر المعني في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾، والضابط أن المرتد يكون فاعلًا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة، وقد يكون فاعلًا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً:
أ. الأول: أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، ثم كفروا به عند المبعث، ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وإنكارهم لكل معجزة تظهر.
ب. الثاني: أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفراً، بسبب إنكارهم محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن.
ج. الثالث: أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ريب المنون.
د. الرابع: المراد فرقة ارتدوا، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفرا.
2. حكم الله تعالى في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ على وجوه:
أ. الأول: قال الحسن وقتادة وعطاء: السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء: 18]
ب. الثاني: أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص.
ج. الثالث: قال القاضي والقفال وابن الأنباري: أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان، وبيّن أنه أهل اللعنة، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة وتصير كأنها لم تكن، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم.
د. الرابع: قال الزمخشري: قوله ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ جعل كناية عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
هـ. الخامس: لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل.
3. جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ على المعهود السابق لا على الاستغراق، وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق.
4. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ ينفي كون غيرهم ضالا، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل، والجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
5. سؤال وإشكال: وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه، والجواب: قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ الكافر على ثلاثة أقسام.
أ. أحدها: الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 89]
ب. ثانيهما: الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال: إنه لن تقبل توبته.
ج. وثالثهما: الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية.
7. أخبر الله تعالى عن هؤلاء بثلاثة أنواع:
أ. الأول: قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب ﴿ذَهَبًا﴾ على التفسير، ومعنى التفسير: أن يكون الكلام تاما إلا أن يكون مبهما كقوله: عندي عشرون، فالعدد معلوم، والمعدود مبهم، فإذا قلت: درهما فسرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه، ولم تبين في ماذا، فإذا قلت وجها أو فعلا فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال الزمخشري وقرأ الأعمش ذهب بالرفع ردا على ملء كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال.
ب. الثاني: قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لما بيّن الله تعالى أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب، أردفه بصفة ذلك العذاب، فقال: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي مؤلم.
ج. الثالث: قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية، بيّن أيضا أنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر.
8. سؤال وإشكال: لم قيل في الآية المتقدمة ﴿لَنْ تُقْبَلَ﴾ بغير فاء وفي هذه الآية ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ﴾ بالفاء؟ والجواب: دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وإذا قلت: الذي جاءني فله درهم، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذا الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
9. سؤال وإشكال: ما فائدة الواو في قوله ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾؟ والجواب: ذكروا فيه وجوها:
أ. الأول: قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري قال وهذا أوكد في التغليظ، لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه.
ب. الثاني: الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
ج. الثالث: وهو وجه خطر ببالي، وهو أن من غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منه الفدية أيضا كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لما لم يكن مقبولا بهذا الطريق، فبأن لا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أولى.
10. سؤال وإشكال: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيرا ولا قطميرا ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة، فما فائدة قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهبا لن يقبل الله تعالى ذلك منهم، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة.
ب. الثاني: أن الكلام وقع على سبيل الفرض، والتقدير: فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/286.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن.
ب. وقال أبوا العالية: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم بنعته وصفته.
2. ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بإقامتهم على كفرهم، وقيل: ﴿ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بالذنوب التي اكتسبوها، وهذا اختيار الطبري، وهي عنده في اليهود.
3. ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ مشكل لقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى]:
أ. فقيل: المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت، قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء] وروي عن الحسن وقتادة وعطاء، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وسيأتي في النساء بيان هذا المعنى.
ب. وقيل: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ التي كانوا عليها قبل أن يكفروا، لأن الكفر قد أحبطها.
ج. وقيل: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام.
د. وقال قطرب: هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أي لن تقبل، توبتهم وهم مقيمون على الكفر، فسماها توبة غير مقبولة، لأنه لم يصح من القوم عزم، والله تعالى يقبل التوبة كلها إذا صح العزم.
4. (الملء) بالكسر، مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء، ويقال: أعطني ملأه وملئه وثلاثة إملائه.
5. الواو في ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قيل: هي مقحمة زائدة، المعنى: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به، وقال أهل النظر من النحويين: لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى، ومعنى الآية: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به.
6. ﴿ذَهَبًا﴾ نصب على التفسير في قول الفراء، قال المفضل: شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، فإذا قلت درهما فسرت، وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه، وقال الكسائي: نصب على إضمار من، أي من ذهب، كقوله: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة] أي من صيام، وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك، لفظ البخاري، وقال مسلم بدل قد كنت، كذبت، قد سئلت)،
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/131.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم بنعته وصفته ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بإقامتهم على كفرهم؛ وقيل: ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها، ورجحه ابن جرير الطبري، وجعلها في اليهود خاصة.
2. استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ مع كون التوبة مقبولة في الآية الأولى وكما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ غير ذلك؛ فقيل: المعنى: لن تقبل توبتهم عند الموت، قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ وبه قال الحسن، وقتادة، وعطاء، ومنه الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)؛ وقيل: المعنى: لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا، لأن الكفر أحبطها، وقيل: لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، والأولى: أن يحمل عدم قبول توبتهم في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية، وهي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ في حكم البيان لها.
3. ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ الملء بالكسر: مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح: مصدر ملأت الشيء، وذهبا: تمييز، قاله الفراء وغيره، وقال الكسائي: نصب على إضمار: من ذهب، كقوله: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ أي: من صيام، وقرأ الأعمش: ذهب بالرفع على أنه بدل من: ملء.
4. الواو في قوله: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قيل: هي مقحمة زائدة، والمعنى: لو افتدى به؛ وقيل: فيه حمل على الغنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا؛ وقيل: هو عطف على مقدر؛ أي: لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب، أي: بمثله.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/412.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا﴾ كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل ومحمَّد والقرآن بعد بعثه بعد الإيمان بموسى والتوراة، والقرآن ومحمَّد قبل بعثه، وازدادوا كفرا بمحمَّد والقرآن زيادة كمٍّ، وبالإصرار زيادة كيف، وبالطعن والصدِّ عن الإيمان ونقض الميثاق بعد بعثه زيادة كمٍّ، وكقوم ارتدُّوا ولحقوا بمكَّة وازدادوا كفرا بقولهم: ﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30]، وإن صار غالبا نرجع إليه وننافقه، زيادة كيف.
2. ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ لإصرارهم إلى أن غرغروا وعاينوا فتابوا، أولم يتوبوا إِلَّا بعد الموت، أو المعنى: لا يتوبون؛ لأنَّ توبة المعاينة أو ما بعد الموت كَلَا توبة لعدم التكليف، أو المعنى: لا توبة لهم فضلا عن أن تقبل، فنفى اللازم بدل نفي الملزوم كما تقول: (لا جحر للضبِّ في هذه الصحراء) بمعنى لا ضبَّ فيها، وقيل: تاب قوم من أهل الكتاب من ذنوب غير الكفر فلم تقبل توبتهم، وقيل: قال أصحاب الحارث: نقيم على الكفر حتَّى إذا شئنا تبنا، فينزل قبولنا كما نزل قبوله.
3. ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ﴾ الراسخون في الضلال بحيث لا يخرجون، فهو أعظم من أن يقال: الكاملون في الضلال، والكافر إمَّا تائب توبة نافعة كقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وإمَّا تائب توبة فاسدة كقوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾، وإمَّا غير تائب كقوله تعالى:
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُّقْبَلَ﴾ الفاء إشعار بأنَّ عدم القبول مسبَّب عن موتهم كفَّارا، ولم تكن في ﴿لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران: 90] لأنَّ الارتداد وزيادة الكفر لا يكونان سببا لعدم قبول التوبة، بل هما نفس الذنب، وإنَّما السبب الغرغرة أو الموت، إِلَّا أنَّ ازدياد الكفر يوجب ازدياد الرَّين المانع من التوبة، ولا يعتبر هذا لأنَّه لا يتبادر إِلَّا بالتوسُّط.
5. قُرِنَ خبر (إِنَّ) هنا بالفاء لأنَّ اسمها على معنى العموم، فكان كـ (مَنْ) الشرطيَّة، ولم يقرن فيما قبلها لأنَّ اسمها جاء لمعيَّنين، فلم يشبه (مَنْ) الشرطيَّة.
6. ﴿مِنَ اَحَدِهِم﴾ هذا أبلغ من أن يقال: (منهم)؛ لأنَّ المعنى من واحد منهم كائنا ما كان، ﴿مِلْءُ الَارْضِ﴾ شرقا وغربا وغيرهما إلى السماء الدنيا، وملء الشيء ما يملؤه، ولا أطراف للأرض مرتفعة ارتفاع أطراف الوعاء فكان المراد ملء هوائها إلى السماء، وهذا أولى من أن يقال: ملؤها تعميم ظاهرها، ﴿ذَهَبًا﴾ وهو أعزُّ ما يُملَك، وكلُّ أحد يعرف له قدرا، وكثرت معاملته، وكان ثَمَنَ الأشياء، ويُزيَّن به، بخلاف سائر الجواهر الثمينة كالزبرجد فإنَّه غير متداول بين الناس إِلَّا قليلا.
7. ﴿وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ﴾ لا يخفى أنَّ نقيض الشرط في (لَوْ) و(إن) الوصليَّتين أولى بالجزاء، ونقيض (افْتَدَى) لم يفتد، ولا يصحُّ هنا: لو لم يفتد به ولو افتدى به، ولا افتدى به فكيف لو لم يفتد؛ لأنَّ الكلام في القبول، ولا يتصوَّر مع عدم الافتداء، فإمَّا أن يجعل المعنى: والحال أنَّه افتدى به، كما قيل: بزيادة (لَوْ)، وإمَّا أن تجعل الواو زائدة كما قرئ خارج العشرة شاذًّا بإسقاطها، وإمَّا أن يقدَّر: (لو تقرَّب به إلى الله في الدنيا لكفره ولو افتدى به من العذاب في الآخرة)، وإمَّا أن يقدَّر: (ولو افتدى بمثله معه)، فحذف المضاف، كما صرَّح به في الآية الأخرى، أو لا يُقبل ولو في حال الافتداء، وهو لا يمتنُّ فيها إذ هي حالة قهر، أو الآية عبارة عن عدم قبول الفدية مطلقًا، ولو كانت أضعاف ملء الأرض كما يعبَّر بالسَّبعين عن العدد الذي لا يتناهى، أو تُجعل شرطيَّة محذوفة الجواب، أي: ولو افتدى به لم يكفه، أو لم ينفعه أو لم ينجه من العذاب، ودلَّ على ذلك قوله تعالى :
8. ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ وأمَّا أن يُجعل ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ جوابًا فلا يصحُّ؛ لأنَّ جواب (لَوْ) لا يكون جملة اسميَّة، اللَّهمَّ إِلَّا إن ضمِّنت معنى (إن)، وفي البخاري ومسلم والطبري عن أنس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقال: لقد سُئلتَ ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل) فذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ الآية، ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ بِدفع العذاب أو تخفيفه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/319.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ أي الذين ضلوا سبيل الحق وأخطئوا منهاجه.
2. سؤال وإشكال: أشكل على كثير قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها، وقوله سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: 25]، وغير ذلك، والجواب:
أ. قيل: بأن المراد عند حضور الموت، قال الواحديّ في (الوجيز): (لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، وتلك التوبة لا تقبل)، أي كما قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 18]، الآية.
ب. وقيل عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم أي لا يتوبون، كقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، وإنما كنى بذلك تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
ج. وقيل: لأنهم توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا.
3. بقي للمفسرين وجوه أخرى، هي في التأويل أبعد مما ذكر، ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ الآية، وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا، وذلك لرسوخه في الكفر.
4. أشار القاشانيّ إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد، وعبارته عند قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا﴾: أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعداديّ إلى الإيمان ثم بالنور الإيمانيّ إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم (كذا)، وانضم إليه الاستدلال العقليّ بالبينات ثم ظهرت نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال: ﴿وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور، وهم قسمان:
أ. قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت، وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول.. وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾، إلى آخره.
ب. وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد، ولم يصر على قلوبهم رينا، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستحيوا بحكم غريز العقول.. وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾، بالمواظبة على الأعمال والرياضات، ما أفسدوا.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 36]:
أ. وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك!
ب. وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب! خير منزل، فيقول: سل وتمنّ، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات ـ لما يرى من فضل الشهادة ـ ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب! شر منزل، فيقول له: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول: أي رب! نعم، فيقول: كذبت! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيردّ إلى النار.
6. ولهذا قال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه.
7. في قوله تعالى ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ قال صاحب الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى، مثاله: قولك أكرم زيدا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى، ومنه: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: 135]، معناه ـ والله أعلم ـ لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا، لأن قوله: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾، يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، وهذه الحال المذكورة، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الزمخشريّ الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور، وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله، فنقول: قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال:
أ. منها ـ أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول.
ب. ومنها ـ أن يقول المفتدي في التقدير: أفدى نفسي بكذا ـ وقد لا يفعل ـ
ج. ومنها ـ أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته.
8. إذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو:
أ. أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه، فمجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثمّ أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 36]، ـ والله أعلم ـ وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه، فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله وليّ التوفيق.
ب. ثمة وجه ثان وهو أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية، ولو زيد عليه مثله، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه، وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد مثله، وقضية ولا أبا حسن لها، أي ولا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
ج. ووجه ثالث: وهو أن لا يحمل ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ أولا على الافتداء بل على التصدق، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق، بل يكون شرطا محذوف الجواب، ويكون المعنى: لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا تصدق به، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه، وضمير (به) للمال من غير اعتبار وصف التصدق.
د. ووجه رابع: وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي، فتبصر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/349.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ وشهادتهم أن الرسول حق، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمقاومة الحق وإيذاء الرسول والصد عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح، أو الكلام على عمومه لا يختص بأولئك الذين سبق ذكرهم فازدياد الكفر عبارة عما ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بمقتضاه، كما أن الإيمان كذلك.
2. ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ يعدونه من المشكلات، إذ هو مخالف في الظاهر للآية السابقة ولمثل قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: 25]:
أ. فقال القاضي والقفال وابن الأنباري: (إنه تعالى لما قدم ذكر من كفر وبين أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كأنها لم تكن، ويكون التقدير في الآية وما قبلها: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم) من التفسير الكبير بتصرف، وفيه أن هذا الوجه أليق بالآية من كل الوجوه وإنه مطرد في الآية سواء حملت على العهود السابق أو على الاستغراق.
ب. وفي الكشاف أن عدم قبول توبتهم كناية عن موتهم على الكفر.
ج. وقال البيضاوي: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ لأنهم لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبراز حالهم في صورة الآيسين من الرحمة، أو لأن توتبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم يدخل الفاء فيه.
د. واختار ابن جرير أن الكلام في أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم، وأن المراد بالتوبة التوبة عن الذنوب فهي لا تنفعهم مع بقائهم على الكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وروى في الآية عدة روايات وقال عن هذا الذي قلنا إنه اختاره لأنه أولاها بالصواب قال: (وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذا كانت في سياق واحد، وإذ كان ذلك كذلك وكان من حكم الله في عباده إنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه، وإذ كان ذلك كذلك فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله، فأما عمن تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم)، ثم بين ضعف سائر الروايات حتى رواية من قال إن المراد بذلك التوبة عند الموت وجزم (أي ابن جرير) بأن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين فإن إيمانه يكون مقبولا وليس هذا محل الخوض في ذلك.
3. هذه الأقوال وهي أظهر ما قيل في الآية منها ما يرجع إلى وقت التوبة ومنها ما يتعلق بالذنب الذي تيب عنه، ولمحمد عبده وجه يتعلق بصفة التوبة وكيفيتها، فقد ذكر في الدرس أن أولئك الكافرين الذين ازدادوا كفرا قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحق وقد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذنوب والشرور، فهذا النوع من التوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم، ويخلصوا لله في اتباع الحق ونصرته، فالتوبة التي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقين لا يقبلها الله تعالى، يعني أنه قد يقع من هؤلاء نوع من التوبة لا يكون مطهرا لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر والأوزار وليس هذا عين قول من قال إن توبتهم هذه التي لا تقبل هي توبة في الظاهر دون الباطن وباللسان دون القلب فإن ذلك نفي للتوبة وهذا إثبات لها بل هو قريب من قول ابن جرير الذي هو اظهر الأقوال السابقة.
4. قد يكون مراد محمد عبده أن النفوس قد توغل في الشر وتتمكن في الكفر حتى تحيط بها خطيئتها، وتصل إلى ما عبر عنه القرآن بالرين والطبع والختم على القلوب، فإذا كان صاحب هذه النفس قد جحد الحق عنادا واستكبارا وضل على علم فلا يبعد ان يحدثه نفسه بالتوبة وأن يحاولها ولكن يكون له في نفسه من الموانع والحوائل دون قبولها للخير والحق ما يكون هو السبب لعدم قبولها فإن قبول التوبة المستلزم لمغفرة ذنب التائب ليس من قبيل العطاء الجزاف والأمر الأنف وإنما يكون بموافقة سنن الله في الفطرة الإنسانية ذلك ان من مقتضى الفطرة السليمة ان يحدث لها العلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ألما يحملها على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادا لذلك الأثر وبهذا تكون معدة صاحبها ومؤهلة له للمغفرة التي هي ترك العقوبة على الذنب المترتب على محو سببه وهو تدنيس النفس وتدسيتها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9] فإذا بلغت التدسية من بعضها مبلغا تتعذر معه التزكية على مريدها أو محاولها صح أن يعبر عن ذلك قبول توبة صاحب هذه النفس، مثال ذلك الثوب الأبيض الناصع يصيبه لوث فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف فإذا كان اللوث قليلا وبادر إلى غسله بعيد طروئه يرجى أن يزول حتى لا يبقى له أثر، ولكن هذا الثوب إذا دس في الأقذار سنين كثيرة حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة تعذر تنظيفه وإعادته إلى نصاعته الأولى، وبين هذه الدرجة وما قبلها درجات كثيرة، وقد أشير إلى الطرفين بقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} [النساء: 17 18]
5. تلك حالة هذا الصنف من الهازئين بالدين المتقلبين في الكفر العريقين في الشر، ولذلك سجل عليهم الرسوخ في الضلال بصيغة القصر أو الحصر فقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ المتمكنون من الضلال حتى كأنه محصور فيهم وحسبك بضال لا ترجى هدايته، ولا تقبل توبته، ونعوذ بالله من الخذلان.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وهؤلاء هم القسم الثالث من أقسام الكافرين في الآيات:
أ. فالأول من يتوبون توبة من الكفر ويعملون الصالحات فيستحقون المغفرة والرحمة.
ب. والثاني من يتوبون توبة غير مقبولة إما لفسادها في نفسها، وإما لأنها توبة عن بعض أعمال الكفر مع البقاء عليه وقد تقدم حكمها.
ج. أما هؤلاء الذين يقيمون على الكفر وأعماله حتى يدركهم الموت على ذلك: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ إذا كان قد تصدق به في الدنيا لأن الكفر يحبط كل عمل: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23] فهو لا يفيد في نجاتهم من العذاب الآتي ذكره في الآية لأن من لم ترتق روحه في الدنيا إلى درجة الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر فإنها لا ترتقي في الآخرة من الهاوية التي تسمى النار والجحيم إلى درجة من الدرجات العلى التي تكون في الجنة.
7. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ في الآخرة على فرض إنه يملكه بأن أراد أن يجعله جزاء نجاته والعفو عنه كما يفعل الناس من الحكام الظالمين فإنه لا يقبل منه أيضا، قال تعالى في وعيد المنافقين: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد: 15]، بل لا تقبل الفدية من غيرهم أيضا، كما في آيات أخرى عامة، وليست علة ذلك ما قالوه من كون الله تعالى غنيا عن الذهب وغيره مما يفتدى به، فإنه تعالى غني أيضا عن إيمان الناس وأعمالهم، وإنما علته أنه تعالى لم يجعل أمر نجاة الناس من عذاب الآخرة ولا أمر فوزهم بنعيمها مما يكون بالأمور الخارجية كمالٍ يبذل وعظيمٍ ينفع، بل جعل ذلك أمرا متعلقا بأمر داخلي، متعلقا بجوهر النفس، فمن زكاها بالإيمان مع العمل الصالح أفلح ومن دساها بالكفر والأعمال السيئة خاب وخسر.
8. الكلام في هذا الجزاء(2) من التمثيل لأنه ليس هناك حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه لأن الأشقياء لا نصير لهم فينفق عليه والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم، والمراد أنه لا طريق للافتداء لو أريد، ليس عندنا عنه غير هذا.
9. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ينصرونهم بدفع العذاب عنهم أو إيصال الخير إليهم، أي لا يجدون لهم نصيرا ما كما تفيده) من) الدالة على استغراق النفي ويسمونها زائدة، لأنها لا متعلق لها في اصطلاح النحاة لا لأنها لا معنى لها في الكلام.
10. من مباحث اللفظ مع المعنى في الآية:
أ. أنه قال في هذه الآية ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ﴾، وفي الآية التي قبلها ﴿لَنْ تُقْبَلَ﴾ بغير فاء، وقد بين صاحب الكشاف النكتة في ذلك وتبعه غيره فيها، قال: قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب كما تقول: الذي جاءني له درهم: لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم، أي فإنه يفيد أن الدرهم جزاء لمجيئته، والنكتة في غاية الجلاء والظهور، فإن عدم قبول توبة أولئك ليس مسببا عن كونهم كفروا ولا عن كونهم ازدادوا كفرا، لأن الكافر ومن ازداد كفرا تقبل توبتهما إذا صحت، وقد علم سببه مما تقدم.
ب. ومنها أنهم اختلفوا في موقع الواو من قوله: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ على ظهوره فيما جرينا عليه من تفسير الآية، ويقرب منه قول الزجاج النحوي إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه، قال الرازي: وهذا اختيار ابن الأنباري، قال وهذا أوكد في التلغيظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه، أقول: وما قدرناه أظهر وبالنظم أليق، قال الرازي بعد إيراد رأي الزجاج الثاني: الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ يحتمل الوجوه الكثيرة فنص على نفي القبول بجهة الفدية.. أقول: ولو قال التخصيص بعد التعميم لكان أظهر لأن ذكر واحد مما يتناوله أو يحتمله المجمل ليس تفصيلا له، ثم قال: الثالث: وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها البتة إلا أنه قد يقبل الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان غاية الغضب والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لا لم يكن مقبولا بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أوْلى، اه، وفي الكشاف: هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل فلن تقبل من أحدهم فدية لو افتدى بملء الأرض ذهبا ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله وأورد لذلك شواهد وأمثلة ثم قال وأن يراد فلن يقبل من احدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به ولو افتدى به أيضا لم يقبل.
__________
(1) تفسير المنار: 3/367.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكافرون أصناف ثلاثة:
أ. الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾
ب. الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾
ج. الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصدّ عن سبيل الله وبالحرب والكفاح، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينمّيه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان، والإيمان كذلك، هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير.
3. ظاهر الآيات يخالف ما صرّح به القرآن في غير موضع، كقوله في الآية السابقة ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى ـ ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كانها لم تكن، ويكون المعنى في هذه الآية وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا للأثر الأول، وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.
4. أشير إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أي إن هؤلاء المتقبلين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم هداية، ولا تقبل منهم توبة.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال ـ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته، فمن لم ترك نفسه في الدنيا وقسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك ـ فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جلّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرّحيم.
6. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب، كما يعطى الناس الرّشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحلّ بهم من العذاب.
7. نحو الآية قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون مما يبذل، ولا بجاه ينفع، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح فقد أفلج، ومن دسّاها بالكفر وسبى الأعمال فقد خاب وخسر.
8. صفوة القول: إنه لا طريق للافتداء على أيّ حال لو أريد ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم، والأولياء في عنى يفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم.
9. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/208.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما الذين لا يتوبون ولا يثوبون، الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفرا، والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة، وينتهي أمد الاختبار، ويأتي دور الجزاء، هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة.. ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهبا فيما يظنون هم أنه خير وبر، ما دام مقطوعا عن الصلة بالله.
2. ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال، ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة، فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب.. وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/424.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1):
1. بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى المصير المشئوم الذي سيقع على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب.. الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول الذي ظهر فيهم هو رسول رب العالمين، يحمل آيات الهدى والنور من ربه.. وبعد أن ألبسهم الله ثوب اللعنة، ثم فتح باب الرحمة لمن نزع منهم عن غيّه وضلاله، وفاء إلى الحق، ورجع إلى الله تائبا، مصلحا ما أفسد من دينه وفي دينه ـ بعد هذا بيّن الله موقف المتعنتين من هؤلاء الضالين الظالمين، الذين دعاهم الله تعالى إلى جناب رحمته ومغفرته، فأبوا أن يستجيبوا، ولم يزدهم هذا الدعاء الكريم، من رب كريم، إلا إصرارا وعنادا، وإغراقا في الإثم، واستغراقا في الضلال ـ فهؤلاء لن تقبل توبتهم، ولن يلقاهم الله برحمته ومغفرته.. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾
2. سؤال وإشكال: أهناك من يتوب، ويمدّ يده إلى الله بالصفح والمغفرة.. ثم يردّ، ولا صفح ولا مغفرة؟ والجواب: إن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى التوبة، ويفتح لهم باب القبول والصفح، فيقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ ويقول جل شأنه: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}، فكيف لا يقبل الله توبة من جاء إليه ملبّيا نداءه، باسطا إليه يده بالتوبة والإنابة؟.. والآية هنا تقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ فهؤلاء الذين كفروا هم الذين أشارت إليهم الآية السابقة في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ إنهم ـ والأمر كذلك ـ ليسوا مجرد كافرين، ولدوا في الكفر، ونشئوا على الكفر، وإنما هم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد هدى.. وليس هذا وحسب، بل إنهم تعمّدوا الخروج من الإيمان، وأطفئوا بأيديهم وبأفواههم النور الذي كان معهم.. وإنهم ليعرفون أنهم على ضلال، ولكن الحسد الذي يأكل قلوبهم جعلهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن عمد وإصرار، وإن إنسانا يستبدّ به العناد إلى هذا الحدّ، ويتسلط عليه الهوى إلى هذا المدى الذي يشوّه به معالم وجوده بيده ـ إن إنسانا كهذا الإنسان لن يرجع إلى الله أبدا، ولن تزيده الأيام إلا عمى وضلالا.. فقد استشرى به الداء، وهيهات أن يكون له دواء: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ ما يكشف عن معدن هؤلاء القوم، وأنهم كلّما امتد الزمن بهم كلما ازدادوا عتوّا وكفرا.. ومن كان هذا شأنه فإنه لا يرجى له صلاح ولن تكون منه إلى الله رجعة، وفي قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ تيئيس لهم من التوبة التي إن أعلنوها بألسنتهم في حال ماء أنكروها بقلوبهم، وشهد على إنكارهم سوء أعمالهم.
3. في قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ وجه آخر، هو أنهم ـ والله أعلم ـ قد لبسوا من الكفر غير ما يلبسه الكافرون.. إذا كانوا على الإيمان، فجعلوه، وارتدوا الكفر الذي لن يزايلهم أبدا، فإذا تاب تائبهم.. وهو على تلك الحال ـ فلن تقبل توبته، بمعنى أنه لن تمضى له هذه التوبة إلى آخر عمره، بل إنه راجع لا محالة إلى ما كان عليه من الكفر الغليظ الذي تلبّس به، وبهذا تكون توبته تلك كلا توبة.. فقوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أي لن تقبل قبولا مثمرا، ينتهى بصاحبه إلى الهدى والإيمان.. إذ كانت التوبة غير خالصة لله وللحق!
4. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ إشارة إلى هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، ثم لم يكن الله ليقبل توبتهم، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ أي الذين استغرقهم الضلال، واشتمل عليهم، فلا مخرج لهم منه إلى هدى.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ هذا الحكم وإن كان عاما يلحق الكافرين الذين ماتوا وهم على كفرهم، إلا أنّه يتجه اتجاها مباشرا إلى اليهود، الذين أبعدهم الرحمن من رحمته، وتركهم مع كفرهم وضلالهم، وأغلق في وجههم باب التوبة والقبول، وذلك لأنهم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد علم، ثم اجترؤوا على الله، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته، وإنهم وقد أيأسهم الله من الرجوع إليه، سيمضون على ما هم فيه من كفر، وسيموتون كافرين، ومن كان على تلك الصفة، فالويل له من عذاب يوم عظيم!
6. في قوله تعالى: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ أمور منها:
أ. أولا: أن المال الذي هو دين اليهود، والذي من أجله استرخصوا الدّين، واستخفوا بآيات الله، ليحتفظوا بمراكزهم الاجتماعية في مجتمعهم الفاسد ـ هذا المال الذي هم تاركوه وراءهم لن يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة.
ب. ثانيا: التعبير بالذهب عن المال، سواء كان ذهبا أو فضة، أو ضياعا أو دورا وقصورا ودوابّ ـ لأن الذهب هو المقياس الذي تعرف به قيمة كل مال، وهو الذي به ينال كل مال مطلب.
ج. ثالثا: في قوله تعالى: ﴿أَحَدُهُمْ﴾ ما يشعر بالاستخفاف بهذا المال، وبقلّة جدواه في هذا الموقف، وأنه لو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا ما نفعه! فكيف وهو لا يملك من هذا المال ما يملأ حفرته من الذهب؟ فإن بلغ في الغنى أقصى مدى فلن يملك مصرا من الأمصار! وأين هذا الذهب الذي يملأ هذا المصر الذي ملكه؟
د. رابعا: في قوله تعالى: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ ما يكشف عن بعض البلاء النازل بهذا الذي كفر بالله، في هذا اليوم، وأنه لو كان له ملء الأرض ذهبا لسمحت به نفسه في غير تردد أو مساومة، ليدفع هذا البلاء، ويخلص بجلده.. وانظر كيف يسمح يهودي بهذا الذهب كلّه، ولا تنازعه نفسه إلى أن يحتجز بعضا، ويترك بعضا؟ ولقد كان مستعدا في حياته الدنيا أن يبيع نفسه، لمن يشتريها ـ وقد باعها فعلا ـ لقاء حفنة من تراب هذا الذهب فكيف يلقى بهذا الذهب كله من يده؟ إنه العذاب الأليم الذي يجعله يذهل عن كل شيء حتى المال، وحتى الذهب.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/520.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ قال قتادة، وعطاء، والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل أريد به اليهود والنصارى: فاليهود كما علمت، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. تأويل ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾:
أ. إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبل توبتهم كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 48] أي لا شفاعة لها فتقبل، وهذا كقول امرئ القيس: (على لاحب لا يهتدى بمناره) أي لا منار له، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾
ب. وإمّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترار بما يظهرونه من الإسلام نفاقا، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم.
ج. وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم، وأسرارهم موكولة إلى الله تعالى، وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية، مثل عبد الله بن سلام، فلا إشكال فيه، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية.
د. وقيل: المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع، والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم، وعليه يكون قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا﴾ توكيدا لفظيا بالمرادف، وليبنى عليه التفريع بقوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾
3. أياما كان فتأويل الآية متعين، لأنّ ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أنّ إسلام الكافر مقبول، ولو تكرّر منه الكفر، وأنّ توبة العصاة مقبولة، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء [137] وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدنا، وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفرا الذين ماتوا على الكفر، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبني عليها قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾، وأيا ما كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق.
5. الفاء في قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ﴾ مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ [آل عمران: 90] لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر (إن) وجملة ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ﴾ إلى آخرها معترضة بين اسم (إنّ) وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ [الأنفال: 14] وتكون جملة ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ خبر (إنّ)
6. معنى ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتوا وهم كفار، والملء ـ بكسر الميم ـ ما يملأ وعاء، وملء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء، وعدد الحصى، وميز هذا المقدار بذهبا لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري: (وقارنت نجح المساعي خطرته)
7. ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ جملة في موقع الحال، والواو واو الحال، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به، وحرف (لو) للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب، ولكثرته قال كثير من النحاة: إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلّا المبالغة، ولقبوهما بالوصليتين: أي أنّهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد، وتردّدوا أيضا في إعراب الجملة الواقعة هذا الموقع، وفي الواو المقترنة بها، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مال الزمخشري، وابن جنّي، والمرزوقي، ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور، كقوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: 135]، ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف، ذكره الرضي رادّا عليه، وليس حقيقا بالردّ: فإنّ للاستئناف البياني موقعا مع هذه الواو.
8. هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروض هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب:
çليس الجمال بمئزر...فاعلم وإن ردّيت برداé
ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطا هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله: وإن ردّيت بردا ـ إن لم تردّ بردا بل وإن ردّيت بردا ـ وكذا قول النابغة:
çسأكعم كلبي أن يريبك نبحه...ولو كنت أرعى مسحلان فحامراé
ولأجل ذلك، ورد إشكال على هذه الآية: لأنّ ما بعد ﴿وَلَوْ﴾ فيها هو عين ما قبلها، إذ الافتداء هو عين بذل ملء الأرض ذهبا، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولو افتدى به، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية: فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة، أي لا يفديهم شيء من العذاب، وهذا الوجه بعيد، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه، وقال قوم: الواو زائدة، وقال في (الكشاف): هو محمول على المعنى كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى ملء الأرض ذهبا، يريد أنّ كلمة بملء الأرض في قوة كلمة فدية واختصر بعد ذلك بالضمير، قال ويجوز أن يقدر كلمة (مثل) قبل الضمير المجرور: أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفه كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ﴾ [الزمر: 47]، وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جار على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافا بيانيا جوابا لسؤال، محقّق أو مقدّر، يتوهّمه المتكلم من المخاطب فيريد تقريره، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله، بل قد يكون كذلك، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمنه الحكم تثبيتا على المتكلم على حدّ قولهم: (أدر ما تقول) فيجيب المتكلم بإعادة السؤال تقريرا له وإيذانا بأنه تكلم عن بينة، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة، وهو من شواهد هذا:
çقالت بنات العمّ يا سلمى وإن...كان فقيرا معدما قالت وإنé
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير:
çلا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم...أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويلé
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزمر: 43] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك، فقوله: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ جواب سؤال متعجّب من الحكم وهو قوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ﴾ فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب، فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد، ويجوز أن يكون الشرط عطفا على محذوف دلّ عليه افتدى: أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يجعله رهينة، ولو بذله فدية، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رهنا إلى أن يقع الصلح أو العفو، وكذلك في الديون، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رهائن منهم كما قال الحارث:
çواذكروا حلف ذي المجاز وما قدّ...م فيه العهود والكفلاءé
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ محمد بن مسلمة قال لأبي رافع: (نرهنك السلاح واللأمة)
9. جملة ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فذلكة للمراد من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: 90] الآيتين.
10. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ تكميل لنفي أحوال الغناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال، وقد يكفله من يوثق بكفالتهم، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة، وكلّ من الكفيل والشفيع ناصر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/149.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى حال أولئك الذين أركسوا أنفسهم في الضلالة وقد جاءتهم البينات من ربهم، وشهدوا أن الرسول حق، بين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة، وأن مصيرهم إلى النار، إلا إذا تابوا وعملوا عملا صالحا، فإن الله تواب رحيم، وإن الآيات السابقة تشير إلى احتمال توبتهم بيقظة الضمير بعد غفلته، فإن النفس قد تظلم وتشتد ظلمتها، ثم ينبثق إليها النور من إحدى النوافذ، فتكون الهداية بعد الضلال، والإيمان بالحق بعد الباطل، وذلك مشروط بألا يمعن الشخص في طريق الضلال فيزداد كفرا وشرا، أما الذين يمعنون في الغواية، ولا يقفون فيها عند نهاية، فإنهم يستمرون في غيهم يعمهون، ولا يتوبون؛ ولذا قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾، فهذا كما أشرنا قسم ممن كفروا بعد إيمان؛ لأن أولئك قسمان:
أ. أحدهما يرجى توبته، وذلك هو الذي لم يوغل في طريق الكفر والإمعان فيه، وقد أشار سبحانه بقبول توبته بقوله تعالى مستثنيا له: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ [آل عمران]
ب. والثاني هم الذين كفروا بعد أن آمنوا، ولم يكتفوا بذلك بل لجوا في العناد، واسترسلوا في الغىّ، واستمروا في مقاومة الحق، فإنهم كلما أوغلوا في الباطل بعدوا عن التوبة والرجوع، ومثلهم كمثل من يسير في صحراء وقد ضل الطريق، فإنه كلما أوغل فيها ازداد ضلاله، وهذا القسم لا تقبل توبته؛ لأنه لا يتوب توبة نصوحا، وقد عبر سبحانه عن إيغالهم في الشر بقوله: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ أي أن الكفر درجات، وكل إيغال فيه ازدياد؛ ذلك لأن الكفر جحود القلب مع قيام الأمارات والأدلة، وكلما اشتد العناد اشتد الجحود، واستغلظت الحجب التي تحول بين المرء والهداية، فإذا كان الحجاب عن الإيمان بالحق رقيقا أولا، فبالإمعان في العناد يغلظ الحجاب، ويستمر في الغلظ حتى يحكم الإغلاق، وهو الذي عبر الله عمن تصاب قلوبهم به بقوله تارة: ﴿طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل] وتارة ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة] وقوله تعالى مرة ثالثة: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين]، وأولئك قال تعالى فيهم: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ فنفى سبحانه وتعالى قبول توبتهم.
2. قوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. لنا أن نفسر نفى قبول التوبة على ظاهره بمعنى أنه قد تقع منهم توبة، ولكنها ليست التوبة التي تقبل، ونص على قبولها في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى] وعدم قبول توبتهم هذه لأنها بظاهر من القول، أو لأنها فلتات نفسية تحدث أحيانا في حال كرب أو شدة، ثم يعودون لما كانوا عليه كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس]، أو تكون التوبة في آخر رمق في الحياة كتوبة فرعون وقد أدركه الغرق، فقد حكى الله تعالى ذلك عنه إذ يقول: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس]، فإن هذه التوبة لا تقبل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء]، هذا هو الفرض الأول في تخريج الآية الكريمة، وهو عدم قبول التوبة إن وقعت.
ب. والفرض الثاني أن نقول إن النفي المؤكد منصب على عدم وقوع التوبة، بله على عدم قبولها، فالمعنى لن تقبل توبتهم، لأنه لا توجد لهم توبة قد استوفت شروط القبول، ومؤدى الفرضين واحد، لأنه على تسليم وجود توبة في الفرض الأول يجب أن نقرر أنها كلها توبة.
3. أكد سبحانه النفي بكلمة (لن) التي تدل على تأكيد النفي كما أكده ببيان استمرار ضلالهم فقال سبحانه: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾، وفي هذه الجملة السامية أكد سبحانه ضلالهم بثلاثة أمور: أولها الجملة الاسمية، وثانيها ضمير الفصل الذي يدل على تأكيد النسبة بين المسند والمسند إليه، وثالثها القصر والتخصيص، فقد قصر عليهم الضلال كأنه لكماله فيهم لا يوجد في غيرهم، وإن السبب في استمرار ضلالهم هو لجاجتهم وعنادهم، فهم كلما لجوا في مقاومة الحق ازدادت نفوسهم بعدا عنه، وكلما بعدوا عنه أوغلوا في الضلال.
4. الإشارة في قوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ﴾ هي إليهم متصفين بما اتصفوا به من كفر بعد إيمان، وازدياد ولجاجة في هذا الكفر والجحود، فتلك الصفات هي السبب في هذا الاستمرار وتأكد الضلال، وإن هؤلاء الضالين سيموتون بلا شك وهم كفار فيندرجون تحت حكم الآية الكريمة الآتية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾
5. هذه الآية تبين مآل الذين يموتون وهم كفار، أي أنهم يستمرون على كفرهم حتى يلقوا ربهم، فالواو في قوله سبحانه: ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ واو الحال وهي تفيد أنهم ماتوا وهم على حال لهم مستمرة ملازمة لم تفارقهم، وهي الكفر والضلال، وإن أولئك في اليوم الآخر يلقون جزاءهم على ما قدموا من سيئات وجحود بالحق موفورا كاملا، وذلك الجزاء ذو شطرين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي:
أ. أما السلبي فهو أن كل ما عملوا من خير وأنفقوا من مال لا يكافأون عليه، كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، والسبب في فقد الجزاء عليه أن أساس الجزاء في الدين النية، والنية لَا تكون سليمة إلا إذا كان فعل الخير قد قصد به وجه الله سبحانه وتعالى، وذلك لَا يكون ممن لَا يذعن لدين الله؛ لأنه لو طلب وجه الله لأجاب نداءه، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ أي لن يقبل منهم أي إنفاق، ولو كان بمقدار ما يملأ الأرض من ذهب، فمهما يفعلوا من عمل، هو في ذاته خير، فقد أفسدوه بنياتهم الآثمة، وتمردهم على الحق إذ دُعوا إليه.
ب. والجزاء الإيجابي هو العقاب الذي لا يكون منه مناص ولو بفدية مهما كبرت أو عظمت، كما قال تعالى مخاطبا المنافقين: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد] وقد أشار إلى هذا العذاب بقوله سبحانه: ﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ أي لو افتدى نفسه من عذاب الآخرة بمثل الذهب الذي يملأ الأرض.
6. الواو هنا تفيد أنه لا يقبل منه أي إنفاق يقدمه ولو كان ذلك الإنفاق قدمه ليفتدى به نفسه من عذاب الله، ثم بين سبحانه العذاب بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، أي أولئك الذين ماتوا وهم كفار بسبب الكفر الذي لازموه حتى موتهم، لهم عذاب مؤلم شديد الإيلام مستمر، وليس لهم ناصر، و(من) هنا لاستغراق النفي أي ليس لهم أي ناصر مهما يكن، فمن كانوا يتخذونهم شفعاء لا يشفعون لهم، والرسل الذين كانوا يتعلقون بهم لا يعرفونهم، ولا نجاة لهم من عذاب الله، لا بفدية يفتدون بها أنفسهم، ولا بناصر ينصرهم من دون الله، وبذلك يكونون حطب جهنم والنار مأواهم وبئس المصير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
7. هنا بحث لفظي أثاره إمام اللغة الزمخشري وهو لماذا عبر في الآية السابقة في الخبر من غير فاء، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ وفي هذه الآية أتى بالفاء فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ﴾ إلى آخره، وقد أجاب عن ذلك بقوله: (قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك (الفاء) أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب، كما تقول: الذي جاءنى له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم، وإن ذلك الكلام مغزاه أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لهم أن هذا الجزاء نتيجة للعمل، وأنه مسبب عنه لأن الجزاء من جنس الفعل دائما، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأما في الآية الأولى فلأن عدم قبول التوبة ليس جزاء؛ إذ معناه عدم وجود توبة صالحة للقبول؛ أجرى القول مجرى الإخبار كأنه وصف ملازم لحالهم، أو هو حال أخرى من أحوالهم، وإذا كان الجزاء من جنس العمل دائما، فإن الله بعد أن بين جزاء الشر بين سبحانه جزاء الخير فقال تعالت كلماته:
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1310.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾، معنى الكفر بعد الايمان واضح، أما ازدياد الكفر فيكون بكثرة الذنوب التي يصيبها المذنب، وأعظمها العمل على بث الكفر وانتشاره، ومحاربة المؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون.
1. سؤال وإشكال: ان الله حكم في الآية السابقة بقبول توبة من كفر بعد الإيمان، ثم حكم في هذه الآية بعدم قبولها، فما هو وجه الجمع؟ والجواب: أجاب المفسرون بأجوبة أرجحها ان الكافر بعد الايمان على ثلاثة أقسام:
أ. أحدها من تاب توبة نصوحة، وهو الذي ذكره الله في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾
ب. ثانيها: من تاب توبة زائفة، وهو الذي ذكره تعالى بقوله: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾
ج. ثالثها: من مات على الكفر، وهو المذكور بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾
د. والذي نراه في الجواب ان الإنسان قد يشعر بصحة شيء، أو فساده، ثم تعرض بعض الملابسات تخيل اليه ان شعوره قد تغير من الصحة إلى الفساد، أو من الفساد إلى الصحة، مع ان شعوره في واقعه هو هو لم يتغير فيه شيء، أما اعتقاد التغيير فمجرد وهم وخيال، وكذلك الحب والبغض، فقد يسيء ولدك اليك، فيلوح لك انه أبغض الناس إلى قلبك، وانك تود هلاكه، ولكن عاطفة الأبوة تكمن في قرارة نفسك دون أن تشعر.. وكم شاهدنا من يفعل ويترك بوحي من المحاكاة والتقليد، أو العاطفة والعادة، وهو يعتقد ان ذلك بوحي من الدين والعقل، وكذلك يلوح لكثير من التائبين من ذنوبهم انهم تابوا توبة نصوحة، وهم في الواقع باقون على ما كانوا، وهؤلاء التائبون هم المعنيون بقوله تعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾، أما المعنيون بالآية السابقة، وهي قوله سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ فهم التائبون حقا وصدقا.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾، ليس من شك ان من ختم حياته بالكفر، ومات عليه حوسب حساب الكافرين.
3. سؤال وإشكال: انه لا ذهب يوم القيامة، ولا وسيلة لامتلاكه، ولا إنفاقه، فما هي الفائدة من ذكره؟ والجواب: القصد انه لا طريق للافتداء بحال من الأحوال، وبديهة ان فرض المحال ليس بمحال.. ومما قاله الإمام علي عليه السلام في وصف جهنم: (لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/106.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أولا، ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا﴾ الآية، وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص، والمعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة عليه، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين:
أ. إما كافر يكفر ثم يزيد كفرا فيطغى، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، ولا مطمع في اهتدائه.
ب. وإما كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه ولا بدل لذلك حتى يفتدي به، ولا شفيع ولا ناصر حتى يشفع له أو ينصره.
2. من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ باشتماله على اسمية الجملة، والإشارة البعيدة في أولئك، وضمير الفصل، والاسمية واللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.
3. وكذا يظهر أن المراد بقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ﴾ الآية في مبحث الشفاعة.
4. اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل، والبدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحل محلها في الآخرة، ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ في معنى: وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.
5. الملء في قوله: ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا﴾ مقدار ما يسعه الإناء من شيء فاعتبر الأرض إناء يملؤه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية.
6. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾، وعلق عليها بقوله: التأمل في هذه الأقوال والروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم، وأما الرواية عن الصادق عليه السلام فمرسلة ضعيفة، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/342.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ هذا بيان أن التوبة المؤخرة عن وقتها لا تقبل، فهو كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء:17 ـ 18]، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ مجمل بينته هذه الآية ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ البالغون في الضلال مبلغاً عظيماً، الفائقون لغيرهم في الضلال، ويحتمل ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ لا التائبون، فالقصر قصر القَلْبِ؛ لأن توبتهم لم تخرجهم عن العصيان فهم مازلوا في التيه؛ وهذا أرجح من الأول.
2. حيث قد أفادت هذه الآية أنها لا تقبل توبة في الآخرة، بين تعالى أنها كذلك لا تقبل فدية، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾، وهذا على فرض وتقدير أنه استطاع تحصيل ملء الأرض ذهباً لينفقه، على أن يكون فكاكاً له من النار بأي طريقة، كصدقة للمساكين، أو هدية، أو رشوة للزبانية، أو غير ذلك من وجوه الدفاع والإحتيال لدفع العذاب، ولو دفعه فدية يفتدي به من العذاب كما يفتدي بالمال للسلامة في الدنيا من الحبس ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ فلن ينصرهم شركاؤهم ولا أنبياؤهم الذين ينتمون إليهم لا بشفاعة ولا غيرها ليدفعوا عنهم العذاب، فالحاصل: أنهم معذبون لا مجال لهم من العذاب؛ وفائدة فرض ملء الأرض ذهباً: أن يعلموا أن عذابهم محتوم عليهم لا وسيلة لدفعه، وهذه الآية عامة للمرتدين وغيرهم من أهل الكتاب وغيرهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/501.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله واليوم الآخر ﴿بَعْدَ إيْمَانِهِمْ﴾ الذي أعلنوه فدخلوا في المجتمع الإسلامي من خلاله رغبة أو رهبة، ثم خرجوا منه بعد أن حصلوا على ما يريدون، أو أمنوا مما يخافون منه، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ من خلال العقدة الحاقدة في داخل نفوسهم، لا سيما بعد أن دخلوا ـ من جديد ـ في مجتمع الشرك الذي أرادوا التكفير أمامه عن إيمانهم وإسلامهم، فعملوا على التشديد في كلماتهم القاسية ضد الإسلام ومواقفهم العدوانية ضده.
2. ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ لأن مثل هذا العمق العدواني، وهذا الانتقال السريع من الإيمان إلى الكفر الذي تطور إلى زيادة في مضمونه وحركته، ويوحي بأنهم لا يملكون الجدية في إيمانهم، فلم يدخل إلى قلوبهم، بل كانت المسألة تمثيلية للوصول إلى أغراضهم الخبيثة، مما يعني أن إيمانهم الجديد الذي تعبر عنه التوبة لن يكون بأفضل من إيمانهم القديم الذي أعقبه الكفر، فهم اللاعبون على خط الكفر والإيمان.
3. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ التائهون في تمزقات مشاعرهم التي لا تثبت على قاعدة ولا تتحرك في الاتجاه المستقيم، أمّا الذين يموتون وهم كفار، ويفاجئهم الموقف بالعذاب الشديد، فسيحاولون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك بكل أنواع الفدية، أو يتمنون ذلك، ولكن الله يحسم الموقف فلا مجال للفدية مهما عظمت، فلا يقبل منهم شيء منها حتى لو جاؤوا بملء الأرض ذهبا، لأن خطيئة الكفر لا يفتديها شيء، فإن الله ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فلا مفرّ من العذاب الذي هو جزاء الكافرين، ولن ينصرهم أحد من دون الله، لأنّ الأمر كله ـ يؤمئذ ـ بيد الله.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فلم يتوبوا عن خطيئة الكفر في نهاية الحياة، ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ يوم القيامة، لأن جريمة الكفر لا يفتديها شيء لأنها تعلو كل جريمة، فلا مجال للتخفيف عنها بأي ثمن، وما قيمة الذهب عند الله أمام تمردهم عليه ومحاربتهم له!؟
5. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ جزاء كفرهم بالله وبرسالته ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ فلا قوّة لأحد أن ينصر أحدا ـ حتى نفسه ـ من الله الذي يملك الأمر كله، ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19]
6. من هنا، فإن الكفر أو الإيمان ـ في مفهوم الإسلام ـ ليسا شيئا يتحرّك في داخل النفس على أساس العقيدة الكامنة في الأعماق فحسب، بل هما موقفان عمليّان في ما يتخذه الإنسان من مواقف، وما يمارسه من أعمال، وفي ضوء ذلك يمكننا أن نفهم أنّ الكفر وازدياده اللذين تتحدث عنهما الآية، لا يراد منهما المعنى الداخلي فقط، بل يتحركان من موقع العقيدة والموقف، وبذلك يتضح معنى زيادة الكفر.. أما عدم قبول توبتهم والحكم بضلالهم بشكل حاسم، فالظاهر منها ـ والله العالم ـ التوبة التي لا تتمثل في موقف وقناعة، بل تتمثل في المظهر الزائف الذي يحاول أن يغطي واقعه بالتوبة ليستطيع من خلال ذلك الدخول في صميم المجتمع الإسلامي، فيلعب فيه ما شاء له اللعب بعد أن يحصل على ثقته بالتوبة، وتلك توبة لا يقبلها الله، لأنها صورة توبة كجزء من خطة الكفر والضلال.
7. أمّا كيف نستوحي هذا المعنى من الآية، فتوضيحه أن الله يتحدث عن هذا النموذج من الناس، بأنهم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا، مما يدل على أن حياتهم لا تسير في الاتجاه الجادّ على أساس مسئولية العقيدة والإيمان، فهم يتحينون الفرص للانحراف ما امتدت لهم ولا يقفون في ذلك عند حدّ، بل يتصاعد الكفر العملي عندهم ويتزايد حتى يتحوّل إلى ظاهرة خطرة في حياة المجتمع الذي يعيشونه فيه، فالموقف ـ لديهم ـ ليس طارئا، بل هو كامن في الأعماق كعقدة متأصلة في الداخل بحيث تحرك الإنسان حركة مرضيّة في جانب السلب والإيجاب، وقد نستلهم ذلك من ملاحظة الحديث عن الفئة الأولى التي كفرت بعد إيمانها، ثم تابت وأصلحت، فقبل الله توبتها لأنه علم صدقها من خلال تعقّب التوبة بالإصلاح، مما جعل الموقف موقف جدّ وصدق، أما هذه الفئة فإنها لم تكتف بالكفر بل ازدادت كفرا وعبثا وضلالا، مما جعل الموقف موقف تمثيل وضلال لا مجال فيه للحق وللصدق، وبهذا نفهم الفرق بين الآية السابقة وهذه الآية؛ والله العالم بحقائق آياته، وربما يكون المراد من عدم قبول توبتهم في حالة اليأس معاينتهم الموقف في الآخرة ـ كما عن بعض المفسرين ـ ولكن هذا لا يتضح من ظاهر الآية، بل يبدو أنّها تتحدث عن حالتهم في الحياة في وجودهم داخل المجتمع الإسلامي، وقبول المجتمع لهم بقبول الله لتوبتهم ـ كما يحاولون ـ.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/145.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّا على انحرافهم عن طريق الحقّ فيتوبون توبة صادقة، في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أوّلا، ثمّ ارتدّوا وكفروا، وأصرّوا على كفرهم، ورفضوا الانصياع لأوامر الله، حتّى إذا اشتدّ عليهم الأمر اضطرّوا إلى العودة للإسلام، إنّ الله لن يقبل توبة هؤلاء، لأنّهم لن يتّخذوا باختيارهم خطوة في سبيل الله، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم انتصار المسلمين، لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تقبل.
2. ثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية هو: أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص عندما يرون أنفسهم على أعتاب الموت ونهاية العمر قد يندمون ويتوبون حقّا، غير أنّ توبتهم لن تقبل، لأنّ وقت التوبة يكون قد انتهى، وهذا نظير قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، وقيل: من المحتمل أن يكون معنى الآية: إنّ التوبة عن الذنوب العادية في حال الكفر لن تقبل، أي إذا أصرّ أحدهم على المضي في طريق الكفر، ثمّ تاب عن ذنوب معيّنة كالظلم والغيبة وأمثالهما، فإنّ توبته هذه لا طائل وراءها ولن تقبل، وذلك لأنّ غسل التلوّث الظاهر عن الروح والنفس، مع بقاء التلوّث الأعمق في الباطن، لا فائدة منه.
3. لا بدّ أن نضيف هنا أنّ التفاسير المذكورة آنفا لا تعارض بينها، وقد تشملها الآية جميعا، وإن يكن التفسير الأوّل أقرب إلى الآيات السابقة وإلى سبب نزول هذه الآية.
4. في الآية الثانية يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ تخصّ الآية أولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثمّ يموتون وهم على تلك الحال، يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين، ولن يقبل منهم كلّ ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتّى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهبا في سبيل الله.
5. من الواضح أنّ القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء لله، وإلّا فمن الواضح أنّ ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لا يختلف عن ملئها ترابا، إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهميّة الموضوع.
6. أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسّرون لذلك احتمالين إثنين، ولكن ظاهر الآية يدلّ على العالم الآخر، أي كانوا كافرين ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهبا، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا، يستطيعون أن يدرؤوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، إذ أنّ هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة على التأثير في ما سيواجههم من عقاب، وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في سورة الحديد: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
7. وفي الختام يشير إلى نكتة أخرى في المقام ويقول: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.. لا شكّ في أنّهم سينالون عقابا شديدا مؤلما، ولن يكون باستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم، لأن الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان بالله، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفّار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم.. وأساسا، بما أن الشفاعة بإذن الله، فإن الشفعاء لا يشفعون أبدا لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/589.
45. البر والإنفاق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈45⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الجنة(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٢٨٤.
أبو ذر:
روي عن أبي ذر (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن ميمون بن مهران أن رجلا سأل أبا ذر: أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شيء عجيب، فقال: يا أبا ذر، لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي، لا أراك ذكرته، قال ما هو؟ قال الصيام، فقال: قربة، وليس هنا، وتلا هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(1).
2. روي عن رجل من بني سليم أنّه قال: جاورت أبا ذر (ت 32 هـ) بالربذة، وله فيها قطيع إبل، له فيها راع ضعيف، فقلت: يا أبا ذر، ألا أكون لك صاحبا؛ أكنف راعيك، وأقتبس منك بعض ما عندك، لعل الله أن ينفعني به؟ فقال أبو ذر: إن صاحبي من أطاعني، فإما أنت مطيعي فأنت لي صاحب، وإلا فلا، قلت: ما الذي تسألني فيه الطاعة؟ قال: لا أدعوك بشيء من مالي إلا توخيت أفضله، قال: فلبثت معه ما شاء الله، ثم ذكر له في الماء حاجة، فقال: ائتني ببعير من الإبل، فتصفحت الإبل، فإذا أفضلها فحلها ذلول، فهممت بأخذه، ثم ذكرت حاجتهم إليه، فتركته، وأخذت ناقة ليس في الإبل بعد الفحل أفضل منها، فجئت بها، فحانت منه نظرة، فقال: يا أخا بني سليم، خنتني، فلما فهمتها منه خليت سبيل الناقة، ورجعت إلى الإبل، فأخذت الفحل، فجئت به، فقال لجلسائه: من رجلان يحتسبان عملهما؟ قال رجلان: نحن، قال أما لا فأنيخاه، ثم اعقلاه، ثم انحراه، ثم عدوا بيوت الماء فجزئوا لحمه على عددهم، واجعلوا بيت أبي ذر بيتا منها، ففعلوا، فلما فرق اللحم دعاني، فقال: ما أدري، أحفظت وصيتي فظهرت بها، أم نسيت فأعذرك؟ قلت: ما نسيت وصيتك، ولكن لما تصفحت الإبل وجدت فحلها أفضلها، فهممت بأخذه، فذكرت حاجتكم إليه، فتركته، فقال: ما تركته إلا لحاجتي إليه، قلت: ما تركته إلا لذلك، قال أفلا أخبرك بيوم حاجتي!؟ إن يوم حاجتي يوم أوضع في حفرتي، فذلك يوم حاجتي، إن في المال ثلاثة شركاء: القدر لا ينتظر أن يذهب بخيرها أو شرها، والوارث ينتظر متى تضع رأسك ثم يستفيئها وأنت ذميم، وأنت الثالث، فإن استطعت أن لا تكونن أعجز الثلاثة فلا تكونن، مع أن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي، فأحببت أن أقدمه لنفسي(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٧٦.
(2) أبو نعيم في حلية الأولياء: ١/١٦٣.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء، تأملون العيش وتخشون الفقر(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن خثيم (ت 61 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه وقف سائل على بابه، فقال: أطعموه سكرا، فقيل: ما يصنع هذا بالسكر، فنطعمه خبزا فهو أنفع له، فقال: ويحكم أطعموه سكرا؛ فإن الربيع يحب السكر(1).
2. روي أنّه جاءه سائل في ليلة باردة، فخرج إليه فرآه كأنه مقرور، قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، فنزع برتشا له وأعطاه إياه، وذكر أنه كساه عروة(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: أراد بهذه الآية: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ الزكاة، يعني: حتى تخرجوا زكاة أموالكم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٠.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه لما نزلت: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ دعا بجارية له، فأعتقها(1).
__________
(1) الإمام أحمد في الزهد: ١/٣٤٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْبَرّ﴾ ما ثبت في القلوب من طاعة الله(1).
2. روي أنّه قال: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الزكاة(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٠٣.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١١٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ لن يكونوا أبرارا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ من المال(2).
3. روي أنّه قال: كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى فإنه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، حتى التمرة(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، يعني: الزكاة الواجبة(4).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٩.
(2) ابن جرير: ٥/٥٧٤.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/١١٠.
(4) تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٣٠٢.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾، يعني: الطاعة(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٠٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال في الآية: لن تنالوا بر ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوون من أموالكم، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يقول: محفوظ ذلك لكم، الله به عليم شاكر له(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٧٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ معناه الجنة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال عن قول الله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ما هذا الإحسان؟ فقال: (الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين، أليس الله عز وجل يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(1).
2. روي أنّه كان يتصدق بالسكر، فقيل له: أتتصدق بالسكر؟ فقال: نعم، إنه ليس شيء أحب إلي منه، فأنا أحب أن أتصدق بأحب الأشياء إلي(2).
__________
(1) الكافي: 2/126.
(2) الكافي: 4/61.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ التقوى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٠٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ لن تستكملوا التقوى حتى تنفقوا في الصدقة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ لن تستكملوا التقوى حتى تنفقوا في الصدقة: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ من الأموال، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: من صدقة، ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعني: عالم به، يعني: بنياتكم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يحتمل أن تكون الآية:
أ. في كفار منعهم عن الإسلام الزكاة والصدقات التي تجب في الأموال؛ كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا﴾ الآية [التوبة: 75 ـ 76]، إلى قوله: ﴿بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 77]: أخبر ـ عزّ وجل ـ لن تنالوا الإسلام حتى تنفقوا مما تحبّون من الأموال؛ وكقوله: ﴿لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 7]
ب. وتحتمل الآية في المؤمنين؛ رغبهم ـ عزّ وجل ـ في إنفاق ما يحبّون؛ كقوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الآية [البقرة: 177]: أخبر أنّ البرّ ما ذكر: من الإيمان به، وإيتاء المال في حبه:
• وروى عن أنس قال لما نزل قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال أبو طلحة: يا رسول الله، حائطى الذي في مكان كذا وكذا فهو لله، ولو استطعت أن أسرّه ما أعلنته؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اجعله في قرابتك ـ أو أقربائك)
• وروى عن ابن عمر أنه لما نزل هذا: أعتق جارية.
2. اختلف في البرّ:
أ. قيل: البرّ هو الجنة هاهنا.
ب. وقيل: البر هو الإسلام، إن كان في الكافرين.
ج. وقيل: لن تنالوا درجات الجنة، وما عند الله من الثواب إلا بإنفاق ما تحبون.
3. في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ دليل قبول القليل من الصدقة؛ لأنهم كانوا يمتنعون عن قليل التصدق استحقارا، فأخبر أنه بذلك عليم وإن قل، بعد أن يكون ذلك لله عزّ وجلّ.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/425.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ البر هو فعل الخير الذي يستحق عليه الثواب، وقوله: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ من الصدقات المفروضة وقيل من صدقة التطوع وكلا الأمرين جيد، وروينا أنه لما جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال له سيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها ابنه أسامة فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قبلت صدقتك.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/146.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في البر في قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن البر ثواب الله تعالى.
ب. الثاني: أنه فعل الخير الذي يستحق به الثواب.
ج. الثالث: أن البر الجنة، وهو قول السدي.
2. في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: في الصدقات المفروضات، وهو قول الحسن.
ب. الثاني: في جميع الصدقات فرضا وتطوعا، وهو قول ابن عمر.
ج. الثالث: في سبل الخير كلها من صدقة وغيرها.
3. روى عمرو بن دينار قال لما نزلت هذه الآية ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها (سبل) إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: تصدّق بهذه يا رسول الله، فأعطاها ابنه أسامة، فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قد قبلت صدقتك)
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/409.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في معنى البر في قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: البر من الله بالثواب في الجنة.
ب. الثاني: البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر، وقال السدي وعمرو بن ميمون: البر الجنة.
2. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ والفقير لا يجب عليه الصدقة وينال الجنة، وان لم ينفق؟ والجواب:
أ. الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة إلا أنه على ما يصح ويجوز من إمكان النفقة، فهو مقيد بذلك في الجملة إلا أنه اطلق الكلام للمبالغة في الترغيب فيه.
ب. ويجوز ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ في سبل الخير من الصدقة من وجوه الطاعة، وقال الحسن: هو الزكاة الواجبة وما فرض تعالى في الأموال خاصة.
ج. الأولى أن تحمل الآية على الخصوص بأن يقول: هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شيء أوجبه الله عليه دون من لم يجب عليه، ويكون ذلك أيضاً مشروطاً بأن لا يعفو الله عنه ـ على مذهبنا في جواز العفو ـ
د. أو يقول ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الكامل الواقع على أشرف الوجوه ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
3. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ إنما جاء على جهة جواب الشرط وإن كان الله يعلمه على كل حال، لأمرين:
أ. أحدهما: لأن فيه معنى الجزاء، فتقديره ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ﴾ يجازيكم به قل أو كثر، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه.
ب. الثاني: فإنه يعلمه الله موجوداً على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها.
4. الفرق بين البر، والخير: أن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيراً، وان وقع عن سهو، وضد البر العقوق، وضد الخير الشر، فبذلك بين الفرق بينهما.
5. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر في الآية الاولى ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ وصل ذلك بقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/531.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البِرُّ أصله من السعة، ومنه البَرُّ خلاف البحر، والبار فاعل البر، وهو الواسع الإحسان.
2. في اتصال الآية بما قبلها وجوه:
أ. قيل: إنه لما بَيَّنَ أنه لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا حث في هذه الآية على الصدقة في الدنيا لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة.
ب. وقيل: لما أوعد الكفار ووعد المؤمنين بالجنة بَيَّنَ ما تُنَالُ به الجنة.
ج. وقيل: لما بَيَّنَ أن ما أنفقه الكافر لا ينفعه مع كفره بين أن إنفاق المؤمنين ينفعهم، ويكون ذخيرة.
3. ﴿لَنْ تَنَالُوا﴾ أي لن تدركوا ﴿الْبَرُّ﴾:
أ. قيل: الجنة، عن ابن عباس ومجاهد وعمر وابن ميمون والسدي.
ب. وقيل: البر من الله بالثواب في الجنة.
ج. وقيل: الطاعة والتقوى، عن مقاتل وعطية وعطاء.
د. وقيل: لا تكونون أبرارًا صالحين أتقياء عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
4. ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ تخرجوا من مالكم:
أ. قيل: هي الزكاة الواجبة، وما فرض الله في الأموال خاصة، عن ابن عباس والحسن وأبي مسلم.
ب. وقيل: هو ما ينفقه المرء في سبيل الخير من الفرض والنفل، عن مجاهد وجماعة، وروي عن جماعة من الصحابة كأبي طلحة وأبي عمرو وغيرهما أنهم أعتقوا وتصدقوا:
• فروي أن أبا طلحة عند نزول هذه الآية قسم حائطا له في أقاربه، وكان أحب أمواله إليه بعد إذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له في ذلك.
• وجاء زيد بن حارثة بفرس وكان يحبها فقال: هذه في سبيل الله.
• وأعتق ابن عمرو جارية وكان يحبها، فقيل له في ذلك، فتلا هذه الآية.
• وتصدق الربيع بن جشم بكساء له في ليلة باردة، وتلا الآية.
ج. قال القاضي: والأقرب أن يحمل على الواجب.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾:
أ. قيل: ما يحتاج إليه المالك؛ لأن المال كله محبوب.
ب. وقيل: تنفقوا من الأحب ولا تنفقوا من الأدون، كقوله: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾، وقيل: مما تشتهون.
ج. وقيل: مما تحبون ادخاره وإمساكه.
د. وقيل: مما تحبون تناوله.
6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾ في أعمال البر ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾:
أ. يجازيكم عليه.
ب. وقيل: عليم بما تنفقون أنه الأفضل أو الأدون.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن البر والجنة لا تنال إلا بالإنفاق، وهذا لا يليق إلا بالواجب، فوجب أن يحمل عليه.
ب. أن الإنفاق يجب أن يكون من أحب ماله فلا يؤدي الأدون، وعن مجاهد أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وإذا حملنا الآية على الزكاة وغيرها من الواجبات لم يصح ادعا النسخ فيها.
8. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ على جهة جواب الشرط، والله تعالى يعلمه على كل حال؟ والجواب: فيه قولان:
أ. الأول: لأن فيه معنى الجزاء، تقديره: وما تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم قَلَّ، أم كثر؛ لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه.
ب. الثاني: فإنه يعلمه موجودًا على الوجه الذي يفعلونه من حسن النية وغيرها، كما كان يعلم أنكم ستفعلونها.
9. ﴿تُنْفِقُوا﴾ جزم لأنه شرط وجوابه ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/313.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البر: أصله من السعة، ومنه البر: خلاف البحر، والفرق بين البر والخير: أن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيرا، وإن وقع عن سهو، وضد البر: العقوق، وضد الخير: الشر.
2. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: لن تدركوا بر الله تعالى بأهل طاعته، واختلف في البر هنا:
أ. فقيل: هو الجنة، عن ابن عباس ومجاهد.
ب. وقيل: هو الطاعة والتقوى، عن مقاتل وعطاء.
ج. وقيل: معناه لن تكونوا أبرارا أي: صالحين أتقياء، عن الحسن.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾:
أ. قيل: أي: حتى تنفقوا المال، وإنما كني بهذا اللفظ عن المال، لأن جميع الناس يحبون المال.
ب. وقيل: معناه ما تحبون من نفائس أموالكم، دون أرذالها، كقوله تعالى ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾
ج. وقيل: هو الزكاة الواجبة، وما فرضه الله في الأموال، عن ابن عباس والحسن.
د. وقيل: هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات، عن مجاهد وجماعة:
• وقد روي عن أبي الطفيل قال: اشترى علي عليه السلام ثوبا فأعجبه، فتصدق به، وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة، ومن أحب شيئا فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافؤون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنة.
• وروي أن أبا طلحة قسم حائطا له في أقاربه عند نزول هذه الآية، وكان أحب أمواله إليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بخ بخ ذلك مال رابح لك.
• وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به! فقال رسول الله: أما إن الله قد قبلها منك.
• وأعتق ابن عمر جارية كان يحبها، وتلا هذه الآية، وقال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها.
• وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفا، فقال للضيف: إني مشغول، وإن لي إبلا، فاخرج وأتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال له أبو ذر: خنتني بهذه، فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أن الله يقول ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها من هلك أو موت، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك، ثم يستاقها، وأنت ذميم، وأنت الثالث: فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن، إن الله يقول ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي، فأحببت أن أقدمه لنفسي.
• وقال بعضهم: دلهم بهذه الآية على الفتوة فقال ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: بري بكم، إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من مالكم وجاهكم وما تحبون، فإذا فعلتم ذلك، نالكم بري وعطفي.
4. {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} جاء بالفاء على جواب الشرط، وإن كان الله يعلم ذلك على كل حال، وفيه وجهان:
أ. أحدها: إن تقديره: وما تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم به، قل أو كثر، لأنه عليم لا يخفى عليه شيء منه.
ب. والآخر: إن تقديره: فإنه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها.
5. سؤال وإشكال: كيف قال سبحانه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ والفقير ينال الجنة، وإن لم ينفق؟ والجواب: الكلام خرج مخرج الحث على الانفاق، وهو مقيد بالإمكان، وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، والأولى أن يكون المراد: لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه، حتى تنفقوا مما تحبون، وروي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن هذه الآية فقال: هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح يأمل الدنيا، ويخاف الفقر.
6. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما ذكر في الآية الأولى {لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا} وصل ذلك بقوله ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/793.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في البرّ في قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه الجنّة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ في آخرين، قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا برّ الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم.
ب. الثاني: التقوى، قاله عطاء، ومقاتل.
ج. الثالث: الطّاعة، قاله عطيّة.
د. الرابع: الخير الذي يستحق به الأجر، قاله أبو روق، قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، وإنما نفي وجود الكمال، فكأنه قال لن تنالوا البر الكامل.
2. في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنه الإنفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضّحّاك.
3. في المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها الصّدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضّحّاك.
ب. الثاني: أنها جميع الصّدقات، قاله ابن عمر.
ج. الثالث: أنها جميع النفقات التي يبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى:
• وروى البخاريّ ومسلم في (الصحيحين) من حديث أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالا من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء ـ وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمّه.
• وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئا أحبّ إليّ من جاريتي رميثة، فهي حرّة لوجه الله، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحها نافعا، فهي أمّ ولده، واسأل أبو ذرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: الصّلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصّدقة شيء عجب، فقال السّائل: يا أبا ذرّ لقد تركت شيئا هو أوثق عمل في نفسي ما ذكرته، قال ما هو؟ قال الصّيام، فقال: قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
4. قال الزجّاج: ومعنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي يجازي عليه.
__________
(1) زاد المسير: 1/304.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:
أ. لما بيّن الله تعالى أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة، فقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار، ثم قال في آية أخرى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [المطففين: 22] وقال أيضا: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: 5] وقال أيضا: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 22، 26] وقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177] فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفي هاهنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر.
ب. وفيه لطيفة أخرى، وهي أنه تعالى قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾ إلى آخر الآية، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير، وسماه البر ثم قال في هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات.
2. سؤال وإشكال: كلمة ﴿حَتَّى﴾ لانتهاء الغاية فقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ يقتضي أن من أنفق مما أحب، فقد نال البر، ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم، وإن لم يأت بسائر الطاعات، وهو باطل، والجواب: أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق في الدنيا إلا إذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة في الدنيا.
3. كان السلف إذا أحبوا شيئا جعلوه لله:
أ. روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به؟ فقال عليه السلام: (بخ بخ ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه، ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأبي بن كعب.
ب. وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة، فوجد زيد في نفسه فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله قد قبلها.
ج. واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له: لم أعتقتها ولم تصب منها؟ فقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
4. للمفسرين في تفسير البر قولان.
أ. أحدهما: ما به يصيرون أبرارا حتى يدخلوا في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة، واختلفوا:
• فمنهم من قال ﴿الْبَرُّ﴾ هو التقوى واحتج بقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]
• وقال أبو ذر: إن البر هو الخير، وهو قريب مما تقدم.
ب. الثاني: الثواب والجنة فكأنه قال: لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالإنفاق على هذا الوجه، واختلفوا:
• فمنهم من قال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي لن تنالوا ثواب البر.
• ومنهم من قال: المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم، وهو من قول الناس: برني فلان بكذا، وبر فلان لا ينقطع عني، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إلى قول: ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: 8]
5. اختلف المفسرون في قوله تعالى: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾:
أ. منهم من قال إنه نفس المال، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8]
ب. ومنهم من قال أن تكون الهبة رفيعة جيدة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 267]
ج. ومنهم من قال ما يكون محتاجا إليه، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان: 8] أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه، وقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر)
د. الأولى أن يقال: كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب.
6. اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق، هل هو الزكاة أو غيرها؟
أ. قال ابن عباس: أراد به الزكاة، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم، والقاضي اختار هذا القول، واحتج عليه بأن هذا الانفاق، وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار، والفوز بالجنة، بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق، لم يصر العبد بهذه المنزلة، وما ذاك إلا الانفاق الواجب، وأقول: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب.
ب. وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ حتى التمرة
7. نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي: أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى.
8. اختلف في كلمة (من) في قوله تعالى: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾:
أ. قال بعضهم كلمة (من) في قوله: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ للتبعيض، وقرأ عبد الله حتى تنفقوا بعض ما تحبون وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]
ب. وقال آخرون: إنها للتبيين.
9. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ قيل ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن فيه معنى الجزاء تقديره: وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح.
ب. الثاني: أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود، أم الأخس الأرذل، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: 270] قال الزمخشري (من) في قوله: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/289.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روى الأئمة واللفظ للنسائي عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اجعلها في قرابتك في حسان ابن ثابت وأبي بن كعب)، وفي الموطأ وكانت أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، وذكر الحديث.
2. في هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك، ألا ترى أبا طلحة حين سمع ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ الآية، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة، وكذلك فعل زيد ابن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس يقال له سبل، وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه، فجاء بها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: هذا في سبيل الله، فقال لأسامة بن زيد: (اقبضه)، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله قد قبلها منك)، ذكره أسد بن موسى، وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وروى شبل عن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله تعالى يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فأعتقها عمر، وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خيثم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سكرا، فإن الربيع يحب السكر، قال سفيان: يتأول قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها، فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب، وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
3. اختلفوا في تأويل ﴿الْبرّ﴾:
فقيل الجنة، عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي، والتقدير لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون، والنوال العطاء، من قولك نولته تنويلا أعطيته، ونالني من فلان معروف ينالني، أو وصل إلي، فالمعنى لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون.
وقيل: البر العمل الصالح، وفي الحديث الصحيح: (عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة)، وقد مضى في البقرة، قال عطية العوفي: يعني الطاعة، عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾:
أ. عن الحسن: هي الزكاة المفروضة.
ب. عن مجاهد والكلبي: هي منسوخة، نسختها آية الزكاة.
ج. وقيل: المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وهذا جامع:
أ. روى النسائي عن صعصعة بن معاوية قال: لقيت أبا ذر قال: قلت حدثني قال: نعم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما من عبد مسلم ينفق من كل ماه زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلا فبعيرين، وإن كانت بقرا فبقرتين.
ب. وقال أبو بكر الوراق: دلهم بهذه الآية على الفتوة، أي لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي.
ج. قال مجاهد: وهو مثل قوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان]
5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي وإذا علم جازى عليه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/133.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ هذا كلام مستأنف، خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار.
2. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ يقال: نالني من فلان معروف ينالني، أي: وصل إليّ، والنوال: العطاء، من قولك: نولته تنويلا، أعطيته، والبرّ: العمل الصالح، وقال ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعمر بن ميمون، والسدّي:هو الجنة.
3. معنى الآية: لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة، أي: تصلوا إلى ذلك، وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون، أي: حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها.
4. من تبعيضية، ويؤيده قراءة ابن مسعود: حتّى تنفقوا بعض ما تحبّون وقيل: بيانية وما موصولة، أو موصوفة، والمراد: النفقة في سبيل الخير، من صدقة، أو غيرها من الطاعات؛ وقيل المراد: الزكاة المفروضة، وقوله: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ بيان لقوله: {ما تُنْفِقُوا} أي: ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيبا أو خبيثا ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وما: شرطية جازمة، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ تعليل لجواب الشرط واقع موقعه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/414.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم، أي لن تبلغوا حقيقة البر، وتلحقوا بزمرة الأبرار، بناء على أن تعريف البر للجنس، أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون، أي تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم، كما في قوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 267](2)
2. قال القاشانيّ، في هذه الآية: كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به، وأشرك شركا خفيّا، لتعلق محبته بغير الله، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ﴾ [البقرة: 165]، وآثر نفسه به على الله، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه، وهي محبة غير الحق، والشرك، وإيثار النفس على الحق؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد، وحصل القرب، وإلا بقي محجوبا، وإن أنفق من غيره أضعافه، فما نال برّا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
3. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي فمجازيكم عليه، قليلا كان أو كثيرا، جيدا أو غيره.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/353.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ﴾ الإحسان الكامل الذي هو عبادة منكم، ﴿حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، أو لن تنالوا برَّ الله، أي: إحسانه إليكم الكامل ﴿حَتَّى﴾ إلخ، أو لن تنالوا ثواب البرِّ، أي: ثواب الطاعة ﴿حَتَّى﴾ إلخ، وبه قال ابن عبَّاس وابن مسعود ومجاهد، أو لن تكونوا أبرارا ﴿حتَّى﴾ إلخ، والمراد: الإنفاق الواجب وغير الواجب، والإنفاق من المال إطعاما وإشرابا وإلباسا وإسكانا وإعتاقا ووقفا، ومن الجاه ينفع به الأقارب والضعفاء وغيرهم، ومن البدن في العبادات وخدمة العلماء والأولياء والناس في كلِّ ما يرجع إلى البدن، ومن تفويت البدن، كالقتال في سبيل الله حتَّى يُقتل، وذلك من عموم المجاز، وهو استعمال الكلمة في المعنى الموجود في الحقيقة والمجاز كالصرف هنا:
أ. لَمَّا نزلت قال أبو طلحة: يا رسول الله، أَحَبُّ أموالي إلي (بَيرُحَى) فضعها حيث أراك الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (بخٍ بخٍ! ذلك مال رابح أو رائح، وإنِّي أرى أن نجعلها في الأقربين)، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه، وفي رواية لمسلم وأبي داود: (فجعلها لحسَّان بن ثابت وأُبيِّ بن كعب)، وذكر الربيع بن حبيب والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم الحديث.
ب. وجاء زيد بن حارثة بفرس يحبُّها فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد، فقال: زيد: يا رسول الله إِنَّمَا أردت أن أتصدَّق بها، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله قد قبلها منك)، رواه ابن المنذر وابن جرير مرسلا، ويستفاد من الحديثين والآية أنَّ إنفاق أحبِّ الأموال على الأقارب أو أقرب الأقارب أفضل.
ج. وكان ابن عمر ينفق السكَّر، فقيل: لو اشتريت طعاما وأنفقته، فقال: نعم، لكن قال الله: ﴿حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وأنا أحبُّ السكَّر، فحضرته الآية فلم يجد إلَّا جارية روميَّة تسمى لؤلؤة، وكانت أحبَّ ماله إليه فأعتقها.
د. وعن الحسن: (كلُّ ما أنفق المسلم من ماله لوجه الله تعالى فداخل في الآية)
2. المراد: من مطلق ما تحبُّون والمال كلُّه محبوب، والمشهور ما تقدَّم، بمعنى: ما تحبُّون أكثر من غيره، وقيل: المراد الزكاة مِمَّا لا يُسْتَرْذَلُ، ومن أنفق من غير ما يحبُّ نال ثوابًا غير كامل، ومن لم ينفق غير الواجب فاته ثواب الإنفاق أو ناله من عمل آخر، والفقير الذي لم يجد ما ينفق ينال الثواب من غير أعماله، وقد يكون أفضل من الإنفاق، وقد يكون الثواب الكامل بنيَّة من لم يجد، ومن اللعب جعل (ما) مصدريَّة، والمصدر بمعنى مفعول، أي: من حبِّكم، أي: محبوبكم، فإنَّه يغني عن ذلك جعلها اسما واقعا على المحبوب، أي: الذي تحبُّونه أو شيء تحبُّونه.
3. ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ﴾ زيادة في العموم، أي: مطلق ما يسمَّى شيئًا، ولا دلالة لـ (شَيْءٍ) على خبث أو طِيب إِلَّا من حيث العموم، فليجعل مع (مِن) نعتًا لـ (مَا) لا تمييزًا، ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يجازي عليه ولو رذلا مِمَّا هو رذل واجبًا، أو رذلا من طيب نفلا قليلا أو كثيرًا، ولا يدلُّ قوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ على الحثِّ على إخفاء الصدقة، بل على الحثِّ على مطلق الصدقة ظاهرة أو خفيَّة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/322.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر جمهور المفسرين أن قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ خطاب للمؤمنين وأنه كلام مستأنف سبق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكافرين ولا يقبل منهم، وذهب محمد عبده إلى أن الخطاب لا يزال لأهل الكتاب، ذلك أن من سنة القرآن أن يقرن الكلام في الإيمان بذكر آثاره من الأعمال الصالحة، وأدلها عليه بذل المال في سبيل الله فلما حاج أهل الكتاب في دعاويهم في الإيمان والنبوة وكونهم شعب الله الخاص وكون النبوة محصورة فيهم وكونهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودات خاطبهم في هذه الآية بآية الإيمان وميزان الصحيح، الذي يعرف به المرجوح والرجيح، وهو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية كأنه يقول: إنكم أيها المدعون لتلك الدعاوى والمفتخرون بالكتاب الإلهي واتصال حبل النسب بالنبيين قد أحضرت أنفسكم الشح وآثرتم شهوة المال على مرضاة الله وإذا أنفق أحدكم شيئا ما فإنما من أردأ ما يملك وأبغضه إليه وأكرهه عنده، لأن محبة كرائم المال في قلبه تعلو محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تفوق لديه الرغبة عند ربه من الرضى والمثوبة، ولن تنالوا البر فتعدوا من الأبرار الذين هم المؤمنون الصادقون، حتى تنفقوا مما تحبون، فحذف ذكر الإيمان استغناء بذكر أكبر آياته، وأوضح دلالاته، وهي إنفاق المحبوبات، وبذل المشتهيات.
2. المتبادر من الإنفاق هنا(2) هو إنفاق المال لأن شأنه عند النفوس عظيم حتى أن الإنسان كثيرا ما يخاطر بنفسه ويستسهل بذل روحه لأجل الدفاع عن ماله أو المحافظة عليه، وتؤيده آية ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 188] الآتية على أن المال يعم النقدين وغيرهما مما يتموله الناس وشرط البر بذل بعض ما يحبه الإنسان من كل شيء حتى الطعام وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8] أي على حبهم إياه، والوجه الثاني أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي لأجل حبه تعالى والمال يجمع جميع المحبوبات ويوصل إليها.
3. اختلفوا في البر المراد هنا الذي لا يناله المرء أي يصيبه ويدركه إلا إذا أنفق مما يحب، فقيل هو بر الله تعالى وإحسانه مطلقا، وقيل الجنة، وقيل هو ما يكون به الإنسان بارا وهو ما تقدم تفضيله في قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب لكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 188] الآية وفيها: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾ إلخ، وأنت ترى أنه في هذه الآية جعل إيتاء المال على حبه شعبة من شعب البر كما جعل في سورة الإنسان إطعام الطعام على حبه صفة من صفات الأبرار، ولكنه في الآية التي نفسرها جعل الإنفاق مما يحب غاية لا ينال البر إلا بالانتهاء إليها، وقد فهم منه بعضهم أن من أنفق مما يحب كان برا وإن لم يأت بسائر شعب البر من الإيمان بجميع أركانه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وليس ما فهم بصواب، إنما الصواب أن الإنسان لا يكون برا بالقيام بهذه الخصال حتى ينتهي إلى هذه الخصلة الإنفاق مما يحب وما جعلها غاية إلا وهي أشق على النفوس وأبعد عن الحصول إلا من وفقه الله تعالى ووهبه الكمال.
4. هذا الإنفاق غير الزكاة خلافا لما نقل في بعض الروايات، فإن الزكاة قد عدت في آية البقرة من شعب البر وأركانه بعد ذكر إيتاء المال على حبه، فدل ذلك على أنهما متغايران ولا يشرط في الزكاة أن تكون مما يحب المؤدي بل ورد أمر العاملين عليها باتقاء كرائم أموال الناس، ومن فضل الله تعالى علينا أن اكتفى منا في نيل البر بأن ننفق مما نحب ولم يشترط علينا أن ننفق جميع ما نحب.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه هل هو محبوب لديك أو مزهود فيه، وهل أنتم مخلصون في إنفاقه أم أنتم مراؤون طالبون للشهرة والجاه، فهو عز وجل يجازيكم على ما تنفقون بحسب ما يعلم من نيتكم ومن موقع ذلك من قلوبكم وقدر ما ترتقي بذلك أرواحكم، فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء ورب فقير لا يجد ما يحب فينفق منه ولكن قلبه يفيض بالبر حتى لو وجد ما أحب لأوشك أن ينفقه.
6. يذكر المفسرون في تفسير الآية ما كان عليه السلف الصالح من جعل ما يحبون لله تعالى، ذكر ابن جرير الشواهد على ذلك من روايته ونقل غيره من كتب الحديث بعض الوقائع(3).
7. هذا وما قبله من آيات سياسته صلّى الله عليه وآله وسلّم للقلوب، رأى أن زيدا وأبا طلحة قد خرجا بعاطفة الإيمان عن أحب أموالهما إليهما على تعلق القلوب بكرائم الأموال فجعل ذلك في الأقربين منهما ليثبت قلوبهما فلا يكون للشيطان سبيل إلى الوسوسة لهما بالندم أو الامتعاض إذا رأيا ذلك في أيدي الغرباء.
8. قد يمتعض المرء بعد فقد المحبوب وإن فارقه مختارا مرتاحا لعاطفة أو أريحية طارئة ثم لا يلبث أن يعاوده من الحنين إليه ما لا يعاوده إلى ما هو أغلى منه ثمنا إذا لم يكن من الكرائم المحبوبة، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمر عمال الصدقة باتقاء كرائم أموال الناس، ويدل على ما قررته في ذلك أثر ابن عمر الآتي: أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال حضرتني هذه الآية ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله تعالى، فلو أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعا: فانظر كيف راودته نفسه بعد عتقها أن يستبقيها لنفسه ولا يفارقها لولا أن كان مما تربت عليه نفسه العالية أن لا يعود في شيء جعله لله، وانظر كيف خص بها بعد ذلك مولاه نافعا الذي كان يحبه كولده.
9. آثار السلف في الإيثار وبذل المحبوبات في سبيل الله كثيرة:
أ. نزل بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا فدخل عليه رجل من الأنصار هو أبو طلحة زيد بن سهل فذهب به أهله فوضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج فقامت كأنها تصلحه فأطفأته وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام وبقي هو وعياله مجهودين فلما أصبح قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد عجب الله عز وجل من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم، ونزلت: {يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9] رواه الشيخان وغيرها من حديث أبي هريرة.
ب. واشتهى عبد الله بن عمر سمكة وكان قد نقه من مرض فالتمست بالمدينة فلم توجد حتى وجدت بعد مدة واشتريت بدرهم ونصف فأشويت وجيء بها على رغيف فقام سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام لفها برغيفها وادفعها إليه فأبى الغلام فرده وأمره بدفعها إليه ثم جاء بها فوضعها بين يديه وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرحمن فقد أعطيته درهما وأخذتها فقال لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له) أو غفر الله له، رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ من حديث نافع عن ابن عمر والدارقطني في الأفراد.
ج. وعن عمر أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأس شاة إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلما وصل إليه قال إن فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلم يزل يبعث به كل واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول، نقله أبو طالب في القوت والغزالي في الإحياء، ويشبه هذا ما حكى عن أبي الحسن الأنطاكي الصوفي أنه اجتمع عنده ثلاثون نفسا ونيفا وكانوا في قرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام واوهم كل واحد صاحبه أنه يأكل فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منه شيئا.
د. وفي الإحياء أن عبد الله بن جعفر خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيهم غلام أسود يعمل فيه، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال ما رأيت قال فلم آثرت هذا الكلب فقال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده، قال فما أنت صانع اليوم؟ قال أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: ألام على السخاء؟ إن هذا لأسخى مني، فاشترى الحائط (أي بستان النخل الذي يعمل فيه الغلام الأسود) والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه.
10. في هذه الآثار وأمثالها ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتمي إلى أولئك السلف الصالحين، والله ولي المؤمنين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تفسير المنار: 3/372.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
(3) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حاج الله تعالى أهل الكتاب فيما ادّعوه من الإيمان، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية، ولكنكم أيها المدّعون لتلك الدعاوى آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟
2. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى (2).
3. في هذه الآثار وأمثالها ما ينبغي أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.
4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي أيّ شيء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم، فربّ منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، وربّ فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبرّ، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره.
5. في هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة، كيلا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/211.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بمناسبة الإنفاق على غير درب الله، وفي غير سبيله، وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء، يبين البذل الذي يرضاه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي، وحرصوا على أن ينالوا البر ـ وهو جماع الخير ـ بالنزول عما يحبون، ويبذل الطيب من المال، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل.
2. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله، يوم هداهم إلى الإسلام، ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال، ومن شح النفس، ومن حب الذات؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحرارا خفافا طلقاء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/425.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة أهدرت قيمة الذهب، فكان لا ثمن له في يد من يملكه، ولو كان ملء الأرض! إذ ماذا ينفع المال في هذا اليوم، الذي لا بيع فيه ولا شراء؟ ومن هنا لم يكن لهذا المال الذي قدمه الكافر فدية له، وهو مال كثير، يملأ وجه الأرض كلها ـ لم يكن له أي أثر في رفع شر أو جلب خير!.. إنه مال مزهود فيه، لا تلتفت إليه عين، ولا تمتد إليه يد، فهو والتراب سواء! وفي هذه الآية يبين الله تعالى أن المال الذي يبذل، وللأنظار مطمح فيه، وللقلوب علقة به، وللنفوس هوى إليه ـ هو المال الذي يدفع به الشر، ويجلب به الخير.
2. وإذ كان ذلك كذلك، فإن المال المبذول في سبيل الله لا يبلغ بصاحبه منزلة الأبرار المقبولين عند الله، حتى يكون هذا المال أحبّ شيء عنده وآثره، إذ هنا يكون صاحب المال قد جاهد نفسه، وغلب هواه، وقهر دواعي الأثرة عنده، حتى نزل عن هذا الشيء المحبوب عنده، وأنفقه في وجوه الخير، طمعا في مرضاة الله، وابتغاء رضوانه.. وبهذا ينال ثواب المجاهدين، ويعطى أجر العاملين.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/524.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ استئناف وقع معترضا بين جملة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [آل عمران: 91] الآية، وبين جملة ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [آل عمران: 93]
2. افتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذان بأنّ شرائع الإسلام تدور على محور البرّ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرم حقيقته إلّا ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النّفسانيّة، فالمقصود من هذه الآية أمران: أوّلهما التّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ، وثانيهما التنويه بالبرّ الّذي الإنفاق خصلة من خصاله.
3. مناسبة موقع هذه الآية تلو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ، فبين الطرفين مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة.
4. الخطاب للمؤمنين لأنّهم المقصود من كلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيّن المقصود منه.
5. البرّ كمال الخير وشموله في نوعه: إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكميّة، وبهما معا، فبذل النّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعا، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّا أيضا، وروى النّوّاس بن سمعان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس) رواه مسلم، ومقابلة البرّ بالإثم تدلّ على أنّ البرّ ضدّ الإثم، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]
6. جعل الإنفاق من نفس المال المحبّ غاية لانتفاء نوال البرّ، ومقتضى الغاية أنّ نوال البرّ لا يحصل بدونها، وهو مشعر بأنّ قبل الإنفاق مسافات معنوية في الطريق الموصلة إلى البرّ، وتلك هي خصال البرّ كلّها بقيت غير مسلوكة، وأنّ البرّ لا يحصل إلّا بنهايتها وهو الإنفاق من المحبوب، فظهر لـ (حتّى) هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها: لأنّه لو قيل إلّا أن تنفقوا ممّا تحبّون، لتوهّم السامع أنّ الإنفاق من المحبّ وحده يوجب نوال البرّ، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات الّتي أشعرت بها (حتّى) الغائية.
﴿تَنَالُوا﴾ مشتقّ من النوال وهو التّحصيل على الشيء المعطي، والتّعريف في البرّ تعريف الجنس: لأنّ هذا الجنس مركّب من أفعال كثيرة منها الإنفاق المخصوص، فبدونه لا تتحقّق هذه الحقيقة، والإنفاق: إعطاء المال والقوت والكسوة.
7. ما صدق (ما) في قوله: ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ المال: أي المال النّفيس العزيز على النّفس، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف(من) للتبعيض لا غير، ومن جوّز أن تكون (من) للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تسبق بلفظ مبهم.
8. المال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاق منه أي التّصدق دليل على سخاء لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة، ويهنأ عيش الجميع.
9. بيّن الله خصال البرّ في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ في سورة البقرة [177]، فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممّا يعرض للمرء في أفعاله، وقد جمع الله بينه وبين التّقوى في قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث النّواس بن سمعان المتقدّم آنفا.
10. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ تذييل قصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيسا بحسب حال صاحبه كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة: 79]
11. ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ مراد به صريحه أي يطّلع على مقدار وقعه ممّا رغّب فيه، ومراد به الكناية عن الجزاء عليه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/153.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ الخطاب عام، وقد صدر بتأكيد النفي المنصب على نيل البر، والمعنى لن تنالوا وصف الأبرار الأخيار حتى تنفقوا مما تحبون، وفي هذه الآية حث على الإنفاق، وعلى القيام بالأعمال التي تكون فيها مخالفة للهوى ومنازعات النفس، وقد تكلم المفسرون في معنى البر المذكور في هذه الآية، فقال بعضهم: إن المراد الاتصاف به كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ [البقرة] إلى آخره، فالمعنى لن تنالوا وصف البر الذي هو خاصة الأخيار إلا بأن تنفقوا مما تحبون، وهذا ما نختاره، وهو الأوضح مما عداه، ولكن لم يذكر على هذا جزاء الآخرة، ونقول إن ذلك حكم من الله تعالى بأن الذين يفعلون ذلك من الأبرار، ولن ينال ذلك الوصف إلا المنفقون، وقد كنى بهذا اللفظ ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ عن المال، لأن جميع الناس يحبون المال، وقيل: معناه ما تحبون من نفائس أموالكم، دون أرذلها كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة]
2. روي أي عليا اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة، ومن أحب شيئا فجعله لله، قال تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافئك اليوم بالجنة)، ثم اعلموا أن الله يعلم كل ما تفعلون، ويعلم ما في نياتكم، ثم هو الذي يجازيكم على هذه الأعمال والنيات، فاختاروا لأنفسكم، إذا كنتم ترجون أحسن ما عند الله، فقدموا لأنفسكم أحسن ما عندكم، نسأل الله عزّ وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1315.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بالبر هنا إكرام الله، وتفضله على عبده.. وقد سبق تفسير العديد من الآيات التي حثت على الإنفاق، ولكن لهذه الآية ميزة على كل آية وردت في هذا الباب، لأنها لم تأمر بالإنفاق وكفى، كغيرها من الآيات، بل ربطت بين نيل الإنسان الدرجات العلى عند الله سبحانه، وبين إقدامه على التضحية بما يحب، فالعبادة المجردة عن التضحية لا تقرّب من الله بموجب دلالة هذه الآية، وكذا سائر الأعمال إلا ان ينطبق عليها نوع من الفداء والتضحية في سبيل الله.
2. على هذا يكون قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ بيانا وتفسيرا لكل آية ورواية حثت على العمل من أجل مرضاة الله، والقرب منه، بيانا وتفسيرا بأن القرب منه تعالى لا يحصل، ولن يحصل لأحد الا إذا بذل من نفسه وماله ما يحب.. وكأنّ الإمام علي عليه السلام أخذ من هذه الآية قوله: لا حاجة لله فيمن ليس لله في ماله ونفسه نصيب.
3. ان البذل مما تشح به النفس، وتحرص عليه، بخاصة المال هو المحك المميز بين الايمان الدخيل والأصيل.. فلقد كان المال، ولا زال معبود الملايين، وان كثيرا من الناس يخيل الشيطان اليهم انهم يعبدون الله سبحانه، وهم في حقيقتهم وواقعهم يعبدون الدرهم والدينار، ولكنهم لا يشعرون.
4. جاء في بعض الروايات ان إبليس كان قبل ضرب الدرهم والدينار في شغل شاغل، لإغواء الناس، وصرفهم عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان، ولا يجد فترة من راحة في ليل ولا نهار.. وبعد ان دارت الأيام، وضرب الدرهم والدينار تنفس إبليس الصعداء، وفرح فرحا لم يفرح مثله من قبل، وأقام حفلات الأنس والطرب، وكان يرقص، وهو يضع الدرهم على احدى عينيه، والدينار على الثانية، ويقول: لقد أرحتماني.. ولست أبالي بعد اليوم أعبد كما الناس، أم عبدوا الأوثان.
5. سواء أكانت هذه الرواية قضية في واقعة، أم كانت أسطورة من الأساطير فإنها تصوير صادق ورائع لعدم الفرق بين المال، وعبادة الأوثان، فكل منهما يصرف عن الله والحق، بل ان عبادة المال أسوأ أثرا، وأكثر ضررا، لأن المال مادة الشهوات، ومصدر الفساد في كثير من الأحيان.. فالذين خانوا أوطانهم انما خانوها من أجل المال، والذين حاربوا الأنبياء والمصلحين، وحرّفوا الدين، وشريعة سيد المرسلين انما فعلوا ذلك بعد أن قبضوا الثمن.. ومهما شككت فإني لا أشك ان الملحدين وعبدة الأوثان الذين لم يخونوا بلادهم، ولم يتآمروا على الأبرار والمخلصين لهم خير ألف مرة من الصائم المصلي، والحاج المزكي الذي تآمر مع أعداء الله على بيع البلاد، وأقوات العباد، اذن، لا عجب إذا أناط سبحانه نيل الدرجات عنده بالبذل والتضحية بالمال، وبالعزيز الغالي، حيث يكشف هذا البذل عن إيثار الحق على الباطل، والآجل على العاجل.
6. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ يدل بظاهره ان الجنة محرمة الا على من بذل الطيّب من ماله، مع العلم ان كثيرا من الناس، أو أكثر الناس لا يملكون شيئا، والجواب: ان الخطاب في الآية الكريمة يختص بالمالك القادر، أما العاجز الذي لا يملك شيئا فيجب أن يأخذ، لا أن يعطي، بل هو أحد موارد البذل والعطاء.. هذا، إلى ان الذين يجاهدون بأنفسهم أعظم درجة عند الله من الذين يجاهدون بأموالهم، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، كما قال الشاعر.
7. كما دلت الآية على ان القرب من الله سبحانه منوط بالبذل والتضحية فقد دلت أيضا على ان المال يكون مصدرا للخيرات، ووسيلة لطاعة الرحمن، كما يكون مادة للشهوات، ومرضاة الشيطان، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا لقي الله، وهو عليه غضبان، ومن طلبها استعفافا، وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة، ووجهه كالقمر ليلة البدر)، وقال الإمام عليه السلام: ما أعطي أحد من الدنيا شيئا إلا نقص حظه من الآخرة، فقال له بعض من حضر: والله انّا لنطلب الدنيا، فقال له الإمام: تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعلى عيالي، وأتصدق منها، وأحج، قال الإمام: ليس هذا من طلب الدنيا، هذا من طلب الآخرة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/108.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا﴾ الآية، من حيث تاريخ النزول.
2. ربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجها إليهم، ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم أهل البر والتقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ولا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: وفيه تمحل ظاهر!.. وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.
3. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، النيل هو الوصول، والبر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير.
4. مراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ الآية، ومن انضمام الآية إلى قوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الآية، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حياة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه، ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، وكان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، ونحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية.
5. يتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية، ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه، وما في قول آخرين: إن المراد به الجنة.
6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/344.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْبَرُّ﴾ وسيلة الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الانفطار:13] وهذه الآية تدل على أن العبد لا يكون برّاً إلا إذا بَرَّ بالإنفاق مما يحب؛ والإنفاق إما في سبيل الله؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [البقرة:195]، وقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]
2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعم المقبول وغير المقبول والجيد والخبيث، فهو يجعل للإنفاق حكمه، ولا يضيع ما يصلح قبوله ولو قليلاً، ولا يقبل الخبيث الذي ينفق ليتقى به الإنفاق الواجب من الطيب، ولا يقبل ما أنفق رئاء الناس أو لغرض دنيوي ليس لله.
3. هذه الآية خطاب للمسلمين جاءت بعد نهاية الاحتجاج على أهل الكتاب في شأن التوحيد ورسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وختم الكلام بوعيد الكفار، وبعد هذه الآية يعود الكلام مع أهل الكتاب في مواضيع غير ذلك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/502.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْبَرُّ﴾: التوسع في فعل الخير، ومنه البر هو خلاف البحر، لسعته، والبر: كلمة جامعة لكل صفات الخير، قال صاحب المجمع: (والفرق بين البرّ والخير، أن البرّ هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيرا وإن وقع عن سهو، وضد البر العقوق، وضد الخير الشرّ)
2. العطاء هو إحدى القيم الإنسانية التي أراد الله للإنسان أن يعيشها في حياته كخلق أصيل من سمات الشخصية التي يتصف بها بحيث تصدر منه المواقف بشكل عفوي، فيعطي الإنسان لأنه يحس بالحاجة إلى ذلك من خلال إنسانيته التي تدفعه إلى ذلك، وإذا أعطى فإنه لا يختار الأشياء التي تعافها نفسه ويكرهها طبعه فيمنحها للآخرين، لأن ذلك ليس مظهرا للعطاء بل هو وسيلة من وسائل التخلص من هذه الأشياء باسم العطاء، بل يختار الأشياء التي يحبها ويريدها مما هو أثير عنده وقريب إلى حاجاته وضروراته، فإن ذلك يحمل معنى التضحية التي يتمثل فيها روح العطاء السمح بأعلى مظاهرها:
أ. وقد جاء في مجمع البيان، أن عليّا عليه السّلام اشترى ثوبا فأعجبه، فتصدق به وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة، ومن أحبّ شيئا فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافؤون في ما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنة)
ب. ويروى عن الحسين بن علي والصادق عليهم السّلام أنهما كانا يتصدقان بالسكر ويقولان: إنه أحبّ الأشياء إلينا وقد قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾
3. الإنفاق لا يقتصر على المال ـ وإن كان الظاهر من الآية المال خاصة ـ بل يريد الله للإنسان أن ينفق من كل ما يحتاجه الناس مما هو عنده من مال أو جاه أو علم أو قوة أو غير ذلك، فإن السرّ في عظمة الإنفاق في الإسلام هو تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس في جميع المجالات من موقع المسؤولية والرغبة في القرب من الله، وقد أراد الله سبحانه أن يعرف الإنسان بأن للبرّ طريق رئيسي هو أن ينفق مما يحب، كما عرّفه بأن الله عليم بما ينفقه في السرّ والعلانية، وبالتالي لا يجب عليه أن يقف الإنسان في الإنفاق عند حدّ الأشياء الظاهرة، بل ينبغي له أن يراعي طبيعة الحال في ما تستلزمه من إسرار أو إعلان، فإن الجزاء يصل إليهما ممن عنده علم السرّ والعلانية، إنه أرحم الراحمين.
4. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ الذي يمنحه الله عباده من الرضوان ونعيم الجنة، وربما كان المراد بالفقرة أن الإنسان لا يصل إلى درجة البر بحيث يكون من الأبرار، أو إلى مستوى البرّ بالله وهو الطاعة والتقوى الدالان على عمق الإيمان والإخلاص لله في نفسه وحياته.
5. ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ من المال الطيب الذي تفضلونه، وتحبونه، وتميزونه عن غيره بكل درجاته، بحيث لا تنفقون قدر الحاجة بل ما يزيد عليها أيضا، كما في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: 219] ومن اختيار الطيب في مقابل الخبيث كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ [البقرة: 267] حتى تصل المسألة إلى درجة الإيثار الذي يعطي الإنسان من نفسه بما قد يؤدي إلى تفضيل الآخر على نفسه كما في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]، وقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8]، أي مع حاجتهم إليه وحبهم له، وهذا هو الذي يمثل أعلى درجات البر، لأنه يوحي بأن الإنسان قد وصل إلى درجة فقدانه للإحساس بحاجته واستغراقه في حاجة الآخرين من أجل رضوان الله، وذلك في عملية مقارنة بين حاجة الدنيا إلى المال وحاجة الآخرة إلى رضوان الله، وهذا يتمثل في الشهادة التي هي أعلى درجات البرّ، وقد ورد في الحديث (فوق كل ذي بر برّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه بر)
6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ﴾ سرّا وعلانية ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لأنه الذي يستوي لديه السر والعلن، فكل الأشياء مكشوفة عنده بارزة في علمه الذي لا يغيب عنه شيء، وفي ذلك إيحاء بأن الله لا يضيع إنفاقكم بل يجزيكم عليه لأنه يعلمه بكل تفاصيله.
7. جاء في مجمع البيان قال (روي أن أبا طلحة قسم حائطا له في أقاربه عند نزول هذه الآية، وكان أحب أمواله إليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بخ بخ، ذلك مال رابح لك، وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد، فكأنّ زيدا وجد في نفسه، وقال: إنما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما إن الله قد قبلها منك، وأعتق ابن عمر جارية كان يحبها، وتلا هذه الآية، وقال: لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها، وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفا فقال للضيف: إني مشغول وإن لي إبلا فاخرج وائتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال له أبو ذر: خنتني بهذه، فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي، مع أن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرّها من هلك أو موت، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم، وأنت الثالث، فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن، إنّ الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي، فأحببت أن أقدمه لنفسي)
8. جاء في تفسير أبي الفتوح الرازي، أنه كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدا، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة، وكانت تحبه حبا شديدا وتعتز به أكثر اعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم، مرّت على قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ فأوحى لها ذلك بأن تبيع أحجاره الكريمة وجواهره النفيسة ـ باعتبار أنّها أحب شيء لديها ـ لتنفق ثمنها في سبيل الله، وهكذا حفرت الآبار والقنوات في الصحراء ليشرب الناس الساكنون في الصحراء والمارّون فيها منها انسجاما مع جوّ هذه الآية.
9. وهكذا نجد أن هذه الآية قد تركت أثرا كبيرا في نفوس المسلمين، فتحولت إلى ذهنية تنفتح على الخير وسلوك يتحرك في اتجاهه، وحركت الخطط للتغيير، وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الله أن يستهدفوه في حركة الدعوة باللجوء إلى الأساليب الفنية التي تفتح القلب على الله من خلال الانفتاح على آياته، وتقود الواقع إلى تحقيق المبادئ الخيّرة في شريعة الله، لتتحول الحياة في المجتمع الإسلامي إلى حياة إسلامية حية تختزن كل الإسلام في وجدانها وحركتها وسلوكها العملي.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/149.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ لفظة (البر) في أصلها اللغوي تعني (السعة) ولهذا يقال للصحراء (البر) بفتح الباء، ولهذه الجهة أيضا يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم (البر) بكسر الباء، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك، بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد.
2. ذهب المفسّرون في تفسير (البر) في هذه الآية إلى مذاهب شتى، فمنهم من قال إن المراد به هو (الجنة)، ومنهم من قال أن المراد هو (الطاعة والتقوى) ومنهم من فسّره بأن معناه (الأجر الجميل)، غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو: أن لكلمة (البر) معنى واسعا يشمل كلّ أنواع الخير إيمانا كان أو أعمالا صالحة، كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو اعتبار (الإيمان بالله واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصلاة، والصيام، والوفاء، والاستقامة في البأساء والضراء) جميعها من شعب البر ومصاديقه، وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطا عديدة، منها: لإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال، لأن الحبّ الواقعي لله، والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين، وواجه خيارين لا ثالث لهما، ويقع في أحد الجانبين الثروة، أو المنصب، والمكانة المحببة لديه، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير، ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر، ويتغاضى عنه، فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته، وبرهن على حبه، وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه، وإذا اقتصر ـ في هذا السبيل ـ على إنفاق الحقير القليل، وبذل ما لا يحبه ويهواه، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة، والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية، وأنه ليس إلّا بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية، ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان، ومدى تجذره في ضميره.
3. لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين الأوائل، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول، إلّا وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات:
أ. كان (أبو طلحة) أكثر أنصاري المدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول: لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: افعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
ب. أضاف أبو ذر الغفاري ضيفا، فقال للضيف: إني مشغول، وأن لي إبلا فاخرج وآتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر: خنتني بهذه، فقال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي، مع أن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
ج. كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّا، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حبا شديدا وتعتز به أكبر اعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فتأملت فيه، وغاصت في معناه وتأثرت بندائه فقالت في نفسها: (إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله)، فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره وأحجاره الكريمة عليهم ثمّ هيأت بثمنها آبارا وقنوات من الماء في صحراء الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون، ويقال أن بقايا هذه الآبار لا تزال باقية وتدعى باسمها عند الناس.
4. حتّى يطمئن المنفقون إلى أن أي شيء ممّا ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق ممّا يحبون بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ إنه يعلم بما تنفقونه صغيرا أم كبيرا، تحبونه أو لا تحبونه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/593.
46. التشدد والافتراء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈46⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [آل عمران: 93 ـ 94]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال في رجل جعل امرأته عليه حراما: حرمت عليه كما حرم إسرائيل على نفسه لحوم الجمل؛ فحرم عليه، قال مسروق: إن إسرائيل كان حرم على نفسه شيئا كان في علم الله أن سيحرمه إذا نزل الكتاب، فوافق تحريم إسرائيل ما قد علم الله أنه سيحرمه إذا نزل الكتاب، وأنتم تعمدون إلى الشيء قد أحله الله لكم فتحرمونه على أنفسكم، ما أبالي إياها حرمت أو قصعة من ثريد(1).. وهو معارض بآثار أخرى تخالفه.
__________
(1) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وكذبوا، ليس في التوراة، وإنما لم يحرم ذلك إلا تغليظا لمعصية بني إسرائيل بعد نزول التوراة، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقالت اليهود لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: كان موسى يهوديا على ديننا، وجاءنا في التوراة تحريم الشحوم وذي الظفر والسبت، فقال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذبتم، لم يكن موسى يهوديا، وليس في التوراة إلا الإسلام)، يقول الله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، أفيه ذلك؟ وما جاءهم بها أنبياؤهم بعد موسى، فنزلت في الألواح جملة(1).
2. روي أنّه قال: حرم على نفسه العروق، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله، لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، وليس مكتوبا في التوراة، وسأل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نفرا من أهل الكتاب، فقال: (ما شأن هذا حراما؟)، فقالوا: هو حرام علينا من قبل الكتاب، فقال الله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ حرم العروق ولحوم الإبل، كان به عرق النسا، فأكل من لحومها، فبات بليلة يزقو، فحلف أن لا يأكله أبدا(3).
4. روي أنّه كان يقول: الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتين، والشحم إلا ما كان على الظهر، فإن ذلك كان يقرب للقربان فتأكله النار(4).. وهو معارض بآثار أخرى تخالفه
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٨٠.
(2) ابن جرير: ٥/٥٨٠ واللفظ له، وابن أبي حاتم: ٣/٧٠٦.
(3) ابن جرير: ٥/٥٨٦.
(4) ابن المنذر: ١/٢٩١.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وكذبوا وافتروا، ولم ينزل التوراة بذلك(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٠٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها ما شاء، وحل لهم ما شاء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٠٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ معناه اختلق(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، قالت اليهود: إنما نحرم ما حرم إسرائيل على نفسه، وإنما حرم إسرائيل العروق، كان يأخذه عرق النسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئن الله عافاه منه لا يأكل عرقا أبدا، فحرمه الله عليهم، ثم قال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ما حرم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠](1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٧٨.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: قال إسرائيل: إن الله شفاني لأحرمن أطيب الطعام والشراب، أو قال أحب الطعام والشراب إلي، فحرم لحوم الإبل وألبانها(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٢٦.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: عن قول الله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾: إن إسرائيل كان إذا أكل لحوم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرم على نفسه لحم الإبل، وذلك من قبل أن تنزل التوراة، فلما أنزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله(1).
2. روي أنّه قال: الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر(2).
3. روي أنّه قال: إنّا أهل بيت صدّيقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصدق الناس لهجة وأصدق البريّة كلّها، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان الإمام علي أصدق من برأ الله بعد رسول الله وكان الّذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ(3).
4. روي أنّه قال: لعن الله عبد الله بن سبأ إنّه ادّعى الربوبيّة في أمير المؤمنين، وكان والله الإمام علي عبدا لله طائعا، الويل لمن كذب علينا، وإنّ قوما يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم(4).
__________
(1) الكافي: 5/306.
(2) من لا يحضره الفقيه 3/374.
(3) رجال الكشّي: ص108.
(4) رجال الكشّي: ص107.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يقول الله تعالى يعيبهم: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بأن الله حرمه في التوراة: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ البيان ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾، وذلك أن يعقوب بن إسحاق خرج ذات ليلة ليرسل الماء في أرضه، فاستقبله ملك، فظن أنه لص يريد أن يقطع عليه الطريق، فعالجه في المكان الذي كان يقرب فيه القربان، يدعى: شانير، فكان أول قربان قربه بأرض المقدس، فلما أراد الملك أن يفارقه غمز فخذ يعقوب برجليه؛ ليريه أنه لو شاء لصرعه، فهاج به عرق النساء، وصعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فلقي منها البلاء، حتى لم ينم الليل من وجعه، ولا يؤذيه بالنهار، فجعل يعقوب لله تعالى تحريم لحم الإبل وألبانها ـ وكان من أحب الطعام والشراب إليه ـ لئن شفاه الله، قالت اليهود: جاء هذا التحريم من الله تعالى في التوراة، قالوا: حرم الله على يعقوب وذريته لحوم الإبل وألبانها، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: قل لليهود: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ فاقرؤوها: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأن تحريم لحوم الإبل في التوراة، فلم يفعلوا(1).. وهو مخالف لعصمة الأنبياء عليهم السلام.
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٠.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، قد ذكر أن إسرائيل أصابته علة من عرق النساء، وقد قيل: إنها عروق خرجت به، فحرم على نفسه: ألا يأكل عرقا، ولا يأكل لحوم الإبل؛ فهذا الذي حرم إسرائيل، فكانوا إذا ذبحوا الذبيحة أخرجوا عروقها جميعا؛ فهذا تفسير الآية ومعناها.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/175.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ الآية، قال ابن عباس: وكان الطعام كله حلالا، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير.
2. ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يعني: يعقوب، حرم على نفسه لحم الإبل وألبانها، وكان من أحب الطعام إليه، إن ثبت ما ذكر في القصّة: أن يعقوب عليه السلام أقبل يريد بيت المقدس، فلقيه ملك، فظن يعقوب أنه لص؛ فعالجه يصارعه حتى أضاء له الفجر، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب، فتهيج عليه عرق النسا؛ فكان يبيت الليل ساهرا من وجعه، فأقسم: لئن شفاه الله ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه؛ فشفاه الله من ذلك؛ فحرم لحم الإبل وألبانها؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه، فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من الله تعالى والأمر منه.
3. ثم إن اليهود قالوا: إنما كان تحريم ذلك من الله في التوراة؛ فأمر الله تعالى نبيّه أن قل لهم: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن ذلك التحريم من الله في التوراة.
4. ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم؛ كقوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ الآية [النساء: 160]؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم، فدعوا بإحضار التوراة؛ ليظهر كذبهم، فأبوا ذلك.
5. لا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه إثبات دلالة رسالة رسولنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عمّا أسرّوا، وأظهر ما كتموا، قال أبو يزيد: إنما قدر أهل الكتاب على تغيير كتابهم، والزيادة فيه والنقصان، ولم يكن لأحد تغيير القرآن عن وجهه، أو زيادة فيه أو نقصان منه؛ لأن كتبهم تشبه كلام غيره من الحكماء؛ فغيروا بغيره من كلام الحكماء، وأمّا القرآن: فهو آية معجزة، لم يقدروا على تحريفه ولا تبديله، وإن علم أنه كان كما ذكر؛ وإلا فهو ـ والله أعلم ـ ليهتك عليهم أستارهم، وليظهر منهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/426.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وسبب نزولها أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لحوم الإبل فأخبر الله بتحليلها لهم حتى حرمها إسرائيل على نفسه لأنه لما أصابه وجع العرق الذي يقال النسأ نذر تحريم العروق على نفسه وأحب الطعام إليه وكانت لحوم الإبل أحب الطعام إليه، وتحريم إسرائيل ذلك على نفسه كان بإذن من الله تعالى، وإنما اتبعت اليهود إسرائيل في تحريم ذلك.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/146.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لحوم الإبل، فأخبر الله تعالى بتحليلها لهم حين حرّمها إسرائيل على نفسه، لأنه لما أصابه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا، نذر تحريم العروق على نفسه، وأحب الطعام إليه، وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه.
2. اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا ـ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء.. على قولين:
أ. أحدهما: لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.
ب. الثاني: باجتهاده من غير إذن، وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد.
3. اختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين:
أ. أحدهما: أنهم حرموه على أنفسهم اتباعا لإسرائيل.
ب. الثاني: أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها، والأول أصح.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/410.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجه اتصال هذه الآية بما تقدم أنه تعالى، لما ذكر الإنفاق مما يحب، ومن جملة ما يحب الطعام، فذكر حكمه، وأنه كان مباحاً حلالا ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾
2. كان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لحوم الإبل، فبين الله تعالى أنها كانت محللة، لإبراهيم، وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه، وحاجهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضار التوراة لعلمهم بصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما أخبر أنه فيها.
3. كان إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم نذر إن برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها، فلما برأ وفي لله بنذره، وقال ابن عباس والحسن: إن إسرائيل أخذه وجع العرق الذي يقال له النساء، فنذر إن شفاه الله أن يحرم العروق ولحم الإبل [على نفسه]، وهو أحب الطعام إليه.
4. سؤال وإشكال: كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئاً، وهو لا يعلم ما له فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة؟ والجواب: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعلمه، وكان الله أذن لاسرائيل في هذا النذر، فلذلك نذر، وفي الناس من استدلّ بهذه الآية على أنه يجوز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجتهد في الأحكام، لأنه إذا كان أعلم ورأيه أفضل كان اجتهاده أحق، وهذا الذي ذكروه إن جعل دليلا على أنه كان يجوز أن يتعبد النبي بالاجتهاد، كان صحيحاً، وإن جعل دليلا على أنه كان متعبداً به، فليس فيه دليل عليه، لأنا قد بينا أن إسرائيل ما حرم ذلك إلا بإذن الله، فمن أين إن ذلك كان محرماً له من طريق الاجتهاد، فأما من امتنع من جواز تعبد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالاجتهاد، بأن ذلك يؤدي إلى جواز مخالفة أمته له إذا أداهم الاجتهاد إلى خلاف اجتهاده فقد أبعد، لأنه لا يمتنع أن يجتهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الاجتهاد إلى خلاف ما أدى اجتهاد الأمة إليه، فوجب اتباعه ولا يلتفت إلى اجتهاد من يخالفه، كما أن الأمة يجوز أن تجمع على حد عن اجتهاد، وإن لم يجز مخالفتها فبطل قول الفريقين.
5. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الافتراء: اقتراف الكذب وأصله قطع ما يقدر من الأدم، يقال فرى الأديم يفريه فرياً: إذا قطعه، فقيل للكذب الفرية، لأنه يقطع به على التقدير من غير تحقيق.
6. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ وعلى للاستعلاء، فما معناها هاهنا؟ والجواب: معناها إضافته الكذب إليه من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله فأوجب ما لم يوجبه، وكذب عليه بخلاف كذب له، لأن كذب عليه يفيد أنه كذب فيما يكرهه، وكذب له قد يجوز فيما يريده.
7. سؤال وإشكال: كيف قيد وعيد المفتري على الله الكذب ب {من بعد ذلك} وهو يستحق الوعيد بالكذب عليه على كل حال؟ والجواب: المراد به البيان أنه يلزم من بعد إقامة الحجة على العبد فيه، لأنه لو كذب على الله عز وجل فيما ليس بمحجوج فيه لجرى مجرى كذب الصبي الذي لا يستحق الوعيد به.
8. إنما وصف المفتري على الله كذباً بأنه ظالم، من حيث كان ظالماً لنفسه، ولمن استدعى إلى مذهبه فيما يكذب به، لأن ذلك الكذب يستحق به العقاب، والظلم والجور واحد وإن كان أصلهما مختلفاً، لأن أصل الظلم النقصان للحق، والجور العدول عن الحق، ولذلك قيل في ضد الظلم الانصاف، وفي ضد الجور العدل، والانصاف هو إعطاء الحق على التمام.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/532.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطعام: المأكول، يقال: طعمت الشيء طعمًا، والطعام يقع في كل ما يطعم حتى الماء، ومنه ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ وقيل: الطعام: البُرُّ خاصة، وهو في العرف وأصل اللغة ما ذكرناه أولاً.
ب. الحل: الحلال خلاف الحرام.
ج. الافتراء: اقتراف الكذب، وأصله قطع ما يقدر من الأديم، فرى الأديم يَفْرِيهِ فريًا، وسمي الكذب فرية وافتراء؛ لأنه يقطع به على التقدير من غير تحقيق.
د. الظلم والجور نظيران وبينهما فرق، فالظلم: النقصان للحق، والجور: العدول عن الحق؛ ولذلك خولف بين النقيضين، فنقيض الجور العدل، ونقيض الظلم الإنصاف.
هـ. الكذب خلاف الصدق، وهو الخبر عن الشيء بخلاف ما هو به.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: لما قال النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم لليهود والنصارى: أنا على ملة إبراهيم، قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها!؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: كان ذلك حِلّا لإبراهيم فنحن نحله، فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرمًا على نوح وإبراهيم هلم جرا حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، عن الكلبي وأبي روق.
ب. وقيل: حاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدقه فيما أخبر به، فنزلت الآية.
3. في اتصال الآية بما قبلها وجوه:
أ. قيل: إنه تفصيل لتلك الجملة لأنه ذكر الإنفاق مما يحب، وكان مما يحب الطعام فرغب فيه وذكر حكمه، عن علي بن عيسى.
ب. وقيل: لما تقدم محاجتهم في الدين وملة إبراهيم، وكان مما أنكروا على نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم تحليله لحم الجزور، وزعموا أنه كان محرمًا على إبراهيم مذكور في التوراة أنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبًا لهم.
ج. وقيل: إنه تعالى ذكر من أسرار أخبارهم وشرائعهم ما دلهم على صدقه، وكلفهم أن يأتوا بالتوراة، ولو أتوا بها لافتضحوا؛ فلذلك ذكر كل الطعام، عن الأصم.
د. وقيل: لما تقدم محاجة اليهود وكانوا ينكرون نبوة نبينا، ونسخه شريعةَ مَنْ قَبْلَهُ، فأورد هذا الكلام حجة عليه في نسخ الشرائع، وبَيَّنَ أن التوراة كما نسخت شريعة من قبله، كذلك لا تنكروا أن شريعة محمد نسخت شريعة مَنْ قبله، عن أبي مسلم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾:
أ. قيل: يعني كل المأكولات، وهو الوجه.
ب. وقيل: إنه على عمومه.
ج. وقيل: بل المراد به الطيب المحلل.
5. ﴿كَانَ حِلًّا﴾ أي كان حلالاً ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ لبني يعقوب ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ يعقوب ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ اختلفوا في ذلك الطعام:
أ. قيل: العروق ولحوم الإبل، عن ابن عباس والحسن وعطاء وأبي العالية وجماعة.
ب. وقيل: حرم العروق، عن مجاهد والضحاك والسدي.
ج. وقيل: حرم الكبد والكليتين والشحم إلا ما على الظهور، عن عكرمة.
د. وقيل: حرم لحوم الأنعام، عن مجاهد.
6. اختلفوا في السبب الذي لأجله حرم ذلك:
أ. قيل: أخذه وجع العرق الذي يقال له: عرق النساء، فنذر إن شفاه الله أن يحرم العروق وأحب الطعام إليه، وهو لحوم الإبل، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل، وهو قول أبي علي.
ب. وعن ابن عباس أن عصابة من اليهود جاؤوا إلى نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدًا وطال سقمه، فنذر إن عافاه الله من سقمه ليحرم أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب ذلك إليه لحوم الإبل وألبانها؟ فقالوا: نعم، قال ابن عباس: فلما حرمه يعقوب على نفسه قالت اليهود: حرمنا على أنفسنا؛ لأن يعقوب حرمه على نفسه.
ج. وعن الحسن: حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله، وسأل أن يجيز ذلك له، فحرمه الله على ولده.
7. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ يعني كان هذا التحريم قبل نزول التوراة، اختلفوا في هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل:
أ. فقيل: إنه تعالى حرم عليهم ما كانوا يحرمونه قبل نزولها اقتداء بنبيهم يعقوب، عن السدي.
ب. وقيل: إنه حرم عليهم لتحريم يعقوب فإنه نذر ألا يأكله ولا ولده ولم يكن محرمًا في التوراة، عن عطية.
ج. وقيل: لم يحرم ذلك في التوراة، وإنما حرم بعد ذلك بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبًا عظيمًا حرم عليهم طعامًا طيبًا، أو صب عليهم وجزًا وهو الموت، عن الكلبي دليله ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾
د. وقيل: لم يكن شيء من ذلك حرام عليهم ولا حرمه الله تعالى، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعًا لأمتهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله تعالى.
8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ أي فاقرؤوها لتبيين أنه كما قلت أو كما قنتم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ أي فمن كذب الله ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي من بعد ظهور البينة والحجة، قيل: بعد مجيء التوراة ﴿فَأُولَئِكَ﴾ يعني المفترين على الله الكذب ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل: أولئك القائلون على الله الباطل.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن إسرائيل حرم على نفسه ما كان حلالاً له فتدل أن للرسول أن يفعل ذلك، لولاه لما فعله، واختلفوا كيف حرمه:
• قيل: بالاجتهاد.
• وقيل: وفق للصواب.
• وقيل: بالنذر.
• وقيل: بنص ورد عليه.
• وقيل: حرمه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذة على نفسه.
ب. أنه محرم على بني إسرائيل من حيث وقع عليه الاستثناء، ولا يجوز أن يحرم عليهم إلا بدليل إما على جملة أو تفصيل، وذلك الدليل يجوز أن يكون نصًّا أو اجتهادًا أو نذرًا، ويجوز أن يكون في شريعته كلما نذر تحريمه عليه وعلى أمته يحرم.
ج. جواز نسخ الشرائع؛ لأنه تعالى أخبر أنه حرم في شريعة إسرائيل دون شريعة إبراهيم ومن تقدمه.
د. معجزة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه ادعى على كتابهم ما فيه، وادعى إحضاره ليظهر كذبهم فلم يحضروه مخافة الفضيحة.
هـ. عظيم إثم من يكذب على الله، وذلك يكون في الديانات والفتاوى وغير ذلك، وتدل على أن كل معصية ظلم؛ لأن من أعظم الظلم أن يظلم العبد نفسه بفعل ما استحق به العقاب الدائم.
10. أصل ﴿عَلَى﴾ من الاستعلاء، ومعناه في الآية إضافة الكذب إليه من جهة أنه أمر به، ولم يأمر، وأوجب ولم يوجب، وأما كذب عليه) فإنما هو فيما يكذبه، وكذب له) قد يكون فيما يريده.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/315.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الافتراء: اقتراف الكذب، وأصله قطع ما قدر من الأديم يفريه فريا: إذا قطعه.
ب. على: للاستعلاء ومعناه هنا: إضافة الكذب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله، وأوجب ما لم يوجبه الله، وفرق بين من كذب عليه، وكذب له، لأن من كذب عليه يفيد أنه ككذب فيما يكرهه، وكذب له يجوز أن يكون فيما يريده.
2. أنكر اليهود تحليل النبي لحوم الإبل، فقال: كل ذلك كان حلا لإبراهيم، فقالت اليهود: كل شيء تحرمه فإنه محرم على نوح وإبراهيم وهلم جرا، حتى انتهى إلينا، فنزلت الآية، عن الكلبي وأبي روق.
3. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾ أي: كل المأكولات ﴿كَانَ حِلًّا﴾ أي: كان حلالا ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ أي: يعقوب ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ اختلفوا في ذلك الطعام:
أ. فقيل: إن يعقوب أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا، فنذر إن شفاه الله أن يحرم العروق، ولحوم الإبل، وهو أحب الطعام إليه، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
ب. وقيل: حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدا لله تعالى، وسأل الله أن يجيز له، فحرم الله ذلك على ولده، عن الحسن.
ج. وقيل، حرم زائدتي الكبد، والكليتين، والشحوم، إلا ما حملته الظهور، عن عكرمة.
4. اختلف في أنه كيف حرمه على نفسه:
أ. فقيل: بالاجتهاد.
ب. وقيل: بالنذر.
ج. وقيل: بنص ورد عليه.
د. وقيل: حرمه كما يحرمه المستظهر في دينه من الزهاد، اللذة على نفسه.
5. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ معناه: إن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل، قبل أن تنزل التوراة على موسى، فإنها تضمنت تحريم بعض ما كان حلالا لبني إسرائيل، واختلفوا فيما حرم عليهم، وحالها بعد نزول التوراة:
أ. فقيل: إنه حرم عليهم ما كانوا يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عليه السلام عن السدي.
ب. وقيل: لم يحرم الله عليهم في التوراة، وإنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا، وصب عليهم رجزا من الموت، وذلك قوله ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ عن الكلبي.
ج. وقيل: لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله تعالى، عن الضحاك.
6. كذبهم الله، وقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ حتى يتبين أنه كما قلت، لا كما قلتم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم، فاحتج عليهم بالتوراة، وأمرهم بالإتيان بها، وإن لم يقرأوا ما فيها، فإن كان في التوراة أنها كانت حلالا للأنبياء وإنما حرمها إسرائيل، فلم يجسروا على إتيان التوراة لعلمهم بصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبكذبهم، وكان ذلك دليلا ظاهرا على صحة نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ علم بأن في التوراة ما يدل على كذبهم من غير تعلم التوراة وقراءتها.
7. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: فمن افترى الكذب على الله تعالى من بعد قيام الحجة، وظهور البينة، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ هم المفترون على الله الكذب، و﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم.
8. إنما قال ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله على كل حال، لأنه أراد بيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه، من كذب فيما ليس بمحجوج فيه، جرى مجرى الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه.
9. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنها تفصيل للجملة المتقدمة، فإنه ذكر الترغيب في الانفاق من المحبوب والطعام مما يجب، فرغب فيه، وذكر حكمه، عن علي بن عيسى.
ب. وقيل: إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم، وكان فيما أنكروا على نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم تحليل لحم الجزور، وادعوا تحريمه على إبراهيم عليه السلام، وأن ذلك مذكور في التوراة، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/794.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزولها أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أنا على ملّة إبراهيم)، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل، وتشرب ألبانها؟ فقال: (كان ذلك حلالا لإبراهيم)، فقالوا: كلّ شيء نحرّمه نحن، فإنه كان محرّما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم، قاله أبو روق، وابن السّائب.
2. ﴿الطَّعَامَ﴾: اسم للمأكول، قال ابن قتيبة: والحلّ: الحلال، والحرم والحرام، واللبس واللباس، وفي الذي حرّمه على نفسه، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لحوم الإبل وألبانها، روي عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وأبي العالية في آخرين.
ب. الثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول مجاهد، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ في آخرين.
ج. الثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشّحم إلا ما على الظّهر، قاله عكرمة.
3. في سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه طال به مرض شديد، فنذر: لئن شفاه الله، ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشّراب إليه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنه اشتكى عرق النّسا فحرّم العروق، قاله ابن عباس في آخرين.
ج. الثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه (النّسا) اجتناب ما حرّمه، فحرّمه، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
د. الرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النّسا فيبيت وقيدا، فحرّمه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
4. اختلفوا هل حرّم ذلك بإذن الله، أم باجتهاده؟ على قولين.
5. اختلفوا بما ذا ثبت تحريم الطعام الذي حرّمه على اليهود، على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه حرّم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرّما في التّوراة، قاله عطيّة، وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد.
ب. الثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرّم عليهم بالشّرع، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فأكذبهم الله بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾، هذا قول الضّحّاك
ج. الثالث: أن الله حرّمه عليهم بعد التوراة لا فيها، وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما، حرّم عليهم به طعام طيّب، أو صبّ عليهم عذاب، هذا قول ابن السّائب، قال ابن عباس: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!.
6. ﴿فَمَنِ افْتَرَى﴾ يقول: اختلق ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعد البيان في كتابهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتّوراة وتلاوتكم.
__________
(1) زاد المسير: 1/305.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب، وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يدعي أن كل الطعام كان حلًا ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلًا والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً.
2. الآية الكريمة تحتمل وجوهاً:
أ. الأول: أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على إنكار النسخ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ فذاك الذي حرمه على نفسه، كان حلالًا ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ، فبطل قولكم: النسخ غير جائز، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فعند هذا طلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم:
• أحدها: أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ، وهو لازم لا محيص عنه.
• ثانيها: أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى.
• ثالثها: أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان رجلًا أمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم.
ب. الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه، فأجاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذه الشبهة بأن قال ذلك كان حلًا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام.
ج. الثالث: أنه تعالى لما أنزل قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146]، وقال أيضا: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160] فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه، فشق ذلك على اليهود من وجهين:
• أحدهما: أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أنت كانت مباحة، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه.
• الثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة، بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً، فطالبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ.
3. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾ قال الزمخشري: (أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام)، واختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا، ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده، واحتجوا عليه بوجوه:
• أحدها: أنه تعالى أدخل لفظ ﴿كُلِّ﴾ على لفظ الطعام في هذه الآية، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك.
• ثانيها: أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: 2، 3]
• ثالثها: أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع، فقال: ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ [ق: 10، 11] فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشري.
ب. أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشري.
4. الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] وقال تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 5] وأراد الذبائح، وقالت عائشة: ما لنا طعام إلا الأسودان، والمراد التمر والماء.
5. ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلًا لبني إسرائيل ثم قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها كانت محرمة على إبراهيم، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق، بل للعهد السابق، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ [الأنعام: 145] فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية.
6. الحل مصدر يقال: حل الشيء حلًا كقولك: ذلت الدابة ذلًا وعز الرجل عزاً، ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [الممتحنة: 10] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد، قال ابن عباس في زمزم هي حل وبل، رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان: ما حل؟ فقال: محلل.
7. ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه:
أ. الأول: روى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها) وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل
ب. الثاني: قيل إنه كان به عرق النساء، فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق.. نقل القفال عن ترجمة التوراة، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه، وقال: إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل ووضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق.
ج. الثالث: جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر.
8. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه، وفيه سؤال: وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة؟ والجواب: أجاب المفسرون عنه من وجوه:
أ. الأول: أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق، ويحرم جاريته بالعتق، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك.
ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم، فقال بحرمته.
ج. الثالث: يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم، وهذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ [التحريم: 1]
د. الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم.
هـ. الخامس: قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه.
9. إنما قلنا: إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2] ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار.
ب. الثاني: قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح.
ج. الثالث: قال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43] فلو كان ذلك الإذن بالنص، لم يقل: لم أذنت، فدل على أنه كان بالاجتهاد.
د. الرابع: أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته.
10. الأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال: الشافعي يحلل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا هاهنا.
11. ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل، وذلك لأنه تعالى قال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل.
12. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ المعنى أن قبل نزول التوراة كان حلًا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك، بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام، أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة، دليله قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]
13. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، فكذبهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك، وإما لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم، وأنها إنها حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه، فنازعوه في ذلك، فطلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول، وعلى كلا الوجهين، فالتفسير ظاهر.
14. لمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية، وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا: لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه، لأنا نثبته بالقياس، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي، وإنما وقع في أن هذا الحكم، هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بنص التوراة.
15. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ الافتراء اختلاق الكذب، والفرية الكذب والقذف، وأصله من فرى الأديم، وهو قطعه، فقيل للكذب افتراء، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود.
16. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرماً قبله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/291.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حِلًّا﴾ ﴿حِلًّا﴾ أي حلالا، ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وهو يعقوب عليه السلام، في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نفسه؟ قال: كان يسكن البدو فاشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها)، قالوا: صدقت، وذكر الحديث، ويقال: إنه نذر إن برأ منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه عرق النسا، ولقي من ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله تعالى ألا يأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه، فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم، وكان سبب غمز الملك ليعقوب أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم، فكان ذلك للمخرج من نذره، عن الضحاك.
2. اختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح الأول، لأن الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ﴾ وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شي كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسور على التحليل والتحريم، وقد حرم نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ [التحريم]، قال الكيا الطبري: فيمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ﴾ يقتضي ألا يختص بمارية، وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين.
3. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال ابن عباس: لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه، فقالت اليهود: إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل، لأن يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة، فأنزل الله هذه الآية، قال الضحاك: فكذبهم الله ورد عليهم فقال: يا محمد ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فلم يأتوا، فقال تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾:
أ. قال الزجاج: في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي.
ب. وقال عطية العوفي: إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم، وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرما عليهم.
ج. وقال الكلبي: لم يحرمه الله تعالى في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا، أو صب عليهم رجزا وهو الموت، فذلك قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء] الآية، وقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية ـ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الانعام]
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/135.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾ أي: المطعوم، والحلّ: مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو الحلال، وإسرائيل: هو يعقوب، كما تقدم تحقيقه، ومعنى الآية: أن كل المطعومات كانت حلالا لبني يعقوب، لم يحرّم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه.
2. هذا الاستثناء متصل من اسم كان، وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ متعلق بقوله: ﴿كَانَ حِلًّا﴾ أي: أن كل المطعومات كانت حلالا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ أي: كان ما عدا المستثنى حلالا لهم ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم، وفيه ردّ على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم، كما في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، الآية، وقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ وقالوا: إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء، يريدون بذلك تكذيب ما قصة الله على نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابه العزيز، ثم أمره سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم، ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله عليهم، لا ما أنزل عليه فقال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن، من أنه لم يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه، وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه.
3. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعد إحضار التوراة وتلاوتها ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي: المفرطون في الظلم المتبالغون فيه، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعا صحيحا، ثم جادل من بعد ذلك مفتريا على الله الكذب
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/414.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قالت اليهود له صلّى الله عليه وآله وسلّم : تزعم أنَّك على دين إبراهيم، وتأكل لحم الإبل وألبانها، وهو لا يأكلها وإنها محرَّمة على آدم ومن بعده إلى وقتنا هذا، ومن بعده، فنزل قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ يعقوب، أي: كلُّ المطعومات، أي: ما يؤكل أو يُشرب، فشمل لبن الإبل، كقوله تعالى في الماء: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ [البقرة: 249]
2. الأحكام لا تطلق على الذوات، فالمراد تناول الطعام، وزعم بعض أنَّه يوصف العين بالحلِّ وغيره، ونسبه لأئمَّة الأصول، ويجوز إبقاء الطعام على معنى المصدريَّة، أي: كلُّ أكل وشرب كان حلًّا لبني إسرائيل.
3. ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَآئِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ أي: المأكول والمشروب، أو الأكل والشرب الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه، ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ وهو قيل: لحوم الأنعام أو زيادتا الكبد، والكليتان، وشحم غير الظهر، والمشهور ـ وهو الصحيح ـ أنَّه لحم الإبل وألبانها، لحصول عِرْقِ النَّسَا له بها، فوعد إن شُفِيَ لم يأكلها ولم يشربها فلم يحرِّمها عليهم، بل ذلك نَذْر منه، وقيل: حرَّمها على نفسه خاصَّة، فحرمها الله عليهم في التوراة اتِّباعا لِبنيه له، وكانت أحبَّ طعام وشراب إليه، فتركها نذرًا تقرُّبًا إلى الله، وزادوا في الحرمة أشياء لم تحرم عليهم جهالة وتشرُّعا، وزاد الله عليهم حرمة أشياء لبغيِهم، قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ [النساء: 160]، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا﴾ [الأنعام: 146]، وذلك ردٌّ عليهم، إذ قالوا: إنَّ المحرَّمَ في التوراة محرَّمٌ على مَن قبلهم، لا بل حرِّم عليهم حكمة لبغيهم، وقيل: حرمها على نفسه خاصَّة، على أَنَّ الاستثناء منقطع، أي: ولكن ما حرَّم إسرائيل على نفسه خاصَّة، فهو حرام عليه خاصَّة، والصحيح ما مرَّ من تحريمها عليهم أيضًا، والاستثناء متَّصل، وذكر الكلبيُّ أنَّه لم يحرِّم 4 عليهم في التوراة وإنَّما حرَّم عليهم بعدها بظلمهم، وقال السُّدِّيُّ: لم يحرِّم عليهم في التوراة إِلَّا ما حرَّموه قبلها تبعًا لأبيهم، وقيل: نذر أَنْ لا يأكلها هو ولا بنوه، وقيل: التحريم الامتناع للتداوي من عرق النسا بإشارة الأطبَّاء له عليه السلام .
4. عرق النَّسا (بالفتح والقصر): عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ، يمرُّ بالعرقوب حتَّى يبلغ القدم، كلَّما طال زمانه زاد حتَّى يبلغ الركبة والكعب، وربَّما امتدَّ إلى الأصابع، بحسب كثرة مادَّته وقلَّتها، ويهزل معه القدم والفخذ، ويحدث معه العرج، وذكرتُ مداواته في (تحفة الحِبِّ)، ومنها قطع إلية كبش عربيٍّ لا كبير ولا صغير، يشرب كلَّ يوم على الريق فطيرا ـ أي: مفطورًا ـ ثلث قطعة تلك الإلية مشوية، الحاصل أَنَّ تلك الإلية يذاب كلَّ يوم ثلثها ويشرب على الريق ثلث قطعة مصليَّة، قال أنس: وصفته لأكثر من مائة شفاهم الله تبارك وتعالى.
5. (مِن) متعلِّق بـ (كَانَ) أو بـ (حِلًّا) لجواز الاستثناء قبل ذكر ظرف (مَا) قبله نحو: (ما قام إِلَّا زيد اليوم)، و(ما جاء أحد إِلَّا زيد على فرس)، بتعليق (على) بـ (جاء)، ويجوز تعليقه بـ (حَرَّمَ) بيانًا لتقدُّم التحريم على نزول التوراة مشتملة على محرَّمات أُخر.
6. ﴿قُلْ فَاتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَآ﴾ حتَّى يتبيَّن للسامعين ولكم صحَّة دعواكم أَنَّ كذا وكذا محرَّم فلا تجدون دعواكم فيها، أو اتلوا محلَّ دعواكم منها لا يوجد، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فلم يأتوا بها ويقرؤوها لعدم صدقهم فيما أخبروا عنها.
7. إنَّما حرَّم إسرائيل لحم الإبل ولبنَها نذرًا، وليس في تحريم ذلك دلالة على اجتهاد الأنبياء؛ لأنَّه حرَّمه نذرا، بمعنى أنَّه منع نفسه منها نذرًا أو تطبُّبا بإشارة الطبيب، وأمَّا دعوى أَنَّ إسرائيل حرَّم ما حرَّم لأنَّ الله أمره بتحريمها فمحتمل أيضًا، فلا يدلُّ على الاجتهاد ولو كان بعيدا، إذ لم يقل: إِلَّا ما حرَّم الله على إسرائيل، واحتُجَّ للاجتهاد بأنَّه طاعة ولا طاعة إِلَّا وللأنبياء فيها نصيب، بل أقوى في ذلك لمزيد فهمهم وصفاتهم، قلنا: كم عبادة تكون لنبيِّ دون آخر ولأمَّة دون أخرى، بل خُصَّت هذه الأمَّة بالاجتهاد، واحتجُّوا بقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَآ أُولِي الَابْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، قلت: لا يلزم أن يكون الاستنباط والاعتبار اجتهادا ولا شاملين له، ولا أنَّ المستنبطين أنبياء أو استنبطوا من الأنبياء، وبقوله تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، وتأتي الآية، وزعم بعضٌ أَنَّ التوراة نزلت منجَّمة في ثماني عشرة سنة، كلَّما ارتكبوا كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيِّبات، وهو ضعيف، وكأنَّهم أجمعوا على نزولها مرَّة.
8. ﴿فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في شأن تحريم ذلك على عهد إبراهيم ومَن قبله كغير ذلك الشأن، وذلك غير داخل في القول، أي: إذا تحقَّق ذلك فمن افترى أو داخل فيه، ومحلُّ النصب لمجموع (فَاتُوا...) إلى (...الظَّالِمُونَ) لا لـ (اتُوا) وحده، فضلا عن أن يكون لهذه الجملة محلُّ نصب عطفا عليها، ولا محلَّ له ولو عطفناه على (اتُوا) بل المحلُّ للمجموع، ﴿مِن بَعْدِ ذَالِكَ﴾ أي: قيام الحجَّة بأنَّ التحريم من يعقوب.
9. ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم ولمن غروه.
10. من العجيب أنَّهم يجيزون كوْن (مَنْ) موصولةً في كلِّ موضع تصلح فيه معنًى، مع أنَّ الأصل في العموم (مَنْ) الشرطيَّة لا الموصولة، وأنَّ الأصل في الفاء الربط في جواب الشرط لا الزيادة في خبر الموصول، وإنَّما يصار إلى الموصولة إذا قام دليل، وقَيْد البعديَّة لكمال القبح والوعيد، لا لإباحة ما قبلها لأنَّهم مكلَّفون قبلها فيما يُدرَك بالعلم، فلو سَأَلوا لأُجيبوا، فليسوا قبلها كالصبيِّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/324.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ قال الزمخشريّ: المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه.
2. روي، فيما حرمه إسرائيل على نفسه، أنه لحوم الإبل وألبانها، رواه الإمام أحمد في قصة، والترمذيّ وقال: حسن غريب، وروى عن ابن عباس والضحاك والسدّيّ وغيرهم موقوفا عليهم أنه العروق، قالوا: كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقا، ولا يأكل ولد ماله عرق، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم استنانا به، واقتداء بطريقه، قال الرازيّ: ونقل القفال عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث بردا إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه وقال: إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدا، فصلى ودعا، وقدم هدايا لأخيه، وذكر القصة، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق ـ انتهى ـ قلت: والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين.
3. التحريم المذكور، على الرواية الأولى، أعني لحوم الإبل وألبانها، فكان تبرّرا وتعبدا وتزهدا وقهرا للنفس، طلبا لمرضاة الحق تعالى، وعلى الثانية فإما وفاء بالنذر وإما تداويا وإما لكونه يجد نفسه تعافه ـ والله أعلم ـ فالتحريم بمعنى الامتناع.
4. قال الزمخشريّ: الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ الْبَقَرِ والْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما}، إلى قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ [الأنعام: 146]، وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا، وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم.
5. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في دعواكم أنه تحريم قديم، وفي أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم، كما يدعونه ـ أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة، فبهتوا وانقلبوا صاغرين.
6. ﴿فَمَنِ افْتَرَى﴾ أي تعمد ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ أي في أمر المطاعم وغيرها ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/354.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم، أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما محمد عبده هكذا:
أ. قالوا: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده كما تدعي ـ فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول: إنك أولى الناس به، هذه هي الشبهة الأولى
ب. وأما الثانية فهي أنهم قالوا: إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
2. قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ هو جواب عن الشبهة الأولى، قال محمد عبده: ولكن الجلال وكثيرا من المفسرين يقررون الشبهة ولا يبينون وجه دفعها بيانا مقنعا، إذ يعترفون بأن بعض الطيبات كانت محرمة على إسرائيل، والصواب ما قصه الله تعالى علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضحها، وهي أن كان الطعام كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى، ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا، كما قال: {فبظلم من الذين هادوا حرما عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160] الآية.
3. المراد بإسرائيل شعب إسرائيل، كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب نفسه، ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه: أنه ارتكب الظلم واجترح السيئات التي كانت سبب التحريم، كما صرحت الآية، فكأنه يقول: إذا كان الأصل في الأطعمة الحل، وكان تحريم ما حرم على إسرائيل تأديبا على جرائم أصابوها، وكان النبي وأمته لم يجترحوا تلك السيئات، فلم تحرم عليهم الطيبات؟
4. ثم قال تعالى مبينا تقرير الدفع وسنده ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها.. كأنه يقول: أما إنكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلا مؤيدا للقرآن فيما جاء به من أنها هي حرمت عليكم ما حرمتُ، وعللت جملة التكاليف بأنكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرب، كما قال موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة (اقرأ الفصل 31 من سِفر التثنية) وفي غير ذلك من فصول التوراة:
أ. قال محمد عبده: أما قول الجلال وغيره: إن يعقوب كان به عرق النّسا ـ بالفتح والقصر ـ فنذر: إن شُفي لا يأكل لحم الإبل، فهو دسيسة من اليهود وقيل: إنه نذر أن لا يأكل هذا العرق، وفي التوراة أن يعقوب التقى في بعض أسفاره بالرب في الطريق فتصارعا إلى الصباح، وكاد يعقوب يغلبه، ولكن اعتراه عرق النسا إلخ ما حرفوه، أقول: وتتمة العبارة ـ كما في (سفر التكوين ـ 32: 25): (ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه 26 وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني 27 فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب 28 فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت 29 وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك 30 فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل (قائلا) لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي 31 وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه 32 لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا)، وليس فيه أنه نذر شيئا ولا حرم شيئا.
ب. وقيل: إن ما حرمه يعقوب هو زائدتا الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وقال مجاهد: حرم لحوم الأنعام كلها، وكل ذلك من الإسرائيليات، وصحة السند في بعضها عن ابن عباس أو غيره ـ كما زعم الحاكم ـ لا يمنع أن يكون مصدرها إسرائيليا.
5. الأقرب ما قاله محمد عبده لأنه هو الذي تقوم به الحجة، لا سيما عند المطلع على التوراة، ولو أريد بإسرائيل يعقوب نفسه لما كان هناك حاجة إلى قوله ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ لأن زمن يعقوب سابق على زمن نزول التوراة سبقا لا يشتبه فيه فيحترس عنه.
6. المتبادر: أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد، لا بحكم من الله، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم، ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام.
7. قيل: إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه إبراهيم وإسرائيل، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه، لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال، إذ أخبرهم بما عندهم ولم يطلع عليه، وبهذا يسقط بحثهم في كون التحليل والتحريم لا يكونان إلا من الله.
8. من مباحث اللفظ في الآية:
أ. أن الطعام ما يطعم، أن يُتناول لأجل الغذاء، كما قال الراغب، وقد يقال أيضا: طعِم الماء ـ بكسر العين ـ وكان يطلق غالبا على الخبز، ومنه قولهم: أكل الطعام مأدوما، وعلى البر، ومنه حديث أبي سعيد (كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير) الخ متفق عليه، ومن إطلاقه على غيره حتما: قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ [المائدة: 96] وعلى الذبائح أو العموم قوله: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: 5] الآية.
ب. الحل بالكسر مصدر حل الشيء ضد حرم، وهو مستعار من حل العقدة، كما قال الراغب.
ج. وإسرائيل: لقب نبي الله يعقوب عليه السلام، ومعناه (الأمير المجاهد مع الله) وقد علمت ما عندهم في سبب إطلاقه عليه من عبارة سفر التكوين الذي ذكرناها آنفا، ثم أطلق على جميع ذريته كما هو شائع في كتب القوم من الأسفار المنسوبة إلى موسى فما دونها.
9. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ البيان وإلزام الكاذبين على إبراهيم والأنبياء بالتوراة ودعوتهم إلى الإتيان بها وتلاوتها على الملأ، وامتناعهم عن ذلك لئلا يظهر أن الله لم يحرم عليهم شيئا من الطعام قبل التوراة، والأصل في الأشياء الحل حتى يرد النص بالتحريم ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بتحويلهم الحق في المسألة عن وجهه ووضع حكم الله بتحريم بعض الطيبات عليهم في غير موضعه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/3.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع وتقاليد لا نص عليها في كتابهم، أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود:
أ. أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك تدّعى أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
ب. أنه لما حوّلت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس، وعظمت مكانا آخر وخالفت من تقدّمك من الأنبياء، فرد الله سبحانه شبهتهم، بأن أول بيت بنى للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
2. أجاب الله سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ أي إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا كما يدل على ذلك قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية.
3. المراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها.
4. خلاصة هذا الجواب أن الأصل في الأطعمة الحل، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم، وكانت سببا فيما نالهم من التحريم لها، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.
5. معنى قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾، أنه قبل نزول التوراة كان حلّا لبنى إسرائيل كل أنواع المطعومات؛ أما بعد نزولها، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.
6. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر، وقد جاء في سفر التثنية: قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة (إنكم شعب غليظ الرقبة يقاوم الرب) وقد روى أنهم لم يجرؤوا على الإتيان بها، وفلجت حجة القرآن، وفي هذا أكبر دليل على إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من الله.
7. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي فمن اخترع الكذب على الله وزعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التوراة ـ بعد أن ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئا قبل نزولها ـ فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله في غير موضعه، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/4.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذا الدرس تبلغ المعركة ذروتها، معركة الجدل والمناظرة مع أهل الكتاب، وهذه الآيات غير داخلة في نطاق مناظرة وفد نجران ـ كما ذكرت الروايات ـ ولكنها متساوقة معها، ومكملة لها، والموضوع واحد.
2. وإن كانت آيات هذا الدرس تتمحض للحديث عن اليهود خاصة، وتواجه كيدهم ودسهم للجماعة المسلمة في المدينة، وتنتهي إلى الحسم القاطع، والمفاصلة الكاملة، حيث يتجه السياق بعد جولة قصيرة في هذا الدرس إلى الجماعة المسلمة يخاطبها وحدها؛ فيبين لها حقيقتها، ومنهجها، وتكاليفها، على نحو ما سار السياق في سورة البقرة بعد استيفاء الحديث عن بني إسرائيل.. وفي هذه الظاهرة تتشابه السورتان.
3. يبدأ الدرس بتقرير أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ـ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ـ ويبدو أن هذا التقرير كان ردا على اعتراض بني إسرائيل على إباحة القرآن لبعض المحرمات اليهودية من الطعام، مع أن هذه المحرمات إنما حرمت عليهم وحدهم، في صورة عقوبة على بعض مخالفاتهم.
4. ثم يرد كذلك على اعتراضهم على تحويل القبلة ـ ذلك الموضوع الذي استغرق مساحة واسعة في سورة البقرة من قبل ـ فيبين لهم أن الكعبة هي بيت إبراهيم؛ وهي أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة، فالاعتراض عليه مستنكر ممن يدعون وراثة إبراهيم! وعقب هذا البيان يندد بأهل الكتاب لكفرهم بآيات الله، وصدهم عن سبيل الله؛ ورفضهم الاستقامة، وميلهم إلى الخطة العوجاء، ورغبتهم في سيطرتها على الحياة، وهم يعرفون الحق ولا يجهلونه، ومن ثم يدعو أهل الكتاب جملة؛ ويتجه إلى الجماعة المسلمة، يحذرها طاعة أهل الكتاب.. فإنها الكفر، ولا يليق بالمسلمين الكفر وكتاب الله يتلى عليهم، وفيهم رسوله يعلمهم، ويدعوهم إلى تقوى الله، والحرص على الإسلام حتى الوفاة ولقاء الله، ويذكرهم نعمة الله عليهم بتأليف قلوبهم، وتوحيد صفوفهم تحت لواء الإسلام، بعد ما كانوا فيه من فرقة وخصام، وهم يومئذ على شفا حفرة من النار أنقذهم منها الله بالإسلام.
5. لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة، وكل شبهة، وكل حيلة، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب.. فلما قال القرآن: إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون: فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها.. وهي محرمة على بني إسرائيل، وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين.
6. هنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل.. هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ـ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ـ وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن ـ تطوعا ـ عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه، فقبل الله منه نذره، وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم.. كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها، وأشير إلى هذه المحرمات في آية الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل.
7. يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم، فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض، ولا الشك في صحة هذا القرآن، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة، ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة، وأن يأتوا بها ليقرؤوها، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم، وليست عامة، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
8. ثم يهدد من يفتري الكذب منهم على الله بأنه إذن ظالم، لا ينصف الحقيقة، ولا ينصف نفسه، ولا ينصف الناس، وعقاب الظالم معروف، فيكفي أن يوصموا بهذه الوصمة، ليتقرر نوع العذاب الذي ينتظرهم، وهم يفترون الكذب على الله، وهم إليه راجعون.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/432.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عبث اليهود بآيات الله، وحرّفوا وبدّلوا في كلماته، وأداروا دينهم على الوجه الذي يغذّى نزعاتهم، ويشبع أهواءهم، فأحلّوا وحرّموا، غير ما أحلّ الله، وغير ما حرم، وقد فضحهم القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته، فقال تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ولم يقف بهم الأمر في تحريف كلمات الله وتبديلها عند حدّ، فتقوّلوا على أنبيائهم، ورموهم بالكبائر والمنكرات، وجحدوا رسالة محمد وما حدّثت به التوراة عنه، ثم تجاوزوا هذا إلى ما يتصل بشئونهم الخاصة التي رسمتها لهم شريعة موسى.. من القصاص في القتلى، وحدود المحرمات، وما حرّم الله عليهم من طيبات كانت حلّا لهم من قبل أن تنزّل التوراة، نكالا لهم، جزاء كفرهم بآيات الله!
2. في كل هذا كانت تنزل آيات القرآن الكريم فاضحة لهم، ناشرة على الناس ضلالهم وافتراءهم على الله، وعدوانهم على حدوده، فحين نزل فيهم قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُورَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} حين نزل فيهم هذا القرآن الذي يتهمهم بالبغي والعدوان، وأنهم عوقبوا ببغيهم وعدوانهم هذا العقاب الذي حرّم الله به عليهم ما كان حلّا لأسلافهم من قبل أن تنزل التوراة ـ حين قال فيهم القرآن هذا جعلوا يبدون العجب والدّهش، ويقول قائلهم: ما هذا القول الذي يحدّث به محمد عنّا؟ وكيف تبلغ به الجرأة على الحق أن يغيّر ويبدّل في شريعتنا؟
3. وقد ردّ القرآن عليهم قبل أن ينطقوا بهذا الذي نطقوا به، ورصد لهم الجواب الذي يفحمهم ويخزيهم، قبل أن يتساءلوا ويعجبوا، في خبث صبيانى مفضوح، فدعا الله تعالى نبيّه أن يلقاهم بهذا الردّ إن هم كذبوه فيما يتهمهم به القرآن من كذب على الله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُورَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فمع سعة رحمة الله وشمولها، فإنها لا تنال هؤلاء المجرمين الذين رماهم الله ببأسه ونقمته، فحرم عليهم طيبات ما أحلّ.. وقد فضحهم الله في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ إشارة إلى أن الأصل في الطعام أن يكون مطلق الحلّ، يتناول منه الإنسان ما ترضاه نفسه، وتطيب به.. إن ذلك شأن من شؤون الناس.. فما استساغته النفوس وقبلته، فهو حلّ مباح لها، وما عافته واستقذرته لم يكن لأحد أن يحملها على تناوله، فهذه أنواع الحيوان، وأجناس الطير.. لكل نوع طعام، ولكل جنس ما يغتذى به، ويقيم حياته عليه، إذ يعيش بعضها على النبات، وبعضها على الحبوب، وبعضها على الثمار، كما تعيش أصناف منها على اللحم، وأصناف أخرى على العشب! فإذا عرض على الحيوان آكل العشب بعض قطع اللحم لم يمدّ فمه إليها، والعكس بالعكس.. وهكذا كل صنف وكل نوع، يسعى وراء الطعام الذي ساغته نفسه وقبلته طبيعته! والإنسان شأنه شأن الحيوان في هذا.. له أن يأكل مما تنبت الأرض، وما تحمل على ظهرها من حيوان، ما دام المأكول مستساغا عنده، مقبولا لديه! وطبيعي ألا يستسيغ الإنسان كل شيء أو يقبل كل شيء.. فقبل كثيرا، ورفض كثيرا، وهو حرّ في القبول وفي الرفض.
4. ذلك شأن الإنسان، وهكذا ينبغي أن يكون شأنه.. الأمر متروك له، فيما يتخيّر من طعامه، وشرابه! ولكنّ العناية الإلهية كانت ولا تزال دائما أبدا تمدّ الإنسان بنصحها وإرشادها، حتى يستقيم على الطريق القويم، فأرسل الله رسله يحملون إلى الناس الهدى والرشاد، ويؤذّنون فيهم بكلمات الله، وما فيها من وعد ووعيد، إذ كان الإنسان أهلا لأن يخاطب من قبل الله، وأن تحمل إليه كلمات الله، وما فيها من نور وهدى! فكان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإباحة الحلال وحظر الحرام، مما بينته للناس شريعة السماء، وأمرت بالوقوف عند حدوده! وفي الطعام والشراب جاءت الشريعة السماوية بالإباحة المطلقة لكل ما هو طيب، كما يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾
5. قد يكون من العجب أن تحرّم الشريعة السماوية على الناس بعض ما يشتهون، أو بعض ما يجدون له مساغا بوجه من الوجوه! ويقوم هذا العجب حين ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الحيوان، ونقيسه عليه، ونسوّى بينهما في القياس، وعندئذ يحوز لقائنا أن يقول: إذا كان الحيوان قد أطلق له الأمر في اختيار طعامه وشرابه، والاستدلال بغريزته على ما يصلح له وما لا يصلح، أفلا يطلق للإنسان الأمر في اختيار طعامه وشرابه، والتمييز بعقله وخبرته بين النافع منها والضار؟ أليس من باب أولى أن يكون الإنسان سيد نفسه، وصاحب أمره في هذا الأمر في هذا الأمر الذي يتهدّى إليه الحيوان بطبيعته؟ ولكن يردّ على هذا، بأن الإنسان أكرم على الله من الحيوان، بما حباه من عقل، وما جعل له بهذا العقل من سلطان الخلافة على هذه الأرض.. ولهذا تولّى الله سبحانه هدايته، وخاطبه ـ كما قلنا ـ على لسان رسله بكلماته وآياته، وقد جاءت آيات الله إلى الإنسان لتحرر إرادته من الهوى المتسلط عليه، وتجلى عن عقله غيوم الجهل والضلال التي تخيم عليه بين الحين والحين.
6. وكما جاءت آيات الله لتحرر إرادة الإنسان، وتصحح وجدانه، وتنير عقله، جاءت أيضا إلى الجانب الماديّ منه، لتغذّى جسمه بالغذاء الطيب، ولتحول بينه وبين أن يطعم الخبيث، حتى يسلم له كيانه كله، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا! ومن هنا كان ما فرضته الشريعة السماوية من تحريم الخبيث من الأطعمة على المؤمنين ـ استعلاء بالإنسان، واستكمالا للكمال المنشود له، بل والمطلوب منه، وهذا ما فعلته الشريعة الإسلامية مع أتباعها فيما حرمت عليهم من مطاعم، فيقول الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ وهى جميعها مطاعم تأباها النّفوس الطيبة، وتعافها الطبائع السليمة، بل إن بعض الحيوانات آكلة اللحوم تأبى أن تأكل الميتة، ولو هلكت جوعا.. كالأسد مثلا، فإنه لا يقرب الميتة أبدا! فالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والحيوانات التي تموت غير ميتة طبيعية، كالمنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع منها.. كل هذه مطاعم لا تقبلها نفس طيبة، ولا تسوغها طبائع سليمة.
7. وهناك مطاعم حرّمها الإسلام لا لذاتها، ولكن لما أحاط بها من جوّ كريه، يفسدها، ويفسد طعمها على آكليها، كتلك التي تذبح قربانا للأوثان، ومثلها جميع مطاعم الوثنيين.. حيث تفوح منها ريح الشرك بالله، والكفر به.. فهي والحال كذلك طعام ملوّث بالشرك بالله، فمن طعمها طعم الشرك معها، وكالخمر التي حرمتها الشريعة الإسلامية، إنها شراب مشوب بداء يغتال العقل، وتذهب به حميّا خمارها وسكرها.. وعندئذ ينزل الإنسان عن إنسانيته التي يحرص الإسلام على أن يستبقيها في كيان المخلوق الذي كرمه الله.. ومن أجل هذا كان تحريمها.. فهذه المحرمات من المطعومات والمشروبات، هي حماية للإنسان من أن ينزل عن إنسانيته، واستعلاء به، واستكمال للكمال المنشود له.
8. وكما يكون تحريم بعض الأطعمة والأشربة لطفا من ألطاف الله بالإنسان، والاستعلاء به على الخبائث ـ يكون التحريم في حال أخرى، ضربا من الهوان والإذلال للإنسان، وابتلاء وإعناتا له، حين يدفع عن الطيب، ويذاد عن الشهىّ، نكالا له بما كسب من ظلم، وما جنى من بغى.. فكان هذا العقاب له، من واردات الظلم والبغي، وإن لم يكن ظلما ولا بغيا، ولكن هكذا يجزى الظالمون البغاة.. ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فقد كانت المطاعم كلّها حلّا لبنى إسرائيل، لم يحرّم عليهم شيء منها إلا ما تعافه النفس، وتزهد فيه.. ومع هذا فإنه كان إذا ورد واردهم على الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو الخمر، فإنه لا إثم عليه فيه، حيث لم يكن هناك حدّ شرعيّ، يفرق بين طعام وطعام.
9. مع أن هذا الإطلاق يرفع الحرج عنهم في أن يطعموا أي طعام يريدون ـ فإنه يحمل في طياته الوقوف بهم عند مستوى من الإنسانية، دون هذا المستوي الكريم، الذي ندبت له الشريعة الإسلامية أتباعها، فحرمت عليهم ما حرمت من مطاعم، ولم تجعل ذلك إلى أتباعها، يطعمون منها ما شاءوا متى شاءوا، بل حرمت عليهم بعض الأطعمة تحريما قاطعا، وأثمت من ينال منها إلا عند الاضطرار، ودون مجاوزة حد الاضطرار.
10. لم تحرّم الشريعة على بنى إسرائيل شيئا مما يطعمون إلّا ما حرم إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ على نفسه من أطعمة استقذرها، وعافتها نفسه، فجعل ذلك حراما ملزما نفسه إياه! فلما جاء موسى عليه السّلام، إلى بنى إسرائيل، وطلع عليهم بآيات الله، وملأ الحياة عليهم بالمعجزات.. ثم لم يكن منهم إلّا العناد، والإغراق في الضلال، والمكر بآيات الله ـ فكان أن أخذهم الله بالبأساء والضراء، وضرب عليهم التّيه في الصحراء، وابتلاهم بتحريم العمل في يوم السبت، فلم يطيقوا، وعملوا في هذا اليوم، فرماهم الله باللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير! ثم ابتلاهم الله بما حرّم عليهم من طيبات الطعام، التي ذكرها الله سبحانه في القرآن الكريم، والتي جاءهم بها موسى في التوراة، وبيّن الله فيها أنها نقمة وابتلاء، وبلاء! كما يقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾
11. ونقرأ الآية الكريمة، التي تحدّث اليهود بما في التوراة التي في أيديهم، عن تلك المطاعم التي حرمها الله عليهم، نكالا وابتلاء، ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ففي التوراة مثل ما في القرآن من هذا الأمر.. ولكن القوم يكابرون، وينكرون أن يكون في التوراة شيء من هذا الذي يحدثهم به القرآن.
12. ويمضى القرآن دون أن يلتفت إليهم.. إنه الصدق المطلق الذي يجدونه بين أيديهم، وإن أنكروه بألسنتهم، فهو يتحدث إليهم بصوت صارخ من التوراة: أن كذبتم وافتريتم.. فألجموا ألسنتكم، ودعوا هذا الافتراء الذي أنتم فيه، ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾!.
13. لكن هيهات أن يكفّ القوم عن الكذب والافتراء.. وتلك بلية أخرى، وداء يضاف إلى أدواء، ولا يقف القرآن ليسجل عليهم ما يثرثرون به، من كذب وافتراء، بعد كذب وافتراء، بل يمضى في طريقه، يؤذّن بالحق، ويدعو إليه من شاء أن يكون من أهله.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/526.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا يرتبط بالآي السّابقة في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ [آل عمران: 67] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب، وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التّوراة محرّما فيها، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التّوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرّما عليهم ما حرّم من الطعام إلّا طعاما حرّمه يعقوب على نفسه، والحجّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [آل عمران: 95]
2. يحتمل أنّ اليهود ـ مع ذلك ـ طعنوا في الإسلام، وأنّه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود، جهلا منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلا من أحبارهم لعامّتهم، تنفيرا عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنّما يتعلّقون بالمألوفات، فيعدّونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانا للقبول والنّقد، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان، وحسبكم أنّ دينا عظيما وهو دين إبراهيم، وزمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرّمون ذلك.
3. تعريف (الطّعام) تعريف الجنس، و(كلّ) للتنصيص على العموم.
4. استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنّه أصرح ما في التّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عرق النّسا الّذي على الفخذ، وقد قيل: إنّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فقيل: إنّ ذلك على وجه النذر، وقيل: إنّ الأطبّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنّه كان مبتلى بوجع نساه، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا، وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام: ظاهر الآية أنّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه، بل من تلقاء نفسه، فبعضه أراد به تقربا إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيّبات المشتهاة، وهذا من جهاد النّفس، وهو من مقامات الزّاهدين، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم، وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له، ولم يدع إليه غيره، ولعلّ أبناء يعقوب تأسّوا بأبيهم فيما حرّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم.
5. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ تصريح بمحلّ الحجّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلّق قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ بقوله: ﴿حِلًّا﴾ لئلّا يلزم خلوّه عن الفائدة، وهو غير مجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله: ﴿حِلًّا﴾ وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغوا لولا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.
6. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم: من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق.
7. الفاء في قوله: ﴿فَأتُوا﴾ فاء التفريع، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الّذي قبله عليه، والتّقدير: إن كنتم صادقين فأتوا بالتّوراة.
8. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التّوراة فيصلا بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعوه شبهة لهم في الاختلاق، وجعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله، والفاء للتفريع على الأمر.
9. الافتراء: الكذب، وهو مرادف الاختلاق، والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذى النعل ويصنع النطع أو القربة، وافترى افتعال من فرى لعلّه لإفادة المبالغة في الفري، يقال: افترى الجلد كأنّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى، فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح، وشاع ذلك حتّى صار مرادفا للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردافه بقوله هنا: (الكذب) تأكيد للافتراء، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة، فانتصب (الكذب) على المفعول المطلق الموكّد لفعله، واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: 8]
10. الكذب: الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخبر موافقا لاعتقاد المخبر أو هو على خلاف ما يعتقده، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبر كان ذلك مذموما ومسبّة؛ وإن كان معتقدا وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يحقّر المخبر به، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.
11. ثمّ أعلن أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة، وهذا كقوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: 95]
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/156.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات الكريمة متصلة بمحاجة اليهود، ومجادلتهم في ذات الشرع الإسلامي، وذات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عدم استقامتهم في طلب الحق، وأنهم كانوا يتواصون فيما بينهم ألا يؤمنوا ولا يذعنوا للحق إذ جاء إليهم، وكانوا يقولون: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، وقد اعترضوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالباطل وما اعترضوا عليه بحق قط، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعصبهم المردي وظنهم أنهم أولياء الله وأحباؤه، وأن الناس جميعا مهما تكن منزلتهم دونهم، ولقد روى في الآثار، وكما تدل عبارة التوراة أنهم كانوا يحرّمون على أنفسهم لحوم الإبل وألبانها، ويظهر أنهم كانوا يعيّرون العرب بأن طعامهم لحم الإبل وألبانها، وأن غذاءهم الجوهري هو ذلك اللبن والتمر، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أنه حلال لهم أيضا أن يأكلوه، وأنه طعام لهم كما هو طعام عند العرب، وأنهم إذ حرّموه على أنفسهم قد خالفوا الفطرة وخالفوا التوراة ثم ادّعوا أن تحريم لحوم الإبل كان شرعة إبراهيم.
2. ولقد رد الله عليهم ذلك بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ (حلّ) معناها حلال، ومعنى النص السامي أن كل الطعام قبل التوراة كان حلالا لبنى إسرائيل حتى غلظت أكبادهم، واستولت عليهم الماديات، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يفطموا نفوسهم عن أهوائها ليكبحوا جماح شهواتهم ولكيلا يندفعوا في الظلم والأهواء المردية؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء]
3. الطعام هو ما يطعمه الإنسان ويستسيغه ويطلبه راغبا فيه، وهو في عمومه يشمل البرّ والذرة والشعير، وكل المواد النباتية والحيوانية؛ ولذا قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 5] والمراد ذبائحهم، وبمقتضى هذا النص السامي يكون كل طيب مطعوم مرغوب فيه حلالا ولا يحرم إلا الخبائث من الميتة والخنزير وغيرهما، وأن ذلك كان شريعة إبراهيم عليه السلام، وأنه ما كانت لحوم الإبل ولا ألبانها من المحرمات لأنها من الطيبات، وإبراهيم وذريته على هذه الشريعة الفطرية، حتى قست قلوب بنى إسرائيل ففطمها الله بذلك التحريم المؤقت.
4. إذن فلم يكن شيء من الإبل محرما، ولم يكن شيء من الطيبات محرما على بنى إسرائيل من قبل التوراة، إلا ما حرمه إسرائيل على نفسه، وإسرائيل اسم ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام، وقد اختلف العلماء في تخريج قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ ما المراد بإسرائيل أهو القبيل كله، وهم اليهود؛ أم المراد ذات يعقوب الذي هو أبو القبيل، وإليه ينتمى؟، ذكر الزمخشري التخريجين:
أ. ورجح أن المراد ذات يعقوب عليه السلام، ويكون المعنى: إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل إلا ما كان يحرمه إسرائيل على نفسه باجتهاد منه لشخصه: إما لعلاج جسمي بأن وجد أن هذا الطعام يضره ويؤذيه، وأن الابتعاد عنه ينفعه ويجديه، كما نرى من ناس يتجنبون بعض الأطعمة لأنها لا تناسب حالهم بإشارة طبيب أمين أو بتجربة شخصية، وكل امرئ طبيب نفسه، وإما لعلاج نفسي كأن يمتنع عن بعض ألوان الطعام قناعة وفطما للنفس، وما كان يتخذ ذلك شريعة تتبع بل اتخذه علاجا شخصيا لجسمه أو لنفسه، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من الإسراف أن تأكل كل ما تشته)، هذا هو التخريج الأول.
ب. أما التخريج الثاني فإن مقتضاه أن بنى إسرائيل هم الذين حرّموا بعض الأطعمة على أنفسهم كما كان العرب يحرمون على أنفسهم بعض أنواع الأطعمة، كتحريم البحيرة ونحوها مما نعاه القرآن الكريم عليهم، ولعل القبيل كان يحرم على نفسه الإبل مثلا تقليدا ليعقوب فيما لا يجب التقليد فيه، ولكنهم ادّعوا أن تحريمهم لبعض الأطعمة التي لم يحرمها الله تعالى عليهم كان في التوراة منسوبا لإبراهيم، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو تكليف منه تعالت قدرته بأن يطلب إليهم أن يأتوا بالتوراة ليبيّنوا النص الذي كان به التحريم أهو يدل على أنه كان قبل التوراة أم كان بعدها؟ وأيدخل في عموم التحريم تحريم لحوم الإبل وألبانها؟
5. (الفاء) في قوله: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ﴾ هي التي تسمى فاء الإفصاح، وهى تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت دعواكم تحريم الإبل في شريعة إبراهيم وقبل التوراة فأتوا بها أي أحضروها، و(الفاء) في قوله: ﴿فَاتْلُوهَا﴾ فاء العطف، أي فأحضروها، واتلوها عقب إحضارها، وتلاوتها أي قراءتها بإمعان.
6. تبين التحدي في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ والتعبير ب (إن) للإشارة إلى عدم صدقهم؛ لأنها تدل على الشك في الشرط، وعدم ترتب الجواب عليه، أي هم ليسوا صادقين فيما يدّعون، ولذلك لا يتلون ولا يقرؤون، والمؤدّى: أنكم لو جئتم بها وأمعنتم في تفهمها، لكذّبتكم ولأثبتت افتراءكم على الله سبحانه وتعالى، وإن من افترى الكذب على الله تعالى ظالم لنفسه وللناس، ولذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الفاء هنا للإفصاح كسابقتها، والمعنى إذا كنتم مصرين على قولكم فأنتم ظالمون؛ لأن من افترى على الله الكذب فهو ظالم، وافتراء الكذب معناه القصد إليه وتعمده، والقطع بالقول فيه من غير تردد، مأخوذ من فرى يفرى بمعنى قطع، وأولئك باستمرارهم على قولهم هذا قد كذبوا على الله، فادّعوا أنه حرم، وهو لم يحرم، وادعوا أن ذلك في شريعة إبراهيم عليه السلام التي نزلت من عند الله تعالى، وليست منها في شيء.
7. ومن قصد إلى الكذب قاطعا به من غير دليل ولا حجة (بل قام الدليل على نقيض ما يقول) فهو ظالم، ولذا قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الإشارة إليهم محملين وصف الافتراء على الله تعالى وعلى النبيين، وهذا الوصف هو سبب الحكم بالظلم، وقد أكد الله تعالى وصف الظلم بقصر الظلم عليهم بضمير الفصل، وهم ظالمون للحقيقة إذ أخفوها وكذبوا، وظالمون لأنفسهم لأنهم يخادعون الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهم إذ يخادعون الله تعالى، يخادعون أنفسهم ويضلونها باستمرارهم على السير في طريق الغواية؛ إذ كلما أولجوا فيه بعدوا عن طريق الهداية، وظلموا بغمطهم الحق والناس، وحسدهم لهم على ما آتاهم الله من فضله.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1316.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، لهذه الآية قصة تتلخص بأن أكثر من آية صرحت ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه هم على ملة ابراهيم، يؤمنون بالله، وما أنزل على ابراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء.. ومعنى هذا في ظاهره ان كل ما كان حراما في دين هؤلاء الأنبياء فهو حرام في دين الإسلام، وكان اليهود يعتقدون ان لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة في دين الأنبياء المذكورين، وقد رأوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يحللها، مع ان هذا التحليل يتنافى مع قوله: انه على ملة ابراهيم، وانه يؤمن بما أنزل على ابراهيم، والأنبياء من بعده، واعتمادا على هذا الزعم أشاع اليهود وأذاعوا بقصد الطعن والتشكيك في الإسلام ان محمدا يناقض نفسه بنفسه.. يحلل من الطعام ما كان محرما في ملة ابراهيم، وفي نفس الوقت يدعي انه على ملة ابراهيم.. فرد الله عليهم بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أي ان ابراهيم ومن جاء بعده لم يحرموا لحوم الإبل وألبانها، بل كل الطعام كان حلا لهم.. واليهود كاذبون مفترون في نسبة التحريم إلى أنبيائهم.
2. ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم، وكان قد امتنع من تلقائه عن بعض الأطعمة، لسبب يعود اليه خاصة، ولم يمتنع عنه، لأن الله قد حرمه.. ولكن جرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما كان قد حرمه هو على نفسه.. وكان ذلك ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ ذكر الله سبحانه هذا القيد، لأنه قد حرّم عليهم أنواعا كثيرة بعد التوراة بسبب الذنوب التي اقترفوها، كما أشارت الآية 160 من النساء: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا﴾ أما الأنواع التي حرمت عليهم بعد نزول التوراة فقد جاء ذكرها في الآية 146 من الانعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، والتفصيل في محله.
3. تجمل الاشارة هنا إلى ان المسلمين متفقون كلمة واحدة على ان الأصل هو الحل في جميع المأكولات والمشروبات، حتى يثبت العكس.
4. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، هذا تحد لليهود ان يحضروا التوراة، وهي المعتمد عندهم، أن يحضروها ويقرؤوا نصوصها على الملأ إن كانوا صادقين في دعواهم تحريم لحم الإبل أو غيره.. ولكنهم بعد هذا التحدي تواروا، ولم يجسروا على إتيان التوراة، لأنهم على علم اليقين بصدق النبي، وكذبهم.
5. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، أي بعد ظهور الحجة، وقيام الدليل على الحق، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، لأنهم ضلوا وأضلوا بالإصرار على الباطل، ومعاندة الحق.
6. اتفاق الشرائع في تحليل الأطعمة لا يستلزم وحدتها من جميع الجهات.. وعلى أية حال، فإن القصد من الآيات التي شرحناها هو تكذيب اليهود فيما نسبوه إلى الأنبياء من تحريم بعض الأطعمة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/114.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطعام كل ما يطعم ويتغذى به، وكان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق.
ب. الحل مقابل الحرمة، وكأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الإطلاق.
ج. إسرائيل هو يعقوب النبي عليه السلام سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، ويقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.
2. ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ استثناء من الطعام المذكور آنفا، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ متعلق بكان في الجملة الأولى، والمعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.
3. في قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، ويدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ الآية، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾
4. وكذا يدل قوله تعالى بعد: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، وهي ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط، كيف؟ وهم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟
5. فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ الآيات.
6. بالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيها اليهود لا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون، وحاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا وهو يخبر بالنسخ، وأن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، وحاصل الجواب من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب وأنكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى﴾ ـ إلى قوله: ﴿الظَّالِمُونَ﴾، وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي ملة إبراهيم حنيفا، وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى آخر الآية.
7. للمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر، وأعجب ما قيل في المقام:
أ. ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ، وتقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين بعده ـ كما تدعي ـ فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به، ومحصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس، ومنهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، والسيئات كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ متعلق بقوله: ﴿حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾، ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ لغوا زائدا من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره، هذا محصل ما ذكره.
ب. وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.
8. وقد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه:
أ. عمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ على أنه متعلق بقوله: ﴿حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾، مع كونه متعلقا بقوله: ﴿كَانَ حِلًّا﴾، في صدر الكلام وقوله: ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ﴾، استثناء معترض، ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.
ب. على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزا على حد قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب وبني نزار وبني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الذي يدعيانه) مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، ومن جملتها نفس هذه الآية: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: ﴿إِسْرَائِيلَ﴾، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، وناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.
ج. ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.
9. ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
10. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، وتعريض لليهود، والكلام يجري مجرى الكناية، وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، وعلى هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة.
11. إنما قال: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، والقصر في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ قصر قلب على أي حال.
12. في الكافي، وتفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل ـ هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل ـ وذلك قبل أن تنزل التوراة ـ فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله.. أقول: وما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة والجماعة، وقوله في الرواية: (لم يحرمه ولم يأكله) ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه، والمعنى لم يحرمه موسى ولم يأكله، ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل، ويظهر من التاج، أن التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/346.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ﴾ وهذا يشير إلى أنهم بعد ذلك حرم عليهم بعض الطعام عقوبة لهم، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء:160] إلى آخر الآيات، بينما اليهود ينكرون أن الله تعالى حرّم عليهم شيئاً من الطعام.
2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ أي كان حِلاًّ في دين أبيهم إسرائيل أو دين الأسباط الأنبياء من ذريته أو من بنيه الاثني عشر، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فهي ناطقة بهذا وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي صادقين في ردّه وتكذيبه، فالتوراة تكشف أنكم كذبتم بالحق.
3. ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي من بعد قيام الحجة عليه تمرداً وعناداً ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الجائرون المخالفون للعدل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/503.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في أسباب النزول في ما ورد من حديث التفسير، أن هذه الآيات جاءت ردا على اليهود الذين يحرّمون لحوم الإبل وألبانها، زعموا بأن ذلك كان محرّما في دين إبراهيم وأولاده، واعتراضا منهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أحلّها في الوقت الذي يقول فيه إنه على ملّة إبراهيم، فقد جاء في أسباب النزول للواحدي: (قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النبي: أنا على ملة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي: كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه، فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه، فإنه كان على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله ـ عز وجل ـ تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية)
2. كانت هذه الآيات من أجل أن تضع القضية في موضعها من الحقيقة الدينية التاريخية، وهي أن الله لم يحرم على بني إسرائيل شيئا قبل نزول التوراة، بل كانت الأطعمة كلها حلالا منذ عهد إبراهيم حتى عهد يعقوب الذي هو إسرائيل، الذي منع نفسه من بعض الأطعمة لأنه يعافها أو يتضرر منها لا على أساس التحريم الشرعي، فإنه أعظم قدرا من أن يحرّم على نفسه شيئا قد أحلّه الله له، وهكذا استمرت الشريعة قبل نزول التوراة، وذلك هو قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ لأن الله لم يحرم منه شيئا عليهم ﴿إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ وهو يعقوب ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ تحريما ذاتيا لها من الناحية المزاجية، فإن الإنسان قد يمنع نفسه من بعض الأشياء المحلّلة من أجل بعض الجوانب النفسية، بعيدا عن عالم التحريم والتحليل، وكان ذلك: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾
3. لمّا نزلت التوراة حرّمت بعض الأشياء عقوبة لهم على ما قاموا به من بعض المعاصي، كما أشار إليه الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء: 160] وحرّمت عليهم أشياء أخرى منها ما ذكره الله في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146] ولم يرد في التوراة تحريم لحم الإبل، فكيف يدعون تحريمها وينكرون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حليتها، ثم أطلق التحدّي في وجوههم: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولكنهم لم يثبتوا أمام التحدي لأنهم يعرفون نتيجة ذلك في إظهار كذبهم وزيف دعاويهم.
4. هذا أسلوب لا بد من مراعاته واتباعه مع الناس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها، أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم، وهي موجودة فيها، وذلك كبعض الملحدين الذين يتحركون في وضع سياسي واقتصادي معيّن؛ فإذا تحدث إليهم متحدث بما عندهم من ذلك، وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم، أنكروا وجودها اعتمادا على أن الناس لا يقرؤون، أو أنهم لا يصلون إلى هذه الكتب، فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام الناس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان، ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان أساليبهم الخادعة، فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك، أو من خلال هروبهم عن إظهارها، فلا بد من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة، ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحقيقة والناس الذين يريدون الارتباط بالحقيقة على أساس الحجة والبرهان.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/154.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسّرون هو: أن اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضمن جدالهم له:
أ. أحدهما: تحليله لحوم الإبل وألبانها، وقد كانت حراما في دين إبراهيم عليه السّلام وكانوا يقولون: كلّ شيء نحرمه فهو كان محرما على نوح وإبراهيم، فكيف تحلله وأنت تدعي متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه؟
ب. والآخر: صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون: كيف تدعي يا محمّد الاقتداء بملّة إبراهيم عليه السّلام والنبيين العظام، وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون وجوههم شطر (بيت المقدس) ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة وتعرض عن (بيت المقدس)؟
2. فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم، بينما تكفلت الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.
3. صرحت الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كلّ المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل على نفسه، فاقتدى به أتباعه في هذا، حتّى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي، فاعتبروا ذلك حكما ونسبوه إلى الله، وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علّة الالتباس، وتصرّح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض اختلاق.
4. وعلى هذا فقد كان كلّ الطعام حلالا، ولم يكن شيء من الطيبات منه حراما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة، كما يفيد قوله سبحانه: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ وإن كان قد حرمت ـ بعد نزول التوراة ومجيء موسى بن عمران ـ بعض الأطعمة الطيبة، على اليهود لظلمهم وعصيانهم، تنكيلا بهم، وجزاء لظلمهم.
5. وتأكيدا لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرؤوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به الله حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ولكنّهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي أدعوه.
6. الآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على الله لعدم استجابتهم لطلب النبي بإحضار التوراة، فإن عليهم أن يعرفوا بأن كلّ من افترى على الله الكذب استحق وصف الظلم، لأنه بهذا الافتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
7. نقرأ في الفصل الحادي عشر من سفر اللاوليين ضمن استعراض مفصل للحوم المحرّمة والمحلّلة: (كل ما شق ظلفا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون، إلّا هذه فلا تأكلوها ممّا يجتر وممّا يشق الظلف، الجمل لأنه يجتر لكنّه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم)، من هذه العبارات نفهم أن اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفا من البهائم، ولكن ذلك لا يدلّ على أنها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضا، إذ يمكن أن يكون هذا التحريم مختصا باليهود عقابا لهم وتنكيلا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/597.
47. ملة إبراهيم والحنيفية والتوحيد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈47⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 95]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ وذلك حين قال الله ـ سبحانه ـ: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ إلى آخر الآية [آل عمران: ٦٧]، وقالت اليهود والنصارى: كان إبراهيم والأنبياء على ديننا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فقد كان إبراهيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذلك، فلم تكفرون بآيات الله!؟)، يعني: بالحج، فذلك قوله سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ يعني: حاجا، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يقول: لم يكن يهوديا ولا نصرانيا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٠.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ البيان عن أن الخبر بأن ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ صدق، لأن الله تعالى أخبر به.
2. ﴿فَاتَّبَعُوا﴾ الاتباع إلحاق الثاني بالأول لما له به من التعلق فالقوة للأول، والثاني يستمد منه، فهم يلحقون بإبراهيم عليه السلام لتمسكهم بملته والتابع ثان متدبر بتدبير الأول متصرف بتصريفه في نفسه.
3. الصحيح أن شريعة نبينا ناسخة لشريعة كل من تقدم من الأنبياء، وأن نبينا لم يكن متعبداً بشريعة من تقدم، وإنما وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال الله تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، وكانت شريعة له.
4. سؤال وإشكال: إذا كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف رغب في شريعة الإسلام بأنها ملة إبراهيم؟ والجواب: لأن المصالح إذا وافقت ما تميل إليه النفس ويتقبله العقل بغير كلمة كانت أحق بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر، كانت أعظم في النعمة، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطبوا بذلك.
5. الحنيف: المستقيم: الدين الذي على شريعة إبراهيم في حجه ونسكه وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية، وأصل الحنف الاستقامة وإنما وصف المائل القدم بالأحنف تفاؤلا بها، وقيل أصله الميل وإنما قيل الحنيف بمعنى المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم من الشرع.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/534.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاتباع: لحوق الثاني بالأول لما له به من التعلق.
ب. الحنيف: قبل: المستقيم، وقيل: المائل إلى الحق.
2. بين أن الصدق فيما أخبره الله به، فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿صَدَقَ اللهُ﴾ فيما أخبر أن محمدًا على ملة إبراهيم وأن دينه دين الإسلام، في أن الطعام كان حلًّا لهم وغير ذلك مما أخبر ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي شريعته ودينه ﴿حَنِيفًا﴾ مسلمًا مستقيمًا على الحق ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما تزعمه اليهود والنصارى ومشركو العرب.
3. سؤال وإشكال: إذا كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف يجب في شريعة الإسلام لأنه ملة إبراهيم؟ والجواب: لأن المصالح إذا وافقت ما تنازع إليه النفس، ويغلبه العقل كانت أحق بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى دون الفقر كانت أعظم في النعمة.
4. تدل الآية الكريمة على أن ملة إبراهيم موافقة لملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا ما دل الدليل على اختلافها فيه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/319.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاتباع: لحاق الثاني بالأول لما به من التعلق فالقوة للأول، والثاني يستمد منه، والتابع: ثان متدبر بتدبير الأول، متصرف بتصرفه في نفسه.
ب. أصل الحنيف: الاستقامة، وإنما وصف المائل القدم بأحنف تفاؤلا، وقيل: أصله الميل، فالحنيف: هو المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم من الشرع.
2. ثم بين تعالى أن الصدق فيما أخبر به، فقال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ في أن ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وفي أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على دين إبراهيم، وأن دينه الاسلام.
3. ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ في استباحة لحوم الإبل وألبانها، ﴿حَنِيفًا﴾:
أ. قيل: أي: مستقيما على الدين الذي هو شريعته في حجه، ونسكه، وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية.
ب. وقيل: مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق.
4. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ برأ الله تعالى إبراهيم مما كان ينسبه اليهود والنصارى إليه بزعمهم أنهم على دينه، وكذلك مشركوا العرب، وأخبر أن إبراهيم كان بريئا من المشركين ودينهم.
5. الصحيح أن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم من الأنبياء، ولكن وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وإلا فالله تعالى هو الذي أوحى بها إليه، وأوجبها عليه، وكانت شريعة له، وإنما رغب الله في شريعة الاسلام بأنها ملة إبراهيم، لأن المصالح إذا وافقت ما تسكن إليه النفس، ويقبله العقل بغير كلفة، كانت أحق بالرغبة فيها، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم عليه السلام فلذلك خوطبوا بذلك.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/796.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ الصّدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضدّه الكذب، واختلفوا أيّ خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين:
أ. أحدهما: أنه عني قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا﴾، قاله مقاتل، وأبو سليمان الدّمشقيّ.
ب. الثاني: أنه عنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا﴾ قاله ابن السّائب.
__________
(1) زاد المسير: 1/306.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ يحتمل وجوهاً:
أ. أحدها: ﴿قُلْ صَدَقَ﴾ في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالًا لهم، فصح القول بالنسخ، وبطلت شبهة اليهود.
ب. ثانيها: ﴿صَدَقَ اللهُ﴾ في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه، فثبت أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها، فقد أفتى بملة إبراهيم.
ج. ثالثها: ﴿صَدَقَ اللهُ﴾ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم.
2. ثم قال تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم، وسواء قال ملة إبراهيم حنيفاً، أو قال ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى.
3. ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي لم يدع مع الله إلهاً آخر، ولا عبد سواه، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله.
4. الغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام، في الفروع والأصول، أما في الفروع، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً، وأما في الأصول فلأن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/295.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي قل يا محمد صدق الله، إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما، ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أمر باتباع دينه، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/137.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلا مدفوعا، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحا صادقا، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب، فقال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: ملة الإسلام التي أنا عليها، وقد تقدم بيان معنى الحنيف، وكأنه قال لهم: إذا تبين لكم صدقي، وصدق ما جئت به، فادخلوا في ديني، فإن من جملة ما أنزله الله عليّ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/415.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ في هذا وجميع ما أخبر به، وفيه تعريض بأنَّكم كذَّبتم، أو صدق الله في أَنَّ ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد حلِّه، فصحَّ النسخ وبطُلت شُبهة اليهود، أو في أنَّها محلَّلة لإبراهيم، وإنَّما حرِّمت على بني إسرائيل لأنَّه حرَّمها على نفسه، فمحمَّد أفتى بما وافق إبراهيم، أو في أَنَّ الأطعمة حلال لبني إسرائيل، فإنَّما حرمت على اليهود لقبائح أعمالهم جزاء.
2. ﴿فَاتَّبِعُواْ﴾ يا بني إسرائيل، ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: وهي ملَّتي، فما لم تكونوا عليها لم تكونوا على ملَّته، فمعنى ملَّة إبراهيم ملَّة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو اتَّبعوا ملَّة إبراهيم في تحليل ما أحِلَّ لكم، أو مثل ملَّة إبراهيم وهو ملَّتي، فإنِّي لا أدعوا إلى شرك أو تحريف، كما أَنَّ إبراهيم لا يدعو لذلك، ﴿حَنِيفًا﴾ عن كلِّ ما سوى الله، وأكَّد نفي الشرك خصوصا بقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما أنتم مشركون، فهذا تعريض بكفرهم الآيات.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/328.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي ملة الإسلام التي عليها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن آمن معه والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه.
2. ﴿حَنِيفًا﴾ أي مائلا عن الأديان الزائغة ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى، فكيف يزعمون أنهم على ملته، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/356.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ فيما أنبأني به من عدم تحريم شيء على إسرائيل قبل التوراة، وقامت الحجة عليكم بذلك، فثبت أنني مبلغ عنه، إذ ما كان لولا وحيه أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون به عن أنبيائكم.
2. وإذ كان الأمر كذلك ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ التي أدعوكم إليها حال كونه ﴿حَنِيفًا﴾ لا غلو فيما كان عليه ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، بل هو الفطرة القويمة والحنيفية السمحة المبنية على الإخلاص لله وإسلام الوجه له وحده {و ما كان من المشركين} الذين يبتغون الخير من غيره تعالى أو يخافون الضر من غير أسبابه التي مضت بها سنته.
__________
(1) تفسير المنار: 4/6.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ فيما أنبأنى به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذا قامت عليكم الحجة، وثبت أنى مبلغ عنه، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحى أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم.
2. ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو من ملة إبراهيم، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحوم الإبل وألبانها، وملته حنيفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط.
3. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يدعون مع الله إلها آخر، أو يعبدون سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادّعائهم أن عزيرا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.
4. خلاصة هذا: إن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام وكلياتها، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه إلا على هذا الدين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/7.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كذلك كان اليهود يبدؤون ويعيدون في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، بعد أن صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس حتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة.. ومع أن هذا الموضوع قد نوقش مناقشة كاملة وافية في سورة البقرة من قبل، وتبين أن اتخاذ الكعبة قبلة للمسلمين هو الأصل وهو الأولى، وأن اتخاذ بيت المقدس هذه الفترة كان لحكمة معينة بينها الله في حينها.. مع هذا فقد ظل اليهود يبدؤون في هذا الموضوع ويعيدون، ابتغاء البلبلة والتشكيك واللبس للحق الواضح الصريح ـ على مثال ما يصنع اليوم أعداء هذا الدين بكل موضوع من موضوعات هذا الدين! وهنا يرد الله عليهم كيدهم ببيان جديد.
2. لعل الإشارة هنا في قوله: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ تعني ما سبق تقريره في هذا الأمر، من أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون مثابة للناس وأمنا، وليكون للمؤمنين بدينه قبلة ومصلى: ومن ثم يجيء الأمر باتباع إبراهيم في ملته، وهي التوحيد الخالص المبرأ من الشرك في كل صورة: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، واليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة إبراهيم، فها هو ذا القرآن يدلهم على حقيقة دين إبراهيم؛ وأنه الميل عن كل شرك، ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بأنه كان حنيفا، ومرة بأنه ما كان من المشركين، فما بالهم هم مشركين!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/435.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.. فإن ما ينطق به القرآن هو كلمات الله، التي هي الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
2. في قوله تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على ملة إبراهيم التي يدّعون ـ زورا وبهتانا ـ أنهم عليها، فإن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وهؤلاء ليسوا بالحنفاء ولا بالمسلمين، ولكنهم كفروا وأشركوا، وضلوا ضلالا بعيدا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/533.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجّة القاطعة قال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
2. التّفريع في قوله: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ تفريع على ﴿صَدَقَ اللهُ﴾ لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به منجاة من الخطر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/158.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن أولئك الذين يتمسحون بذكر إبراهيم لم يتبعوه، ولم يهتدوا بهديه، بل خرجوا عن منهاج الفطرة الذي هداه الله تعالى، ولذلك أمرهم الله سبحانه وتعالى باتباعه فقال تعالت كلماته: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد أمره أن يذكر لهم صدق الله تعالى فيما أخبره به من أن إبراهيم ما حرم الإبل ولا ألبانها، وأن بنى إسرائيل من قبل التوراة كان كل الطعام الطيب حلالا لهم غير حرام عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يعاندون الله تعالى بأخبارهم الكاذبة، وأن كلامهم لا يروج عند مؤمن، لأنه إما أن يصدّق الله تعالى ذا الجلال والإكرام، المنفرد بحق العبودية، والمنفرد بالألوهية، وإما أن يصدق أخبارهم الكاذبة التي تتنزى بالحقد والحسد الدفين.
2. وإذا كانوا يتمسحون بإبراهيم فعليهم أن يتبعوه في أخص شريعته ولبها، ولذا قال: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي اتبعوا منهاجه وشرعته وطريقته، وقد كان طريقه هو طريق الفطرة السليمة، ولذلك وصفه بقوله: ﴿حَنِيفًا﴾ أي متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره، ولا يسلك غير سبيل المؤمنين يجيب داعى الحق إذا دعي إليه.
3. وإذا استمروا على طريقهم من معاندة الحق ومنازلته، وإثارة غبار الشك حوله، فإنهم بعيدون عن إبراهيم، كما بعد عنه المشركون، وقد أكد سبحانه بعد إبراهيم عن الشرك بقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هذا نفى الإشراك عن إبراهيم عليه السلام نفيا مؤكدا وهو مؤكد بالجملة الاسمية، وبالفعل (كان)، فهو نفى للكينونة أي الوجود، فهو لم يوجد مشركا ولا يمكن أن يكون مشركا، أو يدخل في صفوف المشركين، وفي ذلك بيان براءة إبراهيم من مشركي قريش براءته من اليهود، فليس لأحد الفريقين أن يتمسح به، وأن يذكر أنه يسير على ملته، وهو لا يخلص في قول ولا يجعل وجهته رب العالمين.. اللهم اهدنا بهديك، وخلص قلوبنا، وأصلح أحوالنا، ووفقنا إلى الإخلاص في القول والعمل إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1319.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾، في ان كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل، وان محمدا رسول الله حقا، ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ في استباحة لحوم الإبل وألبانها (حنيفا) مستقيما على دين الحق.
2. لا بد من الاشارة إلى ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كان على ملة ابراهيم، وملة جميع الأنبياء في العقيدة وأصولها، أما شريعته فإنها مستقلة عن كل الشرائع، مع العلم بأنها جميعا قائمة على المصالح.. ولكن المصالح تختلف باختلاف الظروف والمناسبات.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/116.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ الآية أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحلية لحم الإبل وغيره من الطيبات التي أحلها الله، وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.
2. ﴿فَاتَّبَعُوا﴾ الآية كالكناية عن اتباع دينه، وإنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/349.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ في قوله، وكذبتم في زعمكم أن تحريم بعض طعامكم ليس عقوبة بل هو تحريم قديم من عهد إسرائيل وإبراهيم ونوح.
2. ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فأسلموا لله وجوهكم وأنفسكم، واعملوا بملة إبراهيم ﴿حَنِيفًا﴾ محباً لله خاشعاً ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فأنتم على غير ملته.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/503.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تنتهي الآيات بالأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يؤكد موقفه الذي حاول اليهود أن يثيروا الريب والشكوك من حوله، للإيحاء بأنه ليس من عند الله، ولهذا جاء التأكيد بقوله: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ فإن قول النبي هو قول الله، لذلك كان التشكيك به تشكيكا بقول الله كما أن تصديق الله يستلزم التصديق به، ثم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيف المخلص المائل عن الباطل إلى الحق، لأن ملّته هي الإسلام في نطاقه الشامل الذي يستوعب كل الرسالات في مراحلها المتنوّعة المتدرّجة.
2. ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ التي تمثل ملة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما تمثله من الامتداد الرسالي لتلك الملّة التي تجمع في داخلها الخطوط العامة لكل ما يريد الله أن يلتزموه في المعنى التوحيدي الشامل من حيث الفكر والعمل، حَنِيفاً منفتحا على خط الاستقامة في طريق الحق المائلة عن خط الباطل، فقد كان يمثل التوحيد الخالص عقيدة ومنهجا وعبادة وحركة في الجانب العملي من الحياة، وما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فقد كان ثورة على الشرك كله بكل قوّة، حتى أنه عادى قومه وأباه في سبيل ذلك.
3. وقد دعا في نهاية المطاف إلى اتباع ملّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، باعتبار أنها تمثل إرادة الله الأخيرة في خط الرسالات، مما يجعل اتباعها إسلاما لله الواحد، وتجسيدا للتوحيد الحق الذي تلتقي لديه كل منطلقات الحياة الخيرة وتخضع له، فذلك هو خط إبراهيم عليه السّلام التوحيدي الذي يرفض كل شرك سواء كان شركا مباشرا كشرك المشركين من قريش وغيرهم، أو كان شركا غير مباشر كشرك أهل الكتاب في عقيدتهم بالمسيح وغيره.
4. ربما نستوحي من هذه الآية ـ في خط الدعوة ـ أنّ علينا مواجهة الفئات المنحرفة التي تضع في عناوينها الكبرى شخصية تاريخية عظيمة أو مقدسة من الشخصيات التي تحمل في واقعها الحركي القيم الكبرى في الدائرة العقيدية والروحية والاجتماعية من خلال التزامها بالرسالة الشاملة، فتتبع الأسلوب العملي الذي يضع أمامها الخط العام الذي تحركت به هذه الشخصية التاريخية في تجربتها الماضية في عملية مقارنة بين الواقع الذي يعيشون فيه وبين الخط العام الذي تمثله في ميزان القيم المتنوعة، وذلك من خلال تجربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الموقع القرشي الذي كان يضع إبراهيم عليه السّلام عنوانا له من خلال انتساب قريش إليه، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يعبدون الأصنام خلافا لرسالة التوحيد الإبراهيمية، فكانت هذه الآية بعد الخطاب الذي وجهه القرآن إليهم إعلانا للزيف الذي يتحركون فيه على مستوى العقيدة والعبادة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/157.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذا لم يكن لليهود حجّة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملّة إبراهيم، ودينه الحنيف حقّا يوجب عليهم أن يتبعوه ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ اتبعوا ملّة إبراهيم الذي كان حنيفا مستقيما لا يميل إلى شيء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتّى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئا بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم.. إنه لم يكن مشركا، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض اختلاق، فأين الوثنية وأين التوحيد؟ وأين عبادة الأصنام، وأين تحطيم الأصنام؟
2. الجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة، وما ذلك إلّا لأن العرب الجاهليين الوثنيين كانوا ـ كما ألمحنا ـ ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى الخليل عليه السّلام، ويدعون بأنهم على دينه وملته، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن الخليل وصرح مرارا وتكرارا بأنه عليه السّلام كان حنيفا، ولم يكن من المشركين أبدا ابطالا لذلك الادعاء السخيف، وتنزيها لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة المقيتة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/600.
48. البيت الحرام ومقام إبراهيم والأمن والبركات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈48⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 96 ـ97]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ هو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا، فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ إنما أدخله ولم يدخله ـ يعني: الصيد ـ(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٩٠.
(2) ابن المنذر: ١/٢٩٧.
(3) الفاكهي في أخبار مكة: ٣/٣٨٠.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أراد الوليد بن عتبة أن يقيم الحد في الحرم، فقال له عبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرم، إلا أن يكون أصابه فيه(1).
2. روي أنّه قال: من مات في الحرم بعث آمنا، يقول الله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾(2).
3. روي أنّه قال: من مات من الموحدين في الحرم بعث آمنا يوم القيامة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٠٤.
(2) ابن المنذر: ١/٣٠٤.
(3) أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان: ٢/١٩٥.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هو أول بيت بناه آدم في الأرض(1).
2. روي أنّه قال: مكة من الفخ إلى التنعيم، وبكة من البيت إلى البطحاء(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾: منهن مقام إبراهيم، والمشعر(3).
4. روي أنّه قال: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ مقام إبراهيم الحرم كله(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى، ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يدع، فإذا خرج أخذ بذنبه(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس، ولا يكلم، ولا يؤوى، ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جر، فإن قتل أو سرق في الحل فأدخل الحرم؛ فأرادوا أن يقيموا عليه ما أصاب، أخرجوه من الحرم إلى الحل، فأقيم عليه، وإن قتل في الحرم أو سرق أقيم عليه في الحرم(6).
7. روي أنّه قال: إذا أصاب الرجل الحد؛ قتل أو سرق، فدخل الحرم لم يبايع، ولم يؤو حتى يتبرم، فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد(7).
8. روي أنّه قال: من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج، فإذا خرج أقاموا عليه الحد(8).
9. روي أنّه قال: من أحدث حدثا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له، ولم يبايع ولم يؤو حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج من الحرم أخذ فأقيم عليه الحد، ومن أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه الحد(8).
10. روي أنّه قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له(7).
11. روي أنّه قال: وجد في المقام كتاب فيه: هذا بيت الله الحرام بكة، توكل الله برزق أهله من ثلاثة سبل، مبارك لأهلها في اللحم والماء واللبن، لا يحله أول من أهله، ووجد في حجر من الحجر كتاب من خلقة الحجر: أنا الله ذو بكة الحرام، صغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في اللحم والماء(9).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٥.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٠٩.
(3) ابن جرير: ٥/٥٩٨.
(4) ابن أبي حاتم: ٣/٧١١.
(5) ابن جرير: ٥/٦٠٥.
(6) عبد الرزاق في مصنفه: ٥/١٥٢.
(7) ابن جرير: ٥/٦٠٣.
(8) ابن جرير: ٥/٦٠٤.
(9) الأزرقي: ١/٤٢.
ابن الزبير:
روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سميت: بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة(1).
2. روي أنّه قال: إنما سميت: بكة؛ لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجا(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٦.
(2) ابن أبي شيبة: ص٢٩٠ واللفظ له، وابن جرير: ٥/٥٩٦.
ابن عمر:
روي عن عبد الله بن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: من قبر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: الجَنَدي.
ابن عمرو:
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بناس من قريش جلوس في ظل الكعبة، فلما انتهى إليهم سلم، ثم قال: اعلموا أنها مسئولة عما يعمل فيها، وإن ساكنها لا يسفك دما، ولا يمشي بالنميمة(1).
2. روي أنّه قال: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس(2).
__________
(1) الفاكهي في أخبار مكة: ١/٣٣٣.
(2) البيهقي في الدلائل: ٢/٤٤.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ وضع للعبادة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ الحج مقام إبراهيم(2).
3. روي أنّه سئل عن الرجل يقتل ثم يدخل الحرم، قال: لا يبيعه أهل مكة، ولا يشترون منه، ولا يسقونه، ولا يطعمونه، ولا يؤونه ـ عد أشياء كثيرة ـ؛ حتى يخرج من الحرم، فيؤخذ بذنبه(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٩١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧١١.
(3) ابن جرير: ٥/٦٠٥.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: بكة موضع البيت، ومكة ما سوى ذلك(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ص٢٩٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: إن أول بيت وضع فيه البركة وأجيز من الفردوس الأعلى(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٥.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: من أحدث حدثا ثم لجأ إلى الحرم فقد أمن، ولا يعرض له، وإن أحدث في الحرم أقيم عليه(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٠٦.
أبو قلابة:
روي عن أبي قلابة (ت 104 هـ) أنّه قال: قال الله لآدم: إني مهبط معك بيتي، يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي، فلم يزل حتى كان زمن الطوفان فرفع، حتى بوئ لإبراهيم مكانه فبناه من خمسة أجبل؛ من حراء، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر(1).
__________
(1) الأزرقي في فضائل مكة: ١/٣٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنما سميت: بكة؛ لأن الناس يتباكون فيها؛ الرجال والنساء، يعني: يزدحمون(1).
2. روي أنّه قال: إنما سميت: بكة؛ لأن الناس يبك بعضهم بعضا فيها، وأنه يحل فيها ما لا يحل في غيرها(2).
3. روي أنّه قال: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية(3).
4. روي أنّه قال: إن أول ما خلق الله الكعبة، ثم دحى الأرض من تحتها(4).
5. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أثر قدميه في المقام آية بينة، ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ هذا شيء آخر(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ الأمن: الجوار(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ هو قول الرجل: ادخل وأنت آمن(7).
8. روي أنّه قال في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم: يؤخذ، فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد، يقول: القتل(8).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥١٤.
(2) ابن أبي شيبة: ص٢٩٠.
(3) أسباب النزول للواحدي،/٢٤١.
(4) ابن جرير: ٥/٥٩١.
(5) ابن جرير: ٥/٦٠٠.
(6) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٢.
(7) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٢، ١٤/٥٤٢.
(8) ابن جرير: ٥/٦٠٢.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، يأمن فيه من فر إليه، وإن أحدث كل حدث؛ قتل، أو زنا، أو صنع ما صنع، إذا كان هو يفر إليه أمن ولم يمسس ما كان فيه، ولكن يمنع الناس أن يؤوه، وأن يبايعوه، وأن يجالسوه، فإن كانوا هم أدخلوه فلا بأس أن يخرجوه إن شاءوا، وإن انفلت منهم فدخله، وإن أحدث في الحرم أخذ في الحرم(1).
__________
(1) الفاكهي في أخبار مكة: ٣/٣٦٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض(1).
2. روي أنّه قال في الآية: أول قبلة أعملت للناس المسجد الحرام(2).
3. روي أنّه قال: يعني: وضع قبلة لهم(3).
4. روي أنّه قال: كان ذلك في الجاهلية؛ لو أن رجلا جر جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب ولم يتناول، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من حد، من أصاب حدا أقيم عليه(3).
5. روي أنّه قال في الرجل يصيب الحد ويلجأ إلى الحرم: يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٥٩٠.
(2) ابن المنذر: ١/٢٩٨.
(3) تفسير ابن أبي زَمَنين: ١/٣٠٣.
(4) ابن جرير: ٥/٦٠٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (إنما سميت مكة بكة لأنها تبك بها الرجال والنساء، والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومعك، ولا بأس بذلك، إنما يكره ذلك في سائر البلدان(1).
__________
(1) علل الشرائع: 397/4.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ أول بيت وضعه الله تعالى، فطاف به آدم ومن بعده(1).
2. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن البيت هبط مع آدم حين هبط، قال أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمن الطوفان ـ زمن أغرق الله قوم نوح ـ رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معمورا في السماء، ثم إن إبراهيم تتبع منه أثرا بعد ذلك، فبناه على أساس قديم كان قبله(2).
3. روي أنّه قال: سميت: بكة؛ لأن الله بك به الناس جميعا، فيصلي النساء قدام الرجال، ولا يصلح ذلك ببلد غيره(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وهذا كان في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى حرم الله لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله؛ من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم فإن سرق فيه أحد قطع، وإن قتل فيه قتل، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا(4).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٢٩٥.
(2) ابن جرير: ٥/٥٩٢.
(3) ابن جرير: ٥/٥٩٦.
(4) ابن جرير: ٥/٦٠١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ بكّة: موضع البيت.. وسمّي بذلك؛ لأنّ النّاس يتباكون فيه، معناه يتزاحمون.. ومكة: جميع القرية.. وهي أمّ القرى.. وأمّ كلّ شيء أصله(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: بلغني: أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح، في كل صفح منها كتاب، في الصفح.. الأول: أنا الله ذو بكة، صغتها يوم صغت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن، وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، ومن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته، وفي الثالث: أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه(1).
__________
(1) عبد الرزاق في المصنف: ٩٢١٩.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: أما قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ فلو أن رجلا قتل رجلا، ثم أتى الكعبة فعاذ بها، ثم لقيه أخو المقتول؛ لم يحل له أبدا أن يقتله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٠٦.
ابن أبي أنيسة:
روي عن يحيى بن أبي أنيسة (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾: قبلة لهم(1).
__________
(1) الأزرقي في أخبار مكة: ١/١٣٢.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: معناه: إن أول مسجد متعبد وضع للناس يعبد الله فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ الآيات: الكعبة، والصفا، والمروة، ومقام إبراهيم(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١١٥.
(2) الدرّ المنثور: ابن الأنباري.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنما سميت مكة بكة لأن الناس يتباكون فيها(1).
2. روي أنّه سئل: لم سميت الكعبة بكة؟ فقال: لبكاء الناس حولها وفيها(2).
3. روي أنّه سئل: لم سميت مكة بكة؟ قال (لأن الناس يبك بعضهم بعضا فيها بالأيدي(3).
4. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ البيت عنى أم الحرم؟ قال: من دخل الحرم من الناس مستجيرا به فهو آمن من سخط الله، ومن دخله من الوحوش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم(4).
5. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، قال: إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر إلى الحرم لم ينبغ لأحد أن يأخذه في الحرم، ولكن يمنع من السوق، ولا يبايع، ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يكلم، فإنه إذا فعل ذلك به يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم، لأنه لم يرع للحرم حرمة(4).
6. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، قال: إن سرق سارق بغير مكة أو جنى جناية على نفسه ففر إلى مكة، لم يؤخذ ما دام في الحرم حتى يخرج منه، ولكن يمنع من السوق، ولا يبايع، ولا يجالس حتى يخرج منه فيؤخذ، وإذا أحدث في الحرم ذلك الحدث أخذ فيه(5).
__________
(1) علل الشرائع: 397/1 باب: 137.
(2) علل الشرائع: 397/2.
(3) علل الشرائع: 398/5.
(4) الكافي: 4/226.
(5) الكافي: 4/227.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ وإنما سمي: بكة؛ لأنه يبك الناس بعضهم بعضا في الطواف(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، يعني: علامة واضحة؛ أثر مقام إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
3. روي أنّه قال: اختصم المسلمين واليهود في أمر القبلة، فقال المسلمون: القبلة الكعبة، وقالت اليهود: القبلة بيت المقدس، فأنزل الله الآية(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بلغنا: أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنها مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ إلى قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وليس ذلك في بيت المقدس، ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وليس ذلك في بيت المقدس، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ وليس ذلك لبيت المقدس(1).
2. روي أنّه قال: قلت لعطاء: وما: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾؟ قال يأمن فيه كل شيء دخله، قال وإن أصاب فيه دما؟ فقال: إلا أن يكون قتل في الحرم، فقتل فيه، قال وتلا: ﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، فإن كان قتل في غيره ثم دخله، أمن حتى يخرج منه، فقال لي: أنكر [ابن عباس] ابن عباس قتل ابن الزبير سعدا ـ مولى عتبة وأصحابه ـ، قال تركه في الحل، حتى إذا دخل الحرم أخرجه منه فقتله، قال له سليمان بن موسى: فعبد أبق فدخله؟ فقال: خذه، فإنك لا تأخذه لتقتله(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٢٩٨.
(2) عبد الرزاق في مصنفه: ٥/١٥١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ أي: مسجدا مباركا، ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، وقال: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: ٧](1).
__________
(1) الأزرقي في أخبار مكة: ١/١٣٢.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، هذه آية قائمة بنفسها، مستغنية عن التفسير لها؛ ألا تسمع كيف يقول عز وجل: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾، وهو: بيت آدم صلى الله عليه، الذي ابتناه عند خروجه من الجنة التي كان فيها وفي ظلالها، فاحتاج عند ذلك إلى الظل والكنان، فدله الله على بنيانه، فكان أول بيت بني في الدنيا، وكان فيه صلى الله عليه ساكنا، وحوله قاطنا.
2. وهو البيت الذي أقسم الله به في قوله: ﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾، وهو قبلة إبراهيم، وقبلة محمد صلى الله عليهما، وقبلة الخلق إلى منقطع الدنيا وذكرت: أن بيت آدم رفع إلى السماء؟ وليس من ذلك شيء؛ بل هو البيت الحرام، المتعبد به جميع الأنام، الذي يطاف به الآن، ويقصده جميع أهل الإيمان.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/174.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ وجوه:
أ. قيل: إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة.
ب. وقيل: أوّل مسجد وضع للناس مكة.
ج. وقيل: يريد ب (بكة) البقعة، أي: أوّل بقعة خلق الله هو بكة، ومنها دحيت الأرض.
د. وقيل: إن آدم عليه السلام لما أمر بالحج فيه، قال جبريل عليه السلام: (قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام)
هـ. وقيل: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام.
2. اختلف في قوله تعالى: ﴿بِبَكَّةَ﴾:
أ. قيل (البكة): الزحام.
ب. وقيل: (البكة): موضع البيت، ومكة سائر القرية.
ج. وعن ابن عباس قال: (مكة من فخ إلى التنعيم إلى المنحر، وبكة: من البيت إلى البطحاء)
د. وقيل: (بكة): الكعبة؛ حيث يبك الناس، أي: يزدحم بعضهم بعضا، بـ (مكة): ما وراءها.
3. ﴿مُبَارَكًا﴾ قيل: يغفر فيه الذنوب والخطايا.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ما لو تأمّلوا لهداهم؛ وذلك أن الله ـ عزّ وجل ـ خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة، فلولا أن كان ذلك من آيات الله ولطفه؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله.
ب. ويحتمل قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ ـ ما ذكر: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وذلك آياته.
4. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ ظاهره فيمن يجنى، ثم دخل الحرم آمن؛ لأن من لم يجن فهو آمن أين دخل من الحرم وغيره، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره:
أ. وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يوافق هذا، وروي عن ابن عباس قال (إذا أصاب الرجل الحدّ في الحرم، أقيم عليه، وإن أصابه في غير الحرم، ثم لجأ إليه، لا يحدّث، ولا يجالس، ولا يؤاكل، ولا يبايع، حتى يخرج منه؛ فيؤخذ، فيقام عليه الحد)، وروي عن ابن عمر أنّه قال: (لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله)
ب. وروي عن الحسن أنه قال في قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ ـ كان هذا في الجاهلية، فأما الإسلام: فلم يزده إلا شدة: من أصاب الحدّ في غيره، ثم لجأ ـ إليه أقيم عليه الحدّ، يقال للحسن: إن الصيد كان يأمن في الجاهلية، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام، كهو في حال الجاهلية؛ فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باق غير زائل في الإسلام.
5. أصحابنا (2) يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس وابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ الله تعالى حرّم مكّة يوم خلقها؛ لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار، لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها، ولا يحتشّ حشيشها)، أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن مكة بعد الإسلام حرام؛ كما كانت قبله، وأنها لم تحلّ له إلا ساعة من نهار، فإذا كان الملتجئ آمنا قبل الإسلام؛ فالواجب أن يكون آمنا بعد الإسلام، حتى يخرج منها.. وحجة أخرى: وهو أن الله تعالى أباح لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل المشركين جميعا، بل فرض ذلك عليه، إلا أهل مكة؛ فإنه لم يحلّ له قتلهم إلا ساعة من نهار، ففضّل مكة على غيرها بما خصّها به من التحريم؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها، ولم يحلّ قتالهم إلا ساعة من نهار.
6. في الفرق بين من قتل فيها وفي غيرها، ثم لجأ إليه وجه آخر: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]: أباح لهم القتل عند المسجد الحرام، إذا قاتلونا؛ فعلى ذلك يقام الحدّ إذا أصاب وهو فيه، وإذا أصاب ـ وهو في غيره ـ ثم لجأ إليه: لم يقم؛ كما لم يقاتلوا إذا لم يقاتلوا، وهذا فرق حسن واضح بحمد الله وعونه.
7. قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ يحتمل أن يكون خبرا من الحرم في قديم الدهر: أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم، إذا التجئوا إليه؛ وذلك كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67]؛ فيكون ذلك من عظيم آيات الله تعالى أن أهل الجاهلية ـ على عظيم ما بدلوا من الأمور، وغيروا من الدين ـ منعهم الله تعالى عن هذا التغيير؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن الله له هذا السلطان، وبه قام هذا التدبير العظيم، له العلم بحقائق الأشياء، ووضع كل شيء موضعه؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ﴾ [المائدة: 97] ـ إن الله قد جعل ـ جل ثناؤه ـ ذلك كالماء في الشرع والطبع، فأمّا الشرع: فما جاءت به الرسل، وأمّا الطبع: فما تنافر الناس، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات، لا بأسباب تكتسب؛ ولهذا كره بيع رباع مكة، ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان
8. دلّ قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَا﴾ كذا ـ على لزوم ذلك الحق؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان، والاحتجاج له، ولا يجوز تغير الذي هذا وضعه، ويحتمل: كأن صار آمنا، أي: أوجب له الأمان، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه؛ وأيّد ذلك قوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فهم قوم قد سبق منهم الكفر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/428.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾، أي مسجد، ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي بُين لهم وجُعل ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، أي بمكة، والأصل بكة، ولكن الناس جعلوها مكة، وقيل: إنها سميت بكة لبك الناس بها، وهو ورودهم وازدحامهم ودخولهم لها، قال الشاعر:
çإذا الشريف أخذته أَكَّه... فخلّه حتى تبك بَكَّهé
أي فذره حتى يورد ورده وإبله، والله أعلم وأحكم.
2. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي مكانه الذي قام فيه الطاعة لله، وإنفاذ أمره.
معنى قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾: أي ومن دخله لأداء فرض الله الذي فرض عليه كان آمناً من عذاب الله.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 261.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ لا اختلاف أنه أول بيت للعبادة، وفي بكة أقوال:
أ. قيل إن بكة المسجد ومكة الحرم كله.
ب. وقيل إن بكة بطن مكة.
ج. وقيل: إن بكة هي مكة واشتقاق بكة من تباك القوم بعضهم بعضاً إذا ازدحموا فبكة من زحم الناس للطواف أو بركته بما يستحق من ثواب القصد إليه.
2. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية ترقب منه وهو حجر صلد والآية فيه أمن الخائف وهيبة البيت وامتناع البيت من العلو عليه وتعجيل العقوبة لمن عتى فيه وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل.
3. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ أي الجاني إذا دخله أمن في الجاهلية وأما في الإسلام إذا دخل أمن من النار فأما الجاني إذا جنى ولاذ بالبيت فإنه يلجأ إلى الخروج منه فإذا خرج أقيم عليه الحد.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ لا اختلاف بين أهل التفسير أنه أول بيت وضع للعبادة، وإنما اختلفوا هل كان أول بيت وضع لغيرها على قولين:
أ. أحدهما: أنه قد كانت قبله بيوت كثيرة، وهو قول الحسن.
ب. الثاني: أنه لم يوضع قبله بيت، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
2. في ﴿بِبَكَّةَ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن بكة المسجد، ومكة: الحرم كله، وهذا قول ابن شهاب، وضمرة بن ربيعة.
ب. الثاني: أن بكة هي مكة، وهو قول أبي عبيدة.
ج. الثالث: أن بكة موضع البيت، ومكة غيره في الموضع يريد القرية، وروي ذلك عن مالك.
3. في المأخوذ منه بكة قولان:
أ. أحدهما: أنه مأخوذ من الزحمة، يقال تباكّ القوم بعضهم بعضا إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف.
ب. الثاني: أنها سميت بكة، لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا.
4. في قوله تعالى: ﴿مُبَارَكًا﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أن بركته ما يستحق من ثواب القصد إليه.
ب. الثاني: أنه آمن لمن دخله حتى الوحش، فيجتمع فيه الصيد والكلب.
5. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية في مقام إبراهيم أثر قدميه وهو حجر صلد؟ والآية في غير المقام: أمن الخائف، وهيبة البيت وامتناعه من العلو عليه، وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه، وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل.
6. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ معناه:
أ. أنه عطّف عليه قلوب العرب في الجاهلية فكان الجاني إذا دخله أمن.
ب. وأما في الإسلام ففيه قولان:
• أحدهما: أنه آمن من النار، وهذا قول يحيى بن جعدة.
• الثاني: من القتال بحظر الإيجال على داخليه، وأما الحدود فتقام على من جنى فيه.
7. اختلفوا في الجاني إذا دخله في إقامة الحد عليه فيه قولان:
أ. أحدهما: تقام عليه، وهو مذهب الشافعي.
ب. الثاني: لا تقام حتى يلجأ إلى الخروج منه، وهو مذهب أبي حنيفة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/411.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أول الشيء ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر، ويجوز أن لا يكون له آخر، لأن الواحد أول العدد، ولا نهاية، لآخره، ونعيم أهل الجنة له أول، ولا آخر له، فعلى هذا إنما كان أول بيت، لأنه لم يكن قبله بيت يحج إليه، وروي عن علي عليه السلام أنه قال: أول بيت وضع للعبادة البيت الحرام، وقد كانت قبله بيوت كثيرة، وقيل أول بيت رغب فيه، وطلب به البركة مكة، وقال مجاهد: لم يوضع قبله بيت، وإنما دحيت الأرض من تحتها، وبه قال قتادة، وروى أصحابنا(2): أن أول شيء خلق الله من الأرض موضع الكعبة، ثم دحيت الأرض من تحتها.
2. في قوله تعالى: ﴿بِبَكَّةَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة هو المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت، وهو قول أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقال أبو عبيدة: بكة هي بطن مكة.
ج. وقال مجاهد: هي مكة.
3. أصل بكة من البك، وهو الزحم تقول بكه يبكه بكاً إذا زحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، ومنه البك: دق العنق، لأنه فكه بشدة زحمة، فقيل: سميت بكة، لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا.
4. أما مكة، فقال الزجاج يجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة، وأبدلت الميم من الباء، كقولهم: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولهم: امتك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مص مصاً شديداً حتى لا يبقى منه شيئاً، فسميت مكة بذلك لازدحام الناس فيه، قال والأول أحسن، ويقال مك المشاش مكاً إذا تمشش بفيه.
5. نصب قوله: ﴿مُبَارَكًا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون حالا من الضمير الذي فيه.
ب. الثاني: على الظرف من بكة على معنى الذي استقر ببكة مباركا، وعلى هذا القول لا يكون قد وضع قبله بيت كما يجوز في التقدير الأول.
6. ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ معناه أنه دلالة لهم على الله من حيث هو المدبر لهم بما لا يقدرون عليه من أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي، فلا يعدو عليه وحتى يأنس الطير فلا يمتنع منه كما يمتنع من غيره إلى غير ذلك من الآثار والبينة فيه مع البركة التي يجدها من حج إليه مع ما له من الثواب الجزيل عليه.
7. أصل البركة الثبوت من قولك برك بركا وبروكا إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموه وتزايده ومنه البركاء: الثبوت في الحرب، ومنه البركة شبه حوض يمسك الماء، لثبوته فيه، ومنه قول الناس: تبارك الله، لثبوته لم يزل، ولا يزال وحده، ومنه البرك الصدر، لثبوت الحفظ فيه.
8. الآيات التي بمكة أشياء، منها ما قال مجاهد في مقام إبراهيم، وهو أثر قدميه داخلة في حجر صلد بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك علامة يهتدى بها، ودلالة يرجع إليها مع غير ذلك من الآيات التي فيه من أمن الخائف، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي، وامتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض من ماء به، ومن تعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة على عادة كانت جارية، ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا، لتخريبه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ (آية بينة مقام إبراهيم) فجعل مقام إبراهيم هو الآية، والأول عليه القراء، والمفسرون.
9. قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ رفع بأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره هي مقام إبراهيم وغير مقام إبراهيم، وقيل التقدير منها مقام إبراهيم.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: الدلالة على ما عطف عليه قلوب العرب في الجاهلية، من أمر من جنى جناية، ثم لاذ بالحرم، ومن تبعة تلحقه أو مكروه ينزل به، فأما في الإسلام فمن جنى فيه جناية أقيم عليه الحد إلا القاتل، فإنه يخرج منه، فيقتل في قول الحسن، وقتادة، وعندنا أنه إذا قتل في الحرم قتل فيه.
ب. الثاني: أنه خبر، والمراد به الأمر، ومعناه أن من وجب عليه حد، فلاذ بالحرم والتجأ إليه، فلا يبايع ولا يشارى ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد ـ في قول ابن عباس وابن عمر ـ وهو المروي عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليه السلام، وأجمعت الصحابة على أن من كانت له جناية في غيره ثم عاذ به أنه لا يؤاخذ بتلك الجناية فيه، وأجمعوا أيضاً أن من أصاب الحد فيه أنه يقام عليه الحد فيه، وإنما اختلفوا فيما به يخرج ليقام عليه الحد.
ج. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال من دخله عارفاً بجميع ما أوجب الله عليه، كان آمنا في الآخرة من أليم العقاب الدائم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/535.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البيت: واحد البيوت؛ لأنه يبيت فيه الإنسان، والبيت: عيال الرجل؛ لأنه يبيت عندهم.
ب. البَكُّ: الزحمة بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذا زحمه، وتباك القوم إذا ازدحموا، وسمي مكة بكة:
• لأنه مزدحم الناس للطواف.
• وقيل: البكة: دق العنق، وسميت مكة بذلك؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وإذا ظلموا فيها لم يمهلوا، وقيل: سميت مكة لقلة مائها، يقال: مَكَّ الفصيل ضرع أمه إذا مص كل ما فيه من اللبن.
ج. المبارك: مأخوذ من البركة، وأصله الثبوت يقال: برك يَبْرُكُ إذا ثبت، والبركة: ثبوت الخير بنموه، ومنه ﴿تَبَارَكَ﴾ لثبوته أبدًا.
د. الآيات جمع آية، وهي العلامة والحجة.
هـ. المَقَامُ: موضع القيام، وهو مأخوذ من القيام.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبَيَّنَ صدق المسلمين، وأن فيها آيات ليست في بيت المقدس، وفيها مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، ولله على الناس حجه، وليس ثم شيء من ذلك، عن مجاهد.
ب. وقيل: لما نزل قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ قالت اليهود: فنحن المسلمون، فأمروا أن يحجوا إن كانوا مَسلمين فأبوا، عن عكرمة.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: كان مما حاج اليهود أمر القبلة وأكثروا فيها وفي تفضيل مكة وبيت المقدس، فأنزل الله في ذلك ما قطع الكلام.
ب. وقيل: كانوا أنكروا نسخ الشرع، وكان أظهرها نسخ القبلة فخاصموا في أمره وحاجوا فيه، فأنزل الله هذه الآية جوابًا لهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ﴾:
أ. قيل: أول بيت بني ولم يكن قبله بيت، عن مجاهد وقتادة والسدي.
ب. وقيل: أول بيت وضع للعبادة، وقد كان قبله بيوت، عن علي والحسن والفراء، وروى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه، سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس)، فهو الصحيح؛ لأنه تعالى أضافه إليهم جميعًا، وذلك يقتضي الشركة في حكم، وليس ذلك إلا ما يتعلق بالعبادة.
ج. وقيل: أول بيت وضع فيه البركة، عن الضحاك.
د. وقيل: أول بيت وضع للحج.
هـ. وقيل: القبلة.
5. اختلفوا من بناه أولاً:
أ. قيل: خلقه الله تعالى على وجه الماء، وكانت زبدة بيضاء ثم دحيت الأرض من تحتها، عن مجاهد وقتادة والسدي.
ب. وقيل: أنزل مع آدم ليطوف فيه.
ج. وقيل: كان مكان البيت المعمور فرفع وقت الطوفان.
د. وقيل: بنته الملائكة فيما روي عن علي.
هـ. وقيل: بناه آدم، عن ابن عباس.
و. وقيل: بل بناه إبراهيم وإسماعيل على ما حكى الله تعالى في كتابه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾:
أ. قيل: بكة هي مكة، عن الضحاك والمؤرخ ومجاهد وأبي مسلم، والعرب تبدل الباء ميمًا يقال: سبد رأسه وسمده.
ب. وقيل: مكة الحرم كله، ودخل فيها البيوت، وبكة المسجد، عن ابن شهاب وضمرة بن ربيعة.
ج. وقيل: بكة اسم للبلد، ومكة موضع البيت والمطاف، وعليه الأكثر، قال أبو عبيدة: بكة بطن مكة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُبَارَكًا﴾:
أ. قيل: مباركًا من يأتيه تعبدًا، ويقيم عنده تقربًا، لَمَّا سأل من عظيم الجزاء وجزيل الثواب، عن الأصم وأبي علي.
ب. وقيل: مباركًا لثبوت العبادة، دائمًا حتى يحكى أن الطواف لا ينقطع أبدًا، حكاه القاضي.
ج. وقيل: لأنه يضاعف فيه ثواب العبادة عن ابن عباس، ورووا فيه حديثًا طويلاً.
د. وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب، ويحمل على الجميع؛ إذ لا يتنافى.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: رحمة للعالمين، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: فوزًا.
ج. وقيل: سببًا للفوز والنجاة.
د. وقيل: دلالة على الله من حيث إنه دبره بما لا يقدر عليه غيره من أمن الوحش فيه، حتى يجتمع الكلب والصيد فلا يعدو عليه، وكاسر الطير إلى غير ذلك من الآيات.
هـ. وقيل: قبلة للمسلمين ومطافًا.
و. وقيل: لأنهم يحجونه، وبالصلاة إليه يكونون مهتدين.
9. ﴿فِيهِ﴾ أي في مكة ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ حجج ظاهرة ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾:
أ. قيل: مواقفه في الحج.
ب. وقيل: موضع قدميه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾:
أ. قيل: الآية في مقام إبراهيم هو أثر قدميه في حجر صلد، وسائر الآيات من أمن الخائف، وعدم إمحاق الجمار مع كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو على البيت، واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن هتك حرمته، وهلاك أصحاب الفيل ونحوه.
ب. وقيل: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ هي الشعائر والمناسك.
11. مقام إبراهيم يجوز أن يكون ابتداء، ويجوز أن يكون بدلاً من ﴿آيَاتِ﴾ وتفسيرًا لها أي الآيات المناسك المفروضة مقام إبراهيم، وهو الصلاة عنده، عن أبي مسلم.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ﴾:
أ. قيل: دخل مكة.
ب. وقيل: البيت، وهو الأولى، وإن كان كل واحد منهما مذكورًا ويصح رجوع الكناية إليه.
13. في قوله تعالى: ﴿كَانَ آمِنًا﴾ أقوال:
أ. الأول: هو ما عطف عليه قلوب العرب في الجاهلية من أمن من جنى جناية ثم لاذ بالحرم من تَبِعَةٍ تلحقه أو مكروهٍ ينزلُ به، وفي الإسلام: من قتل أو جنى ثم لاذ إلى الحرم لا يؤخذ فيه، بل يُخْرَجُ منه، وقيل: ذلك في القتل دون سائر الحدود، وفي القتل يخرج ثم يقتل، عن الحسن وقتادة وجماعة، واختلفوا كيف يخرج.
ب. الثاني: أنه أمر:
• يعني من وجب عليه حد فلاذ به لم يتابع ولم يقاتل حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد، عن ابن عباس وابن عمر، وعلى هذا تقديره: من دخله فَأمِّنُوهُ كقوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾
• وقيل: من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان آمنًا؛ لأنه قال تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾
• وقيل: من دخله للنسك تقربًا إلى الله تعالى على شرائطه كان آمنًا يوم القيامة، عن الضحاك، قال: من حجه كان آمنًا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
14. تدل الآية الكريمة على:
أن الكعبة أول بيت وضع، وبَيَّنَّا الاختلاف فيه أنه أول بيت وأول متعبد، وتدل على بركة تتعلق به، وهو ما يحصل لمن قصده بالعبادة من الثواب.
أنه سبب الفوز والنجاة، وذلك إما بالحج إليه أو بالتوجه في الصلاة.
يدل قوله تعالى: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ أن التعبد مما يتعلق به عام.
15. قراءات ووجوه:
أ. قراءة العامة ﴿وُضِعَ﴾ بضم الواو وكسر الضاد على ما لم يسم فاعله، وعن بعضهم ﴿وُضِعَ﴾ بفتح الواو والضاد بمعنى وضع الله.
ب. قراءة العامة ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وأراد المشاعر، وعن ابن عباس ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾ على الواحد وأراد مقام إبراهيم.
16. مسائل نحوية:
أ. اللام في قوله: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ لام التأكيد كقولك: إن في البيت لزيدًا.
ب. ﴿مُبَارَكًا﴾ نصب قيل: على الحال من وضع، كأنه وضع مباركا، وقيل: بالظرف من مكة على معنى الذي استقر بمكة مباركا، وعلى هذا التقدير لا يكون قد وضع قبله بيت كما يجوز في التقدير الأول.
ج. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ رفع، قيل: على الابتداء، ويجوز أن يكون بدلاً من آيات، عن أبي مسلم، وقيل: تقديره: هو مقام إبراهيم، عن الأخفش.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/319
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أول الشيء: ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر، ويجوز أن لا يكون آخر له، لأن الواحد أول العدد ولا نهاية لآخره، ونعيم أهل الجنة، له أول، ولا نهاية له.
ب. أصل بكة: البك وهو الزحم، يقال بكه يبكه بكا: إذا رحمه، ويباك الناس: إذا ازدحموا، فبكة: مزدحم الناس للطواف، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، وقيل: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم، ولم يمهلوا، والبك: دق العنق، وأما مكة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة، وإبدال الميم من الباء، كقوله: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة: إذا مص مصا شديدا، حتى لا يبقى منه شيء، ومك المشاش مكا: إذا تمشش بفيه، فسميت مكة بذلك لقلة مائها.
ج. أصل البركة: الثبوت من قولهم: برك وبروكا، أو بركا: إذا ثبت على حاله، فالبركة: ثبوت الخير بنموه، ومنه البركة: شبه الحوض، يمسك الماء لثبوته فيه، ومنه قول الناس: تبارك الله لثبوته، لم يزل، ولا يزال وحده.
2. قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء، والأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾:
أ. قيل: أي: بني للناس، ولم يكن قبله بيت مبني، وإنما دحيت الأرض من تحتها، وهو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله تعالى السماء والأرض من تحتها، وهو خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، عن مجاهد، وقتادة، والسدي، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنها كانت مهاة بيضاء، يعني درة بيضاء، وروى أبو خديجة عنه عليه السلام قال: إن الله أنزله لآدم من الجنة، وكان درة بيضاء، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وبقي رأسه وهو بحيال هذا البيت، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام ببنيان البيت على القواعد.
ب. وقيل: معناه إن أول بيت وضع للعبادة، ولم يكن قبله بيت يحج إليه إلا البيت الحرام، وقد كانت قبله بيوت كثيرة، ولكنه أول بيت مبارك وهدى وضع للناس، عن علي عليه السلام والحسن.
ج. وقيل: أول بيت رغب فيه، وطلب منه البركة، مكة، عن الضحاك.
د. روى أصحابنا (2): إن أول شيء خلقه الله من الأرض، موضع الكعبة، ثم دحيت الأرض من تحتها.
هـ. روى أبو ذر أنه سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أول مسجد وضع للناس، فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾:
أ. قيل: بكة المسجد، ومكة الحرام كله، يدخل في البيوت، عن الزهري، وضمرة بن ربيعة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقيل: بكة بطن مكة، عن أبي عبيدة.
ج. وقيل: بكة موضع البيت والمطاف، ومكة اسم البلدة، وعليه الأكثر.
د. وقيل: بكة هي مكة والعرب، تبدل الباء ميما مثل: سبد رأسه، وسمده، عن مجاهد، والضحاك.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُبَارَكًا﴾:
أ. قيل: يعني كثير الخير والبركة.
ب. وقيل: مباركا لثبوت العبادة فيه دائما، حتى يحكى على أن الطواف به لا ينقطع أبدا.
ج. وقيل: لأنه يضاعف فيه ثواب العبادة، عن ابن عباس، ورووا فيه حديثا طويلا.
د. وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب.
هـ. ويجوز حمله على الجميع، إذ لا تنافي.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: أي: دلالة لهم على الله تعالى لإهلاكه كل من قصده من الجبابرة، كأصحاب الفيل وغيرهم، وباجتماع الظبي في حرمه مع الكلب والذئب، فلا ينفر عنه مع نفرته عنه في غيره من البلاد، وبانمحاق الجمار على كثرة الرماة، فلولا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال، وباستئناس الطيور فيه بالناس، وباستشفاء المريض بالبيت، وبأن لا يعلوه طير إعظاما له، إلى غير ذلك من الدلالات.
ب. وقيل: معناه أنهم يهتدون به إلى جهة صلاتهم، أو يهتدون إلى الجنة بحجه وطوافه.
7. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أي: دلالات واضحات، والهاء في ﴿فِيهِ﴾: عائد إلى البيت، وروي عن ابن عباس أنه قرأ فيه آية بينة.
8. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ فجعل مقام إبراهيم وحده هو الآية، وقال: أثر قدميه في المقام آية بينة، والأول عليه القراء، والمفسرون أرادوا مقام إبراهيم، والحجر الأسود، والحطيم، وزمزم، والمشاعر كلها، وأركان البيت، وازدحام الناس عليها، وتعظيمهم لها، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة، وسئل الصادق عليه السلام عن الحطيم فقال؟ هو ما بين الحجر الأسود والباب، قيل: ولم سمي الحطيم؟ قال: لأن الناس يحطم بعضهم بعضا، وهو الموضع الذي فيه تاب الله على آدم، وقال عليه السلام: إن تهيأ لك أن تصلي صلاتك كلها الفرائض وغيرها عند الحطيم، فافعل، فإنه أفضل بقعة على وجه الأرض، وبعده الصلاة في الحجر أفضل، وروي عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا علي بن الحسين: أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله تعالى ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال لنا: أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يصوم النهار، ويقوم الليل، في ذلك المكان، ثم لقي الله تعالى بغير ولايتنا، لا ينفعه ذلك شيئا، وقال الصادق عليه السلام: الركن اليماني بابنا الذي ندخل منه الجنة، وروي أنه من روي من ماء زمزم، أحدث له به شفاء، وصرف عنه داء قال المفسرون ومن تلك الآيات مقام إبراهيم عليه السلام، وأمن الداخل فيه، وأمن الوحوش من السباع الضارية، وأنه ما علا عبد على الكعبة إلا عتق، وإذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني، كان الخصب باليمن، وإذا كان من ناحية الركن الشامي، كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان في جميع البلدان، وسائر ما ذكرناه قبل، من الآيات.
9. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ عطف على مقام إبراهيم.
10. في مقام إبراهيم دلالة واضحة، لأنه حجر صلد، يرى فيه أثر قدميه، ولا يقدر أحد أن يجعل الحجر كالطين إلا الله، وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الحرم كله مقام إبراهيم.
11. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ من دخل مقام إبراهيم يعني الحرم كان آمنا، قيل فيه أقوال:
أ. أحدها: إن الله عطف قلوب العرب في الجاهلية على ترك التعرض لمن لاذ بالحرم، والتجأ إليه، وإن كثرت جريمته، ولم يزده الاسلام إلا شدة، عن الحسن.
ب. وثانيها: إنه خبر، والمراد به الأمر، ومعناه: إن من وجب عليه حد، فلاذ بالحرم، لا يبايع ولا يشارى ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد، عن ابن عباس، وابن عمر، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام، وعلى هذا يكون تقديره: ومن دخله فأمنوه.
ج. وثالثها: إن معناه من دخله عارفا بجميع ما أوجبه الله عليه، كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
12. أجمعت الأمة على أن من أصاب فيه ما يوجب الحد، أقيم عليه الحد فيه.
13. مسائل نحوية:
أ. ﴿مُبَارَكًا﴾ نصب على الحال بالظرف من ﴿بِبَكَّةَ﴾ على معنى الذي استقر ﴿بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾، ويجوز أن يكون من الضمير في ﴿وُضِعَ﴾ كأنه قيل: وضعا مباركا، وعلى هذا يجوز أن يكون قد وضع قبله بيت، ولا يجوز في التقدير الأول.
ب. رفع ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ لأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي مقام إبراهيم، عن الأخفش، وقيل: هو بدل من ﴿آيَاتِ﴾، عن أبي مسلم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/797.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة، وقال المسلمون: الكعبة أفضل، فنزلت هذه الآية.
2. في معنى كونه أوّلا قولان:
أ. أحدهما: أنه أوّل بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أوّل بيت على ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء، عليها ملكان يسبّحان الليل والنّهار قبل الأرض بألفي سنة، وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، ثم دحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، ومجاهد، والسّدّيّ في آخرين.
• الثاني: أن آدم استوحش حين أهبط، فأوحى الله إليه، أن: ابن لي بيتا في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
• الثالث: أنه أهبط مع آدم، فلما كان الطّوفان، رفع فصار معمورا في السماء، وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة، القول.
ب. الثاني: أنه أوّل بيت وضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول عليّ بن أبي طالب والحسن، وعطاء بن السّائب في آخرين.
3. بكّة: قال الزجّاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البكّ، يقال: بكّ الناس بعضهم بعضا، أي: دفع، واختلفوا في تسميتها ببكّة على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والفرّاء، ومقاتل.
ب. الثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي: تدقّها، فلم يقصدها جبّار إلا قصمه الله، روي عن عبد الله بن الزّبير، وذكره الزجّاج.
ج. الثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبّرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيديّ، وقطرب.
4. اتفقوا على أنّ مكّة اسم لجميع البلدة، واختلفوا في بكّة على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، وإبراهيم، وعطيّة.
ب. الثاني: أنها ما حول البيت، ومكّة ما وراء ذلك، قاله عكرمة.
ج. الثالث: أنها المسجد، والبيت، ومكّة: اسم للحرم كلّه، قاله الزّهريّ، وضمرة بن حبيب.
د. الرابع: أن بكّة هي مكّة، قاله الضّحّاك، وابن قتيبة، واحتجّ ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم؛ يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله، وشرّ لازم، ولازب.
5. ﴿مُبَارَكًا﴾ قال الزجّاج: هو منصوب على الحال، المعنى: الذي استقرّ بمكّة في حال بركته، ﴿وَهُدًى﴾، أي: وذا هدى، ويجوز أن يكون (هدى) في موضع رفع، المعنى: وهو هدى، فأمّا بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمن من دخله، وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع أخرى، إلا كتب الله له بها حسنة، وحظّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة)
6. في معنى الهدى في قوله تعالى: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة للعالمين.
ب. الثاني: أنه بمعنى: الرّحمة.
ج. الثالث: أنه بمعنى: الصّلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربّه.
د. الرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، حيث يجتمع الكلب والظّبي في الحرم، فلا الكلب يهيّج الظّبي، ولا الظّبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى.
7. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، الجمهور يقرؤون: آيات، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: (فيه آية بيّنة مقام إبراهيم)، وبها قرأ مجاهد، قالا: مقام إبراهيم، فأمّا من قرأ: ﴿آيَاتِ﴾ فقال عليّ بن أبي طالب: الآيات: مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون الجمع معبّرا عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدّهنّ، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، ولله على النّاس حجّ البيت، وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهنّ مقام إبراهيم.
8. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطّير من العلوّ عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك، قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كلّه، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثّرت قدماه فيه، فكان ذلك دليلا على قدرة الله، وصدق إبراهيم.
9. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومن دخله، فأمّنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمّن، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه، ثم لجأ إلى الحرم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذيّ: إذا قتل، أو قطع يدا، أو أتى حدّا في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدّ، ولم يقتصّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئا من ذلك في الحرم، استوفي منه، وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل، وإن كانت الجناية دون النّفس، فإنه يقام عليه الحدّ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك والشّافعيّ: يقام عليه جميع ذلك في النّفس، وفيما دون النّفس.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والشّعبيّ، وسعيد بن جبير، وطاووس.
__________
(1) زاد المسير: 1/306.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:
أ. الأول: أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة، وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلًا، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف، فكان جعلها قبلة أولى.
ب. الثاني: أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا؟ فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استدلّ على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل، ثم إن الله تعالى حرم بعضها، والقوم نازعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها.
ج. الثالث: أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 95] وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت، ليفرع عليه إيجاب الحج.
د. الرابع: أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة، فإن الله تعالى بيّن كذبهم، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون، فيدل هذا على كذبهم في ذلك.
2. الأول: قال المحققون: هو الفرد السابق، فإذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منهما لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق، لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق.
3. قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس، وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس، وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق، فدل قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات، وموضعاً للحج، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه.
4. سؤال وإشكال: كونه أولًا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه، ومعلوم أنه ليس كذلك، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن لفظ (الأول): في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصبته، ولو قال أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر، فكذا هنا.
ب. الثاني: أن المراد من قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات، بدليل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج، فهذا غير لازم والله أعلم.
5. قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن يكون المراد كونه أولًا في الوضع والبناء.
ب. ويحتمل: أن يكون المراد كونه أولًا في كونه مباركاً وهدى، روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن أول مسجد وضع للناس، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسجد الحرام ثم بيت المقدس) فقيل كم بينهما؟ قال (أربعون سنة)، وعن علي أن رجلًا قال له: أهو أول بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبناه العمالقة، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش.
6. المفسّرون الذين ذكروا أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ يعني أنه أول في البناء والوضع، لهم أقوال:
أ. أحدها: ما روى الواحدي في (البسيط) بإسناده عن مجاهد أنه قال خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين، وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خلق آدم)، وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر، ومجاهد والسدي: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته، قال القفال في (تفسيره): روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام (أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء)
ب. ثانيها: أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام، فلما أرسل الله تعالى الطوفان، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة، يتعبد عنده الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة، وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت، وأمره بعمارته، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام.
7. هذان القولان يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه:
أ. الأول: أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام، بدليل قوله تعالى في سورة مريم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58] فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة.
ب. الثاني: أن الله تعالى سمى مكة أم القرى، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة.
ج. الثالث: روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة (ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر)، وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة.
د. الرابع: أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت موجودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.
8. لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه:
أ. الأول: ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة)، وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام، ولقائل أن يقول: لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام.
ب. الثاني: تمسكوا بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: 127] ولقائل أن يقول: لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار.
ج. الثالث: قال القاضي: إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة ـ والعياذ بالله تعالى ـ لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة، ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول: لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها.
9. دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً.
10. إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر هاهنا وجوه فضيلة البيت:
أ. الفضيلة الأولى: اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس، واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت، فقال: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26] والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام، فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو الملك الجليل، والمهندس هو جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام.
ب. الفضيلة الثانية: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر.
ج. الفضيلة الثالثة: قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمى إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء.
د. الفضيلة الرابعة: إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها.
هـ. الفضيلة الخامسة: أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: 126] وقال تعالى في صفة أمنه ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67] وقال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 3، 4] ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصّر بالكلية.
و. الفضيلة السادسة: أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صغارا تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور، والجواب: لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة، ومثل هذا يكون من المعجزات، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء.
ز. الفضيلة السابعة: إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع، والحكمة من وجوه:
• أحدها: إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله.
• ثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.
• ثالثها: أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط.
• رابعها: أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا، فكأنه قال جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن.
• خامسها: كأنه قال لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا.
11. هذا ما يتعلق بفضائل الكعبة، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود: إن بيت المقدس أشرف من الكعبة.
12. ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ لا شك أن المراد من ﴿بِبَكَّةَ﴾ هو مكة ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال بكة ومكة اسمان لمسمى واحد، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال: هذه ضربة لازم، وضربة لازب، ويقال: هذا دائم ودائب، ويقال: راتب وراتم، ويقال: سمد رأسه، وسبده.
ب. ومن الناس من فرق بين مكة وبكة، فقال بعضهم: إن بكة اسم للمسجد خاصة، وأما مكة، فهو اسم لكل البلد، قالوا: والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف، لا في سائر المواضع، وقال الأكثرون: مكة اسم للمسجد والمطاف، وبكة اسم البلد، والدليل عليه أن قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفا للبيت، أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد، استقام هذا الكلام.
13. في اشتقاق بكة وجهان:
أ. الأول: أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً، يقال: بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير: سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة، قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان.
ب. الثاني: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب: تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته.
14. أما مكة ففي اشتقاقها وجوه:
أ. الأول: أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها، من قولك: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا امتص ما فيه.
ب. الثاني: سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض، يقال أمتك الفصيل، إذا استقصى ما في الضرع، ويقال تمككت العظم، إذا استقصيت ما فيه.
ج. الثالث: سميت مكة، لقلة مائها، كأن أرضها امتكت ماءها.
د. الرابع: قيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة.
15. لمكة أسماء كثيرة، قال القفال في (تفسيره): مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها، وأم القرى قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: 92] وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض.
16. للكعبة أسماء:
أ. أحدها: الكعبة قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 97] والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً، لارتفاع ثديها، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً، وأكثرها فضيلة سمى بهذا الاسم.
ب. ثانيها: البيت العتيق: قال تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 33] وقال: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29] وفي اشتقاقه وجوه:
• الأول: العتيق هو القديم، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء.
• الثاني: أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء.
• الثالث: من عتق الطائر إذا قوي في وكره، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تخريبه أهلكه الله سمي عتيقاً.
• الرابع: أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين.
• الخامس: أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار.
ج. ثالثها: المسجد الحرام قال سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1] والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية.
17. سؤال وإشكال: كيف الجمع بين قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ وبين قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [الحج: 26] فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس؟ والجواب: كأنه قيل: البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك.
18. ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ وصف الله تعالى هذا البيت بأنواع الفضائل: فأولها: أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكرنا معنى كونه أولًا في الفضل ونزيد هاهنا وجوهاً أخر منها ما قال علي: هو أول بيت خص بالبركة، وبأن من دخله كان آمناً، وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف، أول بيت جعل قبلة.
19. وصفه الله تعالى بكونه مباركاً، وانتصب ﴿مُبَارَكًا﴾ على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً، والبركة لها معنيان: أحدهما: النمو والتزايد، الثاني: البقاء والدوام، يقال تبارك الله، لثبوته لم يزل، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر:
أ. فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه:
• أحدها: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فضل المسجد الحرام على مسجدي، كفضل مسجدي على سائر المساجد) ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه)، فهذا في الصلاة، وأما الحج، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وفي حديث آخر (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.
• ثانيها: قال القفال: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: 57] فيكون كقوله: ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: 1]
• ثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً.
ب. أما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك، لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود، وأيضاً الأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم، وظهر لثان وعصر لثالث، ومغرب لرابع وعشاء لخامس، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلًا من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين.
20. الصفة الثالثة من صفات هذا البيت كونه {هُدىً لِلْعالَمِينَ}، قال الزجاج: المعنى وذا هدىً للعالمين، ويجوز أن يكون ﴿وَهُدًى﴾ في موضع رفع على معنى وهو هدى، واختلفوا في معناه:
أ. قيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
ب. وقيل: هدى للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء، وقيل: هدىً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة.
21. في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قولان:
أ. الأول: أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي: أمن الخائف، وانمحاق الجمار على كثرة الرمي، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور، وقوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ لا تعلق له بقوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ فكأنه تعالى قال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
ب. الثاني: أن تفسير الآيات مذكور، وهو قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: هي مقام إبراهيم، وأجابوا عن كون الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد من وجوه:
• الأول: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو دليل على وجود الصانع، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ [النحل: 120]
• الثاني: أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة.
• الثالث: قال الزجاج: إن قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ من بقية تفسير الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الاثنان فما فوقهما جماعة)، ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حجه، ثم حذف (أن) اختصاراً، كما في قوله: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29] أي أمر ربي بأن تقسطوا.
• الرابع: يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما.
• الخامس: قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة آية بينة على التوحيد.
• السادس: قال المبرّد ﴿مَقَامَ﴾ مصدر فلم يجمع كما قال: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾ [الحج: 32]
22. في قوله تعالى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أقوال:
أ. أحدها: أنه لما ارتفع بنيان الكعبة، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه.
ب. الثاني: أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل: انزل حتى نغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانب الآخر، فبقي أثر قدميه عليه.
ج. الثالث: أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج، قال القفال: ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها.
23. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ لهذه الآية نظائر: منها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العنكبوت: 67]، وقال إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، وقال تعالى: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 4] قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ موجودة في الحرم ثم قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم؟
أ. قال الشافعي: يستوفي.
ب. وقال أبو حنيفة: لا يستوفي، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج، ثم يستوفي منه القصاص، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ واحتج أبو حنيفة بهذه الآية، فقال: ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية، والجواب: أن قوله: ﴿كَانَ آمِنًا﴾ إثبات لمسمى الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به وبيانه من وجوه:
• الأول: أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة، قال النبي عليه السلام: (من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً) وقال أيضا: (من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام) وقال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
• الثاني: يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا وهذا أولى مما قالوه لوجهين.
● الأول: أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر.
● الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
• الثالث: في تأويل الآية: أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان آمناً لأنه تعالى قال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: 27]
• الرابع: قال الضحاك: من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
24. طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد، وهو أن قوله: ﴿كَانَ آمِنًا﴾ حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/295.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾، قلت: ثم أي؟ قال: ﴿الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾، قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل)، قال مجاهد وقتادة: لم يوضع قبله بيت، قال علي: كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة، وعن مجاهد قال: تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية، وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأول من بناه، قال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى، وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن سليمان بن داوود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة، سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه، فجاء إشكال بين الحديثين، لأن بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة، قال أهل التواريخ: أكثر من ألف سنة، فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليه السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما، وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل، والله أعلم، وقال علي بن أبي طالب: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به، وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام.
2. ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ خبر ﴿أَنْ﴾ واللام توكيد، و﴿بِبَكَّةَ﴾ موضع البيت، ومكة سائر البلد، عن مالك بن أنس، وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله، تدخل فيه البيوت، قال مجاهد: بكة هي مكة، فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: طين لازب ولازم، وقاله الضحاك والمؤرج، ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام، تباك القوم ازدحموا، وسميت بكة:
أ. لازدحام الناس في موضع طوافهم، والبك دق العنق.
ب. وقيل: سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم، قال عبد الله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه الله تعالى.
3. وأما مكة:
أ. فقيل إنها سميت بذلك لقلة مائها.
ب. وقيل: سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه، ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه، قال الشاعر:(مكت فلم تبق في أجوافها دررا)
ج. وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها، أي تهلكه وتنقصه.
د. وقيل: سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها، من قوله: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال] أي تصفيقا وتصفيرا، وهذا لا يوجبه التصريف، لأن ﴿مَكَّةَ﴾ ثنائي مضاعف و﴿مُكَاءً﴾ ثلاثي معتل.
4. ﴿مُبَارَكًا﴾ جعله مباركا لتضاعف العمل فيه، فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في ﴿وُضِعَ﴾ أو بالظرف من ﴿بِبَكَّةَ﴾ المعنى: الذي استقر ﴿بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ ويجوز في غير القرآن ﴿مُبَارَكٌ﴾، على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ، ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ عطف عليه، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين، ويجوز في غير القرآن ﴿مُبَارَكٌ﴾ بالخفض يكون نعتا للبيت.
5. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ رفع بالابتداء أو بالصفة، وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾ على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده، قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة، وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام، والباقون بالجمع، أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها، قال: أبو جعر النحاس: من قرأ ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فقراءته أبين، لأن الصفا والمروة من الآيات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ومنها أن الجارح يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد.
6. المقام: من قولهم: قمت مقاما، وهو الموضع الذي يقام فيه، والمقام من قولك: أقمت مقاما، وقد مضى هذا في البقرة، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه، وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم، قاله الأخفش، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: ﴿مَقَام﴾ بدل من ﴿آيَاتِ﴾، وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم، وقول الأخفش معروف في كلام العرب، كما قال زهير:
çلها متاع وأعوان غدون به...قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقاé
أي مضى وبعد سيلانه، وقول أبي العباس: إن مقاما بمعنى مقامات، لأنه مصدر، قال الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة]، وقال الشاعر: (إن العيون التي في طرفها مرض)، أي في أطرافها، ويقوي هذا الحديث المروي: (الحج كله مقام إبراهيم)
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾:
أ. قال قتادة: ذلك أيضا من آيات الحرم، قال النحاس: وهو قول حسن، لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل]
ب. وقال بعض أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه، كقوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت: من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه، لقوله تعالى: [﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله، وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس، قال ابن العربي: وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين: إحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره، فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا، وقد ناقض أبو حنيفة فقال، إذا لجأ إلى الحرم لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلم حتى يخرج، فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن، وروي عنه أنه قال: (يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا)
8. الجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس: من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه فيه، وإن أصابه في الحل ولجأ إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وهو قول الشعبي، فهذه حجة الكوفيين، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الآية، وهو حبر الأمة وعالمها.
9. الصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت] فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل.. قال قتادة: ومن دخله في الجاهلية كان آمنا، وهذا حسن، وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء: أليس في القرآن ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه! قال له: ألست من العرب! ما الذي يريد القائل: من دخل داري كان آمنا؟ أليس أن يقول لمن أطاعه: كف عنه فقد أمنته وكففت عنه؟ قال: بلى، قال: فكذلك قوله ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، وقال يحيى بن جعدة: معنى ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ يعني من النار، وهذا ليس على عمومه، لأن في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل (فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم) الحديث، وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظما له عارفا بحقه متقربا إلى الله تعالى، قال جعفر الصادق: من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وأنشد:
çيا كعبة الله دعوة اللاجي...دعوة مستشعر ومحتاج
ودع أحبابه ومسكنه...فجاء ما بين خائف راجي
إن يقبل الله سعيه كرما...نجا، وإلا فليس بالناجي
وأنت ممن ترجى شفاعته...فاعطف على وافد بن حجاجé
وقيل: المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان آمنا، دليله قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح]، وقد قيل: إن ﴿مِنَ﴾ ها هنا لمن لا يعقل، والآية في أمان الصيد، وهو شاذ، وفي التنزيل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [النور] الآية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/138.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لكونه: مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، فرد الله ذلك عليهم بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ الآية، فقوله: ﴿وُضِعَ﴾ صفة لبيت، وخبر إن: قوله: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فنبه تعالى بكونه: أول متعبد على أنه أفضل من غيره.
2. اختلف في الباني في الابتداء: فقيل: الملائكة، وقيل: آدم، وقيل: إبراهيم، ويجمع بين ذلك: بأول من بناه الملائكة، جدده آدم، ثم إبراهيم.
3. بكة: علم للبلد الحرام، وكذا مكة، وهما لغتان:
أ. وقيل: إن بكة: اسم لموضع البيت، ومكة: اسم للبلد الحرام؛ وقيل: بكة: للمسجد، ومكة: للحرم كله؛ قيل: سميت بكة لازدحام الناس في الطواف، يقال: بك القوم: ازدحموا؛ وقيل: البك: دق العنق، سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة
ب. وأما تسميتها: بمكة، فقيل: سميت بذلك: لقلة ما بها؛ وقيل: لأنها تمك المخ من العظم، بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم: إذا أخرجت ما فيه، وأمكته: إذا امتصه، وقيل: سميت بذلك: لأنها تمك من ظلم فيها، أي: تهلكه.
4. ﴿مُبَارَكًا﴾ حال من الضمير في وضع، أو من متعلق الظرف، لأن التقدير: للذي استقر ببكة مباركا، والبركة: كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده، أي: الثواب المتضاعف.
5. الآيات البينات: الواضحات، منها: الصفا والمروة، ومنها: أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها: أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها: انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها: هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك.
6. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من آيات، قاله محمد بن يزيد المبرد، وقال في الكشاف: إنه عطف بيان، وقال الأخفش: إنه مبتدأ، وخبره: محذوف، والتقدير: منها مقام إبراهيم؛ وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مقام إبراهيم، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ـ وهي جمع ـ: بالمقام ـ وهو فرد ـ وأجاب: بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات، لقوّة شأنه، أو: بأنه مشتمل على آيات، قال ويجوز أن يراد ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع.
7. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ جملة مستأنفة، لبيان حكم من أحكام الحرم، وهو: أن من دخله كان آمنا، وبه استدلّ من قال إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حدّ من الحدود فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور، فقالوا: تقام عليه الحدود في الحرم، وقد قال جماعة: إن الآية خبر في معنى الأمر، أي: ومن دخله فأمنوه كقوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾ أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/416.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال اليهود: قِبلتُنا أشرف من قبلتكم لأنَّه مَهاجر الأنبياء، وقبلتهم، وأرض المحشر، ومتقدِّمة في الوجود؛ فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ﴾ وضعه الله في الأرض لأن يُعبد فيه، بل حواليه من الحرم.
2. ﴿لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ في مكَّة، والباء والميم يتبادلان، وما كثر استعماله فهو الأصل، وغيره بدل منه، فمكَّة بالميم أصلٌ وبكَّة بدله، ولَزِمَ أصلٌ ولزِبَ بدله، وراتبٌ أصل لراتمٍ لكثرة راتب دون راتم، أو بكَّة موضع المسجد ومكَّة البلد فلا بدل، وبكَّهُ: زاحَمه، والناس يزدحمون للطواف في مكَّة زمان الحجِّ، قال قتادة: (رأيت محمَّد بن علي الباقر يصلِّي، فمرَّت امرأة بين يديه، فذهبت أدفعها فقال: دعها، فإنَّها سمِّيت بكَّة لأنَّ الناس يبكُّ بعض بعضا، تمرُّ المرأة بين يدي الرجل وهو يصلِّي، ويمرُّ بين يديها وهي تصلِّي)، وبكَّه: دقَّه، وهي تبكُّ أعناق الجبابرة إذا قصدوها بسوء، وبكَّهم الله عمَّهم بالهلاك، وبكَّ أمَّه مصَّ لبنها وماءها، قيل: وتمكُّ الذنوب تزيلها.
3. بناه الملائكة قبل خلق آدم بألفي عام، ثمَّ بنوا بعده المسجد الأقصى بأربعين عاما، وقيل: جدَّد آدم بناء الكعبة، وبنى هو بعدها الأقصى بأربعين عاما، أمر الله الملائكة الذين في الأرض ببناء الكعبة تحت البيت المعمور على قدره ليطوفوا به كما يطوف ملائكة السماء بالمعمور، وموضعها أوَّل ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة بيضاء، فبسطت الأرض من تحتها، وحجَّته الملائكة قبل آدم بألفي عام، فقالوا له: طُف به فقد طفنا به قبلك بألفي عام، ويقال: بَنتْه الملائكة من ياقوتة حمراء، ثمَّ آدم، ثمَّ شيت، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ العمالقة، ثمَّ جُرهُم، ثمَّ قُصي، ثمَّ قريش، ثمَّ عبد الله بن الزبير، ثمَّ الحجَّاج، وبناؤه هو الموجود الآن إِلَّا في الميزاب والباب وترميمات حادثة في الجدار والسقف، وقيل: نزل مع آدم من الجنَّة ورفع بعد موته إلى السماء، وقيل: بُني قبل آدم عليه السلام ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة وقيل: الرابعة.
4. ﴿مُبَارَكًا﴾ كثير الخير لمن تعبَّد عنده، بالنظر إليه والقراءة عنده، والتسبيح أو الذكر أو الطواف مطلقًا، أو الحجِّ أو عمرة أو صدقة أو عبادة، وغفران الذنوب، وتكثير الثواب وتنوير القلوب، وفيه ثمرات كلِّ شيء، ودوام العبادة إليها من أهل الأرض، وكلُّ آن يفرض هو صبح لقوم، ظهر لثان، عصر لثالث، وهكذا، وما هو أخصُّ من ذلك.
5. ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ إلى دينهم؛ لأنَّه قبلتهم في عبادتهم كالصلاة، وهي معظم الأعمال، والدعاء إليه، واستقباله في الدعاء وغيره من العبادات والمباح، و﴿مُبَارَكًا﴾ و﴿هُدًى﴾ حالان من المستتر في ﴿بِبَكَّةَ﴾، قيل: أو في ﴿وُضِعَ﴾، وفيه الإخبار قبل تمام الصفة.
6. ﴿فِيهِ﴾ أي: في حَرَمِه، فحذف المضاف، أو في الحرم المدلول عليه بالسياق، أو في البيت معبَّرا به عمَّا يجاوره من الحرم، ﴿ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ واضحات على احترامه، كانحراف الطير عن أن تعلوه في طيرانها إلى الآن، إِلَّا إن مرضت فتدخل هواءه فوقه للتشفِّي، وهذا لا ينضبط لكثرة ما تعلوه، وكعدم تعرُّض السباع للصيد في الحرم، كما يتبع سبع من الطير أو الوحش طائرًا أو غيره فيدخل الحرم يرجع عنه، ولقلَّة حجارة الرمي مع كثرة الرماة فإنَّها ترفع بالقبول، وكلُّ ركن منه وقع الغيث فيما يقابله من الأرض وقع الخصب فيما يليه من البلاد، فإذا وقع فيما يقابل ركن اليمن وقع الخصب في اليمن وهكذا، وآيات الحرم كلِّه آيات له لأنَّها من أجله، وأمَّا تعرُّض الهر لحمام مكَّة فلأنَّه تكيَّف بكيفيَّة الناس المجاورين له، فصار كالإنسان المتعدِّي في الحرم، إِلَّا أنَّه لا إثم عليه، وكقهر كلِّ جبَّار قَصَدَهُ كأصحاب الفيل، وكقوم من الإنكليز قبل وقتي هذا بنحو خمس سنين، لبسوا لباس أهل التوحيد، وجاءوا عرفة فنزلت صاعقة من السماء فأحرقتهم دون سائر أهل عرفة، وذلك لحرمة البيت والمناسك، ولو كانت عرفات خارجة عن الحرم.
7. الجملة إمَّا مستأنفة وإمَّا حال أخرى لا حال من ضمير ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾؛ لأنَّه عائد لـ ﴿هُدًى﴾، فيكون المعنى: هدى ثابت للعالمين في حال أنَّ في البيت آيات بيِّنات، ولا رابط من ضمير أو وَاوِ حالٍ، وإن رجعنا الهاء لـ ﴿هُدًى﴾ كان المعنى: في حال ثبوت آيات بيِّنات في الهدى، وهذا لا يصحُّ، وإمَّا حال من ضمير ﴿مُبَارَكًا﴾، ولا يجوز أن يكون نعتًا لـ ﴿هُدًى﴾ لِمَا مرَّ في منع الحال منه.
8. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ منها مقام إبراهيم، أو عطف بيان ولو اختلفا تعريفا وتنكيرا عند بعض، لا بدل بعض لعدم الرابط، إِلَّا أن يقدَّر محذوفٌ، أي: مِنْهَا، وعلى البيان تكون الآيات نفس مقام، فالمقام هو الآيات؛ لأنَّ فيه أثر قَدم إبراهيم، وهو صخرة صمَّاء، وأنَّها غاصت فيه إلى الكعبين، وأنَّه لَانَ من الصخور، وأنَّه باقٍ ومحفوظ ـ مع كثرة الأعداء ـ آلاف السنين، فبين إبراهيم والهجرة ألفان وثمانمائة سنة وثلاث وتسعون سنة، وعلى زعم اليهود ألفان وأربعمائة واثنتان وأربعون سنة، وذلك أثر قَدَم واحدة، وقيل: قدمين، وهو الحجر الذي يبني البيت وهو عليه، ونادى عليه: (أيُّها الناس حجُّوا بيت ربِّكم)، وتعمَّد عليه من ظهر راحلته فرجَّلت امرأة إسماعيل رأسه، تم تعمَّد عليه من الجانب الأيسر واندرس الأثر من كثرة المسح بالأيدي.
9. ﴿وَمَن دَخَلَهُ﴾ الهاء للبيت بمعنى الحرم على ما مرَّ، أو على الاستخدام، ﴿كَانَ ءَامِنًا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَرَوَا اَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ـ امِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم﴾ [العنكبوت: 67]، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، يلتجئ إليه القاتل فلا يُقتل حتَّى يخرج، في الجاهليَّة والإسلام، ولا يؤوى في الإسلام حتَّى يخرج فيقتل عندنا وعند أبي حنيفة، وقال الشافعيُّ وغيره: يقتل فيه، وكذا الخُلْفُ إذا لزمه الرجمُ للزنى، أو القتلُ للردَّة، وإن فعل فيه موجبَ قتلٍ فإنَّه يقتل فيه إجماعًا، قال عمر: (لو ظفرت فيه بقاتل الخطَّاب ما مسسته)، وقال ابن عمر: (لو ظفرت فيه بقاتل عمر لم أمسه حتَّى يخرج)، ويُقضَى فيه بما دون القتل، والجاهلية يخطفون المال من الحلِّ ولا يخطفون من الحرم؛ قال الله جلَّ وعلَا: ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم﴾، وقيل: آمنا من النار، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا)، وعن ابن عمر: (من قُبِرَ في مكَّة مؤمنًا بُعثَ آمنًا يوم القيامة)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الحجُون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينتران في الجنَّة)، قال ابن مسعود: وقف صلّى الله عليه وآله وسلّم على ثنية الحجون ولا مقبرة فيها فقال: (يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنَّة بغير حساب، يشفع كلُّ واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من صبر على مكَّة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنَّم مسيرة مائتي سنة)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/329.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي لنسكهم وعباداتهم ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ أي للبيت الذي ببكة، أي فيها، وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى، وبكة لغة في مكة، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم (ضربة لازب ولازم) و(النميط والنبّيط) في اسم موضع بالدهناء، وقولهم (أمر راتب وراتم) و(أغبطت الحمى وأغمطت)، وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، سميت بذلك لدقها أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى، أو لازدحام الناس بها من (بكّه) إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه، كما أن مكة من (مكّه) أهلكه ونقصه، لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد وتنقص الذنوب أو تنفيها ـ كما في القاموس ـ وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي (ميشا) أو (ماسا) المذكورة في التوراة، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو (مسّا)، ﴿مُبَارَكًا﴾ أي كثير الخير، لما يحصل لمن حجه، واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله، من الثواب وتكفير الذنوب ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ لأنه قبلتهم ومتعبدهم.
2. ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولا في الوضع والبناء، ورووا في ذلك آثارا، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين، ومنها أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور، وذلك قبل خلق آدم، ومنها أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام، وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه، والمتعين أن المراد أول بيت وضع مسجدا، كما بيّنه رواية ابن أبي حاتم عن عليّ في هذه الآية قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى، وفي الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّه، فإن الفضل فيه.. قال ابن القيم في (زاد المعاد): وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داوود الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، وهذا من جهل القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار.
3. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت، قال ابن كثير: وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطّوّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة، قال المفسرين: ثمرة الآية الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه، لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات.
4. مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره، أي منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه السلام، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة، قالوا: فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء، وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخور دون بعض، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام، وحفظه، مع كثرة الأعداء، ألوف سنة، آية مستقلة، ويؤيده قراءة (آية بينة) على التوحيد، وإما بما يفهم من قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية، لكنها في قوة أن يقال (وأمن من دخله) فتكون، بحسب المعنى والمآل، معطوفة على مقام إبراهيم، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها ـ أفاده أبو السعود.
5. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قال المهايميّ: رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وتعجيل عقوبة من عتا فيه، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر، ومن أعظمها، النازل منزلة الكل، مقام إبراهيم، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء، ثم لين، فغرقت فيه قدماه، كأنهما في طين، فبقي أثره إلى يوم القيامة، ومن آياته أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم، وقد أمن صيده وأشجاره، قال أبو السعود: ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67]، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، وكان الرجل لو جرّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب، وعن عمر: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه.
6. ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات، وأوضحته الأحاديث والآثار:
أ. ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة: لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
ب. وقال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله إلّا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلّا الإذخر، ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه.
ج. ولهما، واللفظ لمسلم أيضا، عن أبي شريح العدويّ أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب، فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارّا بدم، ولا فارّا بخربة.
7. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): (قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما)، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها، وهو الذي يباح في غيرها، ويحرم فيها، لكونها حرما، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص.
8. ذكر هنا بعض المباحث التفصيلية المرتبطة بهذا من كلام ابن القيم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/356.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما قوله عز وجل: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ فهو جواب الشبهة الثانية، وتقريره: إن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس؛ بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لأجل العبادة خاصة، ثم بني المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون بناه سليمان بن داود عليهما السلام، فصح أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ملة إبراهيم، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل، وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره محمد عبده، وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية، هل هي أولية الشرف أو أولية الزمان؟
2. المتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم، وهذا يستلزم الأولية في الشرف، وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا، فقالوا: إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما، وقال محمد عبده: إذا صح الحديث فلاشيء في العقل يحيله، ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته، وبيت المقدس المعروف الذي ينصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق وذلك قبل ميلاد المسيح بنحو 800 سنة: كذا قال في الدرس، والمعروف في كتب القوم إنه تم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد، والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء، قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس، فقيل: كم بينهما؟ فقال: (أربعون سنة) وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه:
أ. منها: أن الوضع غير البناء وهو ضعيف، لأنه سماه بيتا، ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة.
ب. ومنها: أن ذلك مبني على القول بأن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس، وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح، وقال ابن القيم: إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب، وإنما كان سليمان مجددا له، هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع.
3. الموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها.
4. أما قوله تعالى في البيت: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية:
أ. أما الأولى: فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع، فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام.
ب. وأما الثانية: فهي هُويّ أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون، فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية، تلك دعوة إبراهيم {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} [إبراهيم: 37]
5. أشير إلى الوصفين في قوله تعالى:حكاية عن المشركين {وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون} [القصص: 57] وقال بعضهم: إن ﴿مُبَارَكًا﴾ يشمل البركات الحسية والمعنوية، وما اخترناه هو المتبادر.
6. من مباحث اللفظ في الآية: إن (بكة) اسم لمكة، كما روي عن مجاهد، قيل: وعليه الأكثرون، وجعلوه من إبدال الميم باء، وهو كثير في كلامهم، كسمّد رأسه وسبده، وضربة لازم وضربة لازب، وراتم وراتب، ونميط ونبيط، وقيل: بكة اسم المسجد نفسه، أو حيث الطواف من التباك، أي الازدحام وقيل: هو اسم بطن مكة حيث الحرم.
7. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد، أحدها، أو منها: مقام إبراهيم، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر، فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أو بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد وضع ليعبد الناس فيه ربهم ـ وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب.
8. وقوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله، حتى أن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم مادام فيه، مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات وكثرة ما بينها من الأحقاد والأضغان وأقره الإسلام.
9. يرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف، وأجيب عنه: بأنها حلت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده، كما ورد في الحديث، وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له.. وحرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه، وهو أمن من دخل البيت والنبي لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة، وإنما كان مناديه ينادي بأمره: (من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن)، ولما أخبر أبو سفيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول سعد بن عُبادة حامل لواء الأنصار له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة)
10. أما فعل الحجاج أخزاه الله فقد قال محمد عبده: إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه، وتأمين من دخله، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه: أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة، وإنما معناه: أنه تعالى ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه عز وجل، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه، ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد، وتوقعه في الظلم والإلحاد، وإن ما يفعل الآن في الحرم من الظلم والإلحاد المستمر لم يسبق له نظير في جاهلية ولا إسلام، ولا ضرورة ملجئة إليه، وإنما هي السياسة السوأى قضت بتنفير الناس من أمراء مكة وشرفائها وإبعاد عقلاء المسلمين عنها حتى لا يكون للمسلمين فيها قوة في الدين ولا في العلم والرأي!! وماذا يكون من ضرر هذه القوة؟ يوسوس لهم شيطان السياسة: أن عمران الحجاز وثقة الناس بأمرائه وشرفائه، وأمن العقلاء والسرورات فيه ربما يكون سببا في إنشاء خلافة عربية فيه.
11. إن كثيرا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات سياسة لا يسهل اقتحامها، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن، وقد كان محمد عبده يعتقد اعتقادا جازما فيه أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة، وأنه لا أمان له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء، وإن كاتب هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ لنمتثل ما فرضه علينا من حج هذا البيت ـ كما يأتي في تتمة الآية ـ فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال: إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة، وقد رد محمد عبده هذا التأويل، وقال ما معناه: إنه هدم للدين كله، فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله تعالى، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان، إذا أخلص صاحبه فيه.. ولا تنسى في هذا المقام مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار، وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل.
__________
(1) تفسير المنار: 4/7.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون، بناه سليمان عليه السلام سنة 1005 قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى، وبذا يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما، والخلاصة ـ إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم، ويتبع هذا أولية الشرف والتعظيم.
2. ثم بين فضائله فقال: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ تطلق البركة على معنيين: أحدهما النموّ والزيادة، وثانيهما البقاء والدوام كما يقال تبارك الله، والبركة والهداية من فضائله الحسية والمعنوية:
أ. أما الأولى فهي أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع كما قال الله تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر والشام.
ب. وأما الثانية فلأن القلوب تهوى إليه، فتأتى الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة، ويولّون وجوههم شطره في صلاتهم وربما لا تمضى ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه، ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات.
3. كل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات الله عليه: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
4. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي فيه دلائل واضحات، أحدها مقام إبراهيم ـ موضع قيامه للصلاة والعبادة ـ وقد عرف ذلك العرب وغيرهم بالنقل المتواتر، وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم، وجعلت النبوة والملك فيهم، فأيّ دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة؟
5. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ أي وأمن من دخله، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه، فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء، وأمن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته ما دام فيه، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد والضغائن، واختلاف المنازع والأهواء، وقد أقر الإسلام هذا، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾
6. فتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة، فقد حلت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث على أن حل مكة وما يتبعها من أرباضها للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستحلّ البيت ساعة ولا ما دونها، بل كان مناديه ينادى: من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، وقد أخبر أبو سفيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة)، وما فعله الحجاج من رمى البيت بالمنجنيق، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، ويقع به في الظلم والإلحاد، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلّ ما فعلوا.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/8.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يقرر الله تعالى أن الاتجاه للكعبة هو الأصل، فهي أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصص لها، مذ أمر الله إبراهيم أن يرفع قواعده، وأن يخصصه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وجعله مباركا وجعله هدى للعالمين، يجدون عنده الهدى بدين الله ملة إبراهيم، وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم.. ويقال: إن المقصود هو الحجر الأثري الذي كان إبراهيم عليه السلام يقف عليه في أثناء البناء، وكان ملصقا بالكعبة فأخره عنها عمر حتى لا يشوش الذين يطوفون به على المصلين عنده، وقد أمر المسلمون أن يتخذوه مصلى بقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾
2. يذكر من فضائل هذا البيت أن من دخله كان آمنا، فهو مثابة الأمن لكل خائف، وليس هذا لمكان آخر في الأرض، وقد بقي هكذا مذ بناه إبراهيم وإسماعيل، وحتى في جاهلية العرب؛ وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم، وعن التوحيد الخالص الذي يمثله هذا الدين.. حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية، كما قال الحسن البصري وغيره: (كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج).. وكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته هذا، حتى والناس من حوله في جاهلية! وقال ـ سبحانه ـ يمتن على العرب به: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ وحتى إنه من جملة تحريم الكعبة حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها، وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه.. إلخ)
3. هذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة.. هو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة، وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة، وهو بيت أبيهم إبراهيم، 97 ـ وفيه شواهد على بناء إبراهيم له، والإسلام هو ملة إبراهيم، فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون، وهو مثابة الأمان في الأرض، وفيه هدى للناس، بما أنه مثابة هذا الدين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/435.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هاتين الآيتين الكريمتين ما يكشف عن الأسس القويمة التي قام عليها دين الله، بدءا وختاما، فكان هو الإسلام في مبدئه وختامه:
أ. فاولا: إبراهيم عليه السّلام ـ هو أبو الأنبياء، ومن ذريته، وعلى دينه، داوود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، ومحمد.. عليهم صلوات الله وسلامه.
ب. وثانيا: البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس، في هذه الأرض، ليكون مصدر الخير والبركة، ومعلم الهدى والنور للناس أجمعين.
ج. ثالثا: هذا البيت الحرام، كان مصلّى إبراهيم ومقامه، ساقته العناية الإلهية إليه، ليجدّد معالمه، ويرفع قواعده، ويعدّه لاستقبال الرسالة التي بدأها، حين يتمّ تمامها، وتبلغ غايتها على يد آخر المرسلين من أبنائه، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. هذا البيت الذي اتخذه إبراهيم مصلّى له، هو بيت الله، وهو أول بيت على هذه الأرض اتصل فيه الإنسان بربّه، منذ طفولة الإنسانية الأولى، فلما اصطفى الله إبراهيم لرسالته، دعاه إلى تجديد معالمه، ورفع قواعده، ولم يكن إبراهيم هو الذي أنشأه وأقامه.. فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾
3. في قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ إشارة إلى أنه كان بيتا لله قبل أن يعهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان التي عبدها العابدون فيه.. ثم يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾، وفي هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم وإسماعيل قد تهدمت.. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي كانت عليها.
4. في اشتراك إسماعيل مع أبيه إبراهيم في إقامة هذا البيت، وتطهيره من الأوثان.. إعداد ـ كما قلنا ـ للرسالة المحمدية، التي ستكون ميراثا خالصا له من أبويه الكريمين: إبراهيم وإسماعيل.
5. من هذا يبدو أن الرسالة الإسلامية المحمّدية كانت هي الفلك الذي تدور فيه رسالات الأنبياء والمرسلين، وأنها الجامعة التي تجتمع إليها جميع الرسالات، وتلتقى عندها، كما أنها كانت هي المنبع الذي فاضت منه عيونها، والكوكب الذي استمدت منه شعاعاتها.. فالرسالة الإسلامية المحمدية هي المبدأ والختام، بدأت كما يبدو الهلال، يكبر ليلة بعد ليلة، حتى يتم تمامه ويصير بدرا، ففي كل نبوّة، وبين يدى كل نبيّ قبسة من أقباس الإسلام، وضوءة من أضوائه، حتى جاء صاحب الرسالة الإسلامية، محمد ابن عبد الله، فوضعها الله بين يديه، على أتم تمامها، وأكمل كمالها.
6. ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ حالان لنائب الفاعل للفعل (وضع) أي وضع البيت مباركا وهدى للعالمين.
7. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ بيان للبركة التي شملت هذا البيت، وللهدى الذي يفيض على الناس منه.. وتلك الآيات كثيرة.. منها أنه كان أقدم بنية لله على هذه الأرض، ومع ذلك ظل محتفظا بوجوده، لم تذهب به الأحداث، ولم يأت عليه الزمن كما أتى على آثار الأولين، وعفّى على كل معلم من معالمها.. أما هذا البيت فهو أقدم معلم على هذه الأرض، ومع ذلك فهو لا يزداد مع الأزمان إلا وضوحا ورسوخا.. حتى في عهود الضلال والوثنية.. كان له في قلوب الوثنيين وفي عقولهم من الإجلال والتقديس ما له في قلوب المؤمنين وعقولهم؛ من إجلال وإكبار وتقديس!
8. ومن الآيات القائمة فيه، أنه كان ولا يزال أبدا حرما آمنا، يجد عنده من يلوذ به من إنسان وحيوان وطير، الأمن والسلامة، فلا تمتد إليه يد بأذى ولا يناله أحد بمكروه، توقيرا لهذا البيت، وتكريما لمقامه الكريم.. حتى إن أشدّ الناس فتكا، وأقساهم قلبا، وأكثرهم إضرارا بالناس وأذى، لا يجد في نفسه القدرة على انتهاك حرمة هذا الحرم.. بل إنه سرعان ما يستولى عليه شعور الأمن والسلام، وإذا هو أمن وسلام، مع المؤمنين السالمين، في جوار الحرم الأمين.
9. ومن الآيات البينات في هذا البيت أنه لا يزال أبدا مهوى الأفئدة، ومجتمع الحجيج من مختلف الأمصار والأجناس والألسنة، حتى إذا صارت إليه هذه الألوان المختلفة من الناس، أحالها لونا واحدا، وأوردها مشربا واحدا، وجمعها على أمر واحد!.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/534.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [آل عمران: 95] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاما لإبراهيم ففضائل هذا البيت تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النّاس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة، وحرمتها فيما مضى من الزّمان.
2. وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع (إنّ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر، أو شكّ شاكّ، ومن خصائص (إنّ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام، أن تغني غناء فاء التفريع وتفيد التّعليل والربط، كما في دلائل الإعجاز.
3. ولما في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون (إنّ) مؤذنة بالربط، وبيان وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور، دون غيره من الهياكل الدينية الّتي نشأت بعده، وهو مائل، كان ذلك دلالة إلهية على أنّه بمحلّ العناية من الله تعالى، فدلّ على أنّ الدّين الّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وهذا التّعليل خطابي جار على طريقة اللّزوم العرفي.
4. قال الواحدي، عن مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية.
5. ﴿أَوَّلُ﴾ اسم للسابق في فعل ما فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه.
6. البيت بناء يأوي واحدا أو جماعة، فيكون بيت سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمّى قبّة قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾ [النحل: 81]
7. معنى ﴿وُضِعَ﴾ أسّس وأثبت، ومنه سمّي المكان موضعا، وأصل الوضع أنّه الحطّ ضدّ الرفع، ولمّا كان الشيء المرفوع بعيدا عن التناول، كان الموضوع هو قريب التناول، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول، والتّهيئة للانتفاع.
8. بكة اسم مكّة، وهو لغة ـ بإبدال الميم باء ـ في كلمات كثيرة عدّت من المترادف: مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون الرماد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك: أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت، وأنّ مكّة بالميم اسم بقية الموضع، فتكون باء الجرّ ـ هنا ـ لظرفية مكان البيت خاصّة، لا لسائر البلد الّذي فيه البيت، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلدا، فيكون أصله من اللغة الكلدانية، لغة إبراهيم، ألا ترى أنّهم سمّوا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت، فلاحظ أيضا الاسم الأوّل، ويؤيّد ذلك قوله: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ [النمل: 91] وقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، وقد قيل: إنّ بكّة مشتقّ من البكّ وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.
9. عدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة، وهو الكعبة، إلى تعريفه بالموصولية بأنّه (الّذي ببكة): لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية، والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها، وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض، فتمسّك بهذا الظّاهر مجاهد، وقتادة، والسّدي، وجماعة، فقالوا: هي أوّل بناء، وقالوا: إنّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثمّ درست، فجددها إبراهيم، قال ابن عطية: ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وقد زعموا أنّها كانت تسمّى الضراح ـ بوزن غرابـ ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر، وتأوّلوا الآية، قال عليّ: (كان قبل البيت بيوت كثيرة)
10. لا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم، لأنّ قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء، وأشهر ذلك برج بابل، بني إثر الطوفان، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر، ومن ذلك بيت أصنامهم، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر الّتي أهداها له ملك مصر، وقد حكى القرآن عنهم: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 97] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر، وقد سلك العلماء مسالك فيه: وهي راجعة إلى تأويل الأوّل، أو تأويل البيت، أو تأويل فعل وضع، أو تأويل النّاس، أو تأويل نظم الآية، والّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهدى، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التّاريخ، ولكن أوائل أسباب الهدى، فالأوّلية في الآية على بابها، والبيت كذلك، والمعنى أنّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التّوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله: ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾
11. ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ المقتضى أنّه من وضع واضع لمصلحة النّاس، لأنّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النّاس، وبقرينة مجيء الحالين بعد؛ وهما قوله: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أوّل بيت عبادة حقّ، كان أوّل معهد للهدى، فكان كلّ هدى مقتسبا منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه، وهذا المفاد من تفريع قوله: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [البقرة: 95]، وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب، فروى عنه أنّ رجلا سأله: أهو أوّل بيت؟ قال (لا، قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للنّاس مباركا وهدى)
12. جعل مباركا وهدى حالين من الضمير في ﴿وُضِعَ﴾ لا من اسم الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلّا على معنى أنّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا، وليس مراده أنّ قوله: ﴿وُضِعَ﴾ هو الخبر لتعيّن أن الخبر هو قوله: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ بدليل دخول اللّام عليه، وعن مجاهد قالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنّها مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون: الكعبة، فأنزل الله هذه الآية، وهذا تأويل ﴿أَوَّلُ﴾ بأنّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها، وقيل: أراد بالأول الأشرف مجازا.
13. عندي أنّه يجوز أن يكون المراد من النّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنّصارى والمسلمين، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنّه أفضل ممّا سواه من بيوت عبادتهم.
14. إنّما كانت الأوّلية موجبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مسجد قباء: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون، فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمان بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول، وأمّا بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره، وروى في (صحيح مسلم)، عن أبي ذرّ أنّه قال سألت رسول الله: أيّ مسجد وضع أول؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثمّ أيّ؟ قال المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة، فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قرونا فكيف تكون أربعين سنة، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجدا في موضع بيت المقدس ثمّ درس فجدّده سليمان.
15. لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود، وأشار إليه القرآن في قوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ﴾ [سبأ: 13] الآية، فالظاهر أنّ إبراهيم لمّا مرّ ببلاد الشّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عيّن الله له الوضع الّذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذرّيّته، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحا للقربان، وهي الصّخرة الّتي بنى سليمان عليها المسجد، فلمّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه، وهذا من العلم الّذي أهملته كتب اليهود، وقد ثبت في سفر التّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنّه يعطي تلك الأرض لنسله، فالظاهر أنّه بنى أيضا بموضع مسجد أرشليم مذبحا.
16. ﴿مُبَارَكًا﴾ اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير، أي جعلت البركة فيه بجعل الله تعالى، إذ قدّر أن يكون داخله مثابا ومحصّلا على خير يبلغه على مبلغ نيته، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادة الثّواب ورفاهية الحال، وأمر بجعل داخله آمنا، وقدّر ذلك بين النّاس فكان ذلك كلّه بركة، وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ في سورة الأنعام [92]
17. وصفه بالمصدر في قوله: ﴿وَهُدًى﴾ مبالغة لأنّه سبب هدى، وجعل هدى للعالمين كلّهم: لأنّ شهرته وتسامع النّاس به، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه، وأنّه لتوحيد الله، وتطهير النّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي، ويرعوي المتشكك.
18. من بركة ذاته أنّ حجارته وضعتها عند بنائه يد إبراهيم، ويد إسماعيل، ثمّ يد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا سيما الحجر الأسود، وانتصب ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى﴾ على الحال من الخبر، وهو اسم الموصول.
19. جملة ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ استئناف ثناء على هذا البيت بما حفّ به من المناقب والمزايا فغيّر الأسلوب للاهتمام ولذلك لم تجعل الجملة حالا، فتعطف على الحالين قبلها، لأنّ مباركا وهدى وصفان ذاتيّان له، وحالان مقارنان، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنّها جملة وما قبلها مفردان ولئلّا يتوهم أن الواو فيها واو الحال، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو، على ما حقّقه الشّيخ عبد القاهر، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال، فكرهت في السمع، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنّها جملة، فاستغنت بالضّمير عن رابط العطف.
20. وصف الآيات ببيّنات لظهورها في علم المخاطبين، وجماع هذه الآيات هي ما يسّره الله لسكّان الحرم وزائريه من طرق الخير، وما دفع عنهم من الأضرار، على حالة اتّفق عليها سائر العرب، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم، وأعظمها الأمن، الّذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تديّنهم، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء، وتواضع مثل هذا بين مختلف القبائل، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان، آية على أنّ الله تعالى وقر ذلك في نفوسهم، وكذلك تأمين وحشه مع افتتان العرب بحبّ الصّيد، ومنها ما شاع بين العرب من قصم كلّ من رامه بسوء، وما انصراف الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه، ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك، وافتداء الله تعالى إياه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم ـ عليه السّلام ـ قربانه، ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خبره أبا عن جدّ من نزول الحجر الأسود من السّماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم، ولعلّه حجر كوكبي، ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قحولة أرضه، وملوحة مائه.
21. ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أصل المقام أنّه مفعل من القيام، والقيام يطلق على المعنى الشّائع وهو ضدّ القعود، ويطلق على خصوص القيام للصّلاة والدعاء، فعلى الوجه الثّاني فرفع مقام على أنّه خبر لضمير محذوف يعود على ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، أي هو مقام إبراهيم، أي البيت الّذى ببكّة، وحذف المسند إليه هنا جاء على الحذف الّذي سمّاه علماء المعاني، التّابعين لاصطلاح السكاكي، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه، وذلك في الرفع على المدح، أو الذم، أو الترحّم، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبيّن المراد منه كقول أبي الطمحان القيني:
çفإنّ بني لأم بن عمرو أرومة...سمت فوق صعب لا تنال مراقبه
نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب...بدا كوكب تأوي إليه كواكبهé
22. هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، وقد عبّر عن المسجد الحرام بأنّه مقام إبراهيم أي محلّ قيامه للصلاة والطواف قال تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125] ويدل لذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل:
çعذت بما عاذ به إبراهم...مستقبل الكعبة وهو قائمé
23. وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الّذى فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السّلام في الصّخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة، وبذلك فسر الزجّاج وتبعه على ذلك الزمخشري، وأجاب الزمخشري عمّا يعترض به من لزوم تبيين الجمع بالمفرد بأنّ هذا المفرد في قوّة جماعة من الآيات لأنّ أثر القدم في الصّخرة آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصّخر دون بعض آية، وأنا أقول: إنّه آيات لدلالته على نبوّة إبراهيم بمعجزة له وعلى علم الله وقدرته، وإنّ بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضا.
24. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ عطف على مزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم، وامتنان بما تقرّر في ماضي العصور، فهو خبر لفظا مستعمل في الامتنان، فإنّ الأمن فيه قد تقرّر واطّرد، وهذا الامتنان كما امتنّ الله على النّاس بأنّه خلق لهم أسماعا وأبصارا فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك، قال ابن العربي: هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته، وصرف الأيدي عن إذايته، وروي هذا عن الحسن، وإذا كان ذلك خبرا فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحجّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أوّل هذه السورة [آل عمران: 7]
25. من العلماء من حمل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ أنّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يصاب بأذى، وروي عن ابن عبّاس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس والشعبي، وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر:
أ. فقال جماعة: هذا حكم نسخ يعنون نسخته الأدلّة الّتي دلّت على أنّ الحرم لا يعيذ عاصيا، روى البخاري، عن أبي شريح الكعبي، أنّه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة ـ أي لحرب ابن الزبير ـ: ائذن لي أيّها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به: إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال (إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس؛ لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهد الغائب)، قال فقال لي عمرو: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة (الخربة ـ بفتح الخاء وسكون الراء ـ الجناية والبلية الّتي تكون على النّاس) وبما ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بأن يقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة يوم الفتح.. وقد قال مالك، والشّافعى: إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه، وقال أبو حنيفة، وأصحابه الأربعة: لا يقتصّ في الحرم من اللاجئ إليه من خارجه ما دام فيه؛ ولكنّه لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس إلى أن يخرج من الحرم، ويروون ذلك عن ابن عبّاس، وابن عمر، ومن ذكرناه معهما آنفا، وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله بن عمر قال (من كان خائفا من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته)
ب. وقال فريق: هو حكم محكم غير منسوخ، فقال فريق منهم: قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ﴾ يفهم منه أنّه أتى ما يوجب العقوبة خارج الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه، وهذا قول الجمهور منهم، ولعلّ مستندهم قوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: 194] أو استندوا إلى أدلّة من القياس، وقال شذوذ: لا يقام الحدّ في الحرم، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم، وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191]
26. جعل الزجّاج جملة ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آية ثانية من الآيات البيّنات فهي بيان لـ (آيات)، وتبعه الزمخشري، وقال: يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنّى كقوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4]، وإنّما جاز بيان المفرد بجملة لأنّ هذه الجملة في معنى المفرد إذ التّقدير: مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتّى يقرّب هذا الوجه، وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة:
çمن لنا عنده من الخير آيا...ت ثلاث في كلهنّ القضاء
آية شارق الشقيقة إذ جا...ءت معدّ لكلّ حيّ لواءé
ثم قال:
çثمّ حجرا أعني ابن أم قطام...وله فارسية خضراءé
ثم قال:
çوفككنا غلّ امرئ القيس عنه...بعد ما طال حبسه والعناءé
فجعل (وفككنا) هي الآية الرابعة باتّفاق الشرّاح إذ التقدير: وفكنّا غل امرئ القيس.
27. جوّز الزمخشري أن يكون آيات باقيا على معنى الجمع وقد بيّن بآيتين وتركت الثّالثة كقول جرير:
çكانت حنيفة أثلاثا فثلثهم...من العبيد وثلث من مواليهاé
أي ولم يذكر الثلث الثالث، وهو تنظير ضعيف لأنّ بيت جرير ظهر منه الثلث الثالث، فهم الصميم، بخلاف الآية فإنّ بقية الآيات لم يعرف، ويجوز أن نجعل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾.. متضمّنا الثالثة من الآيات البيّنات.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/158.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به أهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لا يبغونها عوجا؛ وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه، وهو جد إسرائيل الذي كان منه الأسباط، وكان منه عن طريقهم من ينتمى إليهم من النبيين الذين أنشئوا بيت المقدس، وأقاموا الدولة المقدسة في الأرض المقدسة، والتي لم يحسن اليهود من بعدهم القيام عليها؛ بل عثوا فيها بالفساد، حتى مزقهم بختنصّر شرّ ممزق، وشرد الرومان بعد ذلك بهم من خلفهم، حتى جاء المسلمون فأعادوا إلى الوادي المقدس شريعة الله المقدسة، وهى الإسلام الذي كتب له أن يعمره بها إلى يوم القيامة: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم]
2. لقد ذكر الله سبحانه ذلك الأمر الجامع في بيان شرف بيت الله الحرام، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ البيت المقصود به هنا هو البيت الحرام، وهو الحرم المكي العامر إلى يوم القيامة، وقد عرفه بأنه الذي ببكة، وبكة هي مكة، وفي لغة العرب قلب الميم باء في أحوال كثيرة من غير انضباط، ولقد جاء في تفسير الزمخشري ما نصه: (مكة وبكة لغتان فيها نحو قولهم: النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء ونحو: من الاعتقاب أمر راتب، وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة، وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، وقيل اشتقاقها من بكّه إذا زحمه؛ لازدحام الناس فيها)، وقيل: بك بمعنى دك؛ وذلك لأن الله يدق عنق كل من يرومها بسوء.
3. عرف البيت بأنه الذي ببكة للإشارة إلى أن مكة ذاتها هي مثابة الشريعة الباقية وهى شريعة النبيين أجمعين، وهى خالدة إلى يوم القيامة، وهى الإسلام جماع كل الشرائع السماوية؛ وهو الذي وصى الله به إبراهيم وموسى وعيسى.
4. سؤال وإشكال: ما معنى أولية البيت الحرام؟ أهي أوليته من ناحية أنه أول بيت بنى للعبادة؟ أم أنه أول بيت بنى بإطلاق؟ والجواب: قيل: إنه أول بيت بنى في الأرض؛ فقيل إن الملائكة بنته لآدم؛ كما ورد في بعض الآثار؛ وليس ثمة مانع عقلي؛ والذي يبدو من خلال الآيات: أنه أول بيت من بيوت العبادة القائمة؛ فهو أسبق من بيت المقدس وجودا؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه؛ بينما بنى بيت المقدس في عهد داوود وسليمان عليهما السلام، فوجود مقام إبراهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.
5. وصفه سبحانه وتعالى بأنه مبارك؛ أي فائض الخيرات كثير الثمرات المادية والمعنوية؛ فمن بركاته المادية أنه يفد إليه الحجيج من كل فج عميق؛ ويعتمرون فيه في كل أيام أشهر السنة، حتى أنه لا يمر عليه يوم من غير وفود تجيء إليه، ومع هذه الوفود خيرات الأرض؛ وكان ذلك إجابة لدعاء إبراهيم في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم]، وقد كان في البيت تلك البركة المادية بتلك الوفود؛ وبالثمرات التي كانت في باطن الأرض حوله أو على مقربة منه فقد كشفت على مقربة منه فلزات الأرض وسيول الغاز، مما كان خيرا وبركة على سدنته ومن يعيشون حوله، وبذلك أجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، وبقى على الذين يتنعمون بهذه الثمرات أن يشكروا الله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
6. هذه هي البركة المادية، أما البركة المعنوية فهي أنه موضع لأكبر عبادة جامعة وهى الحج، وهو مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه منازل وحيه، وإليه يتجه الناس في كل بقاع الأرض، وتلتقى عنده قلوب الأجناس والألوان المختلفة في عباداتهم، ولذا وصفه سبحانه بقوله: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ هذا عطف على قوله سبحانه ﴿مُبَارَكًا﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على البركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال: ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ أي هو بذاته مصدر هداية للعالمين أي للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاؤوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه، والذين أرادوه بسوء ما إن جاؤوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى البيت الحرام يأرز الإسلام، فكون هذا البيت العتيق مصدر هداية ثبت جاهلية وإسلاما، وهدايته في الإسلام مطلقة، وهدايته في الجاهلية نسبية.
7. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ في هذا النص السامي بيان عظمة البيت الحرام، ومكانته والأدلة على قدمه وبركته؛ ومعنى النص الكريم: بيت يدانيه في منزلته عند الله، وإن كان هذا البيت الآخر تشد إليه الرحال، وقد قالوا إن قوله تعالى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بيان لهذه الآيات البينات، ويصح أن نعتبرها وحدها بيان هذه الآيات من حيث الدلالة على قدمه، وأن بانيه إبراهيم، وأن آثار أقدامه واضحة خالدة فيه، وقد وضح هذا المعنى الزمخشري أتم توضيح فقال: فإن قلت كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة، لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام، ومن تأثير قدمه في حجر صلد...
ب. الثاني: اشتماله على آيات كثيرة؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف السنين آية.
8. هذا الكلام على اعتبار أن مقام إبراهيم هو موضع الآيات البينات ولكن الذي نراه وقد ذكره الزمخشري أيضا أن هذه الآيات البينات ليست مقام إبراهيم وحده، ولكنها مقام إبراهيم وكونه أمن الناس ومثابتهم، وكونه المكان الذي يحج إليه المسلمون إلى اليوم، وكان العرب يحجون إليه ويقومون بكثير من المناسك، وإن خالطوها بشرك.
9. ذكر سبحانه الآية الثانية البينة لمقام البيت عند الله تعالى وعند العالمين بقوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ أي آمنا من الأذى والقتل، وهذه آية لا شك فيها، فالعرب كانوا يحترمونه كما نوهنا، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليهم، وبقيت حتى في شركهم؛ ولذا يقول سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت]، وأنعم عليهم سبحانه بأن حماه من كل من يغير عليه معتديا، حتى إن أبرهة عندما أغار بجيشه وأفياله ليهدمه، ارتد خاسئا كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل]، وتلك آية من آيات الله الكبرى في البيت.
10. ولقد حماه الله سبحانه وتعالى في الإسلام، حتى إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما فتح مكة احترم أمنها فكان مناديه ينادى: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن ووصف يوم الفتح بقوله: (هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1321.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لفظ أول اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء أحصل بعده ثان، أم لم يحصل، يقال أول قدومي إلى هذا البلد، وهذا أول ما أصبته من المال.
2. بكة من أسماء مكة، وكثيرا ما تأتي الباء مكان الميم، مثل ضربة لازم، وضربة لازب، ودائم ودائب، ومعنى البك الدفع، والناس في مكة لكثرتهم يدفع بعضهم بعضا، ونقل الرازي في تفسيره ان الإمام محمد الباقر عليه السلام كان يصلي في الكعبة، فمرت امرأة بين يديه، فأراد رجل أن يدفعها، فقال له الإمام: دعها، فإن مكة سميت بكة، لأن الناس يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل، وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة، وهي تصلي، ولا بأس بذلك في هذا المكان.
3. قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لا دلالة فيه انه أول بيت وجد على وجه الأرض، بل هو ظاهر في انه أول بيت وضع للطاعات والعبادات، لأن الناس، كل الناس، شركاء فيه، وبديهة ان الناس جميعا لا يشتركون في بيت واحد الا إذا كان موضوعا لجهة عامة، كالعبادة والطاعة، أما سائر البيوت فكل بيت منها يختص ببعض الناس دون بعض، ثم ان بعض أهل التفسير سودوا الصفحات في التحقيق ونقل الأقوال في الكعبة: هل هي أول بيت بني على وجه الأرض، أو غيرها أسبق في البناء.. ولا جدوى وراء هذا البحث، لأنه لا يمت إلى أصول الدين، أو فروعه بسبب، ولا يطلب الاعتقاد به إيجابا ولا سلبا.
4. ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، والمراد بالبركة هنا زيادة الثواب، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد.. صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه.. من حجّ ولم يرفث، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.. الحج المبرور ليس له أجر الا الجنة)، إلى غير ذلك كثير.. اما ان المسجد الحرام هدى للعالمين فلأنه يذكر بالله سبحانه، ويوحي بالخشوع والخضوع.
5. سؤال وإشكال: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، كأنّ سائلا يسأل: ما الدليل على ان الكعبة قديمة، وانها أول بيت وضع للعبادة، وليس بيت المقدس؟ والجواب: هذه الآية تصلح جوابا عن هذا السؤال، لأن ابراهيم قديم، وهو الذي بنى الكعبة، فتكون قديمة بقدم بانيها، أما بيت المقدس فقد بناه سليمان، وهو يسمى معبد سليمان حتى الآن، وبين ابراهيم وسليمان عدة قرون.. ونقل صاحب تفسير المنار عن كتب اليهود ان سليمان بنى بيت المقدس سنة 1005 قبل الميلاد، والدليل على ان ابراهيم هو الذي بنى الكعبة الآثار الواضحة والموجودة حتى الآن، منها مقام ابراهيم، فإن العرب ما زالوا يتناقلون بالتواتر أبا عن جد ان هذا الجزء الخاص من المسجد الحرام كان موضع قيام ابراهيم للصلاة والعبادة، فكما دل اسم معبد سليمان على انه هو باني بيت المقدس، فإن اسم مقام ابراهيم يدل على انه هو باني الكعبة، وانها قديمة بقدمه.
6. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، تقدم تفسيره في الآية 125 من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾، والفضل في ذلك لدعوة ابراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/117.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ، وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مر في تفسير قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الآية أن تحويل القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حياة أهل الكتابـ وخاصة اليهود ـ مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.
2. سؤال وإشكال: المستفاد من الآية ـ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ الآية ـ أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة، وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا؟ والجواب: أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.
3. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ إلى آخر الآية، البيت معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك، والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا وهدى للعالمين وغير ذلك، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلوة وغيرهما من العبادات والمناسك، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.
4. المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، وربما قيل إن بكة هي مكة، وأنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم، وقيل: المسجد، وقيل: المطاف.
5. المباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: {هُدىً لِلْعالَمِينَ} أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيئول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
6. كونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين ومعبدا للعابدين.
7. دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم عليه السلام بعد الفراغ من بنائه، قال تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾، وقال: خطابا لإبراهيم: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، والآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل، ودل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليه السلام: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ﴾ ﴿أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾، فقد أراد بالحج سنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره، وكذا في دعوة إبراهيم عليه السلام شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم)
8. كان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه وذكره، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح، وقد ملأ ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره، وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم، فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين، على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الأمة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة، ومن هنا يظهر:
أ. أولا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.
ب. ثانيا: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.
9. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، الآيات وإن وصفت بالبينات، وأفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال، وهذا من الشواهد على كون قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ إلى آخر الآية بيانا لقوله: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فالآيات هي: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجة على الناس المستطيعين، لكن لا كما يتراءى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان من قوله: ﴿آيَاتِ﴾ لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجة لمن استطاع إليه سبيلا، وفي ذلك إرجاع قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ﴾، سواء كان إنشاء أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾، وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا، وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة، وإنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه.
10. قوله تعالى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم، وقد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية:
çوموطئ إبراهيم في الصخر رطبة...على قدميه حافيا غير ناعلé
11. ربما يفهم من قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه، ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحج ثم وضع قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ﴾، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾، وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكاية الكلام في موضع الإخبار كقوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، وكما مر في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ الآية، وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وكما في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ الآية، حيث وضع صاحب البر، مكان البر، وكما في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ الآية ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم، وعلى هذا فوزان قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ في التردد بين الإنشاء والإخبار، وزان قوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾
12. هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية، وإن كان بدلا ولا بد فالأولى جعل قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ بدلا وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالتين على بدلين محذوفين، والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحج المستطيع للبيت، ولا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه، وأي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام.
13. أما كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه، قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ الآية، وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، وقال تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
14. من هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية، وكذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور أخر من خواص الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير) فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مر.
15. الحق أن قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾: مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم عليه السلام.
16. أما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه، وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم عليه السلام وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه، وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾، وقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك وقبوله زمانا بعد زمان.
17. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أن هناك برهانا يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان، وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الأوليان.
18. في الكافي، وتفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أنه سئل ما هذه الآيات البينات؟ قال مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.. وفي هذا المعنى روايات أخر، ولعل ذكره هذه الأمور من باب العد وإن لم تشتمل على بعضها الآية.
19. من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل عليه السلام وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربع تقريبا وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح ولا تضرها مهما اشتدت، وما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم (أو بالعكس) كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام، ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بناءها، وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.
20. قبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الذي يبنيها ياقوم الرومي، ويساعده عليه نجار مصري، ولما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسنه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه، فطلب رداء ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه، وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.
21. كان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت وأحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثم انكشف عنها لموت يزيد، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها فأتى لها بالجص النقي من اليمن، وبناها به وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته بابا آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعا ولما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلا وخارجا، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها 17 رجب سنة 64 هجرية، ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبرا، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش، ورفع الباب الشرقي وسد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.
22. لما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمائة غير سقفها، ولما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميما ولما حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية والغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها ولم يزل على ذلك حتى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجرية قمرية وسنة ألف وثلاثمائة وثمانية وثلاثين هجرية شمسية.
23. كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الأمم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها، ويقولون: إن روح (سيفا) وهو الأقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز، وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل: إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه، وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضا زاعمين أن روح هرمز حلت فيها، وربما حجوا إليها زائرين، وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام، ومنها صورتا العذراء والمسيح، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضا كاليهود، وكانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم، وتعدها بيتا لله تعالى، وكانوا يحجون إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء لإبراهيم، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/350.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ قبلة ليتوجهوا إليه في صلاتهم ويحجوا إليه ويعملوا كل عبادة تتعلق به: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ أي للبيت الذي ﴿بِبَكَّةَ﴾
2. ﴿بِبَكَّةَ﴾ أي الكعبة، قال في (الصحاح): (وتَبَاكّ القوم، أي ازدحموا، وبَكّ عنقه: أي دقّها، وبكّة: اسم بطن مكة، سميت بذلك لازدحام الناس، ويقال: سميت لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة)، وفي (الكشاف) جعل بكة هي مكة، وكذا في (مفردات الراغب) أما تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام لـ (غريب القرآن) فقال فيه: (فبكة: موضع البيت، وسمي بذلك لأن الناس يتباكّون فيه، معناه: يتزاحمون، ومكة: جميع القرية وهي أم القرى وأم كل شيء أصله)، هذا أرجح ولو سلك (صاحب الكشاف) والراغب طريقتهما في دعوى أن أصل الكلمتين واحد وجعلا الأصل بكة، ثم قيل: مكة تغيراً كما يقع في بعض الكلمات من إبدال حرف مكان حرف، وكانتا اسمين لشيء واحد، ثم جعل مكة اسماً للقرية بطريقة الغلبة فيها وكانت صغيرة بيوتاً قليلاً حول البيت ببكة ثم ازدادت بيوتاً وكبرت مع بقاء اسمها مكة فاختلف معنى بكة ومكة من حيث المطابقة كما اختلف سابقاً من حيث المفهوم، لكان هذا أوفق لطريقة أهل الصرف ودعاويهم في الاشتقاق، ويؤيد تفسير الإمام زيد عليه السلام و(أصحاب الصحاح) اختيار هذا الاسم في هذا السياق لأن قوله: ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي للحج والعمرة ومنافع الناس، وقبلة يناسب ذكر الاسم المشتق من معنى ازدحام الناس.
3. ﴿مُبَارَكًا﴾ فيه بركات دينية ودنيوية، كفضل الصلاة فيه، والحج والعمرة، ودنيوية كنفي الفقر بمتابعة الحج والعمرة، وتيسر منافع بسبب التقاء الناس للتجارة وغيرها.
4. ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ لما فيه من الدلائل بسبب ما جعل الله له في القلوب من الإجلال والإحترام، حتى جعله آمنا، وجعله نعمة للناس للتواصل لمنافعهم، وجعل بسببه الإيلاف لقريش، وأهلك بسببه أصحاب الفيل، فهي دلائل على قدرة الله وعلمه وسعة فضله وإنعامه، وانظر إلى قوله تعالى ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:97]
5. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ في شأنه آيات بينات واضحة تدل على فضله:
أ. الأولى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ فهو مكان معروف عند الكعبة، فيه أثر قدميه في حجر، وهو لا يزال يذكر بقيام إبراهيم يرفع القواعد من البيت، ويدل على علو شأن إبراهيم عليه السلام حيث جعل له هذه الآية.
ب. الثانية: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ فلولا أن الله جعل له هذا الاحترام في نفوس الناس ما كان آمناً لداخله ولولا أن الله شرفه ما جعل له هذه المكانة في نفوس الناس.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/504.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ربما تكون هذه الآيات ردا على ما حاول أن يثيره اليهود على الإسلام والمسلمين من شبهات في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لأن بيت المقدس هو الذي أمر الناس بالتوجه إليه أوّلا لقدمه وعبادة الأنبياء فيه، فجاءت هذه الآيات لتذكرهم بأن هذا البيت هو ﴿أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لعبادة الله، وليكون مصدر بركة وهدي للعالمين، و﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ الذي كان يتعبد فيه كدلالة على أقدميته، لأن بيت المقدس كان من بناء سليمان عليه السّلام، الذي هو متأخر بزمان كثير عن إبراهيم عليه السّلام، وقد جعله الله آمنا للناس ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه مهما كان وضعه، وقد تعبد الله الناس بقصده والحج إليه لكل من استطاع إلى ذلك سبيلا، مما يوحي بأنه محل عناية الله ورعايته واهتمامه به، فلا مانع ـ من هذه الجهة ـ أن يحوّل القبلة إليه، ليتوجه الناس إليه في صلاتهم كما يتوجهون إليه بالقدوم إليه في حجّهم.
2. ربما تكون هذه الآيات واردة في هذا الجو ـ كما عن بعض المفسرين ـ وربما لم تكن كذلك بل كانت واردة في مقام تقرير هذه الحقيقة من ناحية مستقلة، كمقدّمة للحديث عن تشريع الحج من حيث إن ذلك يلتقي بقيمة هذا البيت في ما استهدفه إبراهيم ـ بأمر الله ـ من بنائه، بأن يكون ملتقى للناس من كل مكان لعبادة الله وللتعاون في ما بينهم على الخير والتقوى، وللنفع العميم الذي تمثله كلمة البركة، وللهدى الذي يمتد منه للعالمين من خلال ما يهتدي به الناس عندهم إلى ما فيه صلاح أمر دنياهم وآخرتهم، وفي ضوء ذلك يمكن أن نتوقف أمام عدة أمور في هذه الآيات من أجل أن تتضح لنا معانيها التفصيلية.
3. معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ ليس هو أنه أوّل ما بني على وجه الأرض، كما قد يتوهّمه البعض، بل المراد به أول بيت وضع للعبادة والهدى والبركة للناس.. وهذا ما وردت به الرواية عن علي أمير المؤمنين عليه السّلام في ما نقله ابن شهر آشوب عنه، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ الآية، فقال له رجل: أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى والرحمة والبركة، وأوّل من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدّم فبنته العمالقة، ثم هدم فبناه قريش، وفي الدر المنثور عن علي بن أبي طالب عليه السّلام في قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ قال كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله، ونستوحي من هذا الحديث أن الأنبياء السابقين مثل نوح، لم يبنوا بيوتا للعبادة، ولذا لم يشر القرآن في آياته إلى ذلك، ولم ينقل ذلك بطريقة مفصلة في التاريخ، وربما كان المراد بأنه أول بيت للعبادة، المعنى الشمولّي الذي أراده الله للناس جميعا، فهو البيت العالمي للعبادة؛ أما البيوت التي كانت قبله ـ لو كانت هناك بيوت للعبادة قبله ـ فهي بيوت محلّية خاصة بالمجتمع الذي يعيش حولها؛ والله العالم.
4. ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام: إنّما سميت مكّة بكة لأن الناس يبكون فيها، أي: يزدحمون، وعن الإمام محمد الباقر عليه السّلام: إنّما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك وعن شمالك ومعك، ولا بأس بذلك؛ إنّما يكره في سائر البلدان.
5. الخصائص الأولى التي ذكرها الله لهذا البيت ـ الكعبة توحي بمعنى الشمول في ما يريده الله لبيته هذا، كما يوحي به لبقية البيوت، فقد وضعه الله للناس ولم يجعله لفئة دون فئة، لأنه وضع لعبادة الله التي لا يختص بها أحد، فلا معنى لاختصاصه بأحد معيّن، وقد نستوحي منه أن لا تشيد المساجد لتكون لعائلة معينة أو لجماعة معينة، بحيث تمنع منها بقيّة العائلات أو الجماعات، لأن المسجد لم يوضع ليتحدد، بل ليكون شاملا لكل الناس تبعا لشمولية دوره في أن يكون محلا لعبادة الله ربّ العالمين.
6. جعله الله تعالى ﴿مُبَارَكًا﴾ والبركة هي الخير الكثير الذي تمتد منه المنافع والمصالح للناس، مما يعني أن دور المسجد لا يتحدد بالعبادة بل يتسع لكل منافع الناس، سواء كانت علميّة أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك من الأمور المتصلة بحياة الناس العامّة، وفي ضوء ذلك كان الدور الإسلامي للمسجد هو أن يكون الملتقى الروحي للناس، فيعبدون الله فيه ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم كما تنطلق منها صيحات الجهاد، وسارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا الخط، فكانت تجسيدا للمفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة من مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير، وجاءت عصور التخلّف التي جمّدت عقول المسلمين وأفكارهم فتجمّد كل شيء حولهم، ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد، فإذا بهم، حكاما وشعوبا، ينكرون على العالمين والمصلحين أن يتحدثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدث عن الجنّة والنار والعبادات والأخلاقيات التجريدية.. فإذا انطلقوا بالحديث إلى ما أمر الله به من مقاومة الظلم والانحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، اتهموهم بأنهم يستغلون بيوت الله لغير الأغراض التي وضعها، تماما كما هي المعابد لدى اليهود والنصارى كما يزعمون؛ وأثاروا الثائرة عليهم، بأنهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين، زعما منهم بأن الدين لا يلتقي بالسياسة التي لا دخل لها بالدين، مع أن الله سبحانه يصرح في أكثر من آية، بأن الله أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم الناس بالقسط.
7. قد نستوحي من كلمة ﴿مُبَارَكًا﴾ المعنى الممتد في حياة الناس الذين يقصدون هذا البيت من سائر أنحاء العالم، ليجتمعوا حوله على أساس كلمة التوحيد التي توحدهم، والرسالة التي تجمعهم، والقضايا الحيوية التي تتحرك في واقعهم الخاص والعام، لا سيما القضايا المتصلة بالمصير السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي أمام التحديات الكبرى التي يواجهونها من قبل الكفر والاستكبار العالميين، ليتعارفوا في ما بينهم وليتبادلوا المعلومات، وليستلهموا التجارب، وليخططوا للوحدة في الموقف، من حيث إحساسهم بوحدة أمتهم في خطها العقيدي والعملي، وفي مصيرها الواحد، وليتحاوروا في ما اختلفوا فيه من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج، والأمور المتصلة بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالآخرين، وليحركوا أوضاعهم الاقتصادية على أساس خطة سليمة تحقق لهم الإنتاج مما يحتاجونه في حياتهم العامة، بحيث يصلون إلى مستوى الاكتفاء الذاتي ليكونوا في موقع الاستقلال في إدارة أمورهم، وهكذا يتحول الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي يحقق البركة للإسلام في فكره وحركته، وللمسلمين في وجودهم وامتدادهم وأوضاعهم العامة والخاصة، وهذا ما نستوحيه من الكلمة المعبّرة ﴿مُبَارَكًا﴾
8. الأوضاع المعقدة التي طرأت على الواقع الإسلامي السياسي، جعلت مواقع المسلمين تحت سيطرة الكافرين المستكبرين، وجمدت كل حيوية مفاهيمهم في دينهم وحركتهم، فأصبحت مجرد صور جامدة في الفكر، وطقوس ميتة في الواقع وأبعدت الحج عن امتداده الحضاري الحركي في حياة المسلمين، فلا فرصة لأي اجتماع عام للبحث في القضايا الحيوية المصيرية المتصلة بحياة الناس وللتخطيط للمستقبل في اتجاه حل مشاكل الحاضر بالطريقة الحكيمة، وذلك تحت شعار أن الحج عبادة لا سياسة، تماما كما لو كان معنى السياسة معنى بعيدا عن معنى العبادة التي أراد الله لها في الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، بالمعنى العام للكلمتين الذي يتسع لكل مواقع الانحراف في حياة الإنسان، وفي الصوم الذي أراده الله أن يكون سبيلا من سبل تحقيق التقوى الروحية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، وفي الحج الذي أراده الله للناس ليشهدوا منافع لهم في كل الأمور التي تتصل بالنفع العام لحياتهم المنفتحة على كل خير وكل جديد، ولا يتحقق ذلك إلّا بالسياسة المنفتحة على أمور الناس بالحق.
9. جعله الله تعالى ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ من خلال ما يهدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة، مما يوحي بأن مهمّة المساجد للقائمين عليها هي هداية الناس بالممارسة من خلال عبادة الله فيها، وبالتوجيه من خلال توجيه الناس وتعليمهم وتثقيفهم بأمور دينهم في كل ما يتصل بحياتهم، لينطلق المسلمون من المساجد إلى حياتهم من خلال الانفتاح على كل المعاني الكبيرة التي يستهدفها الإسلام للحياة، وليحمل كل واحد منهم المعرفة الشاملة لشريعة الله في كل أحكامها المتصلة بالحياة الخاصّة والعامّة، لتكون الشريعة ومفاهيم الإسلام المنبثقة عنها في كل فكر وعلى كل لسان، فلا تبقى محتكرة على فئة معينة من الناس، لنستطيع من خلال ذلك أن نجعل من كل مسلم إنسانا واعيا متحركا يعمل في حياته الخاصّة لإسلامه من موقع الوعي، ويدعو إليه بطريقة واعية من قاعدة الحركة، وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نؤكّد بأن القائمين على شؤون المساجد الذين يقتصرون فيها على إقامة الجماعة، ولا يقومون بمهمة التوجيه والهداية، ويحولونها إلى منطقة نفوذ يتوارثها الأبناء عن الآباء، هم من المنحرفين عن رسالة المسجد التي هي الهدى للناس بحسب ما يتسع له المسجد من ذلك، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا.
10. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، لقد تحدثت الآية عن الآيات البيّنات ولم تفضلها، ولم تذكر طبيعتها، ولم يعرف أن التعقيب ب ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ هل هو ذكر نموذج منها باعتبار الأثر البارز الذي يؤكد انتساب البيت لإبراهيم، لأنه كان يصلي فيه بدلالة وجود مقامه الذي لا يشك أحد فيه، لأنه مما توارثه الأبناء عن الآباء، فيكون التقدير: منها مقام إبراهيم، أو يكون بدلا منها فيكون التقدير: فيه مقام إبراهيم.. ويرى بعض المفسرين أن الآيات هي مقام إبراهيم والأمن لمن دخله والحج لمن استطاع إليه سبيلا، قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: (ولا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه، مذكرة لمقامه، إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشيء بوجه، وأيّ علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم، ومن حرم آمن يأمن من دخله، ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، ولا تسخ بانتساخ الليالي والأيام!؟ وأمّا كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه، قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: 106] الآية؛ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، وقال تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: 128]، إلى غير ذلك من الآيات)
11. لكن ذلك غير ظاهر، وذلك بلحاظ أن الآيات البيّنات ليست من قبيل المظروف بالنسبة إلى الظرف، مما يعني وجوده فيه تماما كما هو مقام إبراهيم عليه السّلام، أمّا الأمن لمن دخل والحجّ إليه فهو من أحكامه وخصائصه الشرعيّة، وربما يوجه ذلك بأن الظرفية ليست واردة على سبيل الحقيقة بل على سبيل المجاز، لا سيما إذا عرفنا أن مقام إبراهيم ليس جزءا من البيت ـ الكعبة، بل هو خارج عنها، كما أن السياق جار على أساس بيان مميزات هذا البيت عن البيوت الأخرى، مما يحتمل ـ معه ـ أن تكون كلمة (في) واردة بمعنى الموازنة والمقايسة، وربما يؤكد كلام العلامة الطباطبائي، من نفي إرادة المعجزة من الآية، أن الله أشار إلى مقام إبراهيم من دون بيان لما ذكره المفسرون من تأثير قدمه في الصخرة التي وقف عليها، بل ربما كانت الإشارة إلى القيمة الإيحائية لهذا المقام الذي يمنحنا وعي الشخصية الإبراهيمية في عناصرها المميزة الموحية بكل الخط التوحيدي الذي يريد الله للناس السير عليه، مما يجعل منها في موقعها العبادي آية تدل على الطريق إلى الله في الأسلوب التأملي والالتزامي والعملي، وفي ضوء ذلك يمكن أن نتمثل الآية في الخصائص التي جعلها الله للبيت الحرام في التشريعات التي تتحرك لتصنع واقعا يعيشه الناس في أمنهم في المنطقة الحرام، وعبادتهم المتحركة المنفتحة على أكثر من أفق في حياتهم حول الكعبة الحرام، الأمر الذي يؤدي إلى التذكير بالله والارتباط به، والدلالة عليه من خلال الوضوح في الرؤية والعمق في التفكير والاستقامة في الخط؛ والله العالم.
12. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وهذا وارد في مقام التشريع لا الإخبار، فإن الواقع غير هذا في كثير من حوادث التاريخ التي استبيحت فيها حرمة البيت، فقتل فيه ناس كثيرون من قبل الطغاة والظالمين تمرّدا على الأمر الإلهي الذي اعتبره واحة سلام، فلا يجوز لأحد أن يعتدي فيه على أحد حتى لو كان غريما له في قتل أو مال أو عرض أو غير ذلك، بل ينتظر حتى يخرج، وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام أنه يمنع من السوق ولا يباع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم حتى يخرج فيما إذا أحدث جريمة في غير الحرم ثم فرّ إلى الحرم، أمّا إذا أحدث جريمة في الحرم أخذ فيه، لأنه اعتدى على حرمة الحرم فلا يبقى له حرمة فيه، وقد نستوحي من هذا الحكم الشرعي في حرمة هذه المنطقة المسمّاة بالحرام التي كانت الكعبة البيت الحرام أساسا لحرمتها، أن الله سبحانه أراد أن يجعل موقعا من الأرض منطقة سلام يتخفف الناس فيها من أحقادهم وعداواتهم، ويعيشون في داخلها أعلى درجات الصبر في السيطرة على نوازع النفس الممتلئة بالحقد والعداوة والبغضاء، بحيث إن الإنسان يرى قاتل أبيه أو ولده فيقابله وجها لوجه فلا يعرض له، بالرغم من ضغط التقاليد العشائرية الجاهلية القائمة على الأخذ بالثأر احتراما لله في بيته المحرّم، فلا يسيء إليه، ولا ينقص من حرمته، مهما كانت الحالة النفسية ضاغطة عليه مما يجعل الإنسان يعيش تجربة روحية فريدة تمنحه الفرصة للتأمل في النتائج السلبية المترتبة على الثأر، أو في طبيعة المسألة في خلفياتها وامتداداتها ليتعرف وجه الصواب والخطأ في انطباعاته التي كوّنها تجاه الموضوع، فقد تكون النتيجة أن يتحول هذا السلام النفسي ـ ولو في هذه المنطقة ـ إلى حالة سلام في الواقع عندما يكتشف هذا الإنسان أن العفو أقرب للتقوى، وأن الصبر خير للصابرين، وأن حلّ المشكلة بالوسائل السلمية هو الأفضل في مواجهة سلبيات الواقع، وربما يحتاج الإنسان إلى أن يدخل في منطقة سلام في المواقع الحارّة من الصراع بموجب المعاهدات والمواثيق بين الناس، ليعيش الناس فيها بعضا من الهدوء النفسي والسلام العملي، ليكون ذلك بمثابة المنطقة التي يستريح فيها أبناء الخير من أجل تجديد الروح المندفعة نحو الخير في الدرب الطويل.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/159.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد أنكرت اليهود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرين كما أسلفنا، وقد رد القرآن على الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على (بيت المقدس) بينما كانوا يفضلونه على الكعبة، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم.
2. المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي (آدم) عليه السّلام ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي (نوح) ثمّ جدد بناءها النبي العظيم (إبراهيم الخليل) عليه السّلام فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري، ولا شكّ أن اختيار أعرق بيت أسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من اختيار أية نقطة أخرى وأي مكان آخر.
3. ممّا يجدر الانتباه إليه أن (الكعبة) والتي تسمى في تسمية أخرى بـ (بيت الله) وصفت في هذه الآية بأنها (بيت للناس)، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.
4. كما تتضح ـ ضمن ما نستفيده من هذه الآية ـ قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبرا ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا يتضح أيضا علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب ما يحوم حوله من سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لاستلامه ملايين الناس كلّ عام، ويتسابقون ـ في عناء بالغ ـ إليه حتّى أن استلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه؟
5. إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزه خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية انهدام وتجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن، ولا شكّ أن لهذه الاستمرارية، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها، كلّ هذا مضافا إلى أن هذه الصخرة ليست إلّا تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى استلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب.
6. على أن ثمّة أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه وهو: أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن، وهو أمر لا يمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن، وهذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك الذين يدعون أن النبي إبراهيم عليه السّلام هو أول من أسس الكعبة المشرفة، ويعتبرون بناءها على يدي آدم عليه السّلام من قبيل الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم عليه السّلام كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح عليه السّلام فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم عليه السّلام؟
7. (بكة) مأخوذة أصلا من (البك) وهو الزحم، وبكه أي زحمه، وتباك الناس أي ازدحموا، وإنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة لازدحام الناس هناك، ولا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت صفة المعبد رسميا لا قبل ذلك، وفي رواية عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السّلام قال (موضع البيت بكة، والقرية مكة)، وقد احتمل بعض المفسّرين أيضا أن تكون (بكة) هي (مكة) أبدل ميمها باء، نظير (لازب) و(لازم) اللتين تعنيان شيئا واحدا في لغة العرب، وقد ذكر في علة تسمية (الكعبة) وموضعها ببكة وجه آخر أيضا هو أنها سميت (بكة) لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتحطم غرورهم ونخوتهم، لأن البك هو دق العنق، فعند الكعبة تتساقط وتزول كلّ الفوارق المصطنعة، ويعود المتكبرون والمغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا لله، ويتضرعوا إليه شأنهم شأن الآخرين، وبهذا يتحطم غرورهم.
8. منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الازدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة، فقد جاء في تفسير العيّاشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبد الله (الصادق) عليه السّلام فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد الله عليه السّلام: أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له أصنع ما أحببت، وقد جاء في ذلك التفسير أيضا أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا، فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السّلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى وإلي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليه السّلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال: ذلك لأبي الحسن عليه السّلام: فقال أبو الحسن عليه السّلام: ولا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه، فقال له: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها) فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله (لفرحه الشديد)، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السّلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتابا في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئا فأرضاهم.
9. في هاتين الروايتين استدلالا لطيفا يتفق تماما مع المقاييس والموازين القانونية المعمول بها أيضا، فإن الاستدلال يقول؛ ان لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته وحيث إن الحاجة يوم أسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض.
10. ذكرت في هاتين الآيتين ـ مضافا إلى الميزتين اللتين مرّ شرحهما ـ أربع مزايا أخرى هي:
أ. مباركا: (المبارك) يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيرا، سواء الخير المادي، أو المعنوي:
• أما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من اجتماع الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد، ولو أن المسلمين لم يقصروا اهتمامهم ـ في موسم الحج ـ على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت ـ حينذاك ـ البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر، هذا من الناحية المعنوية.
• أما من الناحية المادية فإن هذه المدينة رغم أنها أقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمرانا وحركة، وكانت دائما من المناطق المؤهلة ـ خير تأهيل ـ للحياة، بل وللتجارة أيضا.
ب. هدى للعالمين: الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدي بجلال عظيم منذ عهد الخليل عليه السّلام، ولقد كانت هذه البنية معظمة أبدا حتّى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلّا أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة، والخليطة أحيانا بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سببا للهداية حتّى للوثنيين، إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ.
ج. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾: إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب، وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي، فها هي آثار جليلة من إبراهيم عليه السّلام لا تزال باقية عند هذا البيت مثل: زمزم والصفا والمروة، والركن إشارة إلى الاحتمال الأول.
د. ومن دخله كان آمنا: لقد طلب إبراهيم عليه السّلام من ربه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة آمنا إذ قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾، فاستجاب الله له، وجعل مكة بلدا آمنا، ففيه أمن للنفوس والأرواح، وفيه أمن للجموع البشرية التي تفد إليه وتستلهم المعنويات السامية منه، وفيه أمن من جهة القوانين الدينية، فإن الأمن في هذا البلد قد بلغ من الاهتمام به واحترامه أن منع فيه القتال منعا باتا، وأكيدا، وقد جعلت الكعبة بالذات مأمنا وملجأ في الإسلام لا يجوز التعرض لمن لجأ إليها أبدا، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضا إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض، فإذا التجأ إنسان إلى الكعبة لم يجز التعرض له حتّى لو كان قاتلا جانيا، بيد أنّه حتّى لا تستغل حرمة هذا البيت وقدسيتها الخاصّة، وحتّى لا تضيع حقوق المظلومين سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلة اللاجئين إليه ليضطروا إلى مغادرته ثمّ ينالوا جزاءهم العادل.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/601.
49. وجوب الحج والاستطاعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈49⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار::
1. روي أنّه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين(1).
2. روي أنّه قال: لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه، كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: سعيد بن منصور بسند صحيح.
(2) الدرّ المنثور: سعيد بن منصور.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال في الآية: ومن كفر فلم يؤمن به فهو الكافر(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣١٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج بيت الله؛ فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك بأن الله يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(1).
__________
(1) الترمذي: ٣/٣٣٦.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من وجد شيئا يبلغه فقد وجد سبيلا، كما قال الله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: وأن تدع لأهلك ما يكفيهم من النفقة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦١٥.
(2) عبد بن حميد: ص٤٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الحارث بن يزيد: يا رسول الله، الحج في كل عام؟ فنزلت: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الزاد، والراحلة)، يعني: قوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾(2).
3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: البلاغ: الزاد، والراحلة(3).
4. روي أنّه قال: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، السبيل: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يجحف به(4).
5. روي أنّه قال: السبيل: من وجد إليه سعة، ولم يحل بينه وبينه(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ من زعم أنه ليس بفرض عليه(6).
7. روي أنّه قال: لو أن الناس تركوا الحج عاما واحدا، لا يحج أحد، ما نوظروا بعده(7).
__________
(1) أبو نعيم في معرفة الصحابة: ٢/٨١٣.
(2) ابن ماجه: ٤/١٤٤.
(3) الطبراني في الكبير: ١١/٢٣٥.
(4) ابن جرير: ٥/٦١٠.
(5) ابن أبي شيبة: ٤/٩٠.
(6) ابن جرير: ٥/٦٢١.
(7) الدرّ المنثور: سعيد بن منصور.
ابن الزبير:
روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) أنّه قال: السبيل على قدر القوة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٤/٩٠.
ابن عمر:
روي عن عبد الله بن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: من وجد إلى الحج سبيلا سنة ثم سنة، ثم مات ولم يحج؛ لم يصل عليه؛ لا يدرى مات يهوديا أو نصرانيا(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: سعيد بن منصور.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وإن مشى إليه أربعة أشهر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٤.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٤/٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ من جحد الحج، وكفر به(1).
2. روي أنّه قال: لما نزلت آية الحج: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ الآية؛ جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل الملل؛ مشركي العرب، والنصارى، واليهود، والمجوس، والصابئين، فقال: (إن الله فرض عليكم الحج؛ فحجوا البيت)، فلم يقبله إلا المسلمون، وكفرت به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله، فأنزل الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، الزاد والراحلة، فإن كان شابا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي حجته، فقال له قائل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه؟ والله، لانطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦١٩.
(2) سعيد بن منصور في التفسير من سننه: ٣/١٠٧٤.
(3) ابن المنذر: ١/٣٠٩.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ السبيل: ما يسره الله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦١٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾: الأمن، والجوار، والحج فريضة(1).
2. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥]، قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فأنزل الله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ يعني: على المسلمين، حج المسلمون، وتركه المشركون(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ من كفر بالحج كفر بالله(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ هو ما إن حج لم يره برا، وإن قعد لم يره مأثما(4).
5. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر(5).
__________
(1) الفاكهي في أخبار مكة: ١/٣٧٥.
(2) البيهقي في سُنَنه: ٤/٣٢٤.
(3) ابن جرير: ٥/٦١٩.
(4) ابن جرير: ٥/٦٢٠.
(5) ابن جرير: ٥/٦٢١.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥]، قالت الملل: نحن المسلمون، فأنزل الله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، فحج المسلمون، وقعد الكفار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ السبيل: الصحة(2).
3. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥] الآية؛ قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله فرض على المسلمين حج البيت)، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا، قال الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٢٢.
(2) ابن المنذر: ١/٣٠٨.
(3) البيهقي في الكبرى: ٤/٥٣١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ومن وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ من أنكره، ولا يرى أن ذلك عليه حقا، فذلك كفر(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ كفره الجحود به، والزهادة فيه(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾، قال من كان عنده ما يحج فلم يحج فقد كفر(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦١٦.
(2) ابن جرير: ٥/٦١٩.
(3) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٢٧.
(4) عبد بن حميد: ص٤٦.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية)، قيل: فأي ذلك أفضل؟ قال (الولاية أفضلهن لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن)، قيل: ثم الذي يلي في الفضل؟ قال (فالصلاة، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال الصلاة عمود دينكم)، قيل: الذي يليها في الفضل؟ قال (الزكاة، لأنه قرنها بها، وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الزكاة تذهب الذنوب)، قيل: فالذي يليها في الفضل؟ قال (الحج، لأن الله يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لحجة متقبلة خير من عشرين صلاة نافلة، ومن طاف بهذا البيت طوافا أحصى فيه سبوعه) وأحسن ركعتيه غفر له، وقال يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال)، قيل: ثم ماذا يتبعه؟ قال (ثم الصوم)، قيل: فما بال الصوم آخر ذلك أجمع؟ فقال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصوم جنة من النار)،ثم قال: إن أفضل الأشياء ما إذا كان فاتك لم يكن لك منه التوبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس ينفع شيء مكانها دون أدائها، وإن الصوم إذا فاتك أو أفطرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياما غيرها، وفديت ذلك الذنب بفدية، ولا قضاء عليك، وليس مثل تلك الأربعة شيء يجزيك مكانها غيرها(1).
2. روي أنّه سئل عن معنى قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال: أن يكون له ما يحج به، قيل: فإن عرض عليه الحج فاستحيا؟ قال: هو ممن يستطيع، ولم يستحيي!؟ ولو على حمار أجدع أبتر ـ قال ـ: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/191.
(2) التهذيب: 5/3.
ميمون:
روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾: ماشيا وراكبا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٤.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فالاستطاعة: الزّاد والرّاحلة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: عن قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ما يعني بذلك؟ قال: (من كان صحيحا في بدنه، مخلى سر به، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج ـ أو قال ـ: ممن كان له مال)، فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحا في بدنه، مخلى سربه، له زاد وراحلة، فلم يحج، فهو ممن يستطيع الحج؟ فقال: (نعم(1).
2. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، فقال: (ما يقول الناس؟) قال فقيل له: الزاد، والراحلة، فقال الإمام الصادق: (قد سئل الإمام الباقر عن هذا فقال: هلك الناس إذن، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقول عليا له، ويستغني به عن الناس، ينطلق إليه، فيسلبهم إياه، فقد هلكوا)، فقيل له: فما السبيل؟ فقال: (السعة في المال، إذا كان يحج ببعض ويبقي بعضا يقوت به عياله، أليس قد فرض الله الزكاة، فلم يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم؟)(1).
3. روي أنّ رجلا من أهل القدر سأله، فقال: يا ابن رسول الله، أخبرني عن قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أليس قد جعل الله لهم الاستطاعة؟ فقال: (ويحك، إنما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة، ليس استطاعة البدن)، فقال الرجل: أفليس إذا كان الزاد والراحلة فهو مستطيع للحج؟ فقال: ويحك، ليس كما تظن، قد ترى الرجل عنده المال الكثير أكثر من الزاد والراحلة فهو لا يحج حتى يأذن الله تعالى في ذلك(2).
4. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال: (هذه لمن كان عنده مال وصحة، وإن كان سوفه للتجارة فلا يسعه، فإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام، إذ هو يجد ما يحج به، وإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيا فلم يفعل، فإنه لا يسعه إلا الخروج ولو على حمار أجدع أبتر)، وعن قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ قال: (يعني: من ترك)(3).
5. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال: (يمشي إن لم يكن عنده)، قيل: لا يقدر على المشي؟ قال: (يمشي ويركب)، قيل: لا يقدر على ذلك؟ قال: (يخدم القوم ويخرج معهم)(4).
6. روي أنّه قال في قول الله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾: هذا لمن كان عنده مال وصحة، فإن سوفه للتجارة فلا يسعه ذلك، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام، إذا ترك الحج وهو يجد ما يحج به، وإن دعاه أحد إلى أن يحمله فاستحيا فلا يفعل، فإنه لا يسعه إلا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر، وهو قول الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، ومن ترك فقد كفر، ولم لا يكفر وقد ترك شريعة من شرائع الإسلام!؟ يقول الله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ فالفريضة: التلبية والإشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج، ولا فرض إلا في هذه الشهور التي قال الله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾(5).
__________
(1) الكافي: 4/267.
(2) الكافي: 4/268.
(3) التهذيب: 5/18.
(4) التهذيب: 5/10.
(5) تفسير العيّاشي: 1/190.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ يعني: المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ من أهل الأديان بالبيت، ولم يحج واجبا؛ فقد كفر، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ من وجد قوة في النفقة والجسد والحملان، وإن كان في جسده ما لا يستطيع الحج فليس عليه الحج وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيح الجسد ولا يجد مالا ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يمشي(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦١٦.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، معنى ذلك: من ترك ما فرضته عليه من الحج وعصاني، فإني غني عنه؛ فجعله بترك طاعته كافرا.
2. قال بعض من يروم إطفاء نور الله: معنى ﴿مَنْ كَفَرَ﴾: من جحدني وأشرك بي.. وليس ذلك مشبها لمقتضى الآية؛ لأنه سبحانه أمر بفرض من فرائضه قوما يقرون ويؤمنون بوحدانيته، ويصدقون رسوله، ثم قال على إثر ذلك الفرض: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فمعنى ذلك: فمن ترك ما أمرت، فكفر بتركه إياه، فإني غني عنه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/175.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، هذه آية محكمة، لا تحتاج إلى تفسير في نفس الحج، وهو من الله فرض على جميع الخلق.
2. وأما السبيل هو: وجود الراحلة، والزاد، والأمن؛ فإذا كان ذلك وجب على كل مسلم الحج، فإن تركه تارك استخفافا وإطراحا، فقد ترك فريضة من فرائض الله، ولزمه اسم الكفر، وإن كان تأخره لعلة مانعة، أو فقر مجحف، أو خوف متلف ـ فهو عند الله معذور، فمتى استراح من علله وجب عليه أن يخرج إلى طاعة ربه، وينهض حاجا إلى بيته.
3. سؤال وإشكال: وقلت: إن كان رجل عازما على الحج، ثم نزلت به نازلة منعته عما أمل من قصده، فأوصى بثلث ماله يحج به عنه: هل يجوز أن يدفع إلى من يحج به عنه من المدينة أو الكوفة، إذا كان لا يكفيه للحج من بلده؟ والجواب: لم تشرح المعنى جيدا في هذه الوصية، فإن كانت النازلة التي نزلت به عند قصده للحج نازلة موت، فأوصى بثلث ماله يحج به عنه ـ فلا بأس: أن يدفع بالمدينة أو بالكوفة، ليحج منها عنه إذا كان لا يبلغ من يخرج من بلده، وإن كانت النازلة بالرجل من مرض فهو على نيته، وما أمل في أداء حجه، فإذا أزاح الله ما به من علته خرج بنفسه، ولم يكل ذلك إلى غيره.
4. وقلت: إنا جعلنا الحج من الثلث إذا أوصى به الميت، وكذلك فعلنا؛ لأن كل وصية عند الوفاة فإنما تخرج من الثلث، ولم يجعل الله للموصي عند الموت أن يوصي بأكثر من ثلثه، فأجزنا ما أجازه له خالقه، ومنعناه مما لم يجزه سبحانه له، والحج فإنما هو فرض على الرجل في رقبته، يؤديه لنفسه بحركاته وسفره، وحطه ورحله، وأما إذا حضرت الوفاة فليس له في المال إلا الثلث.
5. سؤال وإشكال: وقلت: هل يخرج من سائر المال للحج إذا لم يكفه الثلث؟ والجواب: ليس ذلك يوجب على الورثة، ولا يلزمهم من حكم الله؛ فإن تبرعوا بشيء وأجازوه، فذلك بر منهم وإحسان، وليس بلازم لهم، ولا واجب عليهم(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/174.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ والاستطاعة هي بالمال وصحة البدن وأمن من الطريق.
2. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ يعني بفرض الحج فلم يره واجباً ولا يرى فعله براً وتركه مأثماً.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فرض الله تعالى الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلا، ولم يبين ما السبيل، وبين ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حيث سئل عن الاستطاعة؟ فقال: (الزّاد، والرّاحلة)، وهكذا يقول علماؤنا (2): إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة؛ كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. قال بعض الناس: إذا كان بينه وبين الحج بحر، لم يلزمه الحج؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة؛ فخالف ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن الاستطاعة؟ فقال: (الزّاد والرّاحلة)؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة؛ لأن النبي عليه السلام هو المبين عن الله؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورا في التأخير، ولا يأثم ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل، ولا يأثم في ذلك.
3. ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم؛ لأن المرأة ـ وإن وجدت الزاد والراحلة ـ فإنها تحتاج إلى من يركبها وينزلها، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها، وهكذا العرف فيهن، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة.
4. وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أعتق ـ لزمه حجة الإسلام؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: أيّما عبد حجّ ولو عشر حجج؛ فعليه إذا أعتق حجّة الإسلام)، وليس كالحرّ ـ الفقير يحج، ثم أيسر: جاز ذلك من حجة الإسلام؛ ففرقوا بينهما، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء؛ وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيا، ولزمه الفرض؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يعتق؛ لذلك افترقا، وفي ذلك حجة أخرى: ما أجمع أهل العلم أن فقيرا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل؛ كما يضرب لمن كان فرض الجهاد لازما له، ولو أن عبدا شهد الوقعة رضخ له، ولم يكمل له سهم الحرّ؛ فافترقت حال الفقير والعبد في: الجهاد، والضرب في السّهمان؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج.
5. قال بعض أهل العلم: إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة، إذا وجد غيره يحج عنه ـ يلزمه فرض الحج؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله، فاحتج بما روي عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ فأدركته فريضة الحج، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة]؛ أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان يقبل منك)؟ قال نعم؛ قال (فالله أولى بحجّ أبيك) أو كلام نحوه، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك؛ فكذلك يقول علماؤنا: إن الحج إذا وجب فأخّر أداءه حتى أعسر ـ لم يسقط عنه الحج، وكذلك إن، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت على الراحلة ـ وعندنا أنه لا يلزمه؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له، ثم من قول هذا القائل: إن من لزمه فرض الحج، فله التأخير، وفي التأخير فوت أو إدراك المنيّة، ومن قوله: إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا؛ فإذا مات مات فاسقا، يجعل له رخصة التأخير، ثم يفسقه؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق، فذلك قبيح وخش من القول سمج، وأمّا عندنا: فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار؛ كغيره من العبادات التي لزمت، من نحو الصلاة، والصيام، وغيرهما؛ لا يسع التأخير؛ فعلى ذلك الحج، ثم من قول الشافعي: إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره، فإذا أسلم سقط ذلك عنه؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين الله تعالى غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك.
6. في الآية دلالة أن الحج إنما كان على الكافر كما هو على المسلم، لم يكن لقوله معنى؛ دل أنه غير لازم، والله أمر بالعبادات باسم المؤمنين.
7. ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة، قالت المعتزلة: تكون قبل الفعل؛ لأن الله تعالى فرض الحج، وأمر بالخروج إليه، إذا قدر على الزاد والراحلة؛ على ما فسره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا لم يقدر لم يلزمه؛ فدلّ أنها تتقدم، وأمّا عندنا: فهي على وجهين:
أ. أحدهما: استطاعة الأسباب والأحوال.
ب. الثاني: استطاعة الأفعال.
8. أمّا استطاعة الأحوال والأسباب: فيجوز تقدمها، من نحو: الزاد، والراحلة، والجوارح السليمة، وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه؛ فلا تكون إلا معه، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجئ ـ لا يلزمه إلا بحضور ذلك، فلا يلزمه الخروج أبدا؛ إذ؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه.
9. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ في الآية دلالة أن الله ـ عزّ وجل ـ إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه، ويأمر لحاجة العبد؛ لأنه غنى بذاته، لا حاجة تمسّه، وأمّا الأمر فيما بين الخلق: فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض: إمّا جر منفعة، أو دفع مكروه، فذلك معنى قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
10. اختلف في قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾:
أ. عن ابن عباس ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ قال: من زعم أنه لم ينزل.
ب. وعن الحسن: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ قال من زعم أن الحج ليس بواجب.
ج. وقيل: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ بالله، قال هو الذي إن حج لم يرج ثوابه، وإن جلس لم يخش عقابه.
د. وعن ابن عباس قال: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ والسبيل أن يصح بدن العبد، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب)، ثم قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ يقول: ومن كفر بالحج فلم ير حجه برّا، ولا تركه إثما.
11. في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ دلالتان:
أ. إحداهما: في الوجوب بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ وأيد ذلك قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ وما جاء من الأثر واتفاق القول.
ب. الثانية: جعل البيت شرطا للقيام لما هو في قوله: ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ ذلك؛ فيكون فيه دليل لزوم الطواف، تفسيره في قوله: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، وكذلك أيده قوله: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾ [البقرة: 158]، وأيّد ـ أيضا ـ ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال في امرأة نفست: (أحابستنا هي؟) قيل: إنها أفاضت، وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج، أو الذي يختم به، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس ـ ثبت أن الفرض هو الذي يختم به.
12. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أوجب جعل السبيل إليه والإمكان ـ شرطا للوجوب؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل؛ وعلى ذلك جميع العبادات، جعل الإمكان في وجوبها شرطا بالسمع بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة؛ وكذا حق هذا بالفعل، وذلك يخرج على وجهين:
أ. استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال، أو اشتغال ذلك بالفعل؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته، كفوت العلم به على الإمكان، وإن كان لا يقوم دونه، والذي يؤيّد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيّأ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل؛ فلذلك لم يجب تكليف بالخروج ولا أمر بالحج؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة؛ وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل، بل على ظهور ألا يمتد بمضي البدل ـ ثبت أن لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف.
ب. الثاني: يراد بالاستطاعة: سلامة الأسباب، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل؛ لأنه ممنوع، ومحال أمر الممنوع عن الفعل ـ به؛ كالأعمى، والمقعد، ونحو ذلك، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة، وهو اللازم في العقل؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن ذلك؛ فقال: (الزّاد والرّاحلة)، وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة في وجوب الحج: وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام ـ والله أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر، وأصله: أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز، فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل ـ ثبت أنه للجواز لا للوجوب؛ وأيّد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدى، ولو كان في الأوّل واجبا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيا، فإذا لم يكن: ثبت أنه ليس لوجوبه وقت.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/433.
(2) يقصد الحنفية
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وفي الاستطاعة ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها بالمال، وهي الزاد والراحلة، وهو قول الشافعي.
ب. الثاني: أنها بالبدن، وهو قول مالك.
ج. الثالث: أنها بالمال والبدن، وهو قول أبي حنيفة.
2. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني من كفربفرض الحج فلم يره واجبا، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: هو لا يرى حجّه برا ولا تركه مأثما، وهو قول زيد بن أسلم.
ج. الثالث: اليهود، لأنه لما نزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ فقالوا نحن مسلمون فأمروا بالحج فلم يحجوا، فأنزل الله هذه الآية.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/412.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. السبيل الذي يلزم بها الحج:
أ. قال ابن عباس، وابن عمر: هي الزاد، والراحلة.
ب. وقال ابن الزبير، والحسن: ما يبلغه كائناً ما كان.
2. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف، وعندنا (2) هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان المسير.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾:
أ. قيل: معناه من جحد فرض الحج فلم يره واجباً في قول ابن عباس، والحسن، والضحاك، فأما من تركه وهو يعتقد فرضه، فإنه لا يكون كافراً وإن كان عاصياً.
ب. وقال قوم: معنى (ومن كفر) يعني ترك الحج والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ قالت اليهود نحن المسلمون فأنزل الله هذه الآية فأمرهم بالحج إن كانوا صادقين فامتنعوا، فقال الله تعالى ومن ترك من هؤلاء فهو كافر، والله غني عن العالمين.
4. في الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة أن الاستطاعة مع الفعل، لأن الله تعالى أوجب الحج على المستطيع، ومن لا يستطيع، فلا يجب عليه، وذلك لا يكون إلا قبل فعل الحج.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/538.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحج: القصد في اللغة، وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة في مكان مخصوص وزمان مخصوص.
ب. والاستطاعة: القوة، وهو مأخوذ من الطوع.
ج. السبيل: الطريق.
2. لما بَيَّنَ الله تعالى فضيلة البيت عقبه بذكر الحج إليه، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ اللام لام إلزام وإيجاب، أي ولله فرض واجب على الناس ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ يعني قصده للحج.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: أي من وجد إليه طريقًا لنفسه وماله.
ب. وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة، عن ابن عباس وابن عمر، وروي مرفوعًا.
ج. وقيل: ما يبلغه الحج كائنًا ما كان، عن ابن الزبير.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾:
أ. قيل: يعني من جحد لزوم الحج؛ لأنه من الأركان يكفر جاحده، عن الحسن وابن عباس والضحاك وعطاء، وهو الوجه.
ب. وقيل: هو أن يكون عنده أَنَّ فِعْلَ الحج ليس ببرٍّ، وتركه ليس بإثم، عن مجاهد.
ج. وقيل: من كفر بالقبلة التي أمر بالتوجه إليها.
د. وقيل: من كفر بِاللهِ واليوم الآخر.
هـ. وقيل: من كفر بالبيت، عن عطاء.
و. وقيل: من كفر أي لم يحج حتى مات فقد كفر.
ز. وقيل: من كفر بهذه الآيات، عن ابن زيد.
5. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ يعني لا يحتاج إلى عبادتهم، فإنما أمرهم ونهاهم لمنفعتهم.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً، وسئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الاستطاعة، فقال: هي الزاد والراحلة)، ومعلوم أنه لم يشرط ذلك إلا مضمومًا إلى استطاعة البدن؛ لأن الزاد يقويه على المشي، والراحلة تخفف عنه كل السفر، ونفيهما له أثر في إسقاط الفرض، كذلك كل أمر يقطع على الفرض فهو في حكم نفي الاستطاعة، فلذلك شرط العلماء في وجوب الحج شرائط نذكرها.
ب. وجوب الحج، والأمر لا يوجب التكرار عند الأكثر، وهو الصحيح، وإنما سأل بعض الصحابة: أَفِي كل عام؛ لأنهم رأوا العبادات التي هي أركان الدين مكررة، وإن اختلف حالها في كيفية التكرر، فسألوا عن ذلك، فبيَّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيانا شافيًا أنه مرة واحدة، والإجماع حصل على ذلك، وإنما اختلفوا فيمن حج ثم ارتد ثم أسلم هل يجب عليه الحج؟ فمنهم من قال: يجب، وهو مذهب أهل العراق؛ لأن المفعول أحبطه بالكفر، فصار كما لو لم يحج، ومنهم من قال: لا يجب، وهو مذهب الشافعي.
7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بأحكام الحج، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
8. قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ بكسر الحاء والباقون بفتحها، قيل: الفتح لغة الحجاز والكسر لغة نجد، ومعناهما واحد، وقيل المكسور اسم للعمل، والمفتوح مصدر جاز على فعله نحو: تكلم تكلمًا وكلامًا.
9. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ﴾ في موضع جر؛ لأن المعنى: على من استطاع إليه سبيلا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/323.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم لما بين الله فضيلته بيته الحرام، عقبه بذكر وجوب حجة الاسلام، فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ومعناه: ولله على من استطاع إلى حج البيت سبيلا من الناس، حج البيت أي: من وجد إليه طريقا بنفسه وماله.
2. اختلف في الاستطاعة:
أ. فقيل: هي الزاد والرحلة، عن ابن عباس وابن عمر.
ب. وقيل: ما يمكنه معه بلوغ مكة بأي وجه يمكن، عن الحسن، ومعناه القدرة على الوصول إليه.
ج. المروي عن أئمتنا (2) أنه وجود الزاد والراحلة، ونفقة من يلزمه نفقته، والرجوع إلى كفاية إما من مال أو ضياع أو حرفة، مع الصحة في النفس، وتخلية السرب من الموانع، وإمكان السير.
3. ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ معناه: ومن جحد فرض الحج، ولم يره واجبا، عن ابن عباس والحسن.
4. ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ لم يتعبدهم بالعبادة لحاجته إليها، وإنما تعبدهم بها لما علم فيها من مصالحهم.
5. قيل: إن المعني به اليهود، فإنه لما نزل قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ قالوا: نحن مسلمون، فأمروا بالحج فلم يحجوا، وعلى هذا يكون معنى ﴿مَنْ كَفَرَ﴾: من ترك الحج من هؤلاء فهو كافر.
6. ﴿اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قيل: المراد به كفران النعمة، لأن امتثال أمر الله شكر لنعمته، وقد روي عن أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد.
7. في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إن الاستطاعة مع الفعل، لأن الله أوجب الحج على المستطيع، ولم يوجب على غير المستطيع، وذلك لا يمكن إلا قبل فعل الحج.
8. وجه اتصال الآية بما قبلها أن الله تعالى أمر أهل الكتاب باتباع ملة إبراهيم، ومن ملته تعظيم بيت الله الحرام، فذكر تعالى البيت وفضله وحرمته، وما يتعلق به في قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾
9. قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر وأبي جعفر ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ بكسر الحاء والباقون بفتحها.. قال سيبويه: حج حجا مثل ذكر ذكرا، فحج على هذا: مصدر فهذا حجة لمن كسر الحاء، وقال أبو زيد: الحجج السنون، واحدتها حجة، قال أبو علي: يدل على ذلك قوله ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ قال: الحجة من حج البيت الواحدة، قال سيبويه: قالوا حجة أرادوا عمل سنة، ولم يجيئوا بها على الأصل، ولكنه اسم له، فقوله: لم يجيئوا بها على الأصل أراد أنه للدفعة من الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسما لهذا المعنى، كما قالوا غزاة لعمل وجه واحد، ولم يجئ فيه الغزوة، وكان القياس.
10. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾: في موضع جر بدلا من ﴿النَّاسِ﴾، وهو بدل البعض من الكل.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/800.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾، الأكثرون على فتح حاء (الحج)، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وحفص عن عاصم: بكسرها.
2. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ قال أهل الملل كلّهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجّه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجّه أبدا.
3. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال النّحويون: (من) بدل من (الناس)، وهذا بدل البعض، كما تقول: ضربت زيدا رأسه، وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل: ما السّبيل؟ فقال: (من وجد الزّاد والرّاحلة)
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: من كفر بالحجّ فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، والضّحّاك، ومقاتل.
ب. الثاني: من لم يرج ثواب حجّه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد.
ج. الثالث: أنه الكفر بالله، لا بالحجّ، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، ومجاهد.
د. الرابع: أنه إذا أمكنه الحجّ، فلم يحجّ حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر.
هـ. الخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أنزلت في ذكر البيت، لأن قوما من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد.
__________
(1) زاد المسير: 1/309.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج.
2. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ بكسر الحاء والباقون بفتحها، قيل الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى، وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة، مثل رطل ورطل، وبزر وبزر، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر، وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً، كالذكر والعلم.
3. في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الزجاج: موضع (من) خفض على البدل من (الناس) والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت.
ب. الثاني: قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلًا فلله عليه حج البيت.
ج. الثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون (من) في موضع رفع على معنى الترجمة للناس، كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل: هم من استطاع إليه سبيلًا.
4. اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة:
أ. روى جماعة من الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة.
ب. وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شابا صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت.
ج. وعن عكرمة أيضاً أنه قال: الاستطاعة هي صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
5. كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار، وطعن فيها من وجه آخر، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً، فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]
6. احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا: لأن ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل، فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط، فكذا هاهنا.
7. احتج جمهور المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقالوا: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج، ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق، وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بأن هذا أيضاً لازم لهم، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدة، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد.
8. روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام، ذكروا ذلك ثلاثاً، فسكت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قال في الرابعة: (لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة اختلافهم على أنبيائهم)، احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين.
أ. الأول: أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار.
ب. الثاني: أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة.
9. استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول، قال تعالى: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [غافر: 11]، وقال: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 44]، وقال: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91] فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قولان:
أ. الأول: أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله.
ب. الثاني: أنه متعلق بما قبله، والقائلون بهذا القول:
• منهم من حمله على تارك الحج.. وقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً)، وعن أبي أمامة قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً)، وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه.
• ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج.. وهم الأكثرون، قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل الأديان الستة المسلمين، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال: (إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا) فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا القول هو الأقوى.
11. سؤال وإشكال: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج؟ والجواب: أجاب القفال: يجوز أن يكون المراد منه التغليظ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: 10] أي كادت تبلغ، ونظيره قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من ترك صلاة متعمداً فقد كفر)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر)
12. تكليف الشرع في العبادات قسمان، منها ما يكون أصله معقولًا إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة، قال المحققون: إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد:
أ. أحدها: قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ والمعنى أنه سبحانه لكونه إلهاً ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا.
ب. ثانيها: أنه ذكر ﴿النَّاسِ﴾ ثم أبدل منه ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وفيه ضربان من التأكيد:
• أما أولًا فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدل على شدة العناية.
• وأما ثانياً فلأنه أجمل أولًا وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام.
ج. ثالثها: أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما: لام الملك في قوله: ﴿وَلِلَّهِ﴾ وثانيتهما:
د. كلمة (على) وهي للوجوب في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾
هـ. رابعها: أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام.
و. خامسها: أنه قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ مكان، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج.
ز. سادسها: ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان.
ح. سابعها: قوله: ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته، فكان ذلك أدل على السخط.
ط. ثامنها: أن في أول الآية قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية، لا لجر نفع ولا لدفع ضر، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
13. مما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث)، وروي (حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه)، قيل: معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره، وعن ابن مسعود: (حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت)
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/304.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ﴾ اللام في قوله ﴿وَلِلَّهِ﴾ لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: ﴿عَلَى﴾ التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان علي كذا، فقد وكده وأوجبه، فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر، وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام مرة، ورووا في ذلك حديثا أسندوه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحديث باطل لا يصح، والإجماع صاد في وجوههم.. وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يقول الرب تعالى إن عبدا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم) مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين، روى عنه غير واحد، منهم من قال: في كل خمسة أعوام، ومنهم من قال: عن العلاء عن يونس بن خباب عن أبي سعيد، في غير ذلك من الاختلاف.
2. أنكرت الملحدة الحج، فقالت: إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل، فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة، إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود، ولهذا المعنى كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في تلبيته: (لبيك حقا حقا تعبدا ورقا لبيك إله الحق)
3. روى الأئمة عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شي فدعوه) لفظ مسلم، فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار، خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره، وثبت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له أصحابه: يا رسول الله، أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: (لا بل للأبد)، وهذا نص في الرد على من قال: يجب في كل خمس سنين مرة، وقد كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها، فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا، وقد حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا، حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون: (نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس)، حسب ما تقدم بيانه في البقرة.
4. من أغرب ما رأيته أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك، لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج]، قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، فإنه إذا ورد في شرعه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه، ولئن قيل: إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا لا دليل عليه، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد.
5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بحكم الحج، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
6. قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ من في موضع خفض على بدل البعض من الكل، هذا قول أكثر النحويين، وأجاز الكسائي أن يكون ﴿مِنَ﴾ في موضع رفع بحج، التقدير أن يحج البيت من، وقيل هي شرط، و﴿اسْتَطَاعَ﴾ في موضع جزم، والجواب محذوف، أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج، روى الدارقطني عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله الحج كل عام؟ قال: (لا بل حجة)؟ قيل: فما السبيل، قال: (الزاد والراحلة)، ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن علي بن أبي طالب عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ قال فاسأل عن ذلك فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن تجد ظهر بعير)، وأخرج حديث ابن عمر أيضا ابن ماجه في سننه، وأبو عيسى الترمذي في جامعه وقال: حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه، وأخرجاه عن وكيع والدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا: حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟، قال: (الزاد والراحلة) قال: يا رسول الله، فما الحاج؟ قال: (الشعث التفل)، وقام آخر فقال: يا رسول الله وما الحج؟ قال: (العج والثج)، قال وكيع: يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن، لفظ ابن ماجه، وممن قال إن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن حبيب، وذكر عبدوس مثله عن سحنون، قال الشافعي: الاستطاعة وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج،.
ب. الثاني: أن يكون معضوبا في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة، على ما يأتي بيانه.
7. أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي، وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج، فإن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشيا رجلا كان أو امرأة، قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة لأنه أقوى، وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لأنه يصير كلا على الناس، وقال مالك بن أنس: إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد وجب عليه فرض الحج، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر أيضا، فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لا يجب عليه، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج، وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج، وإن لم يكن معه زاد وراحلة، وهو قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة، وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجه، فقال له مقاتل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أن لأحدهم ميراثا بمكة أكان تاركه!؟ بل ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ أي مشاة، قالوا: ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام، قالوا: ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة، وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها، وقد روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال: الناس في ذلك على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم، قال أشهب لمالك: أهو الزاد والراحلة؟، قال: لا والله، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه.
8. إذا وجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدي الدين، ولا خلاف في ذلك، أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور، والحج فرض على التراخي، فكان تقديم العيال أولى، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)، وكذلك الأبوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحج، فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه، والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها، والصحيح المنع، لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزم على الفور، والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة ـ كما تقدم بيانه في البقرة ـ ويعلم من نفسه أنه لا يميد، فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا، وإن كان لا يجد موضعا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك: إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه، ثم قال: أيركب حيث لا يصلي! ويل لمن ترك الصلاة!
9. ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدد بحد مخصوص أو يتحدد بقدر مجحف، وفي سقوطه بغير المجحف خلاف، وقال الشافعي: لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج، ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه، وقيل لا يجب، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة.
10. إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من الناض ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدين، وسيل ابن القاسم عن الرجل تكون له القربة ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شي لهم يعيشون به؟، قال: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة، والصحيح القول الأول، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) وهو قول الشافعي، والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهبا وراجعا ـ قال في الإملاء ـ وإن لم يكن له أهل وعيال، وقال بعضهم: لا يعتبر الرجوع لأنه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن، والأول أصوب، لأن الإنسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه، ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن، قال الشافعي في الأم: إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج، وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال بعد هذا كله، وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكنا وخادما لأهله، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟ قولان: الأول للجمهور وهو الصحيح المشهور، لأنه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج، فكذلك البضاعة، وقال ابن شريح: لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته، فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال.
11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالاستطاعة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
12. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس وغيره: المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا، وقال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف، وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب، وعن عبد خير بن يزيد عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في خطبته: (يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي)، وقال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة)، فقيل: يا ابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين، فقال: أنا أقرأ عليكم به قرآنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون]، قال الحسن بن صالح في تفسيره: فأزكي وأحج، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن رجلا سأله عن الآية فقال: (من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به)، وروى قتادة عن الحسن قال قال عمر: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية، فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، هذا خرج مخرج التغليظ، ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره، لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد، والله أعلم، وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/143.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ اللام في قوله: ﴿لله﴾ هي التي يقال لها: لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف ﴿عَلَى﴾، فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل: لفلان عليّ كذا، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب، تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل، كالصبي والعبد.
1. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس، وبه قال أكثر النحويين، وأجاز الكسائي: أن يكون في موضع رفع بحج، والتقدير: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا؛ وقيل: إن: من، حرف شرط، والجزاء محذوف، أي: من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج.
2. اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟
أ. فقيل: الزاد والراحلة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وهو الحق.
ب. قال مالك: إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج، وإن لم يكن له زاد وراحلة، إذا كان يقدر على التكسب، وبه قال عبد الله بن الزبير، والشعبي، وعكرمة، وقال الضحاك: إن كان شابا قويا صحيحا وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه.
3. من جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا: أن تكون الطريق إلى الحج آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة، لأن الله سبحانه يقول: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلا بلا شك ولا شبهة، وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج:
أ. فقال الشافعي: لا يعطي حبة، ويسقط عنه فرض الحج، ووافقه جماعة.. ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج: أن أخذ هذا المكس منكر، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع.
ب. وخالفه آخرون، والظاهر: أن من تمكن من الزاد والراحلة، وكانت الطريق آمنة، بحيث يتمكن من مرورها، ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شيء من المال، يتمكن منه الحاج، ولا ينقص من زاده ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه، بل واجب عليه، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا، وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.
4. من جملة ما يدخل في الاستطاعة: أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي، ولا على الركوب، فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطيع السبيل.
5. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
أ. قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج، تأكيدا لوجوبه، وتشديدا على تاركه.
ب. وقيل: المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا.
ج. وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر.
6. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة، وخذلانه، وبعده من الله سبحانه، ما يتعاظمه سامعه، ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه، وتقدس سلطانه، غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/416.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ﴾ (حَجُّ) مبتدأ خبره (لِلهِ)، و(عَلَى) متعلِّق بـ (لِلهِ)، لأنَّه ناب عن ثابت أو بثابت أو ثبت المقدَّر، وبمحذوف حال من المستتر في (لِلهِ)، ولا يحسن جعل (عَلَى النَّاسِ) خبرا، وجعل (لِلهِ) متعلِّقا به، أو بالمقدَّر أو حالا من الضمير المقدَّر؛ لأنَّ العامل المعنويَّ لا يتقدَّم عليه معموله في الأفصح ولو ظرفًا، إن قدَّرنا الكون خاصًّا مثل: (واجب) فلا ضمير في (لِلهِ)، وحذف لفظ (واجب) وهو خبر مع الضمير فيه فيتعلَّقان بـ (واجب)، أو الثاني بحال من ضمير (واجب)
2. الحجُّ: القصد، أي: القصد للبيت بوجه مخصوص؛ وهو الإحرام والوقوف والطواف وسائر ما يجب في ذلك.
3. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ أي: على مستطيعهم؛ فـ (مَن) بدلُ بعضٍ من (النَّاسِ)، والرابط محذوف، أي: من استطاع منهم، ويضعف أن يراد بالناس مخصوص فيكون (مَن) بدل كلٍّ، والمخصوصون من قدر بمعنى جنس القادرين الذين رأيتموهم يحجُّون، وقدَّر بعضٌ: أعني من استطاع، وكونَ (مَنْ) فاعلُ (حَجُّ)، فيكون الوجوب على المجموع لا على الجميع، أو بمعنى: يجب عليهم أن يأمروا مستطيعيهم بالحجِّ.
4. وعلى كلِّ حال المراد: (المستطيع طريقًا بالزاد والراحلة)، كما رواه الحاكم والدارقطني عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ودخل فيه أمان الطريق وموافقة الأصحاب، وروى الدارقطني أيضًا: (ظهر بعير)، وصحَّة الأبدان، ووجود الدليل، ونفقة الأهل الواجبة حتَّى يرجع، إذ لا منفعة في الزاد والراحلة مع عدم الدليل لأنَّهم يضلُّون، ولا مع المرض إذ لا يتماسك على الراحلة أو لا يدرك كيف يؤدِّي المناسك، ولا مع عدم الأصحاب، لأنَّ (الواحد شيطان والاثنين شيطانان)، ولا مع الخوف من عدوٍّ أو سبُع إذ قد يموت فأين الحجُّ؟ ولا مع تضييع حقِّ الأهل في النفقة.
5. ومن قدر على المشي لقوَّته أو للقرب لم تُشترط له الراحلة، فظهر أنَّ ما ذكر في الأحاديث السابقة ليس على الحصر، وقد روى البيهقي عن ابن عبَّاس موقوفًا أنَّ السبيل صحَّة البدن وثمن الزاد والراحلة من غير أن يجحف به، وما ذكرته هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأمَّا الشافعيُّ فاقتصر على ما في الحديث، وأمَّا مالك فيقول: بالمال أو بالقوَّة، فأوجب على القادر أن يحجَّ برجليه ويكسب.
6. والآية تشمل المشركين؛ فيجب عليهم أن يسلموا مطلقًا ويحجُّوا إن استطاعوا، وهم مخاطَبون بالفروع لهذه الآية ونحوها كالأصول، ولا إشكال في قولك: (يجب على المشرك الحجُّ فإن لم يحجَّ أو كفر بالحجِّ فإنَّ الله غنيٌّ عنه)، نعم يثقل لأنَّه له بشرط الإسلام، وأنَّ الخطاب في سائر العبادات للمؤمنين، فليكن هذا من ذلك.
7. والآية حجَّة على أنَّ الاستطاعة قبل الفعل، وقولك: هي مع الفعل لا قبله إِلَّا الحجّ فقبله، لا يتمُّ، إذ لا يُتصوَّر الفرق بين الحجِّ وغيره، والاستطاعة بمعنى سلامة الآلة قبل الفعل مطلقًا، وبمعنى علاجه معه مطلقًا.
8. ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ بالله أو بالحجِّ وقال: ليس عبادة أو ليس واجبًا، ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ مؤمنيهم وكافريهم، جِنِّهم وإنسهم وملائكتهم، وإنَّما منفعة المطيع له ولا يحتاج الله لشيء، وذلك الكافر من جملة العالمين فإنَّ الله غنيٌّ عن عبادتِه، أو أراد بالعالمين من كفر.
9. لَمَّا نزل: ﴿وَلِلهِ﴾ الآية، جمع صلّى الله عليه وآله وسلّم المِلل الستَّ وقال: (إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ فحجُّوا)، فآمنت به ملَّة وكفرت به خمس فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/333.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ اللام في البيت للعهد، وحجه: قصده للزيارة بالنسك المعروف، وكسر الحاء وفتحها لغتان، وهما قراءتان سبعيتان.
2. قال أبو السعود في صدر الآية: جملة من مبتدأ هو ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾ وخبر هو ﴿لله﴾ وقوله تعالى ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه ذلك الاستقرار، ويجوز أن يكون ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ هو الخبر، و﴿لله﴾ متعلق بما تعلق به الخبر، ثم قال في قوله تعالى ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ في محل الخبر على أنه بدل من ﴿النَّاسِ﴾ بدل البعض من الكل مخصص لعمومه، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف، أي (من استطاع منهم)، وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع، فلا حاجة إلى الضمير، وقيل في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي هم من استطاع، وقيل في حيز النصب بتقدير أعني.
3. هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل بل هي قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾ [البقرة: 196]، والأول أظهر، وفي فتح البيان: اللام في قوله: ﴿لله﴾ هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف ﴿عَلَى﴾ فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل: لفلان عليّ كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه، وتعظيما لحرمته، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا.
4. يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة، بالنص والإجماع؛ روى أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)، وروى أحمد وأبو داوود والنسائيّ وغيرهم عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع ابن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع)
5. استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه، قال ابن المنذر: اختلف العلماء في قوله تعالى ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة، الحجّ، على ظاهر الآية، قال: وروينا عن عكرمة أنه قال الاستطاعة الصحة، وقال الضحاك: إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه، فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال لا، بل ينطلق إليه ولو حبوا، قال فكذلك يجب عليه حج البيت، وقال مالك: الاستطاعة على إطاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه، وقالت طائفة: الاستطاعة الزاد والراحلة، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلا قال يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة ـ رواه الترمذيّ ـ وفي إسناده الخوزي فيه مقال، قال ابن كثير: لكن قد تابعه غيره، وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث، ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن قول الله عز وجل: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، فقيل: ما السبيل؟ قال الزاد والراحلة، ثم قال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
6. قال ابن القيّم الدمشقيّ في (زاد المعاد) في سياق هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجته: لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، واختلف هل حج قبل الهجرة؟ وروى الترمذيّ عن جابر بن عبد الله قال: حج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، معها عمرة، قال الترمذيّ: هذا حديث غريب من حديث سفيان، قال وسألت محمدا ـ يعني البخاريّ ـ عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوريّ، وفي رواية: لا يعد هذا الحديث محفوظا، ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله﴾، فإنها، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وقد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع.
7. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى، لا تعلق له بما قبله، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه، وهو أظهر وأبلغ، والكفر، على هذا، إما بمعنى جحد فريضة الحج، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به، ونظيره في السنة ما رواه النسائيّ والترمذيّ عن بريدة مرفوعا: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر، وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ـ أخرجه الترمذيّ ـ ولأبي داوود عن جابر مرفوعا: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، ولفظ مسلم: بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة، وروى الترمذيّ عن عليّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيليّ عن عمر بن الخطاب قال: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا، قال ابن كثير: إسناده صحيح إلى عمر، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصريّ قال قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، قال السيوطيّ في (الإكليل): وقد استدلّ بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج، وإن لم ينكره، كفر، ثم قال وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر: من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج، كان سيماه بين عينيه كافر، ثم تلا هذه الآية.
8. هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه:
أ. فمنها الإتيان بـ (اللّام وعلى) في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾، يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته.
ب. ومنها أنه ذكر (الناس) ثم أبدل عنه ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وفيه ضربان من التأكيد:
• أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
• الثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
ج. ومنها قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ مكان (من لم يحج) تغليظا على تارك الحج.
د. ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان.
هـ. ومنها قوله: ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، ولم يقل: عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه ـ أشار لذلك الزمخشريّ ـ
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/363.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فهو بيان آية ثالثة من آيات هذا البيت جاءت بصيغة الإيجاب والفرضية في معرض ذكر مزاياه ودلائل كونه أول بيوت العبادة المعروفة للمعترضين من اليهود على استقباله في الصلاة، فهو يفيد بمقتضى السياق معنى خبريا وبمقتضى الصيغة معنى إنشائيا، وهو وجوب الحج على المستطيع من هذه الأمة، أشار إلى ذلك محمد عبده بقوله: هذه الجملة – وإن جاءت بصيغة الإيجاب ـ هي واردة في معرض تعظيم البيت، وأي تعظيم أكبر من افتراض حج الناس إليه؟ وما زالوا يحجونه من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم، ولم يمنع العرب عن ذلك شركها، وإنما كانوا يحجون عملا بسنة إبراهيم، يعني أن الحج عام جروا عليه جيلا بعد جيل على أنه من دين إبراهيم، وهذه آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبرهيم، فهي أصح من نقول المؤرخين التي تحتمل الصدق والكذب، وبهذا وبما سبقه بطل اعتراض أهل الكتاب، وثبت أن النبي على ملة إبراهيم دونهم.
2. الحج في أصل اللغة القصد، ـ وهو بكسر الحاء ـ وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وفتحها، وبه قرأ الباقون، وقيل: الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، وقد تقدم تفصيل أعماله في تفسير آيات سورة البقرة.
3. أما استطاعة السبيل: فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه، وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه، وكل مكلف أعلم بنفسه ـ وإن كان عاميا ـ من غيره وإن كان عالما نحريرا، وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلا بعدا عن حقيقتها الواضحة من الآية أتم الوضوح إذ قال بعضهم: إن الاستطاعة صحة البدن والقدرة على المشي، وقال بعضهم: إنها القدرة على الزاد والراحلة، واشترطوا فيها: أمن الطريق، ولم يشترطوا الأمن في أرض الحرم، لأنها كانت آمنة قطعا.
4. أما في هذا الزمان فما كل أحد يأمن فيها؛ لا سيما إذا كان متهما بالاشتغال بالسياسة، وكيف؟ وقد ألقي بعض علمائها في ظلمة السجن مكبلا بالسلاسل والأغلال، ولا ذنب له إلا أنه ألف كتابا أيد فيه التوحيد، وبين فساد ما طرأ على الناس من نزغات الوثنية التي يعبرون عنها بالتوسل بالأولياء فيا ليت شعري لو كان مثل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الذي كان ينكر كرامات الأولياء حيا أكان يأمن على نفسه إذا أراد الحج، وهو المعدود في عصر العلم من أئمة علماء السنة في أصول الدين؟ وقل مثل هذا في الإمام أبي بكر الباقلاني، الذي كان يقول في الأرواح بمثل ما يقول جمهور علماء أوربا اليوم من ماديين وغيرهم، دع الفرق التي وُسمت بالابتداع، كالمعتزلة والخوارج والشيعة، ولم يكن أهل السنة يكفرون أحدا منهم ولا يعاقبونه على مخالفة الجمهور في بعض الآراء أيام كان قرب جمهور المسلمين من العلم والدين كبعدهم عنه اليوم.
5. قال محمد عبده في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أنه بيان لموقع الإيجاب ومحله، وإعلام بأن الفرضية موجه أولا وبالذات إلى هذا العمل، ولكن الله رحم من لا يستطيع إليه سبيلا، والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص: ولم يزد على ذلك.
6. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ تأكيد لما سبق ووعيد على جحوده، وبيان لتنزيه الله تعالى بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى الله، والعلم بفرضه على الناس أن يحجوه من كونه محتاجا إلى ذلك، فالمراد بالكفر: جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة، بعد إقامة الحجج على ذلك وعدم الإذعان لما فرض الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة، هذا هو المتبادر، وحمله بعضهم على الكفر مطلقا على أنه مستقل لا متمم لما قبله، وهو بعيد جدا، وبعضهم على ترك الحج وهو بعيد أيضا، وإن دعموه بحديث أبي هريرة مرفوعا: (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) رواه ابن عدي، وحديث أبي أمامة عند الدارمي والبيهقي: (من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) ورواه غيرهم باختلاف في اللفظ والروايات كلها ضعيفة إلا ما قيل في رواية موقوفة؛ بل عده ابن الجوزي من الموضوعات، واعترض عليه لكثرة طرقه، وأمثل طرقه المرفوعة: ما روي عن علي كرم الله وجهه بلفظ: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ الآية) رواه الترمذي، وقال: غريب، في إسناده مقال، والحارث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن إسحاق مجهول، وقد قال بعضهم: إن تعدد طرق الحديث ترتقي به إلى درجة الحسن لغيره كما يقولون في مثله، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني: لا يصح في هذا الباب شيء، إذ لا ندعي أن هناك شيئا صحيحا، وأشد من ذلك أثر عمر عند سعيد بن منصور في سننه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) واستدل بهذه الروايات على أن الحج واجب على الفور، وبه قال كثير من أهل الفقه والأثر، والآخرون يقولون: إنه على التراخي، والاحتياط أن لا يؤخر المستطيع الحج بغير عذر صحيح لئلا يفاجئه الموت قبل ذلك.
7. الآية تشتمل على مزايا وآيات لبيت الله الحرام، فالمزايا كونه أول مسجد وضع للناس، وكونه مباركا، وكونه هدى للعالمين، والآيات: مقام إبراهيم وأمن داخله، والحج إليه على ما بينا، ويذكر له المفسرون هنا خصائص ومزايا أخرى يعدونها من الآيات على تقدير) منها مقام إبراهيم) ومنهم من قال: إنها هي الآيات، وإن قوله: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ كلام مستقل، قال الرازي: (فكأنه قال: فيه آيات بينات؛ ومع ذلك هو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه)، ولعل الدافع لهم إلى هذا فهمهم أن ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ تفسير للآيات وهو مفرد، وقد علمت أن ما بعده تابع له في ذلك، وما يؤيد ذلك: محاولة الآخرين أن يجعلوا مقام إبراهيم بمنزلة عدة آيات، قال الرازي: (إن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين ألوف السنين آية، فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة)
8. تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125] أن بعضهم يقول: إن مقامه عبارة عن موقعه حيث ذلك الأثر للقدمين وإن هذا ضعيف، والكلام هنا في أن مقام إبراهيم مشتمل على ما ذكره من الأثر، وهذا هو الصحيح أما الأثر نفسه، فقد كانت العرب تعتقد أنه أثر قدمي إبراهيم، كما قال أبو طالب في لاميته:
çوموطئ إبراهيم في الصخرة رطبة... على قدميه حافيا غير ناعلِé
وقد يؤخذ من قوله: (رطبة) أن الصخرة كانت عندما وطئ عليها رطبة لم تتحجر، ثم تحجرت بعد ذلك، وبقي أثر قدميه فيها، وعلى هذا لا يظهر معنى كونه آية إلا على الوجه الذي جرينا عليه في تفسير ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ دون ما جرى عليه الجمهور من كون الآيات بمعنى الخوارق الكونية، وقد يكون مراده أنها كانت رطبة كرامة له (وهو ما جرينا عليه في تفسير القصيدة في المنار)، وقال بعضهم، إن ﴿مَقَامَ﴾ مصدر بمعنى الجمع، والمراد مقامات إبراهيم، أي ما قام به من المناسك وأعمال الحج، والمتبادر ما ذكرناه في موضعه.
9. مما عدوه من الآيات، قصم من يقصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل ويرد عليهم ما كان من الحجاج ومن هم شر من الحجاج في هذا الزمان، وعدم تعرض ضوارى السباع للصيود فيه، وهذا القول ظاهر الضعف؛ إذ ليس ذلك آية وعدم نفرة الطير من الناس هناك، ويرد عليه أن الطير تألف الناس لعدم تعرضهم لهذا، ولذلك نظائره في الأرض، وانحراف الطير عن موازاته وليس بمتحقق، وكون وقوع الغيث فيه دليلا على الخصب، فإذا عمه كان الخصب عاما وإذا وقع في جهة من جهاته كان الخصب في تلك الجهة من الأرض، وهي آية وهمية.
10. لعمري إن بيت الله غني عن اختراع الآيات وإلصاقها به مع براءته منها، فحسبه شرفا كونه حرما آمنا ومثابة للناس وأمنا ومباركا وهدى للعالمين، وما فيه من الآيات التي ذكرها الله وإقسامه تعالى به وما ورد عن رسوله في حرمته وتحريمه وفضله، ككونه لا يسفك فيه دم ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه أي لا يقطع نباته ولا ينفر صيده ولا تملك لقطته، وكون قصده مكفرا للذنوب ماحيا للخطايا، وكون العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره وكون استلام الحجر الأسود فيه رمزا إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له فيه، وكون الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره، والأحاديث الواردة في ذلك تطلب من الصحيحين وكتب السنن.
__________
(1) تفسير المنار: 4/10.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيّما تعظيم، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم، جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان والأصنام، فهي آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى ابراهيم، واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ وقال: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾
2. تختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك، وقد اختلف في تفسيرها، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق، وقال بعض: إنها صحة البدن والقدرة على المشي، وقال آخرون هي صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشترى منه الزاد والراحلة، وقضاء جميع الديون والودائع ودفع النفقة التي تكفى لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.. وخلاصة ذلك ـ إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهى تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.
3. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك، وعدم الإذعان لما فرضه الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة، وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن الله غنى عن العالمين، وعبر عنه بذلك تغليظا وتشديدا على تاركه، فقد روى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا)، وروى عن على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في خطبة له: (أيها الناس، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا، ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا)، وأثر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة (سعة) ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.. ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون: إنه واجب على التراخي.
4. هذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال ولله على الناس، فأفاد أن ذلك ما كان لجرّ نفع ولا لدفع ضر، بل كان للعزة الإلهية، ولكبرياء الربوبية، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك، ببيان أن فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه، وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما.
5. حسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين، وما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حرمته وفضله، من أنه لا يسفك فيه دم، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه (لا يقطع نباته) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر الأسود فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره، وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله، ومشيدة بذكره.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/10.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يقرر أن الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك، وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
2. يلفت النظر ـ في التعبير ـ هذا التعميم الشامل في فرضية الحج: ﴿عَلَى النَّاسِ﴾.. ففيه:
أ. أولا إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة، على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة، فهم ـ اليهود ـ المنحرفون المقصرون العاصون!
ب. وفيه ثانيا إيحاء بأن الناس جميعا مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به، هذا وإلا فهو الكفر، مهما ادعى المدعون أنهم على دين!
3. والله غني عن العالمين، فما به من حاجة ـ سبحانه ـ إلى إيمانهم وحجهم، إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة.
4. والحج فريضة في العمر مرة، عند أول ما تتوافر الاستطاعة، من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق، ووقت فرضها مختلف فيه، فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود ـ في السنة التاسعة: يرون أن الحج فرض في هذه السنة، ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت فقط بعد هذا التاريخ.. وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة: إن حجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج، فقد تكون لملابسات معينة، منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة، فكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخالطهم، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع، وحرم على المشركين الطواف بالبيت.. ثم حج صلّى الله عليه وآله وسلّم حجته في العام الذي يليه.. ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة أحد أو حواليها، وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع، الذي يجعل لله ـ سبحانه ـ حق حج البيت على ﴿النَّاسِ﴾ من استطاع إليه سبيلا.
5. الحج مؤتمر المسلمين السنوي العام، يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه، والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم، والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصا، فهو تجمع له مغزاه، وله ذكرياته هذه، التي تطوّف كلها حول المعنى الكريم، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم.. معنى العقيدة، استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنسانا، وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/436.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ هو خبر يراد به الأمر، أي أن الله سبحانه، قد فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يذكروا الله فيه، لينالوا حظهم المقسوم لهم من نفحاته، وبركاته.
2. كلمة ﴿النَّاسِ﴾ هنا تعنى النّاس جميعا، لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنحصر في شعب من الشعوب، إنها دعوة الله إلى كل النّاس، أسودهم وأحمرهم، وأبيضهم، على السواء.. إنهم عباد الله، والبيت بيت الله.
3. في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ قيد وارد على الأمر العام المطلق بالحج، فلا بد لنفاذ هذا الأمر، من الاستطاعة، فإذا فقد الإنسان الاستطاعة فلا حجّ عليه! والاستطاعة هنا استطاعة عامة، تشمل القدرة المالية، والقدرة الجسدية، كما تشمل أمن الطريق، وكما تشمل قبل ذلك كلّه، الإيمان بالله.. فغير المؤمن بالله، لا يتجه إلى بيته، ولا يسعى إليه.. فهو في حكم غير المستطيع، إذ قام الكفر حجازا بينه وبين هذا البيت.
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ إشارة إلى أن الكافر صادّ عن بيت الله، لا يستجيب لهذا الأمر الذي دعا الله فيه الناس جميعا، أن يحجوا إلى بيته.. فكأنه جنس آخر غير جنس الناس المدعوين إلى بيت الله!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/536.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ حكم أعقب به الامتنان: لما في هذا الحكم من التّنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه، والتّقدير: مباركا وهدى، وواجبا حجّه، فهو عطف على الأحوال.
2. الحجّ تقدّم عند قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ في سورة البقرة [197]، وفيه لغتان ـ فتح الحاء وكسرها ـ ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن ـ بكسر الحاء ـ إلّا في هذه الآية: قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر ـ بكسر الحاء ـ، ويتّجه أن تكون هذه الآية هي الّتي فرض بها الحجّ على المسلمين، وقد استدلّ بها علماؤنا على فرضية الحجّ، فما كان يقع من حجّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين، قبل نزولها، فإنّما كان تقرّبا إلى الله، واستصحابا للحنيفية، وقد ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حجّ مرّتين بمكّة قبل الهجرة ووقف مع النّاس، فأمّا إيجاب الحجّ في الشّريعة الإسلاميّة فلا دليل على وقوعه إلّا هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحجّ، فلا يعد ما وقع من الحجّ قبل نزولها، وبعد البعثة إلّا تحنّثا وتقرّبا، وقد صحّ أنّها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحد، فيكون الحجّ فرض يومئذ، وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحجّ على ثلاثة أقوال: فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنّه ذكر عن ابن هشام، عن أبي عبيد الواقدي أنّه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس، قال ابن إسحاق: وولى تلك الحجّة المشركون، وفي مقدّمات ابن رشد ما يقتضي أنّ الشافعي يقول: إنّ الحجّ وجب سنة تسع، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أنّ دليل وجوب الحجّ قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وقد استدلّ الشّافعي بها على أنّ وجوبه على التّراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرّر سنة ثلاث، وأصبح المسلمون منذ يومئذ محصرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكّة ووقعت حجّة سنة تسع.
3. في هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتان: لام الاستحقاق، وحرف (على) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها، وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك، ولتقوم الحجّة على المشركين بأنّهم يمنعون هذه العبادة، ويصدّون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
4. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ بدل من النّاس لتقييد حال الوجوب، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حجّ، وردّ بأنّه يصير الكلام: لله على سائر النّاس أن يحجّ المستطيع منهم، ولا معنى لتكليف جميع النّاس بفعل بعضهم، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النّاس فرض مجمل يبيّنه فاعل حجّ، وليس هو كقولك: استطاع الصّوم، أو استطاع حمل الثقل، ومعنى ﴿اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ وجد سبيلا وتمكّن منه، والكلام بأواخره، والسّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ.
5. للعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتّحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التّفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل القدرة والنّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم، واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة، وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقا غيره كأهل الأندلس، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: 27] ولم أجد للبحر ذكرا، قال الشيخ ابن عطية: هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالّتي تقتضي سقوط سفر البحر، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر)، وهل الجهاد إلّا عبادة كالحجّ، وكره مالك للمرأة السّفر في البحر لأنّه كشفة لها، وكلّ هذا إذا كانت السّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلّا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار.
6. ظاهر قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرء في عمله لا في عمل غيره، ولذلك قال مالك: لا تصحّ النّيابة في الحجّ في الحياة لعذر، فالعاجز يسقط عنه الحجّ عنده ولم ير فيه إلّا أنّ للرجل أن يوصي بأن يحجّ عنه بعد موته حجّ التّطوع، وقال الشّافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه: إذا كان له عذر مانع من الحجّ وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحجّ عنه، أو كان له مال يستأجر به من يحجّ عنه، صار قادرا في الجملة، فيلزمه الحجّ، واحتجّ بحديث ابن عبّاس: أنّ امرأة من خثعم سألت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم حجّة الوداع فقالت: إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحجّ عنه؟ قال: نعم، حجّي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال فدين الله أحقّ أن يقضى، وأجاب عنه المالكية بأنّ الحديث لم يدلّ على الوجوب بل أجابها بما فيه حثّ على طاعة أبيها، وطاعة ربّها، وقال عليّ بن أبي طالب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك، لا تجزئ إلّا إنابة الأجرة دون إنابة الطّاعة، وظاهر الآية أنّه إذا تحقّقت الاستطاعة وجب الحجّ على المستطيع على الفور، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاء الأمر الفور أو عدم اقتضائه إيّاه.
7. اختلف علماء الإسلام في أنّ الحجّ واجب على الفور أو على التّراخي، فذهب إلى أنّه على الفور البغداديون من المالكية: ابن القصار، وإسماعيل بن حماد، وغيرهما، وتأوّلوه من قول مالك، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة، وهو قول أحمد بن حنبل، وداوود الظاهري، وذهب جمهور العلماء إلى أنّه على التّراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشّافعي وأبي يوسف، واحتجّ الشّافعي بأنّ الحجّ فرض قبل حجّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسنين، فلو كان على الفور لما أخّره لعذر لبيّنه أي لأنّه قدوة للنّاس، وقال جماعة: إذا بلغ المرء الستّين وجب عليه الفور بالحجّ إن كان مستطيعا خشية الموت، وحكاه ابن خويزمنداد عن ابن القاسم، ومعنى الفور أن يوقعه المكلّف في الحجّة الّتي يحين وقتها أولا عند استكمال شرط الاستطاعة.
8. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ظاهره أنّه مقابل قوله: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فيكون المراد بمن كفر من لم يحجّ مع الاستطاعة، ولذلك قال جمع من المحقّقين: إنّ الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحجّ، والمراد كفر النعمة، ويجوز أيضا أن يراد تشويه صنعه بأنّه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حرمه، وقال قوم: أراد ومن كفر بفرض الحجّ، وقال قوم بظاهره: إنّ ترك الحجّ مع القدرة عليه كفر، ونسب للحسن، ولم يلتزم جماعة من المفسّرين أنّ يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلّة، كالتذييل، بيّن بها عدم اكتراث الله بمن كفر به، وعندي أنّه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكّة بأنّه لا اعتداد بحجّهم عند الله وإنّما يريد الله أن يحجّ المؤمنون به والموحّدون له.
9. في قوله تعالى: ﴿غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم: لأنّه لمّا فرض الحجّ وهم يصدّون عنه، وأعلمنا أنّه غني عن النّاس، فهو لا يعجزه من يصدّ النّاس عن مراده تعالى.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/167.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ هذه آية لتعظيم الله سبحانه وتعالى شأن بيته المقدّس، وحرمه الآمن إلى يوم القيامة، وذلك أنه سبحانه فرض الحج إليه على من يستطيع، وجعله موضع المؤتمر الإسلامي الأكبر، كما قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج]
2. الحج بالمعنى الشرعي هو القصد إلى أداء المناسك ونية العبادة به، وهو في أصل معناه اللغوي القصد المجرد إلى مكان معين، وتقرأ كلمة (حجّ) بفتح الحاء، وهى لغة أهل الحجاز وبها قرأ أكثر القراء، وبكسر الحاء وبها قرأ الكسائي وحفص.
3. ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ بدل من ﴿النَّاسِ﴾ فالفرضية العينية منصبة على من يستطيع دون غيره ولكن تصدير الكلام بإضافة الفرضية إلى الناس، ثم البدل منهم بالمستطيعين يدل على أن عامة المسلمين عليه فرضية عامة، وإن لم تكن كفرضية المستطيعين، وهذه الفرضية نفسرها بأمرين:
أ. أولهما: بالتكليف العام الذي يدخل في عموم فروض الكفاية، بمعنى أن عامة المؤمنين عليهم أن يسهّلوا تلك الفريضة على من يريدها ويستطيعها، ويبتغى بها مرضاة الله تعالى؛ فعلى ولى الأمر الذي يمثل جماعة المؤمنين أن يسهل هذه الفريضة لطلابها؛ وعلى جماعة المؤمنين أن يعملوا على إقامتها كلّ في طاقته وفي حدود قدرته.
ب. ثانيهما: ما يقرره الفقهاء من أن أصل الوجوب ثابت ما دام الشخص مكلفا؛ ولكن وجوب الأداء هو الذي يشترط فيه الاستطاعة، فمن لا يستطيع هذا العام قد يستطيع في قابل وهكذا.
4. الاستطاعة التي توجب فرضية الأداء هي الحد الأدنى من الاستطاعة، ولذلك قال النص الكريم: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، أي استطاع بأي سبيل للوصول إلى الحج، فليست الاستطاعة الموجبة للحج هي الاستطاعة الواسعة المعنى التي لا تكون إلا للأغنياء، ولذا فسرها الفقهاء بالقدرة البدنية، والقدرة على الزاد والراحلة أي ما يمكن أن يصل به؛ ولا بد أن يكون ذلك فاضلا عن حاجاته الأصلية وعمن يقوتهم، فإن ترك من يقوتهم بلا مال إثم، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)، والفرض لا يؤدى بالإثم، ومن استطاعة المرأة ألا تكون ذات أطفال صغار يخشى عليهم الضيعة إن تركت حضانتهم ولا حاضن لهم سواها، كما أن من استطاعتها أن يكون معها زوجها أو ذو رحم محرم منها.
5. الحج عند الأكثرين فرض على التراخي، ولكن المالكية يقررون أنه لا يسع من تجاوز الستين أن يؤخر عن قدرة، وإن كان أصل التراخي ثابتا لصريح الآثار الواردة في ذلك، والحج فرض مرة واحدة في العمر، والحج هو مؤتمر الإسلام الأكبر، وقد بيناه مرارا.
6. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ في معنى هذا النص اتجاهان؛.
أ. أحدهما: أن يكون الكلام في تارك الحج ويكون المعنى من ترك الحج جاحدا له منكرا لفرضيته فقد كفر وأضاع مصلحة نفسه ومصلحة أمته بالإجماع في المؤتمر الأكبر؛ والله سبحانه غنى عن العالمين أي عن الناس أجمعين، فهم محتاجون إليه، وهو غير محتاج إليهم.
ب. الثاني: أن يكون الكلام متجها إلى اليهود الذين أنكروا فضل البيت وقدمه وبناء إبراهيم له، ويكون المعنى: ومن أنكر تلك الحقيقة الثابتة وجحدها بعد البينات فقد أركس نفسه والله سبحانه غنى عن العالمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1325.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ الاستطاعة نوعان:
أ. عقلية، وهي مجرد إمكان الوصول إلى مكة، وهذه ليست بشرط.
ب. وشرعية، وهي القدرة الصحية والمالية، والأمن على النفس والمال، والرجوع إلى كفاءة، فإذا تم ذلك كان الحج حتما وفرضا.. والتفصيل في كتب الفقه.
2. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، المراد بالكفر هنا الجحود إذا أرجعناه إلى كون الكعبة هي أول بيت وضع للناس، أو إلى عدم الاعتقاد بوجوب الحج، ويكون المراد بالكفر الفسق إذا أرجعناه إلى ترك الحج تهاونا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/118.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، الحج بالكسر (وقرئ بالفتح) هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه الشرع، وقوله: ﴿سَبِيلًا﴾ تمييز من قوله: ﴿اسْتَطَاعَ﴾
2. الآية تتضمن تشريع الحج إمضاء لما شرع لإبراهيم عليه السلام كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾، ومن هنا يظهر أن وزان قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ الآية وزان قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ في كونه إخبارا عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.
3. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، الكفر هاهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك، والكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشإ كما أن قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ﴾ الآية من قبيل وضع العلة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/353.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فقد فضله الله على المساجد كلها، حيث أوجب حجه على الناس كلهم إلا من لم يستطع إليه سبيلاً، والسبيل إليه: الطريق الموصل إليه، واستطاعته: استطاعة السير فيه حتى يبلغ البيت، وجاء في الحديث أنه (الزاد والراحلة) وهو في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام)
2. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ كلهم الكافر وغير الكافر فلا نقص عليه بكفر الكافرين، ومن كفر بحكم الله في هذا البيت أي خالفه من أهل الكتاب المتعصبين للقدس أو من غيرهم، وقيل: ومن كفر أي لم يحج مع استطاعته، ومعنى ﴿كَفَرَ﴾ كفر نعمة الله، وهذا مستقيم فيكون من تمام فضائل الحج مؤكداً للفضيلة الثالثة، ويؤكد الأول: أن السياق ما زال في أهل الكتاب، وقد يجاب: بأنه لا ينافي كون السياق فيهم، فهم مأمورون بالحج وبشرطه، وكافرون لنعمة الله بتركه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/505.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ تحدثت الأحاديث عن تحديد الاستطاعة بالتمكن من الزاد والراحلة في ضمن شروط شرعية معينة مذكورة في كتب الفقه، وبالقدرة البدنية على ذلك مما هو محدد في محلّه.
2. وردت عدة أحاديث مأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام في عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: كان علي يقول لولده: (الله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه ان ترك لم تناظروا)، وعن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله ـ جعفر الصادق عليه السّلام ـ يقول: (أما إن الناس لو تركوا حج هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا)، وجاء عن الإمام الصادق في رواية عبد الله بن سنان قال: (لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاءوا وإن أبوا، لأنّ هذا البيت إنما وضع للحج)
3. يجب الحج مع الاستطاعة على الفور فيحرم تأخيره وتركه، فقد جاء في رواية معاوية بن عمار عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنه قال: قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ قال: هذا لمن كان عنده مال وصحة، فإن سوّفه للتجارة فلا يسعه ذلك، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا ترك الحج وهو يجد ما يحج به.
4. لا بد في تحقق الاستطاعة الموجبة للحج من القدرة عليه ماليا وبدنيا مع حرية الوصول إلى المناسك، فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام ـ في ما رواه عنه محمد بن يحيى الخثعمي ـ قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام وأنا عنده عن قول الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ ما يعني بذلك؟ قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج، أو قال من كان له مال، فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحا في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة فلم يحج، فهو ممن يستطيع الحج؟ قال نعم.
5. اشترط في استكمال شروطه أن يكون له ـ بالإضافة إلى ذلك ـ مال يقوت عياله حتى يرجع إليهم، من خلال مسئوليته في الإنفاق عليهم، فقد روي عن أبي الربيع الشامي قال: سئل أبو عبد الله ـ جعفر الصادق عليه السّلام ـ عن قول الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ فقال: ما يقول الناس؟ قال فقلت له: الزاد والراحلة، فقال أبو عبد الله: قد سئل أبو جعفر ـ محمد الباقر عليه السّلام ـ عن هذا فقال: هلك الناس إذا لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس، ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذا، فقيل له: فما السبيل؟ قال فقال: السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقي بعضا لقوت عياله، أليس قد فرض الله الزكاة، فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم!؟ وإذا استدان الإنسان مالا ـ وكان قادرا على الوفاء به في موعده ـ وحج البيت كان حجّه حج الإسلام لتحقق عنوان الاستطاعة لديه، مع كونه صحيح البدن بمعنى القدرة على أداء المناسك بشكل طبيعي صحي ومخلّى السرب، وخالف في ذلك بعض، وإذا بذل له أحد مصاريف حجه كان مستطيعا.
6. إن الحج واجب على الناس كلهم من دون تخصيص بجماعة دون جماعة، فوزانه ـ في ذلك مع استجماع الشروط ـ وزان العبادات جميعا.
7. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، الظاهر أن المراد به من لم يحج كما وردت به بعض الأحاديث، وقد تكرر فيها ذلك كما في الحديث عن الصادق عليه السّلام: من مات ولم يحجّ حجّ الإسلام ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا، وهذا أسلوب قرآني شائع في القرآن، للإيحاء بأن قضية الإيمان والكفر ليست قضية فكرية فحسب، بل هي قضية عملية تتصل بالموقف العملي للإنسان، فقد يكون الإنسان مؤمنا في العقيدة، ولكنه كافر في العمل إذا كان لا يقوم بما فرضه الله عليه من الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرمات، وقد تحدث الله عن غناه عن العالمين للإيحاء بأن الطاعة لا تزيد في ملكه شيئا، لأن الله هو الذي خلق العبد ومكّنه من الطاعة، فهو الغني عن وجوده كما هو الغني عن طاعته، فهي مصلحة للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية عليه في حياته، كما أن هناك بعض الإيحاء من الناحية التغييرية بالسخط الإلهي لهؤلاء الذين يتركون الحجّ فيكفرون بالله كفرا عمليا.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/169.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن استعرض القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس بأن يحجوا إليه ـ دون استثناء ـ وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأن مثل هذا الحجّ هو في الحقيقة دين لله على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾، وتعني لفظة (الحجّ) أصلا القصد، ولهذا سميت الجادة بالمحجة (على وزن مودة) لأنها توصل سالكها إلى المقصد، كما أن لهذا السبب نفسه سمي الدليل ب (الحجة) لأنه يوضح المقصود، أما وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحجّ فلأن قاصد الحجّ إنّما يخرج وهو (يقصد زيارة بيت الله) ولهذا أضيفت لفظة الحجّ إلى البيت فقال تعالى: ﴿حِجُّ الْبَيْتِ﴾
2. أشرنا سابقا إلى أن مراسم الحج هذه قد سنت وأسست منذ عهد إبراهيم عليه السّلام ثمّ استمرت حتّى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليون يمارسونها ويؤدونها، ولكنها شرعت في الإسلام في صورة أكمل، وكيفية خالية عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي ولكن المستفاد من الخطبة القاصعة في نهج البلاغة وبعض الأحاديث والروايات أن فريضة الحج شرعت أول مرّة في زمن آدم عليه السّلام إلّا أن اتخاذها الصفة الرسمية يرتبط ـ في الأغلبـ بزمن الخليل عليه السّلام.
3. الحجّ يجب على كلّ إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأن الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالامتثال مرّة واحدة.
4. الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحجّ واستقراره هو (الاستطاعة) المعبر عنها بقوله سبحانه ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وفسرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلامية والكتب الفقهية بـ (الزاد والراحلة) أي الإمكانية المالية لنفقات سفر الحجّ ذهابا وإيابا، والقدرة الجسدية والتمكن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحجّ) والحقّ أن جميع هذه الأمور موجودة في الآية، إذ لفظة (استطاع) التي تعني القدرة والإمكانية تشمل كلّ هذه المعاني والجهات.
5. يستفاد من هذه الآية أن هذا القانون ـ مثل بقية القوانين الإسلامية ـ لا يختصّ بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحجّ مسلمين وغير مسلمين، وتؤيد ذلك القاعدة المعروفة: (الكفّار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالأصول)، وإن كانت صحّة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم للإسلام واعتناقهم إياه، ثمّ أدائها بعد ذلك، ولكن لا بدّ أن يعلم بأن عدم قبولهم للإسلام لا يسقط عنهم التكليف، ولا يحررهم من هذه المسؤولية، وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جار في أمثالها أيضا.
6. بحثنا باسهاب حول أهمية الحجّ وفلسفته وآثاره الفردية والاجتماعية عند الحديث عن الآيات 196 إلى 203 من سورة البقرة.
7. للتأكيد على أهمية الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أي أن الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلّا أنفسهم لأن الله غني عن العالمين، فلا يصيبه شيء بسبب اعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.
8. لفظة (كفر) تعني في الأصل الستر والإخفاء وأما في المصطلح الديني فتعطي معنى أوسع، فهي تعني كلّ مخالفة للحقّ وكل جحد وعصيان سواء في الأصول والإعتقاد، أو في الفروع والعمل، فلا تدلّ كثرة استعمالها في الجحود الاعتقادي على انحصار معناه في ذلك، ولهذا استعملت في (ترك الحجّ)، ولذلك فسّر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السّلام بترك الحجّ، وبعبارة أخرى أن للكفر والابتعاد عن الحق ـ تماما مثل الإيمان والتقرب إلى الحقّ ـ مراحل ودرجات، ولكلّ واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام خاصة بها، وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح الحال بالنسبة لجميع الموارد التي استعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز، فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكل الربا (كما في الآية 275 من سورة البقرة) وكذا في شأن السحرة (كما في الآية 102 من نفس السورة) ويعبر عنهما بالكافر، كان المراد هو ما ذكرناه، أي أن الربا والسحر ابتعاد عن الحقّ في مرحلة العمل.
9. يستفاد من هذه الآية أمران:
أ. الأوّل: الأهمية الفائقة لفريضة الحجّ، إلى درجة ان القرآن عبر عن تركها بالكفر، ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه) من أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعلي عليه السّلام: (يا علي إن تارك الحجّ وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؛ يا علي؛ من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديا، أو نصرانيا)
ب. الثاني: إن هذه الفريضة الإلهية المهمة ـ مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الأخرى ـ شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شيء منها إلى الله سبحانه أبدا، فهو الغني عنهم جميعا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/609.
50. أهل الكتاب والجحود والصدّ
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈50⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 98 ـ 99]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ عن دين الله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٧.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ يعني: ترجون بمكة غير الإسلام(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ﴾ هم اليهود والنصارى، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ هم اليهود والنصارى(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٦.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ على ذلك فيما تقرؤون من كتاب الله أن محمدا رسول الله، وأن الإسلام دين الله، تجدون ذلك في التوراة والإنجيل(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال في الآية: لم تصدون عن الإسلام، وعن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرؤون من كتاب الله: أن محمدا رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٢٩.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾: أما آيات الله فمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ كانوا إذا سألهم أحد: هل تجدون محمدا؟ قالوا: لا، فصدوا الناس عنه، وبغوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم عوجا؛ هلاكا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ لم تكفرون بالحج(3).
4. روي أنّه قال: ﴿عِوَجًا﴾: بغوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم عوجا؛ هلاكا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٢٥.
(2) ابن جرير: ٥/٦٢٩.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧١٦.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ لم تصدون عن الإسلام، وعن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ يعني: بالقرآن، ﴿والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، يعني: بملة الإسلام زيغا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أن الدين هو الإسلام، وأن محمدا رسول الله ونبي، ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ وآيات الله إيمانهم إيمان تقليد، لا إيمانا بالعقل؛ لأن من كان إيمانه إيمانا بالعقل فهو لا يصد، ولا يصرف عنه أبدا؛ لما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل، فهو لا يترك أبدا، وأما من كان إيمانه إيمان تقليد: فلم يكن إيمانه إيمان حقيقة، فمثله يصد عنه، إلا أن من يمن الله عليه فيشرح صدره؛ حتى يكون على نور منه، وذلك أحد وجوه اللطف، والمقلد غير معذور.
2. يحتمل قوله: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ أي: لم تقصدون قصد صدهم عن سبيل الله، وهم لا يرجعون إلى دينكم، أيأس منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي عليه؛ كقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3] فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم، وقيل: كانوا يصرفون المؤمنين عن الحجج.
3. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ والعوج: هو غير طريق الحق، وهو الزيغ والتعوج عن الحق، {وأَنْتُمْ شُهَداءُ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} واحد، وفي حرف حفصة: (وأنتم شهداء على الناس)
4. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هو حرف وعيد وتنبيه؛ لأن من علم أن عليه رقيبا وحافظا، يكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك.. وفيه أنه لا غفلة بالذي يكون منكم خلقكم، ولكن على علم؛ لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم؛ بل لإظهار الغنى والسلطان، جلّ جلاله، وعم نواله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/441.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي تكذيبهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنكارهم ثبوت صفته في كتبهم وذلك من فعل اليهود والنصارى وقيل إن صدهم هو ما كانوا عليه من الإغراء بين الأوس والخزرج حتى يتذكروا حروب الجاهلية فيفترقوا ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ العوج بكسر العين أي العدول عن الطريق والعَوج بالفتح ميل كل منتصب من حائط أو قناة أو غيره ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي شهداء على صدهم عن سبيل الله.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن صدهم عن سبيل الله ما كانوا عليه من الإغراء بين الأوس والخزرج حتى يتذكروا حروب الجاهلية فيتفرقوا، وذلك من فعل اليهود خاصة، وهو قول ابن زيد.
ب. الثاني: أنه تكذيبهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنكارهم ثبوت صفته في كتبهم، وذلك من فعل اليهود والنصارى، وهذا قول الحسن.
2. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي تطلبون العوج وهو بكسر العين العدول عن طرائق الحق، والعوج بالفتح ميل منتصب من حائط أو قناة.
3. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني عقلاء، مثل قوله تعالى: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]
ب. الثاني: يعني شهودا على ما كان من صدّهم عن سبيل الله، وقيل من عنادهم وكذبهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/413.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ خطاب لليهود والنصارى، وإنما أجرى عليهم أهل الكتاب مع أنهم لا يعملون به، ولم يجز ذلك في أهل القرآن حتى يقال، فيمن لا يعمل بالقرآن أنه من أهل القرآن لأمرين:
أ. أحدهما: أن القرآن اسم خاص لكتاب الله، فأما الكتاب فيجوز أن يراد به يا أهل الكتاب المحرف عن جهته.
ب. والآخر: الاحتجاج عليهم بالكتاب، لإقرارهم به، كأنه قيل يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾
2. آيات الله المراد بها هاهنا معجزات نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم التي كانت له، والعلامات التي وافقت في صفته، مما تقدمت به البشارة، وخاطبهم الله في هذه بأن قال له: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ على وجه التلطف في استدعائهم إلى الحق، وتوجيه الخطاب إليهم، وقال في موضع آخر: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ على وجه الإهانة لهم لصدهم عن الحق بتوجيه الخطاب إلى غيرهم وإنما جاء لفظ التوبيخ في الآية على لفظ الاستفهام، لأنه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان، فكذلك سؤال التوبيخ سؤال تعجيز عن إقامة العذر كأنه قيل: هات العذر في ذلك إن أمكنك، كما قيل له هات البرهان إن كنت محقاً في قولك ومذهبك.
3. أصل (لم) لما وحذفت الالف في الاستفهام منها، ولم تحذف في الخبر لأنها في الاستفهام ظرف يقوى فيه التغيير قياساً على حروف الاعراب ونحوها، وأما الخبر فإنها تقع وسطاً إذا كانت موصولة، لأن تمامها أخر صلتها والجزاء يجري مجرى الصلة، لأن (ما) فيه عاملة.
4. ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ معناه لم تمنعون، لأن الصد المنع، وقيل في كيفية صدهم عن سبيل الله قولان:
أ. أحدهما: أنهم كانوا يغزون بين الأوس، والخزرج، بتذكيرهم الحروب التي كانت بينهم حتى تدخلهم العصبية وحمية الجاهلية فينسلخون عن الدين ـ هذا قول زيد بن اسلم ـ وقال: الآية في اليهود خاصة.
ب. وقال الحسن الآية في اليهود والنصارى معاً ومعناها لم تصدون بالتكذيب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن صفته ليست في كتبهم ولا تقدمت البشارة به عندهم وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ موضعه النصب بأنه مفعول تصدون، وقوله: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ الكناية راجعة إلى السبيل، ومعناه تطلبون لها عوجا يعني عدو لا عن طريق الحق، وهو الضلال كأنه قال تبغونها ضلالا.
5. العوج ـ بفتح العين، هو ميل كل شيء منتصب، نحو القناة والحائط، وبكسر العين ـ إنما هو الميل عن الاستواء في طريق الدين، وفي القول، وفي الأرض، ومنه قوله: ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا﴾ وقال عبد بني الحسحاس:
çبغاك وما تبغيه حتى وجدته...كأنك قد واعدته أمس موعداé
أي طلبك وما تطلبه هذا في بغيت الحاجة فأما بغى عليه، فمعناه تطاول بظلمه له، وتقول: ابغني كذا بكسر الهمزة أي أطلبه لي، وإذا قلت: أبغني بفتح الهمزة، فمعناه أعني على طلبه، ومثله احملني وأحملني والمسنى وألمسني، واحلب لي واحلبني أي أعني على الحلب، وأصل ذلك ابغ لي غير أنه حذفت اللام لكثرة الاستعمال.
6. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: {أَنْتُمْ شُهَداءُ} على بطلان صدكم عن دين الله، وتكون الآية مختصة بقوم معاندين، لأنهم جحدوا ما علموه ويجوز أن تكون في الجميع، لإقرارهم بأنه لا يجوز الصد عن دين الله، فلذلك صح ما ألزموا.
ب. الثاني: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي عقلاء، كما قال الله تعالى ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أي وهو عاقل، وذلك أنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل، فيما يتعلق بالدين ويؤديه إليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/539.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الْعَوَج بالفتح: ميل، كل منتصب كالقناة والحائط، والعوج بالكسر: هو الميل على الاستواء في الطريق والدين والقول، عن أبي عبيدة.
ب. الصد: المنع والصرف، وصده عن الدين أي صرفه.
2. ثم عاد الكلام إلى حجاج أهل الكتاب فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: أراد اليهود.
ب. وقيل: اليهود والنصارى.
3. سؤال وإشكال: لم جاز أن يجري أهل الكتاب على من لا يعمل به، ولم يجز مثل ذلك في أهل القرآن؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن القرآن اسم خاص لكتاب الله تعالى، فأما الكتاب فلا ينبئ عن ذلك، فيجوز أن يذهب به إلى معنى يا أهل الكتاب المحرف عن جهته.
ب. الثاني: الاحتجاج عليهم بالكتاب لإقرارهم به كأنه قيل: يا مَنْ يُقِرُّ به من أهل الكتاب.
4. ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ استفهام، والمراد التوبيخ أي لم تجحدون ﴿بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي بدلائله:
أ. قيل: هي الآيات والمعجزات التي أنزلها على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: هي ما احتج بها عليهم من وصفه في كتبهم وذكر أمره.
ج. وقيل: هي ما بَيَّنَ أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: حفيظ يحصي أعمالكم ليجازيكم بها.
ب. وقيل: أنتم تعملون وهو مشاهد لأعمالكم مطلع عليكم مع قيام الحجة عليكم وهو تحذير لهم وتخويف، عن أبي على.
6. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ أي لم تمنعون الناس عن دين الإسلام الذي هو سبيل الله ودينه:
أ. قيل: صدهم بالإغراء بين الأوس والخزرج، بتذكيرهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية حتى ينسلخوا من الدين بالمعصية وحمية الجاهلية، وذلك في اليهود خاصة، عن زيد بن أسلم، وقد روي أن الأنصار كانوا قعودًا في المسجد يتكلمون وقد ألف الله بين قلوبهم، فمر بهم بعض اليهود وذكرهم ما كان من الحروب حتى كاد يقع شر.
ب. وقيل: بتكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن صفته ليست في كتابهم، وهي في اليهود والنصارى، عن الحسن.
ج. وقيل: بالتحريف والبهت، عن الأصم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾:
قيل: أي تطلبون للنبي والمؤمن عوجًا وميلاً عن الاستقامة.
وقيل: تريدون أن يكون في هذه السبيل عوج أي عدول عما أمرْ الله به.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾:
أ. قيل: شهداء على صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه أنه الحق، وأن دينه دين إبراهيم وهو الإسلام، قرأتم ذلك في كتابكم، عن أبي علي وأبي مسلم وجماعة.
ب. وقيل: وأنتم شهداء أي تشهدون معجزات محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا تؤمنون بها.
ج. وقيل: وأنتم شهداء على ما يلزمكم بالكتمان والصد عن دين الله.
د. وقيل: وأنتم شهداء على بطلان صدكم، فيجوز أن يكون في أهل العناد منهم، ويجوز أن يكون في الجميع لإقرارهم؛ لأنه لا يجوز الصد عن سبيل الله.
هـ. وقيل ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي عقلاء، كقوله: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
9. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من الصد والكتمان والتحريف سيجازيكم عليها.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. قبح الصد عن سبيل الله، وذلك يكون بأحد شيئين، بالدعاء إلى خلافه، أو بإلقاء الشبه عليه.
ب. عظم إثم من فعل ذلك، لما يتضمنه من عظيم الضرر بوجوب العقاب، وفوت الثواب والاقتداء به، فلذلك خصه بالذكر.
ج. أن تعليق الحكم بصفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه؛ لأن صد من لم يؤمن قبيح أيضًا، وآخر الآية وعيد عظيم، كمن يقول لغيره: أنا عليم بفعلك غير غافل عنك.
11. قراءة العامة ﴿تَصُدُّونَ﴾ بفتح التاء وضم الصاد، وعن الحسن بضم التاء وكسر الصاد، وهما لغتان صد وأصد، مثل ضل وأضل.
12. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَنْ آمَنَ﴾ في موضع النصب؛ لأنه مفعول به، و﴿تَصُدُّونَ﴾ هو الفعل الواقع عليه.
ب. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ نصب عنى الحال، تقديره: باغين لها عوجًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/325.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البغية: الطلب، يقال: بغيت الشيء أبغيه، قال عبد بني الحسحاس:
çبغاك وما تبغيه، حتى وجدته...كأنك قد واعدته أمس موعدا é
أي: طلبك وما تطلبه، ويقال: إبغني بكذا بسكر الهمزة أي: اطلبه لي، وأصله ابغ لي، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال، وإذا قلت: أبغني بفت الهمزة فمعناه: أعني على طلبه، ومثله إحملني واحمل لي، واحلب لي واحلبني أي: أعني على الحلبة.
ب. العوج بفتح العين: ميل كل شيء منتصب نحو القناة والحائط، وبكسر العين: هو الميل عن طريق الاستواء في طريق الدين، وفي القول وفي الأرض ومنه قوله: (لا ترى فيه عوجا ولا أمتا)
2. ثم عاد سبحانه الكلام إلى حجاج أهل الكتاب، فقال مخاطبا للنبي يأمره بخطاب اليهود والنصارى، وقيل: اليهود خاصة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ أي: قل يا محمد لهم ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي: بالمعجزات التي أتاها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعلامات التي وافقت في صفته ما تقدمت البشارة به.
3. سماهم أهل الكتاب، وإن لم يعملوا به، ولم يجز مثل ذلك في أهل القرن، لوجهين:
أ. أحدهما: أن القرآن اسم خاص لكتاب الله تعالى، وأما الكتاب فلا ينبي عن ذلك، بل يجوز أن يراد به: يا أهل الكتاب المحرف عن وجهته.
ب. الثاني: الاحتجاج عليهم بالكتاب لإقرارهم به، فكأنه قيل: يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله! لم تكفرون بآيات الله؟
4. ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ، وإنما جاز التوبيخ على لفظ الاستفهام، من حيث إنه سؤال يعجز عن إقامة العذر، فكأنه قال: هاتوا العذر في ذلك إن أمكنكم ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: حفيظ على أعمالكم، محص لها، ليجازيكم عليها، قيل معناه: مطلع عليها، عالم بها، مع قيام الحجة عليكم فيها.
5. قال عز اسمه في هذا الوضع: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ في موضع آخر ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، لأنه تعالى خاطبهم في موضع على جهة التلطف في استدعائهم إلى الايمان، وأعرض عن خطابهم في موضع آخر، وأمر سبحانه نبيه استخفافا بهم لصدهم عن الحق.
6. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ أي: لم تمنعون المؤمنين عن دين الاسلام الذي هو دين الله وسبيله، واختلف في كيفية صدهم عن سبيل الله:
أ. فقيل: إنهم كانوا يغرون بين الأوس والخزرج بتذكيرهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية، حتى تدخلهم الحمية والعصبية، فينسلخون عن الدين، عن زيد بن أسلم، فعلى هذا يكون الآية في اليهود خاصة.
ب. وقيل: الآية في اليهود والنصارى ومعناه: لم تصدون بالتكذيب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن صفته ليست في كتبكم، عن الحسن.
ج. وقيل: بالتحريف والبهت، عن الأصم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾:
أ. قيل: أي: تطلبون لسبيل الله عوجا عن سمت الحق، وهو الضلال، فكأنه قال: تبغونها ضلالا بالشبه التي تدخلونها على الناس.
ب. وقيل: معناه تطلبون ذلك السبيل لا على وجه الاستقامة أي على غير الوجه الذي ينبغي أن يطلب.
8. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن معناه أنتم شهداء بتقديم البشارة بمحمد في كتبكم، فكيف تصدون عنه من يطلبه، وتريدون عدوله عنه.
ب. والاخر: إن المراد: وأنتم عقلاء كما قال: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أي: عاقل، وذلك أنه يشهد الذي يميز به بين الحق والباطل، فيما يتعلق بالدين.
9. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هذا تهديد لهم على الكفر.
10. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَنْ آمَنَ﴾: في موضع نصب بأنه مفعول ﴿تَصُدُّونَ﴾
ب. الكناية في قوله ﴿تَبْغُونَهَا﴾ راجعة إلى السبيل.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/801.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾، قال الحسن: هم اليهود والنّصارى، فأمّا آيات الله فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما الشّهيد، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشّاهد، وقال الخطّابيّ: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشّاهد.
2. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾، قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمّار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية.
3. في المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنهم اليهود والنّصارى، قاله الحسن.
ب. الثاني: اليهود، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل.
4. قال ابن عباس: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾: الإسلام، والحجّ، وقال قتادة: لم تصدّون عن نبيّ الله، وعن الإسلام، قال السّدّيّ: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمّدا في كتبكم؟ قالوا: لا، فصدّوا عنه الناس.
5. ﴿تَبْغُونَهَا﴾، قال اللغويّون: الهاء كناية عن السّبيل، والسّبيل يذكّر ويؤنّث، وأنشدوا:
çفلا تبعد فكلّ فتى أناس...سيصبح سالكا تلك السّبيلاé
6. معنى ﴿تَبْغُونَهَا﴾: تبغون لها، تقول العرب: أبغني خادما، يريدون: ابتغه لي، فإذا أرادوا: ابتغ معي، وأعنّي على طلبه، قالوا: أبغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهما، كما يقولون: وهبت لك، قال الشاعر:
çفتولّى غلامهم ثمّ نادى...أظليما أصيدكم أم حمارا؟é
أراد: أصيد لكم.
7. معنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزّيغ والتّحريف، ويريدون ردّ الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفرّاء، والزّجّاج، واللغويين.
8. قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السّبيل، والمعنى: لأهله، كأنّ المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقّ عوجا، أي: ضلالا، قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدّين، والكلام، والعمل، والعوج بفتحها، في الحائط والجذع، وقال الزجّاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصا، وما كان له شخص قلت: عوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عوج، وفي العصا عوج، وروى ابن الأنباريّ عن ثعلب قال العوج عند العرب بكسر العين: في كلّ ما لا يحاط به، والعوج بفتح العين في كل ما لا يحصّل، فيقال: في الأرض عوج، وفي الدّين عوج، لأن هذين يتّسعان، ولا يدركان، وفي العصا عوج، وفي السّنّ عوج، لأنهما يحاط بهما، ويبلغ كنههما، وقال ابن أبي فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط، والعوج: ما كان في بساط أو أرض، أو دين، أو معاش.
9. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه، وأنتم شاهدون بصحّة ما صددتم عنه، وبطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، وقتادة، والأكثرين.
ب. الثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين.
__________
(1) زاد المسير: 1/310.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في كيفية النظم وجهين.
أ. الأول: وهو الأوفق: أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم:
• فالشبهة الأولى: ما يتعلق بإنكار النسخ، وأجاب عنها بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: 93]
• والشبهة الثانية: ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها، وأجاب عنها بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 96] إلى آخرها.
فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ بعد ظهور البينات وزوال الشبهات، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه.
ب. الثاني: وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.
2. المبطل إما أن يكون ضالًا فقط، وإما أن يكون مع كونه ضالًا يكون مضلًا، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾، واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب:
أ. فقال الحسن: هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته، واستدل عليه بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾
ب. وقال بعضهم: بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر.
3. سؤال وإشكال: لم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار؟ والجواب: لوجهين:
أ. الأول: أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أجاب عن شبههم في ذلك، ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ فهذا الترتيب الصحيح.
ب. الثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته.
4. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في قوله تعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ، وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم، ورد المخالفون بالمعارضة بالعلم والداعي.
5. المراد من آيات الله الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ الواو للحال والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته.
7. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ قال الفرّاء: يقال صددته أصده صداً وأصددته إصداداً، وقرأ الحسن تصدون بضم التاء من أصده، قال المفسرون: وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم.
8. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى، وهو الدين والقول، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه: عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة، قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بغيت المال والأجر والثواب وأريد هاهنا: تبغون لها عوجاً، ثم أسقطت اللام كما قالوا: وهبتك درهماً أي وهبت لك درهما، ومثله صدت لك ظبياً وأنشد:
çفتولى غلامهم ثم نادى...أظليما أصيدكم أم حماراًé
أراد أصيد لكم.
9. الهاء في ﴿تَبْغُونَهَا﴾ عائدة إلى السبيل لأن السبيل يؤنث ويذكر والعوج يعني به الزيغ والتحريف، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم: النسخ يدل على البداء وقولهم: إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد.
10. في الآية وجه آخر وهو أن يكون ﴿عِوَجًا﴾ في موضع الحال والمعنى: تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها.
11. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ وجوه:
أ. الأول: قال ابن عباس: يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام.
ب. الثاني: وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. الثالث: وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله.
د. الرابع: وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى: أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال.
12. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ والمراد التهديد، وهو كقول الرجل لعبده، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلًا عن أمرك.
13. إنما ختم الآية الأولى بقوله: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ﴾ وهذه الآية بقوله: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ﴾ وفيما أضمروه ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
14. إنما كرر في الآيتين قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/307.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي تصرفون عن دين الله ﴿مَنْ آمَنَ﴾، وقرأ الحسن ﴿تَصُدُّونَ﴾ بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان: صد وأصد، مثل صل اللحم وأصل إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير.
2. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ تطلبون لها، فحذف اللام، مثل: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ [المطففين]، يقال: بغيت له كذا أي طلبته، وأبغيته كذا أي أعنته، والعوج: الميل والزيغ بكسر العين: في الدين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء، وبالفتح: في الحائط والجدار وكل شخص قائم، عن أبي عبيدة وغيره، ومعنى قوله تعالى: ﴿يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ﴾ [طه] أي لا يقدرون أن يعوجوا عن دعائه، وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف، والعائج الواقف، قال الشاعر:
çهل أنتم عائجون بنا لعنا...نرى العرصات أو أثر الخيامé
والرجل الأعوج: السيئ الخلق، وهو بن العوج، والعوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب، والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا، ويقال: فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فحج، وهو مدح، ويقال: الحنب اعوجاج في الساقين، قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج.
3. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي عقلاء، وقيل: شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/155.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ خطاب لليهود والنصارى، والاستفهام في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ للإنكار والتوبيخ، وقوله: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ جملة حالية، مؤكدة للتوبيخ والإنكار، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في: شهيد، يفيد مزيد التشديد والتهويل.
2. الاستفهام في قوله: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ يفيد ما أفاده الاستفهام الأول، وقرأ الحسن: تصدون من أصد، وهما لغتان: مثل: صد اللحم، وأصد: إذا تغير وأنتن، وسبيل الله: دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام.
3. العوج: الميل والزيغ، يقال: عوج بالكسر: إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح: في الأجسام كالجدار ونحوه، روي ذلك عن أبي عبيدة، وغيره.
4. محل قوله: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ النصب على الحال، والمعنى: تطلبون لها اعوجاجا، وميلا عن القصد والاستقامة، بإبهامكم على الناس بأنها كذلك، تثقيفا لتحريفكم، وتقويما لدعاويكم الباطلة.
5. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ جملة حالية، أي: كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل: إن في التوراة: أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وأن فيه نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وقيل: المراد ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي: عقلاء؛ وقيل: المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم، مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟
6. ثم توعدهم سبحانه بقوله: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/421.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نزل في خصوص أهل الكتاب ـ لأنَّهم أحقُّ بالإيمان ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ تجحَدون، ﴿بِئَايَاتِ اللهِ﴾ القرآن وسائر الوحي إليَّ وسائر معجزاتي الدالِّ ذلك كلُّه على صدقي فيما أقول من وجوب الحجِّ وغيره، وقيل: المراد بقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ مَن لم يحجَّ تغليظا كأنَّه مشرك، كما جاء في الحديث: (من قدَر ولم يحجَّ بلا عذر فإن شاء مات يهوديًّا أو نصرانيًّا)، وكما هدَّد عمر أهل القرى المستطيعين بضَرب الجزية وقال: (واللهِ ما هم بمسلمين، واللهِ ما هم بمسلمين)، والآية ظاهرة في أهل الشرك ولو احتملت الكفر العامَّ بكفر الشرك وكفر النفاق، وفي الحديث: (من ترك الحجَّ لا يخاف عقوبة، ومن حجَّ لا يرجو ثوابا كفر، والله غنيٌّ عن العالمين) وكان أهل الكتاب ينكرون وجوبه، ونزلت الآية ردًّا عليهم، كما قال: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم على تحريفكم وسائر أعمالكم، وخصَّهم لأنَّ كفرهم أقبح، إذ معرفتهم بالآيات أقوى، ويشاهدون صدقه في كتبهم، فهم كافرون بكتبهم إذ أَنْكَرُوا ما فيها ولو زعموا أنَّهم آمنوا.
2. ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ كرَّره للتأكيد والإشعار بأنَّ الصدَّ وحده مُهلك، كما أنَّ الكفر وحده مُهلك، ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ تَصرِفون، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ القرآن وسائر الوحي والمعجزات، بالتحريف وبتبديل صفات النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتمها، وبمنع مُريد الإيمان عنه، إذ قيل لهم: هل تجدون محمَّدًا في التوراة؟ قالوا: لا، اُكْفُرْ به ولا تُومِنْ، وبإلقاء الفتنة بين الأوس والخزرج بتذكير الحروب السابقة بينهم في الجاهليَّة فيرجعوا إليها، ويخالفوه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿مَنَ ـ امَنَ﴾ بها، ﴿تَبْغُونَهَا﴾ أي: السبيلَ، ﴿عِوَجًا﴾ تطلبون السبيل مُعْوَجَّة أو ذات عوج، أو تبغون لها عوجًا بالتحريف وما ذكر معه؛ فهو متعدٍّ لاثنين، بمعنى: تصيِّرونها عوجا، أو لواحد فيقدَّر: تبغون لها، أو (عِوَجًا) حال من ضمير النصب أو الرفع، أي: ذات عوج، أو ذوي عوج.
3. ﴿وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ﴾ من التوراة والإنجيل بأنَّ محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم على الحقِّ وأنتم مخالفون للحقِّ، أو أنتم شهداء في قومكم عدول عندهم، كلامكم نافذ فيهم، ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من الصدِّ عن الحقِّ في السرِّ والمكرِ جهدكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/335.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ حال مفيدة لتشديد التوبيخ، وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب، وصيغة المبالغة في (شهيد) لتأكيد الوعيد، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه.
3. ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم، فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي عن دينه، وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام ﴿مَنْ آمَنَ﴾ مفعول (تصدون) قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به.
4. ﴿تَبْغُونَهَا﴾ على الحذف والإيصال، أي تبغون لها، أي لسبيل الله التي هي أقوم السبل ﴿عِوَجًا﴾ أي اعوجاجا وزيغا وتحريفا، قال ابن الأنباريّ: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب، وأريد هاهنا: تبغون لها عوجا ثم أسقطت اللام، كما قالوا: وهبتك درهما، أي وهبت لك درهما، ومثله صدتك ظبيا، أي صدت لك ظبيا، وأنشد:
çفتولى غلامهم ثم نادى...أظليما أصيدكم أم حماراé
أراد: أصيد لكم، قال الرازيّ: وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون (عوجا) في موضع الحال، والمعنى تبغونها ضالين، وذلك أنهم كانوا يدّعون أنهم على دين الله وسبيله، فقال تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال، وذكر ناصر الدين في (الانتصاف) وجها آخر قال: هو أتم معنى، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به، و(عوجا) حال وقع فيها المصدر الذي هو (عوجا) موقع الاسم، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم ـ والله أعلم ـ
5. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تهديد ووعيد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/368.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أقام سبحانه الحجة على أهل الكتب وبين بطلان شبهاتهم على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكونه على ملة إبراهيم عليه السلام أمره أن يبكتهم على كفرهم وصدهم عن سبيل الإيمان، وابتغائه عوجا وضلالهم بذلك على علم فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ في بيته الدالة على كونه أول بيت وضع لعبادته وعلى بناء إبراهيم له وتعبده فيه قبل وجود بني إسرائيل وبيت المقدس، أو بآياته على صحة نبوة محمد وإحيائه لملة إبراهيم الذي تعترفون بنبوته وفضله، ومنها ما ذكر عن البيت.
2. ﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ أي والحال أن الله تعالى مطلع على عملكم هذا وسائر أعمالكم محيط به، أفلا تخافون أن يأخذكم به ويجازيكم عليه أشد الجزاء؟
3. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ﴾ أي لأي شيء تصرفون من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعه عن الإيمان، وهو سبيل الله الموصلة إلى رضوانه ورحمته بما ترقى من عقل المؤمن بالعقائد الصحيحة ومن نفسه بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، تصدون عنها بالتكذيب كبرا وحسدا، وإلقاء الشبهات الباطلة مكابرة وبغيا والكيد للنبي والمؤمنين بغيا وعدوانا.
4. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي لم تصدون عنها قاصدين بصدكم أن تكون معوجة في نظر من يؤمن لكم ويغتر بكيدكم ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ بأنها سبيل الله المستقيمة، لا ترون فيها عوجا ولا أمتا، عارفون بما ورد فيه من البشارات عن الأنبياء، ويلزم من ذلك أن من صد عنها ضال مضل، وقيل: الشهداء في قومكم توصفون فيهم بالعدل وتستشهدون في القضايا، ومن كان كذلك كان أقدر على الصد، وقال محمد عبده: المعنى وأنتم شهداء على بقايا الكتاب وما يؤثر عن النبيين؛ فكان من حقهم أن تكونوا أقرب الناس إلى معرفة هذا السبيل سبيل الحق والسبق إليها بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من هذا الصد وغيره فهو يجازيكم عليه، فالتذييل تهديد لهم ووعيد، وقد جاء بنفي الغفلة لأن صدهم عن الإسلام كان بضروب من المكايد والحيل الخفية التي لا تروج إلا على الغافل، كما ختم الآية السابقة بكونه شهيدا على عملهم، لأن العمل الذي ذكر فيها هو الكفر وهو ظاهر مشهود، فذكر في كل آية ما يناسب المقام(2).
__________
(1) تفسير المنار: 4/15.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر شبهات القوم وكرّ عليها بالحجة، ونقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد ـ أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين، وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه؛ مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له، إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.
2. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ أي لأى سبب تكفرون بتلك الآيات والله مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها؟ وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترؤوا على الكفر بآياته، ولا يخفى ما في هذا من التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم.
3. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي لأىّ سبب تصرفون من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة، وتكذبون بذلك كفرا وعنادا، وكبرا وحسدا، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.
4. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من هذا الصدّ وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد، كما يقول الرجل لعبده وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه: لا يخفى علىّ ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك.
5. إنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد؛ لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.
6. كرر الخطاب بيا أهل الكتاب، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه، وهذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وأدل على النصح لهم، والإشفاق عليهم، والآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/12.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا البيان يلقن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتجه إلى أهل الكتاب بالتنديد والتهديد، على موقفهم من الحق الذي يعلمونه، ثم يصدون عنه، ويكفرون بآيات الله، وهم شهداء على صحتها، وهم من صدقها على يقين.
2. وقد تكرر مثل هذا التنديد في هذه السورة، وفي سور غيرها كثيرة، وأول ما يتركه هذا التنديد من أثر هو مجابهته أهل الكتاب بحقيقة موقفهم، ووصفهم بصفتهم، التي يدارونها بمظهر الإيمان والتدين، بينما هم في حقيقتهم كفار، فهم يكفرون بآيات الله القرآنية، ومن يكفر بشيء من كتاب الله فقد كفر بالكتاب كله، ولو أنهم آمنوا بالنصيب الذي معهم لآمنوا بكل رسول جاء من عند الله بعد رسولهم، فحقيقة الدين واحدة، من عرفها عرف أن كل ما يجيء به الرسل من بعد حق، وأوجب على نفسه الإسلام لله على أيديهم.. وهي حقيقة من شأنها أن تهزهم وأن تخوّفهم عاقبة ما هم فيه.
3. ثم إن المخدوعين من الجماعة المسلمة بكون هؤلاء الناس أهل كتاب، يسقط هذا الخداع عنهم، وهم يرون الله ـ سبحانه ـ يعلن حقيقة أهل الكتاب هؤلاء، ويدمغهم بالكفر الكامل الصريح، فلا تبقى بعد هذا ريبة لمستريب، وهو ـ سبحانه ـ يهددهم بما يخلع القلوب: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾.. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وهو تهديد رعيب، حين يحس إنسان أن الله يشهد عمله، وأنه ليس بغافل عنه، بينما عمله هو الكفر والخداع والإفساد والتضليل!
4. ويسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به، ويصدون الناس عنه: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذّبون به، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه، وهو أمر بشع مستنكر، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد!
5. لا بد من وقفة أمام وصفه تعالى لهؤلاء القوم بقوله: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ إنها لفتة ذات مغزى كبير.. إن سبيل الله هو الطريق المستقيم، وما عداه عوج غير مستقيم، وحين يصد الناس عن سبيل الله؛ وحين يصد المؤمنون عن منهج الله، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها، والموازين كلها تفقد سلامتها، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم.. إنه الفساد، فساد الفطرة بانحرافها، وفساد الحياة باعوجاجها.. وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله، وصد المؤمنين عن منهج الله.. وهو فساد في التصور، وفساد في الضمير، وفساد في الخلق، وفساد في السلوك، وفساد في الروابط، وفساد في المعاملات، وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات، وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر.. وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير، وإما أن ينحرفوا عنه إلى أية وجهة فهو العوج والفساد والشر، وليس هنالك إلا هاتان الحالتان، تتعاوران حياة بني الإنسان: استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/437.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. دعا الله النّاس إلى أن يحجّوا إلى بيته، ولكن الذين كفروا بالله محجوزون بكفرهم عن إجابة هذا النداء.. فالله غنىّ عن العالمين! وأهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ من الذين كفروا بآيات الله، فلم يدخلوا في هذه الدعوة، ولم يستجيبوا لها، وقد أمر الله النبيّ الكريم أن يلقاهم بهذا السؤال الذي ينكر عليهم هذا الموقف الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية وآياتها البينات، خاصة وأنهم أهل الكتاب، تلتقى دعوته مع دعوة الإسلام، لو أنهم آمنوا بما في كتابهم، ولم يحرّفوا الكلم عن مواضعه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ تهديد لهم، ووعيد بسوء المصير، جزاء أعمالهم المنكرة، وكفرهم العنادىّ.. وذلك كلّه واقع في علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية.
3. ولو وقف أهل الكتاب بكفرهم عند حدّ، وقصّروا هذا الكفر على ذات أنفسهم، لكانت مصيبتهم مصيبة، ولكنهم تجاوزوا هذا الموقف القاتل، إلى إضلال غيرهم، وإلى التشويش على المؤمنين، وإفساد دينهم عليهم، إذ يصدّون المؤمنين عن سبيل الله، بما يلقون إليهم من أباطيل، وما يسوقون إليهم من فتن.. إنهم لا يريدون لأحد أن يستقيم على سبيل الله، لأنهم يعلمون أنهم على طريق الضلال، وأنهم هالكون، وإنه لعزيز عليهم أن يسلم الناس.. وإذن فليضلّ الناس كما ضلوا، وليهلك الناس كما هلكوا.. وذلك شأن المفسدين، إخوان الشياطين، يغوون الناس، ويزينون لهم سبل الفساد، ليكون معهم من يصاب بما أصيبوا به، وفي ذلك عزاء لهم، وإنه لبلاء إلى بلاء!.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/537.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ ابتداء كرم رجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ﴾ الآية، أمر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب، بعد أن مهّد بين يدي ذلك دلائل صحّة هذا الدّين ولذلك افتتح بفعل ﴿قُلْ﴾ اهتماما بالمقول، وافتتح المقول بنداء أهل الكتاب تسجيلا عليهم.
2. المراد بآيات الله: إمّا القرآن، وإمّا دلائل صدق الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والكفر على هذين الوجهين بمعناه الشّرعي واضح، وإمّا آيات فضيلة المسجد الحرام على غيره، والكفر على هذا الوجه بمعناه اللّغوي والاستفهام إنكار.
3. جملة ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ في موضع الحال لأنّ أهل الكتاب يوقنون بعموم علم الله تعالى، وأنّه لا يخفى عليه شيء فجحدهم لآياته مع ذلك اليقين أشدّ إنكارا، ولذلك لم يصحّ جعل ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ﴾ مجرّد خبر إلّا إذا نزّلوا منزلة الجاهل.
4. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ﴾ توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم، وفصل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد، ولو عطف لصحّ العطف، والصدّ يستعمل قاصرا ومتعدّيا: يقال صدّه عن كذا فصدّ عنه، وقاصره بمعنى الإعراض، فمتعدّيه بمعنى جعل المصدود معرضا أي صرفه، ويقال: أصدّه عن كذا، وهو ظاهر.
5. سبيل الله مجاز في الأقوال والأدلّة الموصلة إلى الدّين الحقّ، والمراد بالصدّ عن سبيل الله إمّا محاولة إرجاع المؤمنين إلى الكفر بإلقاء التشكيك عليهم، وهذا المعنى يلاقي معنى الكفر في قوله: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ على وجهيه الراجعين للمعنى الشّرعي، وإمّا صدّ النّاس عن الحجّ أي صدّ أتباعهم عن حجّ الكعبة، وترغيبهم في حجّ بيت المقدس، بتفضيله على الكعبة، وهذا يلاقي الكفر بمعناه اللّغوي المتقدّم، ويجوز أن يكون إشارة إلى إنكارهم القبلة في قولهم ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] لأنّ المقصود به صدّ المؤمنين عن استقبال الكعبة.
6. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي تبغون السبيل فأنّث ضميره لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنث، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: 108]، والبغي الطلب أي تطلبون، والعوج ـ بكسر العين وفتح الواو ـ ضدّ الاستقامة وهو اسم مصدر عوج كفرح، ومصدره العوج كالفرح، وقد خصّ الاستعمال غالبا المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة.. كالحائط والقناة، وخصّ إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الّذي لا يشاهد كاعوجاج الأرض والسطح، وبالمعنويات كالدّين.
7. معنى ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ يجوز أن يكون عوجا باقيا على معنى المصدرية، فيكون ﴿عِوَجًا﴾ مفعول ﴿تَبْغُونَهَا﴾، ويكون ضمير النصب في تبغونها على نزع الخافض كما قالوا: شكرتك وبعتك كذا: أي شكرت لك وبعت لك، والتقدير: وتبغون لها عوجا، أي تتطلبون نسبة العوج إليها، وتصوّرونها باطلة زائغة، ويجوز أن يكون عوجا، وصفا للسبيل على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة، أي تبغونها عوجاء شديدة العوج فيكون ضمير النصب في ﴿تَبْغُونَهَا﴾ مفعول تبغون، ويكون عوجا حالا من ضمير النّصب أي ترومونها معوجّة أي تبغون سبيلا معوجّة وهي سبيل الشرك، والمعنى: تصدّون عن السّبيل المستقيم وتريدون السّبيل المعوجّ ففي ضمير ﴿تَبْغُونَهَا﴾ استخدام لأنّ سبيل الله المصدود عنها هي الإسلام، والسّبيل الّتي يريدونها هي ما هم عليه من الدّين بعد نسخه وتحريفه.
8. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ حال أيضا توازن الحال في قوله قبلها ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ ومعناه وأنتم عالمون أنّها سبيل الله، وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم ممّا لا يعلمه إلّا الله لأنّ ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقّبه بقوله: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنّهم يعلمون أنّ الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ إلّا أنّ هذا أغلظ في التّوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأنّ حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/170.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى شرف البيت، وأنه أول بيت بنى للعبادة، وضعه إبراهيم عليه السلام، وأن على كل مؤمن أن يحج إليه، وكان ذلك في مساق الرد على اليهود الذين أنكروا فضل البيت الحرام، وادعوا أن بيت المقدس أقدم منه عبادة، فبين سبحانه أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء اليهود كانوا يحاولون دائما تضليل المؤمنين، وما كانت مجادلتهم هذه لأنهم يتشككون، بل لأنهم لا يذعنون للحق بعد إذ عرفوه، ويريدون أن يكون الناس جميعا على طريقتهم العوجاء، وعلى ما هم عليه؛ لأنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولقد أثاروا كثيرا من الشك في مجادلاتهم ليوهنوا أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، فلم يجدوا بين المؤمنين آذانا مصغية، ولا قلوبا مفتوحة لظلامهم، بعد أن أشرق فيها نور الحق، فإنه لا يلتقى في قلب واحد نور الله وظلمات الباطل، ولقد انتقلوا من التشكيك في العقيدة إلى إثارة الفتنة بين المؤمنين، لتعود العادات الجاهلية كما بدأت، فإنه يروى أن رجلا يهوديا قد عتا في الجاهلية، وكان شديد الضغن على المؤمنين ـ أراد أن يثير الفتنة بين الأوس والخزرج فأمر فتى بأن يجيء إليهم، وينشدهم بعض الأشعار التي كانوا يقولونها في الجاهلية متفاخرين، ففعل، فتذاكروا يوم بعاث، وهو يوم حرب من أيامهم في الجاهلية، وتكلموا في ذلك فتنازعوا وهمّ الحيّان أن يتقاتلا، حتى جاءهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لهم: (يا معشر المسلمين، الله الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بينكم، أترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟)
2. هذا فعل اليهود، كفروا بالحق بعد أن جاءتهم البينات، ولم يكتفوا بالكفر، بل أخذوا يصدون ويمنعون عن الحق أو الاستقرار فيه غيرهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أمره سبحانه وتعالى أن يوبخهم على ما كان منهم، وأمره أن يناديهم بـ ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ للمبالغة في التوبيخ والاستنكار؛ لأن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان، وأن يذعنوا للحق، فإنه لا يستوى من يعلم ومن يجهل؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون، فهو دليل على فساد قلوبهم.
3. ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها، ومنازعة أهل الحق في معانيها، أو نقول: آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لا يكتفون بإنكار الحق، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه، وثبت به، وهم بذلك يغلقون قلوبهم، فلا يصل إليها نور الحق، وإذا كانوا ينكرون كل دليل يصلهم بالهداية، فقد سارعوا إلى الكفر.
4. ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح.
5. الإنكار في الآية الكريمة منصب على كفرهم مع هذه الحال، والمعنى: يا أهل الكتاب الذين أوتوا علم النبوات لم تكفرون بالأدلة القائمة على صدق رسالته، والحال أن الله تعالى شهيد عالم معاين حاكم قوام على ما تعملون من خير ومن شر، فالنص السامي يتضمن توبيخا على الكفر، وتهديدا بالعقاب الشديد على ما يعملون، لأن الله تعالى إذا كان شهيدا على ما يفعلون، وهو الحكم العدل القادر على الثواب والعقاب، فإنه بلا ريب مجازيهم على فعلهم، ومحاسبهم على مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم.
6. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ ذكرنا أنهم لا يكتفون بكفرهم، بل يبغون في غيرهم إبعاده عن الحق، فيصدون عن سبيله، وقد كرر سبحانه بالحق الذي أنكروه، ويضع أيديهم على حالهم التي ألفوا فيها الباطل، حتى غلقوا به أبواب الحق على أنفسهم.
7. ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ معناه لم تصرفون الناس عن سبيل الله تعالى وهو سبيل النور وسبيل الحق، فالصد هو الصرف والمنع، والحيلولة بين الشخص والوصول إلى الأمر؛ و﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ هي السبيل التي وضّحها وبيّنها سبحانه، وهى الصراط المستقيم الذي يوصل إلى رضاه سبحانه، وإذا كان أولئك يحاولون منع الناس من الطريق الذي رسمه العلى الكريم وحد حدوده فقد عاندوا إرادة الله وحادوه، ومن يحادّ الله تعالى فإنه مغلوب لا محالة.
8. وقد وصف سبحانه وتعالى حالهم في الصد عن سبيل الله فقال: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أي ترغبون العوج لها، أي تريدون أن تكون ملتوية غير واضحة ولا بيّنة في أعين المهتدين، كما التوت نفوسكم، وحالت عيونكم، فلم تدرك الحق مستقيما بعد أن قامت بيناته، أو المراد تبغونها أي تطلبونها معوجة حائلة، أي لا تتجهون في طلبها بقلب سليم، فتكون معوجة لاعوجاجكم.
9. قال الزمخشري في معنى هذه الجملة السامية: فإن قلت: كيف تبغونها عوجا، وهو محال؟ قلت: فيه معنيان:
أ. أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن وجهها، ونحو ذلك.
ب. الثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم.. وهذا الكلام في جملته قريب منه ما بيناه آنفا.
10. معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب، فهو جحود عن علم، وكفر ليس عن جهل، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته معلنة له في أيديكم.
11. الاستنكار التوبيخي متجه إلى جملة حالهم، ومعنى كلامه السامي سبحانه: لم تصرفون الناس عن طريق الحق، وتبغون الاعوجاج، أو توهمون الناس أن فيه عوجا والتواء، والحال أنكم تشهدون بالحق الذي اشتمل عليه، وتعلمه علم المعايش الذي يراه ويحسه.
12. أنذرهم سبحانه بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هذا نفى مؤكد لإهمال الله تعالى عملهم، وغفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإنهم مجزيون به، محاسبون عليه، وهو من جنس ما صنعوا، وما صنعوا بكفرهم وصرفهم الناس عن طريق الله تعالى، وطريق الحق ـ إلا شرا، وإلا خسارا يعود عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعود بالفشل والذلة، وفي الآخرة عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1328.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اهتم القرآن اهتماما بالغا بأهل الكتاب، فأنزل فيهم العديد من الآيات، تذكّرهم بالتوراة والإنجيل، وتنعى عليهم تحريفهما، وتجادلهم بالتي هي أحسن، وتحصي عليهم الكثير من أخطائهم وآثامهم، ومنها هاتان الآيتان:
أ. الأولى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي دلت على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى ان الكعبة هي أول بيت وضع للعبادة، مع ان تلك الآيات والبينات واضحة كالشمس، ولا ينكرها إلا مكابر.
ب. الثانية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، لم يكتفوا بفساد أنفسهم، حتى سعوا في افساد غيرهم وإضلاله، فجمعوا بذلك بين الضلال والإضلال، والفساد والإفساد، وكل فاسد يود ويعمل ان استطاع على تكثير الفاسدين عملا بمبدإ إبليس: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
2. لا تفوتنا الاشارة إلى هذا الرفق واللين في مخاطبة أهل الكتاب، وحسن تذكيرهم بأنهم أهل دين وكتاب.. عسى أن يتعظوا ويثوبوا إلى رشدهم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/119.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب (فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود) كانوا يكفرون بآيات الله، ويصدون المؤمنين عن سبيل الله بإراءته إياهم عوجا غير مستقيم، وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلا لله، وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلا، والباطل الذي يدعونهم إليه حقا، والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة، وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.
2. ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول، على ما قيل: أن شاش بن قيس ـ وكان يهوديا ـ مر على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون ـ فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة ـ فأمر شابا معه من اليهود أن يجلس بينهم ـ فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا ـ حتى وثب رجلان، أوس بن قرظي من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجاء ـ حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا ـ فأنزل الله في أوس وجبار: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية، وفي شاش بن قيس: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ الآية، والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم مفصلا وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.
3. كيف كان، الآيات أقرب انطباقا على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر، على أن الآيات يذكر الكفر والإيمان، وشهادة اليهود، وتلاوة آيات الله على المؤمنين، ونحو ذلك، وكل ذلك لما ذكرناه أنسب، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾، فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.
4. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ الآية، المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة، وكون القبلة هي الكعبة في الإسلام.
5. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿عِوَجًا﴾، الصد الصرف، وقوله: ﴿تَبْغُونَهَا﴾ أي تطلبون السبيل، وقوله: ﴿عِوَجًا﴾: العوج المعطوف المحرف، والمراد طلب سبيل الله معوجا من غير استقامة.
6. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾، أي تعلمون أن الطعام كان حلا قبل نزول التوراة وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة، وقد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيدا على فعلهم وكفرهم، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقيقة ما ينكرونه والله شهيد على إنكارهم وكفرهم.
لما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله: ﴿وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ من قوله في ذيل هذه الآية، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية، والله سبحانه شهيد على الجميع.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/364.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ لماذا لا تراقبون الله وتخشونه، فتعملون هذه الجريمة التي هي أساس الفساد، كما أن الإيمان بآيات الله أساس الصلاح ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ﴾ حاضر ﴿عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ أي ليس بغافل عنه ولا غائب؛ وآيات الله التي يكفرون بها هي القرآن، ودليل نبوءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرهما.
2. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَمْ﴾ سؤال عن السبب الباعث في هذه الآية والتي قبلها ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ وهي تشير إلى أن البواعث ذميمة لا يحبون الاعتراف بها، كالحسد، والكبر.
3. الصد ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ التحويل والمنع عن دينه الذي هو سبيله، أي الطريق إليه أو الطريق الذي شرعه لعباده ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ كقوله تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة:47] ولعل هذا هو مساومتهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليوافقهم في بعض الشيء، وذلك عوج لو فعله لكان قد جعله في ضمن سبيل الله، فهي محاولة أن يجعلوا في سبيل الله عوجاً، وسبيل الله مستقيمة لا تعوج أبداً؛ لأنه شرعها ﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود:45]، وإنما ذلك البغي عار على أهل الكتاب وخزي لأنهم ﴿شُهَدَاءَ﴾ على ما عندهم في التوراة، فهم يعلمون أن سبيل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم سبيل الله فمحاولتهم أن يجعلوا فيها عوجاً محاربة لدين الله، وهم يعلمون أنه دين الله ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم:42]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/506.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هاتين الآيتين دعوة إلى الحديث مع أهل الكتاب بأسلوب يحمل طابع العتاب الهادي الذي يتحوّل في نهاية الآية إلى تهديد خفيّ حازم، فهو يواجههم في الآية الأولى بالآيات البارزة التي أقامها الله ـ من خلال وحيه ـ على كثير من أحكامه وشرائعه في ما تحدثت به الآيات السابقة وغيرها، ويتساءل في لهجة اللوم المشوب بالإنكار على الأساس في جحودهم لها، ثم يتركهم أمام السؤال ليواجهوا أنفسهم بالجواب الذي لا بدّ من أن يكتشفوا من خلاله ضلالهم وتمرّدهم وعنادهم، لأنهم لا يجدون أساسا لذلك من خلال ما لديهم من فكر أو برهان، بل يجدون بدلا من ذلك مزيدا من الشعور بالحقارة الشديدة في داخل نفوسهم، ويختم الآية بأنهم إذا استطاعوا أن يخفوا أعمالهم الباطنة عن الناس، فإنهم لا يستطيعون إخفاءها عن الله، فإنه الشهيد على كل ما يعلمون في سرّهم وعلانيتهم، وبذلك يضعهم وجها لوجه أمام مواقع المسؤولية في يوم القيامة.
2. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ من اليهود الذي كانوا في المدينة في مواقفهم المنحرفة المعقدة المتحركة في الخط العدواني ضد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معه في مواجهة الإسلام ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي أنزلها على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مما قرأتموه في التوراة أو شاهدتموه من علامات النبوة فيه، فلم تكن لكم أيّة حجة في الكفر والإنكار ﴿وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ مما تكيدون فيه وتضمرونه من الحقد والعداوة والبغضاء، فهو المطلع على سرّكم وعلانيتكم، وسيجازيكم على ذلك بما تستحقونه من العذاب.
3. في الآية الثانية، تبرز لنا صورة أخرى من نشاطاتهم التخريبية ضد الإسلام من خلال ما كانوا يقومون به من صدّ المؤمنين عن سبيل الله، لينحرفوا بهم إلى السبيل الأعوج؛ وذلك بما يثيرونه في حياتهم من الشبهات التي تربك إيمانهم، والعصبيات القديمة التي تفسد عليهم وحدتهم وتماسكهم في خط الإسلام، والمشاكل الجزئية التي تشغلهم عن الاندفاع في العمل الجادّ في سبيل الله، ثمّ يؤكد لهم أن هذا السلوك المضادّ للحق لم ينطلق من شبهة طارئة في نفوسهم، أو من انكشاف خلاف ذلك لديهم؛ بل القضية التي تفرض نفسها على الواقع، أنهم شهداء على الحق فهم يعرفونه في التوراة التي يقرؤونها، وفي القرآن الذي سمعوه، وفي الأساليب التي كان النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يتبعها معهم في سبيل إقناعهم بالحق.. وبذلك كان دورهم التخريبي واضحا كل الوضوح، ممّا جعل من الموقف الإلهي في نهاية الآية تهديدا حاسما ينذرهم بأن الله ليس بغافل عمّا يعملون، ولا بدّ لذلك من نتائج عملية على قضية المصير في الدنيا والآخرة.
4. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ﴾ لتنحرفوا بهم عن الخط المستقيم، من خلال الفتنة التي تثيرونها في داخل المجتمع المؤمن من العصبيات العشائرية وغيرها، أو التعقيدات الفكرية أو العملية التي تحركونها.
5. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ منحرفة عن خط الحق، لأنكم لا تريدون للإسلام مواصلة طريقه في الاتجاه الصحيح الذي يؤدي إلى تغيير الواقع وتحرير الإنسان من نقاط ضعفه.
6. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ تعرفون الحقيقة الأصيلة المنفتحة على المضمون الرّسالي الذي يتمثل في رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من خلال البشارة به في التوراة والإنجيل، وتملكون الفكر الذي تتعرفون من خلاله عمق الأشياء في أسرارها وخلفياتها وامتداداتها بما يجعلكم في موقع الشهادة للحق من قاعدة المعرفة التفصيلية للفارق بين الحق والباطل، مما يفرض عليكم تحمل مسئولياتكم العملية في هذه القضية لتواجهوا الموقف الحاسم بين يدي الله، فإنه المطّلع على سرّكم وعلانيتكم، وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرض نفسها على وجدان كل مؤمن بالله، أو كل إنسان واع للمعنى الإلهي في معنى الربوبية.
7. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الأمر الذي يجعلكم في موقع الحذر من تهديده في اطلاعه على كل شيء وقدرته على كل شيء.
8. من خلال هاتين الآيتين نكتشف طبيعة الأسلوب التقريري، الذي يريد أن يقرر الحقيقة للآخرين في نوعية مواقفهم بطريقة توجيه الخطاب إليهم، لتنكشف اللعبة من خلال كشف اللاعبين أمام أنفسهم وأمام الآخرين، في جوّ من التهديد الخفيّ الذي يشعرون معه بأن عين الله النفاذة إلى الأعماق لا تغفل عن كل ذلك، مهما كان حجمه ومهما كانت نتائجه، ليعيشوا القلق الروحي الذي قد يدفعهم إلى التراجع عن مواقفهم، ويمنعهم عن الامتداد بعيدا في ما يمتدون به من خطوات الغيّ والضلال، أو يفضحهم في عيون الآخرين، فلا يستطيعون أن يضللوا ويفسدوا في أقوالهم وأفعالهم.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/173.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستفاد من مؤلفات الشيعة والسنّة وما ذكروه في سبب نزول هذه الآية أن (شأس بن قيس) وكان شيخا من اليهود (قد أسن)، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم ـ إذا اجتمع ملؤهم بها ـ من قرار، فأمر شابا من يهود كان معه، فقال: اعتمد إليهم فاجلس معهم، ثمّ أذكر يوم (بعاث) وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا ما يتقاولون فيه من الأشعار، وكان يوم (بعاث) يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان يرأس الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد بن حضير، ويرأس الخزرج يومئذ عمرو النعمان البياضي، فقتلا جميعا، ففعل ذلك الشاب ما أراده (شأس) فتكلّم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحيين، وتقاولا، وراح أحدهما يهدد الآخر، وكادت نيران الاقتتال تتأجج بينهم من جديد، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، وقال: (يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم)؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثمّ انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله (شأس بن قيس)، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الأربع، الأوليان في شأس بن قيس وما صنع، والآخريان لانذار المسلمين وتحذيرهم.
2. بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران العداوة بين المسلمين نزل ـ كما عرفت في سبب النزول ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ والمخاطب في هذه الآية هم أهل الكتاب ويقصد منهم هنا اليهود، فالله سبحانه يأمر نبيه في هذه الآية أن يسألهم معاتبا عن علّة كفرهم بآيات الله في حين أن الله يعلم بأعمالهم.
3. المراد من آيات الله المذكورة في هذا المقام إما الآيات الواردة في التوراة حول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلائم نبوته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الإسلام، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته، وصحّة نبوته.
4. ثمّ جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أي قل يا رسول الله لهم لائما ومنددا: إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحقّ، فلما ذا تصرون على صرف الآخرين عنه، وصدهم عن سبيل الله، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس، في حين ينبغي ـ بل يتعين ـ أن تكونوا أول جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلم هذه الوساوس والمحاولات لإلقاء الفرقة وإضلال الناس، وإزاحتهم عن سمت الحقّ، وصدهم عن السبيل الإلهي القويم؟ ولم تحملون أثقالا إلى أثقالكم، وتتحملون إلى إثم الضلال جريمة الإضلال؟، لماذا؟ هل تتصورون أن كلّ ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلّا.. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ إنه تهديد بعد تنديد، وإنه إنذار بعد لوم شديد.
5. لعلّ وصفه سبحانه بعدم الغفلة في هذا المقام لأجل أن اليهود كانوا ـ لإنجاح محاولاتهم ـ يتكتمون ويتسترون، ويعمدون إلى حبك المؤامرات في الخفاء، لينجحوا في التأثير على المغفلين والبسطاء بنحو أفضل، وليجنوا المزيد من الثمار، ولهذا قال لهم سبحانه إذا كان بعض الناس ينخدعون بوساوسكم ومؤامراتكم لغفلتهم فإن الله يعلم بأسراركم، وخفايا أعمالكم، وما هو بغافل عمّا تعملون، فعلمه محيط بكم، وعقابه الأليم ينتظركم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/613.
51. طاعة أهل الكتاب والكفر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈51⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 100 ـ 101]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر، فبينما هم يوما جلوس ذكروا ما بينهم، حتى غضبوا، وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر له ذلك، فركب إليهم؛ فنزلت: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ الآية، والآيتان بعدها(1).
__________
(1) الطبراني في الكبير: ١٢/١٢٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: إن الله قضى على نفسه أنه من آمن به هداه، ومن توكل عليه كفاه، ومن أقرضه جزاه، ومن وثق به أنجاه، ومن دعاه استجاب له بعد أن يستجيب لله، قال الربيع: وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١]، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ [الطلاق: ٣]، ومن يقرض الله قرضا حسنا يضاعفه له، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ [البقرة: ١٨٦](1).
__________
(1) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: كان جماع قبائل الأنصار بطنين؛ الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن، حتى من الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألف بينهم بالإسلام، فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس، فلم يزل يذكرهما بأيامهما والعداوة التي كانت بينهم، حتى استبا، ثم اقتتلا، فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصف بعضهم لبعض، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا؛ فأنزل الله في ذلك القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اصطلحوا، وألف الله بين قلوبهم، فجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك، فقال الحي الآخرون: قد قال شاعرنا كذا وكذا، فاجتمعوا، وأخذوا السلاح، واصطفوا للقتال؛ فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، فجاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قام بين الصفين، فقرأهن، ورفع صوته، فلما سمعوا صوت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقرآن أنصتوا له، وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضا، وجثوا يبكون(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣١٤،/٢٤٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا﴾ قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركموهم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال، كيف تأمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك ـ والله ـ أهل التهمة والعداوة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ علمان بينان: نبي الله، وكتاب الله، فأما نبي الله فمضى صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٣.
(2) ابن جرير: ٥/٦٣٤.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: نزلت في ثعلبة بن غنمة الأنصاري، وكان بينه وبين أناس من الأنصار كلام، فمشى بينهم يهودي من قينقاع، فحمل بعضهم على بعض، حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا؛ فأنزل الله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣١.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: مرّ شأس بن قيس ـ وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا معه من يهود، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب؛ أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم ـ والله ـ رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، والظاهرة: الحرة، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا!؟)، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوه لهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس، وأنزل الله في شأن شأس بن قيس وما صنع: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾، والاعتصام هو: الثقة بالله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).
2. روي عن محمّد بن العجلان قال: نزلت بي فاقة عظيمة، ولزمني دين لغريم ملحّ وليس لمضيقي صديق، فتوجّهت فيه إلى الحسن بن زيد ـ وكان أمير المدينة ـ لمعرفة كانت بيني وبينه، فلقيني في طريقي محمّد بن عبد الله فقال: قد بلغني ما أنت فيه من الضيق، فمن أمّلت لمضيقك؟ قلت: الحسن بن زيد، فقال: إذا لا تقضى حاجتك، فعليك بمن هو أقدر الأقدرين وأكرم الأكرمين، فإنّي سمعت عمّي الإمام الصادق يقول: (أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي وعظمتي لا قطّعنّ رجاء أمل كلّ مؤمّل يأمل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ولأبعّدنه من فرجي وفضلي، أيؤمّل عبدي في الشدائد غيري؟ والشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الغنيّ الجواد، أبواب الحوائج عندي، وبيدي مفاتيحها وهي مغلقة، فما لي أرى عبدي معرضا عني؟ وقد أعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني فاعرض عني وسأل في حوائجه غيري، وأنا الله لا إله إلّا أنا، ابتدئ بالعطيّة من غير مسألة، أفأسأل ولا أجود؟ كلّا كلّا، أليس الجود والكرم لي؟ أليس الدنيا والآخرة بيدي؟ فلو أنّ كلّ واحد من أهل السموات والأرض سألني مثل ملك السموات والأرض فأعطيته، ما نقص ذلك من ملكي مثل جناح بعوضة.. فيا بؤسا لمن أعرض عنّي وسأل في حوائجه وشدائده غيري) فقلت له: أعد عليّ الكلام، فأعاده ثلاث مرّات فحفظته، فقلت في نفسي: لا والله لا أسأل أحدا حاجة، ثمّ لزمت بيتي، فما لبثت أيّاما إلّا وأتاني الله برزق قضيت منه ديني، وأصلحت به أمر عيالي، والحمد للّه ربّ العالمين(2).
3. روي أنّه قال: (من اعتصم بالله عزّ وجلّ هدي، ومن توكّل على الله عزّ وجلّ كفي، ومن قنع بما رزقه الله عزّ وجلّ اغنى، ومن اتّقى الله عزّ وجلّ نجا؛ فاتّقوا الله عباد الله بما استطعتم، وأطيعوا وسلّموا الأمر لأهله تفلحوا، واصبروا إنّ الله مع الصابرين ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19] ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20](3).
__________
(1) معاني الأخبار: 132/2.
(2) إرشاد القلوب: ص121.
(3) بحار الأنوار: 66/399.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: طائفة من الذين أوتوا الكتاب، يعني: أعطوا التوراة؛ ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ يعني: القرآن، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾، يعني: يحترز بالله، فيجعله ثقته(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، يعني: إلى دين الإسلام(1).
5. روي أنّه قال: نزلت في حذيفة وعمار بن ياسر حين دعوهما إلى دينهم، فقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال تعالى: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ يؤمن بالله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أحدها: معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر، ولكن معناه ـ والله أعلم ـ أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرا، نهاهم أن يطيعوهم، وفي كل ما يدعوكم إليه كفر وأنتم لا تعلمون.
ب. ويحتمل: النهي عن طاعتهم، نهاهم عن أن يطيعوهم، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم؛ كما نهي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير آي من القرآن، كقوله: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14]، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: 114]؛ فكذلك هذا.
ج. ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام ترغب فيها النفس ليكفر بها؛ فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى؛ ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة، وقد كانت لهم ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد، وعلى ذلك قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ على أن الذي أراكم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ألذّ للعقول، وأروح للأبدان مما وعدوه مع سوء المآب
2. قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ هو على وجه التعجب ظاهر، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم.
3. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ يحتمل وجهين:
يحتمل: من جعل الله ـ عزّ وجل ـ ملجأ له، ومفزعا إليه عند الشبه والإشكال، ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: يحفظه عن الشبه، ويرشده إلى صراط مستقيم.
ويحتمل: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ يتمسك بالذي جاء من القرآن، ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/442.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني الأوس والخزرج، ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود في إغرائهم بينكم، ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/413.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال زيد بن أسلم والسدي: هذه الآية نزلت في الأوس والخزرج لما أغزى قوم من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم.
2. ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ الطاعة موافقة الارادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه، والاجابة موافقة الارادة الداعية إلى الفعل ولذلك يجوز أن يكون الله تعالى مجيباً للعبد إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعاً له، و(يا) حرف النداء وأي هو المنادى، و(ها) للتنبيه وهو اسم مبهم يحتاج أن يوصف بالواحد والجميع لشدة إبهامه من حيث، لا يوقف عليه دون ما يوضحه، ولم يجز مثل ذلك في هذا، وإن كان اسماً مبهما، لأنه يدخله التثنية، والجمع، نحو هؤلاء وهذان وليس كذلك أي.
3. سؤال وإشكال: لم جاز صفة المبهم بالموصول ولم يجز بالمعطوف؟ والجواب: لأن الموصول بمنزلة اسم واحد لنقصانه عن التمام إلا بصلته، فعومل لذلك معاملة المفرد، وليس كذلك المعطوف، لأنه اسم تام، فلذلك لم يجز يا أيها الطويل والقصير على الصفة، وجاز يا أيها الذي أكرم زيداً على الصفة، ويجوز يا أيها الطويل والقصير على أن يكون القصير منادا أيضاً ويجوز أن تقول يا هذا وتقف عليه، ولا يجوز أن تقول يا أيها وتقف، وإن كانا مبهمين لا يحتاجان إلى صلة، لأن أي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أن الذي وصلة إلى صفة المعرفة بالجملة، ولذلك جاز النصب في يا هذا الكريم، ولم يجز في يا أيها الكريم، ومعنى الآية النهي عن طاعة الكفار وبيان أن من أطاعهم يدعوه ذلك إلى الارتداد عن دينه بعد أن كان مؤمناً ورجوعه كافراً.
4. روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أنه كانت بين الأوس، والخزرج حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت هذه الآية وما بعدها، وقال الحسن نزلت في مشركي العرب.
5. ﴿وَكَيْفَ﴾ موضوعة للاستفهام، ومعناها هاهنا التعجب وإنما استعملت في ذلك، لأنها طلب للجواب عما حمل على الفساد فيما لا يصح فيه الاعتذار، والتعجب هو حدوث إدراك ما لم يكن يقدر لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، ولذلك لم يجز في صفة القديم، ولكن يجوز في وصفه تعجيب العباد من بعض الأمور، وصيغة التعجب في اللغة ما أفعله، وأفعل به إلا أنه قد يجيء كلام متضمن بمعنى التعجب، وإن لم يكن في الأصل مما وضع له.
6. ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ خطاب للذين عاصروه، فأما اليوم، فقد قال الزجاج: يجوز أن يقال: فينا رسول الله، ويراد به أن أثاره قائمة فينا، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة لو كان موجوداً فينا.
7. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ معناه يمتنع والعصم: المنع، تقول عصمه يعصمه عصماً، ومنه قوله: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ أي لا مانع، والعصم: الأوعال لامتناعها بالجبال، والمعصم لأنه يمتنع والعصام: الحبل، والسبب، لأنه يعتصم به.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/542.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاعتصام: أصله المنع، عصمه يعصمه عصمًا، ومنه ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ والعُصْمُ: الوعول لامتناعها بالجبال.
ب. الصراط: الطريق.
2. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في الأوس والخزرج حين أغرى قوم من اليهود بينهم بذكر حروبهم في الجاهلية ليفتنوهم عن دينهم، عن زيد بن أسلم والسدي.
ب. وقيل: نزلت في شاس بن قيس مر بالأوس والخزرج، فغاظه ما رأى من ألفتهم بالإسلام، بعد ما كان بينهم من الحروب، فبعث يهوديًّا يذكرهم تلك الأيام، ويناشدهم، تلك الأشعار، ففعل، وتفاقم الأمر حتى قال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وأخذوا السلاح وخرجوا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه المهاجرون ووعظهم حتى انصرفوا وبكوا، وعاد بعضهم بعضًا، فنزلت هذه الآية.
ج. وقيل: كانت الأوس والخزرج جُلُوسا فذكروا ما بيتهم في الجاهلية حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزل ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾
د. وقيل: ونزل قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ في مشركي العرب، عن الحسن.
هـ. وقيل: هم الكفرة من أهل الكتاب، وقد مر ذكرهم، وهم الَّذِينَ كانوا يدعون المسلمين إلى الكفر وتثبيطهم عن الجهاد، وهم الَّذِينَ ذكَّرَهم ما كان منهم، عن أبي علي وأبي مسلم.
و. وقيل: نزلت في قوم من المنافقين قَبِلَتْ عن علماء اليهود.
3. ثم حذر الله تعالى المؤمنين عن قبول قولهم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:
أ. قيل: صدقوا الله ورسوله.
ب. وقيل: صاروا مؤمنين.
ج. وقيل: أراد من آمن من أهل الكتاب.
د. وقيل: بل أراد الكل.
4. ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ لفظ الطاعة يدل على دعاء متقدم، وتقدير الكلام: إن يطيعوا فيما دعوا إليه ﴿فَرِيقًا﴾ جماعة ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: اليهود.
ب. وقيل: اليهود والنصارى.
ج. وقيل: علماؤهم الَّذِينَ عاندوا، عن الأصم.
5. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ يرجعوا بكم ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ ثم أكد الأمر وعظم، فقال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ هذا استفهام، والمراد تفخيم الأمر في الكفر بعد الإيمان والتعجيب منه، وحقيقته النهي والإنكار، يعني لا تفعلوا ذلك، فعظيم أن تجحدوا ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ يعني كتابه، وهو القرآن مع ما فيه من الحجة والمعجزة ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾:
أ. قيل: يعني محمدًا ترون معجزاته.
ب. وقيل: ترون معجزاته في نفسه، ويدعوكم إلى الإيمان، فكيف تكفرون مع هذا!؟
ج. وقيل ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي معجزات رسوله.
د. وقيل: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ يبيِّن لكم الآيات والديانات.
هـ. وقيل: تشهدون ما في نفسه من المعجزات، وذكروا أنه كان في نفسه معجزات كثيرة:
• منها: أنه كان يرى خلفه كما يرى قُبُلَهُ.
• ومنها: أنه كان تنام عينه ولا ينام قلبه.
• ومنها: أن ظله لم يقع على الأرض.
• ومنها: أن الذباب لم يقع عليه.
• ومنها: أن الأرض كانت تأكل بوله وغائطه، فكان لا يرى.
• ومنها: أنه كان لا يطول عليه أحد، وإن طال.
• ومنها: أنه كان بين كتفيه خاتم النبوة.
• ومنها: أنه كان يمر بموضع، فيعلم؛ لطيبه.
• ومنها: أنه كان يسطع نور من جبهته في الليلة المظلمة.
• ومنها: أنَّه كان ولد مختونًا إلى غير ذلك.
6. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يقال لنا: وفيكم رسوله؟ والجواب: يجوز توسعًا؛ لأن آثاره قائمة، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة كونه حيًا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾:
قيل: أي يتمسك بآياته وكتابه ودينه وطاعته، عن أبي مسلم.
وقيل: من يكن الله ملجأه فيمتنع به عمن سواه بأن يعبده ولا يشرك به شيئًا، عن الأصم.
وقيل: من امتنع عن الكفر بكتاب الله والاستدلال به وبرسوله، عن أبي علي.
8. ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ رشد ودل ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يعني إلى دين مستقيم أي على الهدى، فلا يعدل عنه.
9. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن لدعاء أهل الضلال تأثيرًا لولاه لم يكن للكلام معنى.
ب. بطلان مذهب الجبر، حيث قالوا: لا تأثير لشيء إن خلق الله الإيمان فهو مؤمن، وإن خلق الكفر فهو كافر، فيبطل قولهم في المخلوق، وكذلك في الاستطاعة.
ج. أن لدعاء إبليس أثرًا أو يكون مفسدة يشق عنده التكليف على ما يقوله شيخنا أبو هاشم، خلاف ما يقوله شيخنا أبو علي أنه لو أثر لمنع منه.
د. أن الإقدام على الكفر والقبائح عند وجود الأدلة يقبح، وإن لم يعلم من حيث تمكن من العلم، فيبطل قول من يزيل الذم إذا لم يكن عالمًا.
هـ. أن من لم تبلغه الدعوة يؤخذ بالشرائع؛ لأنه علق الذم بالمخالفة مع تلاوة كتاب الله تعالى.
و. أن المرجع في الدين إلى كتاب الله وبسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والصحيح ما بَيَّنَّا أن كون آثاره فيما بين ظهراني الخلق ككونه حيًّا، وقد روي عن قتادة أنه قال: هما شيئان: أما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فهو بين أظهركم رحمة منه ونعمة.
10. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ جزم لأنه جواب المجازاة، والمعنى: إن تطيعوا يردوكم كافِرين، ولو لم تكن جزمًا لَقُلْتَ: يردونكم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/328.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطاعة: موافقة الإرادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه، والإجابة: موافقة الإرادة الداعية إلى الفعل، ولذلك يجوز أن يكون الله مجيبا إلى عبده إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعا له.
ب. أصل الاعتصام: الامتناع، وعصمه يعصمه: إذا منعه، ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ أي: ولا مانع، والعصام: الحبل لأنه يعتصم به، والعصم: الأوعال لامتناعها بالحبال.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في الأوس والخزرج لما أغرى قوم من اليهود بينهم بذكر حروبهم في الجاهلية، ليفتنوهم عن د ينهم، عن زيد بن أسلم والسدي.
ب. وقيل: نزل قوله ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ في مشركي العرب، عن الحسن.
3. ثم حذر الله تعالى المؤمنين عن قبول قولهم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله، وهو خطاب للأوس والخزرج، ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ.
4. ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ معناه: إن تطيعوا هؤلاء اليهود في قبول قولهم، وإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ أي: يرجعوكم كفارا بعد إيمانكم.
5. ثم أكد تعالى الامر وعظم الشأن فقال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ أي: وعلى أي حال يقع منكم الكفر ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾:
أ. قيل: هذا استبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بآيات الله، وفيهم داع يدعوهم إلى الايمان.
ب. وقيل: هو على التعجيب أي: لا ينبغي لكم أن تكفرون مع ما يقرأ عليكم في القرآن المجيد، من الآيات الدالة على وحدانية الله ونبوة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. قوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: يعني محمدا ترون معجزاته، والكفر إن كان فظيعا في كل حال، فهو في مثل هذه الحالة أفظع.
ب. ويجوز أن يكون المراد بقوله ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾: القوم الذين كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرهم خاصة، ويجوز أن يكون المراد به جميع أمته، لان آثاره وعلاماته من القرآن وغيره فينا قائمة باقية، وذلك بمنزلة وجوده فينا حيا، وقيل: إنهم قد شاهدوا في نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم معجزات كثيرة:
• منها أنه كان يرى من خلقه كما يرى من قدامه.
• ومنها أنه كان ينام عينه، ولا ينام قلبه.
• ومنها أن ظله لم يقع على الأرض.
• ومنها أن الذباب لم يقع عليه.
• ومنها أن الأرض كانت تبتلع ما يخرج منه، وكان لا يرى له بول، ولا غائط.
• ومنها أنه كان لا يطوله أحد وإن طال.
• ومنها أنه كان بين كتفيه خاتم النبوة.
• ومنها أنه كان إذا مر بموضع يعلمه الناس لطيبه.
• ومنها أنه كان يسطع نور من جبهته في الليلة المظلمة.
• ومنها أنه قد ولد مختونا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾:
أ. قيل: أي: يتمسك بكتابه وآياته وبدينه.
ب. وقيل: من يمتنع بالله عمن سواه، بأن يعبده لا يشرك به شيئا.
ج. وقيل: من يمتنع عن الكفر والهلاك بالايمان بالله وبرسوله.
8. ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: إلى طريق واضح، قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله، فأما نبي الله فقد مضى وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/802.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ أنّ الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلمّا جاء النّبيّ عليه السلام أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسيّ وخزرجيّ يتحدّثان، ومعهما يهوديّ، جعل اليهوديّ يذكّرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كلّ واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسّلاح، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأصلح بينهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة، قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج، قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهوديّ وأصحابه، قال الزجّاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم.
2. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾، قال ابن قتيبة: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجّاج: ويعتصم جزم ب (من) والجواب: ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/310.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حذر الله تعالى الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.
2. قوله تعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة: روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، وقال: أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم، وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان، ومن كيد ذلك اليهودي، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما كان يوم أقبح أولًا وأحسن آخراً من ذلك اليوم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
ب. ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال، فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالًا بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء، وأما في الدين فظاهر.
3. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ كلمة (كيف) تعجب، والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب، وذلك على الله محال، والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالًا بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة، كالمانع من وقوعهم في الكفر، فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه، فقوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها.
4. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المقصود: إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد، والمعنى: ومن يتمسك بدين الله، ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة، والعصمة المنع في كلام العرب، والعاصم المانع، واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: 32] قال قتادة: ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر: أحدهما: تلاوة كتاب الله، الثاني: كون الرسول فيهم، أما الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
5. ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فقد احتج به أصحابنا(2) على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلًا لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه، أما المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ، فقد ذكروا فيه وجوهاً:
أ. الأول: أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: 16] وهذا اختاره القفال.
ب. الثاني: أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك.
ج. الثالث: أن من يعتصم بالله فقد هدي إلى طريق الجنة.
د. الرابع: قال الزمخشري ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ أي فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلًا وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/309.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فقال الحي الآخر: قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شي، فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت، فنادى هؤلاء: يا آل أوس، ونادى هؤلاء، يا آل خزرج، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون، عن عكرمة وابن زيد وابن عباس، والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سامعين مطيعين، فأنزل الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾يعني الأوس والخزرج، ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني شاسا وأصحابه، ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
2. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ قاله تعالى على جهة التعجب، أي ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ يعني القرآن، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عباس: كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له فذهب إليهم، فنزلت هذه الآية ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ ـ إلى قوله تعالى: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته، قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان فيهم وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة، لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتي فينا مكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فينا وإن لم نشاهده، وقال قتادة: في هذه الآية علمان ببنان: كتاب الله ونبي الله، فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
3. ﴿وَكَيْفَ﴾ في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة.
4. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته، ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ وفق وأرشد ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ابن جريج ﴿يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ يؤمن به، وقيل: المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن، يقال: أعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره، واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به، وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم، وكل مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق:
çأنا ابن العاصمين بني تميم...إذا ما أعظم الحدثان ناباé
قال النابغة:
çيظل من خوفه الملاح معتصما...بالخيزرانة بعد الأين والنجدé
وقال آخر:
çفأشرط فيها نفسه وهو معصم...وألقى بأسباب له وتوكلاé
وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع، فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك، قال أحمد بن يحيى: العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا، وأنشد:
çفلا تلوميني ولومي جابرا...فجابر كلفني الهواجراé
ويسمونه عامرا، وأنشد:
çأبو مالك يعتادني بالظهائر...يجيء فيلقي رحله عند عامرé
أبو مالك كنية الجوع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/156.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذرا لهم عن طاعة اليهود والنصارى، مبينا لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين، والاستفهام في قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ للإنكار، أي: من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره، وهو تلاوة آيات الله عليكم وكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أظهركم؟ ومحل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ﴾ وما بعده: النصب على الحال.
2. ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله، ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو الإسلام، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادعوه من العوج، قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان فيهم وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة، لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا، فكأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فينا وإن لم نشاهد، انتهى، ومعنى الاعتصام بالله: التمسك بدينه وطاعته، وقيل: بالقرآن، يقال: اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك: إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام: منع الجوع منه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/421.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ كشاس بن قيس اليهوديِّ، وشابٍّ معه يهوديٌّ ومن رضي بصُنعِهِما، وكلُّ اليهود راضون.
2. سبب النزول: مرَّ شاس ومعه الشابُّ ـ وهو شيخ شديد الكفر على المسلمين ـ بنفر من الأنصار يتحدَّثون، فرأى أُلفتهم بالإسلام وتحابَّهم بعد العداوة العظيمة في الجاهليَّة وغاظَه ذلك، وقال: والله ما لنا قرار معهم إذا اجتمعوا، فأمر الشابَّ أن يجلس إليهم ويذكر يوم (بُعاث)، وما قيل عليه من الأشعار وهو يوم حربٍ كان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتفاخروا إلى أن قالوا: السلاح، موعدكم الحرَّة، فخرجوا وهم خلق كثير، واصطفُّوا للقتال، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المهاجرين، وقام بين الصفَّين، وقرأ الآيات، وقد نزلت بعد تحريش الشابِّ بينهم وقرأهنَّ، فقال: (يا معشر المسلمين! أتدعون بدعوى الجاهليَّة وترجعون إليها وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام والألفة!؟)، فعرفوا أنَّ ذلك نزغة من الشيطان، وكيد من اليهود، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ورجعوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مطيعين، قال جابر: فما رأيت يومًا أقبح أوَّلاً وأحسن آخرًا من ذلك اليوم، فنزل قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾، والخطاب للأوس والخزرج، أو للمؤمنين مطلقًا إلى قيام الساعة، والأوَّل أولى وغيرُهم تبع.
3. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ يصيِّروكم، ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ كفر نفاق، أو مشبِهين المشركين بنحو دَعوى الجاهليَّة، خاطبهم الله بنفسه وأمر النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بخطاب أهل الكتاب إعلاءً لقدرهم على أهل الكتاب.
4. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ تعجيب للسامع، وإنكارٌ للياقة الكفر مع قوَّة أسباب الإيمان وقطع الكفر، كما قال بواو الحال: ﴿وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمُ ءَايَاتُ اللهِ﴾ بتكرير، وهنَّ آيات القرآن الدافع للشُّبه والوساوس، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ لم يغب ولم يمت، وهو متمكِّن من قول الحقِّ، قائل به لكم مجهودَه.
5. ﴿وَمَنْ يَّعْتَصِم﴾ يتمسَّك، ﴿بِاللهِ﴾ بدين الله أو يلتجئ إليه في أموره، ففيه استعارة تبعية للالتجاء، وهو الثقة به، قال الله تعالى لداود عليه السلام : (من اعتصم بي دون خلقي جعلتُ له مخرجا، ولم تكِده السماوات والأرض، ومن يعتصم بمخلوق دوني قطعتُ أسباب السماء دونه، وأسختُ الأرض من تحته)، ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ دين الله الموصل إلى الجنَّة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/337.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أي بالتوحيد والنبوة ﴿كَافِرِينَ﴾ لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: 109] الآية.
2. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرق لكم الكفر؟ ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ وهي القرآن المعجز الذي هو أجلّ من الآيات المتلوّة عليهم.
3. ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم، وقد هداكم من الضلالة، وأنقذكم من الجهالة.
4. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي من يتمسك بدينه الحق الذي بيّنه بآياته على لسان رسوله، وهو الإسلام والتوحيد، المعبر عنه بسبيل الله، فهو على هدى لا يضل متبعه، قال الزمخشريّ: ويجوز أن يكون حثّا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم ـ انتهى ـ فالجملة حينئذ تذييل لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا﴾ الآية، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم، فلا تخافوهم، والتجئوا إلى الله في دفع ذلك، لأن من التجأ إليه كفاه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/369.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول.. قال محمد عبده: إن صح ما ورد في سبب نزول هذه الآية فالمراد بالكفر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ هو العداوة والبغضاء التي كان الكفر سببها، كما أن المراد بالإيمان على هذا هو الألفة والمحبة التي هي ثمرة يانعة من ثمرات الإيمان، وإذا لم ننظر إلى ما ورد من السبب، فالمعنى: أن أهل الكتاب قد سلكوا سبل التأويل في الكتاب، فحرفوه، وانصرفوا عن هدايته إلى تقاليد وضعوها لأنفسهم، فإذا أطعمتوهم وسلكتم مسالكهم فإنكم تكفرون بعد إيمانكم.
2. يجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول: حقيقته، كأنه يقول: إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك، وهو أن يردوكم إلى الكفر، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [لبقرة: 109] الآية وقوله في هذه السورة: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: 68] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه، وإذا كان هذا جائزا ـ وهو الظاهر على الوجه الأول ـ فهو متعين على الوجه الثاني.
3. أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي، فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وهو الإسلام، إثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول: فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر.
4. ولذلك قال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ بطاعتهم واتباع أهوائهم: ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ وهي روح الهداية وحفاظ الإيمان: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ يبين لكم ما نزل إليكم، ولكم في سنته وإخلاصه خير أسوة تغذي إيمانكم وتنير برهانكم، فهل يليق بمن أوتوا هذه الآيات، ووجد فيهم هذا الرسول الحكيم الرؤوف الرحيم، أن يتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا، حتى استحوذ عليهم الشيطان، وغلب عليهم البغي والعدوان، وعرفوا بالكذب والبهتان؟ فالاستفهام في الآية للإنكار والاستبعاد.
5. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ وبكتابه يكون الاعتصام إذن هو حبله الممدود، ورسوله هو الوسيلة إليه، وهو ورده المورود: {فقد هدى إلى صراط مستقيم} لا يضل فيه السالك، ولا يخشى عليه من المهالك، فلا تروج عنده الشبهات ولا تروق في عينه الترهات وقد جاء جواب الشرط بصيغة الماضي المحقق للإشعار بأن من يلتجئ إليه تعالى ويعتصم بحبله فقد تحققت هدايته وثبتت استقامته.
__________
(1) تفسير المنار: 4/18.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم ـ خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم: مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، وقد أشار إلى الأولى بقوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، وإلى الثانية بقوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة، ولنتم لهم في القول، واستجبتم لما يدعونكم إليه ـ ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين؛ أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء، وأما في الدين فلا حاجة إلى بيانه.
3. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا، وبين أظهركم، رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينبهكم ويعظكم، ويبين لكم ما أنزل إليكم، ولكم في سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغي لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.
4. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك، ولا تروج لديه الشبهات، قال قتادة: ذكر في الآية أمرين يمنعان من الوقوع في الكفر: أحدهما تلاوة كتاب الله، وثانيهما كون الرسول فيهم، أما الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/15.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حين يصل السياق إلى هذا الحد ينهي الجدل مع أهل الكتاب، ويغفل شأنهم كله، ويتجه إلى الجماعة المسلمة بالخطاب، والتحذير، والتنبيه والتوجيه، وبيان خصائص الجماعة المسلمة وقواعد منهجها وتصورها وحياتها؛ وطبيعة وسائلها لتحقيق المنهج الذي ناطه الله بها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
2. لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهج الله وحده، متميزة متفردة ظاهرة، لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها، لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض، وتحقيقه في صورة عملية، ذات معالم منظورة، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات، وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة، إلا إذا تلقت من الله وحده، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده، قيادة البشرية.. لا التلقي من أحد من البشر، ولا اتباع أحد من البشر، ولا طاعة أحد من البشر.. إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف.
3. هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات، وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة.. وهنا موضع من هذه المواضع، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة.. ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة، في كل جيل من أجيالها، لأنه هو قاعدة حياتها، بل قاعدة وجودها.
4. لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية، فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن، وليس لوجودها ـ في هذه الحال ـ من غاية!؟ لقد وجدت للقيادة: قيادة التصور الصحيح، والاعتقاد الصحيح، والشعور الصحيح، والخلق الصحيح، والنظام الصحيح، والتنظيم الصحيح.. وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول، وأن تتفتح، وأن تتعرف إلى هذا الكون، وأن تعرف أسراره، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته.. ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله وتسيطر على هذا كله، وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات.. ينبغي أن تكون للإيمان، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة، مهتدية فيها بتوجيه الله، لا بتوجيه أحد من عبيد الله.
5. وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها، ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
6. إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدا في طريق النماء والارتقاء، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب، هذا من جانب المسلمين، فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها، فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة، وأعداؤه يعرفون هذا جيدا، يعرفونه قديما ويعرفونه حديثا، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعدة، وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين، وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون ـ زورا ـ للإسلام، جنودا مجندة، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعا غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها، فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال، ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾، وما كان يفزع المسلم ـ حينذاك ـ ما يفزعه أن يرى نفسه منتكسا إلى الكفر بعد الإيمان، وراجعا إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة، وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطا يلهب الضمير، ويوقظه بشدة لصوت النذير.
7. ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير.. فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم، وآيات الله تتلى عليهم، ورسوله فيهم، ودواعي الإيمان حاضرة، والدعوة إلى الإيمان قائمة، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أجل، إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان.. وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد استوفى أجله، واختار الرفيق الأعلى، فإن آيات الله باقية، وهدى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم باق.. ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون، وطريق العصمة بين، ولواء العصمة مرفوع: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.. أجل، إنه الاعتصام بالله يعتصم، والله سبحانه باق، وهو ـ سبحانه ـ الحي القيوم.
8. لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتشدد مع أصحابه في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة، كشئون الزرع، وخطط القتال، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان.. وفرق بين هذا وذلك بين، فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر، والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة، قال أحمد.. عن عبد الله بن ثابت، قال جاء عمر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، قال فسري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: (والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)، وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني).. وفي بعض الأحاديث: (لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي)
9. هؤلاء هم أهل الكتاب، وهذا هو هدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور، أو بالشريعة والمنهج.. ولا ضير ـ وفق روح الإسلام وتوجيهه ـ من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة، علما وتطبيقا.. مع ربطها بالمنهج الإيماني: من ناحية الشعور بها، وكونها من تسخير الله للإنسان، ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية، وتوفير الأمن لها والرخاء، وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية، شكره بالعبادة، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية، فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني، وفي تفسير الوجود، وغاية الوجود الإنساني، وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضا.. أما التلقي في شيء من هذا كله، فهو الذي تغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأيسر شيء منه، وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته، وهي الكفر الصراح.
10. هذا هو توجيه الله ـ سبحانه ـ وهذا هو هدى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء، ومن الفلاسفة والمفكرين: الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين.. أي دين.. ثم نزعم ـ والله ـ أننا مسلمون! وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح، فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ، حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون ـ مثلنا ـ أنهم مسلمون! إن الإسلام منهج، وهو منهج ذو خصائص متميزة: من ناحية التصور الاعتقادي، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها، ومن ناحية القواعد الأخلاقية، التي تقوم عليها هذه الارتباطات، ولا تفارقها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها، فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية، ومما يتناقض مع طبيعة القيادة ـ كما أسلفنا ـ أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي.
11. لخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء، ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغدا، بل الأمر اليوم ألزم، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني، وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى.
12. لقد أجرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية، وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق ـ بالنسبة للماضي ـ وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة.. ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف.. والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق! إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية.. وحين تقاس غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة! بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود، وتسفل به، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه!.. والخواء يأكل قلب البشرية المكدود، والحيرة تهد روحها المتعبة، إنها لا تجد الله.. لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة، والعلم الذي كان من شأنه، لو سار تحت منهج الله، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها.. إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له، ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون، وفطرتها وفطرة الكون، وقانونها وناموس الكون، ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها، وآخرتها ودنياها، وأفرادها وجماعاتها، وواجباتها وحقوقها.. تنسيقا طبيعيا شاملا مريحا.
13. هذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي، وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج (رجعية!) ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ.. وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي.. ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو، إننا نرى واقع البشرية النكد، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه، ونرى، نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق، والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع؛ ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان، ولكل معنى من معاني الإنسان! وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم.. كما يظل المنهج نظيفا سليما، إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى، والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك!.. وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم؛ وما حرص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعلمها إياه في تعليمه القويم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/438.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن كشف الله ـ سبحانه ـ أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وما يبيّتون للمؤمنين من مكايد وفتن، ليفسدوا عليهم دينهم ـ دعا الله المؤمنين إلى أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء الضالين المضلّين من أهل الكتاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾.. والفريق المعنىّ هنا من أهل الكتاب، هم العلماء منهم، والذين يحسنون وسائل التضليل والخداع، بما لهم من علم، وفي قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾، تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم، وتسفيه لمن تسوّل له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة هؤلاء الضالّين، ويعطيهم منه أذنا واعية.
2. إذ كيف ينفذ هذا الضلال إلى قلب مؤمن، وهو يستمع إلى آيات الله تتلى عليه، ويرى بعينيه رسول الله قائما على رسالة السّماء، يتلقى آياتها، ويفيض على الناس منها؟ كيف ـ والأمر كذلك ـ يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق، أو سفيه، أو مجنون!
3. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ توجيه إلى الطريق الذي ينبغي أن يستقيم عليه العاقل، ويلتزمه، وهو الإيمان بالله، والاعتصام به من وسوسة الضالين، وكيد المبطلين، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل، ويحميه من الضلال، وفي هذا نجاته وسلامته.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/539.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 98] ولم يقل: قل يا أيّها الّذين آمنوا.
2. الفريق: الجماعة من النّاس، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شاس بن قيس وأصحابه، أو أراد شاسا وحده، وجعله فريقا كما جعل أبا سفيان ناسا في قوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ وسياق الآية مؤذن بأنّها جرت على حادثة حدثت وأنّ لنزولها سببا(2).
3. أصل الردّ الصّرف والإرجاع قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ [الحج: 5] وهو هنا مستعار لتغيّر الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشّاعر، فيما أنشده أهل اللّغة:
çفردّ شعورهنّ السّود بيضا...وردّ وجوههنّ البيض سوداé
4. ﴿كَافِرِينَ﴾ مفعوله الثّاني، وقوله: ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ تأكيد لما أفاده قوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ والقصد من التّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
5. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ استفهام مستعمل في الاستبعاد استبعادا لكفرهم ونفيا له، كقول جرير:
çكيف الهجاء وما تنفكّ صالحة...من آل لأم بظهر الغيب تأتينيé
6. جملة ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ حالية، وهي محطّ الاستبعاد والنّفي لأنّ كلّا من تلاوة آيات الله وإقامة الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فيهم وازع لهم عن الكفر، وأيّ وازع، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه.
7. الظرفية في قوله: ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنّة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزيّة الّتي فاز بها أصحابه المخاطبون، وبها ـ يظهر معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري: (لا تسبّوا أصحابي فو الّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)، النصيف نصف مدّ، وفي الآية دلالة على عظم قدر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال: سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم (3)، قال قتادة: أمّا الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأمّا الكتاب فباق على وجه الدّهر.
8. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي من يتمسّك بالدّين فلا يخش عليه الضّلال، فالاعتصام هنا استعارة للتّمسّك، وفي هذا إشارة إلى التمسّك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الّذين لم يشهدوا حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/172.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول
(3) وهذا لا ينفي مخالفتهم، ولذلك فإن الآية كما قد تشير إلى المنقبة، تحمل معاني التحذير، وهو واضح
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حذّر الله سبحانه المؤمنين مما يريدونه بهم، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ كان نزول هذه الآية وما وليها من آيات بعد تلك المحاولة التي حاولها الشيخ اليهودي في التفرقة بين الأوس والخزرج، والتي همّ الفريقان بسببها أن يتشاجرا بالسيوف لولا أن نبيّ الرحمة تداركهم قبل أن يفعلوا، وأدركوا بكلمات الرسول أنها نزغة الشيطان، فحذرهم الله تعالى هذه النزغة مرة أخرى، وأمرهم بالحذر الشديد من اليهود خشية أن يكون فعلهم محاولة لما يريد أولئك الأشرار الذين ابتلى الله بهم البرية، ومطاوعة لمقاصدهم الآثمة.
2. صدّر الخطاب بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تنبيها لخطر ما يدعوهم إليه، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم، فيكون منهم الحذر واليقظة، فإن الإيمان فطنة، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان.
3. في قوله تعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ عبر في الشرط بـ (إن) للإشارة إلى بعد وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم، لأن (إن) الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتب الجواب عليه، بخلاف (إذا) فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه، كقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ [الانشقاق] وقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الانفطار]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير]
4. ذكر سبحانه وتعالى الذين يحاولون إركاس المسلمين في الفتنة وتضليلهم، بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب؛ لأنهم لم يكونوا كلهم، ولأنه يرجى الإيمان من بعضهم، بدل الاستمرار على الغى والفساد؛ ووصفهم سبحانه وتعالى: بأنهم أوتوا الكتاب للإشارة إلى أن تضليلهم مقصود، وأنهم أهل معرفة، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل، فصاروا بهذا كالأنعام بل أضل سبيلا؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق كان الجهل خيرا منها؛ لأنه أدنى إلى المعذرة.
5. رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه وتعالى منها نتيجتها إن وقعت، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ وفي هذا يعبر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ ولم يقل: ﴿تَرْتَدُّوا﴾ والمعنى متلاق، ولكن الأول في بيان تسلط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة، فهو نوع آخر من التحذير منهم؛ لأنهم كالشياطين، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم، أما الارتداد فإنه يكون انبعاثا من نفس المرتد، بضلاله هو لا بتأثير من غيره.
6. في الجملة النص السامي الكريم سيق لتحذيرهم من ذلك العدو الذي اختلط بهم، وأخذ ينفث سموم الشر، وسموم التفرقة بينهم، وأنهم يعودون إلى الكفر إذا استجابوا لدعوته، ومكنوا لسمومه من أن تصل إلى قلوبهم، ولقد بيّن سبحانه بعد ذلك أنه ما كان يسوغ لهم أن يستمعوا إلى دعوات الأعداء، ويفتحوا الباب لتدبيرهم الخبيث، ورسول الله فيهم فقال: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾
7. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ الاستفهام هنا للتعجب أو للإنكار، ومعنى التعجب فيه هو أنه لا يتصوّر أن يكون منكم كفر، ولو تصور لكان موضعا للعجب والاستغراب؛ لأن آيات الله تتلى عليكم، ورسوله بين ظهرانيكم، ويردكم للحق إن زغتم، وتهديكم آيات الله البينة إن ضللتم، وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من أن يصلوا إلى ما يبتغون من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلى، وأما على اعتبار الاستفهام للإنكار فهو إما نفى للوقوع أي أنه لا يمكن أن يقع منكم الكفر، ورسول الله بينكم، وآيات الله تتلى عليكم، وإما أنه نفى للواقع، فيكون للعتب، والمعنى كيف سوغتم لأنفسكم أن تفتحوا قلوبكم لأسباب الكفر التي ابتغاها اليهود بالاستماع إلى كلماتهم المفرقة، فيكون الإنكار لما وقع باعتباره كان يؤدى إلى الكفر، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض، فإذا كان الإنكار للواقع يكون الإنكار للسبب الذي وقع ويؤدى إلى السبب وهو الكفر، لا أن الكفر قد وقع.
8. الإنكار أو التعجب أساسه الحال التي هم عليها، وهى كونهم في حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يتلو عليهم الآيات، فالمعنى كيف تكفرون أو يتصور منكم الكفر، أو يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه، وآيات الله تتلى عليكم بلسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا بلسان أحد سواه، ويقول الزمخشري في توضيح هذا: (تتلى عليكم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غضة طرية، وبين أظهركم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم)
9. الخطاب في الآية: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ ـ كما يبدو من عبارات الزمخشري وغيره ـ خاص بالمؤمنين في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم الذين شاهدوا النور المحمدي وشافهوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن ساعة في حضرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تغنى عن اجتهاد سنين، كما قال أبو حنيفة، ويصح أن يكون الخطاب لكل المؤمنين، وتكون الآيات تتلى على لسان القراء والعلماء من بعده، وهى ستتلى إلى يوم القيامة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر] وأما وجود الرسول في الأخلاف فإنه يكون بوجود سنته النبوية الشريفة، وإنه إن كان الاحتياط يكون أشد ـ لا يخلو من فضل ثواب إن سلم القلب واهتدى العقل وتحصنت النفس، وقد روى البخاري أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه يوما: (أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟) قالوا: الملائكة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وكيف لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم!؟) قالوا: فنحن؟ (وكيف لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم!؟) قالوا: فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال (قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها)
10. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بعد أن بيّن سبحانه ما يحاوله اليهود وما يتمنونه وهو أن يضلوا المؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران] ـ أخذ يبيّن سبحانه طريق العصمة من مكايدهم، ويغلق أبواب القلب حتى لا يتأثر بما يحاولون أن يفسدوه به، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾
11. أصل الاعتصام معناه الامتناع والالتجاء والاستمساك، وهو من عصم بمعنى منع، يقال عصمه الطعام أي منع عنه الجوع، وعصمته النبوة أي منعته من أن يقع في إثم قط، ومعنى النص السامي ومن يعتصم بالله أي يجعل الله تعالى عاصما له ومانعا، يستنصح بكتابه، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمت الظلمات، فقد هدى إلى صراط مستقيم، أي طريق مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف.
12. معنى الاعتصام بالله: الاعتصام بدين الله كما قال أكثر المفسرين، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتما الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة، ولكنى اخترت الاعتصام بالله، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف؛ لأن الاعتصام بالله يقتضى ألا يحب أحدا إلا الله، ويقتضى أن يكون الشخص ربانيا لا ينظر إلى عصبية جاهلية، ولا لهوى ولا لعرض من أعراض الدنيا، فيلجأ إلى الله، ويحب الشيء لذات الله كما ورد في الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى)، ويقتضى أن يتجه إلى الله ويتذكره عندما ينزغ في النفس نازغ، كما قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ [فصلت]، ويقتضى الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله، فيدبر الأمور ويعتزمها ثم يفوض أمر مصائرها إليه سبحانه وتعالى، ويقتضى الاعتصام بالله أن يبتعد عن مواطن الريب، ولا يتبع الشبهات، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران]
13. ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العليّة، ولذا نجد أنه لا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ دين، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لا يستقيم معه نسق القول فى نظري؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدى إلى دين الله، إنما الذي يهدى إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية.
14. ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ عبر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقق والتأكد والثبوت، أي الجواب يترتب على الشرط لا محالة، فإذا وجدت حقيقة الاعتصام بالله ـ وإنها لأجلّ حقائق هذا الوجود ـ فإنه يوجد لا محالة الاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الذي لا عوج فيه ولا أمت.. اللهم اعصمنا من الزلل، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لما يرضيك يا رب العالمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1331.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حذر الله سبحانه في الآيتين السابقتين أهل الكتاب من معاندة الحق، وصد المؤمنين عن سبيله، وحذر في هذه الآية المؤمنين من الإصغاء إلى فريق من أهل الكتاب يحاول إضلال المؤمنين وفتنتهم عن دينهم.
2. روي في سبب نزول هذه الآية ان بعض اليهود قصد إيقاظ الفتنة بين الأوس والخزرج، وتفريق كلمتهم بعد أن جمعها الله على الإسلام، فأخذ يذكّرهم بما كان بينهم في الجاهلية من العداء والقتال، بخاصة يوم بغاث، وهو يوم اقتتل فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، فثارت الحمية في رؤوسهم، وكادت الفتنة أن تقع بينهم لولا أن تداركها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والآية تنطبق على هذه الواقعة، كما تنطبق على محاولة المبشرين المسيحيين في هذا العصر، وعلى جميع المحاولات التي يهدف من ورائها بعض أهل الكتاب وغيرهم إلى تفتيت كلمة المسلمين، وصرفهم عن دينهم، والشعور بوطنيتهم وحريتهم، ليقعوا فريسة سائغة لكل ناهب وغاصب.. وهذا ما يفعله اليوم المستعمر الغربي مع العرب والمسلمين.. ولا تقع المسئولية عليه وحده، بل يشاركه فيها العملاء الأدنياء الذين أطاعوه وساروا في ركابه، وكفروا بعد ايمانهم بدينهم وأوطانهم، وعلى هذا فإن الآية تنطبق على هؤلاء العملاء، كما تنطبق على دعاة الفتنة والفساد، ورواد الكفر والضلال، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم، شرقيين وغربيين.
3. وأيضا ينطبق قوله تعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ ينطبق على تقليد نسائنا للغرب في التهتك والتبرج، واستخفاف شبابنا بالدين والأخلاق، وعلى كل عادة مضرة ومحرمة اقتبسناها من الأجانب.
4. ان الآية ظاهرة في النهي عن اطاعة اهل الكفر في الكفر والارتداد عن الإسلام، ولكن السبب الموجب عام يشمل كل تقليد ومتابعة تغضب الله والرسول.
5. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾، أي لا ينبغي لمسلم ان يتأثر، ويلتفت إلى إضلال المضللين، ويتبع الكافرين في أخلاقهم وعاداتهم، وهو يتلو القرآن الكريم، ويستمع إلى النبي العظيم، يبين الحق ويزيح عنه كل شبهة، قال نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تفسير غرائب القرآن: (أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر، وأما النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله فإن نوره باق، لأن عترته وورثته يقومون مقامه، ولهذا قال: (اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي)
6. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، الاعتصام بالله هو التمسك بدينه، والدين عند الله الإسلام، وهو بالذات الصراط المستقيم، والمقصود ان من اعتصم بالله حقا فلا يحيد، ولن يحيد عن الإسلام، مهما تكن المحاولات والاغراءات.
7. سؤال وإشكال: لقد جاء في الآية 56 من سورة هود: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقد فسرت الصراط المستقيم بالإسلام، فيلزم على هذا أن يكون الله على دين الإسلام؟ والجواب: ان الصراط المستقيم يراد به الإسلام إذا نسب إلى العبد، أما إذا نسب إلى الله تعالى فإن المراد به العدل والحكمة، أي انه عز وجل يدبر الأمور بعدله وحكمته، ولا يحيد تدبيره عن هذا المنهج.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/120.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم.
2. ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد عنكم، واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبهة ألقتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
3. المراد بالكفر في قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾، الكفر بعد الإيمان، وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا، وفي تحقيق الماضي في قوله: ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.
4. يتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/366.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذ قد تقرر تمردهم، تحول الكلام عن خطابهم إلى خطاب الذين آمنوا لتوجيههم إلى المحافظة على دين الله وحمايته وإقامته، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ هذا بيان لمحل الخطر ليحذروه ولا يغتروا بأن هذا الفريق من أهل الكتاب يدعون الإيمان بكتابهم، وفي قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ إشارة إلى ما سبق من الوعيد على من ارتد، وتشنيع للكفر بعد الإيمان، من حيث هو بعد الإيمان، لأن المؤمن شأنه أن يكون قد عرف الحق وظفر بالنعمة العظمى وهي كونه في طريق النجاة من النار والفوز بالجنة فإذا تحول عن ذلك استبدل الباطل بالحق والشقاوة بالسعادة التي قد كان في طريقها وهي الخسارة العظمى.
2. ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إنكم في حالة بعد عن الكفر وهي أنكم قد آمنتم، وأعظم من ذلك معه أنكم ﴿تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ التي تهدي إلى الإيمان وتخرج الناس من ظلمات الكفر إلى النور لأنها آيات تدل على الحق وتهدي إليه، ومع ذلك أن ﴿فِيكُمْ﴾ رسول الله حياً موجوداً بينكم يتلو عليكم آيات الله، ويظهر على يديه المعجزات الدالة على أنه رسول الله، وأنتم تشاهدون ذلك، ومع ذلك إن الله يثبتكم وينجيكم من الرجوع إلى الكفر إذا اعتصمتم به وتمسكتم بأسباب هدايته.
3. الاعتصام: هو اللجوء لطلب النجاة: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود:43]، والهداية: الإرشاد إلى الطريق، والصراط: الطريق الواضح القوي، والمستقيم: الذي ليس فيه عوج، بل هو مستوٍ فقد هدى إلى طريق السلامة من الكفر أو إلى طريق السعادة والسلامة على الإطلاق.
4. الاعتصام بالله الذي هو التمسك بأسباب النجاة ينبغي لمن أراده أن يعرف أسباب النجاة ولعل بعضها متداخل أو متلازم، فالذي يجمعها هو تقوى الله وطاعته، لأن المعاصي قد تجر إلى الكفر من حيث تقسي القلب وتؤدي إلى الخذلان:
أ. ومنها: الدعاء بطلب التوفيق والعصمة، وحسن الخاتمة، فإن أهل الجنة يتساءلون: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَالْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26 ـ 28]
ب. ومنها: أربع جاء في الحديث أنها تحول الشقاء سعادة، وتقي مصارع السوء في حديث رواه المرشد بالله في (أماليه) بإسناده عن علي عليه السلام وهي: (الصدقة على وجهها، وبر الوالدين، واصطناع المعروف، وصلة الرحم) وفي كل واحدة روايات أخر ليس هذا مقام جمعها.
ج. ومنها: حب أولي قربى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد جاء في الحديث: (والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله)، وقال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى:23] ولا إشكال أن فائدة ذلك للأمة، وروى الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا وثبتته أخرى)، وهذا واضح لأن المحبين لهم يتمسكون بهم، وفي (حديث الثقلين): (ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي)
د. ومنها: حسن الخلق أوسع من اصطناع المعروف.
هـ. ومنها: أمور قد دخلت في تقوى الله، منها اجتناب الإصرار على المعصية ولاسيما الكبائر المتعمدة، ولعل منها عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والنميمة، والربا، واليمين الفاجرة، وشهادة الزور، وموالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله، وقتل المؤمن عمداً عدواناً؛ وليس الكفر بعيداً ممن عصى واعتدى لإمكان أن يكفر بأن يحكم بغير ما أنزل الله، أو يجعل الحكم لغير الله كما فعل أهل الكتاب الذين ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة:31] نسأل الله العصمة والتوفيق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/507.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تحدثت كتب التفسير أنّ لهذه الآيات قصة انطلقت منها، في أسباب النزول(2)
2. لعل جوّ الآية يوحي بوجود حادث من هذا القبيل، عاش فيه المسلمون حالة استسلام لبعض أساليب الإثارة من قبل اليهود، مما كاد أن يحطّم وحدتهم الجديدة في نصاب أخوّة الإسلام الحق، فيثير في داخلهم عصبية الجاهلية التي تذكي في داخلهم روح العداوة والبغضاء، وتعيدهم إلى أجواء الكفر التي يستسلم فيها الإنسان إلى الدوافع الشريرة من الحقد والبغض، بعيدا عن الدوافع الخيّرة من المحبّة والتسامح.
3. قد لا يكون في هذا الحادث ما يوحي بالكفر، بل هو مجرد انحراف عن الخطّ، ولكن خطورة القضية تتمثل في هذا الاستسلام الساذج لأساليب اليهود، فإنه قد يغريهم بالتقدّم في خطوات جديدة في عمليات تضليل في العقيدة إلى جانب التضليل في العمل، فتكون النتيجة ردّة إلى الكفر بعد الإيمان، وتلك هي الخسارة الكبرى التي ينبغي أن يتفاداها المسلمون بالمزيد من الوعي والتفكير في ما يحيط بهم من أجواء الكفر والكافرين، وفي ما يسمعونه من آيات الله التي تفتح قلوبهم على الحق، وعيونهم على الواقع، ومسيرتهم على الصراط المستقيم، فإذا اشتبه عليهم شيء من شؤون الكفر والعمل، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعيش بينهم، يحاورهم ويحاورونه، ويشاورهم ويشاورونه من غير ضيق أو تكلّف، بل هي البساطة والعفوية التي تنساب فيها الحقيقة انسياب النور في الضحى، فكيف يمكن لهم أن يكفروا مع كل هذه الأجواء والدلائل والبيّنات، التي تبعدهم عن خط الضياع والقلق الروحي والعملي، لأنها تربطهم بالله الذي يعتصم به عباده في حالات الاهتزاز والضياع فيقودهم في هدايته إلى صراط مستقيم!؟
4. ذهب صاحب تفسير الميزان إلى أنّ هاتين الآيتين واردتان في سياق التحذير للمؤمنين أن يطيعوا اليهود في ما يدعون إليه فيكفرون بالدين، وترغيب وتحريض لهم أن يعتصموا بالله فيهتدون إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم، ويرى أن الآيات أقرب انطباقا على ما ذكره منها على الرواية كما هو ظاهر، وبذلك تكون الآيات متممة لسابقتها، لكن الظاهر من سياق الآيات المتأخرة الآتية التي تعيش في أجواء هاتين الآيتين أن هناك شيئا من الجو الذي ذكرته الرواية في ما قام به اليهود في واقع المسلمين، مما يدفع بالحياة الإسلامية إلى الحقد والعداوة والبغضاء، ويؤدي بالنتيجة إلى الكفر، من خلال الاستسلام لمخططاتهم، وبذلك لا تبتعد الآية عن الرواية كما لا تبتعد عن الآيات السابقة التي عرضت بعض النماذج لأساليب أهل الكتاب في التضليل.
5. في هاتين الآيتين بداية الحديث مع المؤمنين بأن يكونوا واعين للمخططات التي يرسمها أهل الكتاب من أجل إضلال المسلمين عن دينهم الحق، وذلك بإثارة الرواسب القديمة الكامنة في الأعماق، التي استطاع الإسلام تجميدها في خطّة طويلة لإزالتها نهائيا من النفوس، وذلك بتأكيد الإيمان في قلوبهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة، بحيث يتحول إلى جزء من الذات، بدلا من أن يكون فكرة ساذجة كامنة في بعض جوانبها.. فإذا أغفل المسلمون جانب الحذر، واستسلموا لمشاعرهم الساذجة، وشعروا بالأمن في حركات الكافرين من حولهم، أمكن لأولئك أن يجرّوهم إلى الوقوع في قبضة التاريخ الجاهلي من جديد، فتتحرك الرواسب وتطفو على سطح الفكر والشعور، وتتحوّل إلى ممارسات خبيثة تذكي نار العصبية، وتطفئ نور الإيمان في القلوب، وتقود الأفراد والجماعات إلى حرب تقوم على أساس العائلة الضيّقة، ويصبح الإسلام مجرّد حالة طارئة لا تمثل أيّة قوّة ضابطة أو محرّكة في الاتجاه السليم.
6. ربّما نجد الكثير من نماذج هذا اليهودي في الواقع الذي يعيشه المسلمون، في ما يريد الكافرون والضالون أن يثيروه بين المسلمين من الخلافات القائمة على العصبية العائلية والقومية والإقليمية والمذهبية، فيعملون على استثارة كل عناصر الإثارة في الماضي والحاضر من أجل خلق حالة نفسية متوترة، توحي بالحقد، وتنذر بالشر، وتقود إلى التصادم والتنازع في خطّة خبيثة تؤدي إلى الكارثة من خلال ما تؤدي إليه من التمزق والتفرق والوصول إلى مواقع الخطر على عزتهم وكرامتهم وأصالتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية.
7. في هذا الجوّ تتحرك الآية لتفتح عيون المسلمين في كل زمان ومكان على أن يحدّدوا أعداءهم في العقيدة وفي السياسة وفي الحياة كلها.. ويتعرفوا طبيعة مخططاتهم في جانبي العمق والامتداد، وطبيعة الظروف الموضوعية المتحركة على الساحة ونوعية القوى المحيطة بهم، إلى جانب معرفتهم بالأسس التي تحميهم من كل هذه المخططات، وذلك بالتأكيد على نقاط القوة لتنميتها وتحريكها في خط المواجهة الصعبة ودراسة نقاط الضعف ومحاولة السيطرة عليها وتحويلها من موقع المعاناة إلى نقاط قوة، سواء كانت تلك النقاط فكرية أو شعورية أو عملية.. ولا بدّ في سبيل الوصول إلى ذلك من الارتفاع في كل زمن إلى مستوى المرحلة التاريخية للأمّة، التي تفرض علينا التحرك في خط الوعي الذي يرصد القوى المختلفة لئلا يختلط علينا خط الأعداء بخط الأصدقاء، على أساس انفعال طارئ أو مشاعر حادة أو نظرة خاطئة في تقييم الواقع والناس.
8. قد نستوحي من هاتين الآيتين أن على المسلمين أن يعيشوا حالة عالية من الوعي المتقدّم للأجواء المضادّة المحيطة بهم في مجتمعات الكفر والضلال، وأن يدرسوا الأساليب المعقّدة التي يتبعها دعاة الكفر والضلال في تفتيت القوة الإسلامية بما يثيرونه من رواسب التاريخ وخلافاته، وفي تضليل المسيرة الإسلامية وإبعادها عن الخط المستقيم، ليستطيعوا، من خلال ذلك، الانفتاح على القواعد الثابتة التي تحفظ لهم وحدتهم، وتصون لهم دينهم الحق عندما يعرفون سبيل الاعتصام بالله الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم، وبذلك نعرف أن السذاجة الفكرية والبساطة العملية اللتين تدفعان المسلم إلى الاستسلام لخطط العدو من خلال الغفلة عن طبيعته، ليستا من خلق المسلم الذي يريده الإسلام واعيا للحق وللفكر وللطريق وللمجتمع الذي من حوله في كل ما لديه من سلبيات وإيجابيات.
9. في ضوء هذا الجو نتابع هذه الآيات، فإن الآية الأولى تدعو المؤمنين إلى الامتناع عن طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب، وهو الفريق الحاقد الذي يتحرك ويقف في خطّ المواجهة للإسلام من أجل إبعاد المسلمين عن دينهم وتحطيم قوّتهم، وذلك بمختلف الأساليب المتلوّنة التي تلجأ إلى الإسرار تارة، وإلى الإعلان أخرى، تبعا للظروف الموضوعية الثابتة أو الطارئة، فلا بدّ للمسلمين من الانتباه إليه ليستطيعوا حماية أنفسهم منه، فإن السير مع حالة الغفلة والاسترسال التي تدفعهم إلى الاندماج بالجوّ الحميم الذي يتظاهر به هذا الفريق أو ذاك يؤدي إلى الوقوع في قبضة نواياهم الشرّيرة، وينتهي ـ بالتالي ـ إلى الخروج من الدين والسير في خطّ الكفر، لأنّ ذلك هو النتيجة الطبيعية لحركة تلك المخططات الشريرة، فإن الهدف الكبير لهم هو إخراج الإسلام عن خطّ الحياة بشكل مباشر أو غير مباشر، وتجميده في حركة التاريخ من خلال تجميده في نفوس أتباعه.
10. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، فعاش الإيمان في وجدانهم فكرا وعقيدة ومفاهيم منفتحة على الله والإنسان والكون والحياة، وتحرّك في قلوبهم عاطفة متصلة بالمشاعر الروحية الخيّرة في حركتها في الجانب الإنساني من علاقة الإنسان المسلم بالآخرين، وانطلق في سلوكهم حركة مستقيمة في خط القيم الروحية الإنسانية على صعيد الواقع العملي في الدائرة الأخلاقية العامة.
11. ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وهو الفريق الحاقد المعقد، الذي يلاحق تطوّر الدعوة الإسلامية في اتجاه الشمولية للساحة بالعمل على تخريب كل الأوضاع، وتعقيد كل الأعمال، وإثارة كل المشاكل في وجه الإسلام وأهله، مما يجعل من استجابتكم له وإطاعتكم لتوجيهاته ونصائحه، استجابة للضلال والانحراف الذي يجرّكم إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، لأن كل هدفهم في كل مخططاتهم أن ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ ليضعفوا الإسلام بخروج المؤمنين به من الانتماء إليه، ولينفّسوا عن عقدتهم الذاتية تجاهكم، وإن كانوا لا يواجهونكم بالدعوة إلى الكفر في البداية بشكل مباشر، بل يطرحون أمامكم بعض القضايا الجانبية التي تدخل في عداد الأمور المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والعصبيات العائلية، مما يجعلكم تأمنون الخطر على إيمانكم في البداية، فإن عليكم أن تعرفوا أن ذلك يمثل الخطة الدقيقة التي تتدرج في خطوطها لتأخذكم على حين غرّة، لتصل بكم في نهاية الأمر إلى الوقوع في حبائلهم والسقوط في مخططاتهم في انحرافكم عن خط الإيمان إلى الكفر.
12. ثم تأتي الآية الثانية لتثير الإنكار في صيغة الاستفهام فتتساءل: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ لتوجه المؤمنين إلى عدم الانفصال عن القرآن في مفاهيمه ودلائله وبراهينه وخططه للحياة، وعدم الابتعاد عن الارتباط بقيادتهم الرسالية الواعية التي تفتح لهم أبواب الإيمان في ما تفتح لهم من أبواب العلم بالله وبرسالته وشرائعه، فإن ذلك هو السبيل إلى الثبات على المبدأ، والشعور بقوّة المواقف وأصالتها.
13. إذا أردنا أن نستوحي الفكرة العامّة من هذه الفقرة من الآية، فإننا نستطيع تلخيص ذلك في نقطتين، تمثلان القاعدة الثابتة الأصيلة في وسيلة المحافظة على تماسك الأمّة في عقيدتها أمام مخططات الأعداء، وهما: الارتباط بالفكرة من خلال مصادرها النقية الأصيلة، والارتباط بالقيادة المخلصة الرسالية في تخطيطها العملي لحركة الفكرة للحياة، لأن الفكرة وحدها لا تستطيع حماية مسيرتها من الانزلاق والانحراف بدون قيادة تحرك الفكرة في الخط السليم، كما أن القيادة لا تستطيع القيام بدورها الأصيل إذا لم تكن القاعدة سائرة في خط الفكرة ومؤمنة بقيمتها الفكرية والروحية في الطريق الطويل.
14. قد نستوحي منها، أن على الإنسان المسلم أن يلجأ إلى آيات الله ليستنطقها في عملية تحليل لكل ما يعرض عليه من دعوات وأفكار يجد فيها الهدى كل الهدى، والوعي كل الوعي، وأن يرجع إلى حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسنته ليعيش معه الروح المنفتحة على الناس في محبّة ممزوجة بالحذر، وفي وعي نابض بالحياة، وفي حياة متحركة في أكثر من اتجاه على أساس من وضوح الرؤية لفكر الإنسان وواقعه في خطّ العقيدة والعمل، فإن ذلك هو السبيل للاعتصام بالله والسير على هداه.
15. ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ بالتمسك بكتابه ورسوله ورسالته، والانفتاح عليه بالإخلاص والتقوى والاستقامة في خط الله، والوقوف بقوة في مواجهة التحديات الكبرى التي تتحدى قضايا المصير من أجل رد التحديات بمثلها وإطلاق التحدي في وجه الكفر والاستكبار، وهو الموقف الذي يفرضه الانتماء إلى الإسلام في الفكر والعمل.
16. ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لأن الله هو الحق وما يدعون من دونه الباطل، ولذلك فإن الاعتصام به هو اعتصام بالخط المستقيم الذي يحفظ للإنسان دنياه وآخرته، ويقوده إلى النجاة في نعيم الله ورضوانه.
17. ربّما نحتاج إلى التوقف عند كلمة الاعتصام بالله، وعلاقته بالاهتداء إلى الصراط المستقيم، فإن الاعتصام بالله يشير إلى التمسك بكل المفاهيم التي أوحاها إلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم والسير مع كل الشرائع التي شرّعها للناس على لسانه، والتحرك نحو كل الأهداف الكبيرة في الحياة التي أراد للإنسان أن يسير عليها من خلال وسائله الطاهرة النظيفة، وبذلك تستقيم للإنسان الرؤية الواضحة والمنهج المحدّد، والهدف الكبير الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يبقى لديه أيّ شك أو ريب أو انحراف، بل هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا التواء، وفي هذا الجوّ نفهم أن الاعتصام بالله ليس كلمة تقال، ولكنه فكر وخطّ وموقف وهدف يحكم حياة الإنسان في مجالاتها الفكرية والعملية؛ فإن الإنسان الذي لا يعتصم بالله يبقى عرضة للانحراف مع الخطوط المتنوعة للأهواء المختلفة التي يثيرها الشيطان وجنوده في قلب الإنسان.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/177.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ينتهي التقريع والتنديد، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادين عن سبيل الله القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الانخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم، والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة كلّ ذلك هو الابتعاد عن الإيمان، والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
2. إن نتيجة الانصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والاقتتال، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة أخرى.
3. من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر ـ في الآية ـ هو (الكفر الحقيقي، والانفصال الكامل عن الإسلام) كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر ـ في حدّ ذاتها ـ شعبة من شعب الكفر، وعلامة من علائمة، وأثرا من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلّا المحبة والمودة والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلّا التقاتل والعداوة والتنافر.
4. ثمّ يتساءل ـ في عجب واستغراب ـ ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفّارا والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية؟
5. إن هذه العبارة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن لا يزمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي اتصال دائم.. ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو ـ في الحقيقة ـ من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟ إنه حقّا يدعو إلى الدهشة والاستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولا شك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال ـ إن ضلوا ـ لأنهم لم يضلوا إلّا عن بيّنة، ولم ينحرفوا إلّا بعد بصيرة.. ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديدا جدّا لذلك.
6. في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء، وأرادوا الاهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
7. هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له: ﴿قُلْ﴾ ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الأخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه ﴿قُلْ﴾ وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم ـ دون غيرهم ـ لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحدا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/616.
52. حق التقوى والموت على الإسلام
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈52⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر(1).
2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، نسختها: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦](2).
__________
(1) ابن المبارك في الزهد: ٢٢.
(2) الدرّ المنثور: ابن مردويه.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّ صاحبا له ـ يقال له: همّام ـ كان رجلا عابدا، فقال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم، فتثاقل عن جوابه، ثمّ قال (يا همّام اتّق الله وأحسن ف﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] فلم يقنع همّام بهذا القول حتّى عزم عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمّ قال (أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم؛ فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون.. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة.. صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة، يسرها لهم ربهم.. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.. أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم.. وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا! ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون.. إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم مني بنفسي! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.. فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرجا عن طمع.. يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذرا، ويصبح فرحا، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة.. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب.. قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل.. تراه قريبا أمله، قليلا زلـله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه.. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.. إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين.. يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه.. بعيدا فحشه، لينا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شره.. في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور.. لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب.. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه.. لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.. إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له.. نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة.. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه.. بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة(1).
2. روي عن أبي إسحاق الهمداني، قال: لمّا ولّى الإمام علي محمّد بن أبي بكر مصر وأعمالها كتب له كتابا، وأمره أن يقرأه على أهل مصر، وليعمل بما وصّاه به فيه، وفيه: (عليكم بتقوى الله، فإنّها تجمع من الخير مالا يجمع غيرها، ويدرك بها من الخير مالا يدرك بغيرها من خير الدنيا وخير الآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30].. واعلموا عباد الله أنّ المتّقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباحهم الله من الدنيا ما كفاهم وبه أغناهم، قال الله عزّ اسمه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32](2).
3. روي أنّه قال: في بعض خطبه: أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفا صفا، بعض هلك، وبعض نجا، لا يبشرون بالإحياء، ولا يعزون عن الموتى مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الالوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الايدي على فراقهم(3).
4. روي أنّه قال: في بعض خطبه: رحم الله امرؤا سمع حكما فوعى ودعي إلى رشاد فدنى، وأخذ بحجزة هاد فنجا، راقب ربه، وخاف ذنبه، قدم خالصا، وعمل صالحا، اكتسب مذخورا، واجتنب محذورا، رمى غرضا، وأحرز عوضا، كابر هواه، وكذب مناه، جعل الصبر مطية نجاته، والتقوى عدة وفاته، ركب الطريقة الغراء، ولزم المحجة البيضاء، اغتنم المهل، وبادر الاجل، وتزود من العمل(4).
__________
(1) نهج البلاغة، خطبة: 184/611.
(2) أمالي المفيد: ص261.
(3) نهج البلاغة: 1/251.
(4) نهج البلاغة: 1/136.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لم تُنسخ، ولكن: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: نسختها: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦](1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٢.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنّه قال: لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن من لسانه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، فنسخت الآية الأولى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ نزلت هذه الآية في الأوس والخزرج، وكان بينهم قتال يوم بعاث قبيل مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأصلح بينهم؛ فأنزل الله هذه الآيات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وروي عن ابن عباس أنّه قال: فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله بعد ذلك: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦](2).
__________
(1) ابن المنذر: ٧٧١.
(2) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وهو أن يطاع فلا يعصى، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ على الإسلام، وعلى حرمة الإسلام(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٣٩.
(2) ابن جرير: ٥/٦٤٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، نسختها الآية التي في التغابن: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ [التغابن: ١٦]، وعليها بايع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على السمع والطاعة فيما استطاعوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: فحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ثم أنزل التخفيف والتيسير، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، فجاءت هذه الآية فيها تخفيف وعافية ويسر(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٢٨.
(2) ابن المنذر: ١/٣١٧، ٢/١٢٩ من طريق شَيْبان بنحوه.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ معناه بأن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ثم تقدم إليهم ـ يعني: إلى المؤمنين من الأنصار ـ، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، أما حق تقاته: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٠.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ مطيعين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، فلم يدرى ما حق تقاته من عظم حقه تعالى، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يبلغوا حق تقاته ما بلغوا، ولو قلت لرجل: اتق الله حق تقاته، رأى أنك قد كلفته بغيا من أمره(1).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، فلم يدرى ما حق تقاته من عظم حقه تعالى، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يبلغوا حق تقاته ما بلغوا، قال فأراد الله تعالى أن يعلم خلقه قدرته، ثم نسخها وهوّن على خلقه بقوله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، فلم يدع لهم مقالا، ولو قلت لرجل: اتق الله حق تقاته، رأى أنك قد كلفته بغيا من أمره، فإذا قلت له: اتق الله ما استطعت، رأى أنك لم تكلفه شططا(1).
__________
(1) أبو إسحاق المالكي في أحكام القرآن: ص٢٢٦.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: لما نزلت: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، ثم نزل بعدها: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] نسخت هذه الآية التي في آل عمران(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٢.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال عن قول الله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/195.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن تطيعوه فلا تعصوه في شيء، فذلك حق الله على العباد(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٢١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال نسختها: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦](1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، يعني: معتصمين بالتوحيد(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم، وجاء بهذه الأخرى، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] فنسخها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾:
أ. روي عن ابن مسعود قال: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وأراد: حق تقاته؛ مما يحتمل وسع الخلق.
ب. وروي في حرف حفصة: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: اعبدوا الله حق عبادته، وهذا في اعتقاد التوحيد.
ج. وروي عن أنس يقول: (لا يتقي الله أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه، ويعد كلامه من عمله)
د. وقيل: ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ أطيعوا الله حق طاعته.
2. قيل: إن هذا نسخها قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ الآية [التغابن: 16]؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع، ولكن أصله ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّ لله على عباده حقّا، ولعباده عليه حقّا، وحقّ الله على عبده: أن يعبد الله، ولا يشرك غيره فيه، وحقّ العبد على الله: أن يدخله الجنّة؛ إذا عبده، ولم يشرك غيره فيه أحدا) ليكون هذا تأويلا للآية أن قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي الله حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم ﴿لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20] و﴿لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: 38]، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك!؟، وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان ـ والله أعلم ـ الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصّة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدا في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾!؟ وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلما، وليس في الموت صنع للخلق، والمعنى ـ والله أعلم ـ: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم، وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت ـ وإن اشتد أمره ـ بالذي ليس بإسلام، وروي عن أبي حنيفة أنّه قال: أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب)
3. يحتمل قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: احذروا عذاب الله حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ بمعنى نقمته.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/444.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أي خافوا الله واتقوا عذابه بحقيقة طاعته، التي لا تقصير فيها عن الحق والاجتهاد، فيما أمر به من الصدق.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وحق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ويبقى في طاعته ولا يخاف سواه، وهذه الآية محكمة وقد ذكر بعض الناس أنها منسوخة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أربع أقاويل:
أ. أحدها: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى، وهو قول ابن مسعود، والحسن، وقتادة.
ب. الثاني: هو اتقاء جميع المعاصي، وهو قول بعض المتصوفين.
ج. الثالث: هو أن يعترفوا بالحق في الأمن والخوف.
د. الرابع: هو أن يطاع، ولا يتّقى في ترك طاعته أحد سواه.
2. اختلفوا في نسخها على قولين:
أ. أحدهما: هي محكمة، وهو قول ابن عباس، وطاووس.
ب. الثاني: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16] وهو قول قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/414.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
أ. ذكر ابن عباس وطاووس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة.. وأنكر أبو علي الجبائي نسخ الآية وذلك، لأن من اتقى جميع معاصيه، فقد اتقى الله حق تقاته، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ، لأنه إباحة لبعض المعاصي، قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه على ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ بأن تقوموا له بالحق في الخوف والامن لم يدخل عليه ما ذكره أبو علي، وهذا صحيح، لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ وأنكر البلخي أيضاً نسخ الآية وقال: لأن في ذلك إيجاب الأمر بما لا يستطاع، قال الرماني: وهذا أيضاً لا يلزم، لأن ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ إنما هو من غير تحمل مشقة بتحريم التقية.
ب. وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هي منسوخة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام لأنهم ذهبوا إلى أنه يدخل فيه القيام بالقسط في حال الخوف، والامن.
2. في قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قولان:
أ. قال ابن مسعود، والحسن، وقتادة: إن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقال الجبائي: هو أن يتقى جميع معاصيه.
3. ظاهر الآية يقتضي أنه خطاب للمؤمنين خاصة، ويجوز أن يحمل من جهة المعنى على جميع المكلفين على التغليب، لأنه معلوم أنه يجب عليهم من ذلك مثل ما يجب على المؤمنين من اتقاء جميع معاصي الله.
﴿تُقَاتِهِ﴾ هو من وقيت، قال الزجاج: يجوز فيه ثلاثة أوجه تقاة ووقاة واقاة وحمله على قياس وجوه وأجوه وإن كان هذا المثال لم يجيء منه شيء على الأصل نحو تخمة وتكأة ونقاة غير أنه حمله على الأكثر من نظائره وجعل اختصاص هذا البناء في الاستعمال، لا يمنع من حمله على نظيره في القياس، لأن بإزاء قوة الاستعمال قوة النظير في الباب.
4. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ معناه لا تتركوا الإسلام وإنما قال: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾ بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لا بد منه، فكأنه قال: كونوا على الإسلام، فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت إلا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة تصرف الابدال، لحسن الاستعارة، وزوال اللبس، لأنه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالإسلام فترك الإسلام صار بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومثله قولهم: لا أراك هاهنا أي لا تكونن هاهنا، فان من كان هاهنا رأيته إلا أن هذا خرج مخرج النهي لغير المنهي عنه فتباعد عن الأصل، فالأول أحسن لأنه أعدل.
5. روي عن أبي عبد الله عليه السلام: (وأنتم مسلّمون) بالتشديد، ومعناه إلا وأنتم مستسلمون لما أتى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنقادون له.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/544.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقاة: اسم للفعل، من قولك: اتقيت اتقاء، والاسم تُقًى نحو: اهتديت اهتداء، والاسم هُدًى، ثم ألحق به الهاء كما لحق بالضلالة والسفاهة، عن أبي مسلم، وتقاة أصله وقاة، وهو فُعَلَة، وأجاز الزجاج ثلاثة أوجه: تقاة، ووقاة وأُقَاة، وحمله على قياس وجوه وأوجه، وإن كان هذا المثال لم يَجِئْ شيء منه على الأصل، نحو: تقاة وتقاة، إلا أنه حمله على الأكثر ونظائره.
2. لما نهى الله تعالى المؤمن عن قبول قول الكافرين بين في هذه الآية ما يجب قبوله فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}:
أ. قيل: (أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى)، عن عبد الله والحسن وقتادة، وروي مرفوعًا.
ب. وقيل: هو اتقاء جميع معاصيه، عن أبي علي.
ج. وقيل: أن تجاهدوا في الله، ولا تأخذكم فيه لومة لائم، وتقوموا لله بالقسط على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم، عن مجاهد.
د. وقيل: كما يجب أن تتوقوه، عن أبي مسلم.
3. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ النهي وقع على الموت، وهو في الحقيقة واقع على ترك الإسلام، يعني لا تتركوا الإسلام، ودوموا عليه حتى تموتوا وأنتم مسلمون، وهذا كقولهم: لا أرينك ههنا أي لا تكن ههنا فأرينك.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: مسلمون مؤمنون.
ب. وقيل: مخلصون مفوضون أموركم إلى الله.
5. اختلف في نسخ الآية الكريمة:
أ. قيل: إنها محكمة غير منسوخة، عن ابن عباس وطاوس وأبي علي وأبي القاسم والأصم وأبي مسلم.
ب. وقيل: منسوخة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ عن قتادة والربيع وابن زيد والسدي، قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذا:
• قال أبو علي: وهذا خطأ؛ لأن من اتقى جميع المعاصي فقد اتقى الله حق تقاته، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي.
• وقال أبو القاسم: هذا القول يوجب الأمر بما لا يستطاع، وهذا فاسد، قالوا: ومتى لم يشرط الاستطاعة نطقًا فهو مشروط عقلاً؟ لاستحالة تكليف ما لا يطاق، فلا معنى لدعوى النسخ فيه.
• قال علي بن عيسى: ويجوز أن يحمل قولهم على وجوه، وهو أنهم ذهبوا إلى أنه يدخل فيه القيام بالقسط في الخوف والأمن، ويحمل المطلق على تحمل المشقة، و﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ على نفي المشقة.
• وقال بعضهم: المراد به الاتقاء المغلظ والمخفف، فنسخ المغلظ والمخفف، قال القاضي: وهذا بعيد؛ لأن الواجب عليه أن يتقي فيما أمكن، فالنسخ يدخل في الواجبات لا في التقى، وعلى أنه لا يفهم من الآيتين إلا معنى واحد، فلا معنى لادعاء النسخ.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب اتقاء جميع المعاصي.
ب. وجوب التمسك بالطاعة دائمًا إلى أن يموت.
ج. المنع من التسويف بالتوبة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/331.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقاة: من وقيت، قال الزجاج: يجوز فيه ثلاثة أوجه تقاة ووقاة وأقاة، حمله على قياس وجوه وأجوه، وإن كان هذا المثال لم يجئ منه شيء على الأصل نحو: تخمة وتكاة، غير أنه حمله على الأكثر من نظائره.
2. لما نهى تعالى عن قبول أقوال الكافرين، بين في هذه الآية ما يجب قبوله فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ معناه: اتقوا عذاب الله أي: احترسوا وامتنعوا بالطاعة من عذاب الله، كما يحق، فكما يجب أن يتقى، ينبغي أن يحترس منه.
3. في قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ وجوه:
أ. أحدهما: إن معناه أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. وثانيها: إنه اتقاء جميع معاصيه، عن أبي علي الجبائي.
ج. وثالثها: إنه المجاهدة في الله تعالى، وأن لا تأخذه فيه لومة لائم، وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن، عن مجاهد.
4. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ على قولين:
أحدهما: إنه منسوخ بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، عن قتادة والربيع والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله.
5. والاخر: إنه غير منسوخ، عن ابن عباس وطاووس.. وأنكر الجبائي نسخ الآية لما فيه من إباحة بعض المعاصي، قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه قوله {واتقوا الله حق تقاته} على أن يقوموا له بالحق في الخوف والأمن، لم يدخل عليه ما ذكره أبو علي، لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾
6. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ذكرنا في سورة البقرة أن معناه لا تتركوا الاسلام، وكونوا عليه، حتى إذا ورد عليكم الموت، صادفكم عليه، وإنما كان بلفظ النهي عن الموت، من حيث أن الموت لا بد منه، وإنما النهي في الحقيقة عن ترك الاسلام، لان لا يهلكوا بالانقطاع عن التمكن منه بالموت، إلا أنه وضع كلام موضوع كلام على جهة التصرف والابدال بحسن الاستعارة وزوال اللبس.
7. روي عن أبي عبد الله عليه السلام: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ بالتشديد، ومعناه: مستسلمون لما أتى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مقادون له.
8. ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: جملة في موضع الحال.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/804.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال عكرمة: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهم.
2. في قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل.
ب. الثاني: أن يجاهد في الله حقّ الجهاد، وأن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن معناه: اتّقوه فيما يحقّ عليكم أن تتّقوه فيه، قاله الزجّاج.
3. اختلف في نسخ الآية الكريمة على قولين:
أ. أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسّدّيّ، ومقاتل، قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقّت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾
ب. الثاني: أنها محكمة، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاووس.
ج. قال شيخنا عليّ بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أنّ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ الوقوف مع جميع ما يجب له ويستحقّه، وهذا يعجز الكلّ عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أنّ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ مفسرا لـ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لا ناسخا ولا مخصّصا.
__________
(1) زاد المسير: 1/311.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات، ومعاقد الخيرات، فأمرهم:
أ. أولًا: بتقوى الله وهو قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾
ب. وثانياً: بالاعتصام بحبل الله، وهو قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾
ج. وثالثاً: بذكر نعم الله وهو قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾
2. السبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللًا، إما بالرهبة وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع، فقوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى، ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله، ثم أردفه بالرغبة، وهي قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ فكأنه قال: خوف عقاب الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه.
3. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
أ. قال بعضهم: هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل الله تعالى بعد هذه ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ونسخت هذه الآية أولها، ولم ينسخ آخرها وهو قوله: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.. ولهم أن يقرروا قولهم من وجهين:
• الأول: أن كنه الإلهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به.
• الثاني: أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف، وقيل: إن هذا باطل، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز.
ب. زعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه:
• الأول: ما روي عن معاذ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: (هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا لا يجوز أن ينسخ.
• الثاني: أن معنى قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي كما يحق أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذا، ومعنى قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16] واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ما لا يستطاع من التقوى، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78]
• الذين قالوا: إن المراد هو (أن يطاع فلا يعصى)، فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله: (أن يشكر فلا يكفر)، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: (أن يذكر فلا ينسى)، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.
4. سؤال وإشكال: أليس أنه تعالى قال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91]؟ والجواب: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع كلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين.
5. ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى: ﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: 95] ويقال: هو الرجل حقاً، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وعن علي أنه قال: (أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت.
6. لفظ النهي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/310.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ روى البخاري عن مرة عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، وقال ابن عباس: هو ألا يعصى طرفة عين.
2. ذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يقوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن] فنسخت هذه الآية، عن قتادة والربيع وابن زيد، قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شي إلا هذه الآية.
3. قيل: إن قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بيان لهذه الآية، والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لم تنسخ، ولكن ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم، قال النحاس: وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ.
4. مضى في البقرة معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/158.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: التقوى التي تحق له، وهي: أن لا يترك العبد شيئا مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئا مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه، قال القرطبي: ذكر المفسرون: أنها لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك، فأنزل الله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فنسخت هذه الآية، روي ذلك عن قتادة، والربيع، وابن زيد، قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا، وقيل: إنّ قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ مبين بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ والمعنى: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، قال وهذا أصوب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن، فهو أولى.
2. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: لا تكونن على حال سوى حال الإسلام، فالاستثناء مفرغ، ومحل الجملة: أعني قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: النصب على الحال، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/421.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ التاء الأولى عن واو، والألف عن ياء؛ لأنَّه مِن: (وقاه يقيه)، أي: اتَّقوا عقاب الله تقاته الحقَّة، أي: الثابتة، فأضيفت الصفة للموصوف، وذُكِّر لتغليب الاسميَّة، أو لأَنَّ المراد: النوع الشديد من التقاة، والمراد: غاية ما قدَرتُم، فقاموا حتَّى تورَّمت أقدامهم، وتقرَّحت جباههم، قال ابن مسعود: (أن يطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى)، وعن ابن عبَّاس: (أن يُطاع فلا يُعصى طرفة عين) إلخ ما مرَّ، ولا طاقة للعباد بذلك، فنسخ بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ووجهه أَنَّ المعنى: ما استطعتم بلا تكلُّف.
2. المنسوخ فيه تكلُّف ممكن، لا تكليف بما لا يطاق، أمَّا إن فسَّر بما لا يطاق فلا نسلم ذلك، بل نمنع التكليف بما لا يطاق؛ لأنَّه على الفور، لا تكليف بما لا يطاق مِمَّا ليس على الفور فيختلف فيه، وأولى من ذلك أن يقال: لا نسخ بل معنى الآيتين التقوى بلا حرج، ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بيان لقوله: ﴿اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لا نسخ، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (هل تدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟)، قال: (الله ورسوله أعلم)، قال: (حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّ العباد على الله أن يدخلهم الجنَّة إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا)، ويدخل في العبادة ترك المعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى﴾ [المدثر: 56] والآيتين، وعن ابن عبَّاس: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: أن يجاهدوا في الله حقَّ جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمَّهاتهم.
3. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ اِحذروا أَن يأتيكم الموت على غير الإسلام، وذلك هو استعداد المسلم للموت والدوام عليه، لا النهي عن الموت، إذ لا طاقة على دفع الموت بأن لا يفعلوا الموت إِلَّا حال إسلامهم، ولكن عبَّر بذلك مبالغة، كما أَنَّ الموت لا بدَّ أن يأتيكم، لا بدَّ أن تستعدُّوا قبل أن يأتيكم، كما أكَّد بقوله: ﴿إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ عن [قوله:] إلَّا مسلمين.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/338.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي حق تقواه، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها، وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية: (هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)، ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعا، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال ابن كثير: والأظهر أنه موقوف ـ والله أعلم ـ، وروي عن أنس أنه قال: (لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه)، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم)، وكل ما روي، مما تشمله الآية بعمومها، فلا تنافي.
2. زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، متأولا حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه، قال: فهذا يعجز العبد عن الوفاء، فتحصيله ممتنع، وهذا الزعم لم يصب المحزّ، فإن كلّا من الآيتين سيق في معنى خاص به، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا، كما بينا، وهذا من المستطاع لكل منيب، وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق، إذ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله، وأخلص في أعماله، وكان مشفقا في طاعاته، فقد اتقى الله حق تقاته، ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي مخلصون نفوسكم لله تعالى، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ [النساء: 125]، وهو استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، أي لا تموتن على حال من الأحوال، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه، كما ينبئ عنه الجملة الاسمية، ولو قيل (إلا مسلمين) لم يفد فائدتها.
3. العامل في الحال ما قبل (إلا) بعد النقض، وظاهر النظم الكريم، وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد، هو الكون على أي حال غير حال الإسلام ـ لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ، وحيث كان الخطاب للمؤمنين، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت، وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور، فإن النهي عن المقيد في أمثاله، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد، فإن قولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك: لا تترك الخشوع في الصلاة، لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط، وذاك نهي عنه وعما يقارنه، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل، وفيه نوع تحذير عما وراء الموت، أفاده أبو السعود، وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/370.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي واجب تقواه وما يحق منها؛ كما في الكشاف، قال: مثله قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16] أي بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا.. هذا ما فسر به محمد عبده العبارتين في الآيتين بحسب ذوقه السليم وفهمه الدقيق، ثم نقل بعض ما ورد فيهما، وما قاله هو المتبادر، ومعنى العبارتين عليه واحد، ومن الناس من فهم أن الآيتين متعارضتان حتى زعموا أن الثانية نسخت الأولى، ورووا ذلك عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عنه: أن معنى ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنها لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا في صلاة الليل حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا عليهم: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فنسخت الآية الأولى، كذا في روح المعاني، وروى ابن جرير النسخ عن قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد، وروى عدم نسخها عن ابن عباس وطاوس وأن ابن عباس فسرها بأن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، أي فهي بمعنى الآيات التي تقرر هذه الأمور الثلاثة؛ وهي مما لم يقل أحد بنسخها.
2. إذا كانت الرواية بالنسخ ضعيفة بحسب الصناعة، فهي في اعتقادي موضوع من لم يفهم الآية، ولو كان معناها ما رووا عن ابن مسعود لكانت من تكليف ما لا يطاق وهو ممنوع، وبه أخذ محمد عبده في منع النسخ.
3. أما قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فمعناه على المختار عند محمد عبده: استمروا على الإسلام؛ وحافظوا على أعماله حتى الموت، فالمراد بالإسلام على هذا هو الدين: إيمانه وعمله، ووجه الاختيار أنه جاء في مقابلة قوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ وبعد الأمر بالتقوى حق التقوى، وقيل إن المراد به الإخلاص، وقيل: الإيمان دون العمل لأنه هو الذي يستمر إلى الموت.
4. هذا النهي مبني على قاعدة: أن المرء يموت غالبا على ما عاش عليه فإذا عاش على اليقين والتقوى حق التقوى والاحتراس مما ينافي الإسلام مات على ذلك بفضل الله الذي كانت تلك القاعدة من سننه في خلقه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/19.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي يجب عليكم تقواه حقا، بأن تقوموا بالواجبات، وتجتنبوا المنهيات، ونحو الآية قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي بالغوا في تقواه جهد المستطاع، وعن ابن مسعود أنه قال تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وعن ابن عباس أنه قال: هي أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
2. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت، والخلاصة ـ استمروا على الإسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت، وقد جاء هذا في مقابلة قوله: ﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 4/17.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها، واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها، وأخرجها للوجود من أجلها.. هاتان القاعدتان المتلازمتان هما: الإيمان، والأخوة.. الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة، والأخوة في الله، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر.
2. إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم، فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه: ركيزة الإيمان والتقوى أولا.. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل.. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ اتقوا الله ـ كما يحق له أن يتقى ـ وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها، وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدّت له أشواق، وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
4. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه، فمن أراد ألا يموت إلا مسلما فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلما، وأن يكون في كل لحظة مسلما، وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع: الاستسلام، الاستسلام لله، طاعة له، واتباعا لمنهجه، واحتكاما إلى كتابه، وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها، على نحو ما أسلفنا.
5. هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها، إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعا جاهليا، ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية، ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/442.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حذّر الله ـ سبحانه ـ المؤمنين، في الآيتين السابقتين (100، 101) من أن يأمنوا جانب تلك الجماعة المنحرفة من أهل الكتاب، التي تدبّر لهم الشر، وتحيك لهم الضلال، لتفسد عليهم دينهم، ولتفتنهم فيه ـ بعد هذا توجّه سبحانه بهذا النداء الكريم إلى المؤمنين في خاصة أنفسهم، ليحذرهم من العدو الخفي، بعد أن حذّرهم من العدو الظاهر، وهذا العدو الخفي، هو النفس، ونزعاتها، وأهواؤها، تلك الأهواء والنزعات التي إن تسلطت على الإنسان أفسدته وأهلكته، وكانت أشدّ وبالا عليه من أعدى أعدائه الذين يراهم رأى العين! وفي هذا النداء الكريم، يدعو الله المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يأتمروا بما أمرهم الله به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
2. فسّر بعض المفسّرين تقوى الله حق تقاته، بالتقوى التي تتناسب مع جلال الله، وكماله، وعظمته.. وهذا مقام لا يستطيعه بشر من البشر، ولا خلق من خلق الله، ولهذا رأى هؤلاء المفسرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾
3. الواقع أنه لا تعارض بين الآيتين، وإذن فلا تناسخ بينهما! ذلك أن معنى قوله تعالى ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ الاجتهاد في عبادته، وفي طاعته، على قدر ما تسع نفس الإنسان وتحتمل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.. فالتقوى على قدر الاستطاعة هي التقوى حقّ التقوى، وهى المناسبة لقدر الإنسان ولحظّه من الكمال المقدور له.. وعلى هذا، فالناس على منازلهم من تقوى الله، كل حسب وثاقة إيمانه وقوة عزيمته، لا على حسب ما لله من كمال وجلال، فذلك ما لا يبلغه إنسان.. أما ما ينبغي لله من قدر وكمال فلن يبلغ أحد ذرة منه! وحسب الإنسان لكى يكون من عباد الله، أن يؤمن بالله أولا، وأن يجتهد في عبادته وطاعته ما استطاع، وإن فاته شيء من التقوى والعبادة ـ وهذا ما لا بد أن يكون ـ فلن يفوته سلامة معتقده في الله، وإخلاصه في الإيمان بوحدانيته، ثم الموت على هذا المعتقد ـ فإن فاته ذلك فقد حبط عمله، وضلّ سعيه، وأورد نفسه موارد الهالكين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/540.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. انتقل الله تعالى من تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التّقوى، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخا لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسري إلى جميع من يكون بعدهم.
2. هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية، والتّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وحاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظّاهرة، والنّوايا الباطنة، وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16] لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتّقوى مقدورة للنّاس، وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسّرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ورووا أنّ هذه الآية لمّا نزلت قالوا: (يا رسول الله من يقوى لهذا) فنزلت قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فنسخ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقوىين، والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقّقه المحقّقون، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النّسخ على ما يشمل البيان.
3. التّقاة اسم مصدر، اتّقى وأصله وقية ثمّ وقاة ثمّ أبدلت الواو تاء تبعا لإبدالها في الافتعال إبدالا قصدوا منه الإدغام، كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28]
4. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ نهي عن أن يموتوا على حالة في الدّين إلّا على حالة الإسلام فمحطّ النّهي هو القيد: أعني المستثنى منه المحذوف والمستثنى وهو جملة الحال، لأنّها استثناء من أحوال، وهذا المركّب مستعمل في غير معناه لأنّه مستعمل في النّهي عن مفارقة الدّين بالإسلام مدّة الحياة، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم، لما شاع بين النّاس من أنّ ساعة الموت أمر غير معلوم.. فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النّهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي، لكان ترخيصا في مفارقة الإسلام إلّا عند حضور الموت، وهو معنى فاسد وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/174.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عناد بعض أهل الكتاب واستمرارهم في غيهم، وسدهم طريق الهداية في قلوبهم، وتحديهم للحق وأهله، ومعاندتهم للبينات الثابتة التي لا تقبل نكيرا، ثم مجاوزتهم الحد، ومحاولة صدهم المؤمنين عن الحق، وبث روح الفرقة والانقسام، لكى يعود أمر الجاهلية كما كان، ولكى يتفرقوا أوزاعا كما كانوا أولا، وفي هذه الآيات يبين للمؤمنين الحبل الوثيق الذي لا يضلون إذا استمسكوا به، ولا يتفرقون ما داموا آخذين بعروته الوثقى، وهو تقوى الله حق تقاته، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
2. صدّر الكلام سبحانه بهذا الموصول الذي كانت الصلة فيه الإيمان، للإشارة إلى أن المطلوب من مقتضيات الإيمان ومن نتائجه، وهو غاية الغايات فيه، والثمرة الدانية له، وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ معناه: اتقوا الله تعالى (واجب تقواه) أي اتقوا الله تعالى بالقدر الذي يجب أن يتقى به، وهو الحق الثابت المستقر الذي ينبغي أن يستمر ولا ينقطع.
3. (تقاة) مصدر على وزن فعلة كتؤدة، والواو قلبت تاء على ما هو الأصل في كلمة تقوى لأنها من الوقاية؛ وكلمة (حقّ) منصوبة على أنها مفعول مطلق مضاف إلى المصدر المشتق منه الفعل؛ ومثل هذا قولنا ولكلام الله المثل الأعلى: أكرم فلانا حقّ الإكرام، أو أدب ولدك حق التأديب.
4. إضافة تقاة إلى الله تعالى في قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ تفيد علو الواجب المطلوب له سبحانه وتعالى من التقوى، فالمطلوب هو التقوى الواجبة التي تليق بذي الجلال والإكرام الواحد القهار، والمالك لكل شيء، القاهر فوق عباده، الغالب على كل أمر، ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: (﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب، واجتناب المحارم، ونحوه ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن] يريد بالغوا في تقوى الله حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا)، وهذا معنى مستقيم، وتخريج قويم، ويكون المعنى في الآيتين متلاقيا؛ إذ يكون معنى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ اتقوه بأقصى الاستطاعة في التقوى، فبذل المستطاع منه هو عين التقوى، وهو أقصى غاياتها.
5. زعم بعض المفسرين أن الصحابة عندما نزل قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ شكوا إلى رسول الله مشقة ذلك عليهم، فنزل قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن] واعتبروا هذه الآية ناسخة للسابقة، وفي الحق، إن دعوى النسخ باطلة، فإنه إذا صحت الرواية، فإن المناسب لمعناها أن نقول: إن القوم لقوة إحساسهم الديني لم يرفقوا، بل اشتدوا على أنفسهم في العمل، فقاموا في صلاة الليل حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباهم، كما ورد عن سعيد بن جبير، فبين الله سبحانه وتعالى المقدار الذي كلفوه، وهو الاستطاعة الدائمة، فهم لا يكلفون إلا المستطاع الذي لا يشق أداؤه، وهذا هو المعنى الذي يتفق مع الحقائق الإسلامية والسنن المروية الثابتة، فإنه يروى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى عابدا يعبد الله حتى أرهق نفسه وغارت عيناه، فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إنّ المنبتّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى)
6. أفضل التقوى في الإسلام ما يدوم، وما يمكن أن يستمر الشخص عليه من غير إجهاد ومشقة، ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قل)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله يجب الديمة من الأفعال)، وذلك لا يكون إلا في دائرة المستطاع، وقد جمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم معنى تقوى الله حق تقاته في قوله: (حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)
7. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ النهى ليس منصبا على الموت، وإنه بضم النهى إلى الاستثناء يكون المطلوب أمرا إيجابيا، وهو ما بعد أداة الاستثناء، فيكون المعنى الجملي كونوا على حال الإسلام المستمرة إلى الموت؛ إذ كل كلام مشتمل على استثناء هو في معناه تكلم بالباقي بعد أداة الاستثناء؛ فإذا قال قائل: لا تكرم إلا محمدا، فمعنى القول أكرم محمدا وحده؛ لأن معنى الاستثناء نفى وإثبات، فهو يتضمن النفي لما عدا ما بعد إلا، والإثبات لما بعد إلا، وقد يكون العكس ويكون موضع النهى هنا هو النهى عما يمنع استمرار الإسلام إلى الوفاة ولقاء الرب تعالت قدرته، وعظمت نعمته، فهو أمر لهم بأن يقصروا أنفسهم على حال الإسلام وحده إلى أن يتوفاهم الله سبحانه وتعالى.
8. معنى الإسلام هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وحده، والإذعان له تبارك وتعالى، وألا يستمعوا إلا إليه، وأن يصموا آذانهم عن كل دعوة تخالف ما يأمر به وما ينهى عنه؛ فذلك هو الإسلام المطلوب ممن تشرفوا بذلك النعت الكريم، وهو ما قد بيّنّاه من قبل عند الكلام في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران] وقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة] وإطلاق الإسلام بمعنى الإذعان الظاهري لا يكون في القرآن إلا بقرينة، ويعبر عنه في مقابل الإيمان، وبالفعل لا بالوصف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات]
9. الخلاصة أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن يستمروا على إذعانهم للحق الذي يدعوهم إليه، ويمنعوا أن يدخل الانحراف إلى قلوبهم، فلا يجيبوا داعى اليهود وأشباههم الذين يريدون أن يصدوهم عن دينهم حسدا من عند أنفسهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1336.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كل من فعل الواجبات، وتجنب المحرمات فقد اتقى الله حق تقاته.. وعليه يكون معنى الآية مرادفا لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، لأن ما لا يستطاع لا يتناوله التكليف، وكل ما لا يمكن التكليف به فهو أجنبي عن التقوى.
2. ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ نهي عن ترك الإسلام، وأمر بالثبات عليه، حتى الموت.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/123.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا وتحرزا من عذابه كما قال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، والانتهاء عن نواهيه، والشكر لنعمه، والصبر عند بلائه، ويرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.
3. لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة وهي الطاعة من غير معصية، والشكر من غير كفر، والذكر من غير نسيان، وهو الإسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته، وعلى هذا يرجع معنى قوله: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ إلى نحو قولنا: ودوموا على هذه الحال (حق التقوى) حتى تموتوا.
4. هذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب، فقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه، وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون، ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس، فيكون محصل الآيتين: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا، وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة، وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.
5. ومنه يظهر: أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، ولا أن الآية الأولى أعني قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ الآية، أريد بها عين ما أريد من قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ الآية، بل الآية الأولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.
6. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ الموت من الأمور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمرا ونهيا تكوينيين كقوله: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾، وقوله: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافا إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وغير ذلك، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلا يعد أمرا اختياريا فيؤمر به وينهى عنه أمرا ونهيا مولويين، وبالجملة النهي عن الموت إلا مع الإسلام إنما هو لمكان عده اختياريا ويرجع بالأخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميت مات في حال الإسلام.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/367.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ كما ينبغي أن تتقوه لأن بطشه شديد وهو على كل شيء شهيد، فنحتاج إلى الحذر الكامل من عذابه والمراقبة له الكاملة والزهد في لذات الدنيا وأغراضها لنستطيع الورع الكامل من المحرمات؛ لأن من قويت رغبته في الدنيا وطال أمله في الحياة قد لا يتورع تسويفاً للتوبة، وإن تورع عن الحرام الواضح فقد لا يقف عند الشبهة لغلبة الشهوة، وكذلك نحتاج إلى الإعتصام بالله والعمل بأسباب التوفيق كما مر.
2. قيل: إن معنى (تقوى الله حق تقاته): أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ولكن الله تعالى يقول في (صفة المتقين): ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فمن تاب ولم يصر فهو متق، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222] فالمتقي التواب الذي لا يصر، والمتطهر: الذي لا يعصي، أو الذي يتطهر من النجاسات.
3. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أمر بأن نكون مسلمين حال الموت؛ لأن الحكم للخاتمة، فمن لم تكن خاتمته الإسلام لم ينفعه إسلامه قبل فلا بد من استمرار الإسلام إلى الموت.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/509.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لمّا كانت المواقف المضادة للإسلام والمسلمين التي يقفها أهل الكتاب من اليهود ومن غيرهم، في إضلالهم عن دينهم الحق، تتحرك في حالات الضعف الداخلي، والوهن الروحي، والغفلة عن الله، مما يجعلهم يندفعون للسير في المخططات الخبيثة التي ترسم لهم لإبعادهم عن الإسلام، جاءت هذه الآية لتدلهم على السبيل الذي يمكنهم من خلاله أن يحصلوا على قوّة الموقف في العقيدة والإصرار على سلامة الخطّ، وذلك بالدعوة إلى أن يتقوا الله حقّ تقاته، في ما توحيه هذه الكلمة من الانضباط الواعي أمام خط الله في ما يأمر به وما ينهى عنه في حالات الاهتزاز النفسي أمام الشهوات، والضعف الروحي أمام التحديات، والارتباك الفكري أمام الشبهات.
2. أمّا كيف يتقي الإنسان الله حق تقاته؟ فقد جاء تفسيره في حديث الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في ما رواه عنه أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قال: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ورواه في الدر المنثور عن ابن مسعود، مسندا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم
3. هذا المعنى هو التعبير الحركي للحضور الدائم لله في وعي الإنسان، بحيث لا يغيب عن خاطره في كل شيء يحيط به، وفي كل وجه يتوجه إليه.. ونستوحي من ذلك أن التقوى حق التقوى هي السير على خط العبودية التي تعيش الحضور الدائم لله في الفكر والحركة والشعور، لأنها تنطلق في الحياة على أساس ما تمثله من ارتباطها بالله، فلا شيء فيها إلا وهو مظهر من مظاهر قدرته، ودليل واضح على وجوده، ولطف من ألطاف نعمته، فإذا عاش الإنسان ذلك في نفسه، كانت الطاعة حركة حياته تبعا للشعور العميق بالعبوديّة، وكان الوعي لوجود الله شعوره الدائم انطلاقا من وضوح الرؤية في وجدانه، وكان الإحساس بالنعمة سبيلا روحيا للشعور بالحاجة إلى شكره من خلال ما توحيه الإنسانية المنفتحة على الله بالاعتراف الجميل بالنعمة.
4. وهذا هو الخط الواعي للتقوى الذي يمكن أن يكلّف به الإنسان من خلال قدراته المحدودة، التي لا تستطيع أن تدرك سرّ الله في عمقه وامتداده، لترتفع إلى المستوى الأعلى من معرفته.. وهذا هو التكليف الذي تنوعت الآيات القرآنية في التأكيد عليه من خلال ما جاء من آيات قرآنية تتحدث عن إطاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن ذكر الله في جميع الحالات، وعن استحضار نعم الله في نفس الإنسان وشكره عليها بالعمل فيها بما يرضيه والابتعاد بها عما يسخطه.
5. قد يجد الإنسان في بعض الكلمات المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، وهو الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، حيث يروى عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن قول الله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾؟ قال منسوخة، قلت: وما نسختها؟ قال قول الله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.. قد يجد البعض في مثل هذه الرواية دلالة على أنّ هناك تنافيا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، في اعتبار الآية الثانية ناسخة للأولى، ولكننا، مع التحفظ في سند الرواية، نشعر أن النسخ هنا لا يراد به ظاهره من تبديل المفهوم إلى مفهوم آخر، لأن الآية الأولى تتحدث عن حدود التقوى التي تدفع الإنسان إلى تحويل التقوى إلى موقف عملي في الحياة، بينما تتحدث الآية الثانية عن الدعوة إلى مواجهتها من موقع القدرة في كل مراحلها التصاعدية، وهذا ما يجعل كل واحدة تتخذ لنفسها مسارا غير ما تتخذه الثانية.
6. قد لا نستطيع ـ في هذا المجال ـ أن نفهم القضية كما فهمها صاحب تفسير الميزان من أن حق التقوى (ليس في وسع كثير من الناس، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون، ودقائق ولطائف لا ينتبه لها إلا المخلصون)، أما اتقاء الله في حدود الاستطاعة، فإنها تختلف ـ عنده ـ باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم، إننا لا نفهم منها هذا الفهم، بل كل ما في الأمر أن هناك اتجاها في الدعوة إلى التقوى من خلال طبيعتها، واتجاها إلى الدعوة إليها من خلال القدرات التي نملكها كقضية التحرك، فهما بمثابة الآيتين اللتين تكلم إحداهما الأخرى بحسب المعنى الذي استوحيناه، ولا يظهر منها إرادة الحد الأقصى من التقوى، أما الرواية التي أشرنا إليها فقد يمكن توجيهها بأن الآية الأولى قد توحي بما يقرب من الجوّ الأعلى للتقوى، وذلك من خلال الاستغراق في كلمة: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ التي قد تعطي الانطباع بما ينبغي لله من التقوى، فكانت الآية الثانية مفسرة لذلك بأن القضية لا تتجاوز القدرة البشرية لكل إنسان بحسب ظروفه وأوضاعه.
7. أمّا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فقد تكون نتيجة طبيعية للسير على خط التقوى في الحياة، لأن ذلك هو الذي يعمّق وعي الإنسان للإسلام في الداخل، ويركّز خطواته على الصراط المستقيم، فلا يبقى في حياته اهتزاز أو ارتباك يبتعد به عن الإسلام، لأنه لا يمثل في حياته كلمة تقال وتقليدا يتجمد، بل يمثل الفكر والعاطفة والحركة التي تجعل من الإسلام طابعا للحياة ومعنى يتحرك في أعماق الإنسان من خلالها في امتداد وشمول يختم حياته كما بدأها حيث يلاقي ربّه بإسلام الوجه والقلب واللسان.. إنها الدعوة إلى أن لا تكون التقوى مزاجا طارئا يمر بالحياة مرورا خفيفا، بل تكون قاعدة ثابتة للفكر والحياة لتمثل خط البداية والمسار والنهاية.. وهذا هو ما نستوحيه من هذا النداء الإلهي الذي يحس الإنسان فيه بمعنى الرحمة الذي يمتزج بأسلوب التوجيه والدعوة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/186.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت بين (الأوس) و(الخزرج) القبيلتين الكبيرتين القاطنتين في يثرب حروب طويلة دامية ومنازعات استمرت ما يقرب من مائة عام، وكانت المعارك والمناوشات تنشب بينهم بين فترة وأخرى وتكلف الجانبين خسائر جسمية في الأموال والأرواح.. كلّ ذلك كان أيّام الجاهلية قبل بزوغ الإسلام وطلوع شمسه على تلك الربوع.. وقد كان ممّا وفق له الرسول ونجح فيه أكبر نجاح ـ بعد هجرته إلى المدينة (يثرب) ـ هو تمكنه من وضع حد لتلك المعارك والمناوشات وتلك المذابح والمجازر، وإقرار الإخاء مكان العداء وإحلال السلام محل الحروب، وتشكيل جبهة متحدة متراصة الصفوف، قوية البنيان والأركان في المدينة المنورة.
2. لكن حيث أن جذور النزاع كانت قوية وعديدة جدا، كان ذلك الاتحاد يتعرض أحيانا لبعض الهزات بسبب بعض الاختلافات المنسية التي كانت تطفو على السطح أحيانا فتشتعل نيران النزاع بعد غياب، ولكن سرعان ما كانت تختفي مرّة أخرى بفضل تعليمات النبي العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، وتدبيره.
3. قد لاحظنا في الآيات السابقة نموذجا من تلك الاختلافات المتجددة التي كانت تبرز على أثر التحريكات التي كان يقوم بها الأعداء الأذكياء، ولكن هذه الآيات تشير إلى نوع آخر من الاختلافات التي كان يسببها الأصدقاء الجاهلون، والعصبيات العمياء والحمقاء، يقال: افتخر رجلان من الأوس والخزرج هما ثعلبة بن غنم وأسعد بن زرارة، فقال ثعلبة: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي رضي الله بحكمه في بني قريظة، وقال أسعد: منا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم.. فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فركب حمارا وأتاهم، فأنزل الله هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.
4. في الآية الأولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للاتحاد والتآخي، وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الاتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة، ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى، ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
5. وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ولكن ممّا لا شكّ فيه أن (حق التقوى) يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كلّ إثم ومعصية، وكلّ تجاوز وعدوان، وانحراف عن الحقّ، ولذا نقل عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في تفسير الدرّ المنثور، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبار ـ في تفسير قوله: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أنهما قالا: (أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر)
6. من البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية، يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حقّ التقوى وأسمى درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأخرى ممّا لا أساس له مطلقا، ولا داعي له أبدا.
7. على أنه ليس من شكّ في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصا ـ في الحقيقة ـ لمفاد الآية الأولى وتقييدا بالاستطاعة والقدرة، وحيث أن لفظة النسخ كانت ـ عند القدماء ـ تطلق على التخصيص، لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل بأن الآية الثانية ناسخة للأولى هو كونها مخصصة للأولى لا غير.
8. ثمّ إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى انتهت الآية بما يعتبر تحذيرا ـ في حقيقته ـ للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم، تحذيرا مفاده: أن مجرد اعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي، إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته، فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو بالانسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء، والضغائن المندثرة فتكون عاقبته الخسران، وضياع كلّ شيء ولهذا قال سبحانه ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/618.
53. الاعتصام وحبل الله والأخوة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈53⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ حبل الله: القرآن(1).
2. روي أنّه قال: إن هذا الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون ـ يا عبد الله ـ هلم هذا هو الطريق؛ ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله: القرآن(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾، قال حبل الله: الجماعة(3).. والمراد بالجماعة هنا ما اجتمعت عليه الأمة، لا طائفة بعينها.
4. روي أنّه خطب فقال: أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة؛ فإنهما حبل الله الذي أمر به(4).. والمراد بالجماعة هنا ما اجتمعت عليه الأمة، لا طائفة بعينها.
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥١٩.
(2) ابن الضريس في فضائل القرآن: ٧٤.
(3) سعيد بن منصور: ٥٢٠.
(4) ابن جرير: ٥/٦٤٨.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في وصيّته لأهله: وواخ الإخوان في الله، وأحبّ الصالح لصلاحه(1).
2. روي أنّه قال: ما أحدث الله إخاء بين مؤمنين إلّا أحدث لكلّ منهما درجة(2).
3. روي أنّه قال: من آخى في الله غنم(3).
4. روي أنّه قال: من آخى في الدنيا للدنيا حرم(3).
5. روي أنّه قال: من كانت صحبته في الله كانت صحبته كريمة، ومودّته مستقيمة(3).
6. روي أنّه قال: الإخوان صنفان: إخوان الثقة وإخوان المكاشرة، فأمّا إخوان الثقة فهم الكفّ والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حدّ الثقة فابذل له مالك وبدنك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سرّه وعيبه، وأظهر منه الحسن واعلم أيّها السائل أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر، وأمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب لذتك منهم، فلا تقطعن ذلك منهم، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان(4).
7. روي أنّه قال: أخوك في الله من هداك إلى الرشاد، ونهاك عن الفساد، وأعانك على إصلاح المعاد(5).
8. روي أنّه قال: أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم(6).
9. روي أنّه قال: عليكم بالإخوان، فإنهم عدّة في الدنيا والآخرة، ألا تسمعون إلى قوله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: 100 ـ 101](7).
10. روي أنّه قال: تكثّر من الإخوان ما استطعت فإنّهم عماد إذا استنجدتهم وظهور، وليس كثيرا ألف خل وصاحب، وإنّ عدوّا واحدا لكثير(8).
11. روي أنّه قال: الأخ المكتسب في الله أقرب الأقرباء، وأحمّ من الأمّهات والآباء(3).
12. روي أنّه قال: بالتآخي في الله تثمر الأخوة(3).
13. روي أنّه قال: خير الإخوان من كانت في الله مودّته(3).
14. روي أنّه قال: على التآخي في الله تخلص المحبّة(3).
15. روي أنّه قال: ما تآخى قوم على غير ذات الله سبحانه إلّا كانت أخوّتهم ترة عليهم يوم العرض على الله سبحانه(3).
16. روي أنّه قال: واصلوا من تواصلونه في الله، واهجروا من تهجرونه في الله سبحانه(3).
17. روي أنّه قال: الإخوان في الله تعالى تدوم مودّتهم لدوام سببها(3).
18. روي أنّه قال: تبتنى الأخوّة في الله على التناصح في الله، والتباذل في الله، والتعاون على طاعة الله، والتناهي عن معاصي الله، والتناصر في الله، وإخلاص المحبّة(3).
__________
(1) أمالي الطوسي 1/7.
(2) عدّة الداعي: ص189.
(3) غرر الحكم: ص423.
(4) اصول الكافي: 3/347.
(5) غرر الحكم: ص422.
(6) نهج البلاغة: ص1093 حكمة: 11.
(7) المستدرك 2/62 عن: لبّ اللباب.
(8) أمالي الصدوق: ص669.
الحسن:
روي عن الإمام الحسن (ت 50 هـ) أنّه قال يوصي بعض أصحابه في مرضه الّذي توفي فيه: اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا.. وإذا أردت عزّا بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمّات به واساك(1).
__________
(1) كفاية الأثر: 227.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) أنّه قال: الإخوان أربعة: فأخ لك وله، وأخ لك، وأخ عليك، وأخ لا لك ولا له، فسئل عن معنى ذلك، فقال: الأخ الّذي هو لك وله فهو الأخ الّذي يطلب بإخائه بقاء الإخاء ولا يطلب بإخائه موت الإخاء، فهذا لك وله؛ لأنّه إذا تم الإخاء طابت حياتهما جميعا، وإذا دخل الإخاء في حال التناقض بطل جميعا، والأخ الذي هو لك فهو الأخ الّذي قد خرج بنفسه عن حال الطمع إلى حال الرغبة، فلم يطمع في الدنيا إذا رغب في الإخاء، فهذا موفر عليك بكلّيته، والأخ الّذي هو عليك فهو الأخ الّذي يتربّص بك الدوائر، ويغشي السرائر، ويكذب عليك بين العشائر، وينظر في وجهك نظر الحاسد، فعليه لعنة الواحد، والأخ الّذي لا لك ولا له فهو الّذي قد ملأه الله حمقا فأبعده سحقا، فتراه يؤثر نفسه عليك ويطلب شحا ما لديك(1).
__________
(1) تحف العقول: ص247.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن سماك بن الوليد الحنفي، أنه لقي ابن عباس، فقال: ما تقول في سلطان علينا يظلموننا، ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟ قال لا، أعطهم، الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها، أما سمعت قول الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾(1).
2. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، قال أنقذكم الله بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت عباس بن مرداس السلمي وهو يقول(2):
çيكب على شفا الأذقان كبا... كما زلق التختم عن خفافé
3. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ أنقذنا منها، فأرجو أن لا يعيدنا فيها(3).
4. روي أن أعرابيا سمعه وهو يقرأ هذه الآية، فقال: والله، ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس أنّه قال: خذوها من غير فقيه(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٤/٧٢٤.
(2) مسائل نافع بن الأزرق: ص١٩٧.
(3) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
(4) تفسير الثعلبي: ٣/١٢١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ بالإخلاص لله وحده(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ لا تعادوا عليه ـ على الإخلاص ـ وكونوا عليه إخوانا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٦.
(2) ابن جرير: ٥/٦٤٧.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (وأمّا حقّ الصاحب فأن تصحبه بالتفضل والإنصاف وتكرمه كما يكرمك، ولا تدعه يسبق إلى مكرمة فإن سبق كافيته وتودّه كما يودّك وتزجره عمّا يهمّ به من معصية وكن عليه رحمة ولا تكن عليه عذابا ولا قوّة إلّا بالله(1).
2. روي أنّه قال: (وأمّا حقّ أخيك فأن تعلم أنّه يدك وعزّك وقوّتك فلا تتخذه سلاحا على معصية الله، ولا عدّة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوّه والنصيحة له فإن أطاع الله وإلّا فليكن الله أكرم عليك منه ولا قوّة إلّا بالله(1).
3. روي أنّه قال: (إذا جمع الله عزّ وجلّ الأوّلين والآخرين قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول: أين المتحابّون في الله؟ فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب، فيقولون: فأيّ ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون نحن المتحابّون في الله، فيقولون: وأيّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله، فيقولون: نعم أجر العاملين(2).
4. روي أنّه قال: لبنيه: (جالسوا أهل الدّين والمعرفة فإن لم تقدروا عليهم فالوحدة آنس وأسلم، فإن أبيتم إلّا مجالسة الناس فجالسوا أهل المروءات فإنّهم لا يرفثون في مجالسهم(3).
5. روي أنّه قال: في دعائه في المعونة على قضاء الله: (اللهمّ حبّب إليّ صحبة الفقراء(4).
6. روي أنّه قال: (إيّاكم وصحبة العاصين ومجاورة الفاسقين(5).
7. روي أنّه قال: يوصي بعض أهله: (يا بنيّ انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويباعد لك القريب، وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بائعك بأكلة أو أقلّ من ذلك، وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعونا في كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاثة مواضع: قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22 ـ 23]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25] وقال في البقرة: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 27](6).
8. روي أنّه قال: يوصي بعض أهله: (إيّاك يا بنيّ أن تصاحب الأحمق أو تخالطه واهجره ولا تحادثه، فإنّ الأحمق هجنة عياب غائبا كان أو حاضرا، إن تكلّم فضحه حمقه، وإن سكت قصر به عيّه، وإن عمل أفسد، وإن استرعى أضاع، لا علمه من نفسه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تودّ أمّه أنّها ثكلته وامرأته أنّها فقدته(7).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 2/376.
(2) أصول الكافي: 2/126.
(3) رجال الكشي: 497 رقم: 955.
(4) الصحيفة السجاديّة: 340.
(5) روضة الكافي: 1 ص20.
(6) أصول الكافي: 2/376.
(7) أمالي الطوسي: 2/226.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿لَكُمْ آيَاتِهِ﴾، يعني: ما بين في هذه الآية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ القرآن(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿بِحَبْلِ اللهِ﴾ بعهد الله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٥.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: لقي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفرا من الأنصار، فآمنوا به، وصدقوا، وأراد أن يذهب معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن بين قومنا حربا، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد، فواعدوه العام المقبل، فقالوا: نذهب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلح ـ وهي يوم بعاث ـ، فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا به، فأخذ منهم النقباء اثني عشر رجلا، فذلك حين يقول: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٤٠٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ بطاعته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٤.
عون:
روي عن عون بن عبد الله (ت 113 هـ) أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ إني لأرجو أن لا يعيدكم الله فيها بعد أن أنقذكم منها(1).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ إن الله تبارك وتعالى علم أنهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون، فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمد (عليهم الصلاة والسلام)، ولا يتفرقوا(1).
2. روي أنّه قال: من استفاد أخا في الله على إيمان باللّه ووفاء بإخائه طلبا لمرضاة الله فقد استفاد شعاعا من نور الله، وأمانا من عذاب الله، وحجّة يفلج بها يوم القيامة، وعزا باقيا، وذكرا ناميا(2).
3. روي أنّه قال لبعض أصحابه: (أرأيت فيمن قبلكم إذا كان الرجل ليس عنده رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء أيطرحه عليه حتّى يصيب رداء؟)، قال لا، قال (فإذا كان ليس له إزار أيرسل إليه بعض إخوانه بإزار حتّى يصيب إزارا؟)، قال لا، فضرب يده على فخذه، ثمّ قال: ما هؤلاء بإخوان(3).
4. روي أنّه قال: (أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟)، قيل له: ما نعرف ذلك فينا، فقال: (فلا شيء إذا)، قيل: فالهلاك إذا، فقال: إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد(4).
5. روي أنّه قال: أحبب أخاك المسلم، وأحبب له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك إذا احتجت فسله وإذا سألك فأعطه ولا تدخر عنه خيرا فإنّه لا يدخره عنك كن له ظهرا، فإنّه لك ظهر إن غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فزره وأجله وأكرمه، فإنّه منك وأنت منه، وإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتّى تسلّ سخيمته وما في نفسه وإذا أصابه خير فاحمد الله عليه، وإن ابتلي فاعضده وتمحل له(5).
6. روي أنّه قال: ما يعبأ من يسلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصحبة لمن صحبه(6).
7. روي أنّه قال: لا تقارن ولا تؤاخي أربعة: الأحمق، والبخيل، والجبان، والكذّاب، أمّا الأحمق فيريد أن ينفعك فيضرّك، وأمّا البخيل فإنّه يأخذ منك ولا يعطيك، وأمّا الجبان فإنّه يهرب عنك وعن والديه، وأمّا الكذّاب فإنّه يصدق ولا يصدق(7).
8. روي أنّه قال: قال لقمان لابنه: يا بنيّ لا تقترب فتكون أبعد لك ولا تبعد فتهان.. وكما ليس بين الذئب والكبش خلّة كذلك ليس بين البارّ والفاجر خلّة، من يقترب من الزفت يعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلّم من طرقه، من يحبّ المراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتّهم، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم، ومن لا يملك لسانه يندم(8).
__________
(1) تفسير القمّي: 1/108.
(2) تحف العقول: ص295.
(3) المؤمن: 45.
(4) أصول الكافي: 2/173.
(5) أمالي صدوق: 265.
(6) الكافي: 4/286.
(7) الخصال: 1/244.
(8) أصول الكافي: 2/641.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ بعهد الله وبأمره(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ إن الله تعالى قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾: إذ كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب، ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (والذي نفس محمد بيده، لا يتواد رجلان في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب يحدثه أحدهما، وإن أردأهما المحدث(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكوفين على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم، لا والله، ما في بلادهم يومئذ شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله، ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا أصغر فيها خطرا، وأرق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله بالإسلام؛ فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به الرزق، وجعلكم ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم؛ فاشكروا نعمة الله، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله ـ تبارك وتعالى ـ(5).
6. روي أنّه قال: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، ذكر لنا: أن رجلا قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال أصبحنا بنعمة الله إخوانا(6).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٤.
(3) ابن جرير: ٥/٦١٩.
(4) ابن المنذر: ٧٧٩.
(5) ابن المنذر: ١/٣٢٣.
(6) ابن جرير: ٥/٦٥٧.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: {اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} فالاعتصام: التمسّك به والحبل: القرآن.. والحبل: الجماعة(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ كنتم على طرف النار، من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم فاستنقذكم به من تلك الحفرة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٥٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾: يقتل بعضكم بعضا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ كنتم على الكفر بالله، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ من ذلك، وهداكم إلى الإسلام(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٥٠.
(2) ابن جرير: ٥/٦٥٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الصداقة محدودة، فمن لم يكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال، أوّلها: أن يكون سريرته وعلانيته واحدة، والثانية: أن يريك زينك زينه وشينك شينه الثالث: لا يغيّره مال ولا ولد، والرابعة: أن لا يمسك شيئا ممّا تصل إليه مقدرته، والخامسة: لا يسلمك عن النكبات(1).
2. روي أنّه قال: المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وأنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالا بروح الله من اتّصال شعاع الشمس بها، ودليله: لا يحزنه، ولا يظلمه، ولا يغتابه، ولا يعده عدة فيخلفه(2).
3. روي أنّه قال: (المؤمنون خدم بعضهم لبعض)، قيل: وكيف يكون خدما بعضهم لبعض؟ قال (يفيد بعضهم بعضا(2).
4. روي أنّه قال: من استفاد أخا في الله بنى الله له بيتا في الجنّة(3).
__________
(1) مصادقة الإخوان: ص30.
(2) مصادقة الإخوان: ص48.
(3) المستدرك 2/98.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ اعتصموا بأمر الله وطاعته جميعا، ولا تفرقوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ في الجاهلية، ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ في الإسلام، ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ﴾ برحمته، يعني: بالإسلام: ﴿إِخْوَانًا﴾ والمؤمنون إخوة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ كنتم مشركين في جاهليتكم، الميت في النار، والحي على شفا حفرة من النار، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾ الله من الشرك إلى الإيمان(3).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣١٩.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٥ عدا قوله: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ في الإسلام، فقد، وابن المنذر: ١/٣٢١.
(3) ابن المنذر: ١/٣٢١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ يعني: بدين الله ﴿جَمِيعًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، يعني: ولا تختلفوا في الدين كما اختلف أهل الكتاب(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ الإسلام، ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ في الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ يعني: برحمته إخوانا في الإسلام(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ يقول للمشركين: الميت منكم في النار، والحي منكم على حرف النار، إن مات دخل النار، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ يعني: من الشرك إلى الإيمان(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾، قال ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٥.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام، فأطفأ الله ذلك، وألف بينهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٥١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾ الإسلام(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٤٦.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن عبد المؤمن الأنصاري قال: دخلت على الإمام الكاظم، وعنده محمّد بن عبد الله الجعفري فتبسّمت إليه، فقال: أتحبّه؟ فقلت: نعم وما أحببته إلّا لكم، فقال: هو أخوك والمؤمن أخ المؤمن لأبيه وأمّه(1).
2. روي أنّه قال: إنّ من واجب حقّ أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك، ولا تخلّ بينه وبين عدوّه من الناس، وإن كان أقرب إليه منك وعده في مرضه(2).
__________
(1) عدّة الداعي: 187.
(2) روضة الكافي: 124.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اعلم يرحمك الله أن حق الإخوان فرض لازم أن تفدوهم بأنفسكم، وأسماعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم، وجميع جوارحكم، وهم حصونكم التي تلجؤون إليها في الشدائد، في الدنيا والآخرة.. لا تباطئوهم، ولا تخالفوهم، ولا تغتابوهم، ولا تدعوا نصرتهم ولا معاونتهم، وابذلوا النفوس والأموال دونهم، والإقبال على الله جلّ وعزّ بالدعاء لهم، ومواساتهم ومساواتهم في كلّ ما يجوز فيه المساواة والمواساة، ونصرتهم ـ ظالمين ومظلومين ـ بالدفع عنهم(1).
2. روي أنّه سئل عن الرجل يصبح مغموما لا يدري سبب غمه، فقال: إذا أصابه ذلك فليعلم أن أخاه مغموم، وكذلك إذا أصبح فرحان لغير سبب يوجب الفرح، فبالله نستعين على حقوق الإخوان.. والأخ الّذي تجب له هذه الحقوق الّذي لا فرق بينك وبينه في جملة الدين وتفصيله، ثمّ ما يجب له بالحقوق على حسب قرب ما بين الإخوان وبعده بحسب ذلك(1).
__________
(1) فقه الإمام الرضا: ص335.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾:
أ. قيل: حبل الله؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود .. وروي عن علي بن أبي طالب قال (دعاني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة ثلاث مرات، ثم قال (يكون في أمّتى اختلاف)، قلت: كيف نصنع يا رسول الله إذا كان كذلك؟ قال (عليكم بكتاب الله؛ فإنّ فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وهو حكم فيما بينكم، من يدعه من جبّار يقصمه الله، ومن طلب الهدى في غيره يضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وأمره الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، وهو الّذي لا تختلف فيه الألسنة، ولا يخلقه كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه)
ب. وعن ابن عباس قال: (حبل الله: الجماعة، وإنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها)، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153] وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق، وعن ابن مسعود أيضا ـ قال حبل الله: الجماعة، وروي في بعض الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) يعني: حبل الإسلام، وروي عنه ـ أيضا ـ قال: (إنّ الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشّاذّة والقاصية والنّاحية، فإيّاكم والشّعاب، وعليكم بالجماعة والعامّة وهذا المسجد)
ج. وقيل: حبل الله: دين الله.
2. الحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسّك بالعهود التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهي عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾:
قيل: بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام.
وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدّين نفسه، ولكن بلطف من الله منّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني.
4. على قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: ليس من الله على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق ـ عندهم ـ هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم ـ لا يكون من الله على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلا، إنما ذلك من الخلق، وأمّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه.
5. ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ أي: صرتم بنعمته إخوانا، ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه منّ بالإسلام، ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ [التكاثر: 6] ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [آل عمران: 106] ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها.
6. ﴿حُفْرَةٍ﴾ كأنه قال كنتم على شفا درك من دركات النار، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، وهذا ـ أيضا ـ على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينقذون أنفسهم، لا الله، على ما ذكرنا.. وإذا كان الله تعالى عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الدّين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمنّ عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أولئك تألفوا بنعمتهم، وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت دينا، فما الذي كان منه حتى يمنّ، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه!؟ والله أعلم.
7. في قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾ الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا.
8. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخوانا في الإسلام؛ كلمتكم واحدة، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لكي تعرفوا نعمته ومنته.
9. قد يكون: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة.
10. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ لأن التفرق هو سبيل الشيطان بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]
11. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: البينات: هي الحجج التي أتى بها.
ب. ويحتمل: بيان ما في كتابهم من صفة رسولنا.
ج. ويحتمل: تفرقوا عما نهج لهم الله، وأوضح لهم الرسل؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء، فحذرنا ذلك، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله الله حجة له، ودليلا عليه، وداعيا إليه، ولا قوة إلا بالله.
12. ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ دلّ هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/445.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ أي وامتنعوا بدين الله بجميعكم، ولا تختلفوا ولا تفرقوا في دينكم.
2. معنى قوله: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾: أي وكنتم على جانب حفرة من النار قد أشرفتم على الهلاك فنجاكم منها، وشفا الموضع: هو شُرْفُه المطل عليه، ويقال أشفا على الموت إذا أشرف على التلف.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ وحبل الله تعالى هو كتاب الله عز وجل وعترة الرسول الهداة الذين أمر الله الخلق باتباعهم لأن الكتاب والعترة هو السبب الذي بين الله وبين الخلق إنما سميا حبلاً لأن المتمسك بهما ينجو مثل متمسك الحبل من بئر أو غيرها.
2. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم فلا يتخلفوا عن دين الله ونصرته.
3. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} وهذا خطاب توجه إلى مشركي العرب لما كان بينهم من الغوائل، وقيل إنها نزلت في الأوس والخزرج لما كانت بينهم من الحروب في الجاهلية حتى تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله قلوبهم بالإسلام فزالت تلك الأحقاد.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ خمسة تأويلات:
أ. أحدها: الحبل: كتاب الله تعالى، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والسدي، روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السّماء إلى الأرض)
ب. الثاني: أنه دين الله وهو الإسلام، وهذا قول ابن زيد.
ج. الثالث: أنه عهد الله، وهو قول عطاء.
د. الرابع: هو الإخلاص لله بالتوحيد، وهو قول أبي العالية.
هـ. الخامس: هو الجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود.
2. سمّي ذلك حبلا لأن الممسك به ينجو مثل المتمسك بالحبل ينجو من بئر أو غيرها.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة، وهذا قول ابن مسعود، وقتادة.
ب. الثاني: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. فيمن أريد بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم مشركو العرب لما كان بينهم من الصوائل، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: أنهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الحروب في الجاهلية حتى تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألّف الله بين قلوبهم بالإسلام فتركت تلك الأحقاد، وهذا قول ابن إسحاق.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/414.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ امتنعوا بحبل الله واستمسكوا به أي بعهد الله، لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها، ومنه الحبل الأمان، لأنه سبب النجاة، ومنه قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ ومعناه بأمان، قال الأعشى:
çوإذا تجوزها حبال قبيلة...أخذت من الأخرى إليك حبالهاé
ومنه الحبل الحمل في البطن وأصله الحبل المفتول قال ذو الرمة:
çهل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم...أم هل لها آخر الأيام تكليمé
2. في معنى قوله تعالى: ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ قولان:
أ. قال أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كتاب الله، وبه قال ابن مسعود، وقتادة والسدي.
ب. وقال ابن زيد: {حبل الله} دين الله أي دين الإسلام.
3. ﴿جَمِيعًا﴾ منصوب على الحال، والمعنى اعتصموا بحبل الله مجتمعين على الاعتصام به.
4. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ أصله ولا تتفرقوا، فحذفت احدى التائين، لاجتماع المثلين، والمحذوفة الثانية، لأن الأولى علامة الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي وعلامة الجزم سقوط النون:
أ. قال ابن مسعود وقتادة: معناه ولا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة.
ب. وقال الحسن: معناه ولا تفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾:
أ. قيل: معناه ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف بين قلوبهم بالإسلام، وزالت تلك الأحقاد، هذا قول ابن إسحاق.
ب. وقال الحسن: هو ما كان من مشركي العرب من الطوائل.
6. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ معنى الشفا الحرف، لأن شفا الشيء حرفه، ويثنى شفوان، لأنه من الواو، وجمعه إشفاء، ولا يجوز فيه الامالة، وإنما قال: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها، وإنما أنقذهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدعائهم إلى الإسلام، ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها.
7. أصل الأخ أن الأخ مقصده مقصد أخيه، وكذلك في الصداقة أن تكون إرادة كل واحد منهما موافقة للآخر يقولون: يتوخى فلان شأن فلان أي يقصده في سيره، ويقولون: خذ على هذا الوخي أي على هذا القصد.
8. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ الكاف في موضع نصب، والمعنى مثل البيان الذي تلي عليكم ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ معناه لتهتدوا وتكونوا على رجاء هداية، والهاء في قوله ف{أنقذكم منها} كناية عن الحفرة فترك شفا، وردت الكناية على الحفرة، ومثل ذلك قول العجاج.
çطول الليالي أسرعت في نقضي...طوين طولي وطوين عرضيé
فترك الطول وأخبر عن الليالي.
9. سؤال وإشكال: إذا كان الله هو الذي ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار، فقد صح أن أفعال الخلق فعل له وخلق من خلقه؟ والجواب: لا يجب ذلك، لأنا نقول أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ألف بين قلوب العرب وأنقذهم من النار، ولا يجب من ذلك أن تكون أفعالهم أفعالا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا مشاركا لهم، ومعنى ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار أنه دعاهم إلى الايمان وبين لهم وهداهم، ورغبهم وحذرهم، فلما كان إسلامهم ونجاتهم بمعونته ودعائه، كان هو المؤلف لقلوبهم، والمنقذ لهم من النار على هذا المعنى، لا أنه صنع أفعالهم، وأحدثها.
10. سؤال وإشكال: فقد فعل الله مثل ذلك بالكافرين هلا قلتم أنه ألف بينهم؟ والجواب:
أ. لا نقول ذلك وإن كان فعل بهم في الابتداء مثل الذي فعل بالمؤمن، لأنه لم يوجد منهم إيمان، فلا يجوز إطلاق ذلك عليهم، ولما وجد من المؤمن ذلك جاز إضافة ذلك إلى الله تعالى وجرى ذلك مجرى قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أنه أضيف إلى المتقين من حيث اهتدوا به، وان كان هداية للكافرين أيضاً.
ب. ويجوز أن يقال: ألف الله بين الكفار، فلم يأتلفوا وانقذهم، فلم يستنقذوا، فيقيد ذلك، كما قال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ ولا يجوز أن يقال: هدى الله ثمود ويسكت، ومثل ذلك لو أن إنساناً اعطى ولدين له مالا وأمرهما بالتجارة وبين لهما وجوه المكاسب فكسب أحدهما مالا واستغنى، وضيع الآخر، فافتقر جاز أن يقال أن فلاناً أغنى ولده الغني، ولا يجوز أن يقال اغنى ولده الفقير.
ج. على أنا لا نقول ان الله تعالى فعل بالكافر جميع ما فعل بالمؤمن، لأن الذي سوى بينهما ما يتعلق بازاحة العلة في التكليف من الاقدار والاعلام والدلالة، وما به يتمكن من فعل الايمان، فأما الالطاف التي يفعلها الله بالمؤمن بعد إيمانه التي علمها له بعد الايمان ولم يعلمها للكافر، فلا نقول أنه فعل بالكافر مثلها، ولا يمتنع أن تكون هذه الزيادة من الالطاف مشروطة بحال الايمان، فالإطلاق لا يصح على كل حال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/546.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحبل: هو المفتول، وقيل: أصله السبب الذي يوصل به إلى البغية، ومنه سمي الأمان حبلاً؛ لأنه يوصل به إلى الأمن من الخوف.
ب. ألَّفْتُ بين الشيئين إذا جمعت بينهما على وجه، والتأليف المصدر، والتأليف عرض يحل جوهرين، فيتألف الجزآن له بمنزلة جزء واحد، وإذا وجد في أحد الجزأين رطوبة، وفي الآخر يبوسة، وقع على وجه الالتزاق ولا يحصل في فعل العباد إلا متولدًا، واختلفوا في سببه فقيل: يتولد عن الكون، وقيل: عن الاعتماد، والأول الصحيح.
ج. أنقذته من الشيء خلصته، والنَّقَذُ ما أنقذته.
د. شفا كل شيء حَرْفُهُ، وهو مقصور، أشفى على الشيء أشرف عليه، وأشفى المريض على الموت من ذلك، وهو إذا قرب منه.
هـ. الحفرة: المكان المطمئن، وجمعه حُفَرٌ.
2. قيل: نزلت الآية في الأوس والخزرج، وكانت بينهما عداوة وحروب في الجاهلية، فأصلح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهم، فجرى بين بعضهم شيء حتى ذكروا ما جرى بينهم في الجاهلية حتى أخذوا السلاح، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقرأها عليهم، فاصطلحوا عن مقاتل.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾:
أ. قيل: تمسكوا.
ب. وقيل: امتنعوا به من غيره.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِحَبْلِ اللهِ﴾:
أ. قيل: القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد الله، وقتادة والسدي وأبي علي، وروي مرفوعا.
ب. وقيل: حبل الله دين الله الإسلام، عن ابن عباس وابن زيد.
ج. وقيل: عهد الله، عن مجاهد وعطاء.
د. وقيل: طاعته وأمره، عن مقاتل.
هـ. وقيل: هو إخلاص التوحيد، عن أبي العالية.
و. وقيل: الجماعة، عن ابن مسعود وابن عباس.
ز. وقيل: حبل الله أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن جعفر بن محمد قال: نحن حبل الله الذي قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾، والذي يؤيد هذا ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال: (يا أيها الناس إني تركت فيكم ثقلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض)
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾:
أ. قيل: عن دين الله، عن قتادة.
ب. وقيل: عن رسول الله، عن الحسن.
ج. وقيل: عن القرآن لا تفرقوا عنه فتدعوه ولا في تأويله فتضلوا، عن الأصم.
د. وقيل: عن القرآن بترك العمل به.
هـ. وقيل: عن الجماعة، ورووا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ستفترق أمتي بضعًا وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة)، وقيل: وما الواحدة؟ قال: (الجماعة)، ويروى: (السواد الأعظم)، وروي: (ما أنا عليه وأصحابي)
6. اختلف في المعني بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيكُمْ إِذْ كنْتُمْ أعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ}:
أ. قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام، وزالت تلك الأحقاد، عن ابن إسحاق.
ب. وقيل: ما كان بين مشركي العرب من الطوايل، عن الحسن.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾:
قيل: يعني: وكنتم يا أصحاب محمد على طرف جهنم لم يكن بينكم وبينها إلا الموت ﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾ الله ﴿مِنْهَا﴾ بأن أرسل إليكم رسولاً هداكم إلى الإيمان ودعاكم فأطعتمِ فنجوتم من النار.
وقيل: هذا مَثَلٌ، وأراد كنتم على الشرك الذي هو سبب النار.
8. ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ بلطفه وبرسوله وبكتابه، وأنقذكم: نجاكم منها:
أ. قيل: بالدعاء إلى الإيمان.
ب. وقيل: بالألطاف.
ج. وقيل: بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾:
أ. قيل: هكذا يبين الله.
ب. وقيل: كما يبين الله لكم الآيات فيما مضت بين هذا.
ج. وقيل: كما بَيَّنَ الإسلام بَيَّنَ هذا لتهتدوا إلى طاعته.
د. وقيل: كما بَيَّنَ لمن كان قبلكم بَيَّنَ لكم.
هـ. وقيل: كما بينت لكم نعمتي ودللتكم على مصالحكم أبين لكم سائر الآيات.
و. وقيل: تقديره مثل هذا البيان الذي يتلى عليكم يبين الله لكم.
﴿يُبَيِّنُ اللهُ﴾ يوضحه ﴿آيَاتِهِ﴾ حججه ودلائله وأحكامه على لسان رسوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾:
أ. أي لكي تهتدوا إلى سبيل الرشاد.
ب. وقيل: إلى طاعة ربكم.
ج. وقيل: إلى ما فيه نجاتكم.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب اتباع القرآن والإجماع.
ب. ذم الافتراق كما فعله اليهود والنصارى.
ج. جواز إضافة الفعل بمعنى أنه أمر ومكن ولطف؛ لأن التأليف فعلهم، ولكن حصل بأمره تعالى ولطفه ودعوته.
د. عظيم نعمه بالرسول والكتاب لما بهما من النجاة من العذاب الدائم.
هـ. بطلان الجبر؛ لأن قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي لكي تهتدوا.
و. أنه أراد من الجميع الاهتداء.
ز. أن الموافقة في الدين أعظم مِنَّة من القرابة في النسب.
11. مسائل نحوية:
أ. ﴿تَفَرَّقُوا﴾: أصله تتفرقوا بتاءين أحدهما تاء التفعل، والثاني تاء الخطاب، حذفت إحداهما لاجتماع حرفين من جنس واحد، وإنما حذفت تاء الأصل؛ لأن الثانية علامة فلا تحذف.
ب. ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ الكناية تنصرف إلى الحفرة؛ لأن ﴿شَفَا﴾ منها، فجاز صرف الكناية إليها.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/333.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحبل: السبب الذي يوصل به إلى البغية، كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر، أو نحوها، ومنه الحبل للأمان، لأنه سبب النجاة، قال الأعشى:
çوإذا تجوزها حبال قبيلة...أخذت من الأخرى إليك حبالهاé
ومنه الحبل للحمل في البطن، وأصل الحبل: المفتول، قال ذو الرمة:
çهل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم؟... أم هل لها آخر الأيام تكليم؟é
ب. شفا الشيء مقصور: حرفه، ويثنى شفوان، وجمعه أشفاء، وأشفى على الشيء: أشرف عليه، وأشفى المريض على الموت من ذلك.
2. قال مقاتل: افتخر رجلان من الأوس والخزرج: ثعلبة بن غنم من الأوس، وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له، ورضي الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما، فغضبا وتفاخرا وناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي، ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فركب حمارا وأتاهم، فأنزل الله هذه الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ﴾:
أ. قيل: أي: تمسكوا به.
ب. وقيل: امتنعوا به من غيره.
4. في قوله تعالى: ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد الله وقتادة والسدي، ويروى ذلك مرفوعا.
ب. وثانيها: إنه دين الله الاسلام، عن ابن عباس وأبي زيد.
ج. وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: نحن حبل الله الذي قال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾
د. الأولى حمله على الجميع، والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (أيها الناس! إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما، لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الاخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلا الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾:
أ. قيل: معناه: ولا تتفرقوا عن دين الله الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة، والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه، عن ابن مسعود وقتادة.
ب. وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الحسن.
ج. وقيل: عن القرآن بترك العمل به.
6. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾:
أ. قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالاسلام، فزالت تلك الأحقاد، عن ابن عباس.
ب. وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل، عن الحسن.
7. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ أي احفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالاسلام، وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الاجل، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم بجمعكم على الاسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.
8. ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ﴾ أي: بنعمة الله ﴿إِخْوَانًا﴾ متواصلين، وأحبابا متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لان أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته.
9. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ أي: وكنتم يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على طرف حفرة من جهنم، لم يكن بينها وبينكم إلا ا لموت، فأنقذكم الله منها بأن أرسل إليكم رسولا، وهداكم للايمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار.
10. إنما قال: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها، قال أبو الجوزاء: قرأ ابن عباس ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، واعرابي يسمع، فقال: والله ما أنفذهم منها، وهو يريد أن يقحمهم فيها! فقال ابن عباس: اكتبوها من غير فقيه.
11. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي: مثل البيان الذي تلي عليكم، يبين الله لكم الآيات أي: الدلالات والحجج فيما أمركم به، ونهاكم عنه، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: لكي تهتدوا إلى الحق والصواب.
12. مسائل نحوية:
أ. ﴿جَمِيعًا﴾ نصب على الحال أيضا أي: واعتصموا في حال اجتماعكم أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام.
ب. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، أصله أي: لا تتفرقوا، فحذف أحد التاءين كراهة لاجتماع المثلين والمحذوفة الثانية، لان الأولى علامة للاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، وعلامة الجزم سقوط النون.
ج. ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ الكناية في ﴿مِنْهَا﴾: عادت إلى الحفرة، وترك ﴿شَفَا﴾ ومثله قول العجاج:
çطول الليالي أسرعت في نقضي... طوين طولي، وطوين عرضيé
فترك الطول، وأخبر عن الليالي.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/806.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا، فأما الحبل، ففيه ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه كتاب الله: القرآن، رواه شقيق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه الجماعة، رواه الشّعبيّ عن ابن مسعود.
ج. الثالث: أنه دين الله، قاله ابن عباس، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة، وقال ابن زيد: هو الإسلام.
د. الرابع: عهد الله، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة في رواية، وأبو عبيد، واحتجّ له الزجاج بقول الأعشى:
çوإذا تجوّزها حبال قبيلة...أخذت من الأخرى إليك حبالهاé
وأنشد ابن الأنباريّ:
çفلو حبلا تناول من سليمى...لمدّ بحبلها حبلا متيناé
ج. الخامس: أنه الإخلاص، قاله أبو العالية.
د. السادس: أنه أمر الله وطاعته، قاله مقاتل بن حيّان.
2. قال الزجّاج: وقوله: ﴿جَمِيعًا﴾ منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به، وأصل ﴿تَفَرَّقُوا﴾: تتفرّقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثّانية، لأن الأولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدلّ على الاستقبال، وهو مجزوم بالنّهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدلّ على الجزم.
3. اختلفوا فيمن أريد بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أنهم مشركو العرب، كان القويّ يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة.
ب. الثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق.
الأعداء: جمع عدوّ، قال ابن فارس: وهو من عدا: إذا ظلم.
4. ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ أي: صرتم، قال الزجّاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخّى مسارّ فلان، أي: ما يسرّه، والشّفا: الحرف.
5. هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك، وقربهم من العذاب، كأنه قال كنتم على حرف حفرة من النّار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر، قال السّدّيّ: فأنقذكم منها محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) زاد المسير: 1/312.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمرهم الله تعالى بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾
2. كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل هاهنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء:
أ. فقال ابن عباس: المراد بالحبل هاهنا العهد المذكور في قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]، وقال: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 112] أي بعهد، وإنما سمي العهد حبلًا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف.
ب. وقيل: إنه القرآن، روي عن علي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (أما إنها ستكون فتنة) قيل: فما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين)، وروي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (هذا القرآن حبل الله)، وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي)
ج. وقيل: إنه دين الله.
د. وقيل: هو طاعة الله.
هـ. وقيل: هو إخلاص التوبة.
و. وقيل: الجماعة، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
ز. هذه الأقوال كلها متقاربة، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلًا لله، وأمروا بالاعتصام به.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وجوه:
أ. الأول: أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما عداه يكون جهلًا وضلالًا، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]
ب. الثاني: أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها.
ج. الثالث: أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار)، فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: (الجماعة) وروي (السواد الأعظم) وروي (ما أنا عليه وأصحابي)(2)، والوجه المعقول فيه: أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً، وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً.
4. استدل نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية:
أ. فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن، لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني.
ب. وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه، لكنه منهي عنه لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾
ج. ولقائل أن يقول: الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ولعموم قوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾ والله أعلم.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهمّ كل واحد منهما بمحاربة صاحبه، فخرج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله، ونظير هذه الآية قوله: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: 63]
6. كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً، ولهذا قيل: إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر.
7. ﴿إِخْوَانًا﴾ قال الزجاج: أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه، ولا يخفى عنه شيئاً، وقال أبو حاتم قال أهل البصرة: الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة، قال وهذا غلط، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] ولم يعن النسب، وقال: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: 61] وهذا في النسب.
8. قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل، وذلك يبطل قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في خلق الأفعال، قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف، والجواب على ما ذكره: أن كل هذا كان حاصلًا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم.
9. ثم إنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية، وهي قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، والمعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها:
أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: معنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وسائر ألطافه حتى آمنوا.
ب. قال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى.
10. شفا الشيء حرفه مقصور، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء، ومنه يقال: أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه، أي حده وحرفه وقوله: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ قال الأزهري: يقال نقذته وأنقذته واستنقذته، أي خلصته ونجيته.
11. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها؟ والجواب: أجابوا عنه من وجوه:
أ. الأول: الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها.
ب. الثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، وهذا قول الزجاج.
ج. الثالث: أن شفا الحفرة، وشفتها طرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث.
د. المسألة الثالثة: أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء، وبين ذلك الشيء.
12. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ﴾ الكاف في موضع نصب، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها:
أ. قال الجبائي: الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء.
ب. أجاب الواحدي عنه في (البسيط) فقال: (بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية).. وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا(3) قد لا يريد ذلك الرجاء، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة (لعلّ) للترجي، والمعنى أنا فعلنا فعلًا يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/312.
(2) هذا ـ إن صح ـ لا يتعارض مع الوصية بالعترة، والجمع بينهم وبين الكتاب، فمن أنكر حق العترة، أو أساء إليهم، أو سلبهم حقهم، خرج من مفهوم الصحبة المراد في الحديث، كما يوضحه حديث الحوض المشهور
(3) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ العصمة المنعة، ومنه يقال للبدرقة: عصمة، والبذرقة: الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها، قال ابن خالويه: البدرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب، يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة.
2. الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل: حبل العاتق، والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، والحبل الرسن، والحبل العهد، قال الأعشى:
çوإذا تجوزها حبال قبيلة...أخذت من الأخرى إليك حبالهاé
يريد الأمان، والحبل الداهية، قال كثير:
çفلا تعجلي يا عز أن تتفهمي...بنصح أتى الواشون أم بحبولé
والحبالة: حبالة الصائد، وكلها ليس مرادا في الآية:
أ. إلا الذي بمعنى العهد، عن ابن عباس.
ب. وقال ابن مسعود: حبل الله القرآن، ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك، وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن هذا القرآن هو حبل الله)
ج. وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ قال: الجماعة، روي عنه وعن غيره من وجوه.
د. والمعنى كله متقارب متداخل، فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:
çإن الجماعة حبل الله فاعتصموا...منه بعروته الوثقى لمن داناé
3. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾) يعني في دينكم، كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم، عن ابن مسعود وغيره، ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا، فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون:
أ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اختلاف أمتي رحمة)، وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد.
ب. روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي)، أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال أبو عمر: وعبد الله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون، وأخرجه أبو داوود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)
ج. وفي سنن ابن ماجه عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض)، قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ [التوبة] قال: خلعوا الأوثان وعبادتها ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾، أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس.
د. قال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
هـ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)
4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالفرق والطوائف نقلا عن ابن الجوزي، وفيه الكثير من الدعاوى التي تحتاج إلى تحقيق، ولذلك حذفناه.
5. أوجب الله تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين، هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم.
6. ثم أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة، والمراد الأوس والخزرج، والآية تعم، ومعنى ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين، وكل ما في القرآن ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ معناه صرتم، كقوله تعالى: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك] أي صار غائرا.
7. الإخوان جمع أخ، وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده، وشفا كل شي حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة]، قال الراجز:
çنحن حفرنا للحجيج سجله...نابتة فوق شفاها بقلةé
وأشفى على الشيء أشرف عليه، ومنه أشفى المريض على الموت، وما بقي منه إلا شفا أي قليل قال ابن السكيت: يقال للرجل عند موته وللقمر عند إمحاقه وللشمس عند غروبها: (ما بقي منه إلا شفا) أي قليل، قال العجاج:
çومربأ عال لمن تشرفا...أشرفته بلا شفى أو بشفىé
قوله (بلا شفى) أي غابت الشمس، أو (بشفى) وقد بقيت منها بقية، وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو، وقال النحاس: الأصل في شفا شفو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال، وقال الأخفش: لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان، قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الايمان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/159.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة: السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل، أو استعارة، أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخوانا، وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام.
2. ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ صرتم، وليس المراد به: معناه الأصلي، وهو: الدخول في وقت الصباح، وشفا كل شيء: حرفه، وكذلك شفيره، وأشفى على الشيء: أشرف عليه، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية.
3. ﴿كَذَلِكَ﴾ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده، أي: مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم، وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والازدياد منه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/423.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ كونوا على دين الله بالاتباع بالإسلام والاعتقاد والطاعة والإخلاص، وعن ابن مسعود: (بالطاعة والجماعة)، فتنجوا من النار إلى الجنَّة، كمن تمسَّك بحبل يطلع به من مضرَّة، أو يرتفع به إلى منفعة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (القرآن حبل الله المتين)، رواه الحاكم، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلَق عن كثرة الردِّ، مَن قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هُدِي إلى صراط مستقيم)، أي: لا يبلى عن كثرة التردُّد بقراءته، بل هو أبدا طريٌّ، قال الشاطبيُّ:
çوبعد، فحبل الله فينا كتابه...فجاهد به حبل العِدى متحبِّلاًé
عن ابن مسعود عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (حبل الله القرآن)، وعن زيد بن ثابت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (القرآن وأهل البيت، ولن يفترقا حتَّى يرِدَا عليَّ الحوض)
2. شبَّه قَبول دين الله أو القرآن والعمل به والانتفاع بإحضار حبل وثيق والارتباط به والتوصُّل به إلى الخير، فذلك استعارة تمثيليَّة، وهي أولى من استعارة الإفراد كاستعارة الحبل للعهد تصريحيَّة أصليَّة، والقرينة إضافيَّة، واستعارة الاعتصام للوثوق بالعهد تصريحيَّة أصليَّة، واشتقاق اعتصم تصريحيَّة تبعيَّة، وكاستعارة الحبل وإبقاء (اعتصموا) ترشيحا، ويجوز استعمال الاعتصام مع أنَّه تمسُّك مخصوص بجسم في مطلق التوثُّق فمنه التوثُّق بعهد الله، فذلك مجاز مرسل أصليٌّ لعلاقة الإطلاق والتقييد، واشتقَّ منه اعتصم مجازا مرسلا تبعيًّا.
3. ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ لا تتفرَّقوا عن الإسلام بالاختلاف فيه، ولا بذكر ما يزيل الألفة، كتفرُّق الجاهليَّة بالحروب، وكتفرُّق أهل الكتاب بعد كونه معه، أو لا تتفرَّقوا فيما بينكم وبين الرسول.
4. ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكم﴾ يا أيُّها الأنصار بالتوفيق للإسلام وتوابعه، أو بالتأليف بين قلوبكم المذكور بعدُ، ﴿إِذْ﴾ متعلِّق بـ (نِعْمَةَ) بمعنى الإنعام، أي: إنعام الله عليكم وقتَ ﴿كُنتُمُ أَعْدَآءً﴾ تقتتِلون وتتحاقَدون وتتشاتمون مائة وعشرين سنة قبل الإسلام، ولا يتعلَّق بـ (اذكروا)، لأنَّ وقت الأمر بالذِّكر متأخِّر عن وقت كونهم أعداء، أو نعمة الله نعمُه، فيتعلَّق (إذ) بمحذوف حال، والأوَّل أولى؛ لأنَّ فيه الحمد على الفعل وهو الإنعام، وهو أبلغ من الحمد على أثره وهو النِّعَم.
5. ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بهدايته لكم إلى الإسلام، ﴿فَأَصْبَحْتُم﴾ صِرتم، واختار لفظ الصباح لأنَّه أفضل من الليل، ولأنَّه أوَّل النهار، أو لأنَّه بعد الظلمة كإسلام بعد شرك، مع احتمال أَنَّ ذلك وقع صبحا تحقيقا، ﴿بِنِعْمَتِهِ﴾ بالإسلام، أو بالتأليف به أو نبيِّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿إِخْوَانًا﴾ في الدين والتناصر، كأخوين من أب وأمٍّ تناصرَا لنسَبِهما، وكان الأوس والخزرج لأب واحد وأمٍّ واحدة، وتناصرُهم للإسلام لا لاتِّحاد الأبوين، فالمؤمنون من حيث إنَّهم منتسبون إلى أصل واحد ـ هو الإيمان ـ كالإخوة المنتسبين إلى أب واحد وأمٍّ واحدة، والأوَّل سبب للحياة الأبديَّة، والثاني سبب للحياة الفانية، وآخر الحرب بين الأوس والخزرج يوم (بعاث)، وقيل: الخِطاب لمشركي العرب، ولعلَّ المراد بعد إسلامهم؛ لقوله: فأصبحتم إخوانا بالإسلام.
6. ﴿وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾ طرف الحفرة الأسفل، إذ كانوا في الكفر والفتن الموجبة للنار كما قال: ﴿مِنَ النَّارِ﴾ التي هي جهنَّم، ما بينكم وبينها إِلَّا الموت على الشرك، أو تمثيل للخسران، ﴿فَأَنقَذَكُم﴾ خلَّصكم، ﴿مِنْهَا﴾ من الحفرة، أو من النار، أو من شفا، وأُنِّث لإضافته لمؤنَّث يصلح الاستغناء به عنه، أو لاعتبار معنى شفة البئر، والمراد: من موجبات النار بتوفيقه إيَّاكم إلى الإسلام أو بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو الشفا: الطرف الأعلى من الحفرة ونحوها كقوله تعالى: ﴿عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ﴾ [التوبة: 109]، بمعنى أنَّهم أشرفوا على النار بكفرهم وفتنتهم فنجَّاهم الله منها بالإسلام، فلو ماتوا قبل الإسلام لدخلوها، شبَّه الموت على المعصية بالكون على شفا حفرة من النار بجامع ترتُّب المضرَّة، ومضرَّة المعصية الخسران والعذاب قبل جهنَّم، ألَا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الرَّاتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)؟، ومعنى إنجائهم من الحفرة ومن النار إنجاؤهم من الوقوع فيها، ومعنى إنجائهم من الشفا إنجاؤهم من مظنَّة الهلاك.
7. ﴿كَذَالِكَ﴾ مثل تبيينه لك حال الأنصار قبل الإسلام وحالهم بعده، ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ ءَايَاتِهِ﴾ أي: سائر دلائله على سائر دينه، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى ما لم تهتدوا إليه قبل، أو تبقون على الاهتداء، ومرَّ معاني صيغة الترجِّي من الله، أو أراد بالترجِّي الإرادة، للمشابهة أو اللُّزوم أو التسبُّب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/340.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ الحبل إما بمعنى العهد، كما قال تعالى في الآية بعدها: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 112]، أي بعهد وذمة، وإما بمعنى القرآن، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)، الحديث، والوجهان متقاربان، فإن عهده أي شرعه ودينه وكتابه حرز للمتمسك به من الضلالة، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط.
2. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية، متدابرين، يعادي بعضكم بعضا، ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام ـ أفاده الزمخشريّ ـ
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ قال الزمخشريّ: كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله.
4. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا﴾ أي طرف ﴿حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ بما كنتم فيه من الجاهلية ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ أي بالإسلام، قال ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: 62 ـ 63] الآية ـ وكانوا على شفا حفرة من النار، بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها، إذ هداهم للإيمان، وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة، بما أراه الله، فخطبهم، فقال: يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ.
5. قال الزمخشريّ: الضمير في: منها، للحفرة أو للنار أو للشّفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، وهو منها كما قال كما شرقت صدر القناة من الدم ـ انتهى ـ وقال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا، لأنه المحدّث عنه.. وفي الانتصاف: يجوز عود الضمير إلى الحفرة، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتنّ بالانقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهويّ إلى الحفرة، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها، فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع، مع أنّ اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو عليّ في (التعاليق) من ضرورة الشعر، خلاف رأيه في (الإيضاح) ـ نقله ابن يسعون ـ وما حمل الزمخشريّ على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالانقاذ منها، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالانقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا، لولا الإنقاذ الربانيّ، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه؟ وإلى قوله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: 109]، وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله: ﴿هَارٍ﴾، والله أعلم.. ثم قال الزمخشريّ: وشفا الحفرة وشفتها حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة، وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة، الجانب والجانبة، وحكى الزجاج في تثنية شفا (شفوان)، قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، لأنه الإمالة من الياء ـ كذا في الصحاح.
6. سؤال وإشكال: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ والجواب: قال الزمخشريّ: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها، قال الرازيّ: وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء.
7. ﴿كَذَلِكَ﴾ أي مثل ذلك البيان ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لرشدكم الدينيّ والدنيويّ فيه، ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه، فقال:
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/371.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين لنا عز وجل ما به يتحقق ذلك الأمر والنهي (2)، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ حبل الله: هو القرآن، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن مسعود، وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض) علم عليه في الجامع الصغير بالحسن، وروى الديلمي من حديث زيد بن أرقم (حبل الله هو القرآن) وقيل: هو الطاعة والجماعة، وروي عن ابن مسعود، وقيل: إنه الإسلام، وروي عن ابن عباس، وقالوا: إن العبارة استعارة تمثيلية، شبهت فيها حالة المسلمين في اهتدائهم بكتاب الله أو في اجتماعهم وتعاضدهم وتكاتفهم بحالة استمساك المتدلي من مكان عال بحبل متين يأمن معه من السقوط.
2. صوّر محمد عبده التمثيل بما هو أظهر من هذا، قال ما معناه: الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه: حبل متين يأخذ به الآخر فيأمن السقوط، كأن الآخذين به قوم على نشر من الأرض يخشى عليهم السقوط منه فأخذ بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط.
3. المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام، ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع؛ وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام، فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، عليه نجتمع، وبه نتحد، لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها.
4. ثم نهانا عن التفرق والانفصام، بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في التفرق من زوال الوحدة، التي هي معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الواثبين وكيد الكائدين، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 152] فحبل الله هو صراطه وسبيله، وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهى عن اتباعها في تلك الآية، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها، لأنها في سورة الأنعام وهي مكية، وسورة آل عمران مدنية، فكأنه قال: (ولا تتفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه، فمن تلك السبل المفرقة: إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم، وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه) رواه البخاري من حديث ابن عباس، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس منا من دعا إلى عصبية)، رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم.
5. اعتصم في هذا العصر أهل أوروبا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب في الجاهلية؛ فسرى سم ذلك إلى كثير من متفرنجة المسلمين، فحاول بعضهم أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية لتعذر الجنسية النسبية، ويوجد في مصر من يدعو إلى هذه العصبية الجاهلية مخادعين للناس بأنهم ينهضون بالوطن ويعلون شأنه، وليس الأمر كذلك فإن حياة الوطن وارتقاءه باتحاد كل المقيمين فيه على إحيائه، لا في تفرقهم ووقع العداوة والبغضاء بينهم لا سيما المتحدين منهم في اللغة والدين أو أحدهما، فإن هذا من مقدمات الخراب والدمار، لا من وسائل التقدم والعمران، فالإسلام يأمر باتحاد واتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس لتتحقق بذلك الأخوة في الله.
6. ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم وبها كانوا يؤثرون بعضهم بعضا بالشيء على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير وفي تفاصيله الغربية للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة، ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مئة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا.
7. وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر، وأدهى وأمر، وذلك قوله عز وجل: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ أي كنتم كذلك، بوثنيتكم وشرككم بالله تعالى وما يتبعه من الخرافات والمفاسد فهي التي أطفأت نور الفطرة وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار، فشفا الحفرة أو البئر طرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك، قال الراغب: ومنه أشفى على الهلاك، أي حصل على شفاه، وليس بين الشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فما أعظم منة الله تعالى على المؤمنين الصادقين، لا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية، أولا: أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس، ثم صاروا سادات الأرض، وأنقذهم بذلك من النار، فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين، أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم؟ بلى، فقد وضح ا لحق وبطل الإفك.
8. قال محمد عبده: انظر آية الله، قوم متخالفون بين العداوات والإحن يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه، وهو حكم الله، ولذلك قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أن ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
9. ثم قال محمد عبده: التفرق والاختلاف قسمان: قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع، وليس بمراد في الآيات؛ وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها، أما الأول فهو الخلاف في الفهم والرأي ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118] فاستواء الناس في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، إذ هو من قبيل الحب والبغض، فالأخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه، وأما الثاني ـ وهو ما جاءت الأديان لمحوه ـ فهو تحكيم الأهواء في الدين والأحكام، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر، لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضمار التي في النوع الأول من الخلاف.
10. أما كون القسم الأول غير ضار فهو ما يعرفه كل أحد من نفسه، ذكر ذلك محمد عبده وضرب له المثل بنفسه، فقال ما مثاله: إن بيني وبين بعض أصحابي الصادقين في محبتي وإرادة الخير لي خلافا في إلقاء هذا الدرس هنا، فأنا أعتقد أن إلقاء درس التفسير في الأزهر عمل واجب عليّ وخير لي ولا أشك في هذا؛ كما أنني لا أشك في هذا الضوء الذي أمامي، ويوجد من أصحابي من يعتقد أن ترك هذا الدرس خير لي من قراءته ويحاجوني في ذلك، قائلين: إن تأخري لأجل الدرس إلى الليل ضار بصحتي وإنه مثير لحسد الحاسدين لي، ودافع لهم إلى الكيد والإيذاء، وأن الدرس عقيم لأن أكثر الذين يسمعونه لا يفقهون ما أقول ولا يفهمون، ومن فهم لا يرجى أن يعمل به لغلبة فساد الأخلاق، هذه حجة بعض أصحابي في مخالفة رأيي واعتقادي يصرحون لي بها، ومع ذلك ألقاهم ويلقونني لم ينقص ذلك من مودتنا شيئا، فضلا عن أن يكون مثارا للعداوة والبغضاء بيننا، فأنا أعذرهم في رأيهم مع اعتقادي بإخلاصهم وهم يعذرونني كذلك، ولنفرض أن الخلاف بيننا في مسألة دينية كأن أعتقد أنا أن فعل كذا حرام، وهم يعتقدون حله؛ أكان يكون بيننا تفرق لأجله؟ كلا، لا ريب عندي أنه لا فرق بين الخلافين وأننا نبقى على هذا الخلاف أصدقاء.
11. ثم قال ما مثاله مبسوطا: كذلك كان الخلاف بين علماء السلف وأئمة الفقهاء، فمالك قد نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من حسن الحال وسلامة القلوب فقال: إن عمل أهل المدينة أصل من أصولي، لأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي وأصحابه لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملا، وأما أبو حنيفة فنشأ في العراق وأهلها كما اشتهر عنهم أهل شقاق ونفاق، فهو معذور إذا لم يحتج بعملهم ولا بعمل غيرهم قياسا عليهم (3)، ولو اجتمعا لعذر كل منهما الآخر، لأنه بذل جهده في استبانة الحق مع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخير والطاعة، وقد نقل عن الأئمة أن كل واحد كان يعذر الآخرين فيما خالفوه فيه.
12. لكن تنكب هذه الطريقة طوائف جاءت بعدهم تقلدهم فيما نقل من مذاهبهم لا في سيرتهم، حتى صار الهوى هو الحاكم في الدين، وصار المسلمون شيعا، يتعصب كل فريق إلى رأي من مسائل الخلاف، ويعادي الآخر إذا خالفه فيه، وكان من جراء ذلك ما هو مدون في التاريخ، وما ذلك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلوب هؤلاء المتعصبين، وإلا فبالله كيف يصدق أن يكون الإمام الشافعي مثلا مصيبا في كل ما خالف به غيره؟ وإذا كان الصواب في بعض المسائل الاجتهادية مع غيره، فكيف يعقل أن يمر أكثر من ألف سنة على فقهاء مذهبه ولا يظهر لهم شيء من ذلك، فيرجعوا عن قوله إلى ما ظهر لهم أنه الصواب من مذهب غيره كأبي حنيفة أو مالك؟ وهذا ما يقال في أتباع كل مذهب.
13. هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها ـ هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء، كما حصل من الفرق الإسلامية، لا يكاد أحدهم يعلم أن الآخر خالفه في رأي إلا ويبادر إلى الرد عليه بالتأليف، وبذل الجهد في تضليله وتفنيد مذهبه ويقابله الآخر بمثل ذلك، لا يحاول أحد منهم محادثة الآخر والاطلاع على دلائله ووزنها بميزان الإنصاف والعدل، فالواجب أولا: محاولة الفهم والإفهام في البحث والمذاكرة ـ أي ولو كتابة ـ وثانيا: أن لا يكون الخلاف مفرقا بين المختلفين في الدين، فما دام المسلم لا يخل بنصوص كتاب الله ولا باحترام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو على إسلامه لا يكفر ولا يخرج من جماعة المسلمين، فإذا تحكم الهوى فلعن بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث، ومثل الاختلاف في الدين الاختلاف في المعاملة؛ لا يجوز أن يكون مفرقا بين المؤمنين، بل يرجعون في النزاع إلى حكم الله وأهل الذكر منهم: يعني أولي الأمر، وهم أهل العلم والرأي في مصالح الأمة، فإذا امتثلنا أمر الله ونهيه فاتقينا الخلاف الذي لنا عنه مندوحة، وحكمنا كتاب الله ومن أمر الله بالرجوع إليهم في مسائل النزاع فيما نتنازع فيه أمنا من غائلة الخلاف، وكنا من المهتدين.
14. يدخل في كلمة المعاملة التي ذكرها محمد عبده: كل ما يتعلق بالمصالح العامة؛ من المسائل السياسية والمدنية، فالمرجع فيها كلها إلى هدي الكتاب العزيز وسنة الرسول ورأي أولى الأمر، وقد وسعنا القول في مسائل الخلاف من قبل، وذكرنا وجه الخروج منه، فارجع إلى ذلك في تفسير ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253] الآية.
__________
(1) تفسير المنار: 4/20.
(2) أي الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
(3) هذه تبريرات غير مقبولة ولا شرعية، فالمدينة والعراق كلاهما ظهر فيه أهل الشقاق والنفاق
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله، والانتهاء إلى أمره، وقد جعل الدين في سلطانه على النفوس، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه ـ كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط في الهاوية، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم، فينجون من السقوط، وفي الحديث: (القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم)
2. جاء في معنى الآية قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فحبل الله في هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هي السبل التي نهى عنها فيها، ومن السبل المفرقة في الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك، وقد روى أبو داوود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية)، وقد سار على هذا النهج أهل أوربا في العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية، فحاول أهلها أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية، فدعا الترك إلى العصبية التركية، والمصريون إلى الجنسية المصرية، والعراقيون إلى الجنسية العراقية، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا في تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو في خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.
4. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم في النار، فليس بين الشرك والهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فأنقذكم الإسلام منها.
5. في هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار، فسعدوا بالحسنيين، فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون ـ إلى جماعات متصافية القلوب، مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعا واحدة، هي حكم الله ورفعة دينه، ونشره بين البشر.
6. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإسلام، ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه ـ كذلك يبين سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله، ليعدّكم للاهتداء الدائم، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
7. الاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان:
أ. ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف في الرأي والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها في الشيء الواحد، كما يختلف حبهم له، وميلهم إليه، وهذا ضرب لا ضرر فيه.
ب. ضرب جدّت الشرائع في هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأي والهوى في أمور الدين وشئون الحياة.
8. هاك مثلا يتضح لك به ما تقدم ـ قد اختلف الأئمة المجتهدون في فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما كان في ذلك من حرج، فما لك نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب، فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل، وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى، لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله، وإرادة الخير والطاعة لأمره، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم في سيرتهم، وحكموا الرأي والهوى في الدين، وتفرقوا شيعا، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكا أخطئا في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة، وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها، وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها؛ وذلت بعد عزتها، وضعفت بعد قوتها.
9. وقد حدث مثل هذا في الفرق الإسلامية في علم الكلام، فإن أبدى أحدهم رأيا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر، والاطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق لما حدث مثل هذا الخلاف، بل اقتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.
10. المسلم ما دام محافظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه، فإذا تحكم الرأي والهوى ولعن بعضهم بعضا، وكفر بعضهم بعضا، فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث.
11. وكذلك الحال في الاختلاف في المعاملة في المسائل السياسية والدينية، لا ينبغي أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين، بل عليهم أن يرجعوا في النزاع إلى حكم الله وآراء أولى العلم منهم، وبذلك نتقى غائلة الخلاف، ونكون في وفاق، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/17.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الركيزة الثانية هي ركيزة الأخوة(2).. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله ـ أي عهده ونهجه ودينه ـ وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!
2. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما، وهو هنا يذكرهم هذه النعمة، يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية ﴿أَعْدَاءً﴾.. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهما الحيان العربيان في يثرب، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا، ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه، فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا، وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال.
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله ـ الركيزة الأولى، وبالتأليف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا ـ الركيزة الثانية.
4. والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط: ﴿الْقَلْبِ﴾.. فلا يقول: فألف بينكم، إنما ينفذ إلى المكمن العميق: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه.
5. كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه، بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾.. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة، إذا بالقلوب ترى يد الله، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم، وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!
6. ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملإ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم (بعاث)! وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتوعدوا إلى (الحرّة).. فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأتاهم، فجعل يسكنهم، ويقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح.
7. وكذلك بين الله لهم فاهتدوا، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
8. هذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه، القائمين على منهجه، لقيادة البشرية في طريقه.. هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله، وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب، كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وتقطع بينهم حبل الله المتين، الذي يتآخون فيه مجتمعين، وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق، على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة، فهي تشي ـ مع ما قبلها في السياق وما بعدها ـ بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل، والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم، ومن التفرق كما تفرقوا.. هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار.. وهو دأب يهود في كل زمان، وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم، في كل مكان!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/443.
(2) الأولى هي: ركيزة الإيمان والتقوى التي سبق ذكرها في المقطع السابق
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ثبت الله قلوب المؤمنين على الإيمان، دعاهم دعوة أخرى، وهى أن يكونوا جبهة واحدة في وجه الأعداء المتربصين بهم.. فقد عرف المسلمون آثار الفرقة فيما كانوا عليه هم وآباؤهم في الجاهلية، من عداوة وبغضاء، ومن خلاف وشقاق، الأمر الذي ملأ قلوبهم خوفا، وغمر ديارهم فقرا وحزنا!.
2. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ هكذا كان المؤمنون، ثم هكذا أصبحوا.. كانوا أعداء فألّف الله بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا عبدة أوثان وأصنام، وفي شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير.. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركي الجاهلية على حافة الهاوية، فأنقذهم الله، إذ دخلوا في الإسلام، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه.. فإن لم يذكروه في أنفسهم ذكروه في آبائهم وأجدادهم.. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها الله عليهم بالإسلام، ثم ليحفظوا هذه النعمة، وليحرصوا عليها، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى.. وبهذا يسلم لهم دينهم، وتسلم لهم أنفسهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/542.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ثنّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء، والاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع.
2. الحبل: ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنّجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التّمثيل.
3. ﴿جَمِيعًا﴾ حال وهو الّذي رجّح إرادة التّمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كلّ مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدّين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمّة كلّها، ويحصل في ضمن ذلك أمر كلّ واحد بالتّمسك بهذا الدّين، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتّوثيق بالدّين وعهوده، وعدم الانفصال عنه، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 112] ويكون كلّ من الاستعارتين ترشيحا للأخرى، لأنّ مبنى التّرشيح على اعتبار تقوية التّشبيه في نفس السامع، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار، بقطع النّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلّا قوّة، وليست الاستعارة بوضع اللّفظ في معنى جديد حتّى يتوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة، الحاصلة في الاستعارة الثّانية، صارت غير ملائمة لمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى، وإنّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسنا، وقريب من هذا التورية، فإنّ فيها حسنا بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره، ولا شكّ أنّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخر مقصودا، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحا في الأمر بالاجتماع على الدّين، بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله: ﴿جَمِيعًا﴾ محتملا لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة.
4. قوله: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ تأكيد لمضمون اعتصموا جميعا كقولهم: ذممت ولم تحمد، على الوجه الأول في تفسير ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾، وأمّا على الوجه الثّاني فيكون قوله: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ أمرا ثانيا للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ في سورة الأنعام [140] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النّهي عن ضدّه.
5. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ تصوير لحالهم الّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعا بجامعة الإسلام الّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتّفاق، والتّذكير بنعمة الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرّسل، قال تعالى حكاية عن هود: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: 69] وقال عن شعيب: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: 86] وقال الله لموسى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، وهذا التّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كلّ جيل يقدّر أن لو لم يسبق إسلام الجيل الّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النّار.
6. الظرفية في قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ معتبر فيها التّعقيب من قوله: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة.
7. الخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنها كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم الّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخوانا وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتّى ألّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التّأليف بمنزلة الإخوان.
8. الإخوان جمع الأخ، مثل الإخوة، وقيل: يختصّ الإخوان بالأخ المجازي والإخوة بالأخ الحقيقي، وليس بصحيح قال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: 61] وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] وليس يصحّ أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصّة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللّفظ مجازا وصار مشتركا، لكن للاستعمال أن يغلّب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلّبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي.
9. امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتّفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخوّة ولا يدرك الفرق بين الحالتين إلا من كانوا في السّوأى فأصبحوا في الحسنى، والنّاس إذا كانوا في حالة بؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه، حتّى إذا هيّئ لهم الصّلاح، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
10. ﴿بِنِعْمَتِهِ﴾ الباء فيه للملابسة بمعنى (مع) أي أصبحتم إخوانا مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوّة، كقول الفضل بن عبّاس بن عتبة اللهبي:
çكلّ له نية في بغض صاحبه...بنعمة الله نقليكم وتقلوناé
11. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ عطف على ﴿كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات.
12. الشّفا مثل الشّفة هو حرف القليب وطرفه، وألفه مبدلة من واو، وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعزّة إلّا أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شفين بل قالوا شفاه كأنّهم اعتدوا بالهاء كالأصل، فأرى أن شفا حفرة النّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتّفاني الّذي عبّر عنه زهير بقوله: تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النّار كالأخدود فليس بينهم وبين الهلاك السّريع التّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبّه بها هنا لأن النّار أشدّ المهلكات إهلاكا، وأسرعها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر، كما قال أبو الطيب: نجاة من البأساء بعد وقوع والإنقاذ من حالتين شنيعتين.
13. قال جمهور المفسرين: أراد نار جهنّم، وعلى قولهم هذا يكون قوله: ﴿شَفَا حُفْرَةٍ﴾ مستعارا للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول، والنّار حقيقة، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى: ﴿حُفْرَةٍ﴾ إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب، وورد في الحديث (فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان)، لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر، ويكون الامتنان على هذا امتنانا عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النّار علموا أنّهم كانوا على شفاها، وقيل: أراد نار الحرب وهو بعيد جدا لأنّ نار الحرب لا توقد في حفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيدا كما قال الحارث:
çوبعينيك أوقدت هند النّار...عشاء تلوي بها العلياء
فتنورت نارها من بعيد...بخزازى أيّان منك الصلاءé
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها.
14. الضّمير في ﴿مِنْهَا﴾ للنّار على التّقادير الثّلاثة، ويجوز على التّقدير الأول أن يكون لشفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى:
çوتشرق بالقول الذي قد أذعته...كما شرقت صدر القناة من الدمé
15. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ نعمة أخرى وهي نعمة التّعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتّى تكمل عقولهم، ويتبيّنوا ما فيه صلاحهم، والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح، والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم، كقول الحرث بن حلزة:
çمن لنا عنده من الخير آيا...ت ثلاث في كلّهن القضاءé
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية، وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/175.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أمر الله سبحانه وتعالى من بعد ذلك بما يكون فيه العصمة من الزلل، والاستمرار على الحق إلى أن يلقوا ربهم، فقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ العصمة: المنعة، ومعنى اعتصموا اجعلوا أنفسكم في عصمة ومنعة عن الزلل بحبل الله.
2. (الحبل) في أصل معناه اللغوي (السبب) الذي يوصل إلى الغاية، وله بعد هذا المعنى الأصلي اللغوي معان أخرى مشتركة، فيطلق على الرسن، كما يطلق على العهد، كما في قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران] ويطلق على الإيمان، كما يطلق على القرآن، وقد ورد بذلك الحديث النبوي، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن استمسك به)، وروى عن زيد بن أرقم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسر حبل الله تعالى في هذه الآية بالقرآن، فقد قال (حبل الله هو القرآن)، وإن ذلك هو الواضح، فحبل الله تعالى هو شريعته المحكمة الباقية إلى يوم القيامة، والمؤدى واحد، فشريعة الله سجلها القرآن، فهو بيانها، وهى حبل الله، والعروة الوثقى التي يضل من فصمها أو تركها.
3. ذكر سبحانه أن الأمر بالاعتصام لا يؤدى غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ أي كونوا جميعا مستمسكين به؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة.
4. كلمة ﴿جَمِيعًا﴾ يصح أن تكون حالا من الواو، ويصح أن تكون حالا من حبل الله تعالى:
أ. وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح أن ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت أمر ربها.
ب. وعلى أن كلمة ﴿جَمِيعًا﴾ حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لا يقبل التجزئة.
5. الأمران مرادان معا، فإن مقتضى النص أن نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ أي لا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله.
6. لا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهى عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام] ولقد توقع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الافتراق لأمته، وأنه سيكون سبب ضعفها، وأن عودة قوتها في عودة اجتماعها، ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بنى إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابى)
7. الطريق للخروج من الافتراق هو الذهاب إلى لب الدين بإخلاص، ومن غير انحراف إلى طائفة دون أخرى، ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض) فإنه لا يفرق إلا الأهواء، ولا يهدى إلا الإخلاص، فإذا سيطرت الأهواء المنحرفة، سرى الضلال إلى النفس وإلى الفكر، ولذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)
8. النهى عن التفرق يوجب إطاعته الإخلاص والحذر، وطريقه الاعتبار، ولذلك قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، الخطاب عام لكل المؤمنين في كل الأجيال وكل الأعصار، ويدخل في عمومه كل الأجناس وكل الشعوب، فالدعوة إلى التذكر دعوة عامة، وهى تذكر لماضى الانقسام، ثم من بعد الاتفاق والوئام، والطريق إلى الوحدة، ولكن إذا كان التذكير عاما، فإن الاختلاف الذي أشار إليه النص الكريم كان خاصا بطائفة من المؤمنين، وهم الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من المهاجرين والأنصار، فالأنصار أكلتهم الحرب التي قامت بين الأوس والخزرج حتى أتم الله عليهم نعمة الهداية، والعرب جميعا كانوا في تنابز وتنافر حتى كادت بعض قبائلهم تفنيها الحروب التي لا تبقى ولا تذر.
9. سؤال وإشكال: لما ذا اعتبر الاختلاف السابق الخاص كأنه اختلاف عام، وخوطب به المؤمنون جميعا؟ والجواب: هذا للدلالة على وحدة الأمة، فما كان من ماضيها يخاطب به حاضرها للاعتبار والاتعاظ، ولأن سبب الاختلاف في كل نفس لا يقي منه إلا الهداية، فما وقع من الماضين يتوقع أن يقع من الحاضرين، لأن الإنسان ابن الإنسان، ولأن الخلاص طريقه واحد، فما خلص به الماضون يخلص به الحاضرون، إن اعتزموا سلوك ما سلكه الذين من قبلهم.
10. النعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والأمم، وقد بينها سبحانه بقوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ فهذه نعمة بيّنة واضحة، وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا، ولذا قال: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمى إلى بيان أن تألف القلوب وحده نعمة والأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى، والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي.
11. شدد ـ سبحانه ـ في التذكير بمآثم الاختلاف بعد أن أشار إلى نعمة الوفاق بقوله: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ أي كنتم ـ بسبب اختلافكم وضلالكم وعبادتكم للأوثان وانحراف تفكيركم ـ قد أوشكتم على أن تقعوا في النار بسبب تغلغلكم في أسبابها وسيركم في طريقكم حتى صرتم كأنكم على شفا حفرتها، وشفا الحفرة حرفها.
12. ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ الضمير يعود إلى الحفرة؛ لأن من يكون على شفاها يقع فيها لا محالة إلا أن يبعده مبعد عنها، فيكون منقذا له منها، والكلام فيه استعارة تمثيلية، وخلاصتها أنه شبهت حالهم في ترديهم في الاختلاف والوثنية وسيرهم في طريق النار يوم القيامة بحال من يكون على طرف حفرة من النار لا يتماسك عن الوقوع فيها، وشبهت هداية الله تعالى لهم بحال من يتولى تجنيبهم التردي في تلك الحال الخطرة الخطيرة.
ذكر سبحانه وتعالى سنته في بيان هدايته فقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، أي كهذا البيان الذي بيّنه الله سبحانه وتعالى لكم في محكم القرآن، وبين لكم به سبيل هدايتكم، وبين لكم به نعمة هدايتكم ونعمة إخوتكم، يبين سبحانه وتعالى دائما الآيات البينات سواء كانت تلك الآيات قرآنية أم كانت كونية، وذلك لتقربوا دائما من الهداية، ولتكون بين أيديكم أسبابها، لعلكم تنالون الثمرة وهى الاهتداء الدائم، والله سبحانه وتعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1339.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، الحبل معروف، ويستعمل في الواسطة التي يتوصل بها إلى المطلوب، والمراد بالحبل هنا الإسلام، ومعنى الآية بمجموعها ان المسلمين ما داموا أتباع دين واحد، ورسول واحد، وكتاب واحد، فعليهم جميعا أن يراعوا هذه الرابطة الدينية التي هي أقوى من الرابطة النسبية، وان يحرصوا عليها، ويعملوا بموجبها، ولا يتفرقوا شيعا وأحزابا.
2. سؤال وإشكال: أليس في هذه الدعوة إلى التكتل الديني نوع من العصبية الدينية؟ والجواب: كلا، ان تدعيم الرابط بين اتباع الدين الواحد، تماما كتدعيمها بين أفراد الحزب الواحد، أو الأسرة الواحدة.. ولا تلازم بين هذا التدعيم، وبين التعصب ضد الآخرين.. بل على العكس بالنسبة إلى الإسلام، حيث يدعو إلى التعاطف والتآلف بين جميع أعضاء الاسرة الانسانية بصرف النظر عن أديانهم وأفكارهم وقومياتهم.. وعليه تكون الاخوة الاسلامية قوة ودعامة للاخوة الانسانية.
3. تجمل الاشارة إلى أن الجماعة الذين يجب التعاون معهم، ويحرم الخروج عليهم هم الذين اجتمعوا وتعاونوا على ما فيه لله رضى، وللناس صلاح، أما مجرد التجمع دون أن تترتب عليه أية فائدة مرضية فليس بمطلوب إلا من حيث عدم الشقاق والنزاع، قال الإمام علي عليه السلام: (الفرقة أهل الباطل وان كثروا، والجماعة أهل الحق وان قلوا)، وبهذا نجد تفسير الحديث الشائع: (يد الله مع الجماعة) أي خصوص المجتمعين المتعاونين على الحق، أما إذا اجتمعوا على الباطل فلا أحد معهم إلا الشيطان.
4. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، يذكّر الله المسلمين الأول بما كانوا عليه من الإحن والبغضاء والحروب المتطاولة، ومنها الحرب بين الأوس والخزرج التي امتدت 120 سنة ـ كما في تفسير الطبري ـ فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام، حتى صاروا إخوانا في الله متراحمين متناصحين، قال جعفر بن أبي طالب في حديثه إلى النجاشي: (كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام)
5. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، شفا الشيء حرفه وحافته، وشفى على الشيء إذا أشرف عليه، والمعنى كنتم مشرفين على نار جهنم لكفركم فأنقذكم الله منها ببركة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وأحسن تفسير نفسر به هذه الآية ما جاء في خطبة سيدة النساء فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم التي خطبتها بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم مخاطبة أبا بكر، ومن معه: (كنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطّرق، وتقتاتون القدّ، اذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/123.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر سبحانه فيما مر من قوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ﴾ الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله (الكتاب والسنة) اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم، مضمون له الهدى، والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب ويربط السماء بالأرض، وإن شئت قلت: إن حبل الله هو القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.
2. القرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والإسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الإسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد، وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله: ﴿جَمِيعًا﴾ وقوله: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ فالآيات تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنة كما تأمر الفرد بذلك.
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ جملة ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾، بيان لما ذكر من النعمة، وعليه يعطف قوله: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، والأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمي، وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل، لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم، ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين، واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومئ إليه ما في آخر الآيات من قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾، الآيتان.
4. بالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولا، ولا يطيعوا أمرا إلا عن علم بوجهه، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف، وبيان طرق السعادة، وبين الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف وطرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد، وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح، ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحرارا من التقليد، ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به، ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته.
5. هذا غير أن يقال: إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله ورسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي وأردإ القول، ومرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم، ورسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض، والحاصل أن المسلك الإسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.
6. لعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة ﴿نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والألفة والأخوة والإشراف على حفرة النار والتخلص منها، وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقا فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.
7. ما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾، مبتن على أصل التجربة، والثاني وهو قوله: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ﴾، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر.
8. في قوله: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾، والمراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالأخوة التي توجده وتحققه هذه النعمة أيضا تألف القلوب فالأخوة هاهنا حقيقة ادعائية، ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الآية، من تشريع الأخوة بينهم فإن بين المؤمنين أخوة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة.
9. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به، والمراد من النار:
أ. إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.
ب. وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف قلوبهم، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات ـ وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة ـ فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء، ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف والاختلاف ـ يشرفهم إلى أردإ التنازع، ويهددهم دائما بالقتال والنزال، ويعدهم الفناء والزوال، وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.
10. هؤلاء هم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حياتهم قبل الإسلام إلا في حال تهددهم الحروب والمقاتلات آنا بعد آن، فلا أمن ولا راحة ولا فراغ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك، ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله، ولاحت لهم آيات السعادة، وذاقوا شيئا من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.
11. لذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان، ولا التجارب كالفرض والتقدير، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ الآية إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.
12. ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/369.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ لأجل تتقوا الله ولا تموتوا إلا وأنتم مسلمون (حبل الله) السبب الذي جعله لنا لنتمسك به وهو القرآن، فأوجب علينا أن نعتصم به لننجو، وأن نجتمع على الاعتصام به، ونهانا عن التفرق ولم ينهنا عن التفرق إلا وقد جعل لنا سبيلاً إلى ترك التفرق، والتفرق أن نكون فِرَقاً أو فريقين.
2. السبيل إلى ترك التفرق: هو الرجوع إلى الكتاب، والسنة الجامعة، أي المعلومة التي يمكن الإجتماع بسببها لا المختلف في صحتها، وما وقع من خلاف في صحتها أو نسخها رجع فيه إلى القرآن؛ لأن الله جعل الكتاب والسنة حكمين.
3. علم أن الكتاب محفوظ لا يقع فيه اختلاف يؤدي إلى التفرق، إلا إذا كان السبب هو الهوى والتعصب، كما قال تعالى في أهل الكتاب: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة:4] وقد جعل الكتاب وحده حاكماً في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة:213] فدل على أنه يرجع إليه إذا وقع خلاف في صحة رواية أو نسخها.
4. التفرق المنهي عنه يشمل التفرق بسبب الخلاف في المذهب، والتفرق بسبب الخلاف في السياسة، والتفرق بسبب الخلاف في بعض حاجات الدنيا، والتفرق بسبب سوء الظن وشيوع السباب، كما قال شاعر:
çفإن النار بالعودين تورى.. وإن الحرب أولها كلامé
5. هذا قد يكون سببه غضب أو هوى فالواجب تبديل السوء في الظن بحسن الظن، قال تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:12]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:10]، ولا يمكن اعتبار الفريقين أخوين إلا بواسطة حسن الظن والحمل على السلامة، وفتح باب التأويل لكل منهما، بل لا يمكن ترك التفرق إلا بذلك.
6. النهي عن التفرق دليل واضح على ما لا يتم إلا به، والسياق سياق المحافظة على الإسلام، فيفهم منه أن الأمر بأن نعتصم بحبل الله جميعاً والنهي عن التفرق من أجل المحافظة على الإسلام؛ لأنه يحتاج إلى حماية، والحماية تحتاج إلى قوة ولا قوة مع التفرق؛ ولذلك قرن الله بين إقامة الدين وترك التفرق في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:13]
7. أكد تعالى أمره ونهيه بتذكيرنا بالنعمة في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} فاعتصموا بحبل الله جميعاً شكراً لهذه النعمة، واجتنبوا التفرق شكراً لهذه النعمة نعمة التأليف بين قلوبكم بحيث أصبحتم إخوناً في الله.
8. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ بهدايتكم إلى الإسلام واتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿شَفَا حُفْرَةٍ﴾ حرفها وطرفها، قال في (لسان العرب): (والشفا: حرف الشيء وحدّه، قال الله تعالى: ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة:109] والإثنان: شفوان، وشفا كل شيء حرفه، قال تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾)، فالمعنى: كنتم مشرفين على الوقوع في ﴿حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ ولعل الإنقاذ من الحفرة باعتبارهم في سببها مشرفين عليها لم يبق بينهم وبينها إلا أن يموتوا إذا لم يسلموا، فهم في هذه الحالة في ورطة مؤدية إلى الحفرة فالإنقاذ من سببها إنقاذ منها.
9. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي كذلك البيان لسبيل هدايتكم وثباتكم على الإسلام ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ لتفهموا ما تهتدون به ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لطريق الحق وهو الثبات على الإسلام حتى الموت والقيام بما كلفناه حتى الموت.
10. في الآية دلالة على بطلان قول من يدعي أن فهم القرآن خاص بالإمام أو الشيخ؛ لأن الخطاب للذين آمنوا كلهم، فدلت على: أن الله قد بين لهم القرآن كلهم، وإنما يؤتون في قلة الفهم من التقصير في تعلم العربية والتقصير في التفهم والوعي، أو من المعاصي التي هي ظلم إذا كثرت وأظلم القلب منها، قال تعالى ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ الآيتين [محمد:16 ـ 17]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/510.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في مجمع البيان، قال مقاتل: (افتخر رجلان من الأوس والخزرج، ثعلبة بن غنم من الأوس، وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما، فغضبا وتفاخرا وناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فركب حمارا وأتاهم، فأنزل الله هذه الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا)، قد تكون هذه القصة سببا للنزول، كمنطلق للنهي عن التفرق من حيث المبدأ بقطع النظر عن أسبابه الضرورية والاجتماعية، ولكننا نلاحظ أن جو الآية يوحي بأن المناسبة قد تعبّر عن ظاهرة بارزة في المجتمع الإسلامي آنذاك، بحيث تؤدي إلى اهتزاز الواقع المسلم تحت تأثير المشاكل الحادة التي قد تهدم الهيكل على رؤوس الجمع، مما يعني أن الحادثة أكبر من هذه الحادثة الفردية التي لا تمثل أية مشكلة كبيرة، لا سيما أن المتفاخرين لم يخرجا ـ في مفردات فخرهما ـ عن الواقع الإسلامي، باعتبار أن الأشخاص الذين تحدثوا عنهم كانوا من وجهاء المسلمين، الأمر الذي يعني أن الخلاف في داخل الجو الإسلامي، الذي يحاول فيه كلّ واحد أن يؤكد عمق عشيرته في الإسلام من خلال تأثير الشخصيات المهمة في إغناء تجربته وثقافته، مما لا يسبب انحرافا في الشعور ولا في الموقف.. وقد لا تكون هذه الآية مفصلة من مناسبة معينة، بل ربما تكون واردة للتحذير مما قد يحدث من الاهتزازات في الواقع الإسلامي على أساس العصبيات المعقدة التي قد تؤدي بالمسلمين إلى الاستغراق في عصبياتهم العائلية التي تؤدي إلى الحمية الجاهلية.
2. في هذه الآية يتابع القرآن تأكيد الأساس الذي تنطلق منه الوحدة في أسلوب إيحائي يربط الهدف بالقاعدة، في مسار لا يترك مجالا للانحراف أو الضلال، ثم في توجيه المجتمع المؤمن إلى أن يدخل في عملية مقارنة بين الماضي وبين الحاضر، فقد كان الماضي يحمل في داخله الحقد والعداوة والبغضاء، بينما يتحرك الحاضر على أساس المحبة والألفة والأخوّة.. وكان ذلك الواقع المظلم خاضعا لممارسات تقف به على مشارف النار، فأنقذه الله منها برحمته في ما أنزله من وحي، وما أطلقه من مفاهيم، وما وجّهه من تعاليم.
3. ورد أن ﴿بِحَبْلِ اللهِ﴾ كناية عن كتاب الله الذي هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض، مما يجعل من الدعوة إلى الاستمساك به انطلاقة للاعتصام بالإسلام كأساس للوحدة بعيدا عن كل الجهات الأخرى من عائلية وإقليمية وقومية، وفي ضوء ذلك نعرف أن وحدة المجتمع في الإسلام ليست مطلبا فارغا من المضمون، كما يفعله المندفعون مع الشعارات التي تلتقي مع أي مضمون، لأن القضية تتخذ لنفسها صفة الإطار الذي يعيش مع أية صورة، أما الإسلام فهو الإطار والصورة معا، فلا مجال معه لأي طرح آخر خارج حدود إطاره الطبيعي.
4. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ فهو ـ في مضمونه الشامل الذي يشمل الإسلام كله في مضمون الكتاب وحركة القيادة في خططها العملية ـ يمثل العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع، فلا بد لكم من التمسك به والارتباط به، واعتباره الخط الذي يتواصل به الجميع والرابط الذي يربط بين الأفراد الذين قد يختلفون في خصوصياتهم ومواقعهم.
5. ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ليقف كل واحد منكم في ناحية بعيدة عن الناحية التي يقف فيها الآخر على أساس العصبية الذاتية أو العائلية أو القومية أو العرقية أو الوطنية أو الإقليمية، وغير ذلك مما يختلف عليه الناس في قضاياهم العامة والخاصة، فإن التفرق والاختلاف يؤدّيان إلى الضعف تارة وإلى السقوط أخرى، وإلى الابتعاد عن الخط المستقيم ثالثة.
6. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام الذي هداكم إليه، وما كنتم لتهتدوا لولا أن هداكم الله وجمعكم بعد فرقة ووحدكم بعد تمزّق، ﴿إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾ لا تلتقون على موقف، ولا ترتكزون على قاعدة، يحقد بعضكم على بعض، ويلعن بعضكم بعضا ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بما أودعه في داخلها من الإسلام المنفتح على الله الذي يشيع الألفة الروحية من خلال العقيدة الواحدة والشريعة الواحدة والخط الواحد والهدف الواحد، ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ متراحمين، متناصحين، مجتمعين على أمر واحد، متحابين خاضعين لعنوان واحد، وهو الأخوّة في الله التي تفتح القلوب على بعضها البعض، وتزيل الحقد والعداوة والبغضاء.
7. ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ﴾ أي: على حافة الهاوية التي تكاد أن تسقطكم في النار، من خلال الكفر الذي كنتم تقيمون عليه، وتتحركون في دائرته، وتختلفون في ما بينكم من خلال نوازعه وأوضاعه، ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ بالإسلام الذي فتح لكم أبواب الخير كله وأبواب رضوانه الذي ينتهي بكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار.
8. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ التي توضح لكم سبيل السلامة في الدنيا والآخرة وموارد الهلاك، لتأخذوا تلك وتتركوا هذه ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى الحق والصواب بالمعرفة الواضحة والحجة القوية والمنهج القويم.
9. قد نستوحي من كلمة (الاعتصام بحبل الله) وإلحاقها بكلمة: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، أن من الضروري للمسلمين أن يتلمسوا الركائز التي ترتكز عليها الوحدة من خلال ما يلتقون عليه من مبادئ الإسلام ومفاهيمه العامة، ليشعروا بالوحدة الفكرية والعملية التي تجمعهم، ويتركوا ما اختلفوا فيه من ذلك، فيرجعوا فيه إلى الله والرسول في ما أفاض فيه القرآن من أساليب وقواعد للحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة، ويبتعدوا عن الاستغراق في خلافاتهم من مواقع العقدة الطائفية المشبعة بالحقد والضغينة ومختلف عوامل الإثارة.. فإن السير على هذا الخط ينطلق من الاعتصام بحبل الله، الذي يجمع ولا يفرّق.
10. قد يبدو للبعض أن مفهوم (الاعتصام بحبل الله) يفرض الالتقاء على المبادئ الأصيلة في الكتاب والسّنة، فلا يشمل الحالات التي يشعر فيها كل فريق بأن الفريق الآخر لا يصدر عن الحقيقة في عقيدته وفي علمه، مما يجعل الالتقاء به ـ على هذا الصعيد ـ التقاء مع الانحراف والضلال، ولكنا نحسب أن هذه الفكرة غير دقيقة، لأن المفهوم من (الاعتصام بحبل الله) هو اعتبار الكتاب أساسا للوحدة في المبادئ المتفق عليها، وفي أسلوب الوصول إلى الوفاق في المبادئ المختلف عليها، لأن الرجوع إلى الكتاب يعني الالتزام بقواعده وتشريعاته في طبيعة الفكرة وفي أسلوب الوصول إليها، وإننا نعتقد أن السبب في ما وصل إليه المسلمون من تناحر واختلاف وتفرّق هو أنهم انطلقوا من موقع العقد الذاتية التي تتحكم بأعصابهم وانفعالاتهم، ولم ينطلقوا في مواجهة خلافاتهم من موقع الحوار الإسلامي على هدي القرآن وطريقه.
11. اختلف المفسرون في المراد ب (حبل الله) على أقوال:
أ. أحدها: إنه القرآن.
ب. ثانيها: إنه دين الله الإسلام.
ج. ثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال: نحن حبل الله.
12. الأولى: كما يقول صاحب مجمع البيان ـ (حمله على الجميع والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه قال: أيها الناس إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، وقد يؤيد هذا الوجه أن أهل البيت عليهم السّلام قد قالوا في كثير من رواياتهم: إنا إذا حدثنا حدثنا بموافقة الكتاب، فلا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق كتاب الله، مما يعني أن كلامهم ينطلق من خلال كتاب الله لفظا ومضمونا، بحيث يكون التمسك بهم من خلال الالتزام بكلامهم تمسكا بكتاب الله تعالى.
13. ثم تنطلق الآية في تعميق الفكرة في داخلهم من خلال ربط المبدأ بالتجربة الحيّة في حركة الواقع، وذلك بالمقارنة بين الحياة التي كانوا يحيونها، حيث كانت علاقاتهم خاضعة للعوامل الذاتية المنطلقة من المصالح والأنانيات والنوازع الشريرة، التي يفقد الإنسان معها الحس العميق بالروابط الطاهرة التي تربطه بالآخرين، فتدفعه إلى رعايتهم والتفكير بهم والشعور بآلامهم ومشاكلهم والتعاون على مواجهة الواقع، وقد تؤدي بالإنسان إلى أن يعيش روح العداوة والبغضاء تجاه إخوانه إذا اصطدمت مصالحه بمصالحهم أو مشاعره بمشاعرهم، ويتحرك نحو التقاتل والتباغض.. وبين الحياة التي يعيشونها الآن حيث بدأوا يشعرون بالرابطة الوثيقة التي تحكم علاقاتهم الروحية والاجتماعية من خلال العقيدة الواحدة والمصالح المشتركة والهدف الواحد والمسيرة الواحدة، فلم يعد الإنسان في ظل هذا الواقع فردا مستقلا يملك مصالح خاصة تتصل بأنانيته، بل تحوّل إلى جزء من أمّة تتشابك قضاياها ومصالحها في قضية واحدة، وتعيش فيها المشاعر في وحدة شعورية رائعة، وهذا ما عبرت عنه الآية بقوله تعالى: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾، فإن هذا التأليف بين القلوب لم ينطلق من حالة طارئة ساذجة في حساب العواطف، ولم يخضع لمعجزة إلهية خارجة عن النواميس الطبيعية للعلاقات؛ بل انطلق من القاعدة الفكرية الروحية الجديدة المرتكزة على أساس فكر الإسلام وروحه، وتلك هي القاعدة الأساسية التي تبني للمجتمع شخصيته الاجتماعية المتكاملة على صعيد العلاقات العامة والخاصة.
14. إن الآية تدعوهم إلى الدخول في عملية المقارنة الواعية بين علاقات الماضي والحاضر، ليعرفوا النتائج الإيجابية والسلبية، ليعمقوا الإيجابيات التي تفرضها العلاقات الجديدة، ويخففوا السلبيات المتحركة في حياتهم من خلال علاقات الماضي، ليكونوا على وعي كامل عميق لكل الأساليب التي يراد منها إثارة النوازع والعصبيات القديمة من خلال الرواسب الكامنة في الأعماق، مما قد يعيد للماضي في نفوسهم ضراوته وشدته، فإن وعي الأمة للواقع من خلال المبادئ العامة يمنح التحرك في نطاق العلاقات قوة كبيرة وامتدادا عميقا نحو الهدف الكبير الشامل.. وهذا ما أراد الله للأمة أن تعيه جيدا لتفهم أن الحالة الماضية كانت تضع المجتمع على حافّة الهاوية التي تشتعل وتتأجج بالنار التي تحرقهم في الدنيا والآخرة، وأن المسيرة الجديدة في خطة العقيدة الجديدة تعتبر عملية إنقاذ من ذلك كله، ليعيش الناس روحيّة الجنّة في علاقاتهم ومصيرهم.
15. وتختم الآية الحديث بالإشارة إلى أن هذه هي آيات الله التي يريد منها أن يضع للأمة العلامات الواضحة البيّنة على مفارق الطريق في مسيرة الحق أو الباطل، لتكون الهدى للناس عندما تضيع الخطوط أمام الرمال المتحركة التي تخفي عن الناس معالم الطريق، ويريد للناس أن يجدوا الهدى في خطواتهم العملية التي تحوّل الفكرة إلى موقف، وتركّز الموقف على أساس التقوى والإيمان.
16. إن الآية تعود إلى الحديث عن الاعتصام بالله، ولكن بأسلوب آخر، وهو الاعتصام بحبل الله، لأن القضية التي تعالجها هذه الآية ليست قضية المسلم الفرد في ما يلتزم به ويحقق له سلامة المصير الفردي، كما هو الحال في الآية السابقة، ولكنها قضية المسلمين في حياتهم الاجتماعية، في وحدتهم وتضامنهم على الخط الواحد؛ ولهذا كان الحديث ينطلق في ما تتمثل به هذه الوحدة التي يرتبط بها الجميع، أو يراد للجميع أن يعيشوا روح الارتباط بها من ناحية عملية لا من ناحية فكريّة مجرّدة، لأن الاقتصار على الجانب الفكري الذاتي لا يوحي بوحدة الحركة أو الموقف في كثير من الحالات، بل يبقى مجرد حالة فكرية توحي بالتعاطف والتلاقي في مجال الحوار والتأمّل، ولذلك كان لا بدّ من أن يتحوّل الفكر إلى ممارسة ومعاناة وحركة تعيش في ساحة الواقع، وتتدخل في المشاعر والعلاقات والانتماءات والحركة.. حتى يشعر الجميع بأن حياتهم تخضع للفكر في حالة اليقظة والنوم، والحرب والسلم، وفي الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية، فلا ينفصل جانب عن جانب، كما لا يبتعد إنسان عن آخر في مصالحه ومشاكله وآماله وآلامه، فليست هناك مصلحة قومية لبعض المسلمين تصطدم بمصلحة قومية أخرى، وليست هناك مشكلة لبعضهم تصطدم بمشكلة خاصة للبعض الآخر، بل لا بد من أن تكون الخطة متكاملة في النطاق الإسلامي الشامل الذي يرتفع عن الخصوصية إلى التعميم، ويعالج الخصوصية بروح الشمول؛ ولهذا كان التعبير بـ (حبل الله) الذي يمثل التجسيد الحي للخط الواحد الذي يتمسك به كل الذين يخافون من الوقوع في الهاوية، وقد أكّد الفكرة بكلمة ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ التي هي الوجه السلبي للتعبير عن الفكرة الإيجابية للوحدة.
17. ربما نستوحي من هذه الآية في واقعنا الإسلامي، الفكرة التي تدفع المسلمين إلى دراسة الواقع الممزّق الذليل الذي يجعلهم فرقا متباعدة متشاحنة خاضعة لقوى الكفر والطغيان في أوضاعها الفكرية والسياسية والاقتصادية، حتى تحوّلوا إلى لعبة بيد تلك القوى في صراعاتها مع بعضها البعض، وفي تخطيطاتها لأساليب السيطرة على ثرواتها ومواردها، مما يحوّل البلاد الإسلامية إلى سوق استهلاكيّة لمنتوجاتها، ومن هنا تأتي الدعوة إلى الوقوف ضدّ أية نزعة استقلالية في المجال السياسي أو الاقتصادي بل في كل المجالات الأخرى، وقد يتجه التخطيط إلى إثارة المشاكل الطائفية والسياسية بين المسلمين من أجل استنزاف طاقاتهم وتعطيل فعاليتهم بغية إبقاء السيطرة كاملة عليهم من خلال حاجتهم إلى الاستعانة بهذه الجهة أو تلك في التغلب على بعضهم البعض.. ربما يحتاج المسلمون إلى وقفة تأمل في هذا الواقع كله، ليفكّروا في حبل الله الذي يجب أن يعتصموا به ويرجعوا إليه في هذه الفوضى الفكرية والسياسية التي يعيشون فيها، ليعرفوا مواطن الوفاق فيلتقوا عليها، ويكتشفوا عناصر الخلاف فيتفاهموا عليها، ويتفهموا طبيعة الساحة التي يدور حولها الصراع من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بها، ونوعية القوى الطاغية الكافرة المتحركة فيها وعلاقتها بتفجير الواقع الإسلامي من الداخل ضد المصالح الحقيقية للإسلام والمسلمين.. فقد يجد المسلمون في ذلك كله سبيلا للقاء على أساس الاعتصام بحبل الله، وقد يقف الواعون منهم وقفة مقارنة بين ماضي الإسلام وحاضره، ولكن بطريقة معكوسة، لأن الآية تدفع إلى الإصرار على الإخلاص للواقع الحاضر على أساس دراسة تجربة الماضي، بينما يفرض علينا الواقع أن نتخلص من واقعنا السّيّئ على أساس التجربة التي عاشها الإسلام في الماضي.
18. إن الاعتصام بحبل الله يمثل القاعدة الصلبة التي يمكن للمسلمين أن يستندوا إليها من أجل توحيد المسيرة وتوحيد الهدف في نطاق توحيد الأمة، وذلك في ظل التخطيط الواعي الذي يتجاوز السلبيات إلى الإيجابيات، ويقف مع السلبيات وقفة فكر لا وقفة عاطفة، ويعتبر أن وضوح الرؤية لدى أية جهة لا يعني وضوحها لدى الآخرين، مما يستدعي مزيدا من الصبر والتحمّل في سبيل الوصول إلى وحدة الرؤية للأشياء وللمواقف في اتجاه وحدة الهدف الكبير، وذلك هو ما يبعدنا عن متاهات النظريات والتحليلات التي يثيرها الآخرون في أجواء غير إسلامية مما استحدثوه واستنتجوه من تجارب ذاتية، أو أهواء منحرفة.. ففي القرآن الكثير الكثير مما نستطيع أن نتعلمه ونعمل به، وفيه الكثير الكثير مما يمكن أن يحل لنا مشاكلنا الفكرية والعملية إذا أحسنّا النظرة والأسلوب في كيفية التعامل مع الأشياء من خلال الأجواء القرآنية الواقعية.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/190.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت الآية الثانية تدعوهم بصراحة إلى مسألة الاتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
2. ذهب المفسّرون فيه إلى احتمالات مختلفة، فمنهم من قال بأنه القرآن، ومنهم من قال بأنه الإسلام، ومنهم من قال بأنهم الأئمّة المعصومون من آل الرسول وأهل بيته المطهرين.. وقد وردت كلّ هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة من أهل بيته عليهم السّلام، ففي تفسير (الدرّ المنثور) عن النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي كتاب (معاني الأخبار) عن الإمام السجّاد أنهما قالا: (كتاب الله حبل ممدود من السماء)، وروى عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: آل محمّد عليهم السّلام هم حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
3. ليس هناك ـ في الحقيقة ـ أي اختلاف وتضارب بين تلك الأقوال والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كلّ وسيلة للارتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين، وبعبارة أخرى فإن كلّ ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق (الارتباط بالله) سبحانه ـ الواسع ـ والذي يستفاد من معنى حبل الله.
4. النقطة الجديرة بالاهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلا بدّ للخروج من هذا القاع، والارتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلّا حبل الله المتين، وهو الارتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي.
5. ثمّ إن القرآن بعد كلّ هذا يعطي مثالا حيّا من واقع الأمة الإسلامية لأثر الارتباط بالله وهو يذكر ـ في نفس الوقت ـ بنعمة الاتحاد والأخوة ـ تلك النعمة الكبرى ـ ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
6. الملفت للنظر هو تكرار كلمة نعمة في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحقّق إلّا في ظل التعاليم الإسلامية والاعتصام بحبل الله.
7. نسب الله تعالى تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ أي أن الله ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، واندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية، فإن أفرادا من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الاجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف، وألف بين القلوب، وأنسى الأحقاد، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد أمة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.
8. كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين، حتّى غير المسلمين منهم، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة، وإظهارها في كتاباتهم، وها نحن نذكر نماذج من ذلك:
أ. يقول (جان ديون پورت) العالم الإنجليزي المشهور: (لقد حول محمّد العربي البسيط، القبائل المتفرقة والجائعة، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم، امتازت، فيما بعد ـ بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة، واستطاع في أقل من ثلاثين عاما وبهذا الطريق أن يتغلب على الامبراطورية الرومانية، ويقضي على ملوك إيران، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطئ بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى)
ب. ويقول توماس كارليل: (لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقا، وشمل نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلّا قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند، وأخرى في الأندلس، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة)
ج. ويقول الدكتور (غوستاف لوبون): معترفا بهذه الحقيقة: (وإلى زمان وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة، أو الدين)
د. ويكتب (نهرو) العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلا: (إن قصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم أعجوبة من أعجوبات التاريخ، ولقد كان محمّد واثقا بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة)
9. لقد كان وضع العرب سيئا إلى أبعد الحدود حتّى أن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الانهيار والسقوط إذ يقول: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾، وتعني (شفا) في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك (الشفة)، كما وتستعمل لفظة (شفا) هذه في البرء من المرض، لأن الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية، ويريد سبحانه من قوله هذا: أنكم كنتم على حافة السقوط والانهيار في الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملا في كلّ آن ومتوقعا في كلّ لحظة، لتصبحوا بعد السقوط رمادا، وخبرا بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمنا، وبدل الانهيار اعتلاء ومجدا، وهداكم إلى حيث الأمن والأمان في رحاب الأخوة والمحبة.
10. النار في هذه الآية: هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا؟ فيها خلاف بين المفسّرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.
11. القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والانهيار، وما من به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضا من نار جهنم، وعذابه الأليم.
12. لمزيد من التأكيد على ضرورة الاعتصام بحبل الله مع الاعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيدا من الاهتمام، ومزيدا من العناية.
13. رغم كلّ ما قيل عن أهمية الاتحاد وآثاره العظيمة في التقدّم الاجتماعي عند الشعوب والأمم فإن من الممكن القول والادعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة لا تزال مجهولة، وغير معروفة كما ينبغي.. إن العالم يشهد اليوم سدودا كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق، وقد أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدرا، أن تغطي مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة، فلو أننا فكرنا قليلا لوجدنا أن هذه القوّة العظيمة لم تنشأ إلّا من تجمع القوى الصغيرة، الجزئية ـ أي تجمع قطرات المطر، وحبات الغيث الحقيرة ـ ومن هنا تدرك أهمية اجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية، وتجمعها، وما يرافقها من جهود جماعية.
14. عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته الطاهرين ـ عليهم صلوات الله أجمعين ـ عن أهمية الاتحاد والاجتماع بعبارات متنوعة مختلفة، فتارة يقول النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه، وأخرى يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمنون كالنفس الواحدة)
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/621.
54. الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈54⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام، والنهي عن المنكر فهو عبادة الأوثان والشيطان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾، قال هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، وهم الرواة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾، ثم قال (الخير: اتباع القرآن، وسنتي(1).
__________
(1) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ٢/٩١.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة جميعا؟ فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا، والدليل على ذلك كتاب الله عزّ وجلّ قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] فهذا خاص غير عام، وكما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159] ولم يقل: على أمة موسى ولا على كل قومه، وهم يومئذ أُمم مختلفة، والأمة واحد فصاعدا، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120] يقول: مطيعا لله عزّ وجلّ، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة(1).
2. روي أنّه قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله أخبرني ما أفضل الإسلام؟ قال الإيمان بالله، قال ثم ماذا؟ قال صلة الرحم، قال ثم ماذا؟ قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال الرجل: فأخبرني أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال الشرك بالله، قال ثم ماذا؟ قال ثم قطيعة الرحم، قال ثم ماذا؟ قال الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف(2).
3. روي أنّه سئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) ما معناه؟ قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا(3).
4. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: (في هذه الآية تكفير أهل القبلة بالمعاصي، لأنه من لم يكن يدعو إلى الخيرات ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المسلمين، فليس من الأمة التي وصفها، لأنكم تزعمون أن جميع المسلمين من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قد بدت هذه الآية وقد وصفت أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لم يوجد فيه الصفة التي وصفت، بها، فكيف يكون من الأمة وهو على خلاف ما شرطه الله على الأمة ووصفها به!؟(4).
__________
(1) الكافي: 5/59/16.
(2) الكافي: 5/58/9.
(3) الكافي: 5/59.
(4) تفسير العيّاشي: 1/195.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ ليكن منكم قوم، يعني: واحدا أو اثنين أو ثلاثة نفر فما فوق ذلك أمة، إماما يقتدى به، ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ إلى الإسلام، ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بطاعة ربهم، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن معصية ربهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٢٦.
الناصر:
قال الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ): قوله عز وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ يريد: كلهم، وقال لبيد بن ربيعة الكلابي:
çتراك أمكنة إذا لم أرضها... أو ترتبط بعض النفوس حمامهاé
فقال: (بعض النفوس)، وإنما أراد: النفوس كلها(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/176.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن يكون هذا خبرا في الحقيقة، وإن كان في الظاهر أمرا؛ فإن كان خبرا ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ـ سقط ذلك عن الآخرين؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض، وهو قوله: ﴿مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ الآية.
ب. ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعا، ويكون قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ ـ صلة، فإن كان على هذا ففيه أن على كل أحد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وذلك واجب؛ كأنه قال كونوا أمّة ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الآية؛ لأنه ذكر ـ جل وعزّ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه، منها هذا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ الآية، ومنها قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وذمّ من تركهما بقوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 79]:
• وروي عن عكرمة أن ابن عباس قال له: (قد أعياني أن أعلم ما يفعل بمن أمسك عن الوعظ، فقلت: أنا أعلمك ذلك، اقرأ الآية الثانية: ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ [الأعراف: 165]، فقال لي: أصبت.. فاستدل ابن عباس بهذه الآية على أنّ الله أهلك من عمل السوء، ومن لم ينه عنه من يعمله، فجعل ـ والله أعلم ـ الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب.
• وقد روي عن أبي بكر قال (يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إذا رأوا الظّالم، فلم يأخذوا على يده ـ أوشك أن يعمّهم الله بعقاب)
• وعن جرير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إنّ الرّجل ليكون في القوم، ويعمل فيهم بمعاصي الرّحمن، وهم أكثر منه وأعزّ، ولو شاءوا أن يأخذوا على يده لأخذوا على يده، فيرهبوا له؛ فيعذّبهم الله به)
• وعن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والّذى نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليعمّكم الله بعقاب من عنده، ثمّ لتدعونه ولا يستجيب لكم)
• وعن أبي سعيد الخدرى يذكر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إنّ الله ليسأل العبد يوم القيامة حتّى يقول: ما منعك إذا رأيت منكرا أن تنكره؟ فإذا الله لقّن عبدا حجّته فقال: أي ربّ، وثقت بك، وفرقت من النّاس)
• وعن أبي هريرة قال اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ فقال: (مروا بالمعروف، وإن لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإن لم تنهوا عنه)، ولا ينبغي للرجل أن يقول: لست ممن يعمل عن المنكر كله، حتى آمر غيري وأنهاه، فإن فعله المعروف واجب عليه، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره.
2. قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ﴿كُنْتُمْ﴾ أي: صرتم خير أمّة أظهرت للناس؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير.
ب. ويحتمل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ في الكتب السالفة؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
ج. ويحتمل: تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.
د. ويحتمل: ﴿كُنْتُمْ﴾ صرتم خير أمّة، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم؛ بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه، وإظهار كلمته، والإشفاق على رسوله، حتى كان أحبّ إليهم من أنفسهم؛ ويرونه أولى بهم.
3. ثم اختلف في المعروف والمنكر:
أ. قيل: المعروف: كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر.
ب. ويحتمل الأمر بالمعروف: هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر: هو النهي عن الكفر؛ دليله: قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ الآية، يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/449.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ﴾ أمر واللام لام الأمر وإنما سكنت مع الواو ولم يكن لام الاضافة لأن تسكين لام الامر يؤذن بعملها أنه الجزم، وليس كذلك لام الاضافة، ولم يسكن مع ثم، لأن ثم بمنزلة كلمة منفصلة.
2. اختلف في معنى (من) في قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾:
أ. قيل: (من) هاهنا للتبعيض على قول أكثر المفسرين، لأن الأمر بإنكار المنكر، والامر بالمعروف متوجه إلى فرقة منهم غير معينة، لأنه فرض على الكفاية فأي فرقة قامت به سقط عن الباقين.
ب. وقال الزجاج التقدير (وليكن) جميعكم و(من) دخلت لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس، كما قال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وقال الشاعر:
çأخو رغائب يعطيها ويسلبها...يأبى الظلامة منه النوفل الزفرé
لأنه وصفه بإعطاء الرغائب، والنوفل الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال، فعلى هذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فرض الأعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين، وهو الذي اختاره الزجاج، وبه قال الجبائي، واختاره.
3. الأمة في اللغة تقسم خمسة أقسام:
أ. أحدها: الجماعة.
ب. الثاني: القامة.
ج. الثالث: الاستقامة.
د. الرابع: النعمة.
هـ. الخامس: القدوة.
4. الأصل في ذلك كله القصد من قولهم: أمه يؤمه، أماً إذا قصده، فالجماعة سميت أمة لاجتماعها على مقصد واحد، والأمة: القدوة، لأنه تأتم به الجماعة، والأمة النعمة، لأنها المقصد الذي هو البغية، والامة القامة، لاستمرارها في العلو على مقصد واحد.
5. المعروف هو الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه، وربما كان واجباً أو ندباً، فان كان واجباً فالأمر به واجب، وان كان ندباً فالأمر به ندب، والمنكر هو القبيح فالنهي عنه كله واجب.
6. الإنكار هو إظهار كراهة الشيء لما فيه من وجه القبح، ونقيضه الإقرار وهو إظهار تقبل الشيء من حيث هو صواب حسن.
7. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف، وأكثر المتكلمين يذهبون إلى أنه من فروض الكفايات، ومنهم من قال من فروض الأعيان، وهو الصحيح على ما بيناه، واختلفوا:
أ. فقال جماعة: ان طريق وجوب انكار المنكر العقل، لأنه كما تجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهة، وإلا كان تاركه بمنزلة الراضي به.
ب. وقال آخرون وهو الصحيح عندنا(2): إن طريق، وجوبه السمع، وأجمعت الأمة على ذلك، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من جهة الخير وما جرى مجراه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في شرح جمل العلم.
8. سؤال وإشكال: هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ والجواب: نعم إذا احتيج إليه بحسب الإمكان، لأن الله تعالى قد أمر به، فإذا لم ينجح فيه الوعظ والتخويف، ولا التناول باليد وجب حمل السلاح، لأن الفريضة لا تسقط مع الإمكان إلا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد إلا أنه لا يجوز أن يقصد القتال إلا وغرضه إنكار المنكر، وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من إنكار المنكر لا يجوز الاقدام عليه إلا بإذن سلطان الوقت، ومن خالفنا جوز ذلك من غير الاذن مثل الدفاع عن النفس سواء، وقال البلخي: إنما يجوز لسائر الناس ذلك إذا لم يكن إمام، ولا من نصبه، فأما مع وجوده، فلا ينبغي، لأحد أن يفعل ذلك إلا عند الضرورة.
9. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ معناه هم الفائزون بثواب الله، والخلاص من عقابه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/548.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الأمُّة القصد، ثم يستعمل على وجوه: منها الجماعة، ومنها القامة والاستقامة، ومنها القدوة، يقال: أَمَّهُ يَؤُمُّهُ أمًّا إذا قصده، والجماعة: أمة؛ لاجتماعها على مقصد واحد.
ب. الإنكار: إظهار كراهة، الشيء لما فيه من الفساد، ونقيضه الإقرار، والمنكر القبيح؛ لأن العقل ينكره.
ج. الفلاح: الفوز والبقاء.
2. لما تقدم النهي عن التفرق والأمر باجتماع الكلمة في الدين بيّن في هذه الآية أنه كما يجب أن يكونوا على الحق مهتدين يجب أن يكونوا دعاة إلى دينه، فقال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ أي جماعة منكم يأمرون.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾:
أ. قيل: من للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف فرض على الكفاية، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
ب. وقيل مِن صلة أي كونوا أمة، كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ أي الأوثان.
ج. وقيل: أدخل مِن ليخرج منه النساء والصبيان، وإلا فالخطاب متوجه إلى الجميع.
د. وقيل: مِن للتخصيص، والمراد: وليكن أمة، كما يقال: لي من فلان ذكر، عن أبي مسلم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾:
أ. قيل: كونوا علماء مُبَيِّنينَ دين الله، عن الأصم.
ب. وقيل: إلى الإيمان.
ج. وقيل: إلى التوحيد.
د. وقيل: إلى الطاعات كلها، وهو الوجه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾:
أ. قيل: كل ما أمر به الله ورسوله فهو معروف، وما نهى عنه فهو منكر.
ب. وقيل: المعروف ما يعرف حسنه عقلاً أو شرعًا، والمنكر ما ينكره العقل والشرع، وهذا يرجع إلى المعنى الأول.
6. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يعني مَنْ فَعَلَ ما تقدم فقد فاز بالنجاة من العذاب، وفاز بالثواب.
7. ثم أمر بالجماعة في ذلك وترك التفرق فقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾:
أ. قيل: أي في الدين، واختلفوا:
• قيل: اليهود والنصارى، عن الحسن والربيع وجماعة.
• وقيل: هم المبتدعة، وروي عن أبي أمامة: هم الحرورية.
ب. وقيل: تفرقوا عن الدين إلى غيره بترك الدين.
8. اختلف في معنى (تفرقوا واختلفوا):
أ. قيل: معناهما واحد، وذكرهما للتأكيد، واختلاف اللفظين كقوله الشاعر: (ينأ عني ويبعد)
ب. وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا:
• فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الديانة.
• وقيل: تفرقوا بأبدانهم، واختلفوا في اعتقاداتهم.
• وقيل: تفرقوا في كتابهم فرفضوه، واتبعوا أهواءهم المختلفة.
• وقيل: فارقوا بالتكذيب بالقول، وخالفوه بالعمل، عن الأصم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾:
أ. قيل: أي الحجج.
ب. وقيل: الكتب المنزلة التي في أيديهم، عن أبي مسلم.
10. ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لدوامه وخلوه من الراحة.
11. تدل الآية الكريمة:
أ. على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم حالهما، لذلك علق الفلاح به، وعند أبي علي يجب عقلاً، والسمع يؤكده، وعند أبي هاشم يجب بالسمع، ولا يجب عقلاً، وهو واجب بحسب الإمكان باللسان واليد، فإن لم يكن فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان على ما ورد به الأثر، والأمر بالواجبات واجب، وبالنوافل نفل، والنهي عن جميع المنكرات واجب؛ لأن جميعها في القبح واحد، وتدل على أنه فرض على الكفاية؛ لذلك قال: ﴿مِنْكُمْ﴾
ب. استدل بعض الزيدية بالآية في قولهم: إن الإمامة تثبت بالدعوة عند اجتماع الأوصاف، فعلم بمجموع ذلك أنه المنصوص من جهته تعالى كما تقول المعتزلة في البيعة والإمامية في نص الأئمة بعضهم على بعض قالوا: ومعنى الدعوة أن يعلم انتصابه للأمر، قالوا: إنه تعالى أمر بالدعوة، ثم عطف عليه الأمر بالمعروف، فالظاهر أنه غيره، وأيدوا ذلك أن من الأمر بالمعروف ما لا يقوم به إلا الأئمة، فكان ذلك كالفرع على الدعوة؛ ولذلك عطف عليه، قالوا: ولذلك أدخل ﴿مِن﴾ في ﴿مِنْكُمْ﴾؛ لأن جميع الأمة لا يصلحون لذلك، وإنما يصلح من كان من نطق بالمعروف، بخلاف الأمر بالمعروف؛ لأن الناس كلهم فيه سواء، ومن خالفهم يقولون: يدعون إلى الخير، يعني الإيمان والتوحيد، ثم يأمرون بالعمل بالشرائع، وينهون عن المنكرات، واستدلالهم بهذه الآية ليس بالواضح، خصوصا ولم يقل به أحد من السلف، ولا جرى ذكر الدعوة في الصحابة عند ذكر الإمام وطلب أوصافه.
12. مسائل نحوية:
أ. سكنت لام الأمر مع الواو، ولم تسكن لام الإضافة، لأن تسكين لام الأمر يؤذن بعملها أنه الجزم، وليس كذلك لام الإضافة.
ب. إنما قال: ﴿يُدْعَوْنَ﴾ والأمة مؤنثة؛ لأن الأمة في المعنى قوم، كأنه قيل: وليكن منكم قوم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/335.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الأمة: اشتقاقها من الأم الذي هو القصد، وفي اللغة تستعمل على ثمانية أوجه:
أ. منها: الجماعة.
ب. ومنها: أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد.
ج. ومنها: القدوة لأنه يأتم به الجماعة.
د. ومنها: الدين والملة كقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾
هـ. ومنها: الحين والزمان، كقوله تعالى ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ و﴿إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾
و. ومنها: القامة يقال رجل حسن الأمة أي: القامة.
ز. ومنها: النعمة.
ح. ومنها: الأمة بمعنى الأم.
2. ﴿مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ من هاهنا: للتبعيض على قول أكثر المفسرين، لان الأمر بالمعروف، وإنكار المنكر، ليسا بفرضين على الأعيان، وهما من فروض الكفايات، فأي فرقة قامت بهما سقطا عن الباقين، ومن قال: إنهما من فروض الأعيان، قال: إن ﴿مِن﴾ ههنا للتبيين ولتخصيص المخاطبة دون سائر الأجناس، كقوله ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾، وقول الشاعر:
çأخو رغائب يعطيها ويسلبها... يأبى الظلامة منه النوفل الزفرé
لأنه وصفه بإعطاء الرغائب، والنوفل: الكثير الاعطاء، والزفر: الذي يحمل الأثقال.
3. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ أي: جماعة ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ أي: إلى الدين ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بالطاعة ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي: عن المعصية:
أ. قيل: كل ما أمر الله ورسوله به، فهو معروف، وما نهى الله ورسوله عنه، فهو منكر.
ب. وقيل: المعروف: ما يعرف حسنه عقلا أو شرعا، والمنكر: ما ينكره العقل أو الشرع، وهذا يرجع في المعنى إلى الأول.
4. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي: الفائزون.
5. يروى عن أبي عبد الله عليه السلام: (ولتكن منكم أئمة)، و(كنتم خير أئمة أخرجت للناس)(2)
6. في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعظم موقعهما ومحلهما من الدين، لأنه تعالى علق الفلاح بهما، وأكثر المتكلمين على أنهما من فروض الكفايات، ومنهم من قال: إنهما من فروض الأعيان، واختاره الشيخ أبو جعفر، والصحيح أن ذلك إنما يجب في السمع، وليس في العقل ما يدل على وجوبه، إلا إذا كان على سبيل دفع الضرر، وقال أبو علي الجبائي: يجب عقلا، والسمع يؤكده، ومما ورد فيه:
أ. ما رواه الحسن عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسول الله، وخليفة كتابه.
ب. وعن درة ابنة أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأرضاهم.
ج. وقال أبو الدرداء: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما، لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون، وتستغفرون فلا تغفرون.
د. وقال حذيفة: يأتي على الناس زمان لان يكن فيهم جيفة حمار، أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/807.
(2) قراءة تفسيرية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ قال الزجّاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن (من) هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ معناه: اجتنبوا الأوثان، فإنها رجس، ومثله قول الشاعر:
çأخو رغائب يعطيها ويسألها...يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفرé
وهو النّوفل الزّفر، لأنه وصفه بإعطاء الرّغائب، والنّوفل: الكثير الإعطاء للنّوافل، والزّفر: الذي يحمل الأثقال، ويدلّ على أن الكلّ أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأنّ الدّعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد.
2. في معنى الخير قولان:
أ. أحدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل.
ب. الثاني: العمل بطاعة الله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
3. اختلف في معنى المعروف:
أ. قيل: هو ما يعرف كلّ عاقل صوابه، وضدّه المنكر.
ب. وقيل: المعروف ها هنا: طاعة الله، والمنكر: معصيته.
__________
(1) زاد المسير: 1/313.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عاب الله تعالى في الآيات المتقدمة أهل الكتاب على شيئين:
أ. أحدهما: أنه عابهم على الكفر، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: 70]
ب. ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر، فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [آل عمران: 99]
2. فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم:
أ. أولًا بالتقوى والإيمان، فقال: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: 102 ـ 103]
ب. ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن (من) هاهنا ليست للتبعيض، ومعنى هذه الآية: (كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر)، وكلمة (من) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30] ويقال أيضاً: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا هاهنا، ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41] وقوله: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [التوبة: 39] فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.. ومما يدل على هذا القول:
• الأول: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]
• الثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس.
ب. الثاني: أن (من) هاهنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا على قولين:
• أحدهما: أن فائدة كلمة (من) هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين.
• الثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان:
● الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 122]
● الثاني: أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل.
ج. وفيه قول رابع (2): وهو قول الضحاك: إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعلم الدين.
4. هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء: أولها: الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة:
أ. أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]
ب. والدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان:
• أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف.
• الثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولًا ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمذكورة في كتب الكلام.
5. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سبق تفسيره، ومنهم من تمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين، والفاسق ليس من المفلحين، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير، ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 44]، وبقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3] ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح، والعلماء قالوا: الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه)، وعن علي: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضاً: من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكرا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير، وعن الثوري: إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن.
6. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ [الحجرات: 9] قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا قوله تعالى: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ [النساء: 34] يدل على ما ذكرناه، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/314.
(2) لم يذكر القول الثالث، وربما يقصد به من قالوا: إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة، و﴿مِن﴾ في قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء، وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك، والقول الأول أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ [الحج] الآية، وليس كل الناس مكنوا، وقرأ ابن الزبير: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم)، قال أبو بكر الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال: سمعت عثمان بن عفان يقرأ (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم) فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن، إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/166.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ﴾ قرأه الجمهور: بإسكان اللام، وقرئ: بكسر اللام، على الأصل.
2. من في قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، ورجح الأوّل: بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به: معروفا، وينهون عنه: منكرا، قال القرطبي: الأوّل أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله سبحانه بقوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، وقرأ ابن الزبير: (﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ويستعينون بالله على ما أصابهم)، قال أبو بكر بن الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، وقد روي: أن عثمان قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست بقرآن.
3. في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها.
4. قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ من باب عطف الخاص على العام، إظهارا لشرفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة.
5. حذف متعلق الأفعال الثلاثة: أي: يدعون، ويأمرون، وينهون: لقصد التعميم، أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك.
6. الإشارة في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ﴾ ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي: المختصون بالفلاح، وتعريف المفلحين: للعهد، أو: للحقيقة التي يعرفها كل أحد.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/424.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمُ أُمَّةٌ﴾ جماعة قاصدة أو مقصودة في أمر يُجتمع عليه، ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ دين الإسلام، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الخير: القرآن وسنَّتي)، رواه ابن مردويه عن الباقر، وقيل: (الإيمان)، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وقيل: (ما فيه صلاح دين أو دنيا)، فالمعروف والمنكر تخصيص بعد تعميم في قوله: ﴿وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ أي: يدعون الناس ويأمرونهم وينهونهم، حذف لظهوره، أو لم يتعلَّق بما حذف بل المراد استعمال الدعاء والأمر والنهي، وعدم الخلوِّ منهنَّ، كقولك: فلان يعطي، تريد نفي البخل عنه، لا إثبات أنَّه يعطي فلانا دينارا مثلا.
2. الأمر والنهي من جملة الخير وخصَّهما بالذكر لعظم شأنهما جدًّا، وهما فرض كفاية، لا يصلحان للجاهل، إذ ربَّما يأمر بالمنكر يحسبه معروفا، أو يعكس، وقد يكون الشيء منكرا في مذهبه معروفا أو مباحا أو نحو ذلك في مذهب غيره، وبالعكس، ولا أمر ولا نهي، نَعَمْ الإرشاد إلى الراجح، وقد قال أصحابنا(2): لا أمر ولا نهي بيننا وبين قومنا، أي: في ما كان مذهبا أو دينا مخالفا لنا، وفرض الكفاية واجب على الكلِّ وسقط بفعل البعض، هذا مذهبنا، ومذهب جمهور قومنا، وهو الصحيح، لا على بعض مبهم، على الصحيح، ألا ترى أنَّهم يأثمون كلُّهم إذا لم يفعل واحد؟ وذلك في الآية إذ خاطب الكلَّ وطلب فعل البعض.
3. ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ الداعون إلى الخير الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الكاملون فلاحا؛ لأنَّ الأمر والنهي مِمَّا يَجرُّ الضرَّ إلى الآمر الناهي، ويوجب العلم والتشديد في محلِّه واللين في محلِّه، والمتَّصف بهذا ذو شأن عظيم، وذلك حصرٌ، فمن لم يأمر ولم ينه لم يغن عنه غيره فليس مفلحا، وفاعل الذَّنب لا يُسقط عنه فعلُه وجوبَ النهي عنه، وتارك المعروف لا يُسقط عنه تركُه وجوبَ الأمر به، وأمَّا قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2]، وقوله تعالى: ﴿أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 44] فنهيٌ عن عدم الفعل لا عن القول، وعن نسيان أنفسهم لا عن أمرهم بالمعروف، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (خير الناس آمَرُهُم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله تعالى، وأوصلُهم للرَّحم)، رواه أحمد وأبو يعلي عن درَّة بنت أبي لهب، وروى الحسن: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخليفة كتابه)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/343.
(2) يقصد الإباضية
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ أي جماعة، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ وهو ما فيه صلاح دينيّ ودنيويّ ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بكل معروف، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي عن كل منكر، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الداعون الآمرون الناهون.
2. ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم، قال بعضهم: الفلاح هو الظفر وإدراك البغية، فالدنيويّ هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة، والأخرويّ أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل.
3. قيل: عطف: ﴿وَيَأْمُرُونَ﴾ على ما قبله، من عطف الخاص على العام ـ كذا قاله الزمخشريّ، وناقشه في الانتصاف، وعبارته: عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام، كقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]، وكقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: 68]، وكقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]، وشبه ذلك، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات، وأما هذه الآية فقد ذكر، بعد العام فيها، جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعوّ إليه إما فعل مأمور، أو ترك منهيّ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال: فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عامّا ثم مفصلا، وفي تنبيه أن الذكر على وجهين مالا يخفى من العناية ـ والله أعلم ـ إلا أن يثبت عرف بخصّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشريّ، وما أرى هذا العرف ثابتا ـ والله أعلم ـ.
4. في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها ـ كذا في فتح البيان، قال الغزاليّ: في هذه الآية بيان الإيجاب، فإن قوله تعالى ﴿وَلْتَكُنْ﴾ أمر، وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به، إذ حصر وقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين، إذ لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، فإذا، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون، عمّ الحرج كافة القادرين عليه لا محالة، فإن قلت: فمن يباشره؟ فالجواب: كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة، أو إن نهيه لا يؤثر، لأنه عبث، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين، فإن قلت: فمن يؤمر وينهى؟ قلت: كل مكلف، وغير المكلف إذا همّ بضرر غيره منع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها ـ ذكره الزمخشريّ ـ.
5. تفصيل هذا البحث في (الإحياء) للغزاليّ، وقد قال في طليعة ذلك البحث ما نصه: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوّة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلا بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددا لهذه السنة الداثرة، ناهضا بأعبائها، ومتشمرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدّا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/374.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، قال محمد عبده ما مثاله: إن الله تعالى قد وضع لنا بفضله ورحمته قاعدة نرجع إليها عند تفرق الأهواء واختلاف الآراء، وهي الاعتصام بحبله ولذلك نهانا عن التفرق بعد الأمر بالاعتصام، الذي قلنا في تفسيره: إنه تمثيل لجمع أهوائهم وضبط إرادتهم، ومن القواعد المسلمة: أنه لا تقوم لقوم قائمة إلا إذا كان لهم جامعة تضمهم ووحدة تجمعهم وتربط بعضهم ببعض، فيكونون بذلك أمة حية كأنها جسد واحد، كما ورد في حديث (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، رواه أحمد ومسلم، وحديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا) رواه الشيخان والترمذي والنسائي.
2. فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة، فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم لأنهم يعتقدون أن لهم إلها واحدا يرجعون في جميع شؤونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء ويحول دون التفرق والخلاف، بل هذا هو ينبوع الحياة الاجتماعية لما دون الأمم من الجمعيات حتى البيوت ـ العائلات ـ ولما كان لكل جامعة وكل وحدة حفاظ يحفظها أرشدنا سبحانه وتعالى إلى ما نحفظ به جامعتنا التي هي مناط وحدتنا ـ وأعني بها الاعتصام بحبله ـ فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة وسياج الوحدة.
3. اختلف المفسرون في قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾ هل معناه: بعضكم، أم (من) بيانية؟ ذهب مفسرنا الجلال إلى الأول، لأن ذلك فرض كفاية، وسبقه إليه الكشاف وغيره، وقال بعضهم بالثاني، قالوا: والمعنى: ولتكونوا أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، قال محمد عبده: والظاهر أن الكلام على حد (ليكن لي منك صديق) فالأمر عام، ويدل على العموم قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 ـ 3] فإن التواصي هو الأمر والنهي، وقوله عز وجل: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78 ـ 79] وما قص الله علينا شيئا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.
4. أشار المفسر ـ الجلال ـ إلى الاعتراض الذي يرد على القول بالعموم وهو أنه يشترط فيمن يأمر وينهى أن يكون عالما بالمعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه، وفي الناس جاهلون لا يعرفون الأحكام ولكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم، فإن المفروض الذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التنزيل هو أن المسلم لا يجهل ما يجب عليه وهو مأمور بالعلم والتفرقة بين المعروف والمنكر، على أن المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة والمنكر ضده، وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة، ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا فتح القدير ولا المبسوط، وإنما المرشد إليه ـ مع سلامة الفطرة ـ كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله ولا يكون المسلم مسلما إلا به، فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوزوا أن يكون المسلم جاهلا لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين المعروف والمنكر، وهو لا يجوز دينا، ثم إن هذه الدعوة إلى الخير والأمر بالنهي لها مراتب:
أ. فالمرتبة الأولى: هي دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير وأن يشاركوهم فيما هم عليه من النور والهدى، وهو الذي يتجه به قول المفسر: إن المراد بالخير: الإسلام، وقد فسرنا الإسلام من قبل بأنه دين الله على لسان جميع الأنبياء لجميع الأمم، وهو الإخلاص لله تعالى والرجوع عن الهوى إلى حكمه، وهذا مطلوب منا بحكم جعلنا أمة وسطا وشهداء على الناس كما تقدم في سورة البقرة، وخير أمة أخرجت للناس كما سيأتي بعد آيات مقيدا بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وبحكم قوله في وصف المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: 41] فالواجب دعوة الناس إلى الإسلام أولا، فإن أجابوا فالواجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، قال: وأما كون هذا حفاظا للوحدة ومانعا من الفرقة فهو أن الأمة إذا اجتمعت على هذا المقصد العالي الشريف وهو أن تكون مسيطرة على الأمم كلها ومربية لها ومهذبة لنفوسها فلا شك أن جميع الأهواء الشخصية تتلاشى من بينهم، فإذا عرض الحسد والبغي لأحد من أفرادهم تذكروا وظيفتهم العالية الشريفة التي لا تتم إلا بالتعاون والاجتماع، فأزالت الذكرى ما عرض وشفت النفوس قبل تمكن المرض.
ب. والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي: هي دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر، والعموم فيها ظاهر أيضا، وله طريقان:
• أحدهما: الدعوة العامة الكلية ـ قال: كهذا الدرس ـ ببيان طرق الخير وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس، التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله، وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام وحكمة الدين وفقهه، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122] ومن مزايا هؤلاء: تطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان، فهم يأخذون من الأمر العام بالدعوة والأمر والنهي على مقدار علمهم.
• الثاني: الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه، وكل ذلك من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وكل واحد يأخذ من الفريضة العامة بقدره.
5. أما كون هذه المرتبة حفاظا للوحدة وسياجا دون الفرقة فهو ظاهر على الطريق الأول، فلو كان أهل البصيرة والفقه الحقيقي في الدين يعممون دعوتهم وإرشادهم في الأمة يواصلونها لكانوا موارد لحياتها ومعاقد لرابطة وحدتها، وكذلك على الطريق الثاني، فإن أفراد الأمة إذا قام كل واحد منهم بنصيحة الآخر، دعوة وأمرا ونهيا، امتنع فشوّ الشر والمنكر فيهم، واستقر أمر الخير والمعروف بينهم، فكيف تجد الفرقة منفذا إليهم؟ أم كيف يستقر الخلاف في الدين بينهم؟ وناهيك إذا قام كل على طريقه المستقيم ـ العلماء الحكماء في مساجدهم ومعابدهم، وجميع الأفراد في منازلهم ومساكنهم ومعاهدهم.
6. سؤال وإشكال: قد يقال: إننا نرى التصدي لنصيحة الأفراد وأمرهم ونهيهم مجلبة للخلاف والفرقة، لا داعية إلى الوفاق والوحدة، والجواب: أورد محمد عبده هذه الشبهة وأجاب عنها، فقال ما مثاله: كيف يكون التآمر والتناهي حافظا للوحدة ونحن نرى الأمر بالعكس؟ نرى التناصح سبب التخاصم والتدابر، حتى صار من أعسر الأمور بين الإخوان والأصحاب أن يقول أحدهما للآخر: إنك فعلت كذا وهو منكر، فارجع عنه، وإنك قادر على كذا من المعروف فائته، وذكر عن نفسه أنه صار يجد من الصعب جدا ـ حتى مع من يعده صنيعة له أو ولدا أو أخا ـ إن ينصحه في الأمر أكثر من مرة خشية أن ينفر ويحمله ذلك على قطع ما بينهما من الرابطة، قال: فكأن النصح لهم من الكليات التي لا يوجد لها إلا فرد واحد، وذكر أنه لهذا النفور من النصح يسلك مع أصحابه والمتصلين به مسالك الكناية والتعريض في الغالب، وأجاب عن ذلك بأن هذا لا يعد حجة على الله ولا شبهة على دينه، لأنه منتهى ما تصل إليه الأمم من الفساد والبعد عن الخير، واستحقاق الغضب الإلهي، وتكاد الأمة التي يفشو هذا فيها تكون من الأمم التي تودع منها، وإنما الكلام في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المسلمين الذين كانوا يشعرون بنعمة الله عليهم بالتأليف بين قلوبهم وإنقاذهم من النار بعد أن كانوا قد أشفوا عليها، ومع من يشاركونهم في شعورهم ذاك ويتبعون سنتهم في الاهتداء بما أنزل الله، كما وقع بين الأوس والخزرج في الرواية التي سبق ذكرها، فأمثال هؤلاء هم الذين يصدق عليهم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمن مرآة المؤمن) رواه الطبراني، في الأوسط والضياء من حديث أنس، ورواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عن أبي هريرة بزيادة (والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)، إن ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل رد ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وخوت القلوب من احترام الدين حتى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه ومتى أمسى الناس هكذا ـ لا دين ولا مروءة ولا أدب ـ فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟
7. سؤال وإشكال: عند هذا سأل سائل عن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] والجواب: أجاب محمد عبده: إن هذا بعد القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إن الإنسان لا يضره ضلال غيره إذا هو أمره ونهاه، فإنه لا يكون مهتديا مع تركه لهذه الفريضة، ثم قال: من العجب أن بعض الناس اشترطوا لهذه الفريضة شرطا لم يأذن به الله ولم ينزله في كتابه، وهو أنه لا يأمر وينهي إلا من كان مؤتمرا ومنهيا: فالمختار عنده ما حققه الغزالي من عدم اشتراط ذلك، على أن الإمامين يقولان بوجوب كون الواعظ المتصدي للإرشاد والدعوة العامة مهتديا عاملا بعلمه متصفا بما يدعو إليه، وقد قال محمد عبده: بمنع أولئك الجاهلين الفاسقين الذين ينصبون أنفسهم للوعظ والإرشاد من تسلق هذه الدرجة، وليس ذلك لأنه يشترط في فرضية الأمر والنهي الائتمار والانتهاء، بل لأن المرشد العام محل لقدوة العوام، فإذا كان ضالا يكون كالخمر والميسر إثمه أكبر من نفعه، فهو يمنع منها لدرء المفسدة، ولا يمنع من كل أمر ونهي.
8. حاصل رأي محمد عبده: أن يمنع من منصب الإرشاد الذي قال: إنه خاص بالعارفين بأسرار الشريعة وفقهاء النفوس فيها، ومن كان كذلك لا يكون إلا عاملا بعلمه مهتديا بما يهدي إليه، لأن العلم الصحيح يوجب العمل، كما قررناه مرارا وقلنا إنه رأيه ورأي الغزالي، ولا يمنعه من كل نصيحة وأيّ أمر ونهي بل يأمره بذلك وإن لبسه العار الذي أشار إليه الشاعر بقوله:
çلا تنه عن خلق وتأتي مثله...عار عليك إذا فعلت عظيمé
وليس مراد الشاعر نهى المتخلق بالخلق السيء أن يأمر بمثله، بل مراده أنه يجب عليه الجمع بين النهي والانتهاء، ومما قاله الغزالي في الإحياء: إنه يجب على من يزني بامرأة أن يأمرها بستر بدنها، أو قال: وجهها، وإلا كان مرتكبا لمعصية زائدة على معصية الزنا ولوازمه، وهي معصية ترك النهي عن المنكر، وكان يقول يجب على مدير الكاس أن ينهى الجلاس.
9. هذه الشبهة التي سئل عنها محمد عبده قديمة عرضت للناس في الصدر الأول، فقد روى ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وغيرهم من أصحاب المسانيد والترمذي وصححه وأبو يعلى والكجي من أصحاب السنن وابن حبان والدارقطني في الأفراد والبيهقي في الشعب وغيرهم، كلهم من طريق قيس بن حازم قال: قام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] وإنكم تضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) [337]، ولابن مردويه عن ابن عباس قال: قعد أبو بكر على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم سمّي خليفة رسول الله فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم مد يده فوضعها على المجلس الذي كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يجلس عليه من منبره، ثم قال: سمعت الحبيب وهو جالس في هذا المجلس يتأول هذه الآية، ثم فسرها فكان تفسيره لها أن قال: (نعم ليس من قوم يعمل فيهم بمنكر ويفسد فيهم بقبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلا حق على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا، ثم لا يستجاب لهم)، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال: (أن لا أكون سمعته من الحبيب صُمّتا)
10. قال محمد عبده: ويشترط بعضهم للوجوب شرطا آخر، وهو الأمن على النفس، وكان ينبغي أن يقولوا: على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا ينفر الناس أو لا يحملهم على إيذائه، فإن الله يقول: إنه لا نجاة للناس إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولن يشترط في ذلك شرطا، أي فيجب أن نأخذ النصوص على إطلاقها وأن نقوم بها بقدر الاستطاعة أو الطاقة، ونتقي مع ذلك ما يحف بها من المهالك.
11. جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان محفوفا بالمكاره والمخاوف، وكم قتل في سبيل الله ذلك منهم من نبي وصديق، فكانوا أفضل الشهداء، وفي حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى أمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ورواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر)، وقد ورد من تصدي علماء السلف لنصيحة الملوك والأمراء الظالمين وإيذاء هؤلاء لهم وسفكهم دماء بعضهم ما يرد شرط أولئك المشترطين للأمن عليهم ويضرب به وجوههم.
12. لا ينافي هذا كون التوقي من الهلكة واجبا لذاته في هذه الحالة، كما يجب في حال الجهاد بالسيف، فلا نترك الدعوة إلى الخير ولا الجهاد دونه خوفا على أنفسنا حرصا على الحياة الدنيا، ولا نفرط بأنفسنا في أثناء دعوتنا وجهادنا فيما لا تتوقف الدعوة ولا حمايتها عليه، وقد يكون أكثر ما يصيب الداعي إلى الخير من الأذى ناشئا عن طريقة الدعوة وكيفية سوقها إلى المدعو، لا سيما إذا كان مسلما وكانت الدعوة مؤيدة بالكتاب والسنة ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، قال محمد عبده: إن الله تعالى أمر الناس بالتواصي بالحق والدعوة إلى الخير، وأمرهم أن يعدوا لذلك عدته ويعرفوا سبله، وهي مبسوطة في السنة كقصة ذلك الرجل الذي يريد الزنا كما روى ابن جرير من حديث أبي أمامة أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فهمّ من كان قرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتناولوه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: دعوه ثم قال له: (أتحب أن تفعل هذا بأختك؟ قال: لا، قال: فبابنتك؟ قال: لا، فلم يزل يقول فبكذا فبكذا كل ذلك يقول لا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فاكره ما كره الله وأحب لأخيك ما تحب لنفسك) كذا في كنز العمال وذكره الغزالي في باب آداب المحتسب من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء، قال: وقد روى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قربوه إذن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ ـ وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك: وقالا جميعا في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يده على صدره وقال: (اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه) فلم يكن شيء أبغض إليه منه يعني من الزنا قال الشارح قال العراقي: رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح.. وكقصة الأعرابي الذي عاهد الرسول على ترك الكذب، فهذه هي الحكمة وبها تجب القدوة ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 33] وإنا لن نكون متبعين له حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على سنته وطريقته، أي في اللطف وتحرى الإقناع.
13. في هذا المقام ـ مقام أمن المتصدي للدعوة والأمر والنهي على نفسه وماله كما قيل ـ يأتي بحث تغيير المنكر بالفعل؛ وهو مرتبة غير مرتبة التناصح لا بد فيها من قدرة خاصة، ولذلك قالوا: إنها من خصائص الحكام، فيشترط فيها إذنهم، وفي قول آخر: لا يشترط، والأصل في ذلك حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي سعيد الخدري، وأنت ترى أن الخطاب فيه للأمة، وقد يقال: إنه إذن منه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حاكم المسلمين في زمنه فهو تشريع وتنفيذ، وقال محمد عبده في الدرس هنا: يخلطون بين النهي عن المنكر وتغيير المنكر الذي جاء في حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره)، وهذا شيء آخر غير النهي البتة، فإن النهي عن الشيء إنما يكون قبل فعله وإلا كان رفعا للواقع أو تحصيلا للحاصل، فإذا رأيت شخصا يغش السمن مثلا وجب عليك تغيير ذلك ومنعه منه بالفعل إن استطعت فالقدرة والاستطاعة هنا مشروطة بالنص، فإن لم تقدر على ذلك وجب عليك التغيير باللسان وهو غير خاص بنهي الغاش ووعظه بل ويدخل فيه رفع أمره إلى الحاكم الذي يمنعه بقدرة فوق قدرتك، أما التغيير بالقلب فهو عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله، وللنهي طرق كثيرة وأساليب متعددة ولكل مقام مقال.
14. نعم إن دعوة الأمة غيرها من الأمم إلى الخير الذي هي عليه لا يطالب بها كل فرد بالفعل إذ لا يستطيع كل فرد ذلك، وإنما يجب على كل فرد أن يجعل ذلك نصب عينيه حتى إذا عنّ له بأن لقي أحدا من أفراد تلك الأمم دعاه لا أنه ينقطع لذلك ويسافر لأجله؛ وإنما يقوم بهذا طائفة يعدون له عدته وسائر الأفراد يقومون به عند الاستطاعة فهو يشبه فريضة الحج، هي فرض عين ولكن على المستطيع وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد من فريضة الحج ولم يشترط فيها الاستطاعة لأنها مستطاعة دائما.
15. سؤال وإشكال: عند هذا قال قائل: إن من الناس من لا يستطيع ذلك قطعا، والجواب: فرد عليه قوله وضرب له مثلا طائفة الشيعة فإنهم لما كانت الدعوة ملتزمة عندهم صاروا كلهم دعاة عندما يعن لهم من يدعونه، وذكر أنه لما كان في بيروت احتاج إلى ظئر لإرضاع بنت له فجيء بظئر شيعية من المناولة فكانت في الدار تدعو النساء إلى مذهبها قال: إن رعاة الإبل من الصحابة والتابعين كانوا يدعون كل أحد إلى الإسلام حتى الملوك والأمراء، فهذا يدل على أن الأمة إذا أرادت الدعوة لا يقف في سبيلها شيء: وقد تقدم قوله أن الجهل ليس بعذر للمسلم لأنه يجب أن يكون عالما.
16. ثم قال ما حاصله: جملة القول إن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض حتم على كل مسلم كما تدل عليه الآية في ظاهرها المتبادر وغيرها من الآيات كقوله تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: 79) وكذلك عمل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وكون هذا حفاظا للأمة وحرزا ظاهرا، فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض على ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة وكانوا أفذاذا متفرقين لا جامعة لهم ولهذا ضرب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للمداهن مثل راكب في سفينة يطوف على جماعة معه بماء وكل ينفر مما معه فقال لهم: إني في حاجة إليه وذهب ينقر في السفينة فإن أخذوا على يده نجوا ونجا معهم وإلا هلك وهلكوا جميعا ففشو المنكرات مهلكة للأمة ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25] فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش: فهذا ليس من فروض الكفاية التي يتواكل فيها الناس كصلاة الجنازة إذ لا يجب على كل من علم أن هنا ميتا أن ينتظر غسله ليصلي عليه بل يكفي أن يعلم أنه يوجد من يصلي عليه ولكنه إذا رأى منكرا وجب عليه أن ينهى عنه ولا ينتظر غيره لأنه تغير على رأيه.
17. يظهر تذييل الآية بقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ على هذا الوجه ما لا يظهر على الوجه الآتي فهو يقول إن القائمين بما ذكرهم الفائزون بما أعده الله من السعادة لأهل الحق دون سواهم ولا يصح أن يكون خاصا بالقائمين بفرض الكفاية وفسره محمد عبده بالفلاح في الدنيا فالأمة التي تترك ذلك تكون من الخاسرين لا المفلحين.
18. قال محمد عبده: بقي علينا بيان معنى الآية على القول بأن (من) للتبعيض وتقدير الكلام: ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فههنا فريضتان إحداهما على جميع المسلمين والثانية على الأمة التي يختارونها للدعوة، ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة وليس معناه الجماعة كما قيل وإلا لما اختير هذا اللفظ والصواب أن الأمة أخص من الجماعة فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.
19. قال محمد عبده ما مثاله مع شيء من التفصيل: إذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مكلفا الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية فهم مكلفون بمقتضى هذا الوجه الثاني أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر على تنفيذه إن لم يوجد ذلك بطبعه، فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب على كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا ويختاروا منهم من يرونه أهلا لهذا العمل ـ وعبارة الأستاذ: ويختاروا واحدا منهم أو أكثر، كأنه يريد بالواحد أن ينضم إلى من يختار من سائر القرى والبلاد لأجل الضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام في غير بلاده أو لإقامة بعض الفرائض والشعائر أو إزالة بعض المنكرات من بلد آخر من بلاد المسلمين، وإلا فالواجب على أهل القرية أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ الأمة ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها كما يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي سواء كان في الحواضر أو البوادي، فإن معنى الأمة يدخل فيه معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها كأنهم شخص واحد كما هو ظاهر وصرح به الأستاذ في هذا المقام.
20. قال محمد عبده: وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره وتقرير الأحكام وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلك ولذلك جعلت أمة، وفي معنى الأمة القوة والاتحاد وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد ولا تعتذر بالضعف يوما ما، فتترك ما عهد إليها وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين.
21. لا نتكلم هنا فيما طرأ على الإسلام فأزال تلك الوحدة، ولكننا نذكر ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر أي القائمة بالواجبات التي هي قوام الوحدة وحفاظها فإن أعمالها لا تتم إلا بأمور كثيرة: أقول وذكر أمورا مجملة على سبيل المثال نفصلها ونزيد عليها فنقول:
أ. العلم التام بما يدعون إليه ـ ذكر الأستاذ ذلك ولم يبينه هنا، وقال في موضع آخر إن أول ما يجب على هؤلاء الدعاة العلم بالقرآن والعلم بالسنة وسيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسلف الأمة الصالح وبالقدر الكافي من الأحكام: فهذا شيء من البيان وهو في نفسه يحتاج إلى بيان وتفصيل أهمه: أن العلم بالقرآن إنما ينظر فيه قبل كل شيء إلى كونه هدى وعبرة وموعظة على نحو تفسيرنا هذا، وكذلك السنة وما صح من أقوال الرسول وسيرته وينظر في هذا أيضا إلى الفرق بين ما تواتر عملا وما صح سندا وما ليس كذلك.
ب. العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يعبر عنه في عرف العصر بحالهم الاجتماعية.
ج. مناشىء علم التاريخ العام ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات فيبنون الدعوة على أصل صحيح ويعرفون كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال، ولهذا كان القرآن مملوءا بعبر التاريخ.
د. علم تقويم البلدان ليعد الدعاة لكل بلاد منها عدتها إذا أرادوا السفر إليها وقد كان الصحابة أعلم أهل زمانهم بالتاريخ وما يسمى الآن بتقويم البلدان وبالجغرافية ولذلك أقدموا على الفتوح ومحاربة الأمم فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل فلو كانوا يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقعا للقتال فيها لهلكوا وكان الجهل أول أسباب هلاكهم، ومن قرأ ما حفظ من خطبهم وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها ومحاوراتهم في تدبير الأعمال يظهر له ذلك بأجلى بيان، قال محمد عبده ما مثاله: ومن الناس من ينفر من التاريخ وتقويم البلدان الذي هو فرع من فروعه وما أضر هؤلاء إلا بأنفسهم وأمتهم!! فقد قطعوا الصلة بينهم وبين القدوة الصالحة من سلفهم حتى صار أكثر المسلمين لا يعرفون مبدأ الإسلام ولا كيفية نشأته ولا كيف انتسبوا إليه فالتاريخ يعرف الإنسان بنفسه من حيث هو متدين إن كان له دين أو من حيث هو إنسان إن كان من بني الإنسان، وما أضر بالفقه شيء كالجهل بالتاريخ لأننا لو حفظنا تاريخ الناس، ومنه عاداتهم وعرفهم ومصالحهم في البلاد التي كان فيها المجتهدون الواضعون لهذا الفقه، لكنا نعرف من أسباب خلافهم ومدارك أقوالهم ما لا نعرفه اليوم، فما كان ذلك الخلاف جزافا ولا عبثا، ألم تر أن الشافعي وضع بعد مجيئه إلى مصر مذهبا جديدا غير المذهب القديم الذي كان عليه أيام لم يكن خبيرا بغير الحجاز والعراق، وكذلك كان ما خالف به أبو يوسف أستاذه أبا حنيفة مما يرجع الكثير منه إلى ما اختبره من حال الناس في مصالحهم ومنافعهم وعرفهم، فبالله كيف ينتسب امرؤ إلى إمام ويشتغل بعلم مذهبه وهو لا يعرف تاريخه وتاريخ عصره!! وجملة القول: إن الجاهل بالتاريخ لا يصلح أن يكون فردا من الأمة الداعية إلى الإسلام الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر في الأمور العامة على الوجه الذي يرجى قبوله.
هـ. علم النفس وهو يساوي علم التاريخ في المكانة والفائدة أي العلم الباحث عن قوى النفس وتصرفها وعلومها وتأثير علومها في أعمالها الإرادية، مثال ذلك أن الأصل أن يكون العمل تابعا للعلم ولكن كثيرا من الناس يعتقدون أن عمل كذا ضارّ ويأتونه وعمل كذا نافع ويتركونه (والمحرم شرعا كله ضار والحلال كله نافع) فما هو السبب في ذلك وهل يحسن دعوة هؤلاء إلى الخير وإقناعهم بترك الشر من لا يعرف لماذا تركوا الخير واقترفوا الشر؟ فهذه المعرفة هي من علم النفس الذي يؤخذ منه أن من العلم ما يكون صفة للنفس حاكمة على إرادتها مصرفة لها في أعمالها، ومنه ما هو صورة تعرض للذهن لا أثر بها في الإرادة فلا تبعث على العمل وإنما يكون مظهره القول أحيانا.
و. علم الأخلاق، وهو العلم الذي يبحث فيه عن الفضائل وكيفية تربية المرء عليها وعن الرذائل وطرق توقيه منها وهو ضروري، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الكلام فيه.
ز. علم الاجتماع، ولم يذكره محمد عبده تفصيلا ولا إجمالا ولعل سبب ذلك عدم وجود كتب فيه بالعربية يرغب طلاب الأزهر فيها إلا ما في مقدمة ابن خلدون وهو العلم الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتدليها وترقيها، على أن هذا العلم مستمد من علم التاريخ وعلم الأخلاق، فمن كان له حظ عظيم منهما فإنه قد يستغني به عن هذا العلم في بناء الدعوة والإرشاد، على قواعد الحكمة والسداد، وإن كانت دراسته مزيد كمال فيه وفي فوائده العظيمة، وقد ذكرته للترغيب فيه وحث أهل الاستعداد منا على التصنيف فيه والاستعانة بما صنفه الغربيون على ذلك ليتمكن كل مريد له من تناوله إذ ليس كل مطلع على التاريخ وعلم الأخلاق أهلا لاستنباط قواعد علم الاجتماع منهما وإنما يكون ذلك للأقلين من العقلاء وهم لا يستغنون عن الوقوف على ما اهتدى إليه من كتبوا في ذلك من قبلهم، وقد جاء في القرآن كثير من قواعد هذا العلم فغفل أكثر المفسرين عنه ولم يهتد إلى فقه بعضه إلا قليل منهم إذ لم يكن هذا العلم مدونا في عهدهم فينبههم إلى ذلك، وقد تقدم في تفسيرنا هذا بيان كثير من تلك القواعد وسنعقد له فصلا حافلا في مقدمة التفسير التي نبين فيها فقه القرآن في جملته إن شاء الله تعالى.
ح. علم السياسة وقد ذكره محمد عبده هنا مجملا وليس مراده به السياسة الشرعية التي كتب فيها ابن تيمية وغيره، وإن كانت مما لا يستغنى عنها ولكنها داخلة في علم الكتاب والسنة والأحكام، وإنما المراد به العلم بحال دول العصر وما بينها من الحقوق والمعاهدات وما لها من طرق الاستعمار، فالأمة التي تؤلف للدعوة في بلاد غير بلاد المسلمين المستقلة لا يتيسر لها ذلك إذا لم تكن عارفة بسياسة حكومة تلك البلاد، وهذا شيء غير ما تقدم من اشتراط معرفة حال من توجه إليهم الدعوة، والسياسة بهذا المعنى لم تكن في عصر الصحابة.
ط. العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها، وقد ورد في صحيح البخاري: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بعض الصحابة بتعلم اللغة العبرانية لأجل اليهود الذين كانوا مجاورين له على أنهم قد استعربوا، فما كانت معرفة لغتهم الأصلية إلا مزيد كمال في الفهم عنهم ومعرفة حقيقة شأنهم، ولا يقال: إن الأمة التي تؤلف للدعوة إلى الإسلام يمكنها أن تستغني عن تعلم لغات الأمم بالمترجمين من غير المسلمين، فإنها إن ظفرت بالمترجم الأجنبي الأمين لا يتيسر لها أن تفهمه من حقيقة الدين عند الترجمة ما يفهمه العالم المسلم، وإنما يلجأ إلى مثل ذلك عند الضرورة، أما إذا أمكن تأليف جمعية للدعوة فالواجب أن يكون فيها من المسلمين العارفين باللغات من يكفيها الحاجة إلى ترجمة الأجنبي كما تفعل جمعيات الدعوة إلى النصرانية فإن أفرادا منها يتعلمون لغات جميع الأمم، ولم يبين محمد عبده هذا في الدرس لأنه لم يتصد إلى بيان كل ما يتوقف عليه العمل في تعميمه وكماله وإنما ذكر ما ذكره على سبيل المثال لتنبيه الأذهان، والترغيب فيما يتيسر لأهل الأزهر في هذا الزمان، ولو شرح في هذا المقام فوائد تعلم اللغات الأجنبية وتوقف ما يجب من الدعوة إلى الإسلام عليها لقام أعداء الإصلاح وخاذلو الدين القاعدون له كل مرصد يصيحون في الجرائد والمحافل بأن الشيخ المفتي يريد أن يهدم الدين في الأزهر بحث طلابه على تعلم اللغات الأجنبية كما فعلوا مثل ذلك عند حثه إياهم على تعلم التاريخ وتقويم البلدان وبعض الفنون الرياضية، وإن صياحهم في مسألة اللغات يكون أوضح شبهة عند الجمهور الجاهل وليس هذا البحث بأجنبي عن التفسير بل هو أولى من مباحث الرازي في علوم اليونان وتوسع غيره في الإسرائيليات أو اللغويات لأن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن، وطرق الاهتداء به في هذا الزمان، ولن نكون مهتدين به حتى تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهى عن المنكر من الطرق التي يرجى نفعها وذلك يتوقف على ما ذكرناه، فوجب علينا أن نبين خطأ من يصد عنه.
ي. العلم بالفنون والعلوم المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة ولو بقدر ما يفهم به الدعاة ما يورد على الدين من شبهات تلك العلوم والجواب عنها بما يليق بمعارف المخاطبين بالدعوة.
ك. معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها ليتيسر للدعاة بيان ما فيها من الباطل، فإن من لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه،، وقد كنت كتبت في سنة المنار الثالثة مقالة في الدعوة وطريقها وآدابها جعلت فيه هذا الشرط وما قبله واحدا، فقلت فيه: (ثالثها ـ أي الشروط ـ الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية، والعلوم والفنون الدنيوية، ما يتعلق منها بالدعوة، ويصلح أن يكون شبهة، ومن جهل هذا القدر كان عاجزا عن إزالة الشبهات، وحل عقد المشكلات، ومن فاته هذا الشرط وما قبله ـ وهو العلم بالأخلاق والعادات ـ لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام، كما كان شأن سادة الدعاة عليهم الصلاة والسلام، ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية، أن ما كان من جهلهم بالعلوم الكونية، ومعاداتهم لها، وتحكيمهم الدين فيها، مؤذن باضمحلالها، ومفض إلى زوالها، فأخذوا بزمامها، وقادوها بخطامها، وقربوا بين عالمي الملك والملكوت، وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت، وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين، وإعلاء كلمته بين العالمين، وديننا هو الذي ربط بين العالمين ولكننا نقطع الروابط، وجمع بين العالمين ولكننا نهدم الجوامع، ولهذا جهلنا وتعلموا، وسكتنا وتكلموا، وتأخرنا وتقدموا، ونقصنا وزادوا، واستعبدنا وسادوا)
22. كل هذا من الشروط العلمية، وللدعوة شروط أخرى تتعلق بتربية الدعاة على الأخلاق والآداب التي تشترط في الدعاة إلى الحق.. وإن لنا أن نأخذ مما استدل به الفقهاء على وجوب تعلم فنون العربية والحديث والفقه والأصول لأجل فهم الدين: دليلا على وجوب تعلم طرق الدعوة وما تحتاج إليه في هذا الزمان بطريقة صناعية، فإذا كانت الدعوة في الصدر الأول قد تيسرت بغير تعليم صناعي ولا تأليف جمعية معينة كما كان فهم الدين متيسرا بغير تعليم صناعي ففي هذا الزمان يتوقف فهم الدين على التعليم الصناعي، وتتوقف الدعوة إليه والأمر بما جاء به من المعروف وما حظره من المنكر على تعليم خاص وتأليف جمعيات خاصة تقوم بهذا العمل ولا ينتشر الدين ولا يحفظ على وجهه إلا بهذا كما تقدم التنويه به، فالمراد بالأمة التي تقيمها الأمة لذلك ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالجمعية.
23. قال محمد عبده: ومن أعمال هذه الأمة الأخذ على أيدي الظالمين، فإن الظلم أقبح المنكر، والظالم لا يكون إلا قويا، ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة، لأن الأمة لا تخاف ولا تغلب كما تقدم، فهي التي تقوم عوج الحكومة، والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية على أصول الشورى، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أقوى من قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38] لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله تعالى ـ وأقوى من دلالة قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159] فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه، ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم، وقد ورد في الحديث (لا بد أن يأطروهم على الحق أطرا)
24. هكذا نقل بعض الطلاب هذا الحديث عن محمد عبده وفسره عنه بأن معناه يفنوهم أي الظالمين ويبيدوهم، وهو كما في كنز العمال معزوا إلى أبي داود من حديث ابن مسعود (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)، وعنه عند أحمد والترمذي (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرأ)
25. معنى الآية على هذا الوجه أنه يجب أن تكون قوة المسلمين تابعة لهذه الأمة التي تقوم بفريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي بمعنى مجالس النواب في الحكومات الجمهورية والملكية المقيدة، فكأن الآية بيان لكون أمر المسلمين شورى بينهم، وما ذكره في معنى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى﴾ ومعنى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ لعله يريد به أنه يمكن أن يقال فيهما كذا، وإلا فكل من النصين دال على وجوب كون حكومة المسلمين شورى، ومجيء النص الأول في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضا حتما كما عهد نظير ذلك في الأساليب البليغة ومر معنا كثير منها.. والنص الثاني صريح في الوجوب، والضامن له الأمة المخاطبة بالتكاليف في أكثر النصوص، وإنما الآية التي نفسرها تفصيل لكيفية الضمان كما يأتي مبينا عنه رحمه الله تعالى.
26. ومما يناط بهذه الأمة(2)، وهو أصل كل معروف: النظر في تعليم الجاهلين، فإذا علمت أن في مكان ما طائفة من المسلمين جاهلين بما يجب اتخذت الوسائل لتعليمهم، ومن هنا يعلم فساد ما يقوله كثير من الفقهاء من أنه لا يجب عليهم أن يتصدوا لتعليم الناس ما لم يسعوا إليهم ويسألوهم، ولا يجهل أحد أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قد تصدى لتعليم الناس ولم يقعد في بيته منتظرا سؤال الناس ليفيدهم، وكذلك فعل الصحابة عليهم الرضوان اهتداء بهديه.
ثم إن كون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يكون لها رياسة تدبرها، لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا، فكل كون لا رياسة فيه فاسد، فالرأس هو مركز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها، وكذلك يكون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال على العالمين، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لكل عمل ولكل بلاد من يكونون أكفاء للقيام بالواجب فيها لتكون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام، فإن من معنى الأمة أن يكون للأفراد الذين تتكون منهم وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم، فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنكيث القوى، ولذلك جاء بعد هذه الآية النهي عن التفرق والاختلاف.
27. ثم إن كون الأمة الخاصة منتخبة من الأمة العامة يقتضي أن تكون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة تحاسبها على تفريطها ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله، فالأمة الصغرى المنتخبة (بفتح الخاء) تكون مسيطرة على أفراد الأمة الكبرى المنتخبة (بكسر الخاء) وهذه تكون مسيطرة على الأمة الصغرى، وبهذا يكون المسلمون في تكافل وتضامن.
__________
(1) تفسير المنار: 4/26.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس والأرجاس، بالعمل بتقوى الله، والمحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات، والاعتصام بحبله المتين باتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء، أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس، وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طلاب الخير لهم جميعا، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) رواه مسلم، وروى البخاري وغيره حديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها ـ أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
2. المخاطب بهذا هم المؤمنون كافة فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.
3. يجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط، ليؤدى وظيفته خير الأداء، ويكون مثلا صالحا يحتذى به في علمه وعمله:
أ. أن يكون عالما بالقرآن والسنة وسيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي معرفة أحوالهم الاجتماعية.
ب. أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه، ومعرفة حقيقة حالهم.
ج. معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه.
4. على الجملة لا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان على مقدار علمهم في المساجد والمعابد والمنتديات العامة، وفي المحافل عند سنوح الفرصة، فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا في دنياهم وآخرتهم، وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها، إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها، وسيادتها العالم كله.
5. لن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقىّ، وتختلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى، ويشار إليهم بالبنان وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلّفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح، وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن خير الناس؟ فقال: (آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم)، وعنه أنّه قال: (والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم)، وعن علىّ كرم الله وجهه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومن غضب لله غضب الله له.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/21.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها.. هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض، ولتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر.. هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه، ووفق منهجه.. فهي التي تقررها الآية التالية: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
2. الذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته، فهناك (دعوة) إلى الخير، ولكن هناك كذلك (أمر) بالمعروف، وهناك (نهي) عن المنكر، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان، فإن (الأمر والنهي) لا يقوم بهما إلا ذو سلطان.
3. هذا هو تصور الإسلام للمسألة.. إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى.. سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر.. سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله.. سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر.. وتحقيق هذا المنهج يقتضي (دعوة) إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج، ويقتضي سلطة (تأمر) بالمعروف (وتنهى) عن المنكر.. فتطاع.. والله يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾.. فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان، فهذا شطر، أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوره، زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب! والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ من ثم ـ تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم، وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المتسلط، وفيهم الهابط الذي يكره الصعود، وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد، وفيهم المنحل الذي يكره الجد، وفيهم الظالم الذي يكره العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف، ويعرفون المنكر، ولا تفلح الأمة، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفا، والمنكر منكرا.. وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى، وتطاع، ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين: الإيمان بالله والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف، وجعل القيام به شريطة الفلاح، فقال عن الذين ينهضون به: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
4. إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته، فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية، هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير، المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل، والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم.. عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر، والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة، والحق فيه أقوى من الباطل، والعدل فيه أنفع من الظلم، فاعل الخير فيه يجد على الخير أعوانا، وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا.. ومن هنا قيمة هذا التجمع، إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه، والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه.
5. التصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص.. يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا، فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة، لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية، هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه، وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة.
6. هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة، الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص، وترجع إلى ميزان واحد تقوّم به كل ما يعرض لها في الحياة، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض.. والأخوة في الله، كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار، الإيثار المنطلق في يسر، المندفع في حرارة، المطمئن الواثق المرتاح.
7. وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى: في المدينة ـ على هاتين الركيزتين.. على الإيمان بالله: ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله ـ سبحانه ـ وتمثّل صفاته في الضمائر؛ وتقواه ومراقبته، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال، وعلى الحب، الحب الفياض الرائق، والود، الود العذب الجميل، والتكافل، التكافل الجاد العميق.. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا، لولا أنه وقع، لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان! وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/445.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم، فغيروا، وبدلوا، وحرفوا.. وهذه خيانة لله، وخيانة للعلم، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المؤتمنون على دعوة السماء، بعد الرسل، يعلّمون الجاهلين، ويهدون الضالين، ويقيمون المنحرفين، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير في المجتمع، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية، أن تندّب منها أمة، أي جماعة، يتولون قيادة الناس، وهدايتهم إلى سبل الرشاد، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وبهذا يقومون في المجتمع مقام الأطباء، الذين يرصدون الآفات والأمراض التي تعرض للناس، فيعملون على دفعها، والقضاء عليها.
2. يمكن أن يكون قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة.. أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ويكون معنى (من) في (منكم) للبيان لا للتبعيض، وهذا ما يناسب قول الله تعالى بعد هذه الآية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، وسواء أكان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/542.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا مفرّع عن الكلام السّابق: لأنّه لمّا أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمرّين ثمّ الأحلوين، فحلبوا الدّهر أشطريه، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هو فيه إلى حسنى ما هم عليه حتّى يكون النّاس أمّة واحدة خيّرة، وفي غريزة البشر حبّ المشاركة في الخير لذلك تجد الصّبي إذا رأى شيئا أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه، ولذلك كان هذا الكلام حريا بأن يعطف بالفاء، ولو عطف بها لكان أسلوبا عربيا إلّا أنّه عدل عن العطف بالفاء تنبيها على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريّا بأن يؤمر به، فلا يكون مذكورا لأجل التفرّع عن غيره والتبع، وفيه من حسن المقابلة في التّقسيم ضرب من ضروب الخطابة: وذلك أنّه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدّهم النّاس عن الإيمان، فقال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [آل عمران: 98، 99] الآية، وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102] وقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ الآية.
2. صيغة ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ صيغة وجوب لأنّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنّها أصلها، فإذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدلّ عليه قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدّعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّرا من قبل بآيات أخرى مثل: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]، أو بأوامر نبويّة، فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدّوام والثبات عليه، مثل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ﴾ [النساء: 136]
3. الأمّة: الجماعة والطائفة كقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: 38]، وأصل الأمّة في كلام العرب الطّائفة من النّاس الّتي تؤمّ قصدا واحدا: من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعيّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم: أمّة العرب وأمّة غسان وأمّة النصارى.
4. المخاطب بضمير (منكم):
أ. إن كان هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنفا جاز أن تكون (من) بيانيّة وقدّم البيان على المبيّن ويكون ما صدق الأمّة نفس الصّحابة، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى: ولتكونوا أمّة يدعون إلى الخير فهذه الأمّة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكوّنوا من مجموعهم الأمّة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير، والمقصود تكوين هذا الوصف، لأنّ الواجب عليهم هو التّخلق بهذا الخلق فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمّة المطلوبة، وهي أفضل الأمم، وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز، وفي هذا محسّن التجريد: جرّدت من المخاطبين أمّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال: لفلان من بنيه أنصار، والمقصود: ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتّى تكونوا أمّة هذه صفتها، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير، ولا جرم فهم الّذين تلقوا الشّريعة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرة، فهم أولى النّاس بتبليغها، وأعلم بمشاهدها وأحوالها، ويشهد لهذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مواطن كثيرة: (ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلّغت)، وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين، كما قاله ابن عطية.
ب. ويجوز أيضا على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن تكون (من) للتبعيض، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق، أي: وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية: قال الضّحاك، والطبري: أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة، فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة.
5. على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى، ومن النّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ [التوبة: 122] الآية.
6. وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعا لكون المخاطب بيا أيها الّذين آمنوا إيّاهم أيضا، كانت (من) للتبعيض لا محالة، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية، والطبري، ومن تبعهم، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الّذى فرض على الأمّة وقوعه.
7. على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون (من) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك، ويكون هذا جاريا على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم: باهلة لئام، وعذرة عشّاق، وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ كما سيأتي.
8. إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت: فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية، يعني إذا قام به بعض النّاس كفى عن قيام الباقين، وتتعيّن الطائفة الّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها، كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وكذلك تعيّن العدد الّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدوّ، ولمّا كان الأمر يستلزم متعلّقا فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط، ومجموع أهل البلد، أو القبيلة، لتنفيذ ذلك، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة، لسكوت جميعهم، ولتقاعس الصّالحين للقيام بذلك، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنّما يثاب البعض خاصّة.
9. معنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام، وبثّ دعوة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام: ففي حديث حذيفة بن اليمان (قلت: يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شرّ) الحديث، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره، وهو أصل العطف، وقيل: أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به.
10. حذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التّعميم أي يدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس: 25]
11. المعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به، لأنّ الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيّا به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشّرائع، وهو الحقّ والصلاح، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.
12. المنكر مجاز في المكروه، والكره لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد، لأنّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض.
13. التّعريف في (الخير ـ والمعروف ـ والمنكر) تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.
14. من المفسّرين من عيّن جعل (من) في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ للبيان، وتأوّل الكلام بتقدير تقديم البيان على المبيّن فيصير المعنى: ولتكن أمّة هي أنتم أي ولتكونوا أمّة يدعون محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية، ومضمون قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: 110] الآية، ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لجواز أن يكون المراد من خير أمّة هاته الأمّة، الّتي قامت بالأمر بالمعروف، على ما سنبيّنه هنالك.
15. الآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولا شكّ أن الأمر والنّهي من أقسام القول والكلام، فالمكلّف به هو بيان المعروف، والأمر به، وبيان المنكر، والنّهي عنه، وأمّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به، وأمّا ما وقع في الحديث: (من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)، فذلك مرتبة التغيير، والتّغيير يكون باليد، ويكون بالقلب، أي تمنّى التّغيير، وأمّا الأمر والنّهي فلا يكونان بهما.
16. المعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما، وإن كانا نظريّين، فإنّما يقوم بالأمر والنّهي فيهما أهل العلم.
17. للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية، إلّا أنّي أنبّه إلى شرط ساء فهم بعض النّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء: يشترط أن لا يجرّ النّهي إلى منكر أعظم، وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب، ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطه أن يتحقّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لا أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلّا ظنّ أقوى.
18. لمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التّغيير، وإفهام النّاس ذلك، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة، وقد أولى عمر بن الخطّاب في هاته الولاية أم الشفاء، وأشهر من وليها في الدولة العبّاسيّة ابن عائشة، وكان رجلا صلبا في الحق، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمّد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفّي سنة 220، وكانت في الدولة الحفصيّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيّة.
19. جملة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ معطوفة على صفات أمّة وهي الّتي تضمّنتها جمل ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والتقدير: وهم مفلحون: لأن الفلاح لمّا كان مسبّبا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ حالا من أمّة، والواو للحال، والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك، وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل الّتي قبلها، فهي أجدر بأن تلحق بها، ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/179.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله تعالى؛ والاستمساك بالقرآن الكريم، والالتفاف حوله، وعدم التفرق والانقسام ـ بيّن سبحانه وتعالى السبيل لهذا الاعتصام، والطريق للوحدة الفاضلة، التي لا تفرق فيها، ولا اختلاف يفك عراها، ويهدم بنيانها، وذلك السبيل هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولذلك فرضه سبحانه وتعالى بقوله تقدست كلماته: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
2. المعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقا مع الفطرة الإنسانية التي لا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية، وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه، ومهما يحاول الذين يريدون حل المجتمعات الفاضلة وهدم بنيانها، من إنكار لتلك الحقائق، وادعاء أنها ليست مقومات الإنسانية، وأنها اتفاقات زمنية، وأوهام سيطرت على العقول ـ فلن يصلوا إلى غاياتهم، وإن ادعوا أن ما يقولونه هو طبيعة الوجود، ولذا سموا أنفسهم وجوديين، وذلك لأن كلامهم ضد طبائع النفوس، وضد السمو الإنساني عن الطبيعة الحيوانية، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإن الأعرابي الذي سئل: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول افعل ـ أكبر إدراكا من هؤلاء المتفلسفة، وأكثر اتصالا بطبائع الوجود الإنساني منهم، وهم في حقيقة أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية.
3. (من) في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ قيل: إنها بيانية، وقيل، إنها تبعيضية، وهى تحتملهما معا:
أ. وعلى أنها بيانية يكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى تقدست كلماته: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ مثل قول القائل: ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد، أي ليكن منك رجل خير ورجل جهاد، فالمعنى الجملي للنص الكريم: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر أن يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتد سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يجدّ في شؤون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كلّ في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلا يرفث في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلا لا يصلى حثه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لا بالجفوة والعنف فإن الجفوة لا تجدى بل تبعد، والمودة تجدى وتقرب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.. هذا سياق القول على أن (من) بيانية.
ب. أما سياقه على أنها تبعيضية، فيكون المعنى: ليكن بعض منكم أمة أي طائفة تؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير أي إلى كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
4. على ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان:
أ. أحدهما موجه إلى الأمة كلها، وهو إعداد هذه الطائفة التي تقوم بالإرشاد العام والتوجيه الفكري والنفسي، وتزويدها بكل ما يمكنها من أداء مهمتها، والقيام بالواجب عليها على الوجه الأكمل.
ب. وثاني الواجبين هو واجب هذه الطائفة التي تكونت، والوجوب عليها أخص من الوجوب الأول.
5. وكذلك الشأن في كل الفروض الكفائية، فيها وجوبان: وجوب خاص على من عندهم الأهلية الخاصة للواجب الكفائى، ووجوب عام على الأمة كلها، وهو تمكين هؤلاء الخاصة من القيام بواجبهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه.
6. رجح الزمخشري أن تكون (من) تبعيضية، وقال في ذلك: (من: للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف، وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه، وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإنكار إليه عبث، كالإنكار على الجلادين وأضرابهم)
7. الأمة التي تقصد وتكون من صفوة الأمة لها عملان متمايزان بنص الآية: أحدهما: الدعوة إلى الخير، وثانيهما: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
أ. أما الأول فهو توجيه الأمة إلى النفع العام، فالخير هو كل أمر نافع في الدنيا أو في الآخرة، كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء بوثائق من الدين والنصوص المحكمة التي لا تقبل التخلف، وإنشاء المساجد ودور التعلم وتوجيهها التوجيه السليم، فكل هذا دعوة إلى الخير، وبعبارة عامة شاملة الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والأدبية.
ب. أما الثاني وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فالمراد به نشر الفكر الإسلامي، وبيان الحقائق الدينية، وتوجيه النفوس إليها وجذبهم نحوها، ودفع كل ما ليس بإسلامى، وإقامة الحق والعدل، وهو مقام سام لا يصل إليه إلا ذوو الهمة والتقى من الرجال، وهو شاق إن أدى على وجهه، بحيث يرشد الحاكم والمحكوم، والقوى والضعيف، لا يخشى في الله لومة لائم، لا يجمجم إذا كان المنكر من قوى ظالم، ويغلظ ويعنف إن كان المنكر ممن لا يخشى بطشه ولا يرجى عطاؤه، ولا يتأول لتصرفات من يخاف شره ويطمع في خيره.
8. إن كان المرشد على ذلك النحو فقد سار في طريق النبيين، ولقد روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)، وهو بهذا الاعتبار خير الناس، ومعنى خلافته عن الله تعالى أن يكون مصلحا في الأرض غير مفسد فيها، ولذا قال تعالى عند خلق آدم للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة] فخلافة الله في الأرض تقتضى الصلاح والدعوة إليه، وذلك ما يقوم به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولقد سئل صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم وأوصلهم)، ولقد قال أبو الدرداء: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما، لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وينتصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم)
9. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مراتب، تعلو كل مرتبة عن الأخرى بمقدار ما يكون فيها من مشقة وتعرض للعنت مع الجدوى والفائدة، ولذا كان أعلاه ما يوجه إلى الجائرين من الحكام والأمراء؛ ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وبذلك اعتبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه المرتبة جهادا، واعتبر من يقتل في سبيلها شهيدا، كمن يقتل في الحرب، بل اعتبره في أعلى درجات الشهداء، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك)
10. ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وخصوصا للأمراء والحكام هو الذي أضاع المسلمين في الماضي وأضاع بنى إسرائيل قبلهم، ولقد روى في ذلك أحمد والترمذي وأبو داوود أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)
القيام بحق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يؤدى إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ولذا ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي أولئك الذين قاموا بهذا الواجب هم المفلحون، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب، ففي النص قصر، أي نفى وإثبات، فهو يثبت الفلاح لهم، وينفى الفلاح عن غيرهم ممن لم يقم بهذا الواجب المقدس، فهو مناط عزة الأمة ورفعتها وقوتها وتقدمها، ونشر العدل والحق والإيمان في ربوعها.
11. الإشارة هنا إلى الأمة كلها سواء اعتبرنا (من) بمعنى بعض، أم اعتبرناها بيانية:
أ. وإذا كانت بيانية فالأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ لأن الأمة هي في جملتها الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الداعية إلى الخير.
ب. وأما على أن الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي طائفة معينة من مجموع المؤمنين، فإن النتيجة من حيث الفوز والفلاح لا يعود على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحدهم، بل الفائدة تعود عليهم أجمعين، إذ إن ضرر الترك يعود عليهم أجمعين، وإنه لا نجاة للأمة إلا إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقد ضرب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مثلا لترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بقوم يركبون سفينة، ووجدوا واحدا يخرق السفينة، فإن تركوه غرق وغرقوا معه، وإن أخذوا على يده نجا ونجوا معه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1343.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بالخير هنا الإسلام، وبالمعروف طاعة الله، وبالمنكر معصيته، ومحصل المعنى انه لا بد من وجود جماعة تدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وتدعو المسلمين إلى ما يرضي الله، ويثيب عليه، وترك ما يغضبه، ويعاقب عليه.
2. لفظ (منكم) في الآية قرينة على ان وجوب الأمر بالمعروف على سبيل الكفاية، دون العين، إذا قام به البعض سقط عن الكل.
3. ليس من الضروري أن يكون القائم بهذه المهمة عادلا، بحيث لا يجوز للفاسق أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.. كلا، لأمرين:
أ. الأول ان شرط الحكم تماما كالحكم لا يثبت الا بدليل، ولا دليل على شرط العدالة هنا لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من العقل.
ب. الثاني ان حكم الآمر بالمعروف لا يناط بطاعة أو معصية غيره من الأحكام.
4. كثير من الفقهاء اشترطوا لوجوب الأمر بالمعروف أن يكون الآمر آمنا على نفسه، بحيث لا يصيبه أي ضرر إذا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ولكن هذا الشرط لا يطرد في جميع الموارد، فإن قتال من يحاربنا من أجل ديننا وبلادنا واجب، مع العلم بأن القتال يستدعي الضرر بطبعه: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾.. ويجوز لكل انسان أن يضحي بحياته إذا تيقن ان في هذه التضحية مصلحة عامة، وفائدة للعباد والبلاد أهم وأعظم من حياته، بل هو مشكور عند الله والناس، وفي الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)
5. خلاصة القول ان الضرر يجب دفعه إذا لم تترتب عليه فائدة، والا جاز تحمله، كما يجوز للإنسان أن يقدم على قطع عضو سقيم من أعضائه، حرصا على حياته، وخوفا على نفسه من الهلاك.
6. هذا، إلى ان للأسلوب أثره البالغ، فبعض الأساليب تنفّر من الحق، وتجر على صاحبها المتاعب والويلات، وبعضها تفرض الفكرة على سامعها فرضا من حيث لا يشعر.. والعاقل الحكيم يعطي لكل مقام ما يناسبه من القسوة واللين، وقد كان فرعون في أوج سلطانه وطغيانه، ولم يكن لموسى وهارون ناصر ولا معين، ومع ذلك أمرهما ان يدعواه إلى الحق، ولكن بأسلوب هين لين.. حتى خالق الكون جلت كلمته يخاطب عباده تارة بأسلوب التهديد والوعيد، ويقول لهم: ﴿إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ﴾، وتارة يقول لهم برفق: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
7. بالجملة ان إعلان الدعوة الإسلامية على الملأ، وتآمر المسلمين فيما بينهم بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر، ركيزة من ركائز الإسلام، ومن ثم يحتم وجود فئة معينة تقوم بهذه المهمة، تماما كما يحتم وجود سلطة تحافظ على الأمن والنظام، وفئة تختص بالصناعة، وأخرى بالزراعة، وما إلى ذاك مما لا تتم الحياة إلا به، وهذا الأصل من الأصول الأساسية لكل دين، ولكل مذهب، وكل مبدأ، ولو كان زمنيا، لأنه الوسيلة المجدية لبث الدعوة وانتصارها، وردع أعدائها، ولا شيء أدل على ذلك من اهتمام أصحاب المذاهب السياسية والاقتصادية بوسائل الاعلام، وتطورها، وبذل الملايين في سبيلها، ومن وقوف الدعاية بشتى أساليبها مع المدفع جنبا إلى جنب، وما ذاك إلا لأنهم أدركوا بتجاربهم ان الرأي العام أمضى سلاحا، وأقوى أثرا من الصواريخ والقنابل، وقد اشتهر عن أحد أقطاب الحلفاء بعد انتصارهم في الحرب العالمية انه قال: (لقد انتصرنا في المعركة بقنابل من ورق)، يعني الصحف والنشرات.
8. سؤال وإشكال: كيف تجمع بين قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وبين قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، حيث أفادت الأولى وجوب الامر بالمعروف، ودلت الثانية على عدم وجوبه بقرينة ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾، والجواب: المقصود بالآية الثانية ان من قام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المطلوب فلا يضره ضلال من ضل، واعراض من أعرض، ما دام قد أدى ما عليه: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾
9. سؤال وإشكال: لقد اشتهر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهذا الترتيب يتنافى مع ما هو معروف شرعا وعقلا وعرفا من أن تغيير المنكر انما يبتدئ أولا باللسان، فإن لم يجد فبالحرب، فما هو الوجه لقول الرسول الأعظم؟ والجواب: فرق بعيد بين تغيير المنكر، وبين النهي عن المنكر، فان النهي عن المنكر يكون قبل وقوعه ـ في الغالب ـ فهو أشبه بالوقاية، كما لو احتملت ان شخصا يفكر بالسرقة، فتنهاه عنها، أما تغيير المنكر فيكون بعد وقوعه، كما لو علمت ان شخصا سرق محفظة الغير، فان كنت قادرا على انتزاعها من السارق، وردها إلى صاحبها وجب عليك أن تباشر ذلك بنفسك إذا انحصر الرد بفعلك خاصة، ولم يلحقك أي ضرر، فإن لم تستطع وجب عليك أن تأمر السارق برد المحفظة إلى صاحبها، وتنهاه عن إمساكها، فإن لم تستطع مقت السارق، ولم ترض بفعله بينك وبين ربك.. وموضوع الحديث النبوي تغيير المنكر، لا النهي عن المنكر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/124.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الآية، التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيئ ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أي طريق هيأها وبأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل، ولا نشك أن العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوى بقوته، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه، ويفسد بفساده، وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله: {الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} الآية، ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان.
2. هذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه، وأن لا يدعو المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه، وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله: ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
3. من هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ الآية، ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير، والمنكر فيه هو الشر، ولولا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر كون الخير والشر معروفا ومنكرا بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.
4. ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، قيل: (إن) من للتبعيض بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية، وربما قيل: إن (من) بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح أمة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا: ليكن لي منك صديق أي كن صديقا لي، والظاهر أن المراد بكون (من) بيانية كونها نشوئية ابتدائية.
5. الذي ينبغي أن يقال: أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الأمة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أي حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكل كان أيضا باعتبار البعض، وبعبارة أخرى المسئول بها الكل والمثاب بها البعض، ولذلك عقبه بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالظاهر أن من تبعيضية، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.
6. هذه الموضوعات الثلاثة ـ أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إن شاء الله تعالى، وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/373.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْتَكُنْ﴾ (اللام) فيه لام الأمر للذين آمنوا، أُمِرُوا أمراً وكلفوا تكليفاً عاماً لهم أن تكون منهم ﴿أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ الآية، قال الراغب: (والأمة كل جماعة يجمعها أمرٌ مّا)
2. هذه الآية تهدي إلى المحافظة على الإسلام، وإبقائه حياً بالدعوة إلى الخير، والخير هو طاعة الله، ومن الخير الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف:10 ـ 11]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:111]:
أ. ومن الخير: ما لا يتم الجهاد إلا به من الألفة واجتناب التفرق.
ب. ومن الخير: تعلم الدين، وإعانة طلاب العلم بالمدارس، وتيسير الكتب والمشائخ، وترغيبهم في التعلم، واجتناب تنفيرهم وغير ذلك.
ج. ومن الخير: نشر التعليم في جميع أقطار بلاد الإسلام بقدر الوسع، أو على الأقل نشر الإرشاد والمواعظ، والدعوة إلى التعلم، والتحذير من الجهل، والإنذار للمعرضين؛ والأمر بالمعروف يكون باللسان على مراتبه، والنهي عن المنكر يكون بما يستطاع من قول وفعل على مراتبه المذكورة في علم العقائد.
3. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفلاح: هو الظفر بالخير والفوز، فيدل على: أنه لا يفلح من لا يقوم بهذا الواجب؛ والإشارة لأهل الصفات المذكورة، أوْ لَهم ولمن أقامهم وحماهم وأعانهم من الذين آمنوا كلهم لأنهم مشاركون لهم حكماً وإن لم يشاركوهم فعلاً؛ وفي الآية دلالة ـ كما قلت ـ على تكليف الذين آمنوا كلهم بإيجاد أهل الصفات المذكورة بإيجاد أمة هذه صفتها وطريقتها وعادتها المستمرة، وعلى هذا يجب تعلم الدين ليمكن إيجاد أمة من العلماء تقوم بهذا الواجب.
4. غلط من قال إن هذا الواجب خاص بالعلماء؛ لأن الخطاب موجه إلى الذين آمنوا كلهم، فعلى الأمة أن يوجدوا علماء ليقوموا بهذا الواجب، فالعلم شرط أداء لا شرط وجوب.
5. من فوائد هذه الآية: وجوب تحضير المذكورين بأن يدعو بعضهم بعضاً إلى تحصيل هذه الأمة، ويتعاونوا بالمال والدفاع عنهم ويستمروا على ذلك، ويتخيروا الصالحين لذلك بالعلم والعمل والعقل والزهد في الدنيا والورع، الذين يحاولون جمع المسلمين باستعمال الرفق والتيسير، وحسن الظن، وفتح باب التأويل، والحمل على السلامة، دون من يشدد ويسعى في تفريق المسلمين وإلقاء العداوة بينهم والبغضاء عملاً بسوء الظن وبناء على المخالفات في المسائل الفرعية التي للناظر فيها نظره، والمخالفات بطريق الخطأ والنسيان والإضطرار، وهؤلاء مع قلتهم لا يستطيعون القيام بالمهمة في كل البلاد، فالأولى أن يكون هؤلاء هم قادة الأمة ومراجعها ويضاف إليهم من ينقاد لهم ويعمل بما أمروه ولا يخالفهم، حتى تكون الأمة عبارة عن القائمين بالعمل من القادة واتباعهم العاملين معهم وفق ما خططوا لهم، ولا بد لهم من رئيس هو خيرهم أعلمهم بواجب هذه الأمة وأقواهم على القيام به وأوسعهم صدراً وأبلغهم في الزهد والورع، وذلك لأنهم إذا لم يكن لهم رئيس اختلفوا وتضاربت أعمالهم وتعارضوا وضعفوا وفي الأخير يبطل أمرهم أو لا يحصل المأمور به في الآية.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/513.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت الآيات السابقة دعوة للاعتصام بحبل الله في خط التقوى الذي يقتضي ضبط المسيرة الذاتية للمجتمع الإسلامي، وتأكيد الوحدة الروحية والأخوة العملية في حركة هذا المجتمع، وذلك من خلال المفاهيم الإسلامية التي تربط الإنسان المسلم بالله في الفكر والشعور والعمل، أما هذه الآيات فقد بدأت في تحويل المجتمع إلى مجتمع منفتح على آفاق الدعوة إلى الخير في الداخل والخارج، لأن ذلك هو دور الأمة المسلمة القائدة التي تقود العالم إلى ما فيه الخير والصلاح، لأنها لا تمثل القوّة التي تختزن في نفسها عناصر القوة ثم تنغلق على ذاتها في عمليّة ذاتية محدودة لا تشعر فيها بالمسؤولية عن فكرها وقيمها وأهدافها، فلا تعمل من أجل تحريكها في حياة الآخرين، وتوسيع مداها في حركة الإنسان الصاعدة؛ بل تمثّل القوّة المسؤولة التي تعتبر مسئولية صنع الخير والدعوة إليه جزءا من شخصيتها الممتدّة التي ترى في امتدادها في الزمن معنى وجودها في الحاضر، وتؤمن بأنّ حركتها ـ بعيدا عن الحدود الضيقة ـ هي سرّ حيويتها وتجددها ومعنى إيمانها، لأن الإيمان بالله وبرسالاته لا يتجمد في زمن ولا يقف عند حدّ، إذ إنّ الإنسان هو عبد الله وخليفته في دوره الإنساني في الأرض، فلا بد له من أن يستوعب كل عناصر الرسالة في كل دور من أدوار حياته، وفي كل مجتمع من مجتمعاته من خلال ما يبلغه رسل الله من رسالات.
2. إذا كانت الدعوة إلى الخير هدفا من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة، فإن من اللازم أن تبرز من داخل الأمة طليعة واعية تتبنّى خط الدعوة إلى الله حسب حاجة الساحة إليها، فقد تحتاج إلى عدد محدود قليل، وقد يزيد هذا العدد، وربما يشمل الأمة كلها إذا كبرت التحديات الشريرة المضادة من قوى الكفر والشرّ، وهذا هو معنى الأمّة في قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي: جماعة من المسلمين الذين يمكن لهم أن يحققوا الهدف، ويسدّوا الثغرة بالجهود المبذولة في هذا الاتجاه، وفي ضوء ذلك نعرف عدم إرادة (الأمة) بالمعنى المصطلح الذي يتسع ليتحدد في معنى القومية الشاملة التي تنطلق من وحدة اللغة والأرض والتاريخ أو العادات والتقاليد، مما يوحي به المعنى الاجتماعي والسياسي للكلمة، لأن ذلك لا مجال له في هذه الآية، التي تؤكد على الجماعة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر بحجم الحاجة، فقد تشمل المسلمين كلهم إذا كانت التحديات الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية بالمستوى الكبير الذي لا يكفيه أيّة جماعة محدودة، وقد يضيق عن ذلك إذا كان الحجم محدودا يكفيه قسم معين منهم، وقد يتنوع الموضوع حسب الحاجة الواقعية بين الجهود الفردية التي يدعو فيها بعضهم بعضا بشكل فردي، وبين الجهود الجماعية التي تنطلق لرعاية الواقع كله ومراقبته وتوجيهه في القضايا العامة التي تحتاج إلى الأمة الإسلامية كلها، تبعا لاتساع حدودها وكثرة جماعتها وتنوّع أوضاعها.
3. كان الواقع التاريخي لهذه الجماعة يتمثل في الدائرة الاجتماعية في البلاد الإسلامية تحت اسم دائرة الحسبة، ويسمى أفرادها بالمحتسبين، وقد يطلق عليهم اسم (لجنة الآمرين بالمعروف)، وكانت مهمتهم ملاحقة ظاهرة الانحراف الديني والفساد الاجتماعي والسياسي في واقع الناس والدولة، وهكذا نجد أن حجم هذه الجماعة لا يختص بعدد محدود، فقد يشمل المسلمين كلهم في الدائرة العامة للحاجة.
4. أمّا حجم الخير ومداه ونوعيته، فإنه يتسع سعة الإسلام في عقيدته وشريعته وحركته الشاملة للحياة، وذلك قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾، وبذلك كانت الدعوة مسئولية كل مسلم يحتاج الإسلام إلى فكره و، أسلوبه في الدعوة، فليس لأي إنسان من أمثال هؤلاء أن يتقاعس ويجمّد نفسه في دائرة ضيقة أو عزلة خانقة، أو هروب من خط المسؤولية، تماما كما لا يجوز له أن يفعل ذلك في ما يتعلق بعباداته وفروضه الأخرى، وقد شاركت عصور التخلف في خلق ذهنية سلبيّة كسولة لا شغل لها إلا البحث والتدقيق في إيجاد المبرّرات للتراجع والتكاسل والبعد عن المسؤولية، الأمر الذي أدى إلى أن يفقد الإسلام كثيرا من الطاقات والقابليات ذات الفاعلية الكبيرة في تعزيز الإسلام والمسلمين، ولا يزال بعض هؤلاء يتحرك من أجل التنديد بالعاملين، لأنهم يشكلون التحدي العملي لأمثاله في حمل المسؤولية الإسلامية في الساحة.
5. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يلتقيان بالدعوة إلى الخير في الجانب الذي تفرضه الدعوة للمعروف وللبعد عن المنكر بالكلمة وأمثالها، مما يكون حركة إيجابية نحو الخير والمعروف وحركة سلبية ضد الشر والمنكر، لأن ذلك من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يتحركان في اتجاه الخطوات العملية التي تعمل على تغيير الواقع بالمواقف الحاسمة التي يقفها العاملون ضد المنكر في اتجاه المعروف، بالثورة عليه وبمواجهته بالضغوط القويّة، من أجل إزالته تارة، أو التخفيف من غلوائه أخرى؛ سواء في ذلك العمل الفردي المنكر المتمثل في انحراف الفرد عن خط الإسلام، أو العمل الاجتماعي الذي يمثله انحراف المجتمع ككل في الخط العملي بشكل عام، أو العمل السياسي الذي يواجه في الأمة الحكم الظالم الذي يعمل على السير بقضاياها المصيرية في الاتجاه المنحرف، على غير سيرة العدل في الحاكم والحاكمين، الأمر الذي قد يسيء إلى عزتها وكرامتها وذلك بإخضاع مقدراتها للكفر والكافرين بمختلف الوسائل الخفيّة التي تجعلها تحت سيطرة الاستعمار والمستعمرين؛ أو العمل الاقتصادي الذي ينحرف بالاقتصاد عن شريعة الله في مصادر الثروة ومواردها وطريقة توزيع الإنتاج، وإبقاء ثروة الأمة تحت سيطرة الاحتكار الجشع في ما يريده وما لا يريده.
6. في ضوء هذا المفهوم الشامل، نكتشف الخط الإسلامي للمسيرة الإسلامية تجاه رصد حركة الواقع في الجانب الإيجابي والسلبي، فنلاحظ أنّ الله يريد للأمّة أن تتحمل مسيرة الخير بمعناه الواسع بالدعوة إليه حتى لا يبقى هناك أحد لم تبلغه الدعوة، مما يعني أن تراقب كل المناطق والمجالات التي ليس فيها دعاة أو مرشدون لسدّ هذا النقص الكبير فيها، كما يريد للأمة أن ترصد المعروف والمنكر في المجال التطبيقي للإسلام لتتحمل مسئولية الأمر بالأول والنهي عن الثاني بكل الإمكانات المتاحة لها، في منطقة الشعور الداخلي بالرفض النفسي للمنكر والتعاطف الروحي مع المعروف، وهو ما يعبر عنه بالتغيير بالقلب، أو في منطقة التعبير بإطلاق الكلمة القوية التي تؤيد أو ترفض وهو التغيير باللسان، أو في مجال المواجهة بالدخول إلى صميم الواقع والضغط عليه بشدة وهو ما يعبّر عنه بالتغيير باليد.. فلا مجال ـ بعد ذلك ـ للقول بأنّ الإسلام يوافق على السلبيّة الفردية والاجتماعية في هذا المجال، لأنه يعزل الإنسان في النطاق الذاتي الذي لا يخلق له أية مشكلة مع الآخرين على أساس أن كل فرد مسئول عن نفسه فلا مسئولية له عن غيره إلا في نطاق النصائح والتوجيهات الأخلاقية العامة التي تلامس المشكلة من بعيد، بحيث لا تثير أي شعور سلبي لدى المنحرفين والكافرين والظالمين.
7. ختمت الآية هذه الدعوة بإعطاء هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمة صفة الفلاح بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ للإيحاء بأن هذه الدعوة للخير والممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثل خط الفلاح للقائمين بها، من خلال أنها تمثّل قيامهم بالمسؤولية العامة في ما يريد الله منهم القيام به، مقابل الخاسرين الذين يبتعدون عن مشاكل المسؤولية وأتعابها.
8. قد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الله سبحانه لم يطلب من المسلمين كافة القيام بهذا الدور، بل دعاهم إلى أن يكون منهم جماعة مخصوصة لتقوم بذلك، فكيف نفهم ذلك؟ الظاهر أن القضية ليست في مجال التحديد، بل هي في مجال تقرير المبدأ؛ فلا بد للأمة من دعاة للخير ومن آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، بالمستوى الذي تتحرك فيه دعوة الخير ويتأكّد فيه المعروف ويزول فيه المنكر، وبذلك يختلف حجم هؤلاء حسب اختلاف حاجة الساحة إلى تحقيق هذا الهدف، فقد تمر الأمة بمرحلة عاديّة لا تحتاج فيها إلى النشاط الطبيعي الذي تقتضيه طبيعة الأشياء مما لا ضرورة فيه إلى استنفار الأمة بطاقاتها الكاملة، ولكنها قد تمر بحالة طوارئ من التحديات الصعبة العنيفة التي يثيرها دعاة الكفر والضلال، بالمستوى الذي تحتاج فيه الأمة إلى كل طاقاتها لمواجهة ذلك كله، ويتحول فيه الموقف إلى (الوجوب العيني) الذي يتوجه إلى كل فرد بنفسه من دون أن يقوم فيه إنسان عن الآخرين، بدلا من (الوجوب الكفائي) الذي إذا قام به البعض سقط عن الكل، وإذا لم يقم به الكل أثموا جميعا.
9. في ضوء ذلك، انطلقت الآيات والأحاديث الشريفة في التأكيد على الإبلاغ والتذكير، والدعوة إلى الله، والتنديد بالعلماء الذين يكتمون علمهم في الحالات التي تظهر فيها البدع وتتكاثر في المجتمع، لأن ذلك هو السبيل إلى استمرار الرسالة حية نامية في حياة الناس، وقويّة صلبة أمام التحديات الفكرية والعملية، مما يجعل من السكوت في حالة القدرة على الكلام خيانة للإسلام والمسلمين، لأن ذلك يفقد الموقف قوّة من قواه الجاهزة في صعيد الواقع.
10. قد لا نستطيع اعتبار مواقف النبي والصحابة والأئمة عليه السّلام محصورة في نطاق حياتهم ومرحلتهم في مجال الدعوة، بل هي مواقف ممتدة في الحياة امتداد الرسالة في الزمن، مما يجعل من الدعوة إليها أمانة الأجيال المسلمة في كل زمان ومكان، وقد نستطيع التأكيد في هذا المجال على أن الرسالة الإسلامية لم تصل إلينا بهذا المستوى الكبير من القوّة والوضوح والامتداد إلّا بفضل المواقف الرسالية التي وقفها العلماء والمجاهدون في مراحل التاريخ في دعوتهم إلى الخير، وفي أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ومواجهتهم للقوى الكافرة والضالة، حتى سقط منهم الشهداء في خط المسيرة الطويل.. وهكذا يظل الإسلام دين دعوة للفكر والإيمان، وتوجيه للعمل والتطبيق في عملية توعية وانفتاح.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/200.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد الآيات السابقة التي حثت على الأخوة والاتحاد جاءت الإشارة ـ في الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين ـ إلى مسألة (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) اللذين هما ـ في الحقيقة ـ بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، لأن فقدان (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الاجتماعية بأن تنخرها من الداخل، وتأتي على كلّ جذورها كما تفعل الأرضة، وأن تمزق وحدة الأمة وتفرق جمعها، ولهذا فلا بدّ من مراقبة مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة، ولا يتم ذلك إلّا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذه الآية تتضمن دستورا أكيدا للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائما، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبدا لأن فلاحها رهن بذلك: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
2. (الأمة) مأخوذة لغة من (الأم) وهو كلّ ما انضم إليه الأشياء الأخرى، أو كلّ شيء ضم إليه سائر ما يليه، والأمة كلّ جماعة يجمعهم أمر جامع إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأمة على الأفراد المتفرقين، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحد.
3. سؤال وإشكال: الظاهر من جملة ﴿مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا عامّا، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان انتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسئولية المسلمين جميعا، وبعبارة أخرى أن جملة ﴿مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان كفائيان لا عينيان، في حين أن آيات أخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون أخرى، كما في آية لا حقة وهي قوله سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، أو ما جاء في سورة العصر: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فإن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة، والجواب: إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر) مرحلتين:
أ. (المرحلة الفردية) التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين.
ب. و(المرحلة الجماعية) وهي التي تعتبر من مسئولية الأمة بما هي أمة، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الاعوجاجات والانحرافات الاجتماعية، وتضع حدّا لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة.
4. يعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فردا فردا، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات، وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجبا كفائيا، وحيث إنه من واجب الأمة بما هي أمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية، وشؤونها بطبيعة الحال.
5. إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحقّ يعتبران ـ بحقّ ـ من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم تأسيس (فريق المراقبة) للنظارة على الأوضاع الاجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي، وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الاجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم (دائرة الحسبة) ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة باسم الآمرين بالمعروف.. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف.
6. مع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة، إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا الفرد.
7. (المعروف) هو كلّ ما يعرف وهو مشتق من عرف، و(المنكر) كلّ ما ينكر وهو مشتق من الإنكار، وبهذا النحو وصفت الأعمال الصالحة بأنها امور معروفة، والأعمال السيّئة والقبيحة امور منكرة، لأن الفطرة الإنسانية الطاهرة تعرف القسم الأول وتنكر القسم الثاني.
8. سؤال وإشكال: هل الأمر بالمعروف واجب عقلي أو تعبدي؟ والجواب: يعتقد جماعة من علماء المسلمين أن وجوب هاتين الفريضتين لم يثبت إلّا بالدليل النقلي، وأن العقل لا يحكم بوجوب النهي عن منكر لا يتعدى ضرره إلى غير فاعله، ولكن نظرا إلى العلاقات الاجتماعية، وما للمنكر من الآثار السيئة التي لا تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية إذ يمكن سراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع تتضح الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين، وبعبارة أخرى: ليس هناك في المجتمع ما يكون (ضررا فرديا) ينحصر نطاقه على الفرد خاصة، بل كلّ ضرر فردي يمكن أن ينقلب إلى (ضرر اجتماعي) ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهدا في الإبقاء على سلامة البيئة الاجتماعية وطهارتها من كلّ دنس، وقد أشير إلى هذا في بعض الأحاديث، فعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها.. فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فتستقى، فإن أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا)، ولقد جسد النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بهذا المثال الرائع ـ موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما، وبذلك قرر حقّ الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنه حقّ طبيعي ناشئ من اتحاد المصائر في المجتمع، وارتباط بعضها ببعض.
9. هناك علاوة على الآيات القرآنية الكثيرة، أحاديث مستفيضة في المصادر الإسلامية المعتبرة تتحدث عن أهمية هاتين الفريضتين الاجتماعيتين الكبيرتين، قد أشير فيها إلى العواقب الخطيرة المترتبة على تجاهل وترك هاتين الوظيفتين في المجتمع، نذكر من باب المثال طائفة منها:
أ. قال النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسول الله وخليفة كتابه)
ب. جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: (آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم)
ج. في حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون، وتستغفرون فلا تغفرون)
د. عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتضف من الأعداء، ويستقيم الأمر)
10. هذه الأمور كلّها هي الآثار الطبيعية لموقف المجتمع الذي يعطل هاتين الوظيفتين الاجتماعيتين العظيمتين، لأن ترك النظارة العامّة على ما يجري في المجتمع يلازم خروج الأمور من قبضة الصالحين، والإفساح للأشرار بأن يتسلموا أزمة الأمور ومقدرات المجتمع ويحكموا فيه بأهوائهم، فيقع ما يقع من المآسي وتصاب الجماعة بما ذكره الحديث المتقدم من التبعات والمفاسد، وما ذكر في الحديث من عدم قبول توبتهم أيضا لأنه لا معنى لقبول التوبة مع استمرارهم على السكوت اللهم إلّا أن يعيدوا النظر في سلوكهم، عن علي عليه السّلام: (وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجئ)
11. كل هذه التأكيدات هي لكون هاتين الوظيفتين العظيمتين خير ضمان لإجراء وتنفيذ بقية الوظائف الفردية والاجتماعية، ولأنهما بمثابة الروح لها، فبتركهما تندرس كلّ الأحكام والقيم الأخلاقية وتفقد قيمتها وتختفي من حياة المجتمع.
12. سؤال وإشكال: هل الأمر بالمعروف يوجب سلب الحريات؟ والجواب: في الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من القول بأن النمط الجماعي للحياة وإن كان ـ بلا ريب ـ ينطوي على فوائد كثيرة لأفراد البشر، بل إن هذه المزايا هي التي دفعت الإنسان ليختار الحياة الاجتماعية، إلّا أنه ينطوي في مقابل ذلك على بعض التقييدات لحريات الأفراد، ولكن بما أن ضرر هذه التقييدات الجزئية ضئيل تجاه الفوائد الجمة التي تنطوي عليها الحياة الاجتماعية اختار الإنسان النمط الاجتماعي منذ الأيّام الأولى من حياته على هذا الكوكب متحملا كلّ التقييدات، وحيث إن مصائر الأفراد ترتبط ببعضها في الحياة الاجتماعية، ويؤثر بعضها في بعض بمعنى أن الجميع في الحياة الاجتماعية يشتركون في مصير واحد، لذلك كان حقّ النظارة على تصرفات الآخرين وسلوكهم حقّا طبيعيا تقتضيه الحياة الجماعية، كما جاء ذلك في الحديث الرائع الذي نقلناه آنفا عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا المجال، وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف لا ينافي الحريات الفردية فحسب، بل هو وظيفة كلّ فرد تجاه الفرد الآخر، لأن من شأنه الإبقاء على سلامة الآخرين واستقامة أمورهم، ومن ثمّ سلامة الفرد نفسه واستقامة أمره.
13. سؤال وإشكال: إذا سمحنا للناس بأن يتدخلوا في شؤون الآخرين وتكون لهم النظارة على أعمالهم وتصرفاتهم، فإن ذلك يوجب وقوع الفوضى في المجتمع، إذ تحصل بسببه المصادمات بين الأفراد، ولأنه يخالف مبدأ توزيع الواجبات والمسؤوليات في الحياة الاجتماعية، والجواب: لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرحلتان:
أ. المرحلة الأولى: وهي المرحلة العمومية، وهي ذات إطار محدود لا يتجاوز التذكير، والعظة، والاعتراض، والنقد وما شابه ذلك، ولا شكّ أن المجتمع إذا أراد أن يكون حيّا لا بدّ أن يشعر أفراده جميعا بمثل هذه المسؤولية تجاه المفاسد، وبمثل هذا الشعور تجاه المنكرات.
ب. أمّا المرحلة الثانية التي تختص بجماعة معيّنة وخاصة، وتكون من شؤون الحكومة الإسلامية فهي أوسع إطارا، وأكبر مسئولية، وأكثر قوة، بمعنى أن الأمر إذا تطلب استخدام القوة، وحتى إجراء القصاص وإجراء الحدود كان من صلاحيات هذه الجماعة أن تقوم به تحت نظر الحاكم الشرعي، ومسئولي الحكومة الإسلامية، وهذا القسم هو الذي يقع بسببه الهرج والمرج لو أنيط إلى كلّ من هب ودب، دون القسم الأول الذي لا يتجاوز النصح والتذكير، والاعتراض والإعراض.. وبملاحظة المراحل المختلفة في هذه الوظيفة الدينية، وما لكلّ واحدة منها من الحدود والأبعاد، فإن القيام بهذه الوظيفة لا يستوجب الهرج والمرج في المجتمع، بل يخرج المجتمع من صورة الجماعة الميتة الخامدة، إلى صورة المجتمع الحي النابض، والجماعة المتحركة الصاعدة.
14. لا بدّ في القيام بهذه الفريضة الإلهية السامية والدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد من حسن النية، وسلامة الهدف، والشعور بالمسؤولية، كما يجب أن يتم بالطرق السلمية، ومن هنا لا يمكن اعتباره عملا خشنا ملازما للعنف إلّا في بعض الموارد الضرورية، بيد أن البعض ـ مع الأسف ـ يستخدم العنف والخشونة لدى القيام بهذا الواجب المقدس في غير الموارد الضرورية التي تستدعي مثل ذلك، وربما توسل بالسب والشتم، ولهذا نرى أن مثل هذه الممارسات لا تترك أثرا ايجابيا، بل تعطي في الأغلب نتائجها العكسية، وثمارها السلبية، في حين ترينا سيرة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة الهداة من أهل بيته عليهم السّلام غير ذلك، فهم كانوا يستعملون ـ في هذه الوظيفة المقدسة ـ منتهى اللطف والمحبة، وغاية الأدب والاتزان، ولهذا كانوا يؤثرون غاية التأثير، ويتركون أفضل النتائج حتّى أنهم كانوا يطوعون بذلك النهج أعتى الأفراد، وأكثرهم عنادا وجفافا ـ.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/628.
55. عواقب التفرق والاختلاف
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈55⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ من اليهود والنصارى(1).
2. روي أنّه قال: كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ نبذوها ـ ورب الكعبة ـ وراء ظهورهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٣.
(2) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ هم أهل الكتاب، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٣.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾: يقول للمؤمنين: لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا، يعني: اليهود: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ تفرقوا واختلفوا من بعد موسى، فنهى الله المؤمنين أن يتفرقوا بعد نبيهم كفعل اليهود(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٢٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: فوعظ الله المؤمنين لكي لا يتفرقوا، ولا يختلفوا كفعل أهل الكتاب، فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ في الدين بعد موسى، فصاروا أديانا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني: البيان، ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٣.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ قال الحسن، والربيع: المعني بهذا التفرق في الآية اليهود والنصارى، فكأنه قال يا أيها المؤمنون {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} يعني اليهود والنصارى.
2. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ معناه من بعد ما نصبت لهم الأدلة، ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لأن قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها واستدل بها على الحق.
3. سؤال وإشكال: إذا كان التفرق في الدين هو الاختلاف فيه، فلم ذكر الوصفان؟ والجواب: لأن معنى ﴿تَفَرَّقُوا﴾ يعني بالعداوة واختلفوا في الديانة، فمعنى الصفة الأولى مخالف لمعنى الصفة الثانية.
4. في من نفى القياس، والاجتهاد من استدلّ بهذه الآية على المنع من الاختلاف جملة في الأصول والفروع، واعترض من خالف في ذلك بأن قال لا يدل ذلك على فساد الاختلاف في مسائل الاجتهاد، كما لا يدل على فساد الاختلاف في المسائل المنصوص عليها، كاختلاف حكم المسافر والمقيم في الصلاة والصيام، وغير ذلك من الأحكام، لأن جميعه مدلول على صحته إما بالنص عليه، وإما بالرضى به، وهذا ليس بشيء، لأن لمن خالف في ذلك أن يقول: الظاهر يمنع من الاختلاف على كل حال إلا ما أخرجه الدليل، وما ذكره أخرجناه بالإجماع فالاجود في الطعن أن يقال: وقد دل الدليل على وجوب التعبد بالقياس والاجتهاد! قلنا: إن يخص ذلك أيضاً ويصير الكلام في صحة ذلك أو فساده، فالاستدلال بالآية إذاً صحيح على نفي الاجتهاد.
5. ﴿جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ إنما حذفت منه علامة التأنيث إذا تقدم، فكذلك لا يلحقه علامة التأنيث لشبهها علامة التثنية والجمع.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/551.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الاختلاف في الدين مذموم، وهذا فيما الحق فيه واحد، كالتوحيد والعدل والنبوءات وأصول الشرائع لاستحالة أن يكون الجميع حقًا، فأما مسائل الاجتهاد فإنه غير مذموم، وإن اختلفوا فيه؛ ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خلاف أمتي رحمة)، وكل مجتهد فيه مصيب، قد أدى ما كلف؛ لأن الشرائع مصالح، فيجوز أن تختلف بحسب اختلاف المكلفين، كما يختلف فيه الحضر والسفر، والطاهر والحائض والجنب، والغنى والفقر، والأمم والأماكن والأزمنة؛ لأنه لا يؤدي إلى تضاد الاعتقادات؛ لأن كل مكلف إذا اجتهد ففرضه ما يؤدي اجتهاده إليه، كمن اشتبه عليه القبلة، وكمكفر اليمين ونحوه، وفي الأول يؤدي إلى تضاد الاعتقادات حين يعتقد في الله تعالى أنه جسم، وليس بجسم؛ فلهذا فرقنا بينهما.
ب. بطلان وقبح التمسك بالباطل مع قيام الحجة.
ج. بطلان مذهب الجبر؛ لأنه أمر بالأمر بالمعروف وبالألفة، ونهى عن التفرق، وعلق الفلاح به، فلو كان الجميع خلقه أو موجب القدرة التي تفعله لم يكن لذلك معنى، ولو كان لا يوجب الجزاء لما علق الفلاح به، فيبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة وجزاء الأفعال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/337.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم أمر سبحانه بالجماعة، وترك التفرق، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ في الدين، وهم اليهود والنصارى ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾:
أ. قيل معناه: تفرقوا أيضا وذكرهما للتأكيد واختلاف اللفظين، كقول الشاعر: (متى أدن منه ينأ عني ويبعد)
ب. وقيل: معناه كالذين تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الديانة.
2. {من بعد ما جاءهم البيانات} أي: الحجج والكتب، وبين لهم الطرق ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عقوبة لهم على تفرقهم واختلافهم، بعد مجئ الآيات والبيانات.
3. الآية تدل على تحريم الاختلاف في الدين، وأن ذلك مذموم قبيح، منهي عنه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/808.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم اليهود والنّصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين.
ب. الثاني: أنهم الحروريّة، قاله أبو أمامة.
__________
(1) زاد المسير: 1/313.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات ﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ من أهل الكتاب ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ﴾ في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة.
ب. الثاني: وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط.
2. في قوله تعالى: ﴿تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ وجوه:
أ. الأول: تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم.
ب. الثاني: تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة.
ج. الثالث: صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة، مثل المشبهة والقدرية والحشوية.
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾:
أ. قال بعضهم: ﴿تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ معناهما واحد وذكرهما للتأكيد.
ب. وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا:
• فقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين.
• وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه.
• الثالث: تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل، وأقول: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة.
4. إنما قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ولم يقل (جاءتهم) لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/317.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين، وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة، وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وتلا الآية، وقال جابر بن عبد الله: ﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ اليهود والنصارى،﴿جَاءَهُمْ﴾ مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/167.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين؛ وقيل: هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل: الحرورية، والظاهر الأول.
2. البينات: الآيات الواضحة، المبينة للحق، الموجبة لعدم الاختلاف.
3. قيل: وهذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية؛ وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث، وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا، وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/424.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ﴾ عمَّا لا يحلُّ لهم التفرُّق عنه بأن فارَقُوه كلُّهم، ﴿وَاخْتَلَفُواْ﴾ فيما لا يحلُّ الخلاف فيه بأن خالف بعضهم الحقَّ، والمراد الفريق المبطل المخالف للمُحقِّ، أو تفرَّقوا بالعداوة واختلفوا بالأديان، أو تفرَّقوا بالتأويلات الفاسدة واختلفوا بنصر كلِّ فريق مذهبه وإبطال مذهب غيره، أو تفرَّقوا بأن رأس كلُّ واحد في بلد واختلفوا بدعوى كلٍّ أنَّه المُحقُّ.
2. ﴿مِنم بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ كاليهود والنصارى خالفوا الإيمان بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، وخالفت اليهود النصارى بإثبات الجسميَّة لله 8 ، وقولهم بالأربعين في النار، وخالفتهم النصارى بدعوى أَنَّ المبعوث الأرواح وحدها، ﴿وَقَالُواْ لَنْ يَّدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا اَوْ نَصَارَى﴾ الآية [البقرة: 111]، وكلٌّ خالف الآخر في نبيئه وكتابه، وكالقائلين من هذه الأمَّة الإجابيَّة بما لا يجوز الخلاف في نفيه، كرؤية البارئ، وكون صفاته غيره، وإثبات الجوارح بلا كيف، وقد اختلفت المجوس على سبعين فرقة، واليهود على إحدى وسبعين، والنصارى على اثنتين وسبعين، وهذه الأمَّة على ثلاث وسبعين في النار إِلَّا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: (من على ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وروى أحمد عن معاوية: (أنَّ أهل الكتاب على اثنين وسبعين وأمَّتي على ثلاث وسبعين)، وعن أنس: (بنو إسرائيل على إحدى وسبعين وأمَّتي على اثنتين وسبعين)، ويجمع بين الروايات بأنَّ الافتراق تارة على كذا وتارة على كذا، وأمَّا الاختلاف فيه من الفروع للمجتهدين من الصحابة ومن بعدهم فلا بأس به، بل هو رحمة كما جاء الحديث بمعناه، أخرجه الطبراني وغيره، وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد) أخرجه الطبراني أيضًا عن ابن عبَّاس بسند ضعيف، ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن العاص، وذكر القاسم بن محمَّد (أنَّ اختلاف أصحاب محمَّد رحمة لعباد الله تعالى)، أخرجه البيهقي وابن سعد، وأخرج أيضًا عن عمر بن عبد العزيز: (ما سرَّني لو أنَّ أصحاب محمَّد لم يختلفوا، لو لم يختلفوا لم تكن رخصة)
3. ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ المتفرِّقون والمختلفون، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فكيف تكونون مثلهم؟، وعلَّق بـ (لَهُمْ) أو باستقراره قولَه تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ أو بـ ﴿عَظِيمٍ﴾، على أنَّه قيَّد العِظَم باليوم تلويحا بأنَّه قبله كأنَّه غير عظيم؛ وذلك لأنَّهم يرون وجوه أعدائهم بيضًا فيغتاظون، مع أَنَّ عذاب جهنَّم يُستصغَر إليه عذابُ القبر وغيرُه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/345.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود والنصارى في افتراقهم مذاهب، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى، وطاعة النفس، والحسد، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة، المبينة للحق، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة، وهي كلمة الحق، فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة، وإلى أعقابهم تبعا.
2. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين، والتشديد في تهديد المشبهين بهم، مالا يخفى.
3. ذكر الفخر الرازيّ من وجوه قوله تعالى: ﴿اخْتَلَفُوا﴾ أي بأن صار كل واحد منهم يدّعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل، ثم قال: (وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة)، وقوله: (هذا الزمان) إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل، وما أداه إليه اجتهادهم، ولم يضلل بعضهم بعضا، ولم يدّع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد تفرق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في البلاد، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهم على وحدتهم وتناصرهم.
4. قال القاشانيّ: يعني بـ ﴿الْآيَاتِ﴾ الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة، واتفاق الكلمة، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة، وأهواء متفرقة، وعادات وسيرا متفاوتة، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم، ويترتب على ذلك فهوم متباينة، وأخلاق متعادية، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته، كانوا مهملين متفرقين، فرائس للشيطان، كشريدة الغنم، تكون للذئب، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لا بد للناس من إمام، بر أو فاجر، ولم يرسل نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلين فصاعدا لشأن، إلا وأمّر أحدهما على الآخر، وأمر الآخر بطاعته ومتابعته، ليتحد الأمر، وينتظم، وإلا وقع الهرج والمرج، واضطرب أمر الدين والدنيا، واختل نظام المعاش والمعاد)، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة)، وقال: (الله مع الجماعة)، ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برئاسة القلب، وطاعة العقل، كيف اختل نظامها، وآلت إلى الفساد والتفرق، الموجب لخسار الدنيا والآخرة، ولما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ خط رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطّا فقال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه.
5. قال ابن تيمية في أول كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام): وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عامّا يعتقد مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول، قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أ. أحدها: عدم اعتقاده أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قاله.
ب. الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
ج. الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة ـ ثم أوسع المقال في ذلك، وذكر في بعض فتاويه، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون: الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى، فإذا رأى دليلا أقوى من غيره، ولم ير ما يعارضه، عمل به، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه، فإذا أريد بالخطإ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب، مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر، فالمصيب واحد، وله أجران، كما في المجتهدين في جهة الكعبة، إذا صلوا إلى أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة واحد، وله أجران لاجتهاده وعمله، كان أكمل من غيره، والمؤمن القوىّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 83]، قال مالك عن زيد بن أسلم: بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76]، وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم، واتبعوا العلم، وأن الفقه من أجلّ العلوم، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر، كما قال تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 78 ـ 79]، وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال، في الأصول والفروع.
6. ثم قال ابن تيمية: وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى، كما في مسائل الأحكام، ولم يستوعب الحقّ إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون، فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق، بعد وضوحه، برفضه، وشتان ما بين الاختلافين، ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات، فما وجده أقوى دليلا أخذ به، وإلا تركه، وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 17 ـ 18]، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه، فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول ـ إذا قام يصلي من الليل ـ (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت، فاستهدوني أهدكم)
7. ذكر بعض المفسرين، هنا، ما روي من حديث (اختلاف أمتي رحمة)، ولا يعرف له سند صحيح، ورواه الطبرانيّ والبيهقيّ في (المدخل) بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا، قال بعض المحققين: هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: 118 ـ 119]، ونحوه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وغيره من الأحاديث الكثيرة، والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف، وقد روى أحمد وأبو داوود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلّى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله؛ والله! يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به، قال ابن كثير: وقد روي هذا الحديث من طرق.
8. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالخلاف ونشوء الفرق نقلا عن ابن تيمية من كتابه (الفرقان بين الحق والباطل)، وهو مملوء بالادعاءات الطائفية الكاذبة، ولذلك حذفناه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/376.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بأن تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن أولئك هم المفلحون دون سواهم لأنهم هم الذين يقيمون الدين ويحفظون سياجه وبهم تتحقق الوحدة المقصودة منه ـ نهانا عن التفرق والاختلاف الذي يذهب بتلك الوحدة ويتعذر معه القيام بتلك الدعوة الصالحة فقال عز من قائل: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وهم أهل الكتاب، تفرقوا في الدين وكانوا شيعا كل شيعة تذهب مذهبا يخالف مذهب الأخرى وصار كل ينصر مذهبه ويدعو إليه ويخطئ ما سواه، حتى تعادوا واقتتلوا على ذلك، ولو كانوا أمة أو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر معتصمين بحبل واحد متوجهين إلى غاية واحدة لما تفرقوا في المقاصد، ولو لم يتفرقوا لما اختلفوا في الدين وتعددت فيهم المذاهب في أصوله وفروعه حتى قتل بعضهم بعضا، فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم، فهذه الآية متممة لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ وما بعدها فالاعتصام بحبل الله هو الأصل، وبه يكون الاجتماع والاتحاد الذي يجعل الأمة كالشخص الواحد، والدعوة إلى الخير هي التي تغذو هذه الوحدة وتمدها وتنميها؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم به أمة قوية هو الذي يحفظها ويؤيدها ويشد أزرها، قال محمد عبده: إن هذه الآية كالدليل على أنه يجب أن تكون وجهة الأمة الداعية الآمرة الناهية واحدة، لأن الذين سبقوهم ما أفلحوا لعدم وحدتهم، كأنه يقول: لا يمكن أن تتكون فيكم أمة للدعوة والأمر والنهي إلا إذا اجتمعت على مقصد واحد فالترتيب في الآيات طبيعي، إذ من البديهي أن المتفقين في المقصد لا يختلفون اختلافا ضارا ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء بذهاب كل إلى تأييد مقصده وإرضاء هواه فيه، والاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه لا يضر بل ينفع وهو طبيعي لا مندوحة عنه.
2. أورد الإمام الرازي لاتصال هذه الآية بما قبلها قولين أقربهما ثانيهما، وإن كان الأول منهما صحيحا في نفسه فقال: (في النظم وجهان (الأول) إنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله، ثم ختم ذلك بأن حذر من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص، فقال ولا تكونوا أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كالذين تفرقوا واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة، فعلى هذا الوجه تكون من تتمة جملة الآيات.. و(الثاني) وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط)، وما قاله صحيح ولكن الوجه في تفسيرها واتصالها بما قبله هو ما جرينا عليه آنفا.
3. علم مما بينا أن الاختلاف المنهي عنه هو ما كان ناشئا عن التفرق لا كل اختلاف، وإن كان في وسائل تأييد المقصد مع حسن النية الذي لا يدوم معه خلاف، وإذا دام في مسألة فإنه لا يضر لأنه لا يترتب عليه اختلاف في العلم، إذ المتفقون المخلصون يرجع بعضهم إلى قول من ظهر على لسانه البرهان منهم، وإلا عملوا برأي الأكثرين فيما لا يظهر للأقلين برهانه، قال محمد عبده: ولا نخوض في أقوال المؤولين المتحككين بالألفاظ على الطريقة التي يعبرون عنها بالتحقيق والتدقيق كحمل بعضهم التفرق على ما يكون في العقائد والاختلاف على ما يكون في الأحكام وادعاء بعضهم أنهما بمعنى واحد، فالآية ظاهرة المعنى:
4. من الأقوال التي أوردها الرازي أنهم تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة ثم اختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة مذهبه، وهذا واقع ولكنه تفسير للاختلاف في المذاهب وما ينشأ عنه وكله أثر للتفرق، ومنها أنهم تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل، قال الإمام الرازي بعد إيراد هذا القول: (وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة)
5. تبع الرازي في قوله هذا في العلماء نظام الدين الحسن النيسابوري في تفسيره (كعادته) فقال بعد ذكر تفرق الأحبار واختلافهم: (ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة، فنسأل الله العصمة والسداد)، وسبقهما الغزالي إلى بيان سوء حال العلماء في الاختلاف ما عدا الأفراد الذين ينكرون التقليد ويقولون بوجوب الاعتصام بحبل الله وهو كتابه وعدم التفرق والاختلاف، ولكن صوت هؤلاء الأفراد لا يسمع بين جلبة جمهور العلماء لا سيما أصحاب المناصب والحظوة عند الأمراء والملوك الذين يدعمون سلطتهم بجمهور العلماء الذين يتبعهم العامة.
6. من العجيب أن هؤلاء العلماء الأفراد الذين تنبهوا في القرون الوسطى إلى سوء حال علماء الإسلام الذين يلقبهم الغزالي بعلماء السوء، لم يحاولوا معالجة هذا الداء واصطلام أورمته؛ وهي تفرق المذاهب والتعصب لها، بالدواء الذي وصفه الله تعالى في كتابه؛ وهو تأليف أمة تدعو إلى الاعتصام وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بل اكتفى بعضهم بالشكوى من ذلك وإنكاره في الكتب التي يؤلفها كالرازي أو باللسان لبعض تلاميذه كما نقل الرازي عن أكبر شيوخه في تفسير قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: 31] فإنه بعد تفسير اتخاذهم أربابا لإطاعتهم فيما يحللون ويحرمون كما ورد في الحديث المرفوع قال ما نصه: (قال شيخنا ومولانا خاتم المحققين والمجتهدين رضي الله عنه قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يتلفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب! يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا)، والرازي رحمه الله تعالى كان يقرر هذه الحقيقة عندما يفسر آياتها وينساها في مواضع أخرى، فيتعصب للأشعرية في أصول العقائد وللشافعية في فروع الفقه، بل سيما فيما يخالفون فيه الحنفية، وهذا هو أصل الداء الذي يشكو من بعض أعراضه عند الكلام في مسائل الخلاف مع الغفلة عن سببها، أما الغزالي فقد تجرد عن التعصب للمذاهب كلها في نهايته ووصف الدواء في بعض كتبه كالقسطاس المستقيم، ولكنه لم يوفق في تأليف أمة تدعو إليه وتقوم به.
7. إذا كان الرازي وشيخه يقولان في علماء القرن السابع والغزالي يقول في علماء القرن الخامس ما قالوا، فماذا نقول في أكثر علماء زماننا وهم يعترفون بما نعرفه من كونهم لا يشقون لأولئك غبارا؟ ألسنا الآن أحوج إلى الإصلاح منا إليه في تلك العصور التي اعترف هؤلاء الأئمة بأن الظلمات فيها غشيت النور، حتى ضل بالاختلاف الجمهور؟ بلى، وهو ما نعاني فيه ما نعاني وإلى الله ترجع الأمور.
8. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يفيد أن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق أو اتباع الباطل إلا إذا تبين له ذلك حتى يتبين أو صار بحيث تبين له لو نظر فيه؛ والجهل ليس بعذر بعد البيان، كما هو المقرر عند العقلاء والحكام في كل مكان، قال تعالى في المتفرقين المختلفين بعد مجيء البينات ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فهذا الوعيد يقابل الوعد الكريم في الآية التي قبل هذه الآية بقوله تعالى في الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالفلاح في ذلك الوعد يشمل الفوز بخير الدنيا والآخرة، والعذاب في هذا الوعيد يشمل خسران الدنيا والآخرة، قال محمد عبده ما معناه: أما عذاب الدنيا فهو أن المتفرقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكموا في دينهم آراءهم، يكون بأسهم بينهم شديدا فيشقى بعضهم ببعض، ثم يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال، وأما عذاب الآخرة فقد بين الله في كتابه أنه أشد من عذاب الدنيا وأبقى.
9. سؤال وإشكال: في هذا المقام أورد محمد عبده هذا السؤال: هل قام المسلمون بذلك الأمر ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، وانتهوا عن هذا النهي ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾؟ وجعل ذلك مجالا لتفكر طلاب العلم، والجواب: وأما جوابه هو فكما نقلنا لك عن الرازي وعن شيخه، والأمر ظاهر في نفسه وفي الوعد والوعيد المذكورين آنفا، وإذا كان لا يزال في علماء الرسوم منا من يقول ويعتقد أن المسلمين في فلاح وفوز، فقد علم سائر المسلمين من جميع الطبقات في أكثر البلاد أنهم قد فقدوا عزهم واستقلالهم، وأنهم معذبون بما فقدوا وبما يتوقعون أن يفقدوا مما بقي لهم، وأن أذكياء شعوبهم يسأل بعضهم بعضا على بعد الدار وقربه عن طريق علاج الداء، قبل الإبداء، والتماس الشفاء، قبل الإشفاء، والعلاج بين أيديهم فمتى يبصرون، والطبيب يناديهم فأنى يسمعون؟ عسى أن يكون ذلك قريبا.
__________
(1) تفسير المنار: 4/48.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بيّن ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية، الآمرة الناهية، من وحدة المقصد، واتحاد الغرض، لأن الذين سبقوهم من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم، وتفرق أهوائهم، لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه، وإرضاء هواه، أما المتفقون في القصد، فاختلافهم في الرأي لا يضيرهم، بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعي لا بد منه لتمحيصه، وتبين وجوه الصواب فيه، ومن ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا في الدين وكانوا شيعا، تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر، وتنصر مذهبها وتدعو إليه، وتخطّئ ما سواه، ولذا تعادوا واقتتلوا، ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا ولا اختلفوا فيه، ولما تعددت مذاهبهم في أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضا ـ فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.
2. بعدئذ ذكر عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما في الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع في الضعفاء، وتذيقهم الخزي والنكال، وأما في الآخرة فعذاب الله أشد وأبقى.
3. هذا الوعيد في الآية يقابل الوعد في الآية قبلها وهو قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيرى الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/25.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها ـ من أهل الكتاب ـ ثم تفرقوا واختلفوا، فنزع الله الراية منهم، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية.. فوق ما ينتظرهم من العذاب، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/446.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وإذ يأمر الله تعالى الجماعة الإسلامية بهذا، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا، ولم يقم من بينهم راشدون، يقومون في وجه تلك الانحرافات، وهذه الاختلافات، فكان أن ضلّوا جميعا، وهلكوا جميعا!
2. وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة.. لا يستقيم لها طريق، ولا تستقر لها حال.. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/544.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ وهو يرجع إلى قوله ـ قبل ـ: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود، وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمّة بذلك انشقاقا شديدا.
2. المخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين: إمّا بطريق اللّفظ، وإمّا بطريق لحن الخطاب، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الّذين تفرّقوا واختلفوا.
3. أريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الّذين اختلفوا في أصول الدّين، من اليهود والنّصارى، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق، وقدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها، وفي عكسه قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والّذي يؤدّي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمّة بعضا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمّة في الأقطار والأعصار، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد، ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميّة لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشّريعة.
4. البيّنات: الدلائل الّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.
5. ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مقابل قوله في الفريق الآخر: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالقول فيه كالقول في نظيره، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/184.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بيّن سبحانه وجوب الاعتصام بحبل الله، وأن الاعتصام به مدعاة الوحدة والقوة والاجتماع على الحق، وبيّن طريقه وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى نتائج التفرق ناهيا عنه محذرا منه، مبيّنا نتائجه في الدنيا والآخرة.
2. أول نتائج التفرق هي العمى عن الحق مع وضوحه وقيام البيّنات عليه، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ نهى سبحانه وتعالى بهذا عن التفرق بأبلغ تعبير، وألطف إشارة، فقد كان النهى عن أن يكونوا كمن سبقوهم في التفرق، وذلك نهى مع الدليل الموجب للنهى، والغاية التي ترتبت على النهى عنه، وذلك بالإشارة إلى ما كان ممن سبقوهم؛ إذ تفرقوا أحزابا وشيعا كل حزب بما لديهم فرحون، فتفرق اليهود طوائف، وتفرق النصارى طوائف مثلهم، وكل طائفة تكفّر الأخرى، أو ترميها بالزيغ والضلال، وقد ترتب على التفرق وتوزع أهوائهم ومنازعهم أن اختلفوا في إدراك الكتاب مع وضوحه، ومع ما جاءهم من البيّنات الموضحة المبينة التي قامت مثبتة للحق، وهو واحد لا يتعدد، وإن ذلك فيه بيان نتيجة التفرق، وهو الاختلاف مع وجود الحق، وهو تأكيد لمضمون النهى؛ لأنه إذا كان التفرق مؤديا إلى استبهام الحق أمام المختلفين مع وضوحه في ذاته، فإن الافتراق في ذاته أمر قبيح، وإن هذه الصيغة فوق ذلك فيها الاعتبار بمن سبقوا، ووضع صورة واقعية لنتائج الافتراق، ولذا كان قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ أكثر معانى من (ولا تتفرقوا) وهى في هذا المقام أبلغ وأبين، ولأن الآيات السابقة فيها كلام عن أحوال اليهود والنصارى، ومناقضتهم للحقائق الإسلامية، ومحاولتهم تضليل المسلمين عن الحق الصريح، فكان من المناسب أن يشار إلى حالهم، ونتائج تفرقهم، وإعراضهم عن الحق بعد إذ تبين لهم.
3. سؤال وإشكال: إن الاختلاف يؤدى إلى التفرق مع أن ظاهر الآية أن الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف، والجواب: إن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدى إليه هو اختلاف تفكير، ولا بد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون، وأما الاختلاف الذي يؤدى إلى الافتراق، فهو بلا شك يؤدى إلى الضلال، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرق معين، وكذلك التفرق السابق على الاختلاف، فإنه يكون نوعا من تحكم الهوى، أو العصبية النسبية، أو العصبية الإقليمية، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية، فلا تستقيم الحقائق، ولا تدركها العقول، مع قيام البينات.
4. بين سبحانه نتائج هذا الضلال في الآخرة فقال سبحانه: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي أولئك الذين فرقتهم الأهواء فضلوا ولم يدركوا الحق مع قيام البينات عليه لهم عذاب عظيم في الآخرة، وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصى بالحق والتواصى بالصبر، وهى الثابتة بقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة]، فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1349.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، هذه الآية متممة لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ وما بعدها، والمراد بالذين تفرقوا أهل الكتاب، حيث افترق اليهود بعد نبيهم موسى إلى احدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين بعد نبيهم عيسى.
2. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يشعر بأن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق، واتباع الباطل الا بعد البيان وقيام الحجة.
3. السر لهذا التأكيد والاهتمام باجتماع الأمة واتحادها فلأن الشقاق مادة الفساد، ولأن الأمة المتفرقة لا تصلح للحياة فضلا عن ان تدعو الأمم الأخرى إلى الخير والحياة..
4. على الرغم من الآيات والروايات الكثيرة التي حثت على اجتماع المسلمين واتحادهم فقد تفرقوا شيعا وأحزابا، وزادت فرقهم فرقتين على فرق اليهود، وفرقة على فرق النصارى، كما في الحديث المشهور، وفي حديث آخر: لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، قالوا: تعني اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: (فمن أعني؟ لتنقضن عروة الإسلام عروة عروة)، وفي الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليردن على الحوض رجال ممن صحبني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إليّ رؤوسهم اختلجوا، فأقول: رب أصحابي، فيقال لي: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وقال: (بينا أنا واقف ـ يوم القيامة ـ إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلموا، فقلت: إلى أين؟ قال إلى النار، قلت: ما شأنهم؟ قال انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/127.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يبعد أن يكون قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ متعلقا بقوله: ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾ فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد وبالتفرق الاختلاف والتشتت من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآراؤهم بعضها عن بعض، وبرز فيهم الفرقة، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان أولا، وخرجوا من الجماعة، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد والآراء أخيرا.
2. نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضا ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، وإعراض الأمة عن ذلك بغي منهم، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.
3. أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد، وبالغ في النهي عن الاختلاف، وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك، وقد تقدم مرارا أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه، وهذا أمر أخبر به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا كما أخبر به القرآن، وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة، وأن أمته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل.
4. صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن تفرقوا شذر مدر، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهبا ثالثا.
5. الذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجبا، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة:
çكأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا...أنيس ولم يسمر بمكة سامرé
ولم يلبث الناس دون أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبإ، وباعدت بينهم شتى المذاهب، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد، وأبدلوا سعادة الحياة بشقاء الضلال والغي، والله المستعان، والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البراءة إن شاء الله.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/374.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان التفرق آفة الإسلام وآفة هذه الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أكّد الله النهي عنه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ نهى الله أن نكون مثلهم، فلا يجوز لنا أن نكون فِرَقاً أو فريقين، بل علينا أن نتوحد في دين الله، فالفرقة التباين والتحزب.
2. الاختلاف المنهي عنه الاختلاف فيما قد جاءتنا فيه البينات، فإذا تعامينا عن البينات، واتبعنا الأهواء، واكتفينا بالشبهات والظنون بعد وجود البينات عندنا، فاختلفنا لأغراض سياسة أو تحاسد أو نحو ذلك من الأغراض الشخصية، كاتباع الأسلاف والتعصب لهم، فهذا هو المنهي عنه في الآية الكريمة، والمتوعد عليه بالعذاب العظيم، فلا يحكم بنجاة كل فرقة تنتمي إلى الإسلام مع مخالفتها الآيات البينات من القرآن، ولا بهلاك كل فرقة مع كون خلافها في مسائل غامضة الدلائل بعض الغموض.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/515.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ينهي القرآن عن السير في خط التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى انهيار المجتمعات وابتعادها عن خط الاستقامة، من خلال ما يحدثه من التمزق الأخلاقي والسقوط الاجتماعي، الذي يفقد فيه المجتمع توازنه الفكري والعملي، فيسيطر عليه المترفون الذين يعملون على إضلال الناس وإسقاط قيمهم الروحية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية لمصلحة امتيازاتهم الظالمة، أو يتولى أمره المستكبرون والكافرون الظالمون فيبتعدون به عن خطه المستقيم وإيمانه القويم: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾ فلم يلتقوا على قاعدة فكرية واحدة على مستوى العقيدة والمفاهيم العامة والتصور الشامل الدقيق للأشياء، بل أخذ كل واحد منهم بشيء من الأفكار المختلفة التي يناقض بعضها بعضا، مما يؤدي إلى التنافر والتنازع والضلال.
2. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فاختاروا الكفر على الإيمان بعد قيام الحجة عليهم من الله سبحانه بالدلائل الواضحة والبينات القوية، ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ جزاء تمردهم على الله وانحرافهم عن خطه المستقيم.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/205.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أخرى، ولذا يذكر بأهمية الاتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
2. إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا ـ كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى ـ سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم، إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي، ويتأملوا في حياة السابقين، وما آلوا إليه من المصير المؤلم، بسبب الاختلاف والتشتت، إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق، وتفرقت بعد ما توحدت، وتشتّتت بعد ما تجمعت.
3. إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على اجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلا، لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلّا وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.
4. ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها، بصراحة إذ قال (إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة)، والظاهر أن عدد إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري، لا عدد إحصائي، فالرواية تعني ان فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية، وفرقا كثيرة في النار، وهكذا الحال في المسلمين وربّما يزداد عدد اختلافات المسلمين على ذلك، ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الاختلاف والفرقة، والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلّا طريقا واحدا، والانحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية، بل ويذهب المسلمون ـ في هذا الاختلاف ـ إلى حد تكفير بعضهم بعضا، وشهر السيوف، والتلاعن والتشاتم، وهدر النفوس، واستحلال الدماء والأموال، بل ويبلغ الاختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار، وإلى مقاتلة الأخ أخاه، وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والاختلاف والتشرذم والتمزق، وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية، وتحلّ الذلة محل العزّة، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية، وينتهي المجد العظيم.
5. إن الذين يسلكون سبيل الاختلاف بعد الوحدة، والفرقة بعد الاتحاد سيكون لهم عذاب أليم، {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}، إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والانكسار، فذلك هو سر سقوط الأمم وذلتها، إنه الاختلاف والتشتت، والنفاق والتدابر.
6. إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتت تماسكه بسبب الاختلاف، سيتعرض ـ لا محالة ـ لغزو الطامعين، وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل ومسرحا لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا، وأما عذاب الآخرة فهو ـ كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم ـ أشد وأخرى، فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الاتفاق، والتدابر على التآلف، والتشتت على الاجتماع.. خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/637.
56. الوجوه والبياض والسواد يوم الجزاء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈56⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 106 ـ 107]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبيّ:
روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: صاروا فرقتين يوم القيامة، يقال لمن اسود وجهه: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم، حيث كانوا أمة واحدة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فهم الذين استقاموا على إيمانهم، وأخلصوا له الدين، فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٥.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنه قال وهو على المنبر: إن الرجل ليخرج من أهله، فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة، وإن الرجل ليخرج من أهله، فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار، ثم قرأ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ الآية(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٢٥.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، أي: بعد الإقرار والميثاق بالله تعالى(1).
2. روي أنّه قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ما كانوا يعبدون، فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ [النساء: ١١٥]، فإذا انتهوا إليه حزنوا، فتسود وجوههم من الحزن، ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم فيها، فيأتيهم الله تعالى، فيسجد له من كان يسجد له في دار الدنيا مطيعا مؤمنا، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كما هم لا يستطيعون السجود، ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم، ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد، فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا، فاسودت وجوههم، فيقولون: ربنا، سودت وجوه من كان يعبد غيرك، فما لنا سودت وجوهنا، فوالله ربنا، ما كنا مشركين؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كيف كذبوا على أنفسهم(2).
__________
(1) البيهقي في القضاء والقدر: ١/٢٧٢.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٢٤.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال في الآية: هم أهل الكتاب، كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد، فلما بعثه الله كفروا، فذلك قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٧٨٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ هم المنافقون؛ كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (والذي نفس محمد بيده، ليردن علي الحوض ممن صحبني أقوام، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: رب، أصحابي أصحابي، فليقالن: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾ هؤلاء أهل طاعة الله، والوفاء بعهد الله، قال الله تعالى: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٦٤.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ﴾ يعني: في جنة ﴿اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يعني: لا يموتون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث، ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٤.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، قلت: هل هنالك إلا مسود الوجه أو مبيضه؟.. وهم ـ رحمك الله ـ وإن كانوا كذلك، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك، فهم فرق أصناف، بينهم في أحوالهم اختلاف، فمنهم: مؤمن وفاسق، ومشرك ومنافق، وقاتل وقاذف وسارق، وتنزيل الآية فيما سألت: خاص غير عام؛ لأنه ليس كل من يسود وجهه يقال له: كفرت بعد الإيمان؛ لأن في النار من فرق الكفار من لم يكن مؤمنا قط في دنياه، ولم يزل على كفره فيها وعماه؛ فكيف يقول لأولئك: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: 106]!؟ أليس هذا عندك من أزور الزور، وأبهت البهتان!؟.. وابيضاض الوجوه هنالك فإنما هو: سرورها وبهجتها، واسوداد الوجوه إنما هو: حزنها وحسرتها؛ والقول في هذا يومئذ من القائلين فإنما هو: لمن كفر بعد إيمانه برب العالمين(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/176.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ الآية، يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: وصف الله ـ عزّ وجل ـ وجوه أهل الجنة بالبياض؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف ـ عزّ وجل ـ وجوه أهل النار بالسواد؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة.
ب. وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد ـ ليس نفس البياض والسواد؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف؛ كقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [عبس: 38 ـ 39]، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك، وليس على حقيقة الضحك؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغبر والقتر؛ وهو وصف بشدة الحزن.
2. قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أكفرتم بألسنتكم بعد ما شهدت خلقتكم بوحدانية الله تعالى؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته.
ب. ويحتمل: أي: كفرتم بعد ما آمنتم بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث بوجودكم، نعته وصفته في كتابكم وعلى هذا قال بعض أهل التأويل: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ [الشورى: 16]: أي: على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدّين ولا بالتقليد، [والله أعلم]
ج. ويحتمل قوله: أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق!؟؛ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من كفر، فقال لمن كفر: أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر!؟ ألا ترى أنه قال: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 159] والله أعلم؛ وكقوله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾!؟ [الصف: 14]
د. وقيل: أراد بالإيمان ـ الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم.
3. في الآية ردّ قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بتخليد أهل الكبائر في النار، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر؛ لأنه ـ عزّ وجل ـ لم يجعل إلا فريقين: بياض الوجوه، وسواد الوجوه، فبياض الوجوه هم المؤمنون، وسواد الوجوه هم الكافرون؛ لأنه قال: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة، ولم يجعل الله تعالى فرقة ثالثة؛ وهم فرقة ثالثة؛ وكذلك قال عزّ وجل: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7] لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فرقا؛ وكقوله: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: 2]
4. سؤال وإشكال: ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة، والجواب: ما سبق: أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية الله تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرا في حكم الكافر.
5. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر؛ لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو؛ فكأنه قال اعلموا أن عليكم العذاب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/452.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ يعني يوم القيامة لأن الناس بين مثاب بالجنة وبين معاقب بالنار فوصف وجه المثاب بالبياض لإسفاره بالسرور ووصف وجه المعاقب بالسواد لانكسافه بالحزن ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ هذه الآية نزلت في كل منافق ارتد عن الإسلام.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/148.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ يعني به يوم القيامة، لأن الناس فيه بين مثاب بالجنة ومعاقب بالنار فوصف وجه المثاب بالبياض لإسفاره بالسرور، ووصف وجه المعاقب بالسواد لانكسافه بالحزن.
2. في الذين كفروا بعد إيمانهم في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أربعة أقاويل:
أ. الأول: أنهم الذين كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق، وهو قول الحسن.
ب. الثاني: أنهم الذين كفروا بالارتداد بعد إسلامهم، وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: هم الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم بنعته ووصفه، وهو قول الزجاج.
د. الرابع: هم جميع الكفار لإعراضهم عما يوجبه الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم الله تعالى على أنفسهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172] وهو قول أبي بن كعب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/415.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العامل في قوله: ﴿يَوْمَ﴾ قوله ﴿عَظِيمٍ﴾ وتقديره عظيم عذابهم يوم تبيض وجوه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه عذاب موصول، قد فصلت صفته بينه، وبين معموله، لكن يجوز أن تعمل فيه الجملة، لأنها في معنى يعذبون يوم تبيض وجوه، كما تقول المال لزيد الجمعة فالعامل الفعل والجملة خلف منه.
المعني بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ الذين كفروا بعد إيمانهم، وقيل فيهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال الحسن: الذين كفروا بعد اظهار الايمان بالنفاق.
ب. الثاني: قال قتادة: الذين كفروا بالارتداد.
ج. الثالث: قال أبي بن كعب: إنهم جميع الكفار، لإعراضهم عما يوجبه الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم الله على أنفسهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾
د. الرابع: ذكره الزجاج وأبو علي الجبائي، الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم به أي بنعته وصفته قبل مبعثه، وهذا الوجه، والوجه الأول يليق بمذهبنا(2) في الموافاة، فأما الارتداد عن الايمان الحقيقي، فلا يجوز عندنا على ما مضى في غير موضع.
2. سؤال وإشكال: إذا كان ﴿الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ كفاراً ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ مؤمنين هلَّا دل ذلك على أنه لا واسطة بين الكفر والايمان من الفسق؟ والجواب: لا يجب ذلك، لأن ذكر اسوداد الوجوه وابيضاضها لا يمنع أن يكون هناك وجوه أخر مغبرة أو نحوها من الألوان أو يكون أدخلوا في جملة الكفار الذين اسودت وجوههم على التغليب لأعظم الصفتين كما يغلب المذكر على المؤنث، وليس ذكر اليوم بأنه تسود فيه وجوه وتبيض وجوه بمانع من أن يكون فيه وجوه عليها الغبرة، كما أن القائل إذا قال هذا يوم يعفو فيه السلطان عن قوم ويعاقب فيه قوماً لا يدل على أنه ليس هناك من لا يستحق واحداً من الأمرين على أن الآية تدل على أن ﴿الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ هم المرتدون، لأنه قال: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وليس كل الكفار هذه صورتهم، جاز لنا إثبات فاسقين مثل ذلك.
3. ليس قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ يجري مجرى قوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ لأن ذاك إنما ذكر على وجه المثل، كأنه قال حال الذي يبشر بالأنثى بمنزلة حالة من اسود وجهه، لما حدث فيه من التغير: وإن لم يسود في الحقيقة، وعرفنا عن ذلك دليل، وليس في هذه الآية ما يدلنا على العدول عن ظاهرها.
4. جواب ﴿فَأَمَّا﴾ في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ﴾ محذوف وتقديره: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيقال لهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فحذف لدلالة اسوداد الوجوه على حال التوبيخ حتى كأنه ناطق به، وقد يحذف القول في مواضع كثيرة استغناء بما قبله من البيان، كقوله: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُو رؤُوسِهِم عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا} أي يقولون ربنا لدلالة تنكيس الرأس من المجرم على سؤال الاقالة، وقيل في قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ معناه يقول ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ومثله ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يقولون (سلام عليكم) ونظائر ذلك كثيرة جداً.
5. سؤال وإشكال: لم ذكر تعالى حال الكافرين وحال المؤمنين ولم يذكر حال الفاسقين؟ والجواب: ليقابل اسوداد الوجوه لابيضاض الوجوه بالعلامتين، وحال الفاسقين موقوفة على دلالة أخرى وآية أخرى.
6. في قوله تعالى: {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ} قولان:
أ. أحدهما: انهم في ثواب الله وان الرحمة هي الثواب.. وهو أجود، لأن الرحمة هاهنا هي الثواب وإذا صح حمل الكلام على ظاهره من غير حذف كان أولى من تقدير محذوف منه من غير ضرورة.
ب. الثاني: انهم في ثواب رحمة الله، فحذف، كما قال {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} ذكره (3).
7. الآية الكريمة تدل على أن ثواب الله تفضل، لأن رحمة الله إنما هي نعمته، وكل نعمة فإنه يستحق بها الشكر، وكل نعمة تفضل، ولو لم تكن تفضلا لم تكن نعمة، وقيل في وجه كونه تفضلا قولان:
أ. أحدهما: إنما كان تفضلا، لأن السبب الذي هو التكليف تفضل.
ب. الثاني: إنه تفضل لأنه بمنزلة إيجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لأن المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لأنه لا يجوز الخلف، وهو مع ذلك تفضلا، لأنه جر إليه تفضل، واختار الرماني هذا الوجه.
8. إنما كرر الظرف في قوله: {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} لأمرين:
أ. أحدهما: للتأكيد.
ب. الثاني: للبيان عن صحة الصفتين أنهم في رحمة الله، وانهم فيها خالدون، وكل واحدة قائمة بنفسها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/552.
(2) يقصد الإمامية
(3) الكلام هنا للزجّاج
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البياض والسواد لونان معروفان، وأصلهما تَبْيَضْضُ وتَسْوَدْدُ أدغم إحدى الضادين في الأخرى، وقيل: اللونُ الخالصُ السوادُ والبياضُ فقط، وقيل: بل خمسة: الخضرة والصفرة والحمرة، وهما عرضان يختصان المحل.
ب. الذَّوْقُ: إدراك المذوق بحاسة الفم، كما أن الشم إدراك المشموم بحاسة الأنف؛ ولذلك لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يذوق ويشم؛ لأن الله تعالى يدرك لا بحاسة، فهو يدرك المشموم والمذوق والملموس لا بحاسة.
2. بَيَّنَ الله تعالى متى يكون ذلك، فقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، وهو يوم القيامة، واختلفوا:
أ. قيل: يكون بعض الوجوه مشرقة منورة، وبعضها مسودة، عليها قترة السواد، وهذا قول أكثر المفسرين.. وهو الوجه؛ لأنه الظاهر، وتؤيده الأخبار، ولا مانع منه، ثم اختلفوا:
• فقيل: تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين.
• وقيل: تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين.
• وقيل: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير، عن عطاء.
• وقيل: هم أهل السنة وأهل البدعة، في ابن عباس.
ب. وقال بعضهم: المراد بالبياض ما يحصل من البشر والتهلل والفرح، والمراد بالسواد ما يحصل من ضده في وجوه الكافرين من الغم وآثاره.
ج. وقيل: البياض والسواد مَثَلٌ.
3. ثم لما تقدم اختلاف ألوان القوم يوم القيامة، فصّل ذلك فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ يقال لهم ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فيه ستة أقوال:
أ. الأول: الَّذِينَ كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق، عن الحسن.
ب. الثاني: كفروا بعد الإيمان بالارتداد، عن قتادة.
ج. الثالث: جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم الإقرار به من التوحيد حتى أشهدهم على أنفسهم عن أُبَيٍّ بن كعب.
د. الرابع: هم أهل الكتاب كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم به أي بنعته وصفته قبل مبعثه، عن عكرمة والأصم وأبي علي والزجاج.
هـ. الخامس: هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، عن علي، ومثله عن قتادة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: والذي نفسي بيده ليردن عليَّ الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم قلت: يارب أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بُعْدًا لهم وسُحْقًا)
و. السادس: هم الخوارج، عن أبي أمامة، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من كبد الرمية)، والأصح أنهم المرتدون؛ لأنه الظاهر.
4. اختلف في الألف في قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾:
أ. قيل: أصله ألف استفهام.
ب. وقيل: المراد به الإنكار والتقريع، أي لم فعلتم ذلك؟.
ج. وقيل: المراد به التقرير، أي قد كفرتم.
5. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ الذوق ههنا توسع، ومعنى الكلام: انظروا ما صار إليه عاقبتكم من عذاب الله تعالى لمخالفة أمره ونهيه ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾:
أ. أي: جزاء على كفركم.
ب. وقيل: ذوقوا عقوبة كفركم.
6. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾، وهم المؤمنون ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾:
أ. قيل: في نعمه عن الأصم وأبي علي.
ب. وقيل: في جنته، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: في رضاه.
7. ﴿خَالِدُونَ﴾ أي دائمون.
8. سؤال وإشكال: الآية تدل على نفي المنزلة بين المنزلتين؛ لأن فيه إثبات مؤمن يبيض وجهه، وكافر يسود وجهه؟ والجواب: عنه أجوبة:
أ. منها: أنه تعالى ذكر الفريقين، ولم يَنْفِ ما عدا ذلك، فلا يمتنع أن يكون هناك وجوه عليها غبرة تكون صفة الفساق، وبعد فإنه ذكر تعالى فيمن تسود وجوههم أنهم كفروا بعد إيمانهم، فإذا سئلوا عن الكافر الأصلي فلا بد لهم من جواب، فهو جوابنا.
ب. وقيل: الفساق تكون أتباعا في سواد الوجوه، كما يكون المؤمنون أتباعا للأنبياء في بياض الوجوه.
ج. وقيل: إن الكفار هم المقصودون بالعقاب، فكأنه لم يَعْتَدَّ بغيرهم، كما أن المؤمنين في الجنة هم المتبوعون فذكروا، وإن كان فيه الأطفال والمجانين.
9. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن المؤمن والكافر يتميز يوم القيامة بألوانهم وعلاماتهم.
ب. أن ذلك لطف للمكلفين؛ لأنه إذا تصور ذلك كان أقرب إلى الطاعة.
ج. دوام الثواب، فيبطل قول جهم، وتدل أن العقوبة جزاء على أعمالهم، فيبطل مذهب الجبر في جزاء الأعمال.
د. أن الإيمان والكفر فعلهم، لذلك وبَّخهم به، فيبطل قولهم في المخلوق.
10. قراءات ووجوه:
أ. قرأ العامة ﴿تَبْيَضُّ﴾ ﴿وَتَسْوَدُّ﴾ بفتح التاء في الحرفين من غير ألف، وعن يحيى بن وثاب بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم، وعن الزهري (تبياض وتسواد)، أما الأولى: فهي لغة الحجاز، وعليه الأئمة، ولا يجوز القراءة إلا به، وأما الثانية: فبنو تميم يفعلون ذلك، فيكسرون التاء فيما كان من باب فَعِلَ يَفْعَلُ نحو: عَلِمَ يَعَلْمُ، ويقولون: تِجْهَلُ، ولا يفعلون في باب فَعَلَ يَفْعِلُ نحو: ضرب يَضْرِبُ، لا يقولون: تِضْرِبُ؛ لأن الحرف الثالث فيه مكسور، فلا يكسرون أوله، فأما الثالثة فهو باب يكون فيه افْعَلَّ وافْعَالَّ، نحو: احمر واحمار، وابيض وابياض، واسود واسواد.
ب. قرأ بعضهم ﴿الْعَذَابَ بِمَا﴾ بالبيان، وبعضهم بالإدغام، فأما البيان فهو أحسن؛ لأنهما حرفان متحركان منفضلان من كلمتين، ومن يدغم فيسكن ويدغم؛ لأن قبل الباء ألف وهي من حروف المد واللين.
11. مسائل نحوية:
أ. العامل في قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ قيل ﴿عَظِيمٍ﴾ تقديره: عظيم عذابهم يوم تبيض، وقيل: الجملة: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ﴾، كقولهم: المال لزيد يوم الجمعة.
ب. جواب ﴿فَأَمَّا﴾ محذوف، وتقديره: يقال لهم، وإنما جاز حذفه؛ لأن الكلام يدل عليه، وقد حذف القول في آي كثيرة في القرآن لدلالة الباقي عليه، منها: قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُورُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا} أي: ويقولون ربنا، ونظائره كثيرة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/338.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أخبر سبحانه بوقت ذلك العذاب أي: ثبت لهم العذاب في يوم هذه صفته، وإنما تبيض فيه الوجوه للمؤمنين ثوابا لهم على الايمان والطاعة، وتسود فيه الوجوه للكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيئات، بدلالة ما بعده وهو قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ﴾ أي: يقال لهم: أكفرتم ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾
2. اختلف فيمن عنوا به على أقوال:
أ. أحدها: إنهم الذين كفروا بعد إظهار الايمان بالنفاق، عن الحسن.
ب. وثانيها: إنهم جميع الكفار لاعراضهم عما وجب عليهم الاقرار به من التوحيد، حين أشهدهم على أنفسهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ فيقول: أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق، عن أبي بن كعب.
ج. وثالثها: إنهم أهل الكتاب كفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم به أي: بنعته وصفته قبل مبعثه، عن عكرمة، واختاره الزجاج والجبائي.
د. ورابعها: إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، عن علي عليه السلام، ومثله عن قتادة أنهم الذين كفروا بالارتداد، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (والذي نفسي بيده ليردن علي الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: أصحابي أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعد إيمانهم ارتدوا على أعقابهم القهقري)، ذكره الثعلبي في تفسيره، فقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
3. الألف في ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ أصله الاستفهام والمراد به هنا:
أ. قيل: التقريع أي: لم كفرتم.
ب. وقيل: المراد التقرير أي: قد كفرتم.
4. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي: بلفظ الذوق على التوسع ومعناه: انظروا ما صار إليه عاقبتكم من عذاب الله بما كنتم تكفرون أي: بكفركم.
5. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وهم المؤمنون ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾:
أ. أي: ثواب الله.
ب. وقيل: جنة الله.
6. أعاد كلمة الظرف وهي قوله: ﴿فِيهَا﴾ في قوله تعالى: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾:
أ. قيل: تأكيدا لتمكين المعنى في النفس.
ب. وقيل: إنما أعادها لأنه دل بقوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ على إدخاله إياهم في الرحمة، وبقوله ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ على خلودهم فيها.
7. سمى الله تعالى الثواب رحمة، والرحمة نعمة يستحق بها الشكر، وكل نعمة تفضل، والوجه في ذلك:
أ. قيل: أن سبب الثواب الذي هو التكليف تفضل، فيكون الثواب على هذا الوجه تفضلا.
ب. وقيل: إنما جاز أن يكون تفضلا، لأنه بمنزلة إنجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لان المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لان الخلف قبيح، وهو مع ذلك تفضل لأنه جر إليه تفضل.
8. قال بعضهم: المراد بابيضاض الوجوه إشراقها واسفارها بالسرور بنيل البغية، والظفر بالمنية، والاستبشار بما يصير إليه من الثواب، كقوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾، والمراد باسودادها ظهور أثر الحزن عليها لما يصير إليه من العقاب، كقوله: (وجه يومئذ باسرة ووجوه يومئذ عليها غبرة)، وفي هذا القول عدول عن حقيقة اللفظ من غير ضرورة، والأصح الأول.
9. مسائل نحوية:
أ. العامل في قوله ﴿يَوْمَ﴾ قوله ﴿عَظِيمٍ﴾، وتقديره عظيم عذابهم يوم تبيض وجوه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه ﴿عَذَابٍ﴾ لأنه موصوف قد فصلت صفة بينه وبين معموله، لكن يجوز أن تعمل فيه الجملة، لأنها في معنى يعذبون كما يقال: المال لزيد يوم الجمعة، فالعامل الفعل والجملة خلف منه.
ب. جواب ﴿أَمَّا﴾ في قوله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيقال لهم: أكفرتم، فحذف لدلالة اسوداد الوجوه على حال التوبيخ، حتى كأنه ناطق به، وقد يحذف القول في مواضع كثيرة استغناء بما قبله من البيان كقوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا} أي: يقولون ربنا أبصرنا لدلالة تنكيس الرأس من المجرمين على سؤال الإقالة، ومثله كثير.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/809.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قرأ أبو رزين العقيليّ، وأبو عمران الجونيّ، وأبو نهيك: تبيضّ وتسودّ، بكسر التاء فيهما، وقرأ الحسن، والزّهريّ، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياضّ وتسوادّ بألف، ومدّة فيهما، وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر، (فأمّا الذين اسوادّت وأمّا الذين ابياضّت) بألف ومدّة.
2. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيضّ وجوه: قال ابن عباس: تبيضّ وجوه أهل السّنّة، وتسودّ وجوه أهل البدعة.
3. في الذين اسودّت وجوههم، خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنهم كلّ من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أبيّ بن كعب.
ب. الثاني: أنهم الحروريّة، قاله أبو أمامة، وأبو إسحاق الهمذانيّ.
ج. الثالث: اليهود، قاله ابن عباس.
د. الرابع: أنهم المنافقون، قاله الحسن.
هـ. الخامس: أنهم أهل البدع، قاله قتادة.
4. ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأنّ في الكلام دليلا عليه، كقوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، أي ويقولان: ربّنا تقبّل منا، ومثله: ﴿مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ والمعنى: يقولون: سلام عليكم، والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التّقرير والتّوبيخ:
أ. إن قلنا: إنهم جميع الكفار، فإنهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا.
ب. وإن قلنا: إنهم الحروريّة، وأهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد.
ج. وإن قلنا: اليهود، فإنهم آمنوا بالنبيّ قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره.
د. وإن قلنا: المنافقون، فإنّهم قالوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم.
5. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أصل الذّوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنّهم جعلوا ما يتعرّف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التّطعم، تقول العرب: قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون ذق الفرس، فاعرف ما عنده، قال تميم بن مقبل:
çأو كاهتزاز ردينيّ تذاوقه...أيدي التّجار فزادوا متنه ليناé
وقال الآخر:
çوإنّ الله ذاق حلوم قيس...فلما راء خفّتها قلاهاé
يعنون بالذّوق: العلم، وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه.
6. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ قال ابن عباس: هم المؤمنون، ورحمة الله: جنّته، قال ابن قتيبة: وسمّى الجنّة رحمة، لأن دخولهم إيّاها كان برحمته، وقال الزجّاج: معناه: في ثواب رحمته، قال وأعاد ذكر (فيها) توكيدا.
__________
(1) زاد المسير: 1/314.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أمر الله تعالى اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة، تأكيداً للأمر، فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
2. في نصب ﴿يَوْمَ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه نصب على الظرف، والتقدير: ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم، وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان:
• إحداهما: أن ذلك العذاب في هذا اليوم.
• والأخرى: أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه.
ب. الثاني: أنه منصوب بإضمار (اذكر)
3. هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: 60]، وقوله: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾ [يونس: 26]، وقوله : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 38 ـ 41]، وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: 22 ـ 25]، وقوله: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24]، وقوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: 41]
4. في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان:
أ. أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور، والسواد عن الغم، وهذا مجاز مستعمل، قال تعالى: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَكَظِيمٌ} [النحل: 58] ويقال: لفلان عندي يد بيضاء، أي جلية سارة، ولما سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية قال له بعضهم: يا مسود وجوه المؤمنين(2)، ولبعضهم في الشيب.
çيا بياض القرون سودت وجهي...عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي...عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي...وسواد لوجهك الملعونé
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون: الحمد لله الذي بيض وجهك، ويقال لمن وصل إليه مكروه: اربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته، فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني.. ولأبي مسلم أن يقول: الدليل دل على ما قلناه، وذلك لأنه تعالى قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلًا، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل.
ب. الثاني: إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه، ثم قال القائلون بهذا القول: الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه، فيحصل له الفرح بذلك من وجهين:
• أحدهما: أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة، قال تعالى مخبراً عنهم: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26، 27]
• الثاني: أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سببا لمزيد غمهم في الآخرة، فهذا وجه الحكمة في الآخرة، وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه، فهذا تقرير هذين القولين.
5. اختلف في الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾:
أ. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر، وأنه ليس هاهنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فقالوا: إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون، ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث، فلو كان هاهنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس: 38 ـ 42].. ووجه الاستدلال بالآية هو أن الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة، واسوداد الوجه يكون نصيبا لمن أنكر ذلك، ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة، وصاحب السواد من أهل النار، فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين.
ب. أجاب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، يبين ذلك أنه تعالى إنما قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فذكرهما على سبيل التنكير، وذلك لا يفيد العموم، وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين، فكذا القول في الفساق(3).. وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ عنه من وجهين:
• الأول: أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم؟ وإذا كان كذلك كان الكل داخلًا فيه.
• الثاني: وهو أنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان، وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافراً أصلياً.
6. سؤال وإشكال: ذكر الله تعالى القسمين أولًا فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب.
ب. ثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال صلّى الله عليه وآله وسلّم حاكياً عن رب العزة سبحانه: (خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم)، وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال (سبقت رحمتي غضبي)
ج. ثالثها: أن الفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم.
7. سؤال وإشكال: أين جواب (أما)؟ والجواب: هو محذوف، والتقدير فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: 23، 24]، وقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: 127]، وقال: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُو رؤُوسِهِم عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا} [السجدة: 12]
8. سؤال وإشكال: من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ والجواب: للمفسرين فيه أقوال، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
أ. أولهما: تكون الآية عامة في حق كل الكفار، واختلفوا:
• قال أبي بن كعب: الكل آمنوا حالما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام، فكل من كفر في الدنيا، فقد كفر بعد الإيمان، ورواه الواحدي في (البسيط) بإسناده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• أن المراد: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة، والدليل على صحة هذا التأويل، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: 70] فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: 105]، ثم قال هاهنا: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فكان ذلك محمولًا على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها.
ب. ثانيهما: تكون الآية خاصة ببعض الكفار، واختلفوا:
• الأول: قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا مؤمنين به، فلما بعث صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا به.
• الثاني: قال قتادة: المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد.
• الثالث: قال الحسن: الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق.
• الرابع: قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة.
• الخامس: قيل هم الخوارج، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال فيهم: (إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)
9. هذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية، ولأنه تخصيص لغير دليل، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة.
10. سؤال وإشكال: ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾؟ والجواب: هذا استفهام بمعنى الإنكار، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [آل عمران: 98، 99]، ثم قال تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، وفيه فوائد:
أ. الأولى: أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً.
ب. الثانية: قال القاضي قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
ج. الثالثة: قالت المرجئة: الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللًا بالكفر، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر.
11. سؤال وإشكال: ما المراد برحمة الله في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}؟ والجواب: قال ابن عباس: المراد الجنة، وقال المحققون من أصحابنا(4): هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل؟ فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا.
12. سؤال وإشكال: كيف موقع قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ بعد قوله {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ}؟ والجواب: كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
13. سؤال وإشكال: الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة؟ والجواب: كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه، بل قال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال: {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ} ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال: {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ}، ثم قال في آخر الآية: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾، وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/318.
(2) وهذا جهل من قائله، فالإمام الحسن فعل ما اقتضته الحكمة، وهو لم يسلّم بل صالح للضرورة، مثلما فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قريش في صلح الحديبية
(3) الكلام هنا للقاضي
(4) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة، ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه، ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه، ويقال: ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس]، ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؟ فيقولون: (ربنا الله تعالى فيقول لهم: أتعرفونه إذا رأيتموه(2))، فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه، فيرونه كما شاء الله، فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم، وذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
2. يجوز (تبيض وتسود) بكسر التائين، لأنك تقول: ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الألف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب، وقرأ الزهري (يوم تبياض وتسواد) ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز (يوم يبيض وجوه) بالياء على تذكير الجمع، ويجوز (أجوه) مثل ﴿أُقِّتَتْ﴾
3. ابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم، واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم، واختلفوا في التعيين:
أ. فقال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قال: (يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة) ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، وقال فيه: منكر من حديث مالك.
ب. قال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير.
ج. وقال أبي بن كعب: الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم: أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر، هذا اختيار الطبري.
د. وقال الحسن: الآية في المنافقين.
هـ. وقال قتادة هي في المرتدين.
و. وقال عكرمة: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث فلما بعث صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا به، فذلك قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وهو اختيار الزجاج.
ز. وقال مالك بن أنس: هي في أهل الأهواء.
ح. وقال أبو أمامة الباهلي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هي في الحرورية، وفي خبر آخر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (هي في القدرية)، روى الترمذي عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ـ ثم قرأ ـ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ إلى آخر الآية، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ـ حتى عد سبعا ـ ما حدثتكموه، قال: هذا حديث حسن.
ط. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: أهكذا سمعت من سهل بن سعد؟ فقلت نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي، وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)
4. الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم.. وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل يخاف، عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء، وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
5. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ في الكلام حذف، أي فيقال لهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى، ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به، وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية، وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ﴿أَمَّا﴾ لأن المعنى في قولك: أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شي فزيد منطلق)، وقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ هؤلاء أهل طاعة الله تعالى والوفاء بعهده، {ففي رحمت الله هم فيها خالدون} أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون، جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات، آمين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/167.
(2) كل أحاديث الرؤية مردودة أو مؤولة، لاستحالة رؤية الله تعالى لعلاقتها بالتجسيم
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ منتصب بفعل مضمر، أي: اذكر؛ وقيل: بما يدل عليه قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فإن تقديره: استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه، أي: يوم القيامة، حين يبعثون من قبورهم، تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة، ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيضّ وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته فحزن واسودّ وجهه، والتنكير في وجوه: للتكثير، أي: وجوه كثيرة، وقرأ يحيى بن وثّاب: تبيض وتسود: بكسر التائين، وقرأ الزهري: تبياض وتسواد.
2. ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ أي: فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب؛ قيل: هم أهل الكتاب؛ وقيل: المرتدون؛ وقيل: المنافقون؛ وقيل: المبتدعون.
3. {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ} أي: في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لا بد من الرحمة، ومنه حديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) وهو في الصحيح.
4. ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ جملة استئنافية، جواب سؤال مقدر، وتلك: إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين، وتنعيم المؤمنين.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/424.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ أي اذكر يوم تبيضُّ وجوه ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ وهو يوم القيامة، ابيِضاضًا واسوِدادًا حقيقين، وأمَّا الفرح والحزن فلا زمان لهما، يوسم أهل الحقِّ ببياض الوجه والبدنِ كلِّه والصحيفة والنور بين أيديهم، وأهل الباطل بسواد الوجه والبدن كلِّه والصحيفة والظلمة من كلِّ جهة، والغَبَرة والقَتَرة والبُسُور، وذلك هو الصحيح عندي، وعليه الجمهور؛ لأنَّه الواقع والحقيقة، ولا دليل يصرف عن ذلك، لا ما رجَّح بعض من أَنَّ الاِبيضاضَ كنايةٌ عن البهجة والسرور والإسفار والضحك والاستبشار، والاسودادَ كنايةٌ عن الحزن وأثره والخوف، ولو كانت الكناية في الجملة أبلغ، وخصَّ الوجه بالذكر لأنَّه أوَّل ما يتلقَّى، وأشرف الأعضاء، والاِبيضاضُ والاِسوداد وقت البعث من القبور، أو وقت قراءة الصحف، أو وقت رجحان الحسنات والسيِّئات، أو عند قوله تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ الآية [يس: 59]، أو وقت يؤمر كلُّ فريق باتِّباع معبوده، أو في كلِّ ذلك شيئًا فشيئا حتَّى يتمَّا.
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمُ أَكَفَرْتُم﴾ فيقال لهم: أكفرتم؟ أو فيُلقَون في النار ويقال لهم: أكفرتم؟، والاستفهام توبيخ للكافرين، وتعجيب للمنافقين، ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ يعني إيمانهم يوم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، والخطاب للكفَّار كلِّهم، أو جعل حالهم لظهور حجج الإيمان إيمانا، أو الخطاب لليهود والنصارى كفروا به إذ بُعِثَ بعد اعترافهم به قبل بعثه، أو للمرتدِّين، أو لهم خصوصا وللكفَّار عموما، وقال الحسن: (هم المنافقون بإضمار الشرك بعد الإيمان باللِّسان)، وعن عليٍّ: أهل البدع، ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ أمر إهانة بالشروع في أوَّل العذاب، ولا يزال يزداد، أو أمر تسخير بأن تذوق العذاب كلُّ شعرة وكلُّ جزء من أبدانهم، شبَّه العذاب بشيء يذاق، ﴿بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بسبب كونكم تكفرون أو عوضه.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وهم المؤمنون، ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾ بما كسبوا، كما في كثير من الآيات، كقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، وبفضل الله تعالى إذ أورثهم ما لا يستوجبه عملهم، وبجعله أعمالهم وأقوالهم واعتقادهم ثمنا لها ولدرجتها، وجعل ذلك ثوابا فضلا من الله؛ فلا حاجة إلى جعل الباء في قوله: ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لغير سببيَّةِ وعدٍ، وإلى جعل دخولها بمقتضى الوعد، وإلى دعوى أَنَّ عدم ذكر السبب لذلك، أي: فتثابون في رحمة الله.
3. أخبر أوَّلاً بالدخول، وأخبر ثانيا بالخلود إذ قال: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، بدأ بالابيضاض وختم بخلود الجنَّة لاستحسان الطبع أن يبدأ بما يسرُّ مع ختمه بما يُسرُّ، وعبَّر بالرحمة عن الجنَّة لأنَّها محلُّ الرحمة، والظرفيَّة حقيقيَّة، أو عن الثواب فتكون مجازا، وفي ذلك إشارة إلى أَنَّ دخولها برحمة الله لا يستقلُّ بها عمل مؤمن ولو عاش ما عاش في محض طاعة لا تشوبها معصية، وفي الحديث: (لن يُدخل أحدَكم الجنَّةَ عملُه)، فقيل: (حتَّى أنت يا رسول الله؟) قال: (حتَّى أنا، إِلَّا أَن يتغمَّدني الله برحمته)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/347.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أي تبيض وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين لاتباعها الدين الحق الذي هو النور الساطع، وتسودّ وجوه كثيرة، وهي وجوه الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، لاتباعها الضلالات المظلمة، وليستدل بذلك على إيمانهم وكفرهم، فيجازي كل بمقتضى حاله.
هذه الآية لها نظائر، منها قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: 60]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾ [يونس: 26]، ومنها قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 38 ـ 41]، ومنها قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة:22 ـ 25]، ومنها: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24]، إلى غير ذلك، والمفسرين في هذا البياض والنضرة والغبرة والقترة وجهان:
أ. أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور، والسواد عن الغم، وهذا مجاز مستعمل، قال تعالى: {وإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهُوَكَظِيمٌ} [النحل: 58]، ويقال: لفلان عندي يد بيضاء، أي جلية سارة، وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه، ومعناه الاستبشار والتهلل، وعند التهنئة بالسرور يقولون: الحمد لله الذي بيض وجهك، ويقال لمن وصل إليه مكروه: اربدّ وجهه واغبرّ لونه، وتبدلت صورته، فعلى هذا معنى الآية: إن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه، فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك، إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسودّ وجهه بمعنى شدة الحزن والغم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهانيّ.
ب. الثاني: أن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه، ولأبي مسلم أن يقول الدليل دل على ما قلناه، وذلك لأنه تعالى قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 38 ـ 41]، فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا له، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة والغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ـ أفاده الرازيّ ـ
2. (يوم) منصوب إما مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفرق بعد مجيء البينات، وترغيبا في الاتفاق على التمسك بالدين، أي اذكروا يوم.... أو ظرف للاستقرار في (لهم) أو ل (عظيم) أو ل (عذاب)
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا، وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال.
4. قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ على إرادة القول، أي فيقال لهم ذلك، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ـ أفاده أبو السعود ـ والمعنى: أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان، وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة، وما يناجيكم به وجدانكم من صدق هذه الدعوى وحقيتها وشهادته بصحتها، كما قال تعالى فيما قبل هذه الآية: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: 70]: فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105]، فقوله تعالى هنا: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، محمول على ما ذكر، حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها، وهي عامة في حق كل الكفار.
5. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} المراد برحمة الله الجنة، عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/383.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذلك العذاب العظيم يكون للمتفرقين المختلفين ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، قيل إن بياض الوجوه وسوادها هنا من باب الحقيقة، وأن ذلك يكون يوم القيامة خاصة، واحتج صاحب هذا القول بمثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: 59]، وقيل وهو الراجح أنه من باب الكناية، قال الراغب في مادة (بيض) من مفرداته بعد ذكر الآية: (ولما كان البياض أفضل الألوان عندهم كما قيل: البياض أفضل، والسواد أهول، والحمرة أجمل، والصفرة أشكل: عبر عن الفضل والكرم بالبياض حتى قيل لمن لم يتدنس بمعاب: هو أبيض الوجه، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عن الغم وعلى ذلك ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ [النحل: 58] وعلى نحو الابيضاض قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ [الأنفال: 38])، وقال في مادة (سود): (السواد اللون المضاد للبياض يقال اسودّ واسوادّ قال ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن المساءة ونحوه ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: 85] وحمل بعضهم الابيضاض والاسوداد على المحسوس والأول أولى لأن ذلك حاصل لهم سودا كانوا في الدنيا أو بيضا، وعلى ذلك قوله في البياض ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: 22] وقوله في السواد ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة: 24] ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 40 ـ 41] وقال {وترهقهم ذلة كأنما أغشيبت وجوهم قطعا من الليل مظلما} [يونس: 27] وعلى هذا النحو ما روي أن المؤمنين يحشرون غرلا محجلين من آثار الوضوء)
2. ولا يزال هذا الاستعمال شائعا عند كل ناطق بالضاد لا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه: (فتعجبوا لسواد وجه الكاذب)، وهذا هو الراجح في تفسير الآية وفاقا للراغب ولأبي مسلم والمختار عند محمد عبده، إذ حمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا، ويدل على ما يكون في الآخرة الآيات التي ذكرناها آنفا في بحث استعمال السواد والبياض في المعاني إذ فيها التصريح بذكر ذلك اليوم، وأما ما يكون في الدنيا فقد قال محمد عبده في بيانه ما مثاله: أما المتفقون الذين جمعوا عزائهم وإرادتهم على العمل بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم، واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ووليا له، فأولئك تبيض وجوههم ـ أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا ـ عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المكانة وسعة السلطان، وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له لأنه ظلم وأهين، ولا يصح عندها أن يكون منها ثم يظلم أو يهان وتكون هي راضية ناعمة البال، أولئك الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة، وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه، وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد، وتباينهم في المذاهب والمشارب، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة، فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والكآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم، والتاريخ شاهد على صدق هذا الجزاء في الماضين، والمشاهدة أصدق وأقوى حجة في الحاضرين.
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيقال لهم ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ قال محمد عبده: يقال لهم هذا القول في الدنيا وفي الآخرة: أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع لها ذلك مثل هذا القول تغليظا عليها، لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين، وأما في الآخرة فيوبخهم الله في مثل هذا السؤال.
4. يجوز أن يكون المراد بيان الشأن لا الحكاية عن قول لساني وقع بالفعل، والمعنى أن شأنهم حينئذ أن يقال فيهم أو لهم ذلك القول، بل هذا هو المتعين عندي والكلام في الأمم لا في الأفراد، والكفر في عرف القرآن ليس خاصا بما يعده الفقهاء والمتكلمون كفرا كما بينا غير مرة.. فمن عرف أن المتفرقين في الدين يعدون من الكفار والمشركين كما يقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31] وقال عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159] فمن تذكر هذا لا يتوقف في فهم الآية التي نفسرها، ولا يجيز لنفسه صرفها عن ظاهرها لأجل مطابقة عرف الفقهاء الذين ترجع مسائل الكفر بعد الإيمان عندهم إلى جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وفي معناه كل ما اعتقد المكلف أنه من الدين ثم كذبه، ولكن القرآن يعد الخروج من مقاصد الدين الحقيقية بالعمل من الكفر، وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وله شعب كثيرة من أعظمها تحري العدل واجتناب الظلم (مثلا) فمن استرسل في الظلم حتى صار صفه له كان كافرا كما قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فإذا كان الظالمون كافرين في عرفه فكيف لا يكون المتفرقون المختلفون كافرين والاعتصام بالوحدة وترك التفرق والاختلاف من أعظم شعبه بل ذلك هو أساسه الذي لا يثبت بناؤه إلا عليه، ولذلك وردت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها عقب قوله: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ فإن ما قررته من وجوب الاعتصام والنهي عن التفرق أولا وآخرا وإناطة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمة قوية متحدة هو بيان السبيل التي يجب علينا سلوكها لنموت مسلمين.
5. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ المراد برحمة الله تعالى هنا أثرها من نعمته وإحسانه ولا شك أن من ابيضت وجوههم بما تقدم شرحه يكونون خالدين في النعمة بالدنيا ما داموا على تلك الحال والأعمال التي بها ابيضت وجوههم، لأن الله تعالى لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم، فيترتب عليه التغير في الأعمال، وترتيب الخلود هنا على قوله: ﴿ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ يؤذن بأن ابياض الوجوه وما كان سببا فيه علة له والمعلول يدوم بدوام علته، وأما أمر الخلود في الآخرة فهو أظهر.
__________
(1) تفسير المنار: 4/52.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أي واذكروا يوم تبيض وجوه وتسر لما تعلم من حسن العاقبة، وتسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة، وما يحل بها من النكال والوبال، ونحو الآية قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ} وقوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وفي الحديث (إن أمتي يحشرون غرّا محجلين من آثار الوضوء)
2. استعمال البياض في السرور، والسواد في الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد، ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم: (فتعجبوا لسواد وجه الكاذب)
3. الخلاصة: إن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم في هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث، كما يكون لهم مثل ذلك في الدنيا، إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون ولا يتعاونون، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة، وعز الأمة، فتسودّ وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم واختلافهم، بقهر الغاصب لهم، وانتزاعه السلطة من أيديهم، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا، أما المتفقون الذين اعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر، وناصرا له، فأولئك تبيض وجوههم وتتلألأ بهجة وسرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم واعتصامهم، بوجود السلطان والعزة والشرف، وارتفاع المكانة بين الأمم.
4. ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي فأما الذين تفرقوا واختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف ـ مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين، وأما في الآخرة فيوبخهم الله تعالى بمثل هذا السؤال.
5. جرى عرف القرآن أن يعدّ المتفرقين في الدين من الكفار والمشركين كما جاء في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وهو ذو شعب كثيرة من أجلّها تحرى العدل، واجتناب الظلم، فمن استرسل في الظلم كان كافرا كما قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.
6. {وأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة، وعدم التفرق فيكونون في الدنيا خالدين في النعمة ما داموا على تلك الحال، وخلودهم في الرحمة في الآخرة أظهر.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/26.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية.. فنحن في مشهد هول، هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف، ولكن يتمثل في آدميين أحياء، في وجوه وسمات.. هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، واغبرت من الغم، واسودت من الكآبة.. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه، ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
2. وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار.. على طريقة القرآن، وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف، ومعنى النعمة الإلهية الكريمة، بالإيمان والائتلاف، وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب، الذين تحذّر أن تطيعهم، كيلا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم، يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/446.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ الظرف هنا متعلق بقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي أنهم يعذبون عذابا أليما في هذا اليوم، يوم الحساب والجزاء.. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، وابيضاض الوجوه واسودادها، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين، في ذلك اليوم العظيم.
2. في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ بيان لما أجمل في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، ولم يجيء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء في المجمل قبله، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم، حيث بدئ بهم أولا، والذي جاء عليه النظم القرآني هو البيان المبين، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية، وما ينبغي لها أن تصون نفسها عنه، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف، كان لعلمائهم فيه الدور الأول.. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ المؤمنين ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ الكافرين من أهل الكتاب!.. وفي هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية، وترسيخ لأقدامها على الإيمان، والوحدة والألفة، فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال، ووقع تأويله، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة، ولم يمهلوا، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم، وشناعة ذنبهم، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّئ الذي ينتظرهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾
3. في التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين، الذين ينتظرون دورهم في ساحة الحكم.. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين، ولكنها براءة مشوبة بالخوف، محفوفة بالخشية.. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات، وما يلقون فيها من نعيم ـ زادهم ذلك نعيما إلى نعيم، ورضوانا إلى رضوان.
4. وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾.. ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾
5. في قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ إشارة ثانية إلى هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب الذين كذّبوا بمحمد، وكفروا بآيات الله التي بين أيديهم، فيما تحدّث به عنه، والمعنى: فذوقوا العذاب بسبب هذا الذي كنتم تكفرون به، وهو (محمد) وما تحدثكم به التوراة عنه.
6. ثم انظر بعد هذا، وفي الجانب الآخر من الصورة، تجد المؤمنين وقد انتقلوا من هذا الموقف، موقف المحاكمة، في لحظة خاطفة، دون أن يسألوا، فإذا هم في رحمة الله هم فيها خالدون.. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/544.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يجوز أن يكون ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ منصوبا على الظرف، متعلّقا بما في قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابَ﴾ من معنى كائن أو مستقرّ: أي يكون عذاب لهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل، ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل اذكر محذوفا، وتكون جملة ﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ صفة ل (يوم) على تقدير: تبيضّ فيه وجوه وتسودّ فيه وجوه.
2. في تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه، تهويل لأمره، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة، والوجوه المسودّة: ترهيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر، والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل: في الآيات النازلة قبل هذه الآية، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: 60] وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 38 ـ 41]
3. البياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا م أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.
4. قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ تفصيل للإجمال السابق، سلك فيه طريق النّشر المعكوس، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام، فأمّا الّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر: وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
5. قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض، الّذي هو شعار أهل النّعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه، ولأنّ في ذكر سمة أهل النّعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السّامع أنّ لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم، ثمّ قدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم.
6. قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره: لأنّ الاستفهام لا يصدر إلّا من مستفهم، وذلك القول هو جواب أمّا، ولذلك لم تدخل الفاء على ﴿أَكَفَرْتُمْ﴾ ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمّته، وقائل هذا القول مجهول، إذ لم يتقدّم ما يدلّ عليه، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر، كما ورد في حديث الحوض (فليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يختلجون دوني، فأقول: أصيحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب، ويحتمل أنّه يقوله تعالى لهم، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط، ثمّ إن كان المراد بالّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب، فمعنى كفرهم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها، أو كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد إيمانهم بموسى وعيسى، كما تقدّم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: 90] وهذا هو المحمل البيّن، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه، فإنّه مسوق لوعيد أولئك، ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات: الذين قال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض) مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذ ظاهر، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدّين والمحاربين من العتبية قال (ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قال مالك: إنّما هذه لأهل القبلة، يعني أنّها ليست للّذين تفرّقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ورواه أبو غسّان مالك الهروي عن مالك عن ابن عمر، وروي مثل هذا عن ابن عبّاس، وعلى هذا الوجه فالمراد الّذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردّة أو بشنيع الأقوال الّتي تفضي إلى الكفر ونقض الشّريعة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/185.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه حالهم في ذلك اليوم فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ والتعبير عن الحق بالبياض، وعن الباطل بالسواد، مجاز عربي مشهور، كوصف الحق بأنه نور، ووصف الباطل بأنه ظلام، ووصف الوجوه بالبياض مجاز عن إشراق القلوب بالمعرفة، وامتلائها بالنور؛ ووصف الوجوه بالسواد مجاز من إظلام القلوب، وانطفاء نورها، ولقد قال الزمخشري في تحقيق هذا المعنى اللغوي: (البياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته، وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب، نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله)
2. ثم بين سبحانه حال الذين اسودت وجوههم وعقابهم بقوله تعالت كلماته: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، وهذا تفصيل لما أشار إليه الإجمال، وفيه بيان العقوبة وسببها.
3. قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ بيان لحالهم، أي أن حالهم حال من يستفهم عنها استفهام إنكار وتعجب فيقال لهم: أكفرتم وجحدتم الحق وأنكرتموه بعد إيمانكم به وإذعانكم، وهذا حقا موضع عجب، كمن يكون في روضة من الرياض فيها النعيم، ويتركها إلى الكفر والجحيم، فهم كانوا في روضة الإيمان، وبتفرق أهوائهم وتنازعهم وعصبيتهم انتقلوا إلى جحيم الكفر، وإذا كانوا كذلك فكفرهم كان كفرا عن علم بالحق وهم لذلك ليسوا معذورين.
4. ولذا ترتب عليه العقاب فقال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه كما ذقتم حلاوة الهوى، وكان ذلك العذاب بسبب استمراركم على الكفر، وموتكم عليه، ودل على الاستمرار التعبير ب ﴿كُنْتُمْ﴾ فإن (كان) تدل على الاستمرار، وقد استمروا على حال الكفر في أقبح صوره، وهو الكفر بعد الإيمان.
5. بعد هذا بين حال الذين ابيضت وجوههم فقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} أي أن الذين أشرقت نفوسهم بنور الحق، وأدركت قلوبهم معنى الإيمان، وذاقت حلاوته، في رحمة الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتسع لكل معانى النعيم المقيم، ورضوانه العظيم وهو أكبر الرحمة.
6. ثم خصهم سبحانه بالخلود في هذا النعيم الذي لا يحد بحد، ولا يرسم برسم، ولا تبلغ العقول مداه، فقال سبحانه: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي هم في الرحمة باقون دائمون.
7. يجب التنبيه هنا إلى أمرين:
أ. أولهما: أنه ذكر بياض الوجوه قبل، ثم ذكر حال الذين اسودت وجوههم قبل الذين ابيضت، ليختتم الآية برحمته، كما اختتم الآية السابقة ببيان من يفوز بهذه الرحمة.
ب. الثاني: أنه سبحانه ذكر وصف الخلود في النعيم، ولم يثبت الخلود لمقابله، وقد صرح به في غير هذا الموضع، وذلك أيضا من باب الرحمة ورجاء التوبة.
8. اللهم منّ علينا بهدايتك، وأنعم علينا بنعمة الإيمان الدائم، واشرح صدورنا لكل ما تأمر به، واصرفنا عما نهيت عنه، فإن القلوب بيدك وأنت مقلب القلوب.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1351.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، المراد باليوم يوم القيامة، وبياض الوجه كناية عن استبشار المؤمن برضوان الله وفضله، وسواد الوجه كناية عن حزن الكافر والفاسق لغضبه تعالى عليهما، وعذابه لهما.
2. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ يقال لهم تقريعا وتوبيخا: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، نقل الرازي والطبري وغيرهما كثير من المفسرين، نقلوا عن بعض السلف ان المقصود بهؤلاء خصوص الخوارج، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال فيهم: (انهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ولكن ظاهر الآية يشمل كل من كفر بعد الايمان، ومنهم الخوارج، وأهل البدع والأهواء والآراء الباطلة، على ان العذاب لا يختص بمن كفر بعد الايمان، بل يشمل مطلق الكافر بدليل قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
3. {وأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}، رحمة الله هي الجنة، والخلود فيها واضح.. والخلاصة ان الذين يعتصمون بحبل الله، ويعملون لوجه الله، ويتعاونون على الخير والصالح العام يحشرون غدا أعزاء فرحين مستبشرين، وراضين مرضيين، أما الذين اختلفوا تكالبا على الدنيا غير آبهين بدين ولا أمة ولا وطن، ولا يهتمون الا بمصالحهم ومصالح أبنائهم فإنهم يحشرون أذلاء خاسرين خاسئين، مقرهم جهنم وبئس المصير.
4. غريبة الغرائب ان البعض من أصحاب الوجوه السود يزعمون لأنفسهم التحدث عن الله، والكلام باسمه، وعن طريق هذا الزعم الكاذب بلغوا أعلى المناصب، بلغوها باسم الله، ولكن إذا قال لهم قائل: اتقوا الله، قالوا له: أنت كافر بالله.. وقد سبقهم إلى هذا عبد الملك بن مروان، حيث قال يوم تولى الخلافة: من قال لي بعد اليوم: اتق الله ضربت عنقه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/129.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ إلى آخر الآيتين، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾
2. وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/376.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ﴾ أذكر يوم تبيض ﴿وُجُوهٌ﴾ أي يكون لها نضرة النعيم، ويظهر فيها البشرى والسرور لأهلها، كما قال تعالى في سورة المطففين: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [آية:24]
2. ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ من الخوف والهم والغم وسوء الحال، قال الله تعالى في سورة عبس وسورة يونس ما يدل على هذا أو قريب منه، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ أي يقال لهؤلاء المذكورين وهم أهل وجوه مخصوصون: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، فدل على أنهم صائرون في العذاب ذائقون له بما كانوا يكفرون في الدنيا، ودل على أنهم يوبخون في موقف السؤال.
3. هذا تأكيد للأمر بالثبات على الإسلام، والنهي عن الموت على غير إسلام، ودليل على أن من المسلمين من سيموت على الكفر وهو في كل من كفر بعد الإيمان ومات على الكفر بأي أصناف الكفر، وبعضها لا يستبعد إلا بعصمة الله كما مر.
4. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وهم الذين ثبتوا على الإيمان حتى ماتوا عليه، فهم في ﴿رَحْمَةِ اللهِ﴾ في الموقف وفي شوقهم إليه ومنه إلى الجنة، وفي الجنة هم في رحمة الله ﴿خَالِدُونَ﴾ لا يموتون، ولا تفارقهم رحمة الله، وهي السعادة الدائمة التي تستحق الصبر في الدنيا وحتى الموت ليبلغها الصابر.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/516.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ليست القضية قضية صفة ذاتية عاديّة يراد منها تقييم الإنسان من ناحية ذاتية، لأن طبيعة القضية تتصل بالجانب العام الشامل لحياة الإنسان، أمّا ذلك الفلاح وهذا العذاب فإنهما يبرزان بأعلى صفاتهما في مواجهة الإنسان للمصير في موقفه أمام الله عندما يتحدد للإنسان مصيره من خلال انطباع أعماله على وجهه، فهناك الناس الذين تبيض وجوههم بما عملوا من خير، من خلال ما يمثله من صفاء ونقاء وبياض ناصع؛ وهناك الناس الذين تسودّ وجوههم بما عملوا من شر، من خلال ما يمثله من سواد وظلمة وقلق، وذلك هو قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
2. ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ هذا تعبير إيحائي عن الحالة الروحية التي تترك تأثيراتها على الصورة البارزة للإنسان من خلال عناصرها الخاصة في الذات، فإذا كانت الروح منفتحة على الجانب المشرق من النيّات الخيّرة والأعمال الصالحة، فإن ذلك ينعكس على إشراقة الوجه نورا وإشراقا وبشرا، لأن هذا الإنسان لا يشكو من عقدة تثقل روحه وتشوّه صورته، وأما إذا كانت الروح منغلقة على الخير ومنفتحة على الشر في الدوافع والأعمال، فإن الإنسان يبدو من خلالها شيطانا في ملامحه، معبّرا في وجهه، مظلما في ذاته، وهذا ما يوحي بالحقيقة الإنسانية في تأثير الواقع الداخلي في صورة الواقع الخارجي للإنسان، بحيث تتمثل ملامحه الداخلية في ملامحه الخارجية في الصورة تارة، وفي النظرة العامة لحركته تارة أخرى، وقد عبر الله عن ذلك بطريقة أخرى في صورة المؤمنين يوم القيامة في النور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم وذلك هو قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ وبإزاء هؤلاء نرى المنافقين والمنافقات غارقين في الظلمة يستجدون النور من المؤمنين والمؤمنات ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
3. تزداد الصورة وضوحا في مواجهة الموقف، فيبدو لنا هؤلاء الذين اسودّت وجوههم، فإذا بنا نلمح في أوضاعهم وتقارير أعمالهم وطبيعة السؤال الإنكاري الذي يوجّه إليهم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ صورة الناس الذين ساروا في خط الإيمان فترة من الزمن، ولكنهم وقعوا تحت تأثير الضغوط الذاتية من الشهوات والأطماع والأضاليل فانحرفوا عن الخط، ثم تحوّل انحرافهم إلى مواجهة مضادة للخط نفسه عندما فرضت عليهم ذاتياتهم أن يقاوموه ليرضى عنهم أولياؤهم من الكافرين والضالّين، وفي هذا إيحاء دقيق من بعيد بأن على الإنسان أن لا يستسلم للثقة بإيمانه في استرخاء كسول، يؤمن معه بأنه لا يتزعزع مهما كانت الظروف والضغوط، بل ينبغي له أن يحرسه بالفكر والتأمل والقراءة والحوار والعمل، لأن الكثيرين من الناس قد ضلوا بعد الهدى وكفروا بعد الإيمان تحت تأثير العوامل السلبية المتنوعة المحيطة بهم.. فحاق بهم العذاب نتيجة ذلك كله، وواجهوا النداء الحاسم من الله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
4. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فقد عاشوا حياتهم مع الله؛ فإذا فكروا كان الله أوّل ما يفكرون به في عظمة خلقه وكرمه في نعمه، وفي كل شيء يحيط بهم؛ وإذا خططوا لحياتهم كان الله هو الذي يستلهمونه في رسم تلك المخططات؛ وإذا واجهتهم الشهوات، وقفوا منها وقفة التوازن التي تأخذ منها ما يبني للإنسان روحه وجسده في ما ينفع الروح والجسد، وترفض منها ما يهدم للإنسان كيانه في ما يضرهما؛ أمّا إذا عاشوا مع الناس، فإنهم لا يفكرون بأنفسهم في سجن الأنانية بل ينفتحون على الحياة الفردية والاجتماعية للآخرين كمنطلق لممارسة المسؤولية المفروضة عليهم من الله في أن تكون حياتهم خيرا وبركة للآخرين، فلا يصدر منهم أي ضرر أو فساد لأي إنسان؛ وإذا وقفوا مع أنفسهم تذكروا الله قبل ذلك فعلموا أنهم عبيد له وعرفوا أنّ من واجبهم أن يعبدوه حق عبادته ويطيعوه حق طاعته في كل ما يستطيعونه ويقدرون عليه من ذلك.. فكانوا قريبين من الله في فكرهم وشعورهم وعملهم فاستحقوا رحمته الخالدة التي يمنحها للصالحين والمجاهدين من عباده {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}
__________
(1) من وحي القرآن: 6/207.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الارتداد المشؤوم إلى خلق الجاهلية وعاداتها، وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والاتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه، فتقول: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فلما ذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الاتحاد في ظلّ الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله {وأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}
2. إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.
3. قلنا مرارا أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلّا، وبعبارة أخرى: أن لكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة آثارا واسعة تبقى في روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلّى ـ بعد سلسلة من التحولات ـ في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار انعكاساتها حتّى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوسا لكلّ أحد، فكما ان الإيمان والاتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم، ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والاختلاف يوجبان للأمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه، بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.
4. تلك حقيقة أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾، ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾، وكلّ هذه الأمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم الدنيا من الأعمال.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/640.
57. الوحدة والاعتصام
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈57⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [آل عمران: 108 ـ 109]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ يعني: هكذا ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ يعني: علاماته في هذه النعمة، أعداء في الجاهلية إخوانا في الإسلام، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ لكي ﴿تَهْتَدُونَ﴾ فتعرفوا علاماته في هذه النعمة، فلما سمع القوم القرآن من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحاجزوا، ثم عانق بعضهم بعضا، وتناول بخدود بعض بالتقبيل والالتزام، يقول جابر بن عبد الله (ت 78 هـ)، وهو في القوم: لقد اطلع إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أحد هو أكره طلعة إلينا منه لما كنا هممنا به، فلما انتهى إليهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال (اتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾، فيعذب على غير ذنب(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٣.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ حجج الله وبراهينه.
ب. ويحتمل: ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ القرآن.
1. قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ببيان الحق.
ب. ويحتمل: ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالدّين، والدين هو الحق.
ج. ويحتمل: أن الآيات هي الحق.
د. ويحتمل: بالأمر بالدعاء إلى الحق.
هـ. ويحتمل: الحق الذي لله على عباده، ولبعضهم على بعض.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما في السماوات وما في الأرض كله له، ومن وصف في الخلق بالظلم إنما وصف؛ لأنه يضع حق بعض في بعض، ويمنع حق بعض؛ فيجعل لغير المحق، فالله يتعالى عن ذلك، وقوله: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي: لا يريد أن يظلمهم، وإن شئت قلت: الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة؛ فكأنه قال لا يظلمهم، وكيف يظلم!؟ وإنما يظلم بنفع تسرّه إليه النفس، أو ضرر يدفع به، فالغني بذاته متعال عن ذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/454.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ قال الفراء: معناها: أي مواعظه وحججه، ومعنى ﴿نَتْلُوهَا﴾ أي نقرأها عليك.
2. الفرق بين (تلك)، و(هذه) أن (تلك) إشارة إلى ما هو بعيد فجازت الاشارة بها إليه لانقضاء الآية وصلح (هذه) لقربها في التلاوة، ولو كانت بعيدة لم يصلح أحدهما مكان الآخر.
3. إنما قال: ﴿آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ فقيده ﴿بِالْحَقِّ﴾، لأنه لما حقق الوعيد بأنه واقع لا محالة نفى عنه حال الظلم كعادة أهل الخير، ليكون الإنسان على بصيرة في سلوك الضلالة مع الهلاك أو الهدى مع النجاة.
4. معنى ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي معاملتي حق، ويحتمل أن يكون المراد (نتلوها) المعنى الحق، لأن معنى التلاوة حق من حيث يتعلق معتقدها بالشيء على ما هو به.
5. الفرق بين تلوت عليه، وتلوت لديه أن (عليه) يدل على إقرار التلاوة، لأن معنى عليه استعلاء الشيء، فهي تنبئ عن استعلائه بالظهور للنفس، كما يظهر لها بعلو الصوت وليس كذلك لديه، لأن معناه عنده.
6. في الآية دلالة على فساد قول المجبرة: أن الله تعالى يريد الظلم، لأنه لو أراد ظلم بعضهم لبعض، لكان قد أراد ظلمهم وكذلك لو أراد ظلم الإنسان لغيره، لجاز أن يريد أن يظلمه هو، لأنه لا فرق بينهما في القبح، ويدل أيضاً على أنه لا يفعل ظلمهم، لأنه لا يفعل ما لا يريده.
7. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ فيه نفي لإرادة ظلمهم على كل حال بخلاف ما يقولونه.
وجه اتصال هذه الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بما قبلها، وجه اتصال الدليل بالمدلول عليه، لأنه لما قال: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ وصله بذكر غناه عن الظلم إذ الغني عنه العالم بقبحه، ومعناه لا يجوز وقوعه منه.
8. قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ لا يدل على أن الأمور كانت ذاهبة عنه، لأمرين:
أ. أحدهما: لأنها بمنزلة الذاهبة بهلاكها وفنائها ثم إعادتها، لأنه تعالى يعيدها للجزاء على الاعمال والعوض على الآلام.
ب. الثاني: لأنه قد ملك العباد كثيراً من التدبير في الدنيا فيزول جميع ذلك في الآخرة ويرجع إليه كله.
9. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ معناه ولله ملك ما في السماوات، والملك: هو ما له أن يتصرف فيه، ولا يجوز أن يقول مكان ذلك ولله خلق ما في السماوات، لأن ذلك يدخل فيه معاصي العباد، والله تعالى منزه عنها والآية خرجت مخرج التعظيم لله تعالى، وذكر عظيم المدح.
10. في وقوع المظهر بموقع المضمر في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ليكون كل واحد من الكلامين مكتفياً بنفسه.
ب. الثاني: لأن المظهر في اسم الله تعالى أفخم في الذكر من المضمر وصفة ملكه موضع تفخيم، وليس كقول الشاعر:
çلا أرى الموت يسبق الموت شيء...لغص الموت ذا الغنى والفقيراé
لأن البيت مفتقر إلى الضمير والآية مستغنية عنه وإنما احتاج البيت إليه، لأن الخبر الذي هو جملة لا يتصل بالمخبر عنه إلا بضمير يعود إليه.
11. (ما) تقع على ما يعقل وما لا يعقل إذا ذهب به مذهب الجنس، فما يعقل داخل فيه حقيقة ولو قال بدلا منه ولله من في السماوات بلفظة (من) لما دخل فيه إلا العقلاء أو الكل على جهة التغليب دون الحقيقة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/555.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. التلاوة: القراءة، وأصله من الإتباع.
2. ثم بَيَّنَ تعالى أنه لا يعاقب إلا بعد إقامة البينات والحجج نفيًا للظلم عن نفسه فقال تعالى: ﴿تِلْكَ﴾:
أ. قيل: هي التي تتلى عليكم.
ب. وقيل: ما تقدم ذكره.
3. ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ حججه وبيناته ﴿نَتْلُوهَا﴾ نقرؤوها في القرآن ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد، وعلى أمتك ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. قيل: بالصدق.
ب. وقيل: بالحق الذي يجب لله تعالى على عباده ليفعلوا ذلك.
ج. وقيل: نتلوها بأنها الحق.
د. وقيل: بالوعد والوعيد الذي هو حق.
4. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي لا يريد ظلمهم، بل هم الظالمون لأنفسهم ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ملكًا وخلقًا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾:
أ. قيل: إلى حكمه وأفره يعود الخلق بعد فنائها أحياء؛ لأنه يعيدهم للجزاء.
ب. وقيل: إليه تدبير خلقه في الدنيا بالخلق والرزق والتصرف، ثم يرجع أمرهم إليه في الآخرة للجزاء.
6. إنما كرر اسم الله:
أ. قيل: تفخيمًا وتعظيمًا.
ب. وقيل: ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الله تعالى لا يريد ظلم العباد، سواء كان مِنْ قِبَلِهِ أو من قِبَلِ بعضهم إلى بعض، وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ.
ب. أنه لا يخلق الظلم؛ إذ لو خلقه لأراده، فيبطل قولهم في المخلوق.
ج. يدل اتصال ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ بنفي الظلم وإرادته أنه لا يريده لكونه عبثًا غير محتاج، وأن الحاجة لا تجوز عليه، وهذا عمدة مشايخنا أنه لا يفعل القبيح؛ لأنه عالم بقبحه، عالم بأنه غني عن فعله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/342.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ﴾ أي: تلك التي قد جرى ذكرها حجج الله وعلاماته وبيناته ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ نقرأها عليك بالحق يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى أمتك ونذكرها لك، ونعرفك إياها، ونقصها عليك، ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالحكمة والصواب.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ معناه: لا يظلمهم بأن يحملهم من العقاب ما لم يستحقوه، أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه، وإنما يظلم من يظلم لجهله بقبح الظلم، أو لحاجة إليه من دفع ضرر، وجر نفع، وتعالى الله عن صفة الجهل والحاجة، وسائر صفات النقص، علوا كبيرا، وكيف يجوز أن يظلم أحدا، وهو الذي خلقهم وأنشأهم وابتدعهم، وآتاهم من النعم ما لا تسموا إليه هممهم، وعرضهم بها لما هو أعظم منها قدرا، وأجل خطرا، وهو نعيم الآخرة.
3. ثم ذكر سبحانه وجه غناه عن الظلم، فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا وملكا وخلقا ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ اختلفوا في كيفية رجوع الامر إلى الله تعالى:
أ. فقيل: إن الأمور تذهب بالفناء، ثم يعيدها ا لله للمجازاة.
ب. وقيل: إن الله تعالى قد ملك عباده في الدنيا أمورا، وجعل لهم تصرفا، ويزول جميع ذلك في الآخرة، ويرجع إليه كله، كما قال ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾
4. في وقوع المظهر موقع المضمر في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه.
ب. والاخر: ليكون أفخم في الذكر والموضع موضع التفخيم، وليس كقول الشاعر:
çلا أرى الموت يسبق الموت شيء... نغص الموت ذا الغنى، والفقيراé
لان البيت مفتقر إلى الضمير، والآية مستغنية عنه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/810.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جرم، وقال الزجّاج: أعلمنا أنه يعذّب من عذّبه باستحقاق.
__________
(1) زاد المسير: 1/314.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في: ﴿تِلْكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ وجهان:
أ. الأول: المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله، وإنما جاز إقامة ﴿تِلْكَ﴾ مقام (هذه) لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصار كأنها بعدت فقيل فيها ﴿تِلْكَ﴾
ب. الثاني: إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملًا على كل ما لا بد منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 2]
2. في قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ وجهان:
أ. الأول: أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه.
ب. الثاني: بالحق، أي بالمعنى الحق، لأن معنى التلو حق.
3. إنما حسن ذكر الظلم في قوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك وقال: إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة، فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب، فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل، على أن جانب الرحمة غالب، ونظيره قوله تعالى في سورة (عم) بعد أن ذكر وعيد الكفار ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ [النبأ: 27، 28] أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة.
4. استدل المعتزلة(2) ـ ومن وافقهم ـ بقوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده، ولا يفعل شيئاً من ذلك، وبيانه: وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى، أو من العبد، وبتقدير صدوره من العبد، فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة، وقوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ نكرة في سياق النفي، فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً، سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلًا لشيء من هذه الأقسام، ويلزم منه أن لا يكون فاعلًا للظلم أصلًا ويلزم أن لا يكون فاعلًا لأعمال العباد، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً:
أ. وإنما دلت الآية الكريمة على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها، ولو كان فاعلًا لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها، وقد بطل ذلك، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد.
ب. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم.
ج. فهذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في مسائل العدل، ثم إن الله تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين.
• الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدلّ عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو العجز، أو الحاجة، وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلًا للقبيح.
• الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول: إنما نشاهد وجود الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته، فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر، ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة.
5. هذا تلخيص كلام المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في هذه الآية، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر، فقالوا: المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً، فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً، بل كان عادلًا، لأن الظلم تصرف في ملك الغير، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً، فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح.
6. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على ما ذكره المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بأنه لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده؟.. أما قولهم الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به فالكلام عليه من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى تمدح بقوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، وبقوله ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14] ولا يلزم من ذلك صحة النوع والأكل عليه فكذا هاهنا.
ب. الثاني: أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة.
7. اختلف في الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ على كون الله تعالى خالقاً لأعمال العباد:
أ. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ على كونه خالقاً لأعمال العباد، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب كونها له بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وإنما يصح قولنا: إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد.
ب. أجاب المعتزلة(2) ـ ومن وافقهم ـ عنه بأن قوله: ﴿لله﴾ إضافة ملك لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله، وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح، وأيضاً فقوله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إنما يتناول ما كان مظروفاً في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض.
ج. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب، فهذا تمام القول في هذه المناظرة.
8. زعمت الفلاسفة أن الله تعالى إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض في قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية، فقدم السبب على المسبب، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه(3).
9. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم، والمقصود أن منه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم، فقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ إشارة إلى أنه هو الآخر، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده.
10. كلمة (إلى) في قوله: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة، بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/322.
(2) الكلام هنا للجبائي
(3) والرد عليهم واضح
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ﴾ ابتداء وخبر، يعني القرآن، ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك، ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالصدق، وقال الزجاج: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ﴾ المذكورة حجج الله ودلائله، وقيل: ﴿تِلْكَ﴾ بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل ﴿تِلْكَ﴾، ويجوز أن تكون ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ بدلا من ﴿تِلْكَ﴾ ولا تكون نعتا، لأن المبهم لا ينعت بالمضاف.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب.
3. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السماوات وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السماوات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/170.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ جملة حالية، وبالحق متعلق بمحذوف، أي: متلبسة بالحق وهو العدل.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فردا من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم.
3. المراد بما في السماوات وما في الأرض: مخلوقاته سبحانه، أي: له ذلك، يتصرف فيه كيف يشاء، وعلى ما يريد، وعبر بما تغليبا لغير العقلاء لكثرتهم، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم.
4. قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله: أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم، لكون ما في السماوات وما في الأرض في قبضته وقيل: هو ابتداء كلام يتضمن البيان بأن جميع ما في السماوات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره.
5. ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي: لا إلى غيره، لا شركة ولا استقلالا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/425.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ الآيات المشتملة على عقاب الكفرة وثواب المؤمنين، ﴿ءَايَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد بواسطة جبريل بقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ [الأعلى: 6]، وفي إسناد التلاوة إليه تعالى مع التكلُّم مبالغة في تعظيم الآية المتلوَّة وتعظيم المتلوِّ عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولا داعي إلى الإعراض عن جعل (ءَايَاتُ) خبرًا إلى جعله بدلاً، فـ (نَتْلُوهَا) حال من (ءَايَاتُ)، ﴿بِالْحَقِّ﴾ لا شبهة فيها، ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾ لا يريد أَن يظلمهم بعقاب ما لم يفعلوا، فضلا عن أن يوقع ظلمهم، ولو ظلموا أنفسهم وظلم بعض بعضا، فتعذيب الكفرة بالنار عدل بأفعالهم لا ظلم.
2. ﴿وَلِلهِ﴾ وحده، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ ليس لأحد في ملكه حقٌّ فيظلم بنقصه، ولا مُنع من شيء فيظلم بفعله، فما هو بفاعل ما يسمَّى ظلما بين العباد، فهو يثيب المطيع بلا وجوب ولا نقص عن حقِّه بل فضلا، ويعاقب العاصي عدلا بلا زيادة على عمله، ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ وحده، إلى قضائه وحكمه، ﴿تُرْجَعُ الاُمُورُ﴾ أمور الخلق فيجازيهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/349.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ الإشارة إلى ما تقدم من الوعد والوعيد ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي لا يشاء أن يظلم عباده، فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن، قال الرازيّ: إنما حسن ذكر الظلم هاهنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة، وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك، وقال: إنهم ما وقعوا فيه إلا لسبب أفعالهم المنكرة، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلّب، وقال أبو السعود: وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]
2. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي له تعالى وحده، من غير شركة، ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ أي إلى حكمه وقضائه ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي أمورهم فيجازي كلّا منهم بما وعده وأوعده، فلا داعي له إلى الظلم؟ لأنه غنيّ عن كل شيء، وقادر على كل شيء.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/385.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي بالأمر الثابت الحق الذي لا مجال فيه للشكوك والشبهات، ولا للاحتمالات والتأويلات، فلا عذر لأمتك إذا اتبعت سنن من قبلها فتفرقت في الدين وذهبت فيه مذاهب وصارت شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وبخلاف الآخرين مستمسكون، فما أمروا في هذه الآيات بما أمروا به من الاعتصام ووعدوا عليه بالفلاح العظيم، ولا نهوا عما نهوا عنه من التفرق والاختلاف وأوعدوا عليه بالعذاب الأليم؛ إلا ليكونوا أمة واحدة متحدة في الدين متفقة في المقاصد يعذر بعضهم بعضا إذا فهم غير ما فهم مع المحافظة على ما لا تختلف فيه الأفهام، كوجوب الاتحاد والاعتصام، وتوحيد الله وتقواه؛ واجتناب الفواحش والمنكرات.
2. ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وإنما يريد به هدايتهم إلى ما تكمل به فطرتهم ويتم به نظام اجتماعهم، فإذ هم فسقوا عن أمره وحل بهم البلاء فإنما يكونون هم الظالمين لأنفسهم بتفرقهم واختلافهم، وكذا بغير ذلك من الذنوب الاجتماعية، فالكلام في الأمم وعقوبتها ولا يمكن أن يحل بها بلاء إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن صراط الله لذي بينه في هذه الآيات وغيرها (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) [هود: 102]
3. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فهو مالك العباد والمتصرف في شؤونهم وإلى سننه الحكيمة ترجع أمورهم ولكل سنة منها غاية تنتهي إليها لا تبديل لها ولا تحويل فلا يطمع أهل التفرق والخلاف بالوصول إلى غاية أهل الوحدة والاتفاق، فهذه الآية وردت كالدليل على ما قبلها، ووجه الدلالة فيها على ما جرينا عليه في تفسير ما قبلها ظاهر، فإننا بينا أن المراد بالظلم المنفي هو الظلم بالتشريع، لأن الكلام في تلك الآيات وما فيها من الأحكام فهو على حد قوله في أحكام الصيام {يريد الله بكم اليسر ولا يرد بكم العسر} [البقرة: 185] وقوله بعد الأمر بالوضوء والغسل {ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج} [المائدة: 6] الخ، والأمر ظاهر لا مجال فيه للخلاف وكثرة الآراء لولا المذاهب التي وضعت أصولها وقواعدها ثم نظر أصحابها في القرآن يلتمسون تأييدها به وحمله عليها:
أ. فقد قالت المعتزلة: إن الظلم في الآية جاء نكرة في سياق النفي فهو عام، والمعنى أنه لا يريد الظلم مطلقا من أفعاله ولا من أفعال عباده، وما لا يريده لا يقع منه حتما، وقد ثبت في العقل والنقل أن من أفعال العباد ما هو ظلم فتعين أن تكون أفعالهم منهم لا منه، ووجهوا الآية الثانية على إثبات هذا.
ب. وقال الأشعرية: إن وقوع الظلم منه تعالى محال لأنه عبارة عن تصرف الإنسان في ملك غيره وليس لغير الله ملك فيكون ظلما بتصرف فيه، ولذلك بين بعد نفي إرادة الظلم أن له ما في السماوات والأرض، فهم يقولون إنه لو عذب الأتقياء الصالحين وأثاب الفجار المفسدين لم يكن ذلك منه ظلما بل عدلا لأنه تصرف في ملكه.
ج. ونحن نقول:
• أولا: إن الآيتين في واد وهذه المسائل الكلامية في واد آخر.
• ثانيا إن الظلم محال عليه تعالى لا لأن الظلم عبارة عن تصرف المتصرف في ملك غيره وأن تصرفه في ملكه لا يمكن أن يكون ظالما، فإن هذا غير صحيح، وإنما يستحيل عليه الظلم لأنه ينافي الحكمة والكمال في النظام وفي التشريع، ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه قد ظلمها، بل قالوا فيمن حفر الأرض ولم تكن موضعا للحفر إنه ظلمها وسموها الأرض المظلومة وسموا التراب الذي يخرج منها المظلوم، ومن نقص امرءاً حقه فقد ظلمه، قال تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 23] ولعل هذا هو الأصل في معنى الظلم، وقال الراغب: (الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه) فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه في الأحكام هو ما ينافي مصلحة العبادة وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة وفي الخلق ما ينافي النظم والاحكام.
4. من مباحث اللفظ والنظم في الآيات أنه جعل النشر في آية ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ الخ على غير ترتيب اللف، إذ ذكر في اللف الابيضاض قبل الاسوداد وذكر في النشر حكم من اسودت وجوههم قبل حكم من ابيضت وجوههم، وليس اللف والنشر الذي يسمونه المرتب أبلغ مما يسمونه المشوش، وإنما يختلف ذلك باختلاف الكلام فلا يرجح أحدهما على الآخر إلا بمرجح:
أ. وقد قيل إن نكتة الترجيح هنا جعل مطلع الكلام ومقطعه في بيان حال المؤمنين وجزائهم، فوافق ذلك استحسان البلغاء جعلهما مما يسر ويشرح الصدر.
ب. وقيل إن نكتة ذلك بيان أن المقصود من الخلق الرحمة دون العذاب، ولذلك بدأ بذكر أهل الرحمة وختم بذكر جزائهم وأدمج ذكر الآخرين في الأثناء.
ج. والقول الأول ترجيح بحسب اللفظ والثاني ترجيح بحسب المعنى، ومما يقوى هذا أنه تعالى ذكر أن أهل الرحمة خالدون فيها ولم يذكر أن أهل العذاب خالدون فيه، نبه على هذا المعنى الرازي وبين أنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه دون العذاب، وذكر علة العذاب وسببه وهو ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾، ثم ذكر أنه لا يريد ظلما للعالمين قال: وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب، فيا ويل المتفرقين المختلفين المتعادين في دين الرحمة الذي يأخذ بحجزهم أن يتقحموا في العذاب وهم يتهافتون عليهم بجهلهم وسوء اختيارهم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/56.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه، فلا عذر لمن ذهب في الدين مذاهب شتى، واتبع سنن السابقين، وجعل القرآن عضين، فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز والنجاح، ونترك ما عنه نهى وأوعد عليه بالعذاب الأليم، حتى نكون أمة متفقة المقاصد، متحدة في الدين فنجمع بين سعادتي الدنيا والآخرة.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم، ويتم به نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء وكانوا هم الظالمين لأنفسهم، بتفرقهم واختلافهم، إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله في شقاء، ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
3. ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفى الظلم عنه تعالى، فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي إنه تعالى مالك العباد والمتصرف في شؤونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ وليس من أسباب ملكه شيء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، ولأن الظلم ينافى الحكمة والكمال في النظام وفي التشريع، ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه ظلمها، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه، قال تعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً)، وعلى الجملة ـ فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافى مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة، وبعبارة أخرى هو ما يخالف النظام والإحكام.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/27.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة، وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة، والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة.
2. وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض، ورجعة الأمر إليه في كل حال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، تلك الصور، تلك الحقائق، تلك المصائر.. تلك آيات الله وبيناته لعباده: نتلوها عليك بالحق، فهي حق فيما تقرره من مبادئ وقيم؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات، وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها؛ وممن له الحق في تقرير القيم، وتقرير المصائر، وتوقيع الجزاءات، وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما، فهو الحكم العدل، وهو المالك لأمر السماوات والأرض، ولكل ما في السماوات وما في الأرض، وإليه مصير الأمور، إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق، وأن يجري العدل، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله.. لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/446.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يبين الله سبحانه لنبيه الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين لطفه به وبعباده، وأنه سبحانه يخاطبه بلسان الحق، وينزّل عليه آياته بالحق، ليهتدي بها الضالون، ويعلم منها الجاهلون، وبذلك لا يكون للنّاس على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، ولا يكون لقائل منهم أن يقول ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.. فإذا أخذ الله بعد ذلك مذنبا بذنبه كان ذلك هو الحكم الذي ينبغي أن يدين به العاقل نفسه.
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ لأنه لو شاء سبحانه أن يعذب الناس جميعا ـ محسنهم ومسيئهم ـ لما كان لأحد أن يحاجّ الله في هذا، أو يدفع عن نفسه ما يريد الله به.. ولكنّ رحمة الله سبحانه بعباده، اقتضت أن يرسل إليهم رسله، يحملون إليهم آياته واضحة بيّنة، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾
3. قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ هو بيان لما لله على النّاس من سلطان، وأنه يحكم فيهم ولا معقّب لحكمه، وأنه آخذ بنواصيهم جميعا، فإليه مرجعهم، وبين يديه حسابهم: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/544.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ تذييلات، والإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ﴾ إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾
2. التلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه وهي كالقراءة إلّا أن القراءة تختصّ بحكاية كلام مكتوب فيتّجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوءة بقوله تعالى ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل، وهو قوله: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 58] فيكون كل تذييل مستقلا بطائفة الجمل الّتي وقع هو عقبها.
3. خصّت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام، والمبطلة لدعاوي الفرق الثلاث من اليهود والنّصارى والمشركين، مثل قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59] وقوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة: 74] الآية، وقوله: ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [آل عمران: 66] الآية، وقوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [آل عمران: 68] الآية، وقوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [آل عمران: 79] الآية، وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: 81] الآية، وقوله: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ [آل عمران: 93] وقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ [آل عمران: 96]، وما تخلّل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد.
4. الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ للملابسة، وهي ملابسة الإخبار للمخبر عنه، أي لما في نفس الأمر والواقع، فهذه الآيات بيّنت عقائد أهل الكتاب وفصّلت أحوالهم في الدنيا والآخرة، ومن الحقّ استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلا من الله، ولذا قال: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي لا يريد أن يظلم النّاس ولو شاء ذلك لفعله، لكنّه وعد بأن لا يظلم أحدا فحقّ وعده، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه، وإنّما الخلاف في جواز ذلك واستحالته.
5. جيء بالمسند فعلا لإفادة تقوي الحكم، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى، وتنكير (ظلما) في سياق النّفي يدلّ على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلّق به إرادة الله، فكلّ ما يعدّ ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.
6. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 284] عطف على التذييل: لأنّه إذا كان له ما في السماوات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم، فلا يريد ظلمهم، وإليه ترجع الأشياء كلّها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء.
7. تكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كلّ جملة مستقلّة الدلالة بنفسها، غير متوقّفة على غيرها، حتّى تصلح لأن يتمثّل بها، وتستحضرها النّفوس وتحفظها الأسماع.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/187.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه وتعالى ما كان من اليهود في ماضيهم، وكيف أضلهم الهوى، والعصبية العنصرية، ومنعتهم من أن يصل نور الحق إلى قلوبهم، حتى إنهم ليرون النور يمشى بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ومع ذلك يصمون آذانهم عن سماعه، ويحجبون أضواءه عن نفوسهم؛ ذكر سبحانه أنه بين ذلك في آياته ليعتبر من يعتبر، ولينتفع الحاضرون بنتائج ما وقع فيه الغابرون، فيستبصروا ويستبينوا ويتعظوا ويعتبروا، ولذا قال سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾
2. الإشارة في الآية الكريمة إلى ما كان من آيات سابقات بينت فيها أحوال النفوس التي ضلت وعميت عن الحق، وكانت الإشارة بالبعيد لعلو منزلة هذه الآيات في بيانها للحق، وإعلانها له، وصدقها فيما حكت وأعلنت.
3. معنى ﴿نَتْلُوهَا﴾ ننزلها عليك متلوة مقروءة واضحة مبينة سهلة الفهم لمن يريد الحق ويبتغيه، وقوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي متلبسة بالحق مبينة له موضحة، والحق هو الأمر الثابت الذي لا مجال للشك فيه، ولا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة، ولا يوجد أمر ثابت كالحق، وهو ميزان الأفكار ومقياس الأشياء، وعليه قامت السماوات والأرض وما بين الناس.
4. إضافة التلاوة إلى الله تعالى، والإظهار في موضع الإضمار، فقد قال سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا﴾ لكى يكون التصريح باسم الله سبحانه وتعالى مربيا في النفس المهابة والإجلال له، وهو المستحق وحده لوصف الألوهية، فلا إله سواه، ولا معبود بحق غيره، وهو ذو الجلال والإكرام، وهو المنشئ الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه، وهو العلى القدير، فالتصريح باسمه الكريم يزيد البيان جلالا، ويتضمن معنى الحساب لمن يعرض عن آيات ربه، ويجعل النفس لا تسير وراء الهوى، ويتضمن معنى القدرة على إنزال العقاب والثواب بعد الحساب، وإنه إذا كان كل شيء في هذا الوجود أوجده ربه بالحق، وأخبر عنه، فالظلم منفى عنه سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ هذا نفى للظلم عن الله سبحانه، والتصريح بلفظ الجلالة في موضع الإضمار هنا، كان لمثل ما ذكرنا لتربية المهابة، وليكون ذلك تأكيدا لنفى الظلم، إذ كيف يظلم الموصوف بالألوهية، وحده، وكيف يريد الظلم مانح العالم كله الوجود.
5. قال: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ وهم العقلاء في هذا الكون؛ لأنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه، ويشعرون بمتاعبه وآثامه.
6. أصل الظلم معناه النقص، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف] ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه] وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ [النساء] ثم أطلق الظلم على وضع الأمر في غير موضعه، حتى لقد قالوا فيمن حفر الأرض، ولم تكن موضعا للحفر إنه ظلمها، ويقال عن التراب المظلوم، وعن الأرض المظلومة، ولقد قال الراغب في معنى الظلم: (الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته ومكانه)
7. الظلم الذي نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه عام لا يخص نوعا دون نوع، وهو نكرة في موضع النفي ومن المقررات اللغوية أن النكرة في مقام النفي تعم ولا تخص، فالمعنى لا يريد الله سبحانه وتعالى ظلما قط أي ظلم كان، فقد خلق السماوات والأرض بالحق، وربطهما وما فيهما بميزان لا يتخلف إلا بإرادته سبحانه وتعالى، فليس فيهما شيء إلا في موضعه، ودبر أمور الكون والناس بدقة وإحكام، وهو العليم الحكيم اللطيف الخبير السميع البصير، وأنزل سبحانه الشرائع بالحق والميزان، فليس فيها شيء إلا وهو عدل لا ظلم فيه، وأساس الشرائع السماوية كلها العدل الذي يستطيعه الإنسان، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل]، وبهذا نفى الله سبحانه وتعالى الظلم عن نفسه، ونفى أن يكون نظام شرعه فيه إباحة لظلم العباد فيما بينهم، ولذا قال سبحانه في حديث قدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)
8. يلاحظ أن النص القرآني لم ينف فقط الظلم عن الله سبحانه، بل نفى عنه إرادة الظلم، فهو أمر لا يليق بذاته، ولا يتصور وقوعه منه، وإنه سبحانه وتعالى مالك كل شيء، فهو مانح الحقوق ومعطيها ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان] ولذا قال سبحانه بعد أن نفى عن نفسه إرادة الظلم: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ كل ما في السماوات من أفلاك وأجرام ونجوم وكواكب وأبراج وعوالم لا يحصيها إلا خالقها هو لله تعالى، أبدعها على غير مثال سبق، وأنشأها بإرادته، نظم مسالكها وما يربطها بحكمته، وكل ما في الأرض من سهل وجبل، وصحراء وماء، وأقاليم مختلفة، ومزارع وأغراس تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وكل ما يحتويه باطنها من معادن سائلة، وفلزات متماسكة، وأحجار تبهر الأنظار، ملك لله تعالى أبدعه وأنشأه، وإذا كان هو المبدع المنشئ لكل ذلك، وهو الذي وضع لكل شيء نظامه المحكم، وسيره المنظم، فإنه لا يتصور منه سبحانه أن ينقص شيئا أو حقا، أو يضع أمرا في غير موضعه، فهو خالق النظم، وخالق الأوضاع، والمسيطر على كل شيء.
9. وكما أن المبدأ منه فالعود إليه سبحانه، ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فكل أمر ونظام مرد بقائه وإنهائه إليه، كما كان إبداعه وإنشاؤه منه؛ وكل تصرفات الناس راجعة إليه يوم القيامة، وهم محاسبون عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو مالك الميزان والقسطاس المستقيم في الدنيا وفي الآخرة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1352.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾، تلك اشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار، وتعذيب الكفار، والخطاب موجه لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. سؤال وإشكال: أية فائدة من هذا الإخبار، ما دام محمد يعلم علم اليقين ان هذه الآيات حق وصدق؟ والجواب: لقد دأب القرآن على تكرار ذلك في العديد من الآيات، وليس المقصود منها محمدا بالذات، بل من يرتاب ويظن بأن هذه الآيات وما اليها هي من محمد، لا من الله: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾
3. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾، لأن الظلم قبيح، والله سبحانه منزه عنه، وفي الآية دلالة قاطعة على انه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيق.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/129.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾، الظرف متعلق بقوله: ﴿نَتْلُوهَا﴾، والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلا شيطانيا، أو متعلق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر، والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين: الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم، وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا﴾
2. ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾، تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق، وظاهر قوله: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق، والمعنى على هذا أن الله لا يريد ظلما أي ظلم فرض لجميع العالمين، وكافة الجماعات، وهو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشئوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.
3. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، لما ذكر أن الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف فيما لا يملكه حتى يكون ظلما وتعديا، على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي على ما لا يملكه، والله الغني الذي له ما في السماوات والأرض هذا ما قرره بعضهم لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون ملكه، والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى، وكيف كان فملكه دليل أنه تعالى ليس بظالم.
4. هناك دليل آخر وهو أن مرجع جميع الأمور أيا ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الأمر شيء حتى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالما، وهذا هو الذي يشير إليه قوله: ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾
5. الوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شيء له تعالى والثاني مبني على أن شيئا من الأمور ليس لغيره تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/376.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى ما مر في هذه السورة من الآيات، فهي آيات الله يتلوها على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق لأن كل ما فيها حق من الله فكل ما كلف عباده فهو حق وعدل وحكمة لم يظلمهم بتكليفهم، ومن عصى فعذبه فهو الذي أوقع نفسه في المعصية التي هي سبب العذاب، فليس عذابه ظلماً قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف:76] وقال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود:101]
2. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فله الملك وحده لا شريك له، وله الحكم في عباده يأمرهم وينهاهم كيف شاء، لا ينازعه منازع ولا يعارضه معارض، وإليه ترجع أمورهم لأنه ربهم، لا إلى غيره في الدنيا والآخرة، أما أمور الدنيا فترجع إلى كتابه وسنة رسوله ولو بالقياس الذي ثبت بهما حكم أصله وعلته، وأما أمور الآخرة فهو الذي يحكم فيها وينفذ أحكامه ولا يتدخل أحد لمنازعته بل الملائكة والنبيئون يردون الأمر إليه ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ و﴿يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة:1] حتى الشفاعة لا تكون ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ:23] ورضي.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/517.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يختم الله تعالى الموقف بآيتين، ففي الآية الأولى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ فقد بيّن الله للناس الأمور كلّها ودلّهم على العلامات التي تحدّد لهم خطوط الحياة والمصير على أساس الحق، ووضع كل إنسان منهم أمام مسئوليته، ليختار ـ بعد إقامة الحجة عليه ـ الخط الذي يتجه به إلى الجنة أو الخط الذي يتجه به إلى النار، فإذا عاقبه بانحرافه وظلمه لنفسه فإنه يواجهه بأعلى مواقف العدل، فإن الله لا يريد ظلما للعالمين، لأنه العدل الذي تعالى شأنه عن الظلم، فهو غني عنهم في كل شيء، فلا حاجة به إلى الظلم الذي لن يحتاجه صاحبه إلا على أساس عقدة داخلية يعاني منها في ذاته.
2. أما في الآية الثانية: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فإنها تثير الغنى المطلق لله من جهة ما يمثله ملك القوى والطاقات والأشياء الموجودة في السماوات والأرض مما يجعله مهيمنا على الأمر كله من دون عقدة ضعف أو حاجة، كما تثير في داخل الإنسان الشعور بعظمة الله في أسلوب تربوي يدفع الإنسان إلى التفكير بالارتباط به، لأنه مصدر القوّة في كل من حوله وما هو حوله، فإنه يملك الأمر فيها جميعا، كما أن مرجع الأمور إليه في المصير في نهاياتها، كما كانت كذلك في بداياتها.
3. ذكر صاحب تفسير الميزان أنه لا يجوز تعليل نفي إرادة الظلم من الله سبحانه بغناه عنه، لأن ظاهر الآية هو التأكيد على ملكه لما في السماوات والأرض؛ لأنه إذا كان يملك جميع الأشياء من جميع الجهات، فله أن يتصرف فيها بما يشاء فلا يتصور في حقه التصرف في ما لا يملكه حتى يكون ظلما وتعديا، لكنا نلاحظ أن الله تحدث عن الظلم من حيث إنه لا يتناسب مع عظمته ورحمته وانطلاق إرادته من قاعدة الحق، لأنه ليس بحاجة إليه بالطريقة التي يحتاج فيها الظالمون إلى الظلم على أساس ضعف وعقدة أو خوف أو ما إلى ذلك.. وليس ظاهرا في الحديث عن عدم تحقيق موضوع الظلم، باعتبار أنه يتصرف في ملكه، وعلى ضوء هذا فإن الآية الثانية تعرّضت للملك الشامل الذي يجعل الأمور في تصرفه، مما يؤدي إلى أنه ـ وحده ـ المتصرف، فيها المسلّط عليها مما يقتضي رجوعها إليه، والله العالم.
4. قد نلاحظ تنوّع الأساليب المماثلة في القرآن الكريم من أجل تربية الشعور بالحضور الإلهي في كل مظاهر الحياة المحيطة به، مما يدخل في عملية البناء الداخلي للشخصية الإسلامية، وليس مجرّد إبراز حقيقة من حقائق العقيدة وفي ضوء ذلك لا بد للعالمين في حقل تربية الناشئة الإسلامية من أن يؤكدوا على استثارة هذا الأسلوب في تربية العقيدة في نفس الإنسان المسلم.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/209.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر، والاتحاد، والاختلاف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثارها وعواقبها، إذ تقول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ فكلّ هذه الآيات تحذيرات عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ وإنما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم.
2. يدلّ على ذلك أن الله لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكلّ شيء وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، فالآية ـ في الحقيقة ـ تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه:
أ. الأوّل: إن الله مالك الوجود كلّه فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد شيئا، وإلى هذا يشير المقطع الأول من الآية وهو قوله تعالى: ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ.
ب. الثاني: إن الظلم يمكن صدوره ممّن تقع الأمور دون إرادته ورضاه، أما من ترجع إليه الأمور جميعا، وليس لأحد أن يعمل شيئا بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/643.