...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

133. الهداية والإنفاق والجزاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈133⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: لا يذبح نسككم إلا أهل ملتكم، ولا تصدقوا بشيء من نسككم إلا على المسلمين، وتصدقوا بما سواه غير الزكاة على أهل الذمة(1).

__________

(1) التهذيب: 9/67/284.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا؛ فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فرخص لهم(1).

2. روي أنّه قال: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين(2).

3. روي أنّه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(3).

__________

(1) الحاكم: ٢/٣١٣.

(2) الضياء في المختارة: ١٠/١١٥.

(3) ابن جرير: ٥/٢٠.

ابن الحنفية:

روي عن محمد بن الحنفية (ت 80 هـ) أنّه قال: كره الناس أن يتصدقوا على المشركين؛ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾، فتصدق الناس عليهم(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٣/١٧٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يتصدق على المشركين؛ فنزلت: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، فتصدق عليهم(1).

2. روي أنّه قال: كانوا يعطون فقراء أهل الذمة صدقاتهم، فلما كثر فقراء المسلمين قالوا: لا نتصدق إلا على فقراء المسلمين، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٩.

(2) ابن المنذر، وفي تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: لا نكلف محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم بهداهم، إلا أن يبلغ رسالته، وقال الله لمحمد: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] (1).

2. روي أنّه قال في الآية: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أن رجالا من الصحابة قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٠.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج لا يتصدق عليه يقول: ليس من أهل ديني، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عمرة القضاء، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية أن تتصدق عليهما، فأعطتهما ووصلتهما(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾، يعني: المال(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ يعني: المال: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يعني: توفر لكم أعمالكم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ فيها(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ يعني: من مال ـ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، يعني: مالا ـ، للفقراء أصحاب الصفة؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعني: بما أنفقتم عليم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ نزلت في المشركين؛ لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غير زكاة، نزلت في أسماء بنت أبي بكر، سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن صلة جدها أبي قحافة وعن صلة امرأته وهما كافران، فكأنه شق عليه صلتهما؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٤.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٥.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: سأله رجل ليس على دينه، فأراد أن يعطيه، ثم قال (ليس على ديني)، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن المنذر.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ هو مردود عليك، فما لك ولهذا تؤذيه وتمن عليه!؟ إنما نفقتك لنفسك، وابتغاء وجه الله، والله يجزيك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾قال: يقول: إنما لها ثواب نفقتها، وليس لها من عمله شيء، لو كان خير أهل الأرض لم يكن لها من عمله شيء، إنما لها أجر نفقتها، ولا تسأل عمن تريد تضع نفقتها فيه، فليس لها من عمله شيء، إنما لها ثواب نفقتها: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٢.

(2) ابن جرير: ٥/٢١.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: فهذه الصدقة التي هي على غير المسلمين هي تطوع، ولا يعطون من الواجب شيئا(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٢.

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، المعنى في هذه الآية والأولى واحد وإن اختلف التفسير، معناها أنه يخبر سبحانه أنه لم يفترض على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم قسر قلوبهم على الهدى، وجبرها حتى تكون مخلصة في أعمالها، كما افترض علىه قسر ألسنتهم على التكلم بالإيمان والنطق به، وكما افترض عليه قسر جوارحهم على ظاهر أعمالهم في أداء فرائضهم كلها، فأخبر الله نبيه أن الذي افترض عليه فيهم أمره بدعائهم وجهادهم، هو الظاهر مما يناله ويقدر عليه منهم، مثل التكلم بالإسلام والقرار به، واستعمال الجوارح في الصلاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك من ظاهر الأفعال، التي يحقنون بها دمائهم عن القتل، وحُرمهم عن السبي، وأموالهم عن الأخذ، وأنه لم يفترض عليه ولم يكلفه صلاح قلوبهم وإيمانها، ولا علِمَ باطنها وضميرها، واستخراج مكنون غيبهم، يكونون بذلك من فعل نبيه مهتدين حقا، وينتظمهم اسم الإيمان صدقا، فأخبر جل جلاله بما ذكر من ذلك وفيه، أن عليه صلّى الله عليه وآله وسلم إصلاح ظاهرهم، والمعاملة منه على ذلك لهم، وأن الله سبحانه معاملهم على باطن ضمائر القلوب، وأن الله سبحانه العالم بما تنطوي عليه قلوبهم من الغيوب، ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31](1).

__________

(1) تفسير الإمام الهادي: 1/155.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ؛ فدل أن هناك فضل هدى، لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له، وهذا يرد على المعتزلة، ومن وافقهم ويكذبهم أن كل الهدى: البيان؛ إذ لو كان كل الهدى بيانا لكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يملك ذلك، إذ عليه البيان، فدل أنه لا يملك الهدى المراد في الآية؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق.

2. يحتمل قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي حساب ترك اهتدائهم، كقوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 52]، و﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ [آل عمران: 20]

3. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ أي مال، ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾:

أ. قيل: يعنى: فلأنفسكم الثواب.

ب. وقيل: يعنى: منفعته لكم.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتمدوا من الدين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدين؛ فبين جل وعلا: أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم، وتكفير ما ارتكبتم.

5. في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ فهو دليل لأصحابنا (2)؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة.

6. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يعنى: يوفر عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ في حرمان الثواب والجزاء.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/266.

(2) يقصد الحنفية

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان:

أ. أحدهما: ما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بمنع المشركين الأقرباء من الصدقة ليدخلوا في الإسلام فعلى هذا معناه الاباحة.

ب. الثاني: قال الحسن، وأبو علي الجبائي، والزجاج: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بالحمل على النفقة في وجوه البرّ فعلى هذا معناه التسلية والتقدير ليس عليك أن تهدي الناس إلى نيل الثواب، والجنة وإنما عليك أن تهديهم إلى الايمان بأن تدلهم عليه لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يغتم إذا لم يؤمنوا ولم يقبلوا منه لعلمه بما يصيرون إليه من العقاب فسلّاه الله بهذا القول، وإنه لا ينبغي ترك مواساة ذوي القربى من أهل الشرك ليدخلوا في الإسلام فيكون ذلك مبيحاً للصدقة المندوبة عليهم.

2. قال ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير: نزلت هذه الآية لأنهم كانوا يتقون الصدقة على المشركين حتى نزلت‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان في المعلوم أنه يصلح باللطف وليس كل أحد يصلح به فلذلك جاء الاختصاص بالمشيئة.. وهو اختيار البلخي وابن الأخشاد والزجاج وأكثر أهل العلم.

ب. وقال أبو علي الجبائي: الهداية في الآية هو إلى طريق الجنة وذلك يختص بالمؤمنين المستحقين للثواب.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ معناه فلهذا يجب ألا تمنوا بالصدقة والإنفاق: إذ كان لأنفسكم من حيث هو ذخر لكم ولابتغاء وجه الله الذي هو يوَّفر به الجزاء لكم فهو من كل وجه عائد عليكم وليس كتمليك الله لعباده إذ نفعه راجع عليهم كيف تصرفت الحال بهم، فلذلك افترق ذكر العطية منه تعالى، والعطية من غيره.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: إلا ابتغاء رضوان الله، واستدل بذلك على حسن باطن المعنيين بالآية، وانهم كانوا ينفقونه لوجه الله خالصاً.

ب. وقيل: معناه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فكيف يضيع سعيكم وإنفاقكم.

6. قيل في ذكر الوجه قولان:

أ. أحدهما: لتحقيق الاضافة إليه، لأن ذكره يزيل الإبهام انه له أو لغيره، لأنك إذا اختصصت ذكر الوجه ومعناه التبيين، دل على أنك أردت الاختصاص وإزالة الإبهام، ورفع الاشتراك وحققت الاضافة.

ب. الثاني: لأشرف الذكرين في الصفة لأنه إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من فعلته [لزيد]، لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر في الصفة فقط من غير تحقيق وجه ألا ترى أنك تقول: وجه هذا الأمر كذا وهذا أوجه الرأي وهذا أوجه الدليل فلا تريد تحقيق الوجه‏ وإنما يريد أشرف ما فيه من أجل شدة ظهوره وشدة بيانه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/354.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الوجه: مستقبل كل شيء، وقد يعبر بالوجه عن الذات، يقال: هذا وجه الرأي، ويستعمل في الرضا، يقال: جعلته لوجه اللَّه تعالى أي لرضاه، وهو توسع.

ب. الخير: النفع الحسن.

2. في اتصال قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بما تقدم وجهان:

أ. قيل: ليس عليك هداهم بمنع المشركين من الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فمعناه على هذا الإباحة، عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة.

ب. وقيل: ليس عليك هداهم بالحمل على النفقة في وجوه البر فهو تسلية له، عن الحسن وأبي علي والزجاج.

3. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

أ. قيل: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين نهاهم رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فكانوا ينفقون الصدقة على المشرك حتى نزلت الآية، عن محمد بن الحنفية وابن عباس وسعيد بن جبير.

ب. وقيل: لما اعتمر رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم عمرة القضاء واعتمرت أسماء بنت أبي بكر قصدتها أمها وجدتها يسألانها، فأتت حتى تسأل رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم فلما سألت نزلت الآية عن الكلبي.

ج. وقيل: كان أناس لهم أصحاب وقرابة من اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا، فلما أسلموا استأمروا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية في ذلك.

د. وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يدعو على جماعة قتلوا أصحابه، فنزلت الآية فكف عن اللعن مصلحة.

4. ثم بَيَّنَ تعالى تمام أمر الصدقة، وما يستحقه المتصدق، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿هَدَاهُمُ﴾:

أ. قيل: إلى الجنة والثواب بحملهم على الإيمان، عن أبي علي.

ب. وقيل: ليس عليك هداهم بمنع الصدقة ليسلموا لحاجتهم إليها.

ج. وقيل: ليس عليك أن يهتدوا؛ لأنه بعث هاديًا كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ ولكن إذا هداهم فلم يهتدوا فليس ذلك عليك، عن الأصم وأبي مسلم.

د. وقيل: ليس عليك هداهم يعني تخلصهم من الشدة بإعطاء الصدقة يعني له أن يتصدق عليهم وإن لم يكن عليه، قال القاضي: وهذا بعيد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: يعني إلى الثواب لقدرته عليه، ولكن لا يفعل إلا بالمؤمنين المستحقين لذلك، عن أبي علي.

ب. وقيل: يهدي من يشاء بألطافه ممن المعلوم أنه يصلح باللطف دون من لا لطف له، عن أبي القاسم وأبي بكر.

ج. وقيل: يهدي من يشاء بإجبارهم على الإيمان، عن الأصم وأبي مسلم.

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي لا تمنوا بذلك على أحد إذ هو لكم من حيث تجازون عليه، فنفعه عائد عليكم ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي طلب رضاه.

7. في ذكر الوجه قولان:

أ. الأول: تحقيق الإضافة؛ لأن ذكره يرفع الإيهام أنه له ولغيره، والمراد به النفس.

ب. الثاني: لأنه أشرف الذكرين في الصفة؛ لأنك إذا قلت فعله لوجه ربه فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾:

أ. قيل: هو صدقة التطوع.

ب. وقيل: الكل داخل فيه، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.

9. من حمله على التصدق على أهل الذمة حمله على التطوع ومن حمله على أهل الإسلام حمله على الكل.

10. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يوفر عليكم جزاؤه يعني يؤدِّي إليه؛ لذلك أدخل إلى ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيء.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الهدى يختص به القديم تعالى؛ لأنه إما أن يكون دلالة أو لطفًا أو نجاة أو إجبارًا فجميع ذلك مما يختص به سبحانه، فأما الرسول فهو يدعونا مرة ويبين ببيانه، فأما الاهتداء فهو فعل العبد لذلك قال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾

ب. أن العبد مختار؛ لذلك صح أن يهتدي مرة، ولا يهتدي أخرى.

ج. أن عاقبة الخير ونفعه يعود على فاعله، فيدل أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال.

د. أن الصدقة إنما تصح متى فعلت لمرضاة اللَّه تعالى.

هـ. أنه تعالى يوفي الجزاء، فتدل على أن الأعمال يستحق عليها الجزاء ولا بد من شرط وهو السلامة مما يحبطه.

و. بطلان مذهب الجبر من حيث نفى الظلم عن نفسه، وليس المراد به اللفظ بل المراد به المعنى، وهو منع المستحق ما استحقه، أو عقوبة من لا يستحقه، ولو كان الكفر خلقًا له فعاقبهم عليه أو عاقبهم من غير معصية كان ظلما، فيبطل قولهم في المخلوق وفي أطفال المشركين أن الثواب والعقاب ليس بجزاء.

12. مسائل نحوية:

أ. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ شرط وجزاء؛ ولذلك حذف النون.

ب. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، وفيه إضمار، يعني وما تنفقون ولا تقصدون به إلا ابتغاء وجه اللَّه فلأنفسكم يوف إليكم عن أبي علي، وقيل: تقديره: لا تكونوا منفقين حتى تبتغوا وجه اللَّه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/118.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس وابن الحنفية وسعيد بن جبير.

ب. وقيل: كانت أسماء بنت أبي بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء، فجاءتها أمها فتيلة وجدتها، تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئا حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنكما لستما على ديني، فاستأذنته في ذلك، فأنزل الله هذه الآية، عن الكلبي.

2. قيل في وجه اتصال قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بما قبله وجوه:

أ. أحدها: إن معناه: ليس عليك هداهم بمنع الصدقة عنهم، لتحملهم به على الإيمان، وهو نظير قوله ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وعلى هذا يكون معناه الإباحة للتصديق عليهم بصدقة التطوع.

ب. وثانيها: إن معناه ليس عليك هداهم بالحمل على النفقة في وجوه البر، وسبل الخير، عن الحسن وأبي علي الجبائي، وتقديره: ليس عليك أن تهدي الناس إلى نيل الثواب والجنة، إنما عليك أن تهديهم إلى الإيمان بان تدلهم عليه، وهذا تسلية للنبي لأنه كان يغتم بترك قبولهم منه، وامتناعهم عن الإيمان، لعلمه بما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، فسلاه الله تعالى بهذا القول.

ج. وثالثها: إن المراد ليس عليك أن تهدي الناس بعد أن دعوتهم، وأنذرتهم، وبلغتهم ما أمرت بتبليغه، ونظيره ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ وليس المعنى ليس عليك أن تهديهم إلى الإيمان والطاعة، لأنه ما بعث إلا لذلك.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان المعلوم منه أنه يصلح باللطف أي: بلطف الله بزيادة الهدى والتوفيق لمن يشاء، عن الزجاج وأبي القاسم البلخي، وأكثر أهل العلم.

ب. وقيل: معناه يهدي إلى طريق الجنة، عن الجبائي.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: ما تنفقوا في وجوه البر من مال، فلأنفسكم ثوابه، والغرض فيه الترغيب في الانفاق، لأن الانسان إذا علم منفعة إنفاقه عائدة إليه، مختصة به، كان أسمح بالإنفاق، وأرغب فيه، وأحرص عليه، وبذلك يفارق عطية الله لأن المنفعة في عطائه عائدة إلى المعطي، ومختصة به دون الله، ومعظم المنفعة في عطية العبد ترجع إليه، وتختص به، دون المعطى.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي: إلا طلب رضوان الله، واختلفوا:

أ. قيل: هذا إخبار من الله عن صفة إنفاق المؤمنين المخلصين، المستجيبين لله ولرسوله، أنهم لا ينفقون ما ينفقونه إلا طلبا لرضاء الله تعالى.

ب. وقيل: إن معناه النهي، وإن كان ظاهره الخبر أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء مرضاة الله.

6. في ذكر الوجه هنا قولان:

أ. أحدهما: إن المراد به تحقيق الإضافة، لأن ذكر الوجه يرفع الإبهام، أنه له ولغيره، وذلك أنك لما ذكرت الوجه، ومعناه النفس، دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك إلى تحقيق الاختصاص، وكنت بذلك محققا للإضافة، ومزيلا لإيهام الشركة.

ب. والثاني: إنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد، كان أشرف في الذكر من فعلته له، لأن وجه الشئ في الأصل، أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر من غير تحقيق وجه، ألا ترى أنك تقول: وجه الرأي، ووجه الأمر، ووجه الدليل، فلا تريد تحقيق الوجه، وإنما تريد أشرف ما فيه من جهة شدة ظهوره، وحسن بيانه.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: يوفر عليكم جزاؤه وثوابه، والتوفية: إكمال الشئ، وإنما حسن إليكم مع التوفية، لأنها تضمنت معنى التأدية.

ب. وقيل: معناه تعطون جزاءه وافرا وافيا في الآخرة، عن ابن عباس.

8. ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ بمنع ثوابه، ولا بنقصان جزائه، كقوله: ﴿آتت أكلها ولم تظلم منا شيئا﴾ أي: لم تنقص.

9. مسائل نحوية:

أ. ﴿ما تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾ شرط وجزاء ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قيل: لفظه نفي، ومعناه النهي أي: لا تنفقوا كقوله: لا يمسه إلا المطهرون وقيل: هي جملة مفيدة بنفسها على ما قبلها، وهو خبر على ظاهره، وابتغاء نصب لأنه مفعول له.

ب. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ شرط كالأول، ولذلك حذف النون في الموضعين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/660.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ في سبب نزولها قولان:

أ. أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدّقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.

ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم)، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.

2. الخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل، ومعنى: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، أي: فلكم ثوابه.

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، قال الزجّاج: هذا خاصّ للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.

4. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾، أي: توفّون أجره، ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فإن تصدّقتم عليهم أثبتم، والآية محمولة على صدقة التّطوّع، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصّدقة المفروضة شيئا.

__________

(1) زاد المسير: 1/245.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق، وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو.

2. في بيان سبب النزول وجوه:

أ. أحدها: أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها، وكذلك جدتها وهما مشركتان، أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن تتصدق عليهما.

ب. الثاني: كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية.

ج. الثالث: أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان لا يتصدق على المشركين، حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم.

3. المعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ﴾ [الممتحنة: 8] فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين.

4. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وجهان:

أ. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]، وقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]، وقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: 128] فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك، فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم.

ب. وفيه وجه آخر: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان‏ المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار.

5. ظاهر قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ خطاب مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكن المراد به هو وأمته، ألا تراه قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271] وهذا خطاب عام، ثم قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وهو في الظاهر خاص، ثم قال بعده:‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً.

6. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ على أن هداية الله تعالى غير عامة، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إثبات للهداية التي نفاها بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لكن المنفي بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، فكان قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.

7. ذكر المعتزلة، ومن وافقهم أن قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ يحتمل وجوهاً:

أ. أحدها: أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك.

ب. ثانيها: يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاؤوا.

ج. ثالثها: ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله.

د. رابعها: أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.

8. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هو المنفي أولًا بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولًا: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هو الاهتداء على سبيل الاختيار، فالمثبت بقوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه.

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ المعنى: وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم.

10. في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.

ب. الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى: ﴿الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ‏﴾ [البقرة: 233]، ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: 228]

ج. الثالث: أن قوله‏: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

11. في ذكر في الوجه في قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ.

ب. الثاني: أنك إذا قلت: فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال: فعلته له ولغيره أيضاً، أما إذا قلت‏ فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة.

12. أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم، فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره، وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.

13. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة، وإنما حسن قوله‏: ﴿إِلَيْكُمْ﴾ مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى‏: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] يريد لم تنقص.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/66.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾:

أ. قيل: هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين:

روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم)، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.

وذكر النقاش أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس لك من صدقة المسلمين شيء)، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات.

وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك.

وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك.

وحكى الطبري أن مقصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾

ب. وقيل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام.

2. قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع، وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم)، قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا، وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية، قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع، والله أعلم، وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر، وقال ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له، ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم) يعني يوم الفطر.. وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين، وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات، قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين.. وفي التنزيل ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خص منها الزكاة المفروضة، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: (خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم) واتفق العلماء علن ذلك على ما تقدم، فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا.

3. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب، وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين، وفي صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غني وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية الصدقات.

4. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي يرشد من يشاء، وفي هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، ومن وافقهم.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ شرط وجوابه، والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾، وقوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، إلى غير ذلك، وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال، وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾

6. ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه، و﴿ابْتِغَاءَ﴾ هو على المفعول له، وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم، وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لسعد بن أبي وقاص: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك)

7. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ تأكيد وبيان لقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم. ‌‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/338.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي: ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين، قابلين لما أمروا به ونهوا عنه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة، وفيها الالتفات.

2. المراد بقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ كل ما يصدق عليه اسم الخير كائنا ما كان، وهو متعلق بمحذوف، أي: أيّ شيء تنفقون كائنا من خير، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه: أي: لابتغاء وجه الله.

3. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي: أجره وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف.

﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أو بمحذوف: أي: اجعلوا ذلك للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: إنفاقكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/336.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمنّ والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل‏ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايميّ، قال أبو السعود: والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين، مبالغة في حملهم على الامتثال، فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية.

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي بالحقيقة لأن المنفق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبديّ، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا القرآن كثيرة كقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: 46]

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ نفي في معنى النهي، أي فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ ثوابه أضعافا مضاعفة ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/212.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ أيُّها النبيء أو مطلق المسلم ﴿هُدَاهُمْ﴾ هُدَى المشركين إلى الإسلام بالقهر بقطع النفقة عنهم، فهو هدى إيصال بل عليك وعلى أصحابك البلاغ، والحثُّ على المحـاسن وليـس عليك هدى هؤلاء المأمورين بالمحاسن المنهـيِّين عن المساوئ، ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَّشَآءُ﴾ هدايتَه، هدايةَ إيصال إلى الإسلام، وأمَّا هُدى بَيَان فتعمُّ كلَّ مكلَّف.

2. نزلت في قوم من الأنصار لَمَّا أسلموا قطعوا النفقة عن أصهارهم وقرابتهم من اليهود ليسلموا، وكان المسلمون يتصدَّقون على فقراء أهل المدينة، وَلَمَّا كثر المسلمون منع صلّى الله عليه وآله وسلّم الصدقة على أهل الشرك ليدخلوا في الإسلام، وقال: (لا تَصدَّقوا إِلَّا على أهل دينكم) بفتح التاء والدال، فنزلت الآية.

3. ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ مال قليل أو كثير ولو على مشرك، ولا حظَّ لمشرك في واجبٍ كزكاة، ولا لحربيٍّ بعد نزول القتال ولو نفلاً، ولا في دينار الفراش، ولا شاة الأعضاء وزكاة الفطر، وأجاز أبو عبيدة الكفَّارة الصغيرة للذمِّيِّ، وأجاز له أبو حنيفة زكاة الفطر والكفَّارات كلَّها والنذر وكلَّ صدقة ليس أمرها إلى الإمام، وهو خطأ.

4. ﴿فَلِأَنفُسِكُمْ﴾ فثوابه لأنفسكم، فلا وجه لترك الإنفاق أو الإيذاء أو المنِّ أو الرئاء، أو قصد الإنفاق من الخبيث.

5. ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ﴾ إعظامِه أو ثوابه، أي: الأمر الحقُّ ذلك، أو الحكم الشرعيُّ ذلك، فذلك إخبار، أو بمعنى النهي، أي: لا تنفقوا إِلَّا ابتغاء وجه الله، أو فلأنفسكم في حال قصدكم بالإنفاق وجه الله، وهذا أولى، وذكر الوجه إعظام ونصٌّ على نفي توهُّم الشركة، [وقولنا]: (أعطيتك لأبيك) دون (أعطيتك لوجه أبيك)، فإنَّ الوجه أشرف ما في الإنسان، تعالى الله عنه، حتَّى إنَّه يعبَّر به عن الشرف، وقيل: وجه الله ذات الله سبحانه، وقيل: الوجه هنا بمعنى الرضا.

6. ﴿ومَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يوفَّ إليكم جزاؤه مضاعفًا في الآخرة، أو فيها وفي الدنيا، أو يوفَّ لكم في الدنيا لا ينقص، وإن شاء الله زاد ويضاعف في الآخرة، وذلك إجابة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اللهم عجِّل للمنفق خلفًا)، ﴿وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ بنقص الثواب أو إبطاله، أو الظلم نفس النقص.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/156.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: المعنى أن هذه الوقائع تقدمت نزولها، فلما نزلت كانت فصلا فيها وإلا فهي مرتبطة بما قبلها، وما قبلها نزل في الفقراء عامة، قال محمد عبده: إن الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر، وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرج من الإنفاق على المشركين لأنهم غير مهديين؛ فإن الرحمة بالفقير وسد خلته لا ينبغي أن تتوقف على إيمانه، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يكون سابقا لسائر الناس بالكرم والفضل.

2. الخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث ابن عباس الأول خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لنهيه عن الإنفاق، وعلى هذا فالتوجيه عام موجه إلى المؤمنين كافة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد، ويؤيده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكلف هداية الكافرين بالفعل وإنما كلف البلاغ فقط، وأعلم أن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم، وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولى بألا يكلف ذلك، فليس علينا إذا أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذبا له إلى الإيمان واضطرارا له إلى الهداية، فإن الهداية ليست علينا ولكن الله يهدي من يشاء بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدي إلى الاعتقاد الجازم الذي يثمر العمل، وأما الباعث على الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه ـ سبحانه ـ في قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾.. قالوا: معنى هذا أن نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم، هكذا صرح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة، وقال محمد عبده هنا: أي لأن نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة، وسيأتي أنه يجعله خاصا بالدنيا.

3. معنى كونه خيرا في الدنيا(2) أنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم، ثم يسري شرهم إلى غيرهم، وربما صار فسادا عاما بسوء القدوة، فيذهب بالأمن والراحة من الأمة، وقد تقدم لهذا الكلام نظير في موضع آخر.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قد يكون خيرا على ظاهره، أي لا تنفقون لأجل جاه أو مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله فلا فرق بين معط ومعطى إلا إذا كان الفقير مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الرحيم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لاعتقاده، ويؤيده قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

5. في كون الإنفاق لا يكون إلا لوجه الله إشارة إلى أن الإنفاق على الكافرين إذا كان إعانة لهم على إيذاء المسلمين لا يكون جائزا؛ لأنه لا يكون مرضيا لله تعالى يبتغي به وجهه، وأكثر المفسرين على أنه خبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلا لوجهه وابتغاء مرضاته ـ عز وجل ـ.

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي في الآخرة لا ينقصكم منه شيء، وعد أولا بأن خير الإنفاق عائد على المنفقين في الدنيا بقوله: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ ثم وعد بالجزاء عليه في الآخرة موفى تاما، وقال: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من الجزاء عليه شيئا ولو نقيرا أو فتيلا(3).

7. الذي كان تبادر إلى فهمي من قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أنه بمعنى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم أي إن أي نفقة من الخير أنفقتم فهي تفيدكم في تثبيت أنفسكم في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، والحال أنكم ما تنفقون ذلك إلا ابتغاء وجه الله وإرادة رضوانه، ومتى كان الإنفاق كذلك كان مزكيا ومثبتا للنفس معدا لها، ومؤهلا لرضوان الله لا يمنع من ذلك كون المنفق عليه مؤمنا أو كافرا؛ إذ الإنفاق ليس لأجل التقرب إليه وابتغاء الأجر منه.

8. بعد أن ذكر الله تعالى الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾.. أي وإنكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقة لقرب الله ورضوانه، لا يضيع عليكم ما تنفقونه، بل توفونه لا تظلمون منه شيئا، ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة والكلام على هذا التفسير أشد التئاما وأحسن نظاما، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان.

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ جملة حالية قيد في الشرطية الأولى؛ وللإنفاق على هذا فائدتان:

أ. أولاهما: وهي المقصودة بالذات: تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه.

ب. والأخرى: الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين.

10. ابتغاء وجه الله بالعمل هو أن يعمل له دون سواه تقربا إليه وإرضاء له لذاته لا للتشوف إلى شيء آخر، كأن المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط، ولا يفهم هذا حق فهمه إلا من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك، ذلك أن منهم من يعمل للملك خوفا من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه، ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل فهو لا يفكر في غيره، ومنهم من يعمل فيجيد العمل لأجل الارتقاء من جزاء إلى أكبر منه، ومنهم ـ وهو أعلاهم مرتبة ـ من يعمل العمل الحسن المرضي للملك لأجل أن يكون في نظره محسنا عارفا قيمة العمل الذي أمر به وما وراءه من الحكمة التي كانت علة الأمر فمثل هذا يصح أن يقال فيه: إنه مبتغ وجه الملك، أي أن يكون في الجهة التي يراه فيها محسنا، فإن من يتعرض لأن يرى فإنما يأتي من تلقاء الوجه، ومن الناس من يعمل العمل لا يبتغي به إلا أن يواجه الناس ـ لا الملوك خاصة ـ بما يعتقدون أنه كمال لا يبتغي غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر، فأرشد الله الإنسان أن يكون في عمله الصالح مع الله تعالى كذلك، أي أن يكمل نفسه بالعمل ويبتغي أن يراه الله تعالى كاملا يعمل العمل لأنه حسن، تتحقق به حكمته تعالى، وتقوم به سننه في صلاح البشر، ولك أن تقول: إن معنى ابتغاء وجه الله تعالى هو طلب إقباله ومحبته للعامل، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فمعنى خلو وجهه لهم ألا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبته لهم مشارك.

11. لبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله، وهو أن لكل شيء وجهين: وجها إلى هذا العالم الحادث، وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له؛ لأن جميع المحدثات عرضة للزوال.. ووجها إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله تعالى، فمعنى وجه الله بالاتفاق على هذا المنزع، أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة، وهي إنما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

12. إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول: إن الوجه صفة لله تعالى أو إنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول: وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله التي سماها وجها، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين، وعلى الثاني وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى، هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن محمد عبده اكتفى ـ كالمفسرين ـ بجعله معنى مرضاة الله تعالى، وهو صحيح.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/83.

(2) الكلام هنا وما بعده لمحمد عبده

(3) علق محمد رشيد رضا على هذا بقوله: (وقد رأيت أنه جعل هنا قوله تعالى: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ خاصا بالدنيا، وما نقلناه عنه أولا من أنه عام قد قاله في الدرس، فهل كان سبق لسان أم رجع عنه عند تمام تفسير الآية، وكيف فاتنا أن نسأله عن ذلك؟ هذا ما وجدته في مذكرتي لا أذكر شيئا غير ذلك

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أرشد الله تعالى في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغي التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلّته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود.

2. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث.

3. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن في الأمة، وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقىّ أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته ـ لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا، وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/48.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.. روى ابن أبي حاتم ـ بإسناده ـ عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾.. إلى آخرها).. فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين.

2. إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله ـ ولو كان هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنه من أمر الله وحده، فهذه القلوب من صنعه؛ ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم ـ سبحانه ـ أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه، وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده.. ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم؛ ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.. فلتفسح لهم صدرك، ولتفض عليهم سماحتك، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك، وأمرهم‏ إلى الله، وجزاء المنفق عند الله، ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروضهم عليها.

4. إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب، إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله، يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله ـ سبحانه ـ يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة ـ ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة ـ دون نظر إلى عقيدتهم.

5. ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله، وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾..

6. ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾.. إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا عن غرض، لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، خالصا متجردا لله.. ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله، ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض، وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/315.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن دعا الله سبحانه وتعالى إلى الإنفاق في سبيل الله، وبيّن وجوه هذا الإنفاق وأسلوبه، والعوارض التي تعرض له، وما ينبغي على العاقل من تجنبها، حتى يكون هذا الإحسان مقبولا عند الله ـ بعد أن بين سبحانه وتعالى كل هذا أوضح بيان، لم يبق إلا أن ينظر الإنسان لنفسه، وأن يتخيّر طريقه، فأما أن يستمع إلى ما أمر الله به ويسير عليه، فيسلم‏ ويسعد، وإمّا أن يسلم يده للشيطان، ويتبع سبيله فيضل ويشقى، فليحمل الإنسان إذن مسئولية هداه أو ضلاله‏ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، وليس على النبيّ إذن حمل النّاس حملا على الإيمان، وإكراههم إكراها على الهدى، فما على الرسول إلّا البلاغ، فمن أراد الله له الخير شرح الله صدره، وشدّ عزمه، وثبت قدمه على طريق الحق والخير، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي هو لكم ثوابه، وإليكم عائدة ثمرته، وذلك إذا كان هذا الإنفاق ابتغاء وجه الله، خالصا له، بعيدا عن الرياء والمنّ والأذى‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهو الوجه المقبول عند الله، وهو الوجه الذي يجب أن يتوجه إليه الإنفاق‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي أن ما أنفقتموه على هذا الوجه فهو مقبول عند الله، يجزيكم به أضعافا مضاعفة ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/347.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ استئناف معترض به بين قوله‏: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271] وبين قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ومناسبته هنا:

أ. أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس: منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم‏ الذين يبطلون صدقاتهم بالمنّ والأذى، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء، وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ، فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النّبي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة، فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون.

ب. وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنّه كان لأسماء ابنة أبي بكر أمّ كافرة وجدّ كافر فأرادت أسماء ـ عام عمرة القضية ـ أن تواسيهما بمال، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآيات، أي هدى الكفّار إلى الإسلام، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة، فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب، فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية، والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسّر للهدى.

2. الخطاب في‏ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم، ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك.

3. (على) في قوله‏: ﴿عَلَيْكَ﴾ للاستعلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب، والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.

4. تقديم الظرف وهو ﴿عَلَيْكَ﴾ على المسند إليه وهو ﴿هَدَاهُمُ﴾ إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بيّنا لا غبار عليه نحو ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيّدة نسبتها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها، فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيّدة، أي نفي ذلك الانحصار، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيّد أن ينصبّ على ذلك القيد، لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سوّوا فيها بين الإثبات ـ كما ذكرنا ـ وبين النفي نحو ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: 47]، فقد مثل به في (الكشاف) عند قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] فقال: (قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا)، وقال السيد في شرحه هنالك (عدّ قصرا للموصوف على الصفة، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور)، وقد أحلت عند قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] على هذه الآية هنا، فبنا أن نبيّن طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة، وإلى هذا أشار السيّد في شرح (الكشاف) عند قوله‏: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إذ قال (وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه)، وعلى هذا بنى الزمخشري فجعل وجه أن لم يقدّم الظرف في قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ كما قدم الظرف في قوله: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ لأنّه لو أوّل لقصد أنّ كتابا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد.

5. إذا تقرر هذا فقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني، فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري:

çما فيه من عيب سوى أنّه‏...يوم النّدى قسمته ضيزى‏é

بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك‏ مفوّضا إلى الله فمن قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله، فيلزم من ذلك أنّه على الله، أي مفوّض إليه.

6. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهّم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصبّ الاستدراك هو الصلة، أعني‏ ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشإ الله هداه، والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء أن يهديهم هداهم.

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، عطف على جملة ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271]؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.

8. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها، ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه الله، وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ ـ وجملة ـ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه، وكرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلّا لابتغاء وجه الله.

10. تقديم‏ ﴿وَأَنْتُمْ﴾ على الخبر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم‏ لا يظلمون، وإنّما يظلمون أنفسهم.

11. إنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني، فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال.

12. أخذ من الآيات الأخيرة ـ على أحد التفسيرين ـ جواز الصدقة على الكفّار، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران، واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان، ففي الحديث الصحيح: قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجرا، فقال: (في كل ذي كبد رطبة أجر)

13. اتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة ـ أعني الزكاة ـ لا تعطى للكفّار، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة، ففيه غنى المسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة، واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشبه، فإنّ العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدّق لا حال المتصدّق عليه، وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/539.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ كان المسلمون الأولون قلة في أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار، فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين الأولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه، ولقد روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقال ابن عباس أيضا: (كانوا (أي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم) يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فرخص لهم، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

2. بهذين الخبرين يتبين أن هذه الآية الكريمة نزلت لبيان أن الصدقة تسوغ على غير المسلم، بل تجب إذا كان غير المسلم في حاجة شديدة، ويخشى عليه إن لم يقدم له عطاء ينقذه.

3. هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام؛ فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام؛ فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال‏]

4. معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة؛ فليس عليك أن تهدى عاصيا، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فهو يهدى من يسير في طريق الهداية، ويفتح قلبه لنور الإيمان، فيوفقه المولى العلى القدير العليم بما تخفى الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه، وعليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن.

5. بهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح مقتدين بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أبى سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشترى بها قمحا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم ما زالوا مشركين، ولقد أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم)

6. إنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين، وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية؛ فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم؛ وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبى هريرة فقد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غنى، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غنى، قال اللهم لك الحمد على غنى، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وغنى وسارق فأتى، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغنى أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته)

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ بيّن سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها، سواء أكان مؤمنا أم كان كافرا، وسواء أكان برا تقيا، أم كان فاجرا عصيا، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها؛ وخيريتها ثابتة من ثلاث نواح:

أ. الأولى: أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس؛ وهذا ما ذكره سبحانه بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوى صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها؛ فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدهم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبا، وافترست كل ما في طريقها؛ وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لأنه حماية لها.. فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرا؛ ولذا قال ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ فـ (من) الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفى كلّ خير يعود على النفس.

ب. الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر؛ ذلك لأنه لا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية؛ فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة، وقوله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ لا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه؛ وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطى كافرا عاصيا، ولقد قال بعض الصوفية في معنى ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي يطلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهى ناحية الله تعالى؛ ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين: وجها يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسى، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى.. هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه.

ج. الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها؛ والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفى الآخرة؛ أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع.

8. أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولّد منها؛ ولذا سماه بها، فقال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو، ثم ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون أيّ جزاء لعمل قدمتموه لا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1025.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، سبق في الآية 26 من هذه السورة ان الهدى يطلق على معان: منها الهدى بالبيان والإرشاد، وهذا وظيفة النبي، ومنها التوفيق من الله الى عمل الخير بتمهيد السبيل اليه، ومنها الاهتداء، أي تقبّل النصيحة والعمل بها، وهذا يسند الى العبد، ومنها الثواب، ومنها الحكم على العبد بالهداية..

2. معنى الهدى في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الاهتداء وقبول النصح أي ليس عليك أن يعملوا بالحق، وإنما عليك إبلاغ الحق، وكفى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾، ومعنى الهدى في قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ التوفيق الى طريق الخير.

3. قيل في سبب نزول قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾: ان المسلمين كانوا لا يتصدقون إلا على أهل دينهم، فخاطب الله نبيه بهذه الآية، وأراد بها جميع المسلمين مبينا لهم ان الكافر لا يعاقب على كفره في هذه الحياة بمنع الرزق عنه، والتضييق عليه كي يضطر الى الايمان.. وليس لأحد أن يعامله بذلك، حتى ولو كان رسولا من عند الله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾

4. تدل الآية ان الصدقة على غير المسلم جائزة، فرضا كانت أو ندبا، ولكن قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أمرت ان آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها على فقرائكم)، وهذا الحديث يخصص الآية بصدقة الندب، دون الفرض.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ربما توهم متوهم ان في الإنفاق خسارة له، وحرمانا لأهله وعياله، فدفع الله هذا الوهم بأنه يعود على المنفق بالخير والنفع دنيا وآخرة، أما في الآخرة فالأجر والثواب، وأما في الدنيا فقال الشيخ محمد عبده: (ان الإنفاق يكف شر الفقراء عن الأغنياء، لأن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر يندفعون على أهل الثروة بالسرقة والإيذاء والنهب، ثم يسري شرهم الى غيرهم، وربما صار فسادا عاما يذهب بالأمن والراحة)، ولا أدري هل استوحى الشيخ محمد عبده قوله هذا من النقابات العمالية التي‏ خلقت المعضلات والمشكلات لأرباب العمل، وأرغمتهم على الاعتراف بالكثير من حقوق العمال؟..

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، أي ما دمتم تقصدون بالنفقة وجه الله الكريم فهو يقبلها منكم، سواء أعطيتموها لمسلم أو غير مسلم، شريطة أن تكون من المال الجيد دون الرديء، وان لا تكون مع المن والأذى.. وقيل: ان هذا نهي بصيغة الإخبار، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله.

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، حتى ولو كان الإنفاق على غير المسلم، فإنكم لا تنقصون من الجزاء شيئا إذا كان الذي أنفقتم عليه محتاجا.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/426.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان ما كان يشاهده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمن والأذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإيمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقاؤه حتى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوؤه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة.

2. الشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿هَدَاهُمُ﴾، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس، على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه.

3. جملة ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه صلّى الله عليه وآله وسلم، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾، فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنن والتغيظ معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ كما لا يخفى، فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾

5. لما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فبين أن نفع هذا الإنفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبة الدنيا والآخرة ليس أمرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.

6. إبهام الفاعل في قوله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/399.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أن يكونوا في طريق الحق غير ضالين عنه، إنما عليك أن تهدي من يهتدي، وتقيم الحجة على من أبى، بأن تبين له الحق ليهلك من هلك عن بينة ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بألطافه وبأسباب من المهتدين كقبول الحق من أول معرفته وكالدعاء بالتوفيق وكالصدقة وغير ذلك.

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنفقتم؛ لأن نفعه لكم، وفي الحديث: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت) وروي أن بعض نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تصدقت بلحم واحدة من الغنم لم تبقِ منه إلا العنق، فقالت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لم يبقَ منها إلا العنق، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (كلها بقي إلا العنق) هذا لفظ الحديث أو معناه، وقد تكرر الترغيب في الإنفاق؛ لعظم فائدته مع أن الأنفس أحضرت الشح؛ فهي تحتاج إلى التكرار.

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهذا هو الذي يبقى لكم ما تنفقون في حال أنكم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله أن ينظر إليكم أن يرضى عنكم؛ لأن شأن من يرضى منا عن إنسان أن ينظر إليه، كما أنه إذا سخط عليه أعرض عنه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: 77] فكما كان نفي النظر إليهم عبارة عن غضبه عليهم؛ كان النظر إليهم عبارة عن الرضى عنهم ويعبر عن ذلك بالوجه، ألا ترى أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 9] فقد كانوا يغارون من نظره إلى يوسف عليه السلام وأرادوا أن يكون نظره إليهم وحدهم؛ فعبروا عن النظر إليهم وحدهم بقولهم: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 9]، وأعتقد أن هذا هو السر في تكرار كلمة الوجه في مواضع التعرض لرضوان الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: 52]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، وغيرها، فهذه كقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 27]

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ فأنتم تقدمونه ليوفَّ إليكم يوم القيامة، ولا تظلمون أي لا تنقصون منه شيئاً، فالنفقة مع فوائدها العظيمة ترجع لصاحبها مع فوائدها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/396.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا تلتفت الآية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لتخفف عنه بعض الحالات السلبية التي قد تطوف في خاطره وهو يشاهد بعض أوضاع المؤمنين من حوله، إذ ينحرفون عن الخط الذي يأمرهم به وينهاهم عنه من شؤون الإنفاق، فقد كان يريد من المؤمنين أن يرتفعوا إلى مستوى إيمانهم في الانضباط والسير على هدى الله في جميع أمورهم، فأراد الله أن يضع له القضية في مكانها الطبيعي، من أن دور النبي هو أن يفتح لهم أبواب الهدى، ويهيئ لهم أجواء الفلاح، وتنتهي مهمته عند استنفاد كل الأساليب في ذلك، وتبقى للأسباب الأخرى الخارجة عن إرادة رسول الله واختياره، نتائجها السلبية والإيجابية فيما تقتضيه من حالات الهدى والضلال.. وهذا هو مدلول نسبة هدايتهم إلى الله، باعتبار ارتباط الأسباب العادية للأشياء بخالقها ومسبّبها، مما يوحي أن هذه النسبة لا تمنع نسبتها إلى العباد من حيث إنهم‏ السبب المباشر للأشياء.

2. ثم تلتفت الآية إلى المؤمنين لتدلهم على طريق الهدى وتدعوهم إلى سلوكه، وتوحي إليهم بالفكرة التي ترجع فوائد العمل للعامل من دون أن يرجع إلى الله منها شيء، وتهيب بهم أن يبتغوا وجه الله في إنفاقهم ـ إذا أنفقوا ـ لأن ذلك هو الذي يجعل منه معنى يتصل بالله ويرتبط بالآخرة، وهو الذي يستحق العبد من خلاله العوض من ربّه في الدنيا والآخرة من دون ظلم ولا حيف ولا نقصان.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ في إلزامهم القسري بطريقة غير عادية بالاستقامة على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي في الإنفاق وغيره بالسير على خط الإخلاص وعدم المنّ على الفقراء في العطية والابتعاد عن التثاقل والتلكّؤ في دائرة مسئولياتهم العامة والخاصة، فإن دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذ ـ من خلالها ـ الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي، لأن المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي.

4. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية، وبما يمنحه من ألطافه الخاصة لبعض عباده الذين يريد أن يقرّبهم إلى دينه من خلال حكمته ورحمته التي يختص بها من يشاء، وبذلك تكون المهمّة النبوية في الهداية مهمّة تشريعيّة، بينما تكون الخصائص التكوينية للهداية لله سبحانه بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي ضوء ذلك، كان نفي الهداية عن مسئولية النبي تتصل بالهداية الفعلية الوجودية وإثباتها لله في هذا الجانب، لتكون المسؤولية النبوية منحصرة في تهيئة الوسائل المتنوعة في نطاق القدرة البشرية التي يقنع فيها الإنسان إنسانا ليهديه إلى الإيمان بما يريد له الإيمان به.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لأنكم ـ أنتم ـ الذين تحصلون على نتائجه في الدنيا والآخرة، وليس لله من ذلك شيء، لأن الغني عنكم وعن كل عباده ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهو الذي ينبغي أن يتوجه الناس إليه في صدقاتهم وفي كل أعمالهم، لأنه ـ هو ـ الذي يملك المصير كله والثواب كله، فله الأمر، فلا بد للعباد من اتباع مواقع رضوانه للحصول عليه ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في وجوه البر ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أجره كاملا غير منقوص ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فالله لا يظلم أيّ عبد من عباده حقا من حقوقه التي يستحقّها من خلال ما جعله له من ذلك في وعده له بالثواب على العمل الصالح، ولا ينقص منه شيئا.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/114.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّ المسلمين لم يرضوا بالإنفاق على غير المسلمين، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة، وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق، فقد جاء أنّ امرأة مسلمة تدعى (أسماء) كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاءتها أمّها وجدّتها تطلبان بعض العون منها، ولكن لمّا كانتا من المشركين وعبدة الأصنام، فقد امتنعت أسماء عن مدّيد المساعدة إليهما، وقالت: لا بدّ أن استجيز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك لأنكما لستما على ديني، وأقبلت إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم تستجيزه، فنزلت الآية المذكورة.

2. تحدّثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن‏ في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتّى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان، وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام، وهذا الأسلوب مرفوض، ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم إلّا أنّه في الواقع يستوعب كلّ المسلمين، ثمّ تضيف الآية ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ومن تكون له اللياقة للهداية.

4. بعد هذا التذكّر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، هذا في صورة ما إذا قلنا أنّ جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ قد أخذت هنا بمعنى النهي، فيكون معناها أنّ إنفاقكم لا ينفعكم شيئا إلّا إذا كان في سبيل الله تعالى، ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة خبريّة، أي أنكم أيّها المسلمون لا تنفقون شيئا إلّا في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.

5. في آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيدا أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيّته حيث تقول الآية ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل أنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدّة، فعلى هذا لا تتردّدوا في الإنفاق أبدا، ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أنّ نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلا على تجسّم الأعمال.

6. الآية الكريمة تقول أنّ نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنّها تشمل الجميع بغضّ النظر عن العقيدة والدين، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين المستحبّ رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضا إذا اقتضت الضرورة، ومن الواضح أنّ الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني ففي هذه الصورة يكون جائزا، لا ما إذا كان موجبا لتقوية الكفر ودعم خطط الأعداء المشؤومة.

7. للهداية أنواع مختلفة: من الواضح أنّ المقصود من عدم وجوب هداية الناس على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لا يعني أنّه غير مكلّف بإرشاد الناس وهدايتهم لأنّ الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسئوليات النبي، وإنّما المقصود أنّه غير مكلّف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على اعتناق الإسلام، وهل أنّ المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينيّة أو التشريعيّة؟ لأن الهداية لها عدّة أنواع:

أ. الهداية التكوينية: وتعني أنّ الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدّم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحيّة، بل حتّى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها، إنّ نموّ الجنين في رحم أمّه ورشده، ونموّ البذرة في الباطن الأرض ورشدها، وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية، وهذا النوع من الهداية خاصّ بالله تعالى، ووسائلها عوامل وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية، يقول القرآن المجيد: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾

ب. الهداية التوقيفية: وتعني هداية الناس عن طرق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة، وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمّة والصالحون والمربّون المخلصون، وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾

ج. الهداية التوفيقية: وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاءون في مظان التقدّم، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربّين والمعلّمين المؤهّلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية، يقول القرآن: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾

د. الهداية نحو النعمة والمثوبة: وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختصّ بالمؤمنين الصالحين، يقول القرآن: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾، هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله، واضح أنّ هذا النوع من الهداية ترتبط بتمتّع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

8. الواقع أنّ هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكّل مراحل مختلفة متوالية لحقيقة واحدة:

أ. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الأخرى.

ب. يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحقّ، والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.

ج. ثمّ تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهّد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل، وهذه هي هداية التوفيق، وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.

9. هداية الإرشاد والدعوة التي تشكّل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء والأئمّة، وقسم منها ممّا يتناول تمهيد الطرق، يدخل معظمه ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمّة، والباقي يختصّ بالله تعالى، وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء، فذلك لا يخصّ النوعين الأوّلين.

10. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وهي هداية لا تأتي ارتباطا بدون حكمة ولا حساب، أي أنّه لا يمكن أن يهدي بهذا ويحرم ذاك بغير سبب، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي ينالها ويستفيد منها.

11. نستخلص من هذه الآية حقيقة أخرى، وهي أنّ الله تعالى يخاطب نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم قائلا: إذا ظهر بين المسلمين ـ بعد كلّ ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمنّ والأذى ـ أفراد ما يزالون يلوّثون إنفاقهم بهذه الأمور، فلا يسؤك ذلك، إنّ واجبك هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الاجتماعي السليم، وليس من واجبك أبدا أن تجبرهم على تجنّب هذه الأمور، وهذا التفسير لا يتنافى مع التفسير السابق، فكلاهما محتملان.

12. نلاحظ في جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنّ فوائد الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني، وطبيعي أنّ الإنسان يزداد حماسا لممارسة علمه حين يعلم أنّ منافع هذا العمل تعود إليه.

13. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله من ثواب في الآخرة، هذا بالطبع صحيح، ولكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ نتائج الإنفاق أخروية فحسب، بل أنّ له منافع في هذه الدنيا أيضا مادّية ومعنوية:

أ. ففائدته المعنوية هي أنّ روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوّة تتربّى في المنفق، وهذه في الواقع وسيلة مؤثّرة في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.

ب. أمّا فائدته المادّية فإنّ وجود أناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سببا في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها، فلا تبقي ولا تذر.

14. الإنفاق يقلّل من الفواصل الطبقيّة ويزل هذا الخطر الذي يهدّد الأفراد الأثرياء في المجتمع، فالإنفاق يطفئ ليهب غضب الطبقات المحرومة ويقضي على روح الانتقام في نفوسهم، من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهميّة الاجتماعية والسلامة الاقتصادية والجوانب المختلفة الماديّة والمعنوية.

15.﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ كلمة (وجه) بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ تعني ذات الله التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإنّ ورود كلمة (وجه) في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد، فمن‏ الواضح أنّ قولنا (لوجه الله) أو (لذات الله) أكثر تأكيدا من قولنا (لله)، فيكون المعنى أنّ الإنفاق لله حتما لا لغير الله، ثمّ إنّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق، ولهذا حيثما استعملت كلمة (الوجه) كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهميّة، وإلّا فإنّ الله منزّه عن الصورة الجسدية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/323.

133. الهداية والإنفاق والجزاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈133⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: لا يذبح نسككم إلا أهل ملتكم، ولا تصدقوا بشيء من نسككم إلا على المسلمين، وتصدقوا بما سواه غير الزكاة على أهل الذمة(1).

__________

(1) التهذيب: 9/67/284.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا؛ فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فرخص لهم(1).

2. روي أنّه قال: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين(2).

3. روي أنّه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(3).

__________

(1) الحاكم: ٢/٣١٣.

(2) الضياء في المختارة: ١٠/١١٥.

(3) ابن جرير: ٥/٢٠.

ابن الحنفية:

روي عن محمد بن الحنفية (ت 80 هـ) أنّه قال: كره الناس أن يتصدقوا على المشركين؛ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾، فتصدق الناس عليهم(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٣/١٧٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يتصدق على المشركين؛ فنزلت: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، فتصدق عليهم(1).

2. روي أنّه قال: كانوا يعطون فقراء أهل الذمة صدقاتهم، فلما كثر فقراء المسلمين قالوا: لا نتصدق إلا على فقراء المسلمين، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٩.

(2) ابن المنذر، وفي تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: لا نكلف محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بهداهم، إلا أن يبلغ رسالته، وقال الله لمحمد: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] (1).

2. روي أنّه قال في الآية: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أن رجالا من الصحابة قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٠.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج لا يتصدق عليه يقول: ليس من أهل ديني، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمرة القضاء، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول الله ؛ فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نزول هذه الآية أن تتصدق عليهما، فأعطتهما ووصلتهما(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾، يعني: المال(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ يعني: المال: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يعني: توفر لكم أعمالكم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ فيها(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ يعني: من مال ـ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، يعني: مالا ـ، للفقراء أصحاب الصفة؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعني: بما أنفقتم عليم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ نزلت في المشركين؛ لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غير زكاة، نزلت في أسماء بنت أبي بكر، سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صلة جدها أبي قحافة وعن صلة امرأته وهما كافران، فكأنه شق عليه صلتهما؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٤.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٥.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: سأله رجل ليس على دينه، فأراد أن يعطيه، ثم قال (ليس على ديني)، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن المنذر.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ هو مردود عليك، فما لك ولهذا تؤذيه وتمن عليه!؟ إنما نفقتك لنفسك، وابتغاء وجه الله، والله يجزيك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾قال: يقول: إنما لها ثواب نفقتها، وليس لها من عمله شيء، لو كان خير أهل الأرض لم يكن لها من عمله شيء، إنما لها أجر نفقتها، ولا تسأل عمن تريد تضع نفقتها فيه، فليس لها من عمله شيء، إنما لها ثواب نفقتها: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٢.

(2) ابن جرير: ٥/٢١.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: فهذه الصدقة التي هي على غير المسلمين هي تطوع، ولا يعطون من الواجب شيئا(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٢.

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، المعنى في هذه الآية والأولى واحد وإن اختلف التفسير، معناها أنه يخبر سبحانه أنه لم يفترض على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم قسر قلوبهم على الهدى، وجبرها حتى تكون مخلصة في أعمالها، كما افترض علىه قسر ألسنتهم على التكلم بالإيمان والنطق به، وكما افترض عليه قسر جوارحهم على ظاهر أعمالهم في أداء فرائضهم كلها، فأخبر الله نبيه أن الذي افترض عليه فيهم أمره بدعائهم وجهادهم، هو الظاهر مما يناله ويقدر عليه منهم، مثل التكلم بالإسلام والقرار به، واستعمال الجوارح في الصلاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك من ظاهر الأفعال، التي يحقنون بها دمائهم عن القتل، وحُرمهم عن السبي، وأموالهم عن الأخذ، وأنه لم يفترض عليه ولم يكلفه صلاح قلوبهم وإيمانها، ولا علِمَ باطنها وضميرها، واستخراج مكنون غيبهم، يكونون بذلك من فعل نبيه مهتدين حقا، وينتظمهم اسم الإيمان صدقا، فأخبر جل جلاله بما ذكر من ذلك وفيه، أن عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم إصلاح ظاهرهم، والمعاملة منه على ذلك لهم، وأن الله سبحانه معاملهم على باطن ضمائر القلوب، وأن الله سبحانه العالم بما تنطوي عليه قلوبهم من الغيوب، ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31](1).

__________

(1) تفسير الإمام الهادي: 1/155.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ؛ فدل أن هناك فضل هدى، لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له، وهذا يرد على المعتزلة، ومن وافقهم ويكذبهم أن كل الهدى: البيان؛ إذ لو كان كل الهدى بيانا لكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يملك ذلك، إذ عليه البيان، فدل أنه لا يملك الهدى المراد في الآية؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق.

2. يحتمل قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي حساب ترك اهتدائهم، كقوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 52]، و﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ [آل عمران: 20]

3. ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ أي مال، ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾:

أ. قيل: يعنى: فلأنفسكم الثواب.

ب. وقيل: يعنى: منفعته لكم.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتمدوا من الدين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدين؛ فبين جل وعلا: أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم، وتكفير ما ارتكبتم.

5. في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ فهو دليل لأصحابنا (2)؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة.

6. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يعنى: يوفر عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ في حرمان الثواب والجزاء.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/266.

(2) يقصد الحنفية

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان:

أ. أحدهما: ما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بمنع المشركين الأقرباء من الصدقة ليدخلوا في الإسلام فعلى هذا معناه الاباحة.

ب. الثاني: قال الحسن، وأبو علي الجبائي، والزجاج: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بالحمل على النفقة في وجوه البرّ فعلى هذا معناه التسلية والتقدير ليس عليك أن تهدي الناس إلى نيل الثواب، والجنة وإنما عليك أن تهديهم إلى الايمان بأن تدلهم عليه لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يغتم إذا لم يؤمنوا ولم يقبلوا منه لعلمه بما يصيرون إليه من العقاب فسلّاه الله بهذا القول، وإنه لا ينبغي ترك مواساة ذوي القربى من أهل الشرك ليدخلوا في الإسلام فيكون ذلك مبيحاً للصدقة المندوبة عليهم.

2. قال ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير: نزلت هذه الآية لأنهم كانوا يتقون الصدقة على المشركين حتى نزلت‏ ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان في المعلوم أنه يصلح باللطف وليس كل أحد يصلح به فلذلك جاء الاختصاص بالمشيئة.. وهو اختيار البلخي وابن الأخشاد والزجاج وأكثر أهل العلم.

ب. وقال أبو علي الجبائي: الهداية في الآية هو إلى طريق الجنة وذلك يختص بالمؤمنين المستحقين للثواب.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ معناه فلهذا يجب ألا تمنوا بالصدقة والإنفاق: إذ كان لأنفسكم من حيث هو ذخر لكم ولابتغاء وجه الله الذي هو يوَّفر به الجزاء لكم فهو من كل وجه عائد عليكم وليس كتمليك الله لعباده إذ نفعه راجع عليهم كيف تصرفت الحال بهم، فلذلك افترق ذكر العطية منه تعالى، والعطية من غيره.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: إلا ابتغاء رضوان الله، واستدل بذلك على حسن باطن المعنيين بالآية، وانهم كانوا ينفقونه لوجه الله خالصاً.

ب. وقيل: معناه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فكيف يضيع سعيكم وإنفاقكم.

6. قيل في ذكر الوجه قولان:

أ. أحدهما: لتحقيق الاضافة إليه، لأن ذكره يزيل الإبهام انه له أو لغيره، لأنك إذا اختصصت ذكر الوجه ومعناه التبيين، دل على أنك أردت الاختصاص وإزالة الإبهام، ورفع الاشتراك وحققت الاضافة.

ب. الثاني: لأشرف الذكرين في الصفة لأنه إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من فعلته [لزيد]، لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر في الصفة فقط من غير تحقيق وجه ألا ترى أنك تقول: وجه هذا الأمر كذا وهذا أوجه الرأي وهذا أوجه الدليل فلا تريد تحقيق الوجه‏ وإنما يريد أشرف ما فيه من أجل شدة ظهوره وشدة بيانه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/354.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الوجه: مستقبل كل شيء، وقد يعبر بالوجه عن الذات، يقال: هذا وجه الرأي، ويستعمل في الرضا، يقال: جعلته لوجه اللَّه تعالى أي لرضاه، وهو توسع.

ب. الخير: النفع الحسن.

2. في اتصال قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بما تقدم وجهان:

أ. قيل: ليس عليك هداهم بمنع المشركين من الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فمعناه على هذا الإباحة، عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة.

ب. وقيل: ليس عليك هداهم بالحمل على النفقة في وجوه البر فهو تسلية له، عن الحسن وأبي علي والزجاج.

3. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

أ. قيل: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين نهاهم رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فكانوا ينفقون الصدقة على المشرك حتى نزلت الآية، عن محمد بن الحنفية وابن عباس وسعيد بن جبير.

ب. وقيل: لما اعتمر رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عمرة القضاء واعتمرت أسماء بنت أبي بكر قصدتها أمها وجدتها يسألانها، فأتت حتى تسأل رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما سألت نزلت الآية عن الكلبي.

ج. وقيل: كان أناس لهم أصحاب وقرابة من اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا، فلما أسلموا استأمروا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية في ذلك.

د. وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو على جماعة قتلوا أصحابه، فنزلت الآية فكف عن اللعن مصلحة.

4. ثم بَيَّنَ تعالى تمام أمر الصدقة، وما يستحقه المتصدق، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿هَدَاهُمُ﴾:

أ. قيل: إلى الجنة والثواب بحملهم على الإيمان، عن أبي علي.

ب. وقيل: ليس عليك هداهم بمنع الصدقة ليسلموا لحاجتهم إليها.

ج. وقيل: ليس عليك أن يهتدوا؛ لأنه بعث هاديًا كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ ولكن إذا هداهم فلم يهتدوا فليس ذلك عليك، عن الأصم وأبي مسلم.

د. وقيل: ليس عليك هداهم يعني تخلصهم من الشدة بإعطاء الصدقة يعني له أن يتصدق عليهم وإن لم يكن عليه، قال القاضي: وهذا بعيد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: يعني إلى الثواب لقدرته عليه، ولكن لا يفعل إلا بالمؤمنين المستحقين لذلك، عن أبي علي.

ب. وقيل: يهدي من يشاء بألطافه ممن المعلوم أنه يصلح باللطف دون من لا لطف له، عن أبي القاسم وأبي بكر.

ج. وقيل: يهدي من يشاء بإجبارهم على الإيمان، عن الأصم وأبي مسلم.

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي لا تمنوا بذلك على أحد إذ هو لكم من حيث تجازون عليه، فنفعه عائد عليكم ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي طلب رضاه.

7. في ذكر الوجه قولان:

أ. الأول: تحقيق الإضافة؛ لأن ذكره يرفع الإيهام أنه له ولغيره، والمراد به النفس.

ب. الثاني: لأنه أشرف الذكرين في الصفة؛ لأنك إذا قلت فعله لوجه ربه فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾:

أ. قيل: هو صدقة التطوع.

ب. وقيل: الكل داخل فيه، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.

9. من حمله على التصدق على أهل الذمة حمله على التطوع ومن حمله على أهل الإسلام حمله على الكل.

10. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يوفر عليكم جزاؤه يعني يؤدِّي إليه؛ لذلك أدخل إلى ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيء.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الهدى يختص به القديم تعالى؛ لأنه إما أن يكون دلالة أو لطفًا أو نجاة أو إجبارًا فجميع ذلك مما يختص به سبحانه، فأما الرسول فهو يدعونا مرة ويبين ببيانه، فأما الاهتداء فهو فعل العبد لذلك قال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾

ب. أن العبد مختار؛ لذلك صح أن يهتدي مرة، ولا يهتدي أخرى.

ج. أن عاقبة الخير ونفعه يعود على فاعله، فيدل أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال.

د. أن الصدقة إنما تصح متى فعلت لمرضاة اللَّه تعالى.

هـ. أنه تعالى يوفي الجزاء، فتدل على أن الأعمال يستحق عليها الجزاء ولا بد من شرط وهو السلامة مما يحبطه.

و. بطلان مذهب الجبر من حيث نفى الظلم عن نفسه، وليس المراد به اللفظ بل المراد به المعنى، وهو منع المستحق ما استحقه، أو عقوبة من لا يستحقه، ولو كان الكفر خلقًا له فعاقبهم عليه أو عاقبهم من غير معصية كان ظلما، فيبطل قولهم في المخلوق وفي أطفال المشركين أن الثواب والعقاب ليس بجزاء.

12. مسائل نحوية:

أ. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ شرط وجزاء؛ ولذلك حذف النون.

ب. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، وفيه إضمار، يعني وما تنفقون ولا تقصدون به إلا ابتغاء وجه اللَّه فلأنفسكم يوف إليكم عن أبي علي، وقيل: تقديره: لا تكونوا منفقين حتى تبتغوا وجه اللَّه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/118.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس وابن الحنفية وسعيد بن جبير.

ب. وقيل: كانت أسماء بنت أبي بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عمرة القضاء، فجاءتها أمها فتيلة وجدتها، تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئا حتى أستأذن رسول الله ، فإنكما لستما على ديني، فاستأذنته في ذلك، فأنزل الله هذه الآية، عن الكلبي.

2. قيل في وجه اتصال قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ بما قبله وجوه:

أ. أحدها: إن معناه: ليس عليك هداهم بمنع الصدقة عنهم، لتحملهم به على الإيمان، وهو نظير قوله ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وعلى هذا يكون معناه الإباحة للتصديق عليهم بصدقة التطوع.

ب. وثانيها: إن معناه ليس عليك هداهم بالحمل على النفقة في وجوه البر، وسبل الخير، عن الحسن وأبي علي الجبائي، وتقديره: ليس عليك أن تهدي الناس إلى نيل الثواب والجنة، إنما عليك أن تهديهم إلى الإيمان بان تدلهم عليه، وهذا تسلية للنبي لأنه كان يغتم بترك قبولهم منه، وامتناعهم عن الإيمان، لعلمه بما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، فسلاه الله تعالى بهذا القول.

ج. وثالثها: إن المراد ليس عليك أن تهدي الناس بعد أن دعوتهم، وأنذرتهم، وبلغتهم ما أمرت بتبليغه، ونظيره ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ وليس المعنى ليس عليك أن تهديهم إلى الإيمان والطاعة، لأنه ما بعث إلا لذلك.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان المعلوم منه أنه يصلح باللطف أي: بلطف الله بزيادة الهدى والتوفيق لمن يشاء، عن الزجاج وأبي القاسم البلخي، وأكثر أهل العلم.

ب. وقيل: معناه يهدي إلى طريق الجنة، عن الجبائي.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: ما تنفقوا في وجوه البر من مال، فلأنفسكم ثوابه، والغرض فيه الترغيب في الانفاق، لأن الانسان إذا علم منفعة إنفاقه عائدة إليه، مختصة به، كان أسمح بالإنفاق، وأرغب فيه، وأحرص عليه، وبذلك يفارق عطية الله لأن المنفعة في عطائه عائدة إلى المعطي، ومختصة به دون الله، ومعظم المنفعة في عطية العبد ترجع إليه، وتختص به، دون المعطى.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي: إلا طلب رضوان الله، واختلفوا:

أ. قيل: هذا إخبار من الله عن صفة إنفاق المؤمنين المخلصين، المستجيبين لله ولرسوله، أنهم لا ينفقون ما ينفقونه إلا طلبا لرضاء الله تعالى.

ب. وقيل: إن معناه النهي، وإن كان ظاهره الخبر أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء مرضاة الله.

6. في ذكر الوجه هنا قولان:

أ. أحدهما: إن المراد به تحقيق الإضافة، لأن ذكر الوجه يرفع الإبهام، أنه له ولغيره، وذلك أنك لما ذكرت الوجه، ومعناه النفس، دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك إلى تحقيق الاختصاص، وكنت بذلك محققا للإضافة، ومزيلا لإيهام الشركة.

ب. والثاني: إنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد، كان أشرف في الذكر من فعلته له، لأن وجه الشئ في الأصل، أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر من غير تحقيق وجه، ألا ترى أنك تقول: وجه الرأي، ووجه الأمر، ووجه الدليل، فلا تريد تحقيق الوجه، وإنما تريد أشرف ما فيه من جهة شدة ظهوره، وحسن بيانه.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: يوفر عليكم جزاؤه وثوابه، والتوفية: إكمال الشئ، وإنما حسن إليكم مع التوفية، لأنها تضمنت معنى التأدية.

ب. وقيل: معناه تعطون جزاءه وافرا وافيا في الآخرة، عن ابن عباس.

8. ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ بمنع ثوابه، ولا بنقصان جزائه، كقوله: ﴿آتت أكلها ولم تظلم منا شيئا﴾ أي: لم تنقص.

9. مسائل نحوية:

أ. ﴿ما تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾ شرط وجزاء ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قيل: لفظه نفي، ومعناه النهي أي: لا تنفقوا كقوله: لا يمسه إلا المطهرون وقيل: هي جملة مفيدة بنفسها على ما قبلها، وهو خبر على ظاهره، وابتغاء نصب لأنه مفعول له.

ب. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ شرط كالأول، ولذلك حذف النون في الموضعين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/660.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ في سبب نزولها قولان:

أ. أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدّقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.

ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم)، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.

2. الخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل، ومعنى: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، أي: فلكم ثوابه.

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، قال الزجّاج: هذا خاصّ للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.

4. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾، أي: توفّون أجره، ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فإن تصدّقتم عليهم أثبتم، والآية محمولة على صدقة التّطوّع، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصّدقة المفروضة شيئا.

__________

(1) زاد المسير: 1/245.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق، وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو.

2. في بيان سبب النزول وجوه:

أ. أحدها: أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها، وكذلك جدتها وهما مشركتان، أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تتصدق عليهما.

ب. الثاني: كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية.

ج. الثالث: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان لا يتصدق على المشركين، حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم.

3. المعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ﴾ [الممتحنة: 8] فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين.

4. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وجهان:

أ. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]، وقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]، وقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: 128] فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك، فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم.

ب. وفيه وجه آخر: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان‏ المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار.

5. ظاهر قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ خطاب مع النبي ، ولكن المراد به هو وأمته، ألا تراه قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271] وهذا خطاب عام، ثم قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وهو في الظاهر خاص، ثم قال بعده:‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً.

6. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ على أن هداية الله تعالى غير عامة، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إثبات للهداية التي نفاها بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لكن المنفي بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، فكان قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.

7. ذكر المعتزلة، ومن وافقهم أن قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ يحتمل وجوهاً:

أ. أحدها: أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك.

ب. ثانيها: يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاؤوا.

ج. ثالثها: ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله.

د. رابعها: أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.

8. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هو المنفي أولًا بقوله‏: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولًا: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ هو الاهتداء على سبيل الاختيار، فالمثبت بقوله‏: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه.

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ المعنى: وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم.

10. في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.

ب. الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى: ﴿الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ‏﴾ [البقرة: 233]، ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: 228]

ج. الثالث: أن قوله‏: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

11. في ذكر في الوجه في قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ.

ب. الثاني: أنك إذا قلت: فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال: فعلته له ولغيره أيضاً، أما إذا قلت‏ فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة.

12. أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم، فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره، وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.

13. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة، وإنما حسن قوله‏: ﴿إِلَيْكُمْ﴾ مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى‏: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] يريد لم تنقص.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/66.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾:

أ. قيل: هذا الكلام متصل بذكر الصدقات، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين:

روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله : (لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم)، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.

وذكر النقاش أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني، فقال النبي : (ليس لك من صدقة المسلمين شيء)، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات.

وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك.

وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك.

وحكى الطبري أن مقصد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾

ب. وقيل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ليس متصلا بما قبل، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام.

2. قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع، وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر، لقوله : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم)، قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا، وقال المهدوي: رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية، قال ابن عطية: وهذا مردود بالإجماع، والله أعلم، وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم زكاة الفطر، وقال ابن العربي: وهذا ضعيف لا أصل له، ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين، وقد قال النبي : (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم) يعني يوم الفطر.. وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين، وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة، وهو أحد القولين عندنا، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات، قال ابن عطية: وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين.. وفي التنزيل ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خص منها الزكاة المفروضة، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمعاذ: (خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم) واتفق العلماء علن ذلك على ما تقدم، فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا.

3. قال ابن العربي: فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب، وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين، وفي صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غني وسارق وزانية وتقبلت صدقته، على ما يأتي بيانه في آية الصدقات.

4. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي يرشد من يشاء، وفي هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة، ومن وافقهم.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ شرط وجوابه، والخير في هذه الآية المال، لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾، وقوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، إلى غير ذلك، وهذا تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال، وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾

6. ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه، و﴿ابْتِغَاءَ﴾ هو على المفعول له، وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم، وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسعد بن أبي وقاص: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك)

7. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ تأكيد وبيان لقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم. ‌‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/338.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي: ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين، قابلين لما أمروا به ونهوا عنه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة، وفيها الالتفات.

2. المراد بقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ كل ما يصدق عليه اسم الخير كائنا ما كان، وهو متعلق بمحذوف، أي: أيّ شيء تنفقون كائنا من خير، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه: أي: لابتغاء وجه الله.

3. ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي: أجره وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف.

﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أو بمحذوف: أي: اجعلوا ذلك للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: إنفاقكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/336.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمنّ والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل‏ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايميّ، قال أبو السعود: والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله ، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين، مبالغة في حملهم على الامتثال، فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية.

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي بالحقيقة لأن المنفق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبديّ، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا القرآن كثيرة كقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ [فصلت: 46]

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ نفي في معنى النهي، أي فلا تستطيلوا به على الناس ولا تراؤوا به، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ ثوابه أضعافا مضاعفة ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/212.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ﴾ أيُّها النبيء أو مطلق المسلم ﴿هُدَاهُمْ﴾ هُدَى المشركين إلى الإسلام بالقهر بقطع النفقة عنهم، فهو هدى إيصال بل عليك وعلى أصحابك البلاغ، والحثُّ على المحـاسن وليـس عليك هدى هؤلاء المأمورين بالمحاسن المنهـيِّين عن المساوئ، ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَّشَآءُ﴾ هدايتَه، هدايةَ إيصال إلى الإسلام، وأمَّا هُدى بَيَان فتعمُّ كلَّ مكلَّف.

2. نزلت في قوم من الأنصار لَمَّا أسلموا قطعوا النفقة عن أصهارهم وقرابتهم من اليهود ليسلموا، وكان المسلمون يتصدَّقون على فقراء أهل المدينة، وَلَمَّا كثر المسلمون منع صلّى الله عليه وآله وسلّم الصدقة على أهل الشرك ليدخلوا في الإسلام، وقال: (لا تَصدَّقوا إِلَّا على أهل دينكم) بفتح التاء والدال، فنزلت الآية.

3. ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ مال قليل أو كثير ولو على مشرك، ولا حظَّ لمشرك في واجبٍ كزكاة، ولا لحربيٍّ بعد نزول القتال ولو نفلاً، ولا في دينار الفراش، ولا شاة الأعضاء وزكاة الفطر، وأجاز أبو عبيدة الكفَّارة الصغيرة للذمِّيِّ، وأجاز له أبو حنيفة زكاة الفطر والكفَّارات كلَّها والنذر وكلَّ صدقة ليس أمرها إلى الإمام، وهو خطأ.

4. ﴿فَلِأَنفُسِكُمْ﴾ فثوابه لأنفسكم، فلا وجه لترك الإنفاق أو الإيذاء أو المنِّ أو الرئاء، أو قصد الإنفاق من الخبيث.

5. ﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ﴾ إعظامِه أو ثوابه، أي: الأمر الحقُّ ذلك، أو الحكم الشرعيُّ ذلك، فذلك إخبار، أو بمعنى النهي، أي: لا تنفقوا إِلَّا ابتغاء وجه الله، أو فلأنفسكم في حال قصدكم بالإنفاق وجه الله، وهذا أولى، وذكر الوجه إعظام ونصٌّ على نفي توهُّم الشركة، [وقولنا]: (أعطيتك لأبيك) دون (أعطيتك لوجه أبيك)، فإنَّ الوجه أشرف ما في الإنسان، تعالى الله عنه، حتَّى إنَّه يعبَّر به عن الشرف، وقيل: وجه الله ذات الله سبحانه، وقيل: الوجه هنا بمعنى الرضا.

6. ﴿ومَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ يوفَّ إليكم جزاؤه مضاعفًا في الآخرة، أو فيها وفي الدنيا، أو يوفَّ لكم في الدنيا لا ينقص، وإن شاء الله زاد ويضاعف في الآخرة، وذلك إجابة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اللهم عجِّل للمنفق خلفًا)، ﴿وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ بنقص الثواب أو إبطاله، أو الظلم نفس النقص.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/156.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: المعنى أن هذه الوقائع تقدمت نزولها، فلما نزلت كانت فصلا فيها وإلا فهي مرتبطة بما قبلها، وما قبلها نزل في الفقراء عامة، قال محمد عبده: إن الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر، وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرج من الإنفاق على المشركين لأنهم غير مهديين؛ فإن الرحمة بالفقير وسد خلته لا ينبغي أن تتوقف على إيمانه، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يكون سابقا لسائر الناس بالكرم والفضل.

2. الخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث ابن عباس الأول خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنهيه عن الإنفاق، وعلى هذا فالتوجيه عام موجه إلى المؤمنين كافة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد، ويؤيده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكلف هداية الكافرين بالفعل وإنما كلف البلاغ فقط، وأعلم أن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم، وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولى بألا يكلف ذلك، فليس علينا إذا أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذبا له إلى الإيمان واضطرارا له إلى الهداية، فإن الهداية ليست علينا ولكن الله يهدي من يشاء بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدي إلى الاعتقاد الجازم الذي يثمر العمل، وأما الباعث على الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه ـ سبحانه ـ في قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾.. قالوا: معنى هذا أن نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم، هكذا صرح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة، وقال محمد عبده هنا: أي لأن نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة، وسيأتي أنه يجعله خاصا بالدنيا.

3. معنى كونه خيرا في الدنيا(2) أنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم، ثم يسري شرهم إلى غيرهم، وربما صار فسادا عاما بسوء القدوة، فيذهب بالأمن والراحة من الأمة، وقد تقدم لهذا الكلام نظير في موضع آخر.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قد يكون خيرا على ظاهره، أي لا تنفقون لأجل جاه أو مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله فلا فرق بين معط ومعطى إلا إذا كان الفقير مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الرحيم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لاعتقاده، ويؤيده قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

5. في كون الإنفاق لا يكون إلا لوجه الله إشارة إلى أن الإنفاق على الكافرين إذا كان إعانة لهم على إيذاء المسلمين لا يكون جائزا؛ لأنه لا يكون مرضيا لله تعالى يبتغي به وجهه، وأكثر المفسرين على أنه خبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلا لوجهه وابتغاء مرضاته ـ عز وجل ـ.

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي في الآخرة لا ينقصكم منه شيء، وعد أولا بأن خير الإنفاق عائد على المنفقين في الدنيا بقوله: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ ثم وعد بالجزاء عليه في الآخرة موفى تاما، وقال: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من الجزاء عليه شيئا ولو نقيرا أو فتيلا(3).

7. الذي كان تبادر إلى فهمي من قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أنه بمعنى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم أي إن أي نفقة من الخير أنفقتم فهي تفيدكم في تثبيت أنفسكم في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، والحال أنكم ما تنفقون ذلك إلا ابتغاء وجه الله وإرادة رضوانه، ومتى كان الإنفاق كذلك كان مزكيا ومثبتا للنفس معدا لها، ومؤهلا لرضوان الله لا يمنع من ذلك كون المنفق عليه مؤمنا أو كافرا؛ إذ الإنفاق ليس لأجل التقرب إليه وابتغاء الأجر منه.

8. بعد أن ذكر الله تعالى الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾.. أي وإنكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقة لقرب الله ورضوانه، لا يضيع عليكم ما تنفقونه، بل توفونه لا تظلمون منه شيئا، ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة والكلام على هذا التفسير أشد التئاما وأحسن نظاما، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان.

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ جملة حالية قيد في الشرطية الأولى؛ وللإنفاق على هذا فائدتان:

أ. أولاهما: وهي المقصودة بالذات: تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه.

ب. والأخرى: الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين.

10. ابتغاء وجه الله بالعمل هو أن يعمل له دون سواه تقربا إليه وإرضاء له لذاته لا للتشوف إلى شيء آخر، كأن المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط، ولا يفهم هذا حق فهمه إلا من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك، ذلك أن منهم من يعمل للملك خوفا من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه، ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل فهو لا يفكر في غيره، ومنهم من يعمل فيجيد العمل لأجل الارتقاء من جزاء إلى أكبر منه، ومنهم ـ وهو أعلاهم مرتبة ـ من يعمل العمل الحسن المرضي للملك لأجل أن يكون في نظره محسنا عارفا قيمة العمل الذي أمر به وما وراءه من الحكمة التي كانت علة الأمر فمثل هذا يصح أن يقال فيه: إنه مبتغ وجه الملك، أي أن يكون في الجهة التي يراه فيها محسنا، فإن من يتعرض لأن يرى فإنما يأتي من تلقاء الوجه، ومن الناس من يعمل العمل لا يبتغي به إلا أن يواجه الناس ـ لا الملوك خاصة ـ بما يعتقدون أنه كمال لا يبتغي غير ذلك من جلب نفع أو دفع ضر، فأرشد الله الإنسان أن يكون في عمله الصالح مع الله تعالى كذلك، أي أن يكمل نفسه بالعمل ويبتغي أن يراه الله تعالى كاملا يعمل العمل لأنه حسن، تتحقق به حكمته تعالى، وتقوم به سننه في صلاح البشر، ولك أن تقول: إن معنى ابتغاء وجه الله تعالى هو طلب إقباله ومحبته للعامل، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فمعنى خلو وجهه لهم ألا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبته لهم مشارك.

11. لبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله، وهو أن لكل شيء وجهين: وجها إلى هذا العالم الحادث، وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له؛ لأن جميع المحدثات عرضة للزوال.. ووجها إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله تعالى، فمعنى وجه الله بالاتفاق على هذا المنزع، أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة، وهي إنما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

12. إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول: إن الوجه صفة لله تعالى أو إنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول: وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله التي سماها وجها، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين، وعلى الثاني وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى، هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن محمد عبده اكتفى ـ كالمفسرين ـ بجعله معنى مرضاة الله تعالى، وهو صحيح.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/83.

(2) الكلام هنا وما بعده لمحمد عبده

(3) علق محمد رشيد رضا على هذا بقوله: (وقد رأيت أنه جعل هنا قوله تعالى: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ خاصا بالدنيا، وما نقلناه عنه أولا من أنه عام قد قاله في الدرس، فهل كان سبق لسان أم رجع عنه عند تمام تفسير الآية، وكيف فاتنا أن نسأله عن ذلك؟ هذا ما وجدته في مذكرتي لا أذكر شيئا غير ذلك

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أرشد الله تعالى في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغي التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلّته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود.

2. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث.

3. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن في الأمة، وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقىّ أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته ـ لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا، وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/48.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾.. روى ابن أبي حاتم ـ بإسناده ـ عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾.. إلى آخرها).. فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين.

2. إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله ـ ولو كان هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنه من أمر الله وحده، فهذه القلوب من صنعه؛ ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله، وما على الرسول إلا البلاغ، فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم ـ سبحانه ـ أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه، وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده.. ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم؛ ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.. فلتفسح لهم صدرك، ولتفض عليهم سماحتك، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك، وأمرهم‏ إلى الله، وجزاء المنفق عند الله، ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروضهم عليها.

4. إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده؛ ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب، إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله، يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله ـ سبحانه ـ يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة ـ ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة ـ دون نظر إلى عقيدتهم.

5. ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله، وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام؛ ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾..

6. ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾.. إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هوى ولا عن غرض، لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، خالصا متجردا لله.. ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله، ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض، وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/315.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن دعا الله سبحانه وتعالى إلى الإنفاق في سبيل الله، وبيّن وجوه هذا الإنفاق وأسلوبه، والعوارض التي تعرض له، وما ينبغي على العاقل من تجنبها، حتى يكون هذا الإحسان مقبولا عند الله ـ بعد أن بين سبحانه وتعالى كل هذا أوضح بيان، لم يبق إلا أن ينظر الإنسان لنفسه، وأن يتخيّر طريقه، فأما أن يستمع إلى ما أمر الله به ويسير عليه، فيسلم‏ ويسعد، وإمّا أن يسلم يده للشيطان، ويتبع سبيله فيضل ويشقى، فليحمل الإنسان إذن مسئولية هداه أو ضلاله‏ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، وليس على النبيّ إذن حمل النّاس حملا على الإيمان، وإكراههم إكراها على الهدى، فما على الرسول إلّا البلاغ، فمن أراد الله له الخير شرح الله صدره، وشدّ عزمه، وثبت قدمه على طريق الحق والخير، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي هو لكم ثوابه، وإليكم عائدة ثمرته، وذلك إذا كان هذا الإنفاق ابتغاء وجه الله، خالصا له، بعيدا عن الرياء والمنّ والأذى‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهو الوجه المقبول عند الله، وهو الوجه الذي يجب أن يتوجه إليه الإنفاق‏ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي أن ما أنفقتموه على هذا الوجه فهو مقبول عند الله، يجزيكم به أضعافا مضاعفة ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/347.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ استئناف معترض به بين قوله‏: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271] وبين قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ومناسبته هنا:

أ. أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس: منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم‏ الذين يبطلون صدقاتهم بالمنّ والأذى، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء، وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي ، فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ، فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النّبي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة، فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون.

ب. وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنّه كان لأسماء ابنة أبي بكر أمّ كافرة وجدّ كافر فأرادت أسماء ـ عام عمرة القضية ـ أن تواسيهما بمال، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين عن الصدقة على الكفّار، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الآيات، أي هدى الكفّار إلى الإسلام، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة، فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب، فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية، والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسّر للهدى.

2. الخطاب في‏ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم، ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك.

3. (على) في قوله‏: ﴿عَلَيْكَ﴾ للاستعلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب، والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.

4. تقديم الظرف وهو ﴿عَلَيْكَ﴾ على المسند إليه وهو ﴿هَدَاهُمُ﴾ إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بيّنا لا غبار عليه نحو ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيّدة نسبتها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها، فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيّدة، أي نفي ذلك الانحصار، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيّد أن ينصبّ على ذلك القيد، لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سوّوا فيها بين الإثبات ـ كما ذكرنا ـ وبين النفي نحو ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: 47]، فقد مثل به في (الكشاف) عند قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] فقال: (قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا)، وقال السيد في شرحه هنالك (عدّ قصرا للموصوف على الصفة، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور)، وقد أحلت عند قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] على هذه الآية هنا، فبنا أن نبيّن طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة، وإلى هذا أشار السيّد في شرح (الكشاف) عند قوله‏: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إذ قال (وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه)، وعلى هذا بنى الزمخشري فجعل وجه أن لم يقدّم الظرف في قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ كما قدم الظرف في قوله: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ لأنّه لو أوّل لقصد أنّ كتابا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد.

5. إذا تقرر هذا فقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني، فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري:

ما فيه من عيب سوى أنّه‏

يوم النّدى قسمته ضيزى‏

بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك‏ مفوّضا إلى الله فمن قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله، فيلزم من ذلك أنّه على الله، أي مفوّض إليه.

6. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهّم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصبّ الاستدراك هو الصلة، أعني‏ ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشإ الله هداه، والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء أن يهديهم هداهم.

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، عطف على جملة ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 271]؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.

8. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها، ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه الله، وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ ـ وجملة ـ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه، وكرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلّا لابتغاء وجه الله.

10. تقديم‏ ﴿وَأَنْتُمْ﴾ على الخبر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم‏ لا يظلمون، وإنّما يظلمون أنفسهم.

11. إنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني، فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال.

12. أخذ من الآيات الأخيرة ـ على أحد التفسيرين ـ جواز الصدقة على الكفّار، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران، واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان، ففي الحديث الصحيح: قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجرا، فقال: (في كل ذي كبد رطبة أجر)

13. اتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة ـ أعني الزكاة ـ لا تعطى للكفّار، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة، ففيه غنى المسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة، واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشبه، فإنّ العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدّق لا حال المتصدّق عليه، وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/539.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ كان المسلمون الأولون قلة في أرض العرب، وكان المشركون يحيطون بهم، واليهود يجاورونهم، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة، أو على الأقل صلة جوار، فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك، مع شديد حاجته إليه، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة، ولأن فقراء المسلمين الأولى، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها، فإنك تكرم إنسانيته، لا يهوديته، ولا نصرانيته ولا إشراكه، ولقد روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقال ابن عباس أيضا: (كانوا (أي أصحاب رسول الله ) يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرخص لهم، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾

2. بهذين الخبرين يتبين أن هذه الآية الكريمة نزلت لبيان أن الصدقة تسوغ على غير المسلم، بل تجب إذا كان غير المسلم في حاجة شديدة، ويخشى عليه إن لم يقدم له عطاء ينقذه.

3. هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين، بل يجب، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية، والإخاء الإنساني العام؛ فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام؛ فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال‏]

4. معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة؛ فليس عليك أن تهدى عاصيا، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فهو يهدى من يسير في طريق الهداية، ويفتح قلبه لنور الإيمان، فيوفقه المولى العلى القدير العليم بما تخفى الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه، وعليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن.

5. بهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح مقتدين بالنبي ، وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أبى سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشترى بها قمحا يفرج به ضائقتهم، ويسد حاجة المعوزين منهم، وهم ما زالوا مشركين، ولقد أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم)

6. إنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين، وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية؛ فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم؛ وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبى هريرة فقد قال قال رسول الله : (قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غنى، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غنى، قال اللهم لك الحمد على غنى، لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وغنى وسارق فأتى، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغنى أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته)

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ بيّن سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها، سواء أكان مؤمنا أم كان كافرا، وسواء أكان برا تقيا، أم كان فاجرا عصيا، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها؛ وخيريتها ثابتة من ثلاث نواح:

أ. الأولى: أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس؛ وهذا ما ذكره سبحانه بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوى صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها؛ فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدهم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبا، وافترست كل ما في طريقها؛ وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لأنه حماية لها.. فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرا؛ ولذا قال ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ فـ (من) الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفى كلّ خير يعود على النفس.

ب. الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر؛ ذلك لأنه لا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية؛ فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة، وقوله تعالى: ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ لا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه؛ وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطى كافرا عاصيا، ولقد قال بعض الصوفية في معنى ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي يطلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهى ناحية الله تعالى؛ ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين: وجها يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسى، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى.. هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه.

ج. الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها؛ والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفى الآخرة؛ أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع.

8. أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولّد منها؛ ولذا سماه بها، فقال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو، ثم ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون أيّ جزاء لعمل قدمتموه لا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1025.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، سبق في الآية 26 من هذه السورة ان الهدى يطلق على معان: منها الهدى بالبيان والإرشاد، وهذا وظيفة النبي، ومنها التوفيق من الله الى عمل الخير بتمهيد السبيل اليه، ومنها الاهتداء، أي تقبّل النصيحة والعمل بها، وهذا يسند الى العبد، ومنها الثواب، ومنها الحكم على العبد بالهداية..

2. معنى الهدى في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ الاهتداء وقبول النصح أي ليس عليك أن يعملوا بالحق، وإنما عليك إبلاغ الحق، وكفى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾، ومعنى الهدى في قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ التوفيق الى طريق الخير.

3. قيل في سبب نزول قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾: ان المسلمين كانوا لا يتصدقون إلا على أهل دينهم، فخاطب الله نبيه بهذه الآية، وأراد بها جميع المسلمين مبينا لهم ان الكافر لا يعاقب على كفره في هذه الحياة بمنع الرزق عنه، والتضييق عليه كي يضطر الى الايمان.. وليس لأحد أن يعامله بذلك، حتى ولو كان رسولا من عند الله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾

4. تدل الآية ان الصدقة على غير المسلم جائزة، فرضا كانت أو ندبا، ولكن قول النبي : (أمرت ان آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها على فقرائكم)، وهذا الحديث يخصص الآية بصدقة الندب، دون الفرض.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ربما توهم متوهم ان في الإنفاق خسارة له، وحرمانا لأهله وعياله، فدفع الله هذا الوهم بأنه يعود على المنفق بالخير والنفع دنيا وآخرة، أما في الآخرة فالأجر والثواب، وأما في الدنيا فقال الشيخ محمد عبده: (ان الإنفاق يكف شر الفقراء عن الأغنياء، لأن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر يندفعون على أهل الثروة بالسرقة والإيذاء والنهب، ثم يسري شرهم الى غيرهم، وربما صار فسادا عاما يذهب بالأمن والراحة)، ولا أدري هل استوحى الشيخ محمد عبده قوله هذا من النقابات العمالية التي‏ خلقت المعضلات والمشكلات لأرباب العمل، وأرغمتهم على الاعتراف بالكثير من حقوق العمال؟..

6. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، أي ما دمتم تقصدون بالنفقة وجه الله الكريم فهو يقبلها منكم، سواء أعطيتموها لمسلم أو غير مسلم، شريطة أن تكون من المال الجيد دون الرديء، وان لا تكون مع المن والأذى.. وقيل: ان هذا نهي بصيغة الإخبار، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله.

7. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، حتى ولو كان الإنفاق على غير المسلم، فإنكم لا تنقصون من الجزاء شيئا إذا كان الذي أنفقتم عليه محتاجا.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/426.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله ، وكان ما كان يشاهده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمن والأذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإيمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقاؤه حتى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوؤه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة.

2. الشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿هَدَاهُمُ﴾، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس، على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه.

3. جملة ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه ، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾، فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنن والتغيظ معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ كما لا يخفى، فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾

5. لما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فبين أن نفع هذا الإنفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبة الدنيا والآخرة ليس أمرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.

6. إبهام الفاعل في قوله: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/399.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ أن يكونوا في طريق الحق غير ضالين عنه، إنما عليك أن تهدي من يهتدي، وتقيم الحجة على من أبى، بأن تبين له الحق ليهلك من هلك عن بينة ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بألطافه وبأسباب من المهتدين كقبول الحق من أول معرفته وكالدعاء بالتوفيق وكالصدقة وغير ذلك.

2. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنفقتم؛ لأن نفعه لكم، وفي الحديث: (ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت) وروي أن بعض نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تصدقت بلحم واحدة من الغنم لم تبقِ منه إلا العنق، فقالت لرسول الله : لم يبقَ منها إلا العنق، فقال : (كلها بقي إلا العنق) هذا لفظ الحديث أو معناه، وقد تكرر الترغيب في الإنفاق؛ لعظم فائدته مع أن الأنفس أحضرت الشح؛ فهي تحتاج إلى التكرار.

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهذا هو الذي يبقى لكم ما تنفقون في حال أنكم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله أن ينظر إليكم أن يرضى عنكم؛ لأن شأن من يرضى منا عن إنسان أن ينظر إليه، كما أنه إذا سخط عليه أعرض عنه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: 77] فكما كان نفي النظر إليهم عبارة عن غضبه عليهم؛ كان النظر إليهم عبارة عن الرضى عنهم ويعبر عن ذلك بالوجه، ألا ترى أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 9] فقد كانوا يغارون من نظره إلى يوسف عليه السلام وأرادوا أن يكون نظره إليهم وحدهم؛ فعبروا عن النظر إليهم وحدهم بقولهم: ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ [يوسف: 9]، وأعتقد أن هذا هو السر في تكرار كلمة الوجه في مواضع التعرض لرضوان الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: 52]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28]، وغيرها، فهذه كقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 27]

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ فأنتم تقدمونه ليوفَّ إليكم يوم القيامة، ولا تظلمون أي لا تنقصون منه شيئاً، فالنفقة مع فوائدها العظيمة ترجع لصاحبها مع فوائدها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/396.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا تلتفت الآية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لتخفف عنه بعض الحالات السلبية التي قد تطوف في خاطره وهو يشاهد بعض أوضاع المؤمنين من حوله، إذ ينحرفون عن الخط الذي يأمرهم به وينهاهم عنه من شؤون الإنفاق، فقد كان يريد من المؤمنين أن يرتفعوا إلى مستوى إيمانهم في الانضباط والسير على هدى الله في جميع أمورهم، فأراد الله أن يضع له القضية في مكانها الطبيعي، من أن دور النبي هو أن يفتح لهم أبواب الهدى، ويهيئ لهم أجواء الفلاح، وتنتهي مهمته عند استنفاد كل الأساليب في ذلك، وتبقى للأسباب الأخرى الخارجة عن إرادة رسول الله واختياره، نتائجها السلبية والإيجابية فيما تقتضيه من حالات الهدى والضلال.. وهذا هو مدلول نسبة هدايتهم إلى الله، باعتبار ارتباط الأسباب العادية للأشياء بخالقها ومسبّبها، مما يوحي أن هذه النسبة لا تمنع نسبتها إلى العباد من حيث إنهم‏ السبب المباشر للأشياء.

2. ثم تلتفت الآية إلى المؤمنين لتدلهم على طريق الهدى وتدعوهم إلى سلوكه، وتوحي إليهم بالفكرة التي ترجع فوائد العمل للعامل من دون أن يرجع إلى الله منها شيء، وتهيب بهم أن يبتغوا وجه الله في إنفاقهم ـ إذا أنفقوا ـ لأن ذلك هو الذي يجعل منه معنى يتصل بالله ويرتبط بالآخرة، وهو الذي يستحق العبد من خلاله العوض من ربّه في الدنيا والآخرة من دون ظلم ولا حيف ولا نقصان.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ في إلزامهم القسري بطريقة غير عادية بالاستقامة على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي في الإنفاق وغيره بالسير على خط الإخلاص وعدم المنّ على الفقراء في العطية والابتعاد عن التثاقل والتلكّؤ في دائرة مسئولياتهم العامة والخاصة، فإن دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذ ـ من خلالها ـ الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي، لأن المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي.

4. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية، وبما يمنحه من ألطافه الخاصة لبعض عباده الذين يريد أن يقرّبهم إلى دينه من خلال حكمته ورحمته التي يختص بها من يشاء، وبذلك تكون المهمّة النبوية في الهداية مهمّة تشريعيّة، بينما تكون الخصائص التكوينية للهداية لله سبحانه بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي ضوء ذلك، كان نفي الهداية عن مسئولية النبي تتصل بالهداية الفعلية الوجودية وإثباتها لله في هذا الجانب، لتكون المسؤولية النبوية منحصرة في تهيئة الوسائل المتنوعة في نطاق القدرة البشرية التي يقنع فيها الإنسان إنسانا ليهديه إلى الإيمان بما يريد له الإيمان به.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لأنكم ـ أنتم ـ الذين تحصلون على نتائجه في الدنيا والآخرة، وليس لله من ذلك شيء، لأن الغني عنكم وعن كل عباده ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ فهو الذي ينبغي أن يتوجه الناس إليه في صدقاتهم وفي كل أعمالهم، لأنه ـ هو ـ الذي يملك المصير كله والثواب كله، فله الأمر، فلا بد للعباد من اتباع مواقع رضوانه للحصول عليه ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في وجوه البر ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أجره كاملا غير منقوص ﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فالله لا يظلم أيّ عبد من عباده حقا من حقوقه التي يستحقّها من خلال ما جعله له من ذلك في وعده له بالثواب على العمل الصالح، ولا ينقص منه شيئا.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/114.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّ المسلمين لم يرضوا بالإنفاق على غير المسلمين، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة، وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق، فقد جاء أنّ امرأة مسلمة تدعى (أسماء) كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله ، فجاءتها أمّها وجدّتها تطلبان بعض العون منها، ولكن لمّا كانتا من المشركين وعبدة الأصنام، فقد امتنعت أسماء عن مدّيد المساعدة إليهما، وقالت: لا بدّ أن استجيز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك لأنكما لستما على ديني، وأقبلت إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تستجيزه، فنزلت الآية المذكورة.

2. تحدّثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن‏ في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتّى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

3. ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان، وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام، وهذا الأسلوب مرفوض، ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا أنّه في الواقع يستوعب كلّ المسلمين، ثمّ تضيف الآية ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ومن تكون له اللياقة للهداية.

4. بعد هذا التذكّر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾، هذا في صورة ما إذا قلنا أنّ جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ﴾ قد أخذت هنا بمعنى النهي، فيكون معناها أنّ إنفاقكم لا ينفعكم شيئا إلّا إذا كان في سبيل الله تعالى، ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة خبريّة، أي أنكم أيّها المسلمون لا تنفقون شيئا إلّا في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.

5. في آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيدا أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيّته حيث تقول الآية ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل أنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدّة، فعلى هذا لا تتردّدوا في الإنفاق أبدا، ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أنّ نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلا على تجسّم الأعمال.

6. الآية الكريمة تقول أنّ نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنّها تشمل الجميع بغضّ النظر عن العقيدة والدين، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين المستحبّ رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضا إذا اقتضت الضرورة، ومن الواضح أنّ الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني ففي هذه الصورة يكون جائزا، لا ما إذا كان موجبا لتقوية الكفر ودعم خطط الأعداء المشؤومة.

7. للهداية أنواع مختلفة: من الواضح أنّ المقصود من عدم وجوب هداية الناس على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعني أنّه غير مكلّف بإرشاد الناس وهدايتهم لأنّ الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسئوليات النبي، وإنّما المقصود أنّه غير مكلّف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على اعتناق الإسلام، وهل أنّ المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينيّة أو التشريعيّة؟ لأن الهداية لها عدّة أنواع:

أ. الهداية التكوينية: وتعني أنّ الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدّم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحيّة، بل حتّى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها، إنّ نموّ الجنين في رحم أمّه ورشده، ونموّ البذرة في الباطن الأرض ورشدها، وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية، وهذا النوع من الهداية خاصّ بالله تعالى، ووسائلها عوامل وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية، يقول القرآن المجيد: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾

ب. الهداية التوقيفية: وتعني هداية الناس عن طرق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة، وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمّة والصالحون والمربّون المخلصون، وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾

ج. الهداية التوفيقية: وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاءون في مظان التقدّم، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربّين والمعلّمين المؤهّلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية، يقول القرآن: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾

د. الهداية نحو النعمة والمثوبة: وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختصّ بالمؤمنين الصالحين، يقول القرآن: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾، هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله، واضح أنّ هذا النوع من الهداية ترتبط بتمتّع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

8. الواقع أنّ هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكّل مراحل مختلفة متوالية لحقيقة واحدة:

أ. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الأخرى.

ب. يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحقّ، والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.

ج. ثمّ تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهّد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل، وهذه هي هداية التوفيق، وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.

9. هداية الإرشاد والدعوة التي تشكّل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء والأئمّة، وقسم منها ممّا يتناول تمهيد الطرق، يدخل معظمه ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمّة، والباقي يختصّ بالله تعالى، وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء، فذلك لا يخصّ النوعين الأوّلين.

10. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وهي هداية لا تأتي ارتباطا بدون حكمة ولا حساب، أي أنّه لا يمكن أن يهدي بهذا ويحرم ذاك بغير سبب، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي ينالها ويستفيد منها.

11. نستخلص من هذه الآية حقيقة أخرى، وهي أنّ الله تعالى يخاطب نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا: إذا ظهر بين المسلمين ـ بعد كلّ ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمنّ والأذى ـ أفراد ما يزالون يلوّثون إنفاقهم بهذه الأمور، فلا يسؤك ذلك، إنّ واجبك هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الاجتماعي السليم، وليس من واجبك أبدا أن تجبرهم على تجنّب هذه الأمور، وهذا التفسير لا يتنافى مع التفسير السابق، فكلاهما محتملان.

12. نلاحظ في جملة ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ أنّ فوائد الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني، وطبيعي أنّ الإنسان يزداد حماسا لممارسة علمه حين يعلم أنّ منافع هذا العمل تعود إليه.

13. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله من ثواب في الآخرة، هذا بالطبع صحيح، ولكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ نتائج الإنفاق أخروية فحسب، بل أنّ له منافع في هذه الدنيا أيضا مادّية ومعنوية:

أ. ففائدته المعنوية هي أنّ روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوّة تتربّى في المنفق، وهذه في الواقع وسيلة مؤثّرة في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.

ب. أمّا فائدته المادّية فإنّ وجود أناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سببا في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها، فلا تبقي ولا تذر.

14. الإنفاق يقلّل من الفواصل الطبقيّة ويزل هذا الخطر الذي يهدّد الأفراد الأثرياء في المجتمع، فالإنفاق يطفئ ليهب غضب الطبقات المحرومة ويقضي على روح الانتقام في نفوسهم، من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهميّة الاجتماعية والسلامة الاقتصادية والجوانب المختلفة الماديّة والمعنوية.

15.﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ كلمة (وجه) بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ تعني ذات الله التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإنّ ورود كلمة (وجه) في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد، فمن‏ الواضح أنّ قولنا (لوجه الله) أو (لذات الله) أكثر تأكيدا من قولنا (لله)، فيكون المعنى أنّ الإنفاق لله حتما لا لغير الله، ثمّ إنّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق، ولهذا حيثما استعملت كلمة (الوجه) كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهميّة، وإلّا فإنّ الله منزّه عن الصورة الجسدية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/323.

134. صفات الفقراء المستحقين للصدقات

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈134⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: من تغنى أغناه الله، ومن سأل الناس إلحافا فإنما يستكثر من النار(1).

__________

(1) ابن المنذر.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٧.

ابن الأكوع:

روي عن سلمة بن الأكوع (ت 74 هـ): أنه كان لا يسأله أحد بوجه الله شيئا إلا أعطاه، وكان يكرهها، ويقول: هي مسألة الإلحاف(1).

__________

(1) ابن سعد: ٤/٣٠٧.

ابن عمر:

روي عن يزيد بن قاسط أنّه قال: كنت عند ابن عمر (ت 74 هـ) إذ جاءه رجل يسأله، فدعا غلامه، فساره، وقال للرجل: اذهب معه، ثم قال لي: أتقول: هذا فقير؟ فقلت: والله، ما سأل إلا من فقر قال: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم، والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾، فذلك الفقير(1).

__________

(1) ابن المنذر، وابن أبي حاتم: ٦/١٨١٨.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله، فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقا(1).

2. روي أنّه قال: قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الجهاد في سبيل الله، فصاروا زمنى، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد(2).

__________

(1) ابن المنذر، وابن أبي حاتم: ٢/٥٤٠.

(2) تفسير البغوي: ١/٣٣٧.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: صفرة ألوانهم من الجوع والضر(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ التخشع(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أمروا بالصدقة عليهم(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٤٥.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أحصرهم الفقر، وهم أهل تعفف(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ دل الله المؤمنين عليهم، وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم، ورضي عنهم، وقال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(2).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٢.

رجاء:

روي عن رجاء بن حيوة الكندي الشامي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ لا يستطيعون تجارة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٠.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن الله يبغض الملحف(1).

2. روي أنّه سئل عن الفقير والمسكين، فقال: الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: الذي هو أجهد منه، الذي يسأل(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/151.

(2) الكافي: 3/502/18.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو، فلا يستطيعون تجارة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ محفوظ ذلك عند الله، عالم به، شاكر له، وإنه لا شيء أشكر من الله، ولا أجزى لخير من الله(3).

4. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (إن الله يحب الحليم الحيي الغني المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف)قال: وذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع، وصدر ليلته حتى يلقى جيفة على رأسه، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا، وإذا شئت رأيته ذا مال في شهوته ولذاته وملاعبه ويعدله عن حق الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإن منع أفرط في ذمهم)(4).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٠٩.

(2) ابن جرير: ٥/٢٦، وعلَّقه ابن المنذر: ١/٤٣.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٢.

(4) ابن جرير: ٥/٣١ ـ: ٣٢.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هم أصحاب الصفة، وكانوا لا منازل لهم بالمدينة ولا عشائر، فحث الله عليهم الناس بالصدقة(1).

__________

(1) ابن سعد: ١/٢٥٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ معناه إلحاح.. معناه كانوا لا يسألون النّاس إلحافا ولا غير إلحاف(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 105.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ للفقر عليهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ لا يلحفون في المسألة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فقراء المهاجرين(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤١.

(2) ابن جرير: ٥/٣١.

(3) ابن جرير: ٥/٢٣.

ابن أبي حبيب:

روي عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾قال: إنما نزلت هذه الآية في النفقة على اليهود والنصارى(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٣٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هم فقراء المهاجرين بالمدينة(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٨.

(2) الدرّ المنثور: لابن جرير، وفي المطبوع من تفسير ابن جرير: ٥/٢٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ بأمرهم وشأنهم: ﴿أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، يعني: بسيما الفقر عليهم لتركهم المسألة(1).

3. روي أنّه قال: ثم بيّن على من ينفق، فقال: النفقة: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يقول: حبسوا، نظيرها: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، يعني: حبستم، وأيضا: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾، يعني: محبسا، ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ حبسوا أنفسهم بالمدينة في طاعة الله تعالى، فهم أصحاب الصفة منهم ابن مسعود، وأبو هريرة، والموالي أربعمائة رجل، لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل آووا إلى صفة المسجد، فأمر الله تعالى بالنفقة عليهم، ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: سيرا، كقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، يعني: إذا سرتم في الأرض، يعني التجارة(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٥.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٤ ـ: ٢٢٥.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كانت الأرض كلها كفرا؛ لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كفر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها تخفى على الناس(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٢٤، وفي تفسير الثعلبي: ٢/٢٧٦.

(2) ابن جرير: ٥/٢٩.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أي من سبيل الله، يعنى: حبسوا بالفقر عن الجهاد، وهو كقوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ [التوبة: 91]، والعرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.

ب. ويحتمل: حبسوا أنفسهم في طاعة الله، لا يجدون ما يتجرون، ولا ما يحترفون، ولا ما يكتسبون.

2. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ للتجارة.

3. قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: لا يظهرون السؤال، أي لا يسألون؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 123]، أي لا يشفع لهم.

ب. ويحتمل: فإن كان على السؤال فإنهم إذا سألوا لم يلحفوا، دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من فتح على نفسه بابا من المسألة، فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر)، ثم ذكر في الخبر: (من‏ استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله)، وإن كان على التعريض، ففيه إباحة التعريض بين يدى أهل الجود والسخاء.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾:

أ. قيل‏: ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ يعنى: سيما التخشع.

ب. وقيل‏: ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بسيما الفقر عليهم، و﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ يعنى: إلحاحا.

ج. وقيل: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بتجملهم، ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي إلحاحا، ولا غير إلحاح.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/267.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي لا تطلبون منهم أموالهم ملازمة وإلحاحاً وإجحافاً، قال الشاعر: (إذا لم أكن فيما سألتك ملحفاً)(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 292.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني فقراء المهاجرين الذين منعوا أنفسهم عن التضرب في المعاش خوف عدو الكفار ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي تصرفاً وتجارة ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ من التقنع والعفة القناعة ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ السيما العلامة وكذلك السمة والمراد بها الخشوع ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي إلحاحاً ولا كانوا يسألون غير إلحاف لأنهم كانوا أغنياء من التعفف وتقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحاحاً)(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/128.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قيل هم فقراء المهاجرين، وفي ﴿أُحْصِرُوا﴾ أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم منعوا أنفسهم من التصرف للمعاش خوف العدو من الكفار، قاله قتادة، وابن زيد.

ب. الثاني: منعهم الكفار بالخوف منهم، قاله السدي.

ج. الثالث: منعهم الفقر من الجهاد.

د. الرابع: منعهم التشاغل بالجهاد عن طلب المعاش.

2. في قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني تصرفا، قاله ابن زيد.

ب. الثاني: يعني تجارة، قاله قتادة، والسدي.

3. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ يعني من قلة خبرته بهم، ومن التعفف: يعني من التقنع والعفة والقناعة.

4. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ السمة: العلامة، وفي المراد بها هنا قولان:

أ. أحدهما: الخشوع، قاله مجاهد.

ب. الثاني: الفقر، قاله السدي.

5. في قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أن يسأل وله كفاية.

ب. الثاني: أنه الاشتمال بالمسألة، ومنه اشتق اسم اللحاف.

6. سؤال وإشكال: فهل كانوا يسألون غير إلحاف؟ والجواب: لا؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف، وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافا.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/347.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة وعاصم وابن عامر (يحسبهم) ـ بفتح السين ـ الباقون بكسرها.

2. قال مجاهد، والسدي: الفقراء مذكورون في الآية هم فقراء المهاجرين، وقال أبو جعفر عليه السلام نزلت في أصحاب الصَّفة.

3. العامل في الفقراء محذوف وتقديره النفقة للفقراء وقد تقدم ما يدل عليه، وقال بعضهم هو مردود على اللام الاولى في قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ قال الرماني هذا لا يجوز لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى يشتمل عليه، وليس كذلك ذكر النفس هاهنا، لأن الإنفاق لها من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو، واصل إليهم وليس من باب‏ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ لأن الأمر لازم للمستطيع خاصة ولا يجوز أن يكون العامل فيه (تنفقوا) لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه كما لا يجوز كانت الحمى تأخذ.

4. ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة والحصر هو منع الغير وليس كالأول، لأنه منع النفس:

أ. وقال قتادة وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصرف في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار.

ب. وقال السدي: منعهم الكفار والخوف منهم، ولو كان الأمر على ما ذكر لكان‏ حصروا لأن الذي يمنعه العدو محصور والذي يمنع نفسه محصر.

5. و﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ ـ بفتح السين وكسرها ـ لغتان ومعناه يظنهم ولا يعرف حالهم‏ ﴿أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

6. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ ليس معناه أنهم لا يقدرون وإنما معناه أنهم ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التصرف كقولك: أمرني الوالي أن أقيم، فما أقدر أن أبرح معناه ألزمت نفسي طاعته لا أني لا أقدر عليه، وتقول ضربت في الأرض ضرباً ومضرباً إذا سرت فيها وضرب الجرح إذا آلم ضرباناً وضرباً، وضرب الفحل الناقة: إذا طرقها ضرباً والضريب، الجليد تقول: ضربت الأرض وجلدت، رواه الكسائي.

7. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ فالسيما العلامة:

أ. قال مجاهد: معناه هاهنا التخشع.

ب. وقال السدي، والربيع: علامة الفقر.

8. أصل سيما الارتفاع لأنها علامة رفعت للظهور، ومنه السؤم في البيع: وهو الزيادة في مقدار الثمن، للارتفاع فيه عن الحد، ومنه سوم الخسف للتوقع فيه بتحميل ما يشق، ومنه سوم الماشية إرسالها في المرعى.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾:

أ. قيل: لا يدل على أنهم كانوا يسألون غير إلحاف ـ في قول الفراء، والزجاج، والبلخي، والجبائي ـ وإنما هو كقولك ما رأيت مثله، وأنت لم ترد أن له مثلًا ما رأيته، وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى.

ب. وقال الزجاج معناه لم يكن سؤال، فيكون إلحاح كما قال امرؤ القيس:

çعلى لا حب لا يهتدى بمناره‏...إذا سافه العود النباطي جرجراé

والمعنى لا منار به فيهتدى بها، وإنما وجهوه على ذلك، لأن في الكلام‏ دليلًا عليه، لأنه تعالى وصفهم بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بسؤالهم لأنهم لو أفصحوا به لم يحسبهم الجاهل أغنياء، لأنه إنما يجهل ما ينال بالاستدلال وإنما جاز هذا الاختصاص بالذكر لأن المعنى نفي صفة الذم عنهم.

10. ﴿إِلْحَافًا﴾ قال الزجاج هو مأخوذ من اللحاف لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية وقال غيره: لأنه يلزم لزوم اللحاف في غير وقته.

11. في الآية دلالة على فساد قول المجبرة في الاستطاعة، لأنه تعالى إذا عذر من لا يستطيع للمخافة كان من لا يستطيع لعدم القدرة أعذر.

12. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ معناه يجازيكم عليه كما قال ﴿وما تنفقوا من خير يعلمه الله﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/356.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحصر: أصله المنع، والإحصار: منع النفس لمرض أو مخافة، والحصر: منع الغير. قال ابن السكيت: أحصره المرض وحصره العدو، وناس يقولون: حصره المرض وأحصره العدو، والأول الصحيح، قال أبو عمرو: وأحصرني الشيء وحصرني: حبسني.

ب. الاستطاعة: القدرة.

ج. العفة: القناعة، تعفف بكذا اقتنع به.

د. السيما: العلامة، وهي من الواو، وأصله الارتفاع.

هـ. الإلحاف: الإلحاح في السؤال، يقال: ألحف في سؤاله إذا ألح وأبرم فيه، قيل: أخذ من اللحاف لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية، عن الزجاج، وقيل: لأنه يلزم لزوم اللحاف، وأصله من اللباس.

2. قيل: نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة نفر، لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا يلزمون المسجد، ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل سرية، وهم أصحاب الصفة.

3. ثم بَيَّنَ تعالى مصرف الصدقات، وأيها أفضل فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ قيل: هم نفر من المهاجرين، عن مجاهد والسدي وأبي علي ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾، اختلفوا:

أ. قيل: منعوا أنفسهم من التصرف والتجارة للمعاش خوف العدو من الكفار، عن قتادة وابن زيد.

ب. وقيل: منعهم الكفار، عن السدي والأصم.

ج. وقيل: لا يصح ذلك؛ لأنه لو كان على ما ذكروا لقال: حصروا، عن أبي علي وعلي بن عيسى.

د. وقيل: حصرهم اللَّه تعالى على الدين، وأمرهم بالجهاد والإقامة على نصرة الدين، حكاه الأصم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: في دينه والجهاد، يعني حبسوا أنفسهم لمعونة الدين مع رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم في طاعة اللَّه تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني لا يمكنهم التصرف في الأرض للتجارة وطلب المعيشة من خوف الكفار.

ب. وقيل: لا يتفرغون لذلك من العز والعبادة، عن قتادة.

ج. وقيل: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض حوبًا عليهم، فلا جهة إلا ولهم فيها عدو، فلا يستطيعون لذلك ضربًا في الأرض، عن ابن زيد.

د. وقيل: هَؤُلَاءِ قوم أصابتهم جراحات وأحصرهم المرض والزمانة، عن سعيد بن جبير والكسائي قال: لأن أحصروا من المرض وحصروا من الحبس.

5. ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ يظنهم ﴿الْجَاهِلُ﴾ بحالهم وأمرهم ﴿أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾:

أ. قيل: من ترك السؤال والقناعة، قال محمد بن المفضل: تمنعهم علو همتهم عن رفع حوائجهم إلا إلى مولاهم.

ب. وقيل: لظهور بره يدل على الغنى.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾:

قيل: تعرفهم فقراء ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾

وقيل: تعرفهم من أهل التعفف بسيماهم، عن القاضي، وهو الأشبه بالظاهر.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾:

أ. قيل: بسيماهم: بعلامتهم، قيل: هو التخشع، عن مجاهد.

ب. وقيل: علامة الفقر عن السدي والربيع.

ج. وقيل: صفرة ألوانهم من الضر، عن الضحاك.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾:

أ. قيل: لا يسألون، عن الزجاج والفراء وأبي علي وأبي القاسم، ويدل عليه قوله: ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾، وقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ ولو أفصحوا بالسؤال لم يكن للكلام معنى، وهذا كما يقال: قَلَّ ما رأيت، يعني ما رأيت.. وهو الأصح.

ب. وقيل: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عشاء لا يسألون غداء، عن عطاء

ج. وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: من سأل وعنده أربعون درهما فقد ألحف.

9. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ من مال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعني بإنفاقكم يجازيكم به.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الصدقة مصروفة إلى هَؤُلَاءِ، ولا شبهة أنهم قوم مخصوصون كانوا بالمدينة على ما روينا.

ب. جواز دفع الصدقة إلى من يحسبه غنيًّا إذا أظهر فقره.

ج. أن من تصدق على إنسان، ثم باَن أنه غني أنه يجوز على ما يقوله أبو حنيفة.

د. بطلان مذهب الْمُجْبِرَة في الاستطاعة؛ لأنه إذا عذر من لا يستطيع للمخافة كان من لا يستطيع لعدم القدرة أعذر.

11. قراءات وحجج:

أ. قرأ أبو جعفر وعاصم وابن عامر وحمزة ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ بفتح السين والباقون بكسرها وهما لغتان بمعنى.

ب. أمال حمزة والكسائي ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بالإمالة والباقون بالتفخيم.

12. اختلف في عامل الإعراب في ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾:

أ. قيل: محذوف، وتقديره: النفقة للفقراء، وقد تقدم ما يدل عليه، وهو مردود على اللام في قوله: ﴿فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ تقديره: وما تنفقوا من خير فللفقراء، وإنما تنفقون لأنفسكم قال علي بن عيسى: هذا لا يصح؛ لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه، وذكر النفس ليس كذلك؛ لأن الإنفاق لها من حيث نفعها عائد عليها بالثواب والخلف، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم.

ب. وقيل: إن خبره محذوف، وتقديره: للفقراء حق واجب.

ج. وقيل: تقديره: ما أمرتم بإنفاقه فذلك للفقراء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/122

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ قال أبو زيد: حسبت الشئ أحسبه، وأحسبه حسبانا، وحسبت الشئ أحسبه حسابا وحسابة وحسبانا، وأحسبت الرجل إحسابا: إذا أطعمته وسقيته حتى يشبع ويروى، وتعطيه حتى يرضى.

ب. الإحصار: المنع عن التصرف لمرض، أو حاجة، أو مخافة، والحصر: هو منع الغير، وليس كالأول، لأنه منع النفس، وقد تقدم تفسيره عند قوله ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾

ج. الضرب: المشي في الأرض.

د. السيماء: العلامة التي يعرف بها الشئ، وأصله: الارتفاع لأنه علامة رفعت للظهور، ومنه السوم في البيع: وهو الزيادة في مقدار الثمن للارتفاع فيه عن الحد، ومنه سوم الخسف: للرفع فيه بتحميل ما يشق، ومنه سوم الماشية: إرسالها في المرعى.

هـ. التعفف: ترك السؤال، يقال: عف عن الشئ، وتعفف عنه: إذا تركه، ومنه قول رؤبة: (فعف عن أسرارها بعد العسق) أي: تركها.

و. الإلحاف: الإلحاح في المسألة، قال الزجاج: معنى ألحف شمل بالمسألة، وهو مستغن عنها، واللحاف من هذا اشتقاقه، لأنه يشمل الانسان في التغطية.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: قال أبو جعفر عليه السلام: نزلت الآية في أصحاب الصفة، وكذلك رواه الكلبي، عن ابن عباس، وهم نحو أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم؟ فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل، أتاهم به إذا أمسى.

3. لما أمر سبحانه بالنفقة، ورغب فيها بأبلغ وجوه الترغيب، وبين ما يكمل ثوابها، عقب ذلك ببيان أفضل الفقراء الذين هم مصرف الصدقات، فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ معناه: النفقة المذكورة في هذه الآية، وما قبلها، للفقراء الذين حبسوا ومنعوا في طاعة الله أي: منعوا أنفسهم من التصرف في التجارة للمعاش، إما لخوف العدو من الكفار، وإما للمرض والفقر، وإما للإقبال على العبادة، وقوله ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يدل على أنهم حبسوا أنفسهم عن التقلب، لاشتغالهم بالعبادة والطاعة.

4. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ أي: ذهابا وتصرفا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾:

أ. قيل: لبعض ما ذكرناه من المعاني.

ب. وقيل: لمنع أنفسهم من التصرف في التجارة أي: ألزموا أنفسهم الجهاد في سبيل الله، فلا يقع منهم التصرف لغيره، وليس معناه أنهم لا يقدرون عليه، كما يقال: أمرني الأمير بالمقام في هذا الموضع فلا أستطيع أن أبرح منه أي: لا أبرح منه لإلزامي نفسي طاعة الأمير.

5. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ أي: يظنهم الجاهل بحالهم وباطن أمورهم ﴿أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي: الامتناع من السؤال، والتجمل في اللباس والستر، لما هم فيه من الفقر، وسوء الحال، طلبا لرضوان الله، وطمعا في جزيل ثوابه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾:

قيل: أي: تعرف حالهم بالنظر إلى وجوههم، لما يرى من علامة الفقر، عن السدي والربيع.

وقيل: لما يرى من التخشع والخضوع الذي هو شعار الصالحين، عن مجاهد.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ قيل (2): معناه إنهم لا يسألون الناس أصلا، وليس معناه أنهم يسألون من غير إلحاف، عن ابن عباس، وهو قول الفراء، والزجاج وأكثر أرباب المعاني، وفي الآية ما يدل عليه وهو قوله ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ في المسألة، ولو كانوا يسألون لم يكن يحسبهم الجاهل أغنياء، لأن السؤال في الظاهر يدل على الفقر، وقوله أيضا ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ ولو سألوا لعرفوا بالسؤال، قالوا وإنما هو كقولك: ما رأيت مثله، وأنت لم ترد أن له مثلا ما رأيته، وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى، فمعناه لم يكن سؤال فيكون إلحاح، كقول الأعشى:

çلا يغمز الساق من أين، ومن نصب... ولا يعض على شرسوفه الصفرé

ومعناه: ليس بساقها أين ولا نصب فيغمزها، ليس أن هناك أينا، ولا يغمز، وفي الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتباؤس، ويحب الحليم المتعفف من عباده، ويبغض الفاحش البذئ السائل الملحف، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ونهي عن عقوق الأمهات، ووأد البنات وعن منع وهات، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليه، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته يوم القيامة كدوحا، أو خموشا، أو خدوشا في وجهه، قيل: وما غناه؟ قال: خمسون درهما، أو عدلها من الذهب.

8. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ من مال، وقيل: معناه في وجوه الخير ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي: يجازيكم عليه.

9. قرأ حمزة وعاصم وأبو جعفر وابن عامر ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ بفتح السين كل القرآن، والباقون بكسرها.

10. مسائل نحوية:

أ. العامل في قوله ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ محذوف وتقديره: النفقة للفقراء، وقد تقدم ما يدل عليه، وقال بعضهم: هو مردود على اللام الأولى من قوله ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، قال علي بن عيسى: وهذا لا يجوز، لأن بدل الشئ من غيره، لا يكون إلا والمعنى يشتمل عليه، وليس كذلك ذكر النفس ههنا، لأن الانفاق لها من حيث هو عائد إليها، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم، وليس من باب ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ لأن الأمر لازم للمستطيع خاصة، ولا يجوز أن يكون العامل فيه ﴿تُنْفِقُوا﴾ لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول فيه بالأجنبي، كما لا يجوز كانت زيدا الحمى تأخذه ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ جملة في موضع الحال من أحصروا.

ب. ضربا: مفعول يستطيع.

ج. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾: في موضع الحال أيضا، وذو الحال الفقراء.

د. ﴿إِلْحَافًا﴾: مصدر وضع موضع الحال من ﴿يَسْأَلُونَ﴾ أي لا يسألون ملحفين، ويجوز أن يكون مصدرا لأن الإلحاف سؤال على صفة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/662.

(2) ذكر قولا واحدا، والقول الآخر واضح، وقد سبق ذكره عند غيره من المفسرين

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾، لمّا حثّهم على الصّدقات والنّفقات، دلّهم على خير من تصدّق عليه، وقد تقدّم تفسير الإحصار عند قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾

2. في المراد بـ ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنّهم أهل الصّفّة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، قاله ابن عباس، ومقاتل.

ب. الثاني: أنهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد.

ج. الثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو، فلا يقدرون على الاكتساب، قاله قتادة.

د. الرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فصاروا زمنى، قاله سعيد بن جبير، واختاره الكسائيّ، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حصروا، وإنّما الإحصار من الخوف، أو المرض، والحصر: الحبس في غيرهما.

3. في سبيل الله قولان:

أ. أحدهما: أنه الجهاد.

ب. الثاني: الطّاعة.

4. في الضّرب في الأرض قولان:

أ. أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس.

ب. الثاني: الكسب، قاله قتادة.

5. في الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: الفقر، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أمراضهم، قاله ابن جبير، وابن زيد.

ج. الثالث: التزامهم بالجهاد، قاله الزجّاج.

6. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾، قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضدّ العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الخبر، فكأنه قال يحسبهم من لا يخبر أمرهم.

7. التّعفّف: ترك السؤال، يقال: عفّ عن الشيء وتعفّف.

8. السّيما: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصله من السّمة، وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: تجمّلهم، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: خشوعهم، قاله مجاهد.

ج. الثالث: أثر الفقر عليهم، قاله السّدّيّ والرّبيع بن أنس، وهذا يدلّ على أن للسّيما حكما يتعلّق بها، قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه، فإن كان عليه سيما الكفّار من عدم الختان، حكم له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصلّ عليه، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم‏.

9. الإلحاف، هو: الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسألة: إذا ألحّ، وقال الزجّاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللّحاف، لأنه يشمل الإنسان بالتّغطية.

10. سؤال وإشكال: فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟ والجواب: لا، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف، قال الأعشى:

çلا يغمز السّاق من أين ولا وصب‏...ولا يعضّ على شرسوفه الصّفرé

معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك، قال الفرّاء: ومثله أن تقول: قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافا، ولا غير إلحاف، وإلى نحو هذا ذهب الزجّاج، وابن الأنباريّ في آخرين.

__________

(1) زاد المسير: 1/245.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

لما بيّن الله تعالى في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان، بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقاً بصرف الصدقة إليه من هو؟ فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

1. في اللام في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ وتعلقها بماذا وجوه:

أ. الأول: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق، قال بعدها ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء، وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل فتقول: عاقل لبيب، والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب، وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم: ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه.

ب. الثاني: أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء.

ج. الثالث: يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، ويتعلمون القرآن، ويصومون ويخرجون في كل غزوة، عن ابن عباس: وقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم، فقال: (أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي)

3. وصف الله تعالى هؤلاء الفقراء بصفات خمس:

أ. الأولى: قوله‏: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 273]

ب. الثانية: قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ يقال ضربت في الأرض ضربا إذا سرت فيها، ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد، يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه، وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معينا لهم على مهماتهم.

ج. الثالثة: قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

د. الرابعة: قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾

هـ. الخامسة: قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾

4. الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره، من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل فهو محصر، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله‏: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ بما يعني عن الإعادة، أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار:

أ. الأول: أن المعنى: إنهم‏ حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، وأن قوله‏: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مختص بالجهاد في عرف القرآن، ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان، وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فيكون مستعداً لذلك، متى مست الحاجة، فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير:

أحدها: إزالة عيلتهم.

الثاني: تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه.

ثالثها: تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين.

رابعها: أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم، على ما قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

ب. الثاني: وهو قول قتادة وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم.

ج. الثالث: وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي: أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.

د. الرابع: قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله.

هـ. الخامس: هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته، وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات.

5. قرأ عاصم وابن عامر وحمزة ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد، وقرئ في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعا الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس، لأن الماضي إذا كان على فعل، نحو حسب كان المضارع على يفعل، مثل فرق يفرق وشرب يشرب، وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أخر، والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس.

6. الحسبان هو الظن، وقوله‏: ﴿الْجَاهِلُ﴾ لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف.

7. التعفف: وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة.

8. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السمة التي هي العلامة، قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي: وزنه يكون فعلا، كما قالوا: له جاه عند الناس أي وجه، وقال قوم: السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور:

أ. قال مجاهد: سيماهم التخشع والتواضع.

ب. قال الربيع والسدي: أثر الجهد من الفقر والحاجة.

ج. وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع.

د. وقال ابن زيد: رثاثة ثيابهم والجوع خفي.

هـ. عندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله‏: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية، لا علات جسمانية، ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة، وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية، فكذا هاهنا، ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29] وأيضا ظهور آثار الفكر، روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف.

9. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ عن ابن مسعود: إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيرا أفرط في المدح، وإن أعطى قليلا أفرط في الذم، وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله تعالى، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس)

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ على وجوه:

أ. الأول: أن الإلحاف هو الإلحاح، والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا، وهو اختيار الزمخشري وهو ضعيف، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ وذلك ينافي صدور السؤال عنهم.

ب. الثاني: وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع: أنه ليس المقصود من قوله‏: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافا، وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السّؤال، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضا أنهم لا يسألون إلحافا، بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت، والآخر طياش مهذار سفيه، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام، لا يخوض في الترهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك، لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك، لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله‏: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ بعد قوله‏: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافا وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم.

ج. الثالث: أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه، فقوله‏: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ﴾ بالرفق والتلطف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال، فعلى هذا يكون قوله‏: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلا.

د. الرابع: هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت، وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء، ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه، فكانوا لا يسألون الناس‏ وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر:

çولي نفس أقول لها إذا ما...تنازعني لعلي أو عساني‏é

هـ. الخامس: أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات، لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه، ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال، فيقول: لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود، فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح، فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات، فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً.

و. السادس: وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت، وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة، ثم سكت عن السؤال، فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف، لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً، وصار حاملًا له على أن يدفع إليه شيئاً، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله‏: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق، فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة، وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.

11. بعد أن ذكر الله تعالى صفات هؤلاء الفقراء قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]، وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله‏: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272] وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان:

أ. أحدهما: أنه تعالى لما قال ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها.

ب. الثاني: وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي، قال ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ بين أن أجره واصل لا محالة، ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة، وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات، لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال:

12. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته: ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك، فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/68.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ اللام متعلقة بقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ وقيل: بمحذوف تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء:

أ. قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصفة وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقيل لهم: أهل الصفة.

ب. قال أبو ذر: كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعشائه ونتعشى معه، فإذا فرغنا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ناموا في المسجد.

ج. وخرج الترمذي عن البراء بن عازب في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فيضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾، قال: ولو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده، قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.

د. قال علماؤنا: وكانوا في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمروا.

2. ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمعنى حبسوا ومنعوا، قال قتادة وابن زيد: معنى ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ حبسوا أنفسهم عن التصرف في معايشهم خوف العدو، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الإسلام، فعلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة فبقوا فقراء، وقيل: معنى ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي لما قد ألزموا أنفسهم من الجهاد، والأول أظهر.

3. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي إنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء، وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه، وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غير مرضى ولا عميان.

4. التعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره.

5. فتح السين وكسرها في ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ لغتان، قال أبو علي: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة، لمجيء السمع به وإن كان شاذا عن القياس.

6. ﴿مِنَ﴾ في قوله ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ لابتداء الغاية، وقيل لبيان الجنس.

7. في قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ دليل على أن للسيما أثرا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾، فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي في التجمل، واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج.

8. السيما مقصورة: العلامة، وقد تمد فيقال السيماء، وقد اختلف العلماء في تعيينها هنا:

أ. مجاهد: هي الخشوع والتواضع.

ب. السدي: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة النعمة.

ج. ابن زيد: رثاثة ثيابهم.

د. قوم وحكاه مكي: أثر السجود، قال ابن عطية: (وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم)، وهذه السيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة بإخبار الله تعالى في آخر الفتح بقوله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ فلا فرق بينهم وبين غيرهم، فلم يبق إلا أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار.. أما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغني والفقير، فلم يبق إلا ما اخترناه، والموفق الإله.

9. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ مصدر في موضع الحال، أي ملحفين، يقال: ألحف وأحفى وألح في المسألة سواء، ويقال: وليس للملحف مثل الرد واشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، ومنه قول ابن أحمر:

çفظل يحفهن بقفقفيه... ويلحفهن هفهافا ثخيناé

يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه، وروى النسائي ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم) لا يسألون الناس إلحافا.

10. اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ على قولين:

أ. قال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.

ب. وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي إنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين، وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا:

روى الأئمة واللفظ لمسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته)

وفي الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فاسأله لنا شيئا نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك، فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنه يغضب علي ألا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا، قال الأسدي: فقلت للقحة لنا خير من أوقية ـ قال مالك: والأوقية أربعون درهما ـ قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله، قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابي إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء، لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم، وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث، وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى.

قال ابن عبد البر: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحل قال: إذا لم يكن عنده ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية، قيل لأبي عبد الله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر، قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له، ثم قال: ما أظن أحدا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري: من استعف أعفه الله، وحديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال له: تعفف، قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع، قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يعرض، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حين جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار فقال: تصدقوا ولم يقل أعطوهم، قال أبو عمر: قد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: اشفعوا تؤجروا، وفيه إطلاق السؤال لغيره، والله أعلم، وقال: ألا رجل يتصدق على هذا؟ قال أبو بكر: قل له ـ يعني أحمد بن حنبل ـ فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، إنما المسألة أن يقول أعطه، ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحب إلي.

روى أبو داوود والنسائي وغيرهما أن الفراسي قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: لا وإن كنت سائلا لأبد فاسأل الصالحين، فأباح صلّى الله عليه وآله وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى.

قال إبراهيم بن أدهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورا.

11. إن جاءه شي من غير سؤال فله أن يقبله ولا يرده، إذ هو رزق رزقه الله:

أ. روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لم رددته؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألا يأخذ شيئا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله)، فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته، وهذا نص.

ب. وخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك، زاد النسائي ـ بعد قوله خذه ـ فتموله أو تصدق به.

ج. وروى مسلم من حديث عبد الله ابن السعدي المالكي عن عمر فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق، وهذا يصحح لك حديث مالك المرسل، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف) أي الإشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعله يبعث إلي بقلبك، قيل له: وإن لم يتعرض، قال نعم إنما هو بالقلب، قيل له: هذا شديد! قال: وإن كان شديدا فهو هكذا، قيل له: فإن كان الرجل لم يعودني أن يرسل إلي شيئا إلا أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبعث إلي، قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف.

د. قال أبو عمر: الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يهش الإنسان ويتعرض.

هـ. ما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد، لأن الله تعالى تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة، وأما ما اعتقده القلب من المعاصي ما خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل له، وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع.

12. الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحل، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر) رواه أبو هريرة خرجه مسلم، وعن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) رواه مسلم أيضا.

13. السائل إذا كان محتاجا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا والأفضل تركه، فإن كان المسئول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله فلا يفلح في رده، فإن كان محتاجا إلى ما يقيم به سنة كالتجمل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربي: سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلا يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يقيم بها سنة الجمعة، فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابا أخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسني أخذ الثناء.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/340.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بالغزو أو الجهاد؛ وقيل: منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف: الذين ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ للتكسب بالتجارة والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم، قيل: هم فقراء الصفة؛ وقيل: كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه.

2. ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحنوّ عليهم والشفقة بهم، وهو كونهم متعففين عن المسألة وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء، والتعفف: تفعل، وهو بناء مبالغة، من عف عن الشيء: إذا أمسك عنه وتنزّه عن طلبه.

3. في ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ لغتان: فتح السين، وكسرها، قال أبو عليّ الفارسيّ: والفتح أقيس، لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، فالقراءة بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة.

4. (من) في قوله: ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ لابتداء الغاية؛ وقيل لبيان الجنس.

5. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي: برثاثة ثيابهم، وضعف أبدانهم، وكل ما يشعر بالفقر والحاجة، والخطاب إما لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد.

6. الإلحاف: الإلحاح في المسألة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك: لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف على التغطية، ومعنى قوله: ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾:

أ. قيل: أنهم لا يسألونهم البتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح، وبه قال الطبري والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجهه: أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها.

ب. وقيل: المراد أنهم إذا سألوا بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضا كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال البتة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/337.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام، أي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء، أي المحتاجين إلى النفقة ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره‏ ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ أي ذهابا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ لاكتساب أو تجارة ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ بحالهم‏ ﴿أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي من أجل تعففهم عن السؤال، والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم، ورضا عنه، وشرف نفس.

2. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30]، وفي الحديث الذي في السنن‏: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، ثم قرأ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75]، قاله ابن كثير، قال الغزاليّ: ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل، ممن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى، أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته، فهو يتعيش في جلباب التجمل، فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال، كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة كأن يكون أهل علم، فإن ذلك إعانة له على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحّت فيه النية، وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم، فقيل له: لو عممت! فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء، فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم، فتفريغهم للعلم أفضل.

3. السيما مقصور، كالسيمة، والسيماء والسيمياء (ممدودين بكسرهن) والسومة (بالضم): العلامة، قال أبو بكر بن دريد: قولهم: عليه سيما حسنة، معناه علامة وهي مأخوذة من وسمت أسم، والأصل في (سيما) وسمي، فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين، كما قالوا: ما أطيبه وأيطبه، فصار سومي، وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، قال السمين: فوزن سيما عفلا، وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق، إما واو أو ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة للإلحاق لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك.

4. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ مصدر في موضع الحال، أي ملحفين، يقال: ألحف عليه إلخ، قال الزمخشريّ: الإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم، وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي أعطاني من فضل ما عنده، قيل معنى الآية: إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا، فيكون النفي متوجها إلى القيد وحده، والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعا، فمرجع النفي إلى القيد ومقيده كقوله: ﴿وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: 18]، وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك:

أ. وفي الصحيحين‏ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف)، اقرؤوا إن شئتم: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾

ب. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاريّ ومسلم‏ والنسائي عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم)

ج. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داوود والترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا)

د. وأخرج أحمد عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء استبقى على وجهه)

هـ. وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم‏ وابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من سأل الناس‏ أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر)

و. وأخرج أحمد وأبو داوود وابن خزيمة عن سهل بن الحنظلية قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال ما يغديه أو يعشيه)

ز. وأخرج مسلم‏ والترمذيّ والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال (كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه)

ح. وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاريّ‏ ومسلم والترمذيّ والنسائي عن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه)

ط. وأخرج الطبرانيّ والبيهقيّ عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (الله يحب المؤمن المحترف)

ي. وأخرج أحمد والطبرانيّ وأبو داوود والنسائيّ‏ عن أبي سعيد الخدري أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف)

ك. وأخرج البخاريّ‏ ومسلم والنسائي عن ابن عمر أنّ عمر قال (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك)، قال سالم بن عبد الله فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/213.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾ اِجعلوا من صدقاتكم أو نفقاتكم لهؤلاء الفقراء، وخصَّهم بالذكر تنويها بشأنهم وترغيبًا في حالهم، واجعلوا لغيرهم، أو الآية لهم فقط، وأمَّا غيرهم فمن الآي الأُخر والأحاديث، أي: صدقاتِكم المذكورة لهم، أو اجعلوا ما تنفقون لهم، أو اعمدوا لهم، كأنَّه قيل: لمن هؤلاء الصدقات؟ فقال: هي للفقراء، والأوَّل أولى، كما إذا شرعت في ذكر من يتأهَّل للصدقة فقلت: (أعطِ زيدًا، أعطِ عمرًا) ولست تريد الحصر فيهما، ويبعد تعليقه بقوله: ﴿تُنفِقُوا﴾ للفصل بالجواب، وعليه فالتأخير لطول الكلام عليهم.

2. ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أحصروا أنفسهم في الجهاد والعمل لمرضاة الله عن الكسب، أو حصرهم الجهاد والعمل، وهو على عمومه لوجود الوصف في غير أهل الصُّفَّة، ودخل أهل الصفَّة فيه دخولاً أوَّليًّا، وكانوا نحو أربعمائة من فقراء المهاجرين، وعبارة بعضٍ: نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون، وأكثرهم من قريش وهم فقراء لا مساكن لهم، ولا مال ولا عشيرة ولا أزواج في المدينة، سكنوا صفَّة المسجد ـ بضمِّ الصاد وشدِّ الفاء، وهي موضع متطاول على الأرض مسقَّف، يتعلَّمون القرآن ليلاً، كارهون لفرقته صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرضخون النوى نهارًا بأجرة، ويصنعون ما أمكن لهم من الصنعة الخفيفة كصنعة الخوص، والخياطة، ويخرجون للغزو في كلِّ سَرِيَّة أو عسكرٍ، وقيل: قوم خرجوا في سبيل الله تعالى ، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ليس المسكين الذي تردُّه التَّمرةُ والتمرتان واللُّقمة واللُّقمتان إنَّما المسكين الذي يتعفَّف، اِقرَؤوا إن شئتم: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾)، يعني: الضرُّ الذي يلحق المتعفِّف فوق الضرِّ الذي يلحق المسكين الذي يُظهر المسكنة فيعطَى.

3. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ ذهابًا ﴿فِي الَارْضِ﴾ للتَّجر، لا يجدون ذلك من أنفسهم وهم أصحَّاء؛ لأنَّهم مولعون برؤية النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والجهادِ ﴿يَحْسِبُهُم﴾ يظنُّهم ﴿الْجَاهِلُ﴾ لفقرِهم ﴿أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ لتعفُّفِهم عن المسألة، وهو ترك الشيء والإعراض عنه مع القدرة عليه، وهو هنا ترك السؤال وترك التلويح وترك الطمع وما يشعر به، وهو أبلغ من العفَّة، و(مِن) للتعلِيلِ متعلِّق بـ (يَحْسِبُ)، وأجيز كونها للابتداء؛ لأنَّ حسبانهم أغنياء نشأ من التعفُّف، حتَّى إنَّهم يسقطون خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصلاة للجوع، وتحسبهم الأعراب لذلك مجانين، قال أبو هريرة: (من أهل الصُّفَّة سبعون رجلاً ليس لواحد منهم رداءً).

4. ﴿تَعْرِفُهُمْ﴾ يا محمَّد ويا كلّ من يصلح للمعرفة، أي: تعرف صلاحهم المدلول عليه بالمقام، ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامتهم، من التواضع، وتحمُّل شدَّة الحاجة، وتعفُّفِهم، وحبس أنفسهم على العبادة والجهاد، وترك الإلحاح في مؤاجرتهم إذا استُؤجروا، أو تعرف فقرهم بعلامتِهِم، وهي لباسهم وشحُوبهم، وظهور جوعهم، فمن لم ينظر في ذلك ظنَّهم أغنياء، ومن نظر فيه بعد ذلك أو من أوَّلٍ عرف فقرهم، وليس السيمَة مقلُوبة من الوسم ـ بمعنى جعل العلامة ـ أُخِّرت الواو عن السين المكسورة فقلبت ياءً بوزن عِفْلة لوجود التصرُّف فيها بمعنى العلامة، كقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: 14]، أي: الْمُعلَّمة كما جعلت كتب اللُّغة القديمة، والجديدة [جعلت] السيماء في باب فاء السين وعين الواو.

5. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ إلحاحًا، بل إذا ألجأتهم ضرورة سألوا بلا إلحاح، وهذا مدح عظيم بأنَّهم لم يصدر منهم إلحاح ولو اضطرُّوا، ومَنْ شأنُهُ ذلك لا يَسأل لغير ضرورة، أو لَا سؤال ولا إلحاح لظهور التعفُّف وظنِّ الجاهل أنَّهم أغنياء، كما قال ابن عبَّاس  ، نفيًا للقيد والمقيَّد معًا لجواز ذلك، ولو لم يكن القيد لازمًا للمقيَّد، أو كاللَّازم إذا كان في الكلام ما يقتضيه، وفي الآية ما يقتضيه، فإن التعفُّف حتَّى يُظَنُّوا أغنياء يقتضي عدم السؤال، وأيضا لو سألوا لعرِفُوا بالسؤال، واستغني بالعرفان بالسيما، وأقول: [في هذا] الباب لا شرط سوى ظهور المُرادِ، ومن ذلك قوله: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2] فإنَّه لا عمد ولا رؤية لها.

6. ﴿إِلْحَافًا﴾ مفعول مطلق لـ (يَسْأَلُ) لتضمُّنه في الآية (يَلحَفْ)، أو يقدَّر: (سؤالَ إلحافٍ) بتقدير مضاف، أو حال، أي: ذوي إلحاف، أو مفعول مطلق لحال محذوف، أي: ملحفين إلحافًا، ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ترغيب في الصدقة ولا سيما على هؤلاء.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/157.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد ما أمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله وبإيتاء الفقراء عامة نبه إلى أمرين(2):

أ. أحدهما: عدم التحرج من الصدقة على غير المسلم، وهو ما بينته الآية السابقة.

ب. وثانيهما: بيان أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء الذين ذكرت صفاتهم في هذه الآية، وهي خمس صفات من أفضل الصفات وأعلاها.

2. ورد أنها نزلت في أهل الصفة وهم أربعمائة أرصدوا أنفسهم لحفظ القرآن والخروج مع السرايا، ولعل ما ذكره كغيره هو أكثر ما انتهى إليه عددهم، والمشهور أن متوسط عددهم كان ثلاثمائة والذين عرفت أسماؤهم منهم لا يبلغون مائة وهم من فقراء المهاجرين، لم يكن لأكثرهم مأوى؛ لذلك كانوا يقيمون في صفة المسجد وهي موضع مظلل منه، فالصفة ـ بالضم ـ كالظلة لفظا ومعنى.. أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها، فهم محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة، ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن، وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق؛ لأنه حفظ للدين كله وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز، ولا في الأعراس والمآتم، ولا لاستجداء الناس به، ولا لمجرد التعبد بتلاوة ألفاظه، وإنما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به، ولحفظ أصل الدين بحفظه، وكانوا أيضا يحفظون ما يبينه به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من سنته.

3. يحتج بأهل الصفة أكلة أموال الناس بالباطل من أهل التكايا الذين ينقطعون إليها تاركين للأعمال النافعة، فلا يتعلمون العلم ولا يجاهدون في سبيل الله، وليس فيهم صفة من الصفات الخمس التي وصف الله بها أهل الصفة، وإنما قصارى أمرهم أنهم يأكلون بدينهم، يأكلون الصدقات والأوقاف لأجل أن يعبدوا الله تعالى في هذه المواضع خاصة، فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان وإن كان بعضهم يتزوج ـ وقد يخرج الذي يتزوج من التكية لأنه قد يكون من شروط المقيم فيها ألا يتزوج ـ ومنهم من لا يلتزم الإقامة في التكية وإنما يجمعه بأصحابها اسم الطريقة، كأصحاب السيارات الذين ينزل شيخ الطريقة منهم بزعنفة من جماعته بلدا بعد آخر، فيكلفون من يستضيفونه الذبائح والطعام الكثير، ثم لا يخرجون إلا مثقلين، يسألون فيلحفون، بل يسلبون وينهبون، فإذا منعوا ما أرادوا انتقموا لأنفسهم بكل ما قدروا عليه من أنواع الانتقام.. والناس يحفظون عنهم شيئا كثيرا من ضروب الإيذاء، ومنه ما يبرزونه في معرض الكرامات والخوارق، حدثني غير واحد أن من الفلاحين من قصر في إجابة مطالب بعض الشيوخ عندما نزل وزعنفته به فأحرقوا له جرن (بيدر) الحنطة، وزعموا أن الله أحرقه بغير فعل فاعل كرامة لشيخهم، وحدثت أن بعضهم اتخذ في رأس العلم الذي يحمل فوق رأسه عدسة من الزجاج كان يوجهها من ناحية الشمس إلى الجرن الذي يريد إحراقه من حيث لا يشعر الفلاحون، ويقول: إنه يريد التصرف فيه، فيقع الحريق فيه ولم يدن أحد منه، فلا يشك الفلاحون الجاهلون في أن الحريق كان كرامة للشيخ الذي لا حرفة له إلا أكل أموال الناس بالكذب على الله تعالى وادعاء الولاية والقرب منه، وهؤلاء الأشرار الضالون هم الذين يشبهون أنفسهم بأهل الصفة، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل أصلا في الكتاب والسنة، وحاشا لكتاب الله وسنة رسوله من ذلك.

4. ما ذكره محمد عبده من نزول الآية في أهل الصفة هو المروي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت في قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى، فجعل لهم في أموال المسلمين حقا، والقاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من اتصف بهذه الصفة من الفقراء كان له حكم من نزلت فيهم الآية من استحقاق الصدقة، وقد رأيت المفسرين أوجزوا في تفسير هذه الصفات، فأحببت أن أبسط القول فيها:

أ. الصفة الأولى: الإحصار في سبيل الله فقوله تعالى: ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بالبناء للمفعول، يدل على المراد بالإحصار المانع من الكسب فيه بسبب اضطراري، ويفهم منه أن حبس النفس في سبيل الله، أي في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح كالجهاد والعلم لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن الكسب الذي يستطيعه للقيام بأوده بل يطلب منه أن يعمل للمصلحة العامة في أوقات الفراغ من العمل الذي به قوام معيشته، فإن ترك الكسب مختارا لم يحل له أن يأخذ الصدقة، أما السبب الاضطراري للإحصار عن الكسب فمنه ما هو طبيعي كالعجز وما هو شرعي كالعلم بتعطيل المصلحة العامة التي أحصر فيها إذا هو تركها لأجل الكسب، فإن تعين الناس لذلك بأن كان غيرهم يعجز عن القيام بالمصلحة وكان جمعهم بينه وبين الكسب متعذرا وجب عليهم ترك الكسب وحبس أنفسهم في سبيل الله، وكانوا بذلك محصرين بالاضطرار الشرعي، ووجبت نفقتهم في بيت المال، وإلا فعلى أغنياء الأمة، وإن لم يتعين لذلك أناس مخصوصون كان الأمر من فروض الكفاية كما هو ظاهر، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية.

ب. الصفة الثانية: قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إنهم عاجزون عن الكسب، والضرب في الأرض هو السفر لنحو التجارة، وبذلك فسره المفسرون هنا، وهنا يؤيد ما قلناه آنفا من اشتراط الاضطرار فيما يحصر عنه وإن كان ما يحصر فيه اختياريا؛ وإن القادر على الكسب ولو بالسفر لا يحل له أن يأكل الصدقة.

ج. الصفة الثالثة: قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي إذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم يظنهم أغنياء لما هم عليه من التعفف، وهو المبالغة في التنزه عن الطمع فيما في أيدي الناس، وكل ما لا يليق كالقبيح والمحرم، وقد فسر أهل اللغة التعفف: بالعفة وبالصبر والنزاهة عن الشيء، وجعله المفسرون هنا للتكلف، ولكن صيغة (تفعل) تأتي لتكلف الشيء، وللمبالغة فيه، والثاني أظهر هنا، لأن من يتكلف العفة قلما يخفى حاله على رائيه، وأما المبالغ في العفة فهو الذي لا يكاد يظهر عليه أثر الحاجة، فهو المتبادر هنا، والمقام مقام المدح والمبالغ في الفضيلة أحق به من متكلفها.

د. الصفة الرابعة: قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بعلاماتهم الخاصة بهم، قيل: هي الخشوع والتواضع، وقيل: هي الرثاثة في الثياب أو الحال، وليسا بشيء، وقيل: بآثار الجوع والحاجة في الوجه، وهذا قريب، والصواب أن هذه السيما لا تتعين بهيأة خاصة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال، وإنما تترك إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق، فصاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، فكم من سائل يأتيك رث الثياب خاشع الطرف والصوت تعرف من سيماه أنه يسأل تكثرا وهو غني، وكم من رجل يقابلك بطلاقة وجه وحسن بزة فتحكم بالفراسة في لحن قوله، ومعارف وجهه أنه مسكين عزيز النفس.

هـ. الصفة الخامسة: قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي لا يسألون الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح، كما هو شأن الشحاذين، وأهل الكدية المعروفين، فالإلحاف: هو الإلحاح في السؤال، وظاهر العبارة نفي سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال، وأما ظاهر السياق فهو أن القيد لبيان حال السائلين في العادة، وأن النفي للسؤال مطلقا، والمعنى أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف، وعليه المحققون، وهذا الذي اخترناه هو ما تؤيده الأخبار، ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال:قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾) وفي لفظ: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)

5. السؤال محرم في الإسلام لغير ضرورة:

أ. روى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)، فالفقر المدقع: هو الشديد الذي يلصق صاحبه بالدقعاء، وهي الأرض التي لا نبات فيها، والغرم ـ بالضم ـ ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض، ومنه ما يحمله الإنسان من النفقة لإصلاح ذات البين ولنحو ذلك من أعمال البر، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة، فله أن يسأل الناس مساعدته على ما يحمله من المغارم، وقد اشترط في الحديث أن يكون الغرم الذي تسأل الإعانة عليه مفظعا أي شديدا فظيعا، فإذا تحمل غرما خفيفا يسهل عليه أداؤه فليس له أن يسأل لأجله، ويختلف ذلك باختلاف حال المتحملين، وأما ذو الدم الموجع فهو الذي يتحمل الدية عن الجاني من قريب أو حميم أو نسيب لئلا يقتل فيتوجع لقتله.

ب. وروى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأحمد من حديثهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، وقد حسنه الترمذي، ولبعضهم مقال في بعض رجاله.

ج. وروى أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين، فقال: (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب) قال أحمد في هذا الحديث: هو أجودها إسنادا، قاله في المنتقى، وروي عنه أنه قال: ما أجوده من حديث، والمرة في الحديث الأول ـ بكسر الميم ـ القوة والسوي الخلق: السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.

د. وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم)، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: (ما يغديه أو يعشيه) وعند أبي داود يغديه ويعشيه وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث وصححه ابن حبان.

هـ. وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه)

و. وروى أحمد ومسلم وابن ماجه من حديثه أيضا(: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر)

6. أما الحديث المشهور: (للسائل حق وإن جاء على فرس) فقد رواه أحمد وأبو داود من حديث الحسين بن علي، والروايات عنه كلها مراسيل، وفي إسناد الحديث ليعلى بن أبي يحيى، قال أبو حاتم الرازي مجهول، وقد حملوه على تحسين الظن بالمسلم، وأنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال المحرم، قال في نيل الأوطار: فيه، أي الحديث الآمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن واحتقاره، بل يكرمه بإظهار السرور له، ويقدر أن الفرس التي تحته عارية، أو أنه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرما لإصلاح البين، وما قالوه في الحديث يقال في تفسير السائلين في قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، أي إن السائل المؤمن يحمل على الصدق في أنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال المحرم، كتحمل غرم أو دية أو ضرورة عارضة فما كل سائل لفقره هو، فمحمد عبده كان يسأل بعض أصدقائه الموسرين، أي يطلب منهم المال للجمعية الخيرية ولغيرها من أعمال البر، وما كل من يسأل تكثرا ويجعل السؤال حرفة، والأصل في المؤمن أن يكون عزيز النفس متنزها عن الحرام فلا يسأل إلا لضرورة تبيح له السؤال، فينبغي أن يجعل الغني قدرا معينا من ماله الذي يعده للصدقات لما يعرض من أمثال هذه الحاجات أو الضرورات، ومن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل فلا يعطون إذ لا حق لهم في هذا المال كما علم من الأحاديث السابقة، وقد رأى عمر سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر ما فيه فإذا هو خبز، فأمر بأن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة.

7. ثم قال تعالى بعد بيان الناس بالصدقة: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عليه حسن النية فيه وتحري النفع به ووضعه في موضعه وإيتائه أحق الناس فأحقهم به، فهو يجازي عليه بحسب ذلك، فالجملة تذييل مرغب في الإنفاق على الوجه الذي سيقت الهداية إليه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/87.

(2) الكلام هنا وما بعده لمحمد عبده

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين الله تعالى أحق الناس بالصدقة فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هي من أجلّ الأوصاف قدرا:

أ. الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وتجب نفقتهم في بيت المال، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية في العصر الحديث، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحلّ له الأخذ من الصدقة.

ب. العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾

ج. التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

د. أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فربّ سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رثّ الثياب، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بزّة فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾

هـ. ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى ـ أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف.

2. روي أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله، ولم يكن لأكثرهم مأوى، لذلك كانوا يقيمون في صفّة المسجد (موضع منه مظلّ) وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن، وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به، وحفظ الدين بحفظه، وكانوا يحفظون بيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم له بسنته القولية وسنته العملية، وعن ابن عباس‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقف يوما على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: (أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائى)

3. لا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا، فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان، وإن كان بعضهم قد يتزوج، وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل ـ أصلا في الكتاب والسنة (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا)

4. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له في العمل، ولا تحرى النفع به وإيتاؤه أحق الناس به، فهو يجازى عليه بحسب هذا، ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/50.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم خص الله تعالى بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة؛ وعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين.. صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

2. لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم؛ وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرسا لبيوت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لا يخلص إليها من دونهم عدو، وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة والكسب، وهم مع هذا لا يسألون الناس شيئا، متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عن إظهار الحاجة؛ ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة..

3. والنص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان، ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون، إنهم يتجملون كيلا تظهر حاجتهم؛ يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل، فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء.. إنها صورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذج الكريم، وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء! وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة، ترسم الملامح والسمات، وتشخص المشاعر والانفعالات.

4. ما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتى تبدو له تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها، وتلك طريقة القرآن في رسم النماذج الإنسانية، حتى لتكاد تخطر نابضة حية! هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة.. لن يكون إعطاؤهم إلا سرا وفي تلطف لا يخدش إباءهم ولا يجرح كرامتهم.. ومن ثم كان التعقيب موحيا بإخفاء الصدقة وإسرارها، مطمئنا لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.. الله وحده الذي يعلم السر، ولا يضيع عنده الخير..

5. إن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء، فإن نظامه كله يقوم أولا على تيسير العمل والرزق لكل قادر؛ وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء.. ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائية وهذه هي التي يعالجها بالصدقة.. مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها: وهي مورد هام من موارد المالية العامة للدولة المسلمة، ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين رأسا، مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها، وبضمانة تعفف الآخذين.. هذا التعفف الذي تصف هذه الآية صورة منه واضحة، وقد رباه‏ الإسلام في نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه في حياته..

6. إن الإسلام نظام متكامل، تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة، ولا يؤخذ أجزاء وتفاريق، وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد، فتتكامل وتتناسق، وهكذا أنشأ مجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيرا في مجتمعات الأرض جميعا..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/316.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الجار والمجرور (للفقراء) متعلق بمحذوف تقديره النفقة مطلوبة للفقراء الذين‏ أحصروا في سبيل الله والحذف هنا أبلغ من الذكر، حيث يشعر بأنّ أمر هؤلاء الفقراء في غنىّ عن أن يحرّض عليه، فحقّهم على المحسنين واجب لا يحتاج إلى بيان.

2. ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي حبسوا عن الكسب، بسبب اشتغالهم بما هو أهم، وهو أنهم يعملون في سبيل الله، كالمجاهدين أو الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم لإيمانهم بالله، ولم تتهيأ لهم أسباب الرزق، أو قعد بهم المرض أو الكبر، وهم يعملون في سبيل الله.. أو غيرهم ممن افتقروا وهم قائمون في سبيل الله.. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾

3. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي أنّ هؤلاء الفقراء ليسوا من الطفيليين الذين يعيشون عالة على كسب غيرهم، وإنما هم أزهد الناس فيما في يد الناس، وقد بذلوا أنفسهم وخرجوا عن ديارهم وأموالهم في سبيل المبدأ والعقيدة، ومن أجل هذا فهم ـ على فقرهم وحاجتهم ـ متجملون بالتعفف والقناعة والصبر، حتى ليحسبهم من لا نفاذ لبصره في حقائق الأمور، أنهم أغنياء لا حاجة بهم إلى شيء من مال أو متاع، وقد يكون أحدهم طاويا لأيام لم يذق طعاما، ولكن البصير الذي يتفرس في وجوههم، فينفذ إلى دخيلة أمرهم يجد منهم ما يخفيه تعففهم وتجملهم من ضرّ الجوع، وأذى المسغبة.، ومن هنا كان واجبا على المحسن أن يتحسّس حاجة المحتاجين، وأن يتعرف على ذوى الحاجة المتسترين الذي يمنعهم الحياء والتعفف عن أن يسألوا.. فهؤلاء هم أحق الناس بالعون والإحسان!.

4. ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾ هو سمة من سمات المتعففين من ذوى الحاجة، وأنهم إذا سألوا سألوا في رفق، وعلى استحياء.. وذلك‏ أنهم لم يعتادوا السؤال، ولم يقفوا هذا الموقف من قبل، وإلا لذهب حياؤهم، وانحلّت عقدة ألسنتهم، وأصبح السؤال عادة عندهم.. ومثل هؤلاء لا يكونون على سبيل الله، ولا في سبيله!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/348.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ متعلّق بتنفقون الأخير، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة، فما من نفقة ذكرت آنفا إلّا وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضا.

2. ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾ أي حبسوا وأرصدوا، ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد:

أ. فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمنى ففي للسببية والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد.

ب. وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية.

ج. وإن كان المراد بهم أهل الصفة، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل، وقد قيل: إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعليه فسبيل الله هو الجهاد، ومعنى (أحصروا) على هذا الوجه أرصدوا، و(في) باقية على التعليل.

3. الظاهر من قوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته، وجملة ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا﴾ يجوز أن تكون حالا، وأن تكون بيانا لجملة أحصروا.

4. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان، والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق، وفي (البخاري) باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد: أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: (ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن‏ يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله)

5. معنى‏ ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم، والمخاطب بتعرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾، والجملة بيان لجملة ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾، كأنّه قيل: فبما ذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّا، وكيف يطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75]، والسيما العلامة، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم، فأصلها وسمى، فوزنها عفلى، وهي في الصورة فعلى، يدل لذلك قولهم سمة؛ فإنّ أصلها وسمة، ويقولون سيما بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد، ويقولون سوّم إذا جعل سمة، وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه.

6. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ بيان لقوله ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ بيانا ثانيا، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس، وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلّا أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام، فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلّا وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء.

7. الإلحاف الإلحاح في المسألة، ونصب على أنّه مفعول مطلق مبيّن للنوع، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين:

أ. وأيّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم ملحفون ـ وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم ـ مع أنّ قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ يدل على أنّهم لا يسألون أصلا، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ‏ القيس: (على لاحب لا يهتدى بمناره)، يريد نفي المنار والاهتداء، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يحسبون أغنياء من التعفّف، ونظيره قوله تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: 18] أي لا شفيع أصلا، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة، فأنتج لا شفيع يطاع، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية، وقال التفتازاني: (إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللّاحب أن يكون له منار، وشأن الشفيع أن يطاع، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك، بل لا يبعد أن يكون ضدّ الإلحاف ـ وهو الرفق والتلطّف ـ أشبه باللازم، أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه)،

ب. وجوّز الزمخشري أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها، والأظهر الوجه الأول ـ الذي جعل في (الكشاف) ثانيا ـ وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون، وتعين أنّ قوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ تعريض بالملحفين في السؤال، أي زيادة فائدة في عدم السؤال.

8. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيرا، فلما كان الإنفاق مرغّبا فيه من الله، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين، تعيّن أن يكون الإخبار بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به، لأنّه قدير عليه، وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربّه، ونوال الجزاء من الله، وأنّه ثابت له في علم الله.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/543.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا؛ ثم بيّن أنه لا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببا للمنع حيث يجب العطاء، ليحمل المشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة.

2. بعد هذا بيّن سبحانه موضع الصدقات والصفات التي توجب العطاء في مستحقها؛ وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها؛ فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات، وكانوا على تلك الأحوال، وهى خمس؛ فالجار والمجرور (للفقراء) خبر لمبتدإ محذوف يفهم من مطاوي الكلام الكريم السابق كله وثناياه؛ لأن الكلام السابق كله في الإنفاق في سبيل الله، والصدقات المأجورة المشكورة، وما يعكر إخلاصها، ويعوق جزاءها؛ فكان المحذوف المطوي في القول مع قيام المشير إليه هو (الصدقة)، فهو محذوف في حكم المذكور.

3. سؤال وإشكال: لماذا آثر النص القرآني الحذف مع أن الأصل الذكر ليتم النسق الكلامي؟ والجواب:

أ. أولا الإيجاز المعجز الذي يكون فيه قصر اللفظ مع غزارة المعنى.

ب. وثانيا تعليم العباد من حيث إنه طوى لفظ الصدقة، ولم يصرح فيه بالإسناد ووضعه بجوار الفقراء؛ للإشارة إلى أن الأدب يوجب على المعطى ألا يصرح أن يعطيه بأن هذا صدقة، حتى لا يحس بمذلة الأخذ، فحذف القرآن لفظ الصدقة عند الإسناد إلى الفقراء مع وجوده في السابق من القول، ليخفيه المعطى عند العطاء، مع احتسابه النية بإخفائه المقصد.

4. ذكر الله سبحانه وتعالى للفقراء الذين يستحقون الصدقة أوصافا أو أحوالا خمسة:

أ. الوصف الأول: ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي منعوا من الكسب الحلال الطيب الذي يطلبه صاحبه مجاهدا في طلبه، والإحصار هنا المنع؛ وأصله من الحصر بمعنى التضييق كما قال تعالى: ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة] أي ضيّقوا عليهم، والإحصار هو التشديد في التضييق بالمنع من الحركة والسير والعمل المنتج المثمر؛ والمنع إما أن يكون لعجز مطلق بمرض أو شيخوخة أو صغر أو غير ذلك، وإما أن يكون المنع بسبب ضيق مسالك الكسب، فإن كان قادرا ولا يجد عملا مع طلبه، أو هو مشغول عن طلب الرزق لنفسه بما هو أجدى على الجماعة وأنفع كالفدائيين الذين يتقدمون الصفوف ليفتدوا جماعتهم، ويعلوا كلمة الحق، ويخفضوا كلمة الباطل؛ فكل هذا إحصار ومنع من اكتساب الرزق.

ب. الوصف الثاني: أنهم‏ ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ والضرب في الأرض إما أن نقول إنه بمعنى الذهاب في الأرض والسفر فيها طلبا للرزق؛ إذ إن هذا المسافر يضرب الأرض برجله كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النساء] والمعنى على هذا أن هؤلاء لا يستطيعون السفر للاتّجار وكسب الرزق، إما أن يقال هذا، وإما أن يقال إن الضرب في الأرض بمعنى حرثها وزرعها، فإن الحارث الزارع يضرب الأرض بفأسه ويشقها بمحراثه، والأولى في نظري أن تكون كلمة الضرب في الأرض شاملة، وأن يكون النفي شاملا، أي أن هؤلاء الفقراء لا يستطيعون العمل في الأرض بالزراعة، أو الذهاب فيها للاحتطاب والكسب، أو السفر للاتّجار، والتنقل بين الأمصار سعيا في الرزق، لا يستطيع أولئك الفقراء شيئا من هذا بسبب العجز المادي، أو لأنهم حبسوا لنفع عام، أو واجب كفائى على العموم، وقد تخصصوا هم لأدائه؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذى مرة سوى)

ج. الوصف الثالث: أنهم‏ ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ ومعناه أنهم متجملون لا يعرف حالهم‏ من فقر مدقع إلا أهل الخبرة بالنفوس وذوو البصيرة النفاذة، والفراسة الصادقة، فهم لا يعرفون بفقرهم وحاجتهم وعوزهم، بل يحسبهم الجاهل، أي يظنهم أغنياء ويقوم ذلك بحسبانه وتقديره من غير أمارات ظاهرة وبينات قائمة، فالظن في قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ ظن في حسبان صاحبه فقط؛ و(الجاهل) إما أن يكون المراد به من لا يعرف حالهم، أو المراد به من لا ينفذ إلى حقائق الأمور، بل يأخذها بمظاهرها التي تبدو بادى النظر، وليس عنده إحساس مرهف يعاونه على إدراك حال هؤلاء الفقراء مما يحيط بهم لا من مجرد المظاهر، وهذا هو الحق، و(التعفف): تكلّف العفة إما بالمبالغة فيها، والشدة في النزاهة، أو بمحاولة الصبر عليها وتحمل المشقة في سبيلها، أي أن الدواعي لتركها أقوى من البواعث على الاستمساك بها، ولكنه يستعين بالصبر، فيرجح العفة بعد تكلف المشقة واحتمالها، والآية الكريمة تقبل المعنيين، فإن الفقير العاجز عن الكسب عند تحمله ما يتحمل الحر الكريم في سبيل عفته، والمحافظة عليها مبالغ في العفة؛ أولا: لأن المبالغة في العفة ليست بالقدر منها، إنما يكون بقدر ما يبذل في سبيل المحافظة عليها، فالغنى لا يبالغ في العفة إن امتنع عن أخذ أموال الناس، أو طلب المعونة منهم أو أكل مالهم بالباطل، أو سرقتهم أو اغتصابهم، ولكن العاجز عن الكسب يعد مبالغا في العفة إن امتنع عن طلب المعونة، وهو في أمس الحاجة إليها.. وهذا الفقير يبالغ في العفة ثانيا: بتحمل المشقات والتصبر عليها وفى سبيلها.

د. الوصف الرابع: هو ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوى الحس المرهف، والبصيرة النافذة؛ ولذا كان الخطاب في معرفة سيماهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو البصير النافذ البصيرة، ولمن كان مقتديا به من كل مؤمن قوى الوجدان، ممن قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، والسيما: العلامة، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم، والتي يعرفون بها؟ قال بعض العلماء: التواضع والخشوع؛ وقال بعضهم: الرثاثة ومظاهر مصادر الشخص وموارده، وما يحاول به ستر حاله؛ فإنه مهما يحاول الفقير التجمل والصبر فإنه لا بد أن تبدو حاجته لذى البصيرة الكريم الذي لا يعلن عورات الناس؛ فالعلامة إذن هي الظاهرة التي تبدو للفاحص الذي يطمأن إليه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا أمرين: أحدهما ينسب للجاهل وهو الظن بأنهم من الأغنياء، إذ قال سبحانه: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ هذا ظن الجاهل بالنفوس يحسبهم لفرط تجملهم بالصبر أغنياء، والأمر الثاني أن لهم سيما ومظهرا لا يعرفه الجاهل، ويعرفه غيره بالنظر الفاحص العاطف، الكاشف الساتر.

هـ. الوصف الخامس: أنهم‏ ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي أنهم لا يسألون الناس، ولا يلحفون في السؤال أو الطلب؛ ولقد قال الزمخشري في معنى (إلحافا): (الإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم، وألا يفارقه إلا بشيء يعطاه من قولهم: (لحفنى من فضل لحافه) أي أعطاني من فضل ما عنده)، وقال الراغب الأصفهاني: (أصله من اللحاف، وهو ما يتغطى به) وعلى هذا يكون معنى الإلحاف: هو الملازمة في الطلب وملاصقة من يطلب العطاء كملاصقة اللحاف لمن يستتر به، أو الإلحاف يأخذ به الفضل الذي يعطاه، وقد اختلف العلماء في النفي بهذه الجملة السامية: أهو نفى للإلحاف وليس نفيا للسؤال؛ أي أنهم يسألون ولكن لا يلحفون في السؤال؛ أم هو نفى للسؤال مطلقا سواء أكان إلحافا أم من غير إلحاف؟

قال بعض العلماء: إن النص الكريم يفيد بظاهره نفى الإلحاف لا نفى أصل السؤال؛ لأن النفي منصب عليه، إذ النفي إذا كان لأمر مقيد بوصف يكون موضعه ومناطه هو القيد، لا الأصل.

وقال بعض آخر: إن أولئك الفقراء لا يسألون مطلقا لا بإلحاف ولا بغير إلحاف؛ وإني أرى أن ذلك هو الراجح؛ لأنهم لو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؛ ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج البصير ذو الوجدان إلى تعرف حالهم بالمظاهر والسمات؛ فإن طلبهم يغنى عن التعرف، إذ هم يعرفون أنفسهم بالسؤال؛ فسياق الآية يفيد أنهم لا يسألون مطلقا.

5. عبر في الآية الكريمة بـ ﴿أُحْصِرُوا﴾ بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدى النافع، ولم يكن تخاذلا أو كسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا؛ أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدى وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين.

6. في كلمة ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في هذا المقام إشارة إلى سبب الإحصار والمنع، وهو أنهم حبسوا أنفسهم للعمل في سبيل الله، وانقطعوا عن المكاسب وطلب الرزق؛ لأنهم ربطوا أنفسهم في سبيل الله بالجهاد في سبيل إعلاء الحق، أو بالقيام بعمل عام، وقالوا إن هذه الآية نزلت في أهل الصّفّة، وهم طائفة من المهاجرين الفقراء انقطعوا عن أموالهم، وأقاموا بالمدينة لا مرتزق لهم فيها، ينتظرون غزوة يسيرون فيها، أو سرية يذهبون معها، فكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يأمر الصحابة ذوى اليسار باستضافتهم، فتستضيف كل أسرة واحدا أو أكثر على حسب قدرتها، ومن بقى منهم من غير استضافة بسط النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم مائدته لهم في المسجد وأكلوا معه، وقد أقام لهم في المسجد صفّة، أي ظلة يأوون إليها يتقون الحر والبرد، وعلى هذا التخريج يكون الإحصار المذكور في الآية ما يكون سببه الانصراف عن العمل بالاشتغال بعمل عام؛ فإن هذا يوجب على الجماعة التي يعملون فيها أن تجرى على العامل ما يكفيه وأهله بالمعروف؛ فإن لم تفعل الدولة ذلك، وهى التي تمثل الجماعة، تولى الآحاد والجماعات من الناس تهيئة أسباب الرزق لهم بما يكفيهم.

7. الأوصاف اللاحقة لهذا الوصف تومئ إلى أن الآية الكريمة يدخل في عمومها كل فقير يتعفف عن السؤال، ولا يستطيع كسب عيشه لأى سبب من الأسباب المانعة أو المعوقة من العمل للرزق؛ بل إن قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ يجعل موضوع الآية الكريمة الفقراء العاجزين عن الكسب غير المتفرغين لخدمة عامة؛ لأن هؤلاء لا يتعرضون للسؤال ثم يمتنعون عنه، إنما الذي يتعرض له، ويعف عنه هو العاجز لغير ذلك السبب، حينئذ يكون قوله تعالى: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا الطلب في سبيل الله، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون.

8. الخلاصة أن الإحصار على هذا يشمل العجز المادي عن الكسب إما لمرض أو شيخوخة أو نحوهما، أو لطلب العمل مع عدم القدرة عليه، كما يشمل الذين حبسوا لتكليف عام، والقيام بفرض من فروض الكفاية.

9. سؤال وإشكال: لماذا كان النفي متجها إلى الإلحاف في ظاهره، لا في أصل السؤال؟ والجواب: إن النفي ذكر بهذه الصيغة، ليكون فيه إيماء إلى أن يوازيهم المعطى بغيرهم، وأن غيرهم يسأل الناس إلحافا وهم لا يسألون؛ فالله سبحانه وتعالى نفى عنهم ما يقع من غيرهم، والنفي بهذه الصيغة فيه تعريض بالملحفين، وبه يبدو فضل المتعففين، وفى الحقيقة إن نفى السؤال قد فهم فهما ضمنيا واضح الدلالة من الأوصاف السابقة؛ أما الوصف الأخير فهو ينفى عنهم ما يقع من غيرهم وهو الإلحاف؛ ويندر أن يكون سائل غير ملحف؛ وذلك لأن السؤال حيث وقع يكون التعفف قد زال، وإذا زال التعفف وجد الطلب والرغبة في الأخذ، وعند ذلك يكون الإلحاف، حتما، وإنه بلا شك يجب على المعطى أن يبتدئ في عطائه بأولئك المتعففين الذين لا يسألون؛ لأنهم الذين يستحقون، وهم المساكين كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، إنما المسكين المتعفف، اقْرَؤُوا إن شئتم‏ ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾

10. إنه إذا أعطى هذا المتعفف يجب عليه أن يستر حاله، ولا يكشف أمره؛ ليكون ذلك عونا له على تعففه وتحمله، وكل كشف له أذى، والأذى من آفات الصدقات، وإذا فضل شيء بعد كفاية المتعفف أعطى السائل؛ فإن مذلة السؤال توجب العطف؛ ولذا ورد (للسائل حق ولو جاء على فرس) وإن على من يعطى سائلا أن يتعرف حاله أهو يسأل متكثرا، وهو غنى أم هو فقير يسأل مستعينا؟ وليتهم نفسه وشحه قبل أن يتهم السائل؛ ولأن يخطئ في إعطاء غنى عن جهالة خير من أن يخطئ بمنع فقير تظنّنا وتأثما؛ فإن في الأول ثوابا له بنيته، وفى الثاني إثما عليه بتغليب شح نفسه، وتركه فقيرا يتضور جوعا، مسوغا ذلك بالظن الآثم والتهمة، وإن الإثم في ترك السائلين يسألون إنما هو في عدم تنظيم الإحسان، وإغناء الفقراء عن مذلة السؤال.

11. تكلم العلماء في السؤال أهو سائغ من الفقير أم غير سائغ؛ فاتفقوا على أنه جائز عند الضرورة، وأنه لا يصح أن يسأل من عنده قوت يكفيه، ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذى فقر مدقع، أو لذى غرم مفظع، أو لذى دم موجع)، وإن السؤال في غير هذه الأحوال غير سائغ، وهو داخل في عموم النهى؛ ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغنى به من الناس خيرا من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه) فالسؤال حيث القدرة على العمل غير جائز، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم) قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال (ما يغديه أو يعشيه)، وإن كل سائل وعنده ما يغنيه يعد ملحفا، والإلحاف بكل صوره منهى عنه؛ ولذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن يسأل الناس، وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا)

12. فى الجملة إن السؤال ذل وأمر قبيح لا يلجأ إليه المؤمن إلا عند الضرورة، وعلى من يرى سائلا أن يعطيه إن كان المعطى في سعة، وإن قام في نفسه أنه غنى لا يعطيه، ولكن عليه أن يحتاط لدينه كما يحتاط لصدقته؛ وخصوصا في عصرنا هذا الذي أهمل فيه حق الفقير، فلا يجرى عليه رزق دائم من الدولة، وليس للناس مروءات يغنون بها ذوى الحاجات، فكان حقا على الناس أن يعطوا هؤلاء المحرومين، كما قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات‏]

13. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة، لثلاثة أمور:

أ. أولها: تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع دائما على كل ما يعمل من خير ومن شر، أحس بمراقبته سبحانه، ودام ذكره له، وشعوره بعظمته، فيكون في مقام العبودية الرفيع، ويعبد الله كأنه يراه، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

ب. ثانيها: هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير؛ إذ إن الله يراه وهو يفعله، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل، فرضوان الله أكبر من كل نعيم.

ج. ثالثها: العلم بالجزاء الأخروي فإن الله إذا كان يعلم الخير من الأخيار، فإنه يثيبه عليه؛ لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1025.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هاجر جماعة بدينهم الى مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في عهده تاركين بلادهم وأموالهم وأهليهم، ولم يكن لهم في المدينة مسكن ولا عشيرة، ولم يجدوا فيها وسيلة للعيش، ولا يستطيعون السفر طلبا للرزق، ويبلغ عددهم 300 وقيل 400 فلازموا المسجد يتعبدون فيه، ويحرسون بيوت الرسول، ويتعلمون القرآن، وكان حفظه وتعلمه من أفضل الطاعات، لأنه حفظ للدين، وفي الوقت نفسه كانوا يخرجون مع الرسول في كل غزوة.. وكانوا يقيمون في صفّة المسجد، وهي موضع مظلل منه، ومن هنا جاءت التسمية بأهل الصفة، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يطيّب قلوبهم، ويقول لهم: (ابشروا يا أصحاب الصفة، فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي)، وهم أولى الناس بالصدقة، لهذه الآية التي نزلت بهم.

2. وصفت هذه الآية أهل الصفّة بصفات خمس:

أ. التفرغ للجهاد وطلب العلم، وهذا معنى قوله: ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، لأن البطال لا يصدق عليه انه حبس نفسه في سبيل الله.

ب. العجز عن الكسب، وهو المقصود بقوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾

ج. التعفف: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

د. ظهور علامة الفقر من وضعهم وحالهم، لا من الحاحهم في السؤال، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾

هـ. عدم السؤال مما في أيدي الناس سؤال إلحاح، واليه أشار سبحانه: ﴿لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً﴾، والسؤال محرم لغير ضرورة.

3. يرى بعض الغيورين على الإسلام ان الزكاة نظام اقتصادي، أو من النظام الاقتصادي للإسلام، واعتبرها آخرون ضريبة في أموال الأغنياء، والصحيح ان الزكاة أبعد ما تكون عن الضريبة والنظام الاقتصادي، لأن الشرط الأساسي لصحة الزكاة وقبولها هي نية التقرب بها الى الله، وبدونها لا تقبل إطلاقا.. ولا شيء من الضرائب والأنظمة الاقتصادية يعتبر فيه هذا الشرط.

4. هذا، الى ان النظام الاقتصادي بمعناه الحديث ينظر أول ما ينظر الى وسائل الانتاج، كالأرض والمعدن والمصنع ويعتبرها ملكا شخصيا للأفراد يسيطرون عليها، ويتحكمون بها، كما هي الحال في النظام الرأسمالي، أو يعتبرها ملكا للجماعة تديرها وتتحكم بها الدولة، كالنظام الاشتراكي، والزكاة لا تنظر الى هذه الجهة إطلاقا.. ثم ان الضريبة تتولى السلطة الحاكمة أمر تحصيلها وإنفاقها، ولا تجيز بحال أن يمتنع المالك عن اعطائها للسلطة: ويتولى هو بنفسه صرفها في مواردها، وقد أجمع فقهاء المسلمين كافة على ان للمالك أن ينفق الزكاة بنفسه دون اذن الحاكم، وانه يصدّق بلا بينة ويمين إذا قال أنفقتها في وجهها، وأين هذا من الضريبة!؟، بل أجاز الفقهاء للجابي أن يصرف الزكاة الى الفقراء بنفسه، ولا يردها الى بيت المال.. قال الإمام علي عليه السلام لأحد عماله: اصرف ما عندك من المال الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلات، وبديهة ان هذا التصرف محظور على جابي الضرائب.

5. سؤال وإشكال: ان فريضة الزكاة معناها الاعتراف بأن الفقر محتوم لا مفر منه، وان الإسلام يعالجه بالصدقات والتبرعات، وانه يقيم الحياة على البذل والعطاء، وبالنتيجة يقسم الناس الى طبقات على أساس الغنى والفقر، والجواب:

أ. أولا: ان مصرف الزكاة لا ينحصر بالفقراء والمساكين فقط، فان من جملة مصرفها المصالح العامة التي عبّر الله عنها بسبيل الله في العديد من الآيات، فإذا لم يوجد الفقير صرفت الزكاة في هذا السبيل.. اذن، فريضة الزكاة لا تحتم وجود الفقر على كل حال، كي يقال: انها اعتراف واقرار بأن الفقر ضربة لازم لا مفر منها.

ب. ثانيا: ان الضمان الاجتماعي يكفل للمعوزين ما يصونهم عن التسول والتشرد، وهذا الضمان موجود في البلاد الاشتراكية التي لا تعترف بالفوارق المادية والطبقات.

ج. ثالثا: ماذا نصنع بالمريض الذي لا يملك ثمن الدواء، وبالجائع الذي لا يجد وسيلة للغذاء في مجتمع يسوده فساد الأوضاع: هل نتركهما، حتى تصلح الأوضاع، ويمحى من الوجود أثر الفاقة والبؤس: أو نشرّع قانونا يضمن لهما الحياة وسد الخلة؟ ثم هل يمكن تغيير الأوضاع، ومحو الفقر بجرة قلم، ودون أن يمر المجتمع بأكثر من مرحلة؟.

6. ان الإسلام حرب على الضعف بشتى مظاهره، بخاصة الفقر، وقد تعوذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منه، وعنه في بعض الروايات: (كاد الفقر يكون كفرا)..:المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، ان رسالة السماء تستهدف كرامة الإنسان وسعادته، والفقر منقصة ومذلة، وشقاء وبلاء.. فمحال ان يقره الإسلام.. ان الإسلام لا يأبى ان يكون في المجتمع غني وأغنى، وقوي وأقوى، ولكنه يأبى أن يكون فيه فقير وضعيف.

7. ان الإسلام لم يشرع الزكاة من أجل الفقراء فقط ـ كما يظن ـ وإنما شرعها حلا للعديد من المشاكل، منها مشكلة الفقر، حيث يوجد، ومنها مشكلة الرق، حيث تفك رقاب العبيد بأموال الزكاة، ومنها مشكلة الإنفاق على الجند المجاهد، وما الى ذلك من المصالح العامة، كإنشاء المدارس والمصحات ودور الأيتام، وشق الطرق والري.. ولو افترض ان مر على الانسانية زمان لا فقير فيه، وجميع المصالح العامة متحققة متوافرة بحيث لا يوجد إطلاقا مصرف للزكاة فإنها تلغى من غير شك(2)، وهذا الزمان آت لا محالة، فقد جاء في الجزء التاسع من صحيح البخاري، باب الفتن، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم انه قال: (تصدقوا، فسيأتي على الناس زمان، يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها)

8. هذا، إلى أن الإسلام أوجب على صاحب الزكاة حين يؤديها الى المحتاج أن لا يؤذي كرامته، ولا يخدش شعوره، وان يعتقد انه يؤدي واجبا عليه، ودينا لا بد من وفائه، وليؤكد القرآن هذا المعنى قال ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾

9. بالرغم من أن الإسلام سبق الشرائع كلها السماوية والوضعية الى تشريع الزكاة، هذا التشريع الانساني الذي لم يهتد اليه أرباب الأنظمة إلا بعد الإسلام بمئات السنين، وأسموه بالضمان الاجتماعي ـ على الرغم من ذلك فان أفضل شيء يقدم للمحتاجين في نظر الإسلام ان تهيأ لهم الأعمال المناسبة لقدراتهم، حتى يشعروا بقيمتهم في الحياة: والله تعالى يحب عبده المؤمن المحترف.

10. خير ما نختم به هذه الفقرة قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: على كل جزء من أجزائك زكاة لله، فزكاة العين الاعتبار، والغض عن المحرمات، وزكاة الأذن الاستماع الى العلم والحكمة، وزكاة اللسان الحمد والشكر لله، والنصيحة للمسلمين، وزكاة اليد البذل، وزكاة الرجل السعي للجهاد والإصلاح بين الناس.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/428.

(2) لا نرى صحة هذا، لا نظريا ولا واقعيا

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، الحصر هو المنع والحبس، والأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات،: والحصر والإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: ﴿فَإِن﴾ ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ فمحمول على الأمرين وكذلك قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله عز وجل: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى، والتعفف‏ التلبس بالعفة، والسيماء العلامة، والإلحاف‏ هو الإلحاح في السؤال.

2. في الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك: إما عدو أخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.

3. في قوله تعالى‏: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما، ومن هنا يظهر: أن المراد بقوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أنهم لا يسألون الناس أصلا حتى ينجر إلى الإلحاف والإصرار في السؤال، فإن السؤال أول مرة يجوز للنفس‏ الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف، والإلحاف على كل أحد، كذا قيل، ولا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم.

4. في قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلهم، وأما معرفة رسول الله ص بحالهم بتوسمه من سيماهم، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرَؤُوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا ذهاب كرامتهم، وهذا هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/400.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين تعالى مصرف هذا الإنفاق الذي رغب فيه هنا؛ فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ فلهؤلاء تنفقون لأنهم مع فقرهم محصرون في سبيل الله في مركز الإسلام، مستعدون لنصر الله ورسوله؛ ولذلك لا يستطيعون ضرباً في الأرض؛ لإحاطة أعداء الإسلام بدار الإسلام، فلا يستطيعون أن يسعوا لتحصيل قوتِهم وقوت عيالهم إن كان لهم عيال، فحاجتهم إلى الإنفاق ممن يجد ما ينفق حاجة شديدة، مع عظم ثواب الإنفاق عليهم لشدة حاجتهم وكونه نصراً للإسلام؛ لأنه إذا لم ينفق لهم هلكوا وهم أنصار الإسلام، أو اضطروا إلى التقية وإظهار كلمة الردة واللحوق بدار الكفر وهم أنصار الإسلام، ولذلك قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: 7] فالإنفاق عليهم نصر للإسلام، فأجره عظيم من هذه الناحية ـ أيضاً ـ مع عظم أجره من حيث أنه في أناس صالحين أبرار أهل دين ومروءة.

2. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ عن أموال الناس، وخص الجاهل؛ لأن العالم يعرف أن التعفف عن أموال الناس شأن المؤمن المتقي للحرام وللشبهات؛ فليس علامة الغنى، وكذلك التعفف عن السؤال خوف الإثم من السؤال أو للحياء والمروءة حيث يباح، فالجاهل بهم الذي لا يعرف حالهم ومكانهم من الدين والمروءة يحسبهم أغنياء فينبغي التعرف لهم فبماذا يعرفون!؟

3. ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بعلاماتهم، فالجائع يظهر جوعه في وجهه، والمغتم من جوع أولاده يظهر غمه في وجهه، كما يظهر حالهم لمن تأمل من بقائهم في المسجد حين يذهب عنه الناس ليأكلوا وغير ذلك.

4. ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ الإلحاف: الإلحاح والتشديد والمبالغة في الطلب، وهذا يتنزه عنه المؤمن لدينه ومروءته؛ لأنه لا يريد شيئاً بسوط الحياء، كما أنه يستحي من الإلحاح، فينبغي الانتباه لهم، ولا ينتظر منهم السؤال، فإن اضطروا إلى السؤال للتعريف بحاجتهم أكتفي منهم بالتنبيه ولم يتركوا إذا لم يُلِحُّوا بناء على أنهم لو كانوا محتاجين لألحوا، أو لو كانوا شديدي الحاجة لألحوا لأنه غلط، وقد فسّر قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ بأنه تعريض بالمنافقين وليس المراد به أن هؤلاء المؤمنين يسألون؛ لأنهم قد وصفوا بالتعفف.. لكن التعفف غير مقصور على ترك السؤال فإنه يصدق بالتعفف عن أموال الناس، فالمحتاج قد يأخذ سنبلة من الزرع لأن صاحبها لا ينكر عليه، أو يأخذ ما يتساقط على من يكتال أو يكيل لأنه لا ينكر لقلته، أو يتعرض لما يتساقط من النخل من التمر كذلك ونحو ذلك، فترك هذا يعتبر تعففاً، فلا يقصر التعفف على ترك السؤال وخصوصاً السؤال الجائز للضرورة فإنه لا ينافي التعفف، بل قد يكون واجباً لإنقاذ النفس من الموت، أو إنقاذ محترم الدم من الأولاد أو غيرهم، وعلى هذا فلا إشكال في وصفهم بالتعفف، مع فرض سؤالهم بدون إلحاف.

5. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وهذا ترغيب في الإنفاق لأن الله يعلمه ولو سراً في ظلمة الليل فيجزي به كما وعد.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/398.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لكن من هم هؤلاء الذين يستحقون الإنفاق، فيما يدعو إليه الله من الإنفاق في سبيله:

أ. هل هم الذين لا يتركون مجالا للمسألة إلا وانطلقوا فيه، ممن تحوّل السؤال عندهم إلى مهنة للتعيش، الأمر الذي قد يجعل من هذا التشريع تشجيعا للبطالة والامتناع عن العمل والإخلاد إلى الراحة في الكسب السهل؟

ب. أو هم الذين ضاقت بهم سبل العيش بعد أن سلكوا ما قدروا عليه منها، فلم يحصلوا من ذلك على نتيجة، ووقفوا أمام ما لا يقدرون عليه منها عند حدود العجز؟ أو الذين فرضت عليهم ظروف الالتزام بالإسلام الخروج من ديارهم، والابتعاد عن مواقعهم الطبيعية فيها للكسب الحلال بفعل ضغط القوى الكافرة المشركة التي منعتهم من الحصول على حاجاتهم الخاصة، وقد يتمثل هؤلاء بالمجاهدين الذين شغلهم الجهاد عن الكسب، والمستضعفين الذين اضطهدهم المستكبرون فضيّقوا عليهم سبل الرزق ليسقطوا تحت تأثير ضغوطهم الفكرية أو العملية، وطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم من أجل الدعوة أو بلوغ المستوى الذي يؤهلهم لسدّ حاجات أمتهم منه، فلم يملكوا الجمع بينه وبين الكسب المادي لتحصيل ضرورات المعاش، فعاشوا الجهد والفقر والعوز، ولكنهم لم يقفوا على أبواب الأغنياء ليسألوهم، لأن عفّتهم وكرامتهم تأبى عليهم ذلك، بل حاولوا أن يظهروا بمظهر الغني القادر على إعالة نفسه من خلال ما يظهرون به من مظاهر الاكتفاء فيما يأكلون ويلبسون؟

2. تجيب الآية على هذا السؤال، فتحدد الفئة الثانية كمورد للإنفاق، لأن الله لا يريد للناس القادرين على العمل أن يستسلموا للسؤال طلبا للعيش السهل، لأن ذلك يحوّل المجتمع إلى مجموعات من العاطلين الذين يعيشون كلا على غيرهم وهو ما يبغضه الإسلام ويحاربه، بل يريد لهم الحصول على حاجتهم بعرق جبينهم وكدّ سواعدهم، أما الفئات العاجزة التي لا تملك وسائل العيش الكريم، فإن المجتمع بكامله مسئول عنها فيما يستطيعه من الإنفاق عليها ورعاية أمورها ورفع مستواها المادي والمعنوي، ثم تبشر الآية الآخرين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سرا وعلانية، بالأمن عند الله والسرور برضاه وثوابه، جزاء لهم على ما قدموه لله من طاعة وللمجتمع من خدمات كبيرة.

3. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ومنعوا من ممارسة حرياتهم في التحرك العملي من أجل كسب العيش بفعل الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية الخانقة، والضغوط الخارجية القاسية، فلم يملكوا سبيلا إلى تلبية حاجاتهم الضرورية.

4. جاء في أسباب النزول، في‏ الحديث عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام وعن ابن عباس فيما رواه الكلبي عنه، أن الآية نزلت في أصحاب الصفّة، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا: نخرج في كل سريّة يبعثها رسول الله، فحثّ الله الناس عليهم، فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى، وقد ذكرنا في أكثر من موضع من التفسير أن أسباب النزول لا تحدّد المضمون القرآني في نطاق مناسباتها الخاصة، لأنها تمثل المنطلق الذي انطلقت منه الفكرة في الآية ليمتد في أمثاله وأجوائه في موارد أخرى متحركة في الأوسع منه في صعيد الزمان والمكان، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار، فلا يتجمد في مورد، ولا ينحصر في زمن، كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

5. في ضوء هذا، فإن كلمة ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تشمل كل الذين توفرت فيهم هذه الصفة على مدى الزمن ممن لم يكن شأنهم في ترك العمل المعيشي من باب الكسل والاسترخاء والبعد عن المسؤولية، بل من باب القيام بمسئولياتهم العامة التي توحي بها كلمة ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾

6. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ ليسافروا إلى هذا المكان أو ذاك مما تتوفر فيه الوسائل الطبيعية للحصول على الرزق، وذلك من جهة الموانع الخارجية أو الداخلية المحيطة بأوضاعهم الخاصة والعامة التي تضغط على حرياتهم في الحركة في الذهاب والتصرف، فلم تكن المسألة عجزا طبيعيا في الذات، بل من خلال الأجواء المتنوّعة، فيكون إلحاح، كقول الأعشى:

çلا يغمز الساق من أين ومن نصب‏...ولا يعضّ على شرسوفه الصّفرé

ومعناه ليس بساقها أين ولا نصب فيغمزها، ليس أن هناك أينا ولا يغمز، كما جاء في مجمع البيان‏، وقد ذكر صاحب الميزان، أنه لا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمّى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به، بل ربما صار واجبا، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم‏، لكننا نلاحظ أن الآية ليست في مقام بيان التفاصيل من حيث الإشارة إلى ما هو واجب أو راجح أو غير واجب وراجح في السؤال، بل في مقام بيان الطبيعة القوية لهؤلاء، بحيث يتمردون على آلام الحاجة وقد يموتون تحت تأثير ذلك، فهي من نوع الحاجة الملحّة القاسية التي قد تدفع الآخرين إلى أن يسألوا الناس إلحافا ولكنهم لا يفعلون ذلك، مما يفرض على الناس اكتشافهم وسد حاجتهم بالصدقات، لأنها شرّعت لأمثال هؤلاء من أجل حلّ مشكلتهم الضاغطة الصعبة، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في الموارد التي أرادكم الله أن تنفقوا فيها من الخير المنفتح على حاجات الناس والحياة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فهو يجازيكم عليه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/117.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نقل عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال إنّ هذه الآية ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ نزلت في أصحاب (الصفّة)، وهم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكّة وأطراف المدينة ممّن لم يكن لهم مأوى يأوون إليه في المدينة، ولا قريب يؤويهم في منزله، فاتّخذوا من مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم منزلا معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائما، ولكن بما أنّ بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أمروا بالانتقال إلى (صفّة) دكّة عريضة كانت خارج المسجد، ونزلت الآية تحثّ المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم‏.

2. يبيّن الله في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق، وهي التي تتّصف بالصفات التالية:

أ. ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الأخرى، عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف‏، ثمّ للتأكيد تضيف الآية: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الأخرى حيث تتوفر نعم الله تعالى، وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلّا إذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله.

ب. الذين‏ ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئا عن بواطن أمورهم، ولكنهم ـ لما فيهم من عفّة النفس والكرامة ـ يظنّون أنهم من الأغنياء، ولكن هذا لا يعني أنهم غير معروفين، لذا تضيف الآية ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، والسيماء: العلامة، فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشيء عن حالهم، فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبئ عمّا خفي من أسرارهم.

ج. الثالث من صفات هؤلاء أنهم لا يصرّون في الطلب والسؤال: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلا عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديّين، وهؤلاء ليسوا عاديّين، وقول القرآن إنّهم لا يلحفون في السؤال لا يعني أنّهم يسألون بدون إلحاف، بل يعني أنّهم ليسوا من الفقراء العاديّين حتّى يسألوا، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ لأنّهم لا يعرفون بالسؤال، ثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّهم إذا اضطرّتهم الحالة إلى إظهار عوزهم فإنّهم لا يلحفون في السؤال أبدا، بل يكشفون عن حاجتهم بأسلوب مؤدّب أمام إخوانهم المسلمين.

3. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، في هذه الآية حثّ على الإنفاق، وعلى الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ الله عالم بما ينفقون حتّى وإن كان سرّا وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

4. إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعدّدة النهي عن هذا العمل بشدّة، ففي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تحل الصدقة لغني)، وورد في حديث آخر عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمرة جهنّم) وكذلك‏ ورد في الأحاديث الشريفة (أنّه لا تقبل شهادة من يسأل الناس بكفّه)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/330.

135. صفات المنفقين الصالحين وجزاؤهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈135⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 274]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو الدرداء:

روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) أنّه قال: أنه كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن، فيقول: أهل هذه من: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٣٥ ـ: ٣٦.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن أفضل ما يتوسل به المتوسلون الإيمان بالله وصلة الرحم فإنها مثراة للمال، منسأة في الأجل، وصدقة السر فإنها تطفئ الخطيئة وتطفئ غضب الله عزّ وجلّ وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان(1).

2. روي أنّه قال: تصدقوا بالليل فإن صدقة الليل تطفئ غضب الرب، أنفقوا مما رزقكم الله فإن المنفق بمنزلة المجاهد في سبيل الله، فمن أيقن بالخلف جاد وسخت نفسه بالنفقة، داووا مرضاكم بالصدقة، حصنوا أموالكم بالزكاة، التقدير نصف العيش، الهم نصف الهرم، ما عال امرؤ اقتصد، ولا تصلح الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيله، من أيقن بالخلف جاد بالعطية، استنزلوا الرزق بالصدقة، ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء(2).

3. روي عن أبي إسحاق، قال كان للإمام علي أربعة دراهم، لم يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا علي، ما حملك على ما صنعت)؟ قال (إنجاز موعود الله) فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ إلى آخر الآيات(3).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 1/131/613.

(2) الخصال: 619.

(3) تفسير العياشي: 1/151.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾قال: نزلت في الإمام علي، كانت له أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة، وبعث الإمام علي في جوف الليل بوسق من تمر، فأنزل الله تعالى فيهما: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الآية(2).

__________

(1) الطبراني في الكبير: ١١/٩٧.

(2) أورده الثعلبي: ٢/٢٧٩.

الباهلي:

روي عن أبي أمامة الباهلي (ت 86 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من ارتبط فرسا في سبيل الله لم يرتبطه رياء ولا سمعة؛ كان من: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الخيل: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ فيمن لم يربطها خيلاء ولا لمضمار(2).

__________

(1) ابن المنذر، وابن عساكر: ٤٠/٤٤ ـ: ٤٥.

(2) الطبراني في مسند الشاميين: ٢/٦٠.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن إسماعيل بن منصور قال: لما وضع الإمام السجاد على السرير ليغسل نظر إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين(1).

2. روي عن أبي حمزة الثمالي قال: كان الإمام السجاد يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب فيه الصرر من الدنانير والدراهم حتى يأتي بابا بابا فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، فلما مات فقدوا ذلك فعلموا أنه الذي كان يفعل ذلك(2).

3. روي عن الإمام الباقر أنّه قال: كان الإمام السجاد يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب، حتى يأتي بابا بابا فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيرا لئلا يعرفه، فلما توفي فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين، ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضى وتركه، وكان يشتري الخز في الشتاء فإذا جاء الصيف باعه وتصدق بثمنه، ولقد كان يأبي أن يؤاكل أمه، فقيل له: يا ابن رسول الله، أنت أبر الناس وأوصلهم للرحم، فكيف لا تؤاكل أمك؟ فقال: إني أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه.. وكان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله من طعامه إلى عياله، وكان لا يأكل طعاما حتى يبدأ ويتصدق بمثله(3).

4. روي عن سفيان بن عيينة أنّه قال: رأى الزهري علي بن الحسين (الإمام السجاد) ليلة باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وحطب وهو يمشي، فقال له: يا ابن رسول الله، ما هذا، فقال: أريد سفرا أعد له زادا أحمله إلى موضع حريز، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبي، قال أنا أحمله عنك فإني أرفعك عن حمله، فقال علي بن الحسين، لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني، فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام قال له: يا بن رسول الله، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا، قال بلى يا زهري، ليس ما ظننت ولكنه الموت، وله كنت أستعد، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام، وبذل الندى والخير(4).

__________

(1) علل الشرائع: 231/6.

(2) علل الشرائع: 231/8.

(3) الخصال: 517/4.

(4) علل الشرائع: 231/5.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هؤلاء أهل الجنة، ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (المكثرون هم الأسفلون)، قالوا: يا نبي الله، إلا من؟ قال (المكثرون هم الأسفلون)، قالوا: يا نبي الله، إلا من؟ قال (المكثرون هم الأسفلون)، قالوا: يا نبي الله، إلا من؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها رد، حتى قال (إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليل ما هم)، هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سرف، ولا إملاق، ولا تبذير، ولا فساد(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٣٦.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: نزلت في الإمام علي، لم يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما حملك على ذلك؟)قال: حملني أن أستوجب من الله الذي وعدني، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (الآن لك ذلك)قال: فأنزل الله تعالى فيه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:

أ. قيل‏: هي النفقة على الخيل المحتبسة للجهاد، ينفقون ليلا ونهارا، سرّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا إضمار.

ب. وعن على وأبى أمامة الباهلى‏: هي النفقة على الخيل في سبيل الله.

ج. وعن ابن عباس‏ أنّه قال: هي في علف الخيل والنفقة عليها.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى:

أ. قيل‏: نزلت هذه الآية في نفقة عبد الرحمن بن عوف‏ في جيش العسرة.

ب. وقيل‏: نزلت في على بن أبى طالب أنه لم يكن يملك من المال غير أربعة دراهم، وتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟) قال: حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدني؛ فنزلت فيه هذه الآية.

ج. وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى‏.

3. لا ندرى فيمن نزلت، وليس لنا إلى معرفة المنزل فى شأنه حاجة سوى أنه وصفهم بالجود والسخاء، ونفقتهم على الناس ليلا ونهارا سرّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا منّ، ولا أذى.

4. في الآية الكريمة نفى الرياء عن نفقتهم؛ لأن من عود نفسه الفعل في جميع الأوقات لم يراء.

5. ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لأن نعيم الدنيا مشوب بالحزن والخوف، فأخبر عزّ وجل أن نعيم الآخرة لا يشوبه حزن ولا خوف؛ لذلك كان ما ذكر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/268.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على هذا الوجه)(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/128.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنها نزلت في عليّ كرم الله وجهه، كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على أهل الصفّة، أنفق في سواد الليل درهما، وفي وضح النهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله لأنهم ينفقون بالليل والنهار سرّا وعلانية، قاله أبو ذر، والأوزاعي.

ج. الثالث: أنها نزلت في كل من أنفق ماله في طاعة الله.

د. ويحتمل رابعا: أنها خاصة في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار، لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار، في سر وعلانية، فكانت أعم لأنها تؤخذ عن الإرادة وتوافق قدر الحاجة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/347.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:

أ. ذكر ابن عباس‏ أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على هذه الصفة بالليل والنهار، وفي السر والعلانية، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.

ب. وروي عن أبي ذر والأوزاعي أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله.

ج. وقيل هي في كل من أنفق ماله في طاعة الله على هذه الصفة.

2. إذا قلنا أنها نزلت في علي عليه السلام فحكمها سار في كل من فعل مثل فعله، وله فضل الاختصاص بالسبق إلى ذلك، ونزول الآية من جهته.

3. قيل في قسمة الأموال في الإنفاق على الليل والنهار والاسرار والإعلان أفضل من الإنفاق على غير ذلك الوجه قولان:

أ. قال ابن عباس: إن هذا كان يعمل به حتى نزل فرض الزكاة في براءة.

ب. الثاني: ان الأفضل موافقة هذه الصفة التي وصفها الله، وهو الأقوى لأنه الظاهر.

4. قال الرماني، ومن تابعه من المعتزلة لا يجب هذا الوعد إذا ارتكب صاحبها الكبيرة من الجرم كما لا يجب إن ارتد عن الايمان إلى الكفر، وإنما يجب لمن أخلصها مما يفسق بها وهذا عندنا (2) ليس بصحيح:

أ. لأن القول بالإحباط باطل ومقارفة الكبيرة بعد فعل الطاعة لا تحبط ثواب الطاعة بحال، وإنما يستحق بمعصيته العقاب ولله فيه المشيئة.

ب. أما الارتداد فعندنا أن المؤمن على الحقيقة لا يجوز أن يقع منه كفر، ومتى وقع ممن كان على ظاهر الايمان ارتداد علمنا أن ما كان يظهره لم يكن إيماناً على الحقيقة، وإنما قلنا ذلك لأنه لو كان إيماناً لكان مستحقاً به الثواب الدائم فإذا ارتد فيما بعد استحق بارتداده عقاباً دائماً فيجتمع له استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم وذلك خلاف الإجماع.

5. ﴿الَّذِينَ﴾ رفع بالابتداء وما بعده صلة له وخبره‏ ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وإنما دخل الفاء في خبر الذين لأن فيها معنى الجزاء، لأنه يدل على أن الأجر من أجل الإنفاق في طاعة الله، ولا يجوز أن يقال زيد فله درهم لأنه ليس فيه معنى الجزاء.

6. إنما رفع‏ ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ونصب‏ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لأجل تكرير (لا) في جواب إذا قال الشاعر:

çوما صرمتك حتى قلت معلنة...لا ناقة ليَ في هذا ولا جمل‏é

فأما ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، فجواب (هل) من ريب فيه، فقيل لا ريب فيه على عموم النفي كما أن السؤال على استغراق الجنس بمن فالاعتماد في أحدهما على عموم النفي وفي الآخر على اشتمال النفي على شيئين قد توهم إثبات أحدهما.

7. الإنفاق إخراج ما كان من المال عن الملك ولهذا لا يصح في صفة الله تعالى الإنفاق، وهو موصوف بالإعطاء لعباده ما شاء من نعمه لأن الإعطاء إيصال الشيء إلى الآخذ له والسر: إخفاء الشيء في النفس فأما اخفاؤه في خباء، فليس بسر في الحقيقة، ومنه السّرار والمسّارة لأن كل واحد منهما يخفي الشيء عن غيره إلا عن صاحبه، والعلانية، نقيض السر وهو إظهار الشيء وإبرازه من النفس.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/358.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإنفاق: إخراج المال من ملكه إلى غيره.

ب. السر: إخفاء الشيء في النفس، ونقيضه العلانية.

ج. الأجر: الجزاء على العمل.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه كانت معه أربعة دراهم، فأنفقها على هذه الصفة بالليل والنهار سرًّا وعلانية، عن ابن عباس.

ب. وقيل: لما نزلت ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير لأصحاب الصفة، وبعث علي كرّم اللَّه وجهه بوسق من تمر ليلاً فكان أحب الصدقتين إلى اللَّه صدقة علي كرّم اللَّه وجهه، فنزلت الآية فيهما، صدقة النهار صدقة عبد الرحمن، وصدقة الليل صدقة أمير المؤمنين علي، عن ابن عباس.

ج. وقيل: نزلت في النفقة على الخيل المرتبطة في سبيل اللَّه، عن أبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء ومكحول والأوزاعي.

د. وقيل: هو في كل من أنفق ماله في طاعة اللَّه تعالى على هذه الصفة.

3. ثم بَيَّنَ تعالى كيفية الإنفاق وما يستحق عليه فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ يخرجونها في أعمال البر ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾:

أ. قيل: خفية وإظهارًا.

ب. وقيل: المراد به كانوا يديمون النفقة في جميع أحوالهم.

4. سؤال وإشكال: هل الأفضل قسمة الأموال في الإنفاق على هذا الوجه أم لا؟ والجواب: فيه قولان:

أ. الأول: أنه كان يعمل به حتى نزل فرض الزكاة في براءة، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نسخت موافقة هذه الصفة.

5. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ أي أجر ما فعلوا، وهو الجزاء، وهذا إذا لم يحبطه بكبيرة ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ كما يخاف العصاة ويحزنون لما يرون من سوء العاقبة.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الزكاة لا تختص بوقت، وأن المقصود سد الخلة، ففي أي وقت حصل استحق الأجر ليلاً كان أو نهارًا سرًّا أو علانية، وقيل: إن صدقة التطوع الأفضل فيه الإخفاء لبعده من الرياء، وفي الفرض الأفضل الإظهار؛ لأنه أنفى للتهمة.

ب. أن الإنفاق عبادة، وأنها مصروفة إلى الفقراء ثم في قدره وكيفيته يحتاج إلى بيان، وبيانه بالسنة مذكور في كتب الفقه.

7. مسائل نحوية:

أ. قيل: خبر ﴿الَّذِينَ﴾ قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾

ب. رفع ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾، ونصب ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لأجل تكرير ﴿لَا﴾ في جواب ذا أم ذا، كقول الشاعر: (لاَ نَاقَةَ لِي في هَذَا ولا جَمَلُ)، ونصب ﴿لَا رَيْبَ﴾ لأنه جواب (هل من ريب فيه)، وقيل: لا ريب فيه، على عموم النفي، فهو في أحدهما على عموم النفي، وفي الآخر على اشتمال النفي شيئين قد توهم على إثبات أحدهما.

ج. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ قال الأخفش وقطرب: جعل الخبر بالفاء إذ كان الاسم الذي وصل به فعلا؛ لأنه في معنى ﴿مِنَ﴾، وجواب ﴿مِنَ﴾ بالفاء في الجزاء، وتقديره: من أنفق كذا فله أجره.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/125

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:

أ. قال ابن عباس: نزلت الآية في علي عليه السلام، كانت معه أربعة دراهم، فتصدق بواحد نهارا، وبواحد ليلا، وبواحد سرا، وبواحد علانية، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وأبي جعفر عليه السلام.

ب. وروي عن أبي ذر والأوزاعي انها نزلت في النفقة على الخير في سبيل الله.

ج. وقيل: هي عامة في كل من أنفق ماله في طاعة الله على هذه الصفة.

2. على هذا فإنا نقول الآية نزلت في علي عليه السلام، وحكمها سائر في كل من فعل مثل فعله، وله فضل السبق إلى ذلك.

3. ثم بين سبحانه كيفية الانفاق وثوابه، فقال ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ في هذه الحالات أي: ينفقون على الدوام، لأن هذه الأوقات معينة للصدقات، ولا وقت لها سواها.

4. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أتى بالفاء ليدل على أن الجزاء إنما هو من أجل الانفاق في طاعة الله، ولا يجوز أن يقال زيد فله درهم، لأنه ليس فيه معنى الجزاء.

5. ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من أهوال يوم القيامة وأفزاعها ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فيها وقيل: لا خوف من فوت الأجر ونقصانه عليهم، ولا هم يحزنون على ذلك.

6. مسائل نحوية:

أ. ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾: حالان من ﴿يُنْفِقُونَ﴾، وتقديره: مسرين ومعلنين، فهما إسمان وضعا موضع المصدر.

ب. ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف مكان، والعامل فيه ما يتعلق به اللام من ﴿لَهُمْ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/664.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عزّ وجلّ، رواه حنش الصّنعانيّ عن ابن عباس، وهو قول أبي الدّرداء وأبي أمامة، ومكحول، والأوزاعيّ في آخرين.

ب. الثاني: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنه كانت معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما، وفي السّرّ درهما، وفي العلانية درهما، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن السّائب، ومقاتل.

ج. الثالث: أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف، فإن عليّا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصّفّة ليلا وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا، رواه الضحّاك عن ابن عباس.

__________

(1) زاد المسير: 1/247.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها على أقوال:

أ. الأول: لما بيّن الله تعالى في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو، فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ﴾

ب. الثاني: أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله‏: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: 271]

ج. الثالث: أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة على وجوه:

أ. الأول: لما نزل قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلًا، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل.

ب. الثاني: قال ابن عباس: إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: أن استوجب ما وعدني ربي، فقال: لك ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية

ج. الثالث: قال الزمخشري: نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية.

د. الرابع: نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله، فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية.

هـ. الخامس: أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال، وهذا هو أحسن الوجوه، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات.

3. قال الزجاج‏ ﴿الَّذِينَ﴾ رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله‏: ﴿فَلَهُمْ﴾ جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء، فكان التقدير: من أنفق فلا يضيع أجره، وتقديره أنه لو قال الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام، أما لو قال الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام، فههنا الفاء دلّت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق.

4. في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية، وذلك لأنه قدم الليل على النهار، والسر على العلانية في الذكر.

5. قال في خاتمة الآية ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والمعنى معلوم، وهو يدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الأنبياء: 103]، وهذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/71.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:

أ. روي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي أمامة وأبي الدرداء وعبد الله بن بشر الغافقي والأوزاعي أنها نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله، وذكر ابن سعد في الطبقات أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ قال: (هم أصحاب الخيل)، وبهذا الإسناد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبو إلها وأرواثها [عند الله] يوم القيامة كذكي المسك)

ب. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في علي بن أبي طالب، كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم جهرا، ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس، ابن جريج: نزلت في رجل فعل ذلك، ولم يسم عليا ولا غيره.

ج. وقال قتادة، هذه الآية نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير.

2. معنى ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ في الليل والنهار، ودخلت الفاء في قوله تعالى: ﴿فَلَهُمْ﴾ لأن في الكلام معنى الجزاء، وقد تقدم، ولا يجوز زيد فمنطلق.‌‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/347.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق وشدّة حرصهم عليه، حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلا ولا نهارا، ويفعلونه سرّا وجهرا عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال.

2. دخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها؛ وقيل: هي للعطف، والخبر للموصول محذوف، أي: ومنهم الذين ينفقون.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/339.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقت أو حال بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، قال الحراليّ: فأفضلهم المنفق ليلا سرّا، وأنزلهم المنفق نهارا علانية، فهم بذلك أربعة أصناف.

2. لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيبا وترهيبا، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله، قال الغزاليّ: في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معاني: الأول أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد، وشهادة بإفراد المعبود، وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب، والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، وذلك بالجهاد، وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عزّ وجلّ، والمسامحة بالمال أهون، ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام(2):

أ. قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم، فلم يدخروا دينارا ولا درهما، وقسم درجتهم دون من قبلهم، وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم، وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها، وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة، وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة، كالنخعيّ والشعبيّ وعطاء ومجاهد، قال الشعبيّ ـ بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة؟ ـ: نعم، أما سمعت قوله عزّ وجلّ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ الآية [البقرة: 177]، واستدلوا بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، وبقوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [المنافقون: 10]، وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر، مهما وجد محتاجا، أن يزيل حاجته فضلا عن مال الزكاة.

ب. وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، وهي أقل الرتب، وقد اقتصر جميع العوام عليه، لبخلهم بالمال وميلهم إليه، وضعف حبهم للآخرة، قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد: 37]، يحفكم أي: يستقص عليكم، فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله، فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال، المعنى الثاني التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال، فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتيادا، والزكاة، بهذا المعنى، طهرة، أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى، المعنى الثالث شكر النعمة، فإن لله عزّ وجلّ على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخسّ من ينظر إلى الفقير، وقد ضيّق عليه الرزق، وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/216.

(2) اقتصر هنا على ذكر قسمين، ويمكن الرجوع للإحياء للمزيد من التفاصيل

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ المراد إكثار الصدقة وإنفاذها كلما تيسَّرت لهم، وقدَّم اللَّيل والسرَّ لفضل الإخفاء.

2. نزلت في العمُوم، وسببها: أبو بكر تصدَّق بعشرة آلاف دينار ليلا وبمثلها نهارا، أي: بلا قصدِ إخفاءٍ ولا إظهارٍ، وبمثلها سرًّا قصدا للسرِّ، إمَّا ليلا وإمَّا نهارًا، وبمثلها علانيَةً إمَّا ليلا وإمَّا نهارا قصدا للإظهار ليُقتَدَى به، أو أراد الإنفاق فوَسْوَسَ له الشيطان كيف تنفِق الآن وإنفاقُك الآن يَظهَر فعصاه وأنفق، وهكذا يقال: فيما روى قومُنا من أنَّها نزلت أيضًا في عليِّ بن أبي طالب ملك أربعة دراهم فتصدَّق بواحد ليلاً، وبآخَرَ نهارًا، وبواحد سرًّا وآخر علانيَةً، وقيل: في عثمان بن عفَّان وعبد الرحمٰن بن عوف في صدقتهما يوم العسرة، وقيل: الآية في ربط الخيل للجهاد والإنفاق عليها، وهو خلاف الظاهر، وهو التصدُّق على المحاويجِ.

3. ﴿فَلَهُمُ أجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ﴾ دائمٌ ﴿عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ كذلك، وما كان من خوفٍ وحزن زال إذا أُعطُوا كتبهم بأيْمَانِهم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/160.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كل ما تقدم من الآيات في الإنفاق كان في الترغيب فيه وبيان فوائده في أنفس المنفقين وفي المنفق عليهم، وفي الأمة التي يكفل أقوياؤها ضعفاءها، وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة، وفي آداب النفقة، وفي المستحق لها وأحق الناس بها، ونحو ذلك من الأحوال إلا ما يتعلق بالزمان، فقد ذكره الله تعالى في قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ وفيه بيان عموم الأوقات مع عموم الأحوال من الإظهار والإخفاء، وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بتفضيل صدقة السر.

2. الجمع بين السر والعلانية يقتضي أن لكل منهما موضعا تقتضيه الحال وتفضله المصلحة لا يحل غيره محله، وتقدم وجه كل في تفسير ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ﴾ وهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال لا يقبضون أيديهم مهما لاح لهم طريق للإنفاق هم الذين بلغوا نهاية الكمال في الجود والسخاء وطلب مرضاة الله تعالى..

3. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: ومعناها عام: أي الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال، لا يحصرون الصدقة في الأيام الفاضلة أو رؤوس الأعوام ولا يمتنعون عن الصدقة في العلانية إذا اقتضت الحال العلانية، وإنما يجعلون لكل وقت حكمة ولكل حال حكمها؛ إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.

4. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يشعر أن هذا الأجر عظيم، وفي إضافتهم إلى الرب ما فيها من التكريم، ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ يوم يخاف البخلاء الممسكون من تبعة بخلهم ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وقد تقدم تفسير مثل هذا الوعد الكريم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/92.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم، وللامة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها، وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة في أعين الأمم الأخرى، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا، بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك.

2. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك، لهم ثوابهم عند ربهم‏ في خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله، ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع في قلوبهم، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم، أو أشبعوا بطن جائع، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

3. إنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/53.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق، وكل أوقات الإنفاق؛ وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾..

2. يبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها، سواء في صدر الآية أم في ختامها، وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير:

أ. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾.. هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال.

ب. ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾.. لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات.

ج. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.. هكذا إطلاقا، من مضاعفة المال، وبركة العمر، وجزاء الآخرة، ورضوان الله.

د. ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.. لا خوف من أي مخوف، ولا حزن من أي محزن.. في الدنيا وفي الآخرة سواء.. إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/317.

الخطيب:

قال عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع: الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته، مقبول في كل وقت، بالليل والنهار، وعلى أي أسلوب.. سرّا وعلانية، والمنفقون على هذا الوجه مقبولون عند الله، مكفول لهم أجرهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يوم يخاف الناس، ويحزن الناس(1).

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/349.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصّص الكلام بالإنفاق‏ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، فاسم الموصول مبتدأ، وجملة ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ خبر المبتدأ.

2. أدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملا على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ ـ وهي ينفقون ـ صحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلّا لذلك.

3. السرّ: الخفاء، والعلانية: الجهر والظهور، وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر.

4. قوله: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ مقابل قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [البقرة: 270] إذ هو تهديد لمانعي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلّا ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه، أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾

5. رفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ [البقرة: 254]، ومنه ما في حديث أم زرع: (لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة)

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/546.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ هذا ختام آيات الإنفاق في سبيل الله، وقد ختم سبحانه هذه الآيات كما بدأها؛ بدأها بالجزاء الأوفى لمن يتصدق وينفق في سبيل الله، وختمها بالعاقبة الحسنى لمن يتحرى في الصدقات مواضعها، أيا كان زمنها، وأيا كان حالها، فتستوى نفقة الليل ونفقة النهار، وصدقة السر وصدقة العلن، ما دامت الصدقات قد قصد بها مرضاة الله تعالى، وسلمت من آفاتها وهى المن والأذى والرياء.

2. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ فيه بيان عموم الأزمان، فليس للصدقات وقت معلوم تقبل فيه، وآخر ترد وترفض، بل هي خير كلها، المقصود منها النفع العام، وهو متحقق فيها ليلا ونهارا، وغدوة وعشيا، وفى الضحى وفى الأصيل، فالعبرة بالفعل ونيته ونتيجته لا بزمانه ولا بوقته.

3. ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ فيه بيان عموم الأحوال، ما دامت الصدقة قد خلت مما يرنّق صفو الإخلاص فيها، ولا يجعلها خالصة لوجه الله الكريم، ولقد قالوا إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية فيه إيماء إلى أن الأولى الإخفاء والستر؛ وإن ذلك واضح؛ لأن في الإخفاء والستر احتياطا للنفس وصونا لها عن كل ما يؤدى إلى الرياء؛ فإن الإعلان قد يؤدى إلى الحمد والثناء، وقد يستمرئ المعطى ذلك، ويستطيبه، ثم يطلبه ويقصده، وعند ذلك يدخل الرياء، إذ يجد الثغرة في هذا الموضع فينفذ إلى النفس منها.

4. هناك نوع من التعميم آخر في الآية غير عموم الزمان والحال، وهو عموم الإنفاق؛ فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ ولم يقل مثلا يطعمون، فالإنفاق باب واسع يشمل الإطعام والكسوة، كما يشمل سداد الدين ودفع المغارم، وإعداد العدة في سبيل الله تعالى، وإمداد المحاربين، وشراء ما يخصص للنفع العام؛ فكل هذا من الإنفاق، وعمم مع الإنفاق الأموال التي تنفق، فكله خير وكله له جزاؤه.

5. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا جزاء الذين ينفقون بإخلاص غير مقيدين بزمان ولا حال ولا مكان، ولا قدر من الإنفاق، ولا نوع منه، والجملة موقعها من الإعراب أنها خبر والمبتدأ الذين ينفقون، ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازا، كما تدخل جواب الشرط.

6. الجزاء الذي ذكره سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع:

أ. أولها: الثواب يوم القيامة، وفى الدنيا، وذلك بالبركة، وبفضل التعاون الذي توجده الصدقة والإنفاق في سبيل الله؛ ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة، وقد سمى سبحانه وتعالى ذلك أجرا، وسماه في مواضع أخرى جزاء، مع أنه المعطى والمانع، والرازق والباسط، وذلك تفضل منه وكرم، ولنتعلم من الله عدم المنّ في العطاء.

ب. الثاني: الأمن من الخوف؛ إذ قال سبحانه: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ والصدقة تؤمن من الخوف في الدنيا وفى الآخرة، فهي أمن من عذاب الله يوم القيامة؛ إذ إنها تكفر السيئات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود] وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة)، أما الأمن من الخوف في الدنيا؛ فلأن الإنفاق في مواضع الإنفاق وقاية للمجتمع من غوائل الفقر، وعوامل التخريب، فلا يحصن مال الغنى إلا الإنفاق في كل ما يعود على الفقير والمجتمع بالنفع، وإن الأمن من الخوف بالإنفاق واضح كل الوضوح في الإنفاق لإمداد القوات المجاهدة في الدفاع عن الأمة، كما هو واضح في سد حاجات الفقير، وتهيئة فرص الحياة الرفيعة والعمل له.

ج. الثالث: نفى الحزن، والبعد عن أسبابه، والحزن هم نفسي؛ ولذا عبر عنه بالفعل الذي يصور النفس والشخص فقال سبحانه: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وهم النفس يدفع بالاعتماد على الله، وطلب رضاه، واطمئنان الضمير، وبرد اليقين، وذلك كله يتحقق في الدنيا بالصدقة، وزوال الحزن في الآخرة بها أعظم وأكبر.

7. هذا والآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان في ليل أو في نهار، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، لا يرائي ولا يمنّ ولا يؤذى، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها، وهذه الروايات كلها لا تمنع عمومها، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه، ويجيء في وقت الحاجة إليه، و(الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1039.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه 14 آية متوالية في أحكام الإنفاق آخرها هذه الآية، وهي خلاصة ما تقدم، وتأكيد لفضيلة الإنفاق في جميع الأوقات ليلا ونهارا، وفي سائر الأحوال سرا وجهرا.. وذكر الرازي في سبب نزول هذه الآية أقوالا، منها ما روي عن ابن عباس ان علي بن أبي طالب عليه السلام كان يملك أربعة دراهم فقط، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

2. الزكاة غير صدقة التطوع، لأن هذه الصدقة يدفعها المسلم، وهو مخير بين فعلها وتركها، ولا تخضع لشرط النصاب، ولا لغيره سوى قصد التقرب بها الى الله وحده، ويبدأ أجرها من عشرة أضعافها الى سبعمائة ضعف، الى ما لا نهاية حسب دوافعها وأهدافها، أما الزكاة فهي فرض عين، وحق لازم ومعلوم في أموال المقتدر يدفعها لمستحقها، وهي ثالث أركان الإسلام الخمسة: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/429.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى آخر الآية، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين، واستيفاء الأزمة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة والتلطف فقال: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ الآية.

2. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار في الإنفاق، وسبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/401.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ لعله لرغبتهم في الإنفاق كلما جاء سبب مع وجدان ما ينفق، فإذا كان عنده ما ينفق ورأى محتاجاً النهار أعطاه ليبادر مع الحاجة، وإذا علم أحداً محتاجاً في الليل وعنده ما ينفق كالجار يبيت جائعاً أعطاه وكذلك ينفق سراً حيث تيسر الإسرار، وعلانية حيث اقتضت الحال العلانية للاقتداء، أو وجود المحتاج ويخشى فواته إن أخّر ليعطيه سراً، أو سأله واحتاج إلى إعطائه علانية لئلا يتهم بالبخل أو نحو ذلك من الأسباب، وقد روي أنها نزلت في علي عليه السلام.

2. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ مدخر ليوم حاجتهم إليه ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أما غيرهم فقد يخاف عليه من الإنفاق لأنه إسراف أو نحوه، وقد يحزن لأنه أنفق لغرض فاسد، أو لأمل الحصول على غرض فلم يحصل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال: 36]

3. روى الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل): بإسناده عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ نزلت في علي خاصة؛ في أربعة دنانير كانت له تصدق بعضها نهاراً وبعضها ليلاً، وبعضها سرّاً وبعضها علانية) لتكون الحالات أربع يمكن أنه أنفق نهاراً سراً مرة ومرة نهاراً علانية، وأنفق ليلاً مرة سراً ومرة علانية.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/400.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بحيث يتحول الإنفاق في حياتهم إلى نهج في حركة الشخصية من خلال ما يتمثلونه في نظرتهم إلى الواقع في مشاكله ومآسيه، وفي مسئولياتهم تجاه ذلك، مما حمّلهم الله من واجبات وحقوق للناس المحرومين، فلا يتركونه في أي وقت، حتى أنهم‏ يبادرون إلى السير في الليل ليتحركوا من أجل سدّ حاجة النائمين، فيطرقون عليهم بيوتهم، أو يرسلون إليهم من يحمل إليهم الصدقات من موقع الاهتمام المستمر.

2. ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ تبعا للطبيعة الاجتماعية للمسألة بالنظر إلى مواقع الناس أو مواقع الخير في مناسبات الإسرار والإعلان‏ ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لأن الله يحب عباده الذين يتحركون في حل مشاكل خلقه من أجل إيجاد التوازن الاجتماعي في الحاجات، الذي يتحول إلى توازن عمليّ في المواقف، وهؤلاء هم الذين يتطلعون إلى الله في كل ما يفيضون به من عطاء، وما يقفونه من مواقف، طلبا لما عنده من الأجر، فلا تثقلهم خسائر الدنيا مما يفقدونه من المال في العطاء، لأنهم يستهدفون بذلك الحصول على أرباح الآخرة في رضوان الله والوصول إلى الطمأنينة الروحية والسرور القلبي والنعيم الخالد.

3. نلاحظ من هذه الآيات الكريمة إلحاحا كبيرا على قيمة الإنفاق في الإسلام في حدوده الإنسانية التي تثير في داخل الذات مشاعر الخير في علاقتها بالآخرين، بحيث تحفظ لهم حقوقهم في العيش الكريم الذي يلتقون فيه بحاجاتهم الأساسية في نطاق التعاون الإيماني، وتحافظ على كرامتهم في إبقاء إنسانيتهم حرّة كريمة أمام ضغوط الحرمان والحاجة إلى الآخرين، ذلك هو خط الإسلام في الحياة، أن تعيش العطاء السمح من موقع إنسانيتك التي‏ تحمل مسئولية الحفاظ على إنسانية الآخرين، وذلك هو ما نستوحيه من‏ حديث أمير المؤمنين عليه السّلام: (إن الله يحب المرء المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه)، وبذلك يمكن للفكرة أن تتسع لكل طاقة تملكها، ولا يملك الآخرون مثلها، مما يجعلك موضع حاجة الآخرين إليك، سواء في ذلك طاقة المال والقوة والخبرة والعلم بجميع مجالاته، فإن عليك من قاعدة إسلامك، أن تقدمها إليهم في نطاق مشاعر الرحمة الإنسانية التي ترى في الطاقة المميزة نعمة من الله عليك، ومسئولية تحملها لمن يحتاج إليك من دون أن تخلق عندك عقدة الفوقية التي تثير في نفسك الشعور بالاستعلاء، لأن القضية هي أنها ملك الله وهبته، كما أنك ملك الله وعطيّته، فلا فضل لك في أن تعطي ملك الله لعباده، وتلك هي قصة الطاقات الحية في المجتمع المسلم، في حركة العطاء السمح الذي تتحرك فيه المسؤولية والإنسانية والنعمة والإيمان في مسار واحد يلتقي فيه الإنسان بالله عندما يلتقي بالحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/120.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ورد في أحاديث كثيرة أنّ هذه الآية الشريفة نزلت في عليّ عليه السّلام لأنّه كان لديه أربعة دراهم فأنفق منها درهما في الليل وآخر في النهار وثالث علانيّة ورابع‏ خفية، فنزلت هذه الآية، ولكن من الواضح أنّ نزول الآية في مورد خاصّ لا يحدّد مفهوم تلك الآية ولا ينفي شموليّة الحكم لغيره من الموارد.

2. في هذه الآية يدور الحديث أيضا عن مسألة أخرى ممّا يرتبط بالإنفاق في‏ سبيل الله وهي الكيفيّات المتنوّعة والمخلفة للإنفاق فتقول الآية: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، ومن الواضح أنّ انتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين وتركيزا لإخلاص النيّة، وإذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة والترغيب والحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين، فليعلن عنه (كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيريّة وأمثال ذلك)

3. لا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية الكريمة إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلّا أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال.

4. من المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله (وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئا قليلا وغير ذا قيمة، بل يكون متناسبا مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى.

5. ثمّ تضيف الآية ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر أموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك، ويشتدّ به الخوف على مستقبله، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام، هذه الحالة غالبا ما تمنع الإنسان من الإنفاق، إلّا الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة أخرى (2) الإنفاق الاجتماعية، فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/334.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

136. حرمة الربا وعقوبة المرابي

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈136⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ ذلك يوم القيامة(1).

__________

(1) علَّقه ابن المنذر: ١/٥٢.

ابن سلام:

روي عن عبد الله بن سلام (ت 43 هـ) أنّه قال: الربا اثنتان وسبعون حوبا، أصغرها حوبا كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم في الربا أشد من بضع وثلاثين زنية قال ويؤذن للناس يوم القيامة ـ البر والفاجر ـ في القيام إلا أكلة الربا، فإنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس(1).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٩٧٠٦.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ ذلك حين يبعث من قبره(1).

2. روي أنّه قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق(2).

3. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ يعرفون يوم القيامة بذلك، لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق(3).

4. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ كذبوا على الله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ فأكل الربا ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٣٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٤.

(3) أبو يعلى: ٢٦٦٨.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق فآخذ مكانها الدنانير، فأتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فسألته، فقال: (لا بأس به بالقيمة)(1).

__________

(1) أبو داوود: 3354.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ كان الرجل إذا حل ما له على صاحبه؛ يقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل، وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم: هذا ربا، قالوا: سواء علينا إن زدنا في أول البيع أو عند محل المال فهما سواء، فأكذبهم الله فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ يعني: البيان الذي في القرآن في تحريم الربا، ﴿فَانْتَهَى﴾ عنه؛: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ يعني: فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم، ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: بعد التحريم وبعد تركه، إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ يعني: في الربا بعد التحريم فاستحله، لقولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾؛: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يعني: لا يموتون(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٥.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٥ ـ: ٥٤٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٣٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ما من رجل يروح أو يغدو إلى مجلسه وسوقه فيقول حين يضع رجله في السوق: اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها، إلا وكل الله به من يحفظه ويحفظ عليه حتى يرجع إلى منزله، فيقول له: قد أجرت من شرها وشر أهلها يومك هذا بإذن الله وقد رزقت خيرها وخير أهلها في يومك هذا، فإذا جلس مجلسه، فقال حين يجلس: أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، اللهم إني أسألك من فضلك حلالاً طيّباً، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم، وأعوذ بك من صفقة خاسرة ويمين كاذبة، فإذا قال ذلك، قال له الملك الموكل به: أبشر فما في سوقك اليوم أحد أوفر حظا منك، قد تعجلت الحسنات، ومحيت عنك السيئات، وسيأتيك ما قسم الله لك موفرا حلالا مباركا فيه(1).

2. روي أنّه قال: من دخل السوق فنظر إلى حلوها ومرها وحامضها فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم إني أسألك من فضلك، وأستجيرك من الظلم والغرم والمأثم(2).

3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾: (الموعظة: التوبة)(3).

4. روي عن محمد بن مسلم، قال دخل رجل على الإمام الباقر، من أهل خراسان، قد عمل بالربا حتى كثر ماله، ثم إنه سأل الفقهاء، فقالوا: ليس يقبل منك شيء إلا أن ترده إلى أصحابه، فجاء إلى الإمام الباقر فقص عليه قصته، فقال له الإمام الباقر أنّه قال: (مخرجك من كتاب الله عز وجل: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ والموعظة: التوبة)(4).، وهذا يحمل على حالة استحالة الرد لظروف مختلفة، ولكن يعوض ذلك بالصدقات الكثيرة، ويدل عليه ما روي عن الإمام الصادق قال سمعت الله يقول: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله! فقال: (أي محق أمحق من درهم الربا، يمحق الدين، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر)(4).

5. روي أنّه قال: كان الوليد بن المغيرة يربي في الجاهلية، وقد بقي له بقايا على ثقيف، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بعد أن أسلم، فنزلت الآية(5).

__________

(1) الكافي: 5/155/1.

(2) المحاسن: ص40/46.

(3) الكافي: 2/314.

(4) التهذيب: 7/15.

(5) مجمع البيان: 2/673.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ فالمس: الجنون(1).

2. روي أنّه قال: (﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ معناه ما مضى(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 105.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 106.

ابن أبي هند:

روي عن داوود بن أبي هند (ت 140 هـ) أنّه قال: كان لي جار يأكل الربا، فمات، فرأيته في المنام كأنه قائم يخنق، فاضطرب حتى سقط إلى الأرض، ثم وثب، فلما استوى قائما خنق، فاضطرب حتى سقط إلى الأرض ـ ثلاث مرات ـقال: قلت له: فلان؟ قال نعم، وعهدي به صحيح، قلت: ما شأنك؟ قال ريح الربا تأخذني كل النهار، مرتين أو ثلاثا(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٥١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أكل الربا وشهادة الزور وكتابة الربا، وقال: إن الله لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه(1).

2. روي أنّه قال: (آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان)(2).

3. روي أنّه قال: شكا رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الحرفة، فقال: انظر بيوعا فاشترها، ثم بعها فما ربحت فيه فالزمه(3).

الإمام الصادق (ت 148 هـ) المعلى بن خنيس قال رآني الإمام الصادق وقد تأخرت عن السوق، فقال: أغدُ إلى عزّك(4).

4. روي أنّه قال: تسعة أعشار الرزق في التجارة(5).

5. روي أنّه قال: من طلب التجارة استغنى عن الناس، قيل: وإن كان معيلا، فقال: وإن كان معيلا، إن تسعة أعشار الرزق في التجارة(6).

6. روي أنه قيل له: جعلت فداك، إن الناس يزعمون أن الربح على المضطر حرام وهو من الربا؟ فقال: (وهل رأيت أحدا اشترى ـ غنيا أو فقيرا ـ إلا من ضرورة؟.. قد أحل الله البيع وحرم الربا، فاربح ولا ترب)، قيل: وما الربا؟ قال (دراهم بدراهم، مثلان بمثل)(7).

7. روي أنّه سئل عن تحريم الربا، فقال: إنه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، فحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارات من البيع والشراء، فيبقى ذلك بينهم في القرض(8).

8. روي أنّه سئل: ما معنى قول المصلي في تشهده: لله ما طاب وطهر وما خبث فلغيره؟ فقال: ما طاب وطهر كسبك الحلال من الرزق، وما خبث فالربا(9).

9. روي أنّه قال: آكل الربا لا يقوم حتى يتخبطه الشيطان من المس(10).

10. روي أنّه قال: لم حرم الله الربا؟ قال لئلا يتمانع الناس المعروف(11).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 4/4/1.

(2) تفسير العيّاشي: 1/152.

(3) الكافي: 5/168/1.

(4) من لا يحضره الفقيه: 3/119/507.

(5) من لا يحضره الفقيه: 3/147/647.

(6) الكافي: 5/148/3.

(7) من لا يحضره الفقيه: 3/176.

(8) من لا يحضره الفقيه: 3/371/1751.

(9) معاني الاخبار: 175/1.

(10) تفسير العياشي: 1/152/503.

(11) أبو نعيم في الحلية: ٣/١٩٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ الذي نزل بهم يوم القيامة: ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ فأكذبهم الله تعالى، فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فكان الرجل إذا حل ما له، فطلبه، فيقول المطلوب: زدني في الأجل وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فإذا قيل لهم: إن هذا ربا، قالوا: سواء زدت في أول البيع أو في آخره عند محل المال فهما سواء، فذلك قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، فقال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٦.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ القرآن: ﴿فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ مغفورا له، ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ من لم يتب من الربا حتى يموت: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٥٣.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ هذا مثلهم يوم القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس، يقوم يوم القيامة كأنه خنق، كأنه مجنون(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤١.

الرسّي:

قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): وسألت: عمن ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275]، وما المس؟ فالمس هو: اللمم، واللمم هو: الجنون.. وأما ما سألت عنه من التخبط، فما يعرف من: خبط المتخبط، وهو: الغشيان من خارج لا من داخل.. وإنما مثل الله أكلة الربا؛ إذ مثلوا رباهم، وما حرم الله عليهم من الربا ونهاهم ـ بالبيع الذي فيه إرباء، وإنما هو: أخذ بالتراضي وإعطاء، فقالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، شبهوا ما لم يجعل الله متشابها؛ فشبهوا الحرام بالحلال، والهدى فيه بالضلال، فمثلهم الله في ذلك؛ لما هم عليه من الجهل ـ بمن يعرفون أنه عندهم أنقص أهل النقص، من أهل الجنون والخبل(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/131.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾

أ. قال بعضهم: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ ليس على حقيقة الأكل، ولكنه كان على الأخذ، كقوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161]، فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ هو على التمثيل، ليس على التحقيق.

ب. وقال آخرون: هو على نفس الأكل، وما ذكر من العقوبة، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق.

ج. وقال غيرهم: ذلك لاستحلالهم الربا، وتخبيطهم الله عزّ وجل في الحكم في تحريمهم الربا بقولهم: ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾

2. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ فيه دليل جواز القياس في العقل؛ لأنه لو لم يكن في العقل جوازه لم يكن لقولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ معنى، لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة، ثم المماثلة على الوجهين: مماثلة أسباب، ومماثلة أحوال.

أ. فالمماثلة التي هي مماثلة أحوال: هي ابتداء محنة في الفعل، لا يقاس على غيره، نحو أن يقال: اقعد، أو أن يقال: قم، لا يقاس القيام على القعود، ولا القعود على القيام، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به.

ب. وأما مماثلة الأسباب: فهي مماثلة الإيجاب‏، نحو أن يقال: حرم الله السكر في الخمر، فحيث ما وجد السكر يحرم؛ لأنه يجنى على العقل، فكل شيء يجنى عليه فهو محرم التناول منه.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾:

أ. قيل: يقولون: لما جاز أن يباع ثوب يساوى عشرة بأحد عشر، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟

ب. وقيل: كان الرجل منهم إذا حل ما له على صاحبه طلبه، فيقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل وأزيدك على ما لك، فيفضلان على ذلك ويعملان به، فإذا قيل لهما: هذا ربا، قالا: هما سواء: الزيادة في البيع، أو الزيادة عند محل البيع، فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ أي ليس هكذا: البيع كالربا.

ج. ويحتمل: فيه ابتداء حرمة أن حل ما هو بيع لا ما هو ربا.

4. سؤال وإشكال: حول قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ لقائل أن يقول: إنما يحرم منه قدر الربا، وأما العقد فإنه يجوز لما ليس فيه ربا، والجواب:

أ. الأصل عندنا فيه: أن الدرهم الزائد يأخذ كل درهم من العشرة قسطا منه وجزءا من أجزاء كل درهم منه، فلا سبيل إلى إمضاء العقد لأخذ أجزائه كل درهم من الذي فيه العقد، وهو ربا.

ب. وفيه وجه آخر: وهو أنه ختم الكلام على قوله: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ﴾ ولا يزاد رأس المال في عقد قد مضى، ثم معرفة الربا من غير الربا ما ليس بإرادة بدل.

ج. ثم فيه دلالة أن حرمة الربا كان ظاهرا عندهم حتى حكوا، وكان حرمته فيما بينهم كهو فيما بين أهل الإسلام؛ لذلك قال أبو حنيفة: أن لا يجوز بيع الربا فيما بين أهل الإسلام وبين أهل الذمة، وعلى ذلك خرج الخطاب منه ـ عزّ وجل ـ بقوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾:

أ. قيل: ﴿مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ بيان تحريم الربا.

ب. وقيل: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ﴾ نهى في القرآن‏ ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ في تحريم الربا، ﴿فَانْتَهَى﴾ عن الربا.

ج. ويحتمل: الموعظة، هي التذكير لما سبق منه، فيتذكر فيرجع عن صنيعه.

6. في قوله تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ وجهان:

أ. قيل: ﴿مَا سَلَفَ﴾ له في الجاهلية صار مغفورا له، وهو كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]

ب. ويحتمل قوله تعالى: ﴿مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وذلك أن الكافر إذا تاب ورجع عن صنيعه، يرجع لا أن يعود إلى فعله أبدا، ويندم على كل سيئة ارتكبها، فيجعل الله كل سيئة كانت منه حسنة، وهو كقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70]

7. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ في حادث الوقت أن يعصمه.

8. ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ المعتزلة، ومن وافقهم استدلوا على الوعيد لأهل الإسلام بما ذكر فيه من العود، لكن بدء الآية على الاستحلال، فعلى ذلك العود إليه على جهة الاستحلال، يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ فأثبت له الكفر بالذي كان منه في الابتداء، وهو الاستحلال؛ فكذلك العود إليه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/270.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قد كان سألني عن هذه المسالة أخي أبو محمد حيان بن محمد الخولاني رضى الأبرار، وسلم مهجته ووقاه عذاب النار، فأجبته في ذلك: سألت عن قول مولانا الواحد الجليل وما ذكر في أهل الربا من القول: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾: هذا مثل ضربه الله لمن يعمل بالربا بالمسوس وخبله، إذ لم ينتفع ويزدجر عن الحرام بما ركبه الله من عقله.. والمس: فهو الجنون، وإنما خاطبهم الله بما يعرفون، لأنهم إذا رأوا مجنوناً سموه مخبوطاً منقوصاً، وكان بذلك الاسم عندهم مخصوصاً.

2. معنى قوله: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ﴾ فهؤلاء يقومون بأمر الربا وتدبيره، ولا يسعون ولا يجتهدون في أموره، إلا كما يقوم الخبل فيما لا يغنيه، ولا ينفعه في سبب من الأسباب ولا يعود عليه.

3. معنى قوله عز وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ يريد عز وجل أنه ضرب لهم المثل بمن لا يعقل، لأنهم زعموا أن البيع الحلال مثل الحرام، ولم يفرقوا بزعمهم بين ما أحل وبين ما حرم، ولم يفصلوا بين من تحرى بالحلال وبين من ظلم، فشابهوا بذلك في الجهل من لا يعقل، ومن هو في الجنون أجهل من كل من يجهل.

4. معنى قوله عز وجل: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي فقد غفر له ما سلف من ذنبه إذا تاب، وليس يريد أن له ما سلف من أموال الناس، وكيف يكون ذلك وهو يقول عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يعني الذين امنوا باللسان، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ إلى قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾، أي فأعلموا بحرب من الله ﴿وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ﴾ فلم يحل لهم إلا رأس المال.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 292.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ يعني يأخذونه فعبّر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد بالأكل والربا: هو الزيادة من قولك ربا السويق إذا زاد وهي الزيادة على الدين لمكان الأجل ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ أي يوم القيامة أي لا يقومون من قبورهم ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ يعني من الجنون وليس للشيطان فعل فيه وإنما هو من فعل الله عز وجل يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه فينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من أعوانه الذي يصرعه به.

2. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ عنى بهذا القول ثقيفاً لأنهم كانوا من أكثر العرب رباً فلما نهوا عنه قالوا كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله عنهم ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي لا يعود إلى مثله ويرد ما أخذ.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/128.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ يعني يأخذون الربا فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل، والربا: هو الزيادة من قولهم: ربا السويق يربو إذا زاد، وهو الزيادة على مقدار الدّين لمكان الأجل.

2. ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ يعني من قبورهم يوم القيامة، وفيه قولان:

أ. أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع‏ ظهرا لبطن، ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.

ب. الثاني: قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون، فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا.

3. اختلفوا في مس الجنون، هل هو بفعل الشيطان؟

أ. فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه، ينسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه.

ب. وقال آخرون: بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه.

4. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ قيل إنه يعني ثقيفا لأنهم كانوا أكثر العرب ربا، فلمّا نهوا عنه قالوا: كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وللشافعي في قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنها من العامّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا، فعلى هذا اختلف في قوله، هل هو من العموم الذي أريد به العموم، أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين:

أحدهما: أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص.

الثاني: أنه عموم أريد به الخصوص.

وفي الفرق بينهما وجهان:

أحدهما: أن العموم الذي أريد به العموم: أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص، والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص.

الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدّم على اللفظ، وأن ما أريد به العموم متأخر عن اللفظ ومقترن به، [هذا] أحد أقاويله:

ب. الثاني: أنه المجمل الذي لا يمكن أن يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل، وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان، فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها، هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين:

أحدهما: أنه لمّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها.

الثاني: أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعا فصارت بالسنة مجملة.

وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه:

هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ، لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعا وحرّم بيعا.

الثاني: أن الإجمال في لفظها ومعناها، لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معا، فهذا شرح القول الثاني.

ج. الثالث: أنها داخلة في العموم والمجمل، فيكون عموما دخله التخصيص، ومجملا لحقه التفسير:

لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في‏ المعنى، فيكون اللفظ عموما دخله التخصيص، والمعنى مجملا لحقه التفسير.

والوجه الثاني: أن عمومها في أول الآية من قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، وإجمالها في آخرها من قوله: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، فيكون أولها عاما دخله التخصيص، وآخرها مجملا لحقه التفسير.

والوجه الثالث: أن اللفظ كان مجملا، فلما بيّنه الرسول صار عاما، فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، في العموم بعد البيان.

5. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ في الموعظة وجهان:

أ. أحدهما: التحريم.

ب. الثاني: الوعيد.

6. ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ قاله السدي: يعني ما أكل من الربا لا يلزمه ردّه.

7. قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: في المحاسبة والجزاء.

ب. الثاني: في العفو والعقوبة.

ج. وقيل فيه وجه ثالث: في العصمة والتوفيق.

د. وقيل فيه وجه رابع: فأمره إلى الله والمستقل في تثبيته على التحريم أو انتقاله إلى الاستباحة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/348.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أصل الربا: الزيادة من قولهم ربا الشيء يربو ربواً إذا زاد، والربا: هو الزيادة على رأس المال، في نسيئة أو مماثلة وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الأجل أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين، والمنصوص عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تحريم التفاضل في ستة أشياء الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح، وقيل: الزبيب: فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيها مثلًا بمثل يداً بيد من زاد أو استزاد، فقد أربى.

2. هذه الستة أشياء لا خلاف في حصول الربا فيها، وباقي الأشياء عند الفقهاء مقيس عليها، وفيها خلاف بينهم، وعندنا(2) أن الربا في كل ما يكال أو يوزن إذا كان الجنس واحداً، منصوص عليه.

3. الربا محرم متوعد عليه كبيرة بلا خلاف، بهذه الآية، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

4. ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة: إن قيامهم على هذه الصفة يكون‏ يوم القيامة: إذا قاموا من قبورهم، ويكون ذلك إمارة لأهل الموقف على أنهم أكلة الربا.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾:

أ. قيل: مثل عند أبي علي الجبائي لا حقيقة على وجه التشبيه بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه ويلج الشيطان بإغوائه عليه فيقع عند تلك الحال ويحصل به الصرع من فعل الله، ونسب إلى الشيطان مجازاً لما كان عند وسوسته.

ب. وكان أبو الهذيل وابن الأخشاد يجيزان أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض قالا، لأن الظاهر من القرآن يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه وقال الجبائي: لا يجوز ذلك، لأن الشيطان خلق ضعيف لم يقدره الله على كيد البشر بالقتل والتخبيط ولو قوي على ذلك لقتل المؤمنين الصالحين والداعين إلى الخير، لأنهم أعداؤه، ومن أشد الأشياء عليه، وفي ذلك نظر.

6. أصل الخبط: الضرب على غير استواء، خبطته أخبطه خبطاً، والخبط ضرب البعير الأرض بيديه والتخبط المس بالجنون أو التخبيل، لأنه كالضرب على غير استواء في الادهاش، والخبطة البقية من طعام أو ماء أو غيره لأنه كالصبة من الدلو وهي الخبطة به، والخبط: ورق تعلفه الإبل، والخباط: داء كالجنون، لأنه اضطراب في العقل كالاضطراب في الضرب، والخبطة كالزكمة، لأنها تضرب بالانحدار على اضطراب، والخباط سمة في الفخذ لأنها تضرب فيه على اضطراب.

7. معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد مصيره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع وذلك خطأ، لأن أحدهما محرم والآخر مباح، وهو أيضاً منفصل منه في العقد، لأن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الآخر لأجل البيع، والفرق بين البيع والربا: أن البيع ببدل لأن الثمن فيه بدل المثمن، والربا ليس كذلك وإنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس‏ ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾

8. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾:

أ. قال أبو جعفر من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف.

ب. وقال السدي: له ما أكل، وليس عليه ردّ ما سلف، فأما ما لم‏ يقبض بعد، فلا يجوز له أخذه، وله رأس المال.

ج. وقال الطبري: الموعظة التذكير والتخويف الذي ذكره الله وخوفهم به من آي القرآن وأوعدهم عليه إذا أكلوا الربا من أنواع العقاب.

9. قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: بعد مجيء الموعظة والتحريم، وبعد انتهاء أكله إلى الله تعالى عصمته، وتوفيقه إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله.

ب. ويحتمل أن يكون أراد، فله ما سلف يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.

10. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ معناه في جواز العفو عنه إن لم يتب وكل شيء قدمته امامك فهو سلف، والسلوف التقدم يقال: سلف يسلف سلوفاً ومنه الأمم السالفة أي الماضية، والسالفة أعلى العنق، والاسلاف الإعطاء قبل الاستحقاق تقول أسلفت المال إسلافاً، وسلافة الخمر: صفوها لأنه أول ما يخرج من عصيرها والسلفة: جلد رقيق يجعل بطانة للخفاف، وسلف الرجل: المتزوج باخت امرأته والسلفة ما تدخره المرأة لتتحف به زائراً، وأصل الباب التقدم.

11. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ فالعود هو الرجوع تقول عاد يعود عوداً إذا رجع، وعيادة المريض: المصير إليه لتعرف خبره، والعود: من عيدان الشجر، لأنه يعود إذا قطع ومنه العود الذي يتبخر به، والعود: المسن من الإبل، والمعاد كل شيء إليه المصير، فالآخرة معاد الناس أي مرجع، وقوله: ﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ يعني مكة بأن يفتحها عليه، والاعادة: فعل الشيء ثانية وهو المبدئ المعيد، والعادة تكرر الشيء مرة بعد مرة، وتعود الخير عادة، والعيد كل يوم مجمع عظيم، لأنه يعود في السنة أو في الأسبوع، والعائدة الصلة لأنها تعود بنفع على صاحبها وأصل الباب الرجوع، تقول: عاد عوداً واعتاد اعتياداً واستعاد استعادة وعوّد تعويداً، وتعود تعوداً، وعاود معاودة.

12. معنى الآية ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن ذلك لا يصدر إلا من كافر، لأن مستحل الربا كافر بالإجماع فلذلك توعده بعذاب الأبد، والخلود والوعيد في الآية يتوجه إلى من أربى، وإن لم يأكله وإنما ذكر الله الذين يأكلون الربا لأنها نزلت في قوم كانوا يأكلونه، فوصفهم بصفتهم وحكمها سائر في جميع من أربى، والآية الأخرى التي ذكرناها وتبين معناها فيما بعد تبين ما قلناه وعليه أيضاً الإجماع.

13. قيل في علة تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب والمتاجر إذا وجد المربي من يعطيه دراهم وفضلا بدراهم، وقال أبو عبد الله عليه السلام إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف فرضاً أو رفداً

14. أما ذكر الموعظة هاهنا وأنها في قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لأمرين:

أ. أحدهما: أن كل تأنيب ليس بحقيقي جاز فيه التذكير والتأنيث فجاء القرآن بالوجهين معاً.

ب. الثاني: أنه ذكر هاهنا لوقوع الفصل بين الفعل والفاعل بالضمير وأنث في الموضع الذي لم يفصل.

15. الربا محرم في النقد والنسيئة بلا خلاف وكان بعض من تقدم يقول لا ربا إلا في النسيئة والذي كان يربيه أهل الجاهلية أن يؤخروا الدين عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه وهذا حرام بلا خلاف، ومسائل البيع الصحيح منها والفاسد وفروعها بيناها في النهاية والمبسوط وكذلك مسائل الصرف فلا نطول بذكرها في هذا الكتاب.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/360.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الربا: الزيادة يقال: أربى فلان أي زاد عليه، ومنه: الربوة: الأرض المرتفعة، ومنه: الربو.

ب. الخبط: الضرب على غير استواء، وخبط البعير الأرض بيده إذا ضربها، والتخبط: المس بالجنون، والتخبيل والخُباط كالجنون.

ج. المس: مصدر مسست الشيء مسًّا، والمس: الجنون، ورجل ممسوس وقد مُسَّ، وأصله: مس الشيطان إياه فهو ممسوس أي أنه مس جن.

د. السلف: كل شيء قدمته أمامك فهو سلفك، ومنه الأمم السالفة.

هـ. العود: الرجوع، عاد يعود عودًا، ومنه المعاد.

2. لما حث اللَّه تعالى على الإنفاق، وبَيَّنَ ما يجعل للمنفق من عاجل الخلف والثواب الآجل ترغيبًا في الصدقة، وتكذيبًا لمن يظنه نقصانًا عقَّبه بذكر الربا الذي يظنه الجاهل زيادة في ماله، وهو في الحقيقة محق عاجل وعقاب آجل.

3. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ إنما خص الأكل؛ لأنه معظم المنفعة، وإلا فالوعيد في الأكل والتصرف في غيره سواء، والربا كان معلومًا عندهم إما ببيان متقدم على النهي الأولى وإما ببيان بعد النهي من غير تأخير، فلذلك أطلق القول.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾:

أ. قيل: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ يعني يوم القيامة من قبورهم، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وجماعة من المفسرين ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ من الجنون.

ب. وقيل: يمسه الشيطان بالأذى، والوسوسة، عن أبي علي، والمراد أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وبه علامة يعرف أنه آكل الربا، وهو أنه يكون به خبل، وتساقط، وضرب بالأرض.

ج. وقيل: يقوم ولا يمكنه أن يقوم بحجة كما أن المصروع في حال صرعه لا يقوم بحجته.

د. وقيل: يقومون مجانين.

5. سؤال وإشكال: الخبط المضاف إلى الشيطان مثل أم حقيقة؟ والجواب:

أ. هو مثل عند أبي علي كحال من تغلب عليه السوداء فتضعف نفسه، ويلج عليه الشيطان بإغوائه فيقع صرعه عند ذلك الحال من فعل اللَّه تعالى، أو من فعل المصروع، وينسب إلى الشيطان مجازًا؛ لأنه يحصل عند وسوسته.. وهو أصح.

ب. وقال أبو بكر الأخشيد وأبو الهذيل: يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان بأن يمكنه اللَّه تعالى من ذلك في بعض الناس دون بعض، واحتجا بأن ظاهر القرآن عليه، ولا مانع في العقل منه.

6. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ يعني ذلك الذي نزل بهم إنما هو لقولهم، عن الأصم، ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾:

أ. قيل: قالوا: كلاهما سواء إذا وقع على وجه التراضي.

ب. وقيل: لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون سواء الزيادة في أول البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير؛ وذلك لأن أحدهما أباحه اللَّه تعالى، وهو البيع والآخر حرمه اللَّه تعالى، وهو الربا، وهو. أعلم بمصالح العباد.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾:

أ. قيل: تذكير وتخويف.

ب. وقيل: هو القرآن عن السدي.

8. ﴿فَانْتَهَى﴾ أي امتنع عن الربا عن أكله والمعاملة به واستحلاله ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾:

أ. قيل: يعني ما أكل من الربا، عن السدي أي ليس عليه رد ما سلف.

ب. وقيل: له ما سلف من ذنوبه فإن اللَّه غفرها له بالتوبة، عن الأصم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾:

أ. قيل: فيما يأمره وينهاه، ويحلل ويحرم ليس إليه من ذلك شيء.

ب. وقيل: أمره إلى اللَّه في إنعامه وإكرامه.

ج. وقيل: أمره إلى اللَّه؛ لأنه عاد إلى أمره، وفارق أمر الشيطان عن الأصم.

د. وقيل: أمره بعد النهي إليه إن شاء غفر له، وإن شاء لم يغفر، عن أبي علي.

هـ. وقيل: أمره إليه؛ لأنه لم يعلم أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، عن القاضي.

و. وقيل: ليس لأحد فيما أخذه قبل ذلك شيء، وذلك فيما بينه وبين اللَّه تعالى، عن أبي مسلم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾:

أ. قيل: إلى أكل الربا بعد التحريم والمعاملة به.

ب. وقيل: عاد إلى الاستحلال، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾

11. ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي الملازمون لها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ مؤبدون.

12. تدل الآية الكريمة على:

أ. تحريم الربا، وعلى عظم الوعيد فيه، وأنه من الكبائر.

ب. أن لآكل الربا علامة يوم الحشر يتميز بها، فكلهم يمشون بأقدامهم إلى الحشر، وآكل الربا يتخبط تخبط المصروع المجنون، وإنما أضاف التخبط إلى الشيطان؛ لأنه يكون عند وسوسته، وإلا فالشيطان لا يقدر على غير الوسوسة؛ ولذلك قال تعالى حاكيا عنه: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ ولو كان يقدر على ذلك لكان يتخبط جميع المؤمنين مع شدة عداوته لهم، ولكان يقدر على اغتصاب أموالهم وفساد أحوالهم، ولكان يفشي أسرارهم ويزيل عقولهم ويردها، ولكانوا يزيلون عقول العلماء والأولياء، وكل ذلك ظاهر الفساد على أن المروي أن فيهم من الضعف ما لا يقدرون على شيء من ذلك، وما روي من حالهم أيام سليمان كأن اللَّه تعالى زاد في قوتهم وأبدانهم معجزة له.

ج. تحريم الربا، ثم اختلفوا فقيل:

قيل: هو مبين، وكذلك البيع، ولا يحتاج إلى بيان، عن ابن عباس.

وقيل: هما مجملان يحتاجان إلى بيان، وقد بين رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم، ويروى ذلك عن الشافعي.

وقيل: الربا يحتاج إلى بيان دون البيع، وهو قول أكثر العلماء وهو الصحيح؛ لأن في الربا لا يمكن العمل بظاهره من دون بيان بخلاف البيع، وهذا الذي اختاره شيخنا أبو عبد اللَّه، وقاضي القضاة قالا: لأن الصحابة لما اختلفت في مسائل الربا كابن عباس وغيره رجعت إلى الآثار دون الآية، ولأن الربا يفيد شرائط غير مذكورة، ونص النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الربا على ستة أشياء: الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح، ثم قال في آخر الخبر: فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد، ولا خير فيه نسيئة). وأجمعت الأمة على ذلك، ثم اختلفوا في تعديه فمنهم من وقف به على هذه الأجناس، والأكثر على تعديه، ثم اختلفوا منهم من تخطى قياسًا وتعليلاً، وهم الأكثر، ومنهم من تخطى من غير تعليل، ومن علل اختلفوا في تعليله مع اتفاقهم أن علة الربا ذات وصفين، وأن أحد الوصفين الجنس، واختلفوا في الوصف المضموم إليه، فقال أهل العراق: الوصف الثاني التقدير الشرعي، وهو الكيل والوزن، ولم يجعلوا العدد تقديرًا، وأجروا الربا في الأصناف الستة بعلة واحدة وتفرع لهم منها فروع نذكرها، وقال الشافعي: الصفة المضمومة إلى الجنس الطعم أو كونه ثمنًا، وقال مالك: الادخار والأكل، ومما تفرع منه مكيل غير مطعوم كالجص يجري فيه الربا، فكذلك الحبة والحفنة مطعوم غير مكيل لا يجري فيه الربا، عن أبي حنيفة، ويجري عند الشافعي، ولا خلاف أنه إذا وجد الوصفان حرم التفاضل نقدًا وحرم النسأ كالحنطة بالحنطة، وإذا عدما حل التفاضل نقدًا وحل النسأ كالدراهم والحنطة، وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر، فقال أهل العراق: لا يحل النسأ كالجنس بانفراده، وقال غيرهم: لا يحرم، وموضع تفصيله كتب الفقه.

13. يدل قوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ على أن الوعيد إنما يلحق بعد حصول البيان فمن هذا الوجه تدل على أنه لا يلحق الوعيد إذا لم يقدر عليه؛ لأن تأثير القدرة في الفعل أكثر من تأثير البيان.

14. يدل قوله: ﴿فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أنه تعالى يغفر الذنوب بالتوبة.

15. يدل قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ على ثبوت الوعيد فيمن يُرْبي بعد البيان، وتدل على أن عقابه يدوم إذا لم يتب، خلاف قول المرجئة.

16. قراءات وحجج:

أ. قرأ حمزة والكسائي ﴿الرِّبَا﴾ بالإمالة لمكان كسرة الراء، والباقون بالتفخيم للفتح، وهي في مصاحف مكتوبة بالواو، وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء.

ب. قراءة العامة ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ يعني وعظ، وعن الحسن ﴿جَاءَتْهُ﴾ بالتاء لتأنيث الموعظة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/127.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل الربا: الزيادة من قولهم: ربا الشئ يربو: إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال، وأربى الرجل: إذا عامل في الربا، ومنه الحديث: من أجبى فقد أربى.

ب. أصل التخبط: الخبط وهو الضرب على غير استواء، خبطته أخبطه خبطا، والخبط: ضرب البعير الأرض بيده، والتخبط أيضا بمعناه، يقال: تخبط البعير الأرض: إذا ضربها بقوائمه، وبقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: هو يخبط خبط عشواء، قال زهير:

çرأيت المنايا خبط عشواء، من تصب... تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرمé

والتخبط: المس بالجنون والتخبل، لأنه كالضرب على غير استواء في الادهاش، والخباط: داء كالجنون، لأنه اضطراب في العقل، يقال: به خبطة من جنون.

ج. يقال: بفلان مس وألس وأولق: أي جنون.

د. السلوف: التقدم، يقال: سلف يسلف سلوفا، ومنه الأمم السالفة أي: الماضية، والسالفة: أعلى العنق، والإسلاف: الإعطاء قبل الاستحقاق، يقال: أسلفته اسلافا، وسلافة الخمر: صفوها، لأنه أول ما يخرج من عصيرها.

هـ. العود: الرجوع، وعيادة المريض: المصير إليه ليعرف خبره، والعود: من العيدان، لأنه يعود إذا قطع، ومنه العود: الذي يتبخر به، والمعاد: كل شئ إليه المصير، والآخرة: معاد الناس، والعادة: تكرر الشئ مرة بعد مرة، والعيد: كل يوم مجمع عظيم، لأنه يعود في السنة، أو الأسبوع، والعائدة: الصلة، لأنها تعود بالنفع على صاحبها.

2. لما حث الله تعالى على الانفاق، وبين ما يحصل للمنفق من الأجر العاجل والآجل، عقبه بذكر الربا الذي ظنه الجاهل زيادة في المال، وهو في الحقيقة محق في المال، فقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ في الدنيا ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ يوم القيامة ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾:

أ. قيل: معناه: إلا مثل ما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون، فيكون ذلك إمارة لأهل الموقف على أنهم أكلة الربا، عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد.

ب. وقيل: إن هذا على وجه التشبيه، لأن الشيطان لا يصرع الانسان على الحقيقة، ولكن من غلب عليه المرة السود، أو ضعف عقله، ربما يخيل الشيطان إليه أمورا هائلة، ويوسوس إليه، فيقع الصرع عند ذلك من فعل الله، ونسب ذلك إلى الشيطان مجازا، لما كان ذلك عند وسوسته، عن أبي علي الجبائي.

ج. وقيل: يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس، دون بعض، عن أبي الهذيل، وابن الأخشيد قالا: لأن الظاهر هن القرآن يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه، ولا يمنع الله تعالى الشيطان عنه امتحانا لبعض الناس، وعقوبة لبعضهم على ذنب ألم به ولم يتب منه، كما يتسلط بعض الناس على بعض فيظلمه، ويأخذ ماله، ولا يمنعه الله تعالى منه، ويكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة، كما أن على كل عاص من معصيته علامة تليق به، فيعرف بها صاحبها، وعلى كل مطيع من طاعته إمارة تليق به، فيعرف بها صاحبها، وذلك معنى قوله تعالى ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾، وقال النبي في شهداء أحد: زملوهم بدمائهم وثيابهم، وقال عليه السلام: يبعث أمتي يوم القيامة من قبورهم غرا محجلين من آثار الوضوء، وروي عنه عليه السلام أنه قال: لما أسري بي إلى السماء، رأيت رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي إلى السماء، رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم، ولا يقدر عليه من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون، يعرضون على النار، غدوا وعشيا، يقولون: ربنا متى تقوم الساعة والوعيد.

4. في الآية متوجه إلى كل من أربى، وإن لم يأكله، ولكنه تعالى نبه بذكر الأكل على سائر وجوه الانتفاع بمال الربا، وإنما خص الأكل، لأنه معظم المقاصد من المال، ونظيره قوله ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية، والمراد بالأكل في الموضعين سائر وجوه الانتفاع دون حقيقة الأكل.

5. ﴿ذَلِكَ﴾ أي ذلك العقاب لهم ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ معناه: بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه، مثل البيع الذي فيه الربا، قال ابن عباس: كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه، فطالبه به، قال المطلوب منه له: زدني في الأجل، وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه، ويعملان به، فإذا قيل لهم: هذا ربا، قالوا: هما سواء، يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع، والزيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدين سواء.

6. ذمهم الله به، وألحق الوعيد بهم، وخطأهم في ذلك بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ أي: أحل الله البيع الذي لا ربا فيه، وحرم البيع الذي فيه الربا، والفرق بينهما:

أ. أن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين، وفي الآخر لأجل البيع.

ب. وأيضا فإن البيع بدل البدل، لأن الثمن فيه بدل المثمن، والربا: زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل، أو زيادة في الجنس.

7. المنصوص عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح، وقيل: الزبيب، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: إلا مثلا بمثل، يدا بيد، من زاد واستزاد فقد أربى، ولا خلاف في حصول الربا في هذه الأشياء الستة، وفي غيرها خلاف بين الفقهاء، وهو مقيس عليها عندهم، وعندنا (2): أن الربا لا يكون إلا فيما يكال أو يوزن.

8. أما علة تحريم الربا فقد قيل: هي أن فيه تعطيل المعايش والأجلاب والمتاجر، إذا وجد المربى من يعطيه دراهم، وفضلا بدراهم، وقال الصادق عليه السلام: إنما شدد في تحريم الربا، لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف، قرضا أو رفدا.

9. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ معناه: فمن جاءه زجر ونهي وتذكير من ربه ﴿فَانْتَهَى﴾ أي: فانزجر وتذكر واعتبر ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾:

أ. قيل: معناه: فله ما أخذ وأكل من الربا قبل النهي لا يلزمه رده، قال الباقر عليه السلام: من أدرك الاسلام، وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف.

ب. وقال السدي: معناه له ما أكل، وليس عليه رد ما سلف، فأما ما لم يقبض بعد، فلا يجوز له أخذه، وله رأس المال.

10. ﴿جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ لأن تأنيثه غير حقيقي، فإن الموعظة والوعظ بمعنى واحد.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾:

أ. قيل: معناه: وأمره بعد مجئ الموعظة والتحريم والانتهاء إلى الله، إن شاء عصمه عن أكله، وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله.

ب. وقيل: معناه وأمره في حكم الآخرة إلى الله تعالى، إن لم يتب، وهو غير مستحل له، إن شاء عذبه بعدله، وإن شاء عفا عنه بفضله.

ج. وقيل: معناه أمره إلى الله، فلا يؤاخذه بما سلف من الربا.

12. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجئ الموعظة، من أن البيع مثل الربا ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحل للربا، فلهذا توعد بعذاب الأبد.

13. لا خلاف بين الفقهاء أن الربا محرم في النقد والنسيئة، وقال بعض من تقدم: لا ربا إلا في النسيئة، وأما أهل الجاهلية فإنهم كانوا يربون بتأخير الذين عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه، ولا خلاف في تحريمه، ومما جاء في الحديث في الربا ما روي عن علي عليه السلام أنه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وعنه عليه السلام قال: إذا أراد الله بقرية هلاكا، ظهر فيهم الربا، وعنه عليه السلام قال: الربا سبعون بابا، أهونها عند الله كالذي ينكح أمه، وروى جميل بن دراج عن أبي عبد الله قال: درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية، كلها بذات محرم، في بيت الله الحرام.

14. مسائل نحوية:

أ. ﴿كَمَا يَقُومُ﴾ الكاف: في محل النصب على المصدر، والموصول حرف تقديره ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ إلا مثل قيام ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾

ب. ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾: يتعلق بيتخبط، ومن: للتبيين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/669.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾، الرّبا: أصله في اللغة: الزّيادة، ومنه الرّبوة والرّابية، وأربى فلان على فلان: زاد.

2. هذا الوعيد يشمل الأكل، والعامل به، وإنما خصّ الآكل بالذّكر، لأنه معظم المقصود، وقد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه: (لعن آكل الرّبا وموكله وشاهديه وكاتبه)

3. ﴿لَا يَقُومُونَ﴾، قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور، والمسّ: الجنون، يقال: رجل ممسوس، فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا؛ كما قال تعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا﴾ إلا أكلة الرّبا، فإنهم يقومون ويسقطون، لأن الله أربى الرّبا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع، وقال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الرّبا إذا استحلّه يوم القيامة.

4. ﴿ذَلِكَ﴾، أي: هذا الذي ذكر من عقابهم‏ ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وقيل: إن ثقيف كانوا أكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه؛ قالوا: إنّما هو مثل البيع.

5. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾، قال الزجّاج: كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ، فتذكيره جائز، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، أي: ما أكل من الرّبا

6. في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن (الهاء) ترجع إلى المربي، فتقديره: إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.

ب. الثاني: أنها ترجع إلى الرّبا، فمعناه: يعفو الله عمّا شاء منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

7. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾، قال ابن جبير: من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾

__________

(1) زاد المسير: 1/248.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا، وبين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد، وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال بسبب أمر الله بذلك، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه، فكانا متضادين، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة، لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا.

2. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ المراد الذين يعاملون به، وخص الأكل:

أ. لأنه معظم الأمر، كما قال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه، وكذلك قوله‏: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]

ب. وأيضا فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل، إنما يصرف في المأكول فيؤكل، والمراد التصرف فيه، فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد.

ج. وأيضا فقد ثبت‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلم: (لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له‏)، فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل.

د. وأيضا فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس، أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات.

فثبت بهذه الوجوه أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا.

3. الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال: ربا الشيء يربو ومنه قوله‏: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: 5] أي زادت، وأربى الرجل إذا عامل في الربا، ومنه الحديث: (من أجبى فقد أربى) أي عامل بالربا، والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، هذا معنى الربا في اللغة.

4. قرأ حمزة والكسائي الربا بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء، وهي في المصاحف مكتوبة بالواو، وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء، قال الزمخشري: الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع.

5. الربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل (النقد):

أ. أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به.

ب. أما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك.

6. أجمعوا على تحريم ربا النسيئة، واختلفوا في ربا الفضل (النقد):

أ. المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول: لا ربا إلا في النسيئة، وكان يجوز بالنقد، فقال له أبو سعيد الخدري: شهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين: كنا في بيت ومعنا عكرمة، فقال رجل: يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس، فقال: إنما كنت استحللت التصرف برأيي، ثم بلغني أنه صلّى الله عليه وآله وسلم حرمه، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله، وحجة ابن عباس أن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقدا، وقوله‏: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة، وليست كل زيادة محرمة، بل قوله‏: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا، وذلك هو ربا النسيئة، فكان قوله‏: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ مخصوصا بالنسيئة، فثبت أن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ يتناول ربا النقد، وقوله‏: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ لا يتناوله، فوجب أن يبقى على الحل، ولا يمكن أن يقال: إنما يحرمه بالحديث، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا؟.

ب. أما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد فبالخبر، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة.

7. اختلف الفقهاء القائلون في الأنواع التي يجري عليها الربا في التفاضل:

أ. قيل: هي غير مقصورة على الأنواع الستة، بل ثابتة في غيرها.

ب. وقال نفاة القياس: بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه:

أ. الأولى: أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة، فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال: لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلًا، أو قال: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلًا، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً، وأكثر فائدة، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط.

ب. الثانية: أنا أن في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها، فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن، فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى، وأنه غير جائز.

ج. الثالثة: أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص، وذلك غير جائز:

أ. أما أولًا: فلأنه يقتضي تعليل حكم الله، وذلك محال على ما ثبت في الأصول.

ب. أما ثانياً: فلأن الحكم في مورد النص معلوم، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز.

8. اتفق جمهور الفقهاء على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل هي ثابتة في غيرها، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب:

أ. الأول: وهو مذهب الشافعي: أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس، وفي الذهب والفضة النقدية.

ب. الثاني: قول أبي حنيفة: أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس.

ج. الثالث: قول مالك أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت، وهو الملح.

د. الرابع: وهو قول عبد الملك بن الماجشون: أن كل ما ينتفع به ففيه الربا(2)

9. ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً:

أ. أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (حرمة مال الإنسان كحرمة دمه)، فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.

ب. ثانيها: أن الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات.

ج. ثالثها: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان.

د. رابعها: أن الغالب أن المقرض يكون غنيا، والمستقرض يكون فقيرا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائدا، وذلك غير جائز برحمة الرحيم.

هـ. خامسها: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بحرمة عقد الربا، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه.

10. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضا عن الدرهم الزائد، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحا فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضا عن انتفاعه بماله، والجواب: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾:

أ. أكثر المفسرين قالوا: المراد منه القيام يوم القيامة.

ب. وقال بعضهم: المراد منه القيام من القبر.

ج. أنه لا منافاة بين الوجهين، فوجب حمل اللفظ عليهما.

12. ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ التخبط: معناه الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير للأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة، ويقال: به خبطة من جنون، والمس الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس، وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس‏ الإنسان فيجنه، ثم سمي الجنون مسا، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد.. والتخبط تفعل، بمعنى فعل كثير، نحو تقسمه بمعنى قسمه، وتقطعه بمعنى قطعه.

13. فيما تعلق قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: بقوله‏: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ والتقدير: لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان.

ب. الثاني: أنه متعلق بقوله‏: ﴿يَقُومُ﴾ والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس.

14. اختلف في كون الشيطان يقدر على صرع الإنسان:

أ. قيل: لا يقدر على ذلك، قال الجبائي: الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل، لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم.

ب. وقيل: بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء.

15. القائلون بعدم قدرة الشيطان على صرع الإنسان استدلوا بوجوه:

أ. أحدها: قوله تعالى حكاية عن الشيطان‏ ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22] وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء.

ب. الثاني: الشيطان إما أن يقال: إنه كثيف الجسم، أو يقال: إنه من الأجسام اللطيفة، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفا ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها، وذلك جهالة عظيمة، ولأنه لو كان جسما كثيفا فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان، وأما إن كان جسما لطيفا كالهواء، فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يصرع الإنسان ويقتله.

ج. الثالث: لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة.

د. الرابع: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان، ولم لا يغصب أموالهم، ويفسد أحوالهم، ويفشي أسرارهم، ويزيل عقولهم؟ وكل ذلك ظاهر الفساد.

هـ. ذكر القفال فيه وجه آخر، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان، كما في قوله تعالى: ﴿طَلْعُها كَأَنَّهُ رؤوس الشَّياطِينِ‏﴾ [الصافات: 65]

16. القائلون بقدرة الشيطان على صرع الإنسان استدلوا بوجهين:

أ. الأول: ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داوود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.. والجواب عنه: أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام.

ب. الثاني: أن هذه الآية وهي قوله‏: ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾ صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه.. والجواب عنه: أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع، وهو كقول أيوب عليه السلام‏ ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترئ فيصرع عند تلك الوسوسة، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ(3).

17. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ للمفسرين أقوال:

أ. الأول: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين، كمن أصابه الشيطان بجنون.

ب. الثاني: قال ابن منبه: يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله‏: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا﴾ [المعارج: 43] إلا أكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون، ويسقطون، ويريدون الإسراع، ولا يقدرون، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن، وهذا ليس من الجنون في شيء، ويتأكد هذا القول بما روي‏ في قصة الإسراء أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

ج. الثالث: أنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابا بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذلك الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا.

18. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة:

أ. وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين، فهذا في ربا النقد.

ب. وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضا، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين، وذلك لأنه إنما جاز هناك، لأنه حصل التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضا، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئا فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعا في الزيادة، والمديون يرده عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة، فهذا هو شبهة القوم.

19. أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بحرف واحد، وهو قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس، وهو من عمل إبليس، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلّى الله عليه وآله وسلم عارض النص بالقياس، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]

20. تمسك نفاة القياس بقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، فقالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس، وذكر القفال الفرق بين البابين، فقال: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل، لأن الامهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين.

21. ظاهر قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه، وأكله مع التحريم، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر(4).

22. سؤال وإشكال: مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا، والجواب: إن قوله‏: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل، وذكرنا عليه وجوها من الدلائل، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال، يقال: فلان يأكل مال الله قضما خصما، أي يستحل التصرف فيه، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا، لا على وعيد من يستحل هذا العقد.

23. سؤال وإشكال: لم لم يقل الله تعالى: إنما الربا مثل البيع، وذلك لأن حل البيع متفق عليه، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق، فكان نظم الآية أن يقال: إنما الربا مثل البيع، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية، فقال: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾؟ والجواب: أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز.

24. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار، والمعنى أنهم قالوا: البيع مثل الربا، ثم إنكم تقولون‏ ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فكيف يعقل هذا؟ يعنى أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعا للتفرقة بين المثلين، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله:‏ ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ‏ الرِّبَا﴾ ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد.

ب. أما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله‏: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وأما قوله:‏ ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالا لقول الكفار إنما البيع مثل الربا، والحجة على صحة هذا القول وجوه:

الأولى: أن قول من قال هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار، فكان ذلك أولى.

الثانية: أن المسلمين أبدا كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية.

الثالثة: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله‏: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله‏: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها، ولو لم يكن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكورا فلم يكن قوله‏: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ لائقا بهذا الموضع.

25. مذهب الشافعي أن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها، وهذا هو المختار عندي، ويدل عليه وجوه:

أ. الأول: أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة.

ب. الثاني: وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلا قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق، فثبت أن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة، ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلا جدا فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز.

ج. الثالث: ما روي عن عمر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا، ولو كان هذا اللفظ مفيدا للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات.

د. الرابع: أن قوله‏: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ يقتضي أن يكون كل بيع حلالا، وقوله‏: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ يقتضي أن يكون كل ربا حراما، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرم الجميع، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية، فكانت مجملة، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

26. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ ذكر الله تعالى فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ، وقرأ أبي والحسن فمن جاءته موعظة.

27. ﴿فَانْتَهَى﴾ أي فامتنع، ثم قال ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ وفي التأويل وجهان:

أ. الأول: قال الزجاج: أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية، وهو كقوله‏: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]، وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراما ولا ذنبا، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله‏: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ فكيف يكون ذلك ذنبا.

ب. الثاني: قال السدي: له ما سلف أي له ما أكل من الربا، وليس عليه رد ما سلف، فأما من لمن يقض بعد فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله‏ ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ [البقرة: 279]

28. سلف: قال الواحدي: السلف المتقدم، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف، ومنه الأمة السالفة، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو، والسلفة ما يقدم قبل الطعام، وسلافة الخمر صفوتها، لأنه أول ما يخرج من عصيرها.

29. في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ وجوه للمفسرين، إلا أن الذي أقوله: إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها:

أ. أما مقدمة الآية فلأن قوله‏: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ ليس فيه بيان أنه انتهي عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، فكان قوله‏: ﴿فَانْتَهَى﴾ عائدا إليه، فكان المعنى: فانتهي عن هذا القول.

ب. أما مؤخرة الآية فقوله‏: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ومعناه: عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ثم هذا الإنسان إما أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضا عن أكل الربا، أو ليس كذلك، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقرا بدين الله عالما بتكليف الله، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام، لكن قوله‏: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلا أن يكون مختصا بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله‏: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فيكون ذلك دليلا ظاهرا على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو، أما قوله‏: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فالمعنى: ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافرا.

30. في قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله‏: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر، وكذلك قوله‏: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يفيد الحصر، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار، وكونه خالدا في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب‏ أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمنا بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه، ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل يخرجه منها، والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله‏: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه، ثم قوله‏: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها لأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان، وهذا بيان شريف وتفسير حسن.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/72.

(2) عقب على هذا بقوله: هذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير

(3) قال الرازي بعد أن أورد هذه المسألة بتفاصيلها: هذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب

(4) هذا معارض بهذه الآيات الكريمة

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ يأكلون يأخذون، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ إنما يراد للأكل، والربا في اللغة الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الحديث: (فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها) يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالبركة، خرج الحديث مسلم، وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في القرآن بالواو، ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده:

أ. فمرة أطلقه على كسب الحرام، كما قال الله تعالى في اليهود: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا، وإنما أراد المال الحرام، كما قال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ يعنى به المال الحرام من الرشا، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وعلى هذا فيدخل فيه النهى عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب.

ب. والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان: تحريم النساء، والتفاضل في العقود وفى المطعومات على ما نبينه، وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم: أتقضى أم تربى؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرم باتفاق الامة.

2. أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها، آكل الربا فتجوز وتشبيه.

3. روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء)، وفى حديث عبادة بن الصامت: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يد بيد)، وروى أبو داوود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدي بمدي والشعير بالشعير مدي بمدي والتمر بالتمر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا)

4. أجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا، فلا يجوز منهما اثنان بواحد، وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام، وأضاف مالك إليهما السلت، وقال الليث: السلت والدخن والذرة صنف واحد، وقاله ابن وهب، قلت: وإذا ثبتت السنة فلا قول معها، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)، وقول: (البر بالبر والشعير بالشعير) دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر، ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة، ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع، بل فصل وبين، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأصحاب الحديث.

5. كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب(2)، ولا في المصوغ بالمضروب، وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة، حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره، قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه! فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وإن كره معاوية ـ أو قال وإن رغم وما أبالي ألا أصحبه في جنده في ليلة سوداء، قال حماد هذا أو نحوه، قال ابن عبد البر: وقد روي أن هذه القصة إنما كانت لأبي الدرداء مع معاوية، ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه، ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا، ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز، وغير نكير أن يكون معاوية (3) خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد خفي على أبي بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم، فمعاوية أخرى، ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس، فقد كان وهو بحر في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد، وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر، قال قبيصة بن ذؤيب: إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية لا إمارة لك عليه)

6. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن علي، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء)، قال العلماء فقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما) إشارة إلى جنس الأصل المضروب، بدليل قوله: (الفضة بالفضة والذهب بالذهب) الحديث، والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل سواء بسواء على كل حال، على هذا جماعة أهل العلم على ما بينا، واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد.

7. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالربا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

8. اختلف النحاة في لفظ ﴿الرِّبَا﴾ فقال البصريون: هو من ذوات الواو، لأنك تقول في تثنيته: ربوان، قاله سيبويه، وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء، لأجل الكسرة التي في أوله، قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع! لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية، وهم يقرؤون ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ قال محمد بن يزيد: كتب ﴿الرِّبَا﴾ في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو، لأنه من ربا يربو.

9. ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ الجملة خبر الابتداء وهو ﴿الَّذِينَ﴾:

أ. والمعنى من قبورهم، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد.

ب. وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه.

ج. وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جميع أهل المحشر، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم)

د. قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره: قد جن هذا! وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:

çوتصبح عن غب السرى وكأنما... ألم بها من طائف الجن أولقé

وقال آخر: (لعمرك بي من حب أسماء أولق) لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل.

10. ﴿يَتَخَبَّطُهُ﴾ يتفعله من خبط يخبط، كما تقول: تملكه وتعبده:

أ. فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون، ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.

ب. وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغال يجئ بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك.

11. ﴿يَأْكُلُونَ﴾ والمراد يكسبون الربا ويفعلونه، وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص، يقال: رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون، قاله في المجمل، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال، داخل في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ﴾

12. في قوله تعالى: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس:

أ. وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا)

ب. وروي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام)، والمس: الجنون، يقال: مس الرجل وألس، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا.

13. ذلك علامة الربا في الآخرة، وروي في حديث الإسراء: (فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة يتخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ـ قلت ـ يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾)، والمس الجنون وكذلك الاولق والألس والرود.

14. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ معناه عند جميع المتأولين في الكفار، ولهم قيل: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلا، فلذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية.

15. ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي تزيد في الدين، فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة، وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله يوم عرفة لما قال: (ألا إن كل ربا موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)، فبدأ صلّى الله عليه وآله وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس.

16. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾:

أ. قيل: هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ ثم استثنى ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وحبل الحبلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه، ونظيره ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء.

ب. وقال بعضهم: هو مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل، وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان، والأول أصح.

17. البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا، أي دفع عوضا وأخذ معوضا، وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن، وعلى هذا فأركان البيع أربعة: البائع والمبتاع والثمن والمثمن، ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعا، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحا، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف، وإن كان بدين مؤجل فهو السلم، وسيأتي بيانه في آية الدين، وقد مضى حكم الصرف، ويأتي حكم الإجارة في ﴿الْقَصَصَ﴾ وحكم المهر في النكاح في النساء كل في موضعه إن شاء الله تعالى.

18. البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك، فسواء قال: بعتك هذه السلعة بعشرة فقال: اشتريتها، أو قال المشتري: اشتريتها وقال البائع: بعتكها، أو قال البائع: أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري: أنا أشتري أو قد اشتريت، وكذلك لو قال: خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك ـ وهما يريدان البيع ـ فذلك كله بيع لازم، ولو قال البائع: بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال: ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده، لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، وقد قال ذلك له، لأن العقد لم يتم عليه، ولو قال البائع: كنت لاعبا، فقد اختلفت الرواية عنه، فقال مرة: يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله، وقال مرة: ينظر إلى قيمة السلعة، فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار، علم أنه لم يرد به البيع، وإنما كان هازلا فلم يلزمه.

19. ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها.

20. عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أين هذا)؟ فقال بلال: من تمر كان عندنا ردئ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: (أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به) وفي رواية هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)، قال علماؤنا: فقوله: (أوه عين الربا) أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه، وقوله: ﴿فَرُدُّوهُ﴾ يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه، وهو قول الجمهور، خلافا لأبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الربا ويصح البيع، ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع.

21. اختلف في على تحريم الربا:

أ. قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله: (حرم الله الربا ليتقارض الناس)، وعن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (قرض مرتين يعدل صدقة مرة) أخرجه البزار.

ب. وقال بعض الناس: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.

22. سقطت علامة التأنيث في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ﴾ لأن تأنيث (الموعظة) غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن (فمن جاءته) بإثبات العلامة.

23. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾: هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم، روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها، فقالت لنا: ممن أنتن؟ قلنا من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا، قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وما اشتريت! فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلا أن يتوب، فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟ قالت: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق، وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال، فإن كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعا جائزا، وخالف مالكا في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا: الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون، ودليلنا القول بسد الذرائع، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته، وقد تقدم، وهذا الحديث نص، ولا تقول عائشة (أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب) إلا بتوقيف، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)، وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)، فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء، ولعن صلّى الله عليه وآله وسلم اليهود إذا أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله، وقال أبو بكر في كتابه: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة، واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنينا، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع، لأنها ذرائع المحرمات، والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات، وذلك لا يقوله أحد، وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته، وهي في معنى هذا الباب، والله الموفق للصواب،

24. ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، قاله السدي وغيره، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك، وسلف: معناه تقدم في الزمن وانقضى.

25. في قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أربع تأويلات:

أ. أحدها أن الضمير عائد إلى الربا، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك.

ب. والآخر أن يكون الضمير عائدا على ﴿مَا سَلَفَ﴾ أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه.

ج. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا، واختار هذا القول النحاس، قال: وهذا قول حسن بين، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه.

د. والرابع أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: وأمره إلى طاعة وخير، وكما تقول: وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته.

26. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ يعني إلى فعل الربا حتى يموت، قاله سفيان، وقال غيره: من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر، قال ابن عطية: إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/348.

(2) وهذا من تحريفاته لا من الاجتهادات الشرعية المعتبرة

(3) لا نستسيغ هذا الدفاع عن معاوية خاصة مع صحة الأحاديث الكثيرة الدالة على تحريف معاوية للدين، ولو لم يكن إلا حربه للإمام علي لكفاه

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الربا في اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين، على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقدارا في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين، وهذا حرام بالاتفاق.

2. قياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله، وقد كتبوه في المصحف بالواو، قال في الكشاف: (على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع).. وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل الألف واوا أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش، ويلزمون به أنفسهم، ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاحّة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحدا أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في تثنيته ربوان، وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته ربيان، قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرؤون: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو﴾(2)

3. ليس المراد بقوله هنا: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا فيأخذه ويعطيه، وإنما خص الآكل لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهمّ فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل.

4. ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ أي: يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود: لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ يوم القيامة، وأخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وبهذا فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر؛ وقيل: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون، لأن الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته: إنه قد جنّ.

5. ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ أي: إلا قياما كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع، والمسّ: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله: ﴿يَقُومُونَ﴾ أي لا يقومون من المسّ الذي بهم‏ ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ﴾ أو متعلق بيقوم.

6. في الآية دليل على فساد قول من قال إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مسّ، وقد استعاذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أن يتخبطه الشيطان، كما أخرجه النسائي وغيره.

7. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي: أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ أي أن الله أحلّ البيع وحرّم نوعا من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا، والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضا وأخذ معوّضا، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب.

8. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا ﴿فَانْتَهَى﴾ أي: فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه.

9. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿جَاءَهُ﴾ أو بمحذوف وقع صفة لموعظة، أي: كائنة ﴿مِنْ رَبِّهِ‏ فَلَهُ ما سَلَفَ‏﴾ أي: ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به، لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا، وقوله: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ قيل: الضمير عائد إلى الربا: أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم؛ وقيل الضمير عائد إلى ما سلف، أي: أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه؛ وقيل: الضمير يرجع إلى المربي، أي: أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى المعصية.

10. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى أكل الربا والمعاملة به‏ ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ والإشارة إلى من عاد، وجمع أصحاب باعتبار معنى من؛ وقيل: إن معنى: من عاد: هو أن يعود إلى القول بـ ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وأنه يكفر بذلك، فيستحق الخلود؛ وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد: أي: طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/339.

(2) هذا الموقف من الرسم والإملاء مهم جدا، وقد ذكرناه بتفصيل في كتاب القرآن وتحريف الغالين عند الحديث عن مواقف العلماء من الرسم القرآني

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر تعالى الأبرار المؤدّين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

2. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ وهو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم، كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع‏.

3. ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ أي يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين‏ ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ في القاموس خبطه ضربه شديدا، كتخبطه واختبطه، وفي (العباب) كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه، وأصل المسّ باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، والجار يتعلق إما ب (لا يقومون) أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بـ ﴿يَتَخَبَّطُهُ﴾ أي من جهة الجنون والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكا لهم وفضيحة، قال الحراليّ: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل، يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال، قال البقاعيّ: وهو مؤيد بالمشاهدة، فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة بل هم أدنى الناس وأدنسهم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾:

أ. قال في الكشاف: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجنيّ يمسه فيختلط عقله، وكذلك: جنّ الرجل معناه ضربته الجن، وتبعه البيضاويّ في قوله وهو: أي التخبط والمس، وارد على ما يزعمون إلخ.

ب. قال الناصر في (الانتصار): معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، وقال بعده: (واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم، من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم)

ج. وقال الشيخ سعد الدين التفتازانيّ في (شرح المقاصد): وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء، ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء، وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية، ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الإنسان ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.

د. قال العلامة البقاعيّ، بعد نقله ما ذكرنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عن‏ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)، وورد أنه صلّى الله عليه وآله وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب، ونحو ذلك، وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، وأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع ـ فكثير جدا، لا يحصى مشاهدوه، إلى غير ذلك من الأمور الموجب للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين، وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق:

روى الدارميّ‏ في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله: إن ابني به جنون وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبّث علينا، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم صدره ودعا، فثعّ ثعّة، وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى، (وقوله ثع بمثلثة ومهملة أي قاء)

وللدارميّ أيضا وعبد بن حميد بسند حسن أيضا عن جابر قال خرجت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في سفر، فركبنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير، تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبيّ لها، فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار، فتناول الصبيّ فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال اخسأ، عدو الله! أنا رسول الله (ثلاثا) ثم دفعه إليها، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر، وبيّن أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك كان في حرّة واقم، قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما، فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي، فو الذي بعثك بالحق! ما عاد إليه بعد، فقال: خذوا منها واحدا، وردوا عليها الآخر، ورواه البغويّ في (شرح السنة) عن يعلى بن مرة.

ثم ساق البقاعيّ ما جاء في الإنجيل، قال وذلك كثير جدا، يعني ما وقع‏ للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك، وبعد أن ساق ذلك قال وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلم كافيا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.

هـ. أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة: (فصل في هديه صلّى الله عليه وآله وسلم في علاج الصرع) أخرجا في الصحيحين‏ من حديث عطاء بن أبي رباح قال (قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك، فقالت: أصبر، قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)، الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الردية، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه:

أما صرع الأرواح.، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهيّ، وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره، فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضرّ بالجزء الإلهيّ الطاهر الذي مسكنه الدماغ، وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم، وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعا، بكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له، والثاني من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه، أو بقول: بسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اخرج عدوّ الله! أنا رسول الله.. وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلاث والآفات بهم، ووقوعها خلال ديارهم، كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد أعداء هذا الصرع! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا، بل صار، لكثرة المصروعين، عين المستنكر المستغرب خلافه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط.

وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام: وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا ما، من غير انقطاع بالكلية، وقد يكون لأسباب أخر، كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا، وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجود المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة، وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازما، قال بقراط: إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا.

5. ﴿ذَلِكَ﴾ أي القيام المخبط ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ أي بسبب قولهم‏ ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي نظيره في أن كلّا منهما معاوضة.

6. سؤال وإشكال: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، وحل البيع متفق عليه، فيقاس عليه الربا، وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؟ والجواب: جيء به على طريق المبالغة، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل، حتى شبهوا به البيع، كذا أجاب الزمخشريّ، قال الناصر في (حواشيه): وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوي بينهما طردا، فيقول مثلا: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول والبيع حلال فالربا حلال، وله أن يسوى بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما، ضرورة المماثلة، ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة العكس، ومآلهما إلى مقصد واحد، فلا حاجة، على هذا التقرير، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح، وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعمل الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام، فالنبيذ حرام، وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ، فلو كان النبيذ حلالا لكان‏ الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا، فالنبيذ كذلك، ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه.

7. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ إنكار لتسويتهم بينهما، إذ الحل مع الحرمة ضدان، فأنّى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه.

8. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ أي بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ متعلق بـ ﴿جَاءَهُ﴾ أو بمحذوف وقع صفة لـ ﴿مَوْعِظَةٌ﴾، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية ﴿فَانْتَهَى﴾ عطف على ﴿جَاءَهُ﴾ أي فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي‏ ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه‏ ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه، لأن الفرق، وإن ظهر لأرباب النظر، يجوز أن يخفى على العوام.

9. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ أي إلى تحليل الربا بعد النص‏ ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لكفرهم بالنص، وردهم إياه بقياسهم الفاسد، بعد ظهور فساده، ومن أحل ما حرم الله عزّ وجلّ فهو كافر، فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية في تخليد الفساق، حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به، فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم، كأنه قال ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه‏ بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها، مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهّمه من الخيالات ـ فقد كفر ثم ازداد كفرا، وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل إذا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية، والله الموفق، أشار لذلك في الانتصاف، قال في فتح البيان: والمصير إلى هذا التأويل واجب، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/220.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا﴾ يتصرَّفون بمعاملة الربا ولو لم يأكلوه في بطونهم، ولو بمجرَّد قبضه والإعطاء منه أو لبسه، أو ذكَر الأكل لأنَّه الغالب، والصحيح الكفر بمجرَّد عقده ولو لم يقبض، وإن كانت الآية في مستحلِّه كما قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ إلخ، والكافر مخاطب بالفروع ولو كانت أيضًا في التصرُّف فيه، أو بأكله في البطن، كما يناسبه قوله: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ من قبورهم.

2. ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ﴾ يصرعه ﴿الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ أي: الجنون، يقال: (مُسَّ)، أي: جُنَّ، وأصله المسُّ باليد، وقد يَمَسُّ الشيطانُ الإنسانَ وأعضاؤه مستعدَّة للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وقد يحصل جنون بلا مسٍّ كما إذا فسد الجسد بلا عُرُوضِ أجنبيٍّ، ومسٌّ بلا جنون كما إذا قوي المِزاج؛ وذلك لأنَّ بطنه كالبيت لِمَا فيه من الربا في الدنيا، أو يحضره الله في بطنه يوم القيامة، فكلَّما قام صُرع، يميل به بطنه، كالذي يصرعه الشيطان من المسِّ، أي: من الجنون متعلِّق بـ (يَتَخَبَّطُ)، ولا حاجة إلى تعلُّقه بـ (لَا يَقُومُ) أو بـ (يَقُومُ)، ودعوى أنَّ المعنى: لا يقومون من أجل الجنون، أي: من أجل حالة تشبه الجنون، أمَّا الجنون فلا شكَّ أنَّه لا يكون في الآخرة، ويحمل غير المستحلِّ للربا الفاعل له على المستحلِّ، ولا مانع من أنَّ المراد بالأكل مطلق التصرُّف فيه، بعقد أو بقبض أو إعطاء بلا منافاة لصرعه به؛ لأنَّ بطنه سبب في الجملة لعقده وما بعده ولو لم يأكله.

3. والربا: بيع شيء من الجنس بشيء منه أكثر، وهو الغالب، وبه سمِّي؛ لأنَّ الربا الزيادة، أو بالنقص، مثل: أن تعطي دينارًا على أن تأخذ نصف دينار، أو بمُساوٍ ما لم يكن قرضًا، كان آجلا أو عاجلا، وشهر أحاديث المنع بالزيادة ولو نقدًا.

4. والحقُّ أنَّ الشيطان يدخل في بدن الإنسان أو يمسُّه ويتخيَّل له، فيذهب عقله أو ينقص، ففي الحديث: (ما من مولود إِلَّا يَمَسُّه الشيطان فيصرخ، إِلَّا ابن مريم عليه السلام  فطعن الشيطان في الحجاب)، وفي رواية: (.. إلَّا طعنَ الشيطان في خاصرته، ومن ذلك يستهلُّ صارخا، إِلَّا مريم وابنها لقول أمِّها: ﴿إِنِّيَ أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾) [آل عمران: 36]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كُفُّوا صبيانكم أوَّل العشاء فإنَّه وقت انتشار الشياطين)، ومن أنكر الجنون فقد جُنَّ، وأمَّا قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ اِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22] فإنَّما هو في القهر إلى متابعته لا في الإيذاء والتخبيل، فقد يدخل في الإنسان فيعمل بجوارح الإنسان ما يعمل الإنسان بها، وقد يفسد المزاج فيفسد العقل بلا جنون.

5. ﴿ذَالِكَ﴾ أي: قيامهم كالمتخبِّط وهو عقاب، ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ كما تبيع بدرهمين ما يسوى درهما، تبيع بالربا درهما بدرهمين، فهما سواء في الجواز، والأصل المشبَّه به الربا والفرع المشبَّه البيع؛ لأنَّ المراد التجر بالربح، وهو في الربا أوضح ولازم، بخلاف البيع فالربح فيه غير متحقِّق، بل ربَّما أدَّى إلى خسران، وذلك تشبيه صحيح على ظاهره، ويحتمل أن يريدوا تشبيه الربا بالبيع فعكسوا مبالغةً.

6. ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هذا من كلام الله تعالى، قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا والحال أنَّ الله أحلَّ البيع وحرَّم الربا، أخطؤوا في إباحته، قيل: لأنَّ آخذ الدرهم بدرهمين ضائع، وآخذ السلعة بدرهمين مع أنَّها تسوى درهما مجبور بمسيس الحاجة إلى السلعة أو بتوقُّع رواجها، وليست هذه العلَّة صحيحة؛ لأنَّ آخذ درهم بدرهمين مجبور باستحقاقه الدرهم في الحين، وإمهاله إلى أن يجد الدرهمين، ولا يكفي ما يقال: في الجواب عن هذا من أنَّ الإمهال أو الاستحقاق ليس مالا أو شيئًا يشار إليه، حتَّى يجعل عوضا عن الزيادة، ومن أنَّه أخذ الزيادة في الربا بلا عوض.

7. وعندي أنَّه لا تدرك علَّة تحريم الربا، نؤمن بتحريمه فقط، سواء كان الربا من أوَّل أو كان من آخر، بأنْ يبيع له شيئًا فيعجز عن الأداء في الأجل، فيقول: (أنظرني وأزيدك)، وقد قيل: نزلت الآية في (أنظرني وأزيدك)، وقولهم: (كما جازت الزيادة من أوَّل جازت آخرًا)، وقيل: هذا من كلامهم قدحا في تحريم الربا، قالوا للمسلمين: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) في زعمهم، لا يقول الله بهذا مع أنَّهما سواء متماثلان.

8. ﴿فَمَن جَآءَهُ﴾ الأصل في فعل المؤنَّث المجازيِّ التأنيث الظاهر أن يؤنَّث، وجاز أن لا يؤنَّث مطلقًا، وترجَّح هنا عدم التأنيث للفصل، وكون الموعظة بمعنى الوعظ.

9. ﴿مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ زجر وتخويف وتذكُّر العواقب عن الربا، لا حثٌّ وترغيب، بدليل قوله: ﴿فَانتَهَى﴾ عن الربا والتصرُّف فيه وعقده، ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ من الربا قبل النهي، لا يعاقب ولا يردُّه ولا يؤخذ به في الآخرة.

10. ﴿وَأَمْرُهُ﴾ أي: أمر من جاءته الموعظة فانتهى ﴿إِلَى اللهِ﴾ يثيبه على انتهائه قبولا للموعظة، وهذا أولى من أن يقال: أمر ما سلف أو أمر هذا المنتهي إلى الله في العفو؛ لأنَّه يغني عنه قوله تعالى : ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ كذا قيل، وقيل: إنَّ قائله يقول: العفو عن الردِّ لا العفو في الآخرة، ومن أن يقال: أمره إلى الله أيعصمه بعدُ من فعل الربا أم لا، ومن أن يقال: أمر الربا في التحريم إلى الله لا إلى القياس؛ لأنَّ الأقرب أحقُّ بالضمير إِلَّا لداع بيِّن، ولو كان أنسب بقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى تحليل الربا تشبيها بالبيع، أو إلى فعله، أو قبوله، أو تصرُّف فيه ﴿فَأُؤْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ومن العجيب مسارعتهم إلى جواز كون (مَن) موصولة هنا وفي الذي قبل ونحوه، وجعل الفاء زيادة في الخبر، وإنَّما تجعل موصولة لو نزلت الآية في معيَّن وكان المقام لمناسبة تعيينه.

11. وأصحاب الكبائر من أهل التوحيد مخلَّدون لكن من دلائل أخر لا من هذه الآية؛ لأنَّها في مستحلِّ الربا والمعاملة فيه، ولو احتمل أنَّ قوله: ﴿فَمَن جَآءَهُ﴾ على العموم، مثل أن يراد دخول بعض صحابة أرادوا تناوله بلا استحلال، كما روي أنَّ عثمان والعبَّاس لَمَّا طلبا الزيادة نزل ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَآ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ إلخ كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى وكذا غيرهما.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/160.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية، يأتيه اليهود والمشركون، وهي من آخر القرآن نزولا، وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينهما من التناسب بالتضاد، فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله، والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله(2).

2. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ المراد بالأكل: الأخذ لأجل التصرف، وأكثر مكاسب الناس تنفق في الأكل، ومن تصرف في شيء من مال غيره يقال أكله وهضمه، أي أنه تصرف فيه تمام التصرف حتى لا مطمع في رده.

3. الربا في اللغة: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد على ما كان عليه، ومنه الرابية، والربوة لما علا من الأرض فزاد على ما حوله، وتعريف الربا للعهد، أي لا تأكلوا الربا الذي عهدتم في الجاهلية، وذكر ابن جرير في تفسير الآية وتفسير آية آل عمران كيفية ذلك قال: وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله ـ عز وجل ـ في إسلامهم عنه، اهـ، وذكر وقائع للجاهلية في ذلك سننقلها عنه في موضعها.

4. أما قيام آكلي الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فقد قال ابن عطية في تفسيره: (المراد: تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة قد جن)، وهذا هو المتبادر، ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه، وقالوا: إن المراد بالقيام: القيام من القبر عند البعث، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا: (إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط)، والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية؛ لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده وهي لم تنزل مع القرآن ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قاله ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع، وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون له رواية يفسرونه بها وقلما يصح في التفسير شيء، كما قال الإمام أحمد.

5. ما قاله ابن عطية ظاهر في نفسه، فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا لأجل الكسب به، جميع موارد الكسب الطبيعي، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة، وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم، وكخبط العشواء، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور، ذلك بأنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لا بد أن يبعثوا عليه، فإن المرء يبعث على ما مات عليه، لأنه يموت على ما عاش عليه، وهناك تظهر النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها، كما تتجلى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها.

6. ثم إن التشبيه مبني على أن المصروع الذي يعبر عنه بالممسوس يتخبطه الشيطان، أي أنه يصرع بمس الشيطان له وهو ما كان معروفا عند العرب وجاريا في كلامهم مجرى المثل، قال البيضاوي في التشبيه: (وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط: ضرب على غير اتساق كخبط العشواء)، وتبعه أبو السعود كعادته، فذكر عبارته بنصها، فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا ننفي ذلك، وفي المسألة خلاف بين العلماء، أنكر المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة، وقال بعضهم: إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه ـ وإن لم يكن نصا فيه ـ وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة، وقد يعالج بعضها بالأوهام، وهذا ليس برهانا قطعيا على أن هذه المخلوقات الخفية التي يعبر عنها بالجن يستحيل أن يكون لها نوع اتصال بالناس المستعدين للصرع، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال، والمتكلمون يقولون: إن الجن أجسام حية خفية لا ترى، وقد قلنا في (المنار) غير مرة: إنه يصح أن يقال: إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى بالميكروبات يصح أن تكون نوعا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن، على أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الأحادية، فنحمد الله تعالى على أن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم.

7. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي ذلك الأكل للربا مسبب عن استحلالهم له وجعله كالبيع وما هو كالبيع؛ فإن البيع معاوضة بين شيئين، وأما الربا الذي كانوا يأكلونه فهو زيادة عن دينهم يزيدونها عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء، وما يؤخذ بغير مقابل فهو من الباطل؛ لذلك حرم الله الربا دون البيع فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ولو كانا متساويين لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين، فكل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهي بيع حلال، وإنما تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل، وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم، وسيأتي في آية أخرى تعليل تحريم الربا بكونه ظلما، هذا ما يظهر لنا في معنى هذه العبارة، وترى مفسرينا قد بنوا كلامهم فيها على تسليم كون البيع مثل الربا إذ جعلوا تحريم الربا بمعنى الأمر التعبدي، وقالوا: إن معناه أن الله تعالى رد عليهم بأن أحل هذا وحرم هذا، فيجب أن يطاع.

8. يظهر من عبارة ابن جرير أن هذا القول الذي أسند إليهم على ظاهره، قال: (هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم، ووحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون، ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه، يقول الغريم الحق: زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فكذبهم الله تعالى في قيلهم فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾)، ثم قال في تفسير هذا ما نصه ـ يعني ـ جل ثناؤه ـ: (وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرم الربا، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه، يقول ـ عز وجل ـ: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء؛ وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، وأحللت الأخرى منهما وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها، فقال الله عز وجل ـ: ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا؛ لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي)

9. ما قاله في بيان الفرق بين الزيادتين هو الصواب، وما ذكره في معنى الربا هو الذي كان معهودا عندهم، وهو ما يسميه الفقهاء ربا النسيئة ـ كما تقدم ـ وأما قوله: إنهم كان يقال لهم: هذا ربا محرم، وكانوا يجيبون بما حكى الله عنهم فليست الآية نصا فيه، إذ الحكاية عن الأحوال بالأقوال من الأساليب المعروفة عند العرب، ويتوقف جعل القول على حقيقته على إثبات اعتقاد العرب بتحريم الربا، أو على جعل الآية خاصة باليهود؛ فإن الربا محرم في شريعتهم، وهم أشد الخلق مراباة وكانوا يستحلون أكل أموال العرب بكل نوع من أنواع الباطل قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وإنما حرم علينا أكل أموال إخوتنا الإسرائيليين، ولا دليل على التخصيص، بل الآيات نزلت في وقائع لغيرهم ـ كما سيأتي ـ ثم إن ما علل به كون إحدى الزيادتين ليست كالأخرى وهو أن الله حرمها، يقال فيه: إنها ليست مثلها في الواقع ونفس الأمر كما بين هو، ولا في النفع والضر كما سنبين؛ ولذلك حرمها الله تعالى، فما حرم الله تعالى شيئا إلا لأنه ضار في نفسه، ولا أحل شيئا إلا وهو نافع في نفسه.

10. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ تقدم الكلام في معنى الوعظ، وكون أحكام القرآن مقرونة بالمواعظ.. أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد، انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، بل يكتفي منه بألا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا وأمره إلى الله يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه، ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف رخصة للضرورة، وتومئ إلى أن رد ما أخذ من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أفضل العزائم، ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام، ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ﴾ وأنه عقب هذه الإباحة بإبهام الجزاء وجعله إلى الله، والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة، كما قال في آخر آية محرمات النساء: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله، لعله يغص بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي فقال: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها.

11. أول المفسرون الخلود لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار، فقال أكثرهم: إن المراد ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقادا، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل، والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال، ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار انتصارا لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث، أما نحن فنقول: ما كل ما يسمى إيمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار؛ الإيمان إيمانان:

أ. إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه.

ب. وإيمان: هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة في العقل بالبرهان، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال، بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان، وليس الربا من المعاصي التي تنسى أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش، كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا؛ إيثارا لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح.

12. الإيمان الأول هو صوري فقط، فلا قيمة له عند الله تعالى لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدا، وهو مذهب السلف الصالح، وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة حتى جرؤوا الناس على هدم الدين، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يعمل به، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني مسلم، أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد وبأنه يرضى أن يكون محاربا لله ولرسوله، وظالما لنفسه وللناس كما سيأتي في آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم أم ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/95.

(2) قال هنا: إننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه؛ لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمة السياسية والاجتماعية في هذا العصر، ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكئود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله ـ وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.

2. الربا ضربان: ربا النسيئة، وربا الفضل:

أ. الأول: يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل.. والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث‏ (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده)

ب. الثاني: يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب إزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما جاء في الخبر من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق‏ (الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد)، والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.

3. زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة، ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكؤود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغنى لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية، وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلما ذا لا نتقن سائر المكاسب لنعوّض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء؟، وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقى، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾، فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقى سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا، وكان الدين وحده هو العاصم لنا.

4. الربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان، فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم، فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.

5. يمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلى:

أ. إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.

ب. إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع‏ عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة، ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.

ج. إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع، قال صلّى الله عليه وآله وسلم (حرمة مال الإنسان كحرمة دمه)، ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.

د. إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير (إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ)، والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم‏ بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ)

6. سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال(2)، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة، فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحى، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له، والثالثة تحريمه التحريم الكلى القاطع، فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟ إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحى وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها، نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر:

أ. ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) هذه كما ترونها موعظة سلبية: أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (16 ـ 67) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.

ب. أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر، حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة.

ج. وكذلك لم يجيء النهى الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة.

د. وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ، وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ، وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾

7. هذه نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التأريخي، وإنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرق بين الربا الفاحش وغيره (وهى الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ قدم في علوم القرآن) لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامي بعد أن تقدم إلى نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع على أعقابه ويتدلى إلى وضع غير كريم، بل إنها قلبت الوضع التأريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية، بينما هو لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف في ذلك محدّث ولا مفسّر ولا فقيه.

8. على أنا لو فرضنا المحال ووقفنا معهم عند هذا النص الثالث، فهل نجد فيه ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال، والربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا، فإنه قبل كل شيء لا دليل في الآية على أن كلمة الإضعاف شرط لا بد منه في التحريم، إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلى تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقلّ عنها في الشذوذ، ومن جهة أخرى فإن قواعد العربية تجعل كلمة (أضعافا) في الآية وصفا للربا لا لرأس المال كما قد يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين، ولو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ 600من رأس المال، بينما لو طبقنا القاعدة العربية على وجهها لتغير المعنى تغيرا تاما بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضى النص الذي يتمسكون به.

9. أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة، ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقى للكلمة، أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع.

10. لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالي، لأن الذي يعنى رجل القانون في تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له ـ تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين، إذ تأذن للغنىّ بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟.

11. إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة، فإن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد في القرآن الكريم، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية، والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة في تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما.

12. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ يقال لمن يتصرف في شيء من مال غيره، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول، والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم؛ فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك في الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة، والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ.

13. جمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا: (إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول ـ الخيانة في مغنم وغيره ـ فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط)

14. تخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون، وكذلك يعتقدون أن الجنى يمسّ الإنسان‏ فيختلط عقله، ويقولون رجل ممسوس: أي مسه الجن، ورجل مجنون: إذا ضربته الجن، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات، فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه، كما جاء قوله تعالى في وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار ﴿طلعها كأنّه رؤوس الشّياطين﴾ وما رأى أحد رؤوس الشياطين، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.

15. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.

16. تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، إذ في البيع ما يقتضى حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه ـ ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.

17. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله ـ فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

18. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم، وبلوغه الموعظة من ربه، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم.

19. ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم، فهم أهل النار خالدين فيها، والخلود هنا المكث الطويل، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى، ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ـ إيثار لحب المال أو اللذة به، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فالذي يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين، وإن أنكر ذلك بلسانه، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/56.

(2) الكلام هنا وفي هذه المسألة جميعا من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليو سنة 1951

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي.. الوجه الكالح الطالح هو الربا! الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية.. والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده، ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا.. ومن ثم فهو ـ الربا ـ الوجه الآخر المقابل للصدقة.. الوجه الكالح الطالح! لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضا منفرا، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.

2. لم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا ـ في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى ـ ولله الحكمة البالغة، فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث، فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى، ويدرك ـ من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام ـ يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة، وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا، والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها، وتتلقى ـ حقا ـ حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفرادا وجماعات، وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق! وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة.. في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.

3. إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي، والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة.. إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة، وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب:

أ. إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي ـ ونظام الحياة كلها ـ على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود، يقيمه على أساس أن الله ـ سبحانه ـ هو خالق هذا الكون، فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده.. وأن الله ـ سبحانه ـ وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط، ولم يترك له هذا الملك‏ العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في اطار من الحدود الواضحة، استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف، فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله، فالحاكمية في الأرض ـ كما هي في الكون كله ـ لله وحده، والناس ـ حاكمهم ومحكمهم ـ إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم ـ في جملتهم ـ أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق.

ب. ومن بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل ـ لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية، ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة ـ فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه، مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له ـ فلا يكون أحدهم كلّا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل، وجعل الزكاة فريضة في المال محددة، والصدقة تطوعا غير محدد.

ج. وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم، ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال، وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة، وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره.

د. وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾..

هـ. وكتب عليهم الطهارة في النبية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها.

و. وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض..

4. بناء على كل هذا؛ فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا؛ ونظام يقوم على تصور آخر، تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى، ومن ثم لا رعاية فيه للمبادئ والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها:

أ. إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر، فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء؛ وهو غير مقيد بعهد من الله؛ وغير ملزم باتباع أوامر الله!

ب. ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال، وفي طرق تنميته، كما هو حر في التمتع به، غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط؛ وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين، ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته، وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحد من حريته هذه ـ جزئيا ـ في تحديد سعر الفائدة مثلا؛ وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب، والغش والضرر، ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم؛ لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية!

ج. كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد، هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال ـ بأية وسيلة ـ واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به؛ ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!

د. ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا، لمصلحة حفنة من المرابين؛ ويحطها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا؛ ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا.

هـ. وينتهي ـ كما انتهى في العصر الحديث ـ إلى تركيز السلطة الحقيقة والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرا؛ وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلّا ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة.. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا، كما يداينون الحكومات والشعوب ـ في داخل بلادهم وفي خارجها ـ وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا!

و. وهم لا يملكون المال وحده.. إنما يملكون النفوذ.. ولما لم تكن لهم مبادئ ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق؛ بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ؛ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم..

ز. وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة!

ح. وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد؛ وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!

ط. والكارثة التي تمت في العصر الحديث ـ ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية ـ هي أن هؤلاء المرابين ـ الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية ـ قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها.. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها.. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي.. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي؛ وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب، وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين ـ غير العمليين ـ وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع؛ وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه، الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي، ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف عن أن يكون نافعا للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة!

5. إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة ـ وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم؛ وهم قد نشئوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق، وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة (دكتور شاخت) الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا، وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين، ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية؛ بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد ـ بالحساب الرياضي ـ أن يصير إلى الذي يربح دائما! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل، فإن معظم مال الأرض الآن يملكه ـ ملكا حقيقا ـ بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!.

6. وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة، فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة، فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة، ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء.. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين؛ وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء، وعند ما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا، فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء.. وهكذا دو إليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية، ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة! ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين، فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية، أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك، إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها، وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون.. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار!

7. نحن هنا ـ في ظلال القرآن ـ لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل‏ ـ فنكتفي‏ بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:

أ. الأولى: ـ التي يجب ان تكون مستيقنة في نفوسهم ـ أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان، وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع، فأساس التصور الإسلامي ـ كما بينا ـ يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم.

ب. الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية ـ لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب ـ بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخدّاع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!

ج. الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته، ومحاسب عليه في آخرته، فليس هناك نظام أخلاقي وحده ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء، وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية.

د. الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة؛ وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة، أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار، كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين، ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما.. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية؛ بل همه أن ينشئ أكثرها ربحا، ولو كان الربح إنما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول.. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض، وسببه الأول هو التعامل الربوي!

هـ. الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل، فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه؛ وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد.

و. السادسة: أن الإسلام ـ حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص ـ لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم، ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه، ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة، وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث.

ز. السابعة: ـ وهي الأهم ـ ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما، بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها.. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها؛ وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه، فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه، وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها، وإنما هو سوء التصور، وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي، وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين، وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر، وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان، كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه بما لهم من قدرة على التوجيه، وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة.

ح. الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي.. ليست سوى خرافة، أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية ـ أو تعزم الأمة المسلمة ـ أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلا، ونمت الحياة في ظله فعلا؛ وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا! وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله.. فحسبنا هذه الإشارات المجملة، وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية؛ وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه؛ هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم.

8. فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.. إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

9. ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة.. صورة الممسوس‏ المصروع.. وهي صورة معروفة معهودة للناس، فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها، بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة.. ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث، ولكن هذه الصورة ـ فيما نرى ـ واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا، ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله، ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي، وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها..

10. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بتفاصيل أحكام الربا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

11. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾.. والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم ـ وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب ـ إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم، عن جابر بن عبد الله أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: (هم سواء).. وكان هذا في العمليات الربوية الفردية، فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون، معرضون لحرب الله، مطرودون من رحمته بلا جدال، إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة.. وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا..

12. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم ـ في أنحاء الأرض ـ هو عالم القلق والاضطراب والخوف؛ والأمراض العصبية والنفسية ـ باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار، وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك! إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة، وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضي والاستقرار والطمأنينة؟

13. إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كيلا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما.. في أمريكا، وفي السويد، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا.. أن الناس ليسوا سعداء.. أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة، وفي (التقاليع) الغريبة الشاذة تارة، وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة، ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب، الهرب من أنفسهم، ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها، فيهربون بالانتحار، ويهربون بالجنون، ويهربون بالشذوذ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا! لما ذا؟

14. السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة ـ على كل ما لديها من الرخاء المادي ـ من زاد الروح.. من الإيمان.. من الاطمئنان إلى الله.. وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه، ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير.. بلاء الربا.. بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها، إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة؛ ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها الجميع؛ والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع؛ والتي تهيئ طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع.. ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح ـ ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا! وصدق الله العظيم: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾..

15. وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم! ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على تحريم الربا، اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.. وكانت الشبهة التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا.. وهي شبهة واهية، فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة، والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة، أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة.

16. وهذا هو الفارق الرئيسي، وهذا هو مناط التحريم والتحليل.. إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده.. ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة! ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.. لانتفاء هذا العنصر من البيع؛ ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية؛ وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية..

17. وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية؛ دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.. لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه، فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله، يحكم فيه بما يراه.. وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته؛ فيظل يتوجس من الأمر؛ حتى يقول لنفسه: كفاني هذا الرصيد من العمل السيئ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت، فلا أضف إليه جديدا بعد!.. وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد، ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.. وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه، ويعمقه في القلوب.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/319.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لم تعطف هذه الآية على ما قبلها، وإن كان سياق النظم يقضى بهذا، على نحو ما تجرى عليه في أسلوبنا، بل وعلى ما جرى عليه نظم القرآن في كثير من المواقف المشابهة لهذا، حيث يعطف الليل على النهار، والمحسن على المسيء والمؤمن على الكافر، وهكذا.

2. لم يقع العطف هنا بين الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، والذين يأكلون الربا ـ على غير المألوف ـ وذلك للبعد البعيد الذي بين هؤلاء وأولئك، حيث لا يمكن أن يلتقيا على أي وجه من الوجوه:، فهما أكثر من متناقضين، وأبعد من متضادّين، وفى هذا تشنيع على الرّبا وآكليه، وعلى عزلهم عن المجتمع الإنساني كلّه، حتى مجتمع الكافرين والمنافقين، لأن كلا من المنافق والكافر يأكل نفسه على حين أن آكل الربا يأكل نفسه ويأكل ضحاياه المتعاملين معه!

3. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ الرّبا في الأصل الزيادة والنماء، وفى عملية الرّبا زيادة في مال المرابي ونماء له، ثم أطلق على عملية الرّبا المعروفة، شاملا جميع أطرافها؛ المال المتعامل به، وصاحب المال، وآخذه، فالذين يأكلون الربا هما الطرفان المتعاملان به.. المقرض، والمقترض، حيث لا تتم العملية إلا بهما معا.. والأظهر هنا أن المراد بهم، هم المقترضون حيث يأخذون المال (الربا) ويأكلونه، أي يستهلكونه فيما اقترضوا.

4. ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، أكثر المفسّرون من التأويل والتخريج لهذا المقطع من الآية الكريمة، واستهلكوا كثيرا من الجهد في البحث عن معنى التخبط، والشيطان، والمسّ، وفى الصورة المركبة من هذه الجزئيات، وكلهم ناظر إلى أن المراد بآكل الربا هو المقرض دون المقترض، غير أن جميع هذه الآراء، وتلك التخريجات لم نجد منها ما نطمئن إليه، ونقنع به، وقد أوردنا النظر إلى الآية الكريمة على وجه غير الوجه الذي التفتوا إليه، ووقفوا عنده، فظهر لنا منها ما وجدنا له مفهوما، وفيه مقنعا، وفيما يلي تفاصيله:

أ. إن الضمير في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ يراد به المقترضون بالربا، وهم ـ كما قلنا ـ الذين يأكلون هذا المال المقترض، ويستهلكونه في الأمر أو الأمور التي اقترضوا من أجلها، ويسند هذا الرأي أن المقرض ـ وهو المرابي ـ لا يأكل المال الذي أقرضه بالرّبا، ولا يستهلكه، وهذا ما ينطق به ظاهر اللفظ (يأكلون) والحمل على الظاهر أولى، ولا يصار إلى غيره إلا عندما يكون للظاهر وجه مقبول!

ب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإننا لو نظرنا في الصورة كلها على هذا الوجه، لبدا لنا أن آكلي الرّبا، وهم المقرضون ـ على ما ذهبنا إليه ـ قد رهقهم الدّين، وأثقلهم حمله، وأنهم أصبحوا في يد المرابي كالسمكة في شبكة الصياد، كلّما ضربت برأسها وذنبها في الشبكة لتجد طريقا إلى الخلاص كلما اشتد ضغط الشبكة عليها وإمساكها بها.. فالمقترض بالربا قد علقت به حبائل المرابي، وكلما أراد أن يفلت من يده، ويتخفف من الدين الذي أثقله به كلما ازداد إحكام يده عليه، وتضاعف الدين الذي كان ينوء به!

ج. والصورة التي رسمها القرآن الكريم لآكلي الربا من المقترضين أحكم إحكاما، وأردع روعة؛ من كل صورة تكشف عن حال هؤلاء المقترضين وسوء المصير الذي يتخبطون فيه! ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

د. إنهم كلما أرادوا أن يقوموا من هذا الهمّ الثقيل الذي أقعدهم وأعجزهم عن السير في ركب الحياة مع الناس، تخبطوا واضطربوا، فقاموا ثم قعدوا، وقاموا ثم قعدوا.. ثم لا يكاد أحدهم بهم بالقيام حتى يسقط، ثم يهم ويسقط، ثم يختلج جسده كلّه، ويضطرب كيانه كله، فيخر صريعا، ويضطرب على الأرض اضطراب الجمل المذبوح! والممسوس الذي أصابه الصّرع هو الذي يمثل تلك الحال أدق تمثيل.. في اضطرابه وتخبطه، وقيامه، وسقوطه، ثم ارتماؤه أخيرا على الأرض يرتعش رعشة المحموم، ويضطرب اضطراب الحيوان الذبيح!

هـ. سواء أكان للشيطان مسّ أم لم يكن، فإن النّاس يشهدون المصروعين، ويرون النوبات التي ينتابهم فيها الصرع، على هذا النحو الذي ذكرناه، على أنه ليس بالمستبعد أن يتسلط الشيطان على بعض الأجساد، فيصيبها بهذا الداء.. وقد ورد في الإنجيل أن المسيح عليه السّلام كان يشفى الممسوسين والمصروعين ـ وأنه كان يخرج الشياطين الحالة بأجسادهم فيبرؤون، ففي إنجيل متى: (ولما جاؤوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثيا له، وقائلا: يا سيد ارحم ابني، فإنه يصرع ويتألم شديدا، ويقع كثيرا في النار، وكثيرا في الماء.. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان، فشفى الغلام من تلك الساعة) (الإصحاح 17)

و. إذا فهمنا الآية على هذا الوجه بدا لنا أنها تتجه إلى المقترضين بالرّبا والمقترضين، وأنها تمثل لهم المصير الذي سيصيرون إليه إذا هم تعاملوا بالربا، ووقعوا في شباك المرابين.. وبهذا يظهر حرص الإسلام على حماية هؤلاء المقترضين، وهم من ذوى الحاجات وتحذيرهم من أن يغريهم المطعم في هذا الفخ المنصوب لهم.

ز. إن المقترض بالربا لا يكون غالبا إلا من ذوى الحاجة والمعسرة، وأن يده‏ أعجز من أن تسعفه بحاجاته التي تمسك عليه حياته.. فهو يلجأ إلى المقرضين بالرّبا، تحت هذا الظرف القاسي، فيقدم على القرض بالرّبا مضطرا، ويحمل هذا العبء الثقيل مكرها، ليدفع بذلك خطرا داهما، بتهدده ويتهدد أهله بالموت جوعا.. ثم إذا جاء الوقت المعلوم لأداء هذا الدّين وما زيد عليه من ربا، وجد نفسه عاجزا عن الوفاء بالأداء، فيضطر تحت الحاجة إلى المادّة في الأجل، ومضاعفة الدين.. وهكذا تمضى الأيام، ويد المدين عاجزة عن الوفاء، والدين يتضاعف عاما بعد عام، حتى يبدو وكأنه جبل يجثم على صدر المدين، فلا يقدر على الحركة إلى أي اتجاه.

5. هذه هي صورة المقترض بالرّبا، يمشى في الناس وكأنه يحمل ثقلا من الأحجار ينوء به كاهله، وينحني منه ظهره، ويضطرب معه خطوه، وفى هذا ما فيه من تبغيض في الرّبا، وتنفير من التعامل به، والحق أنه لو امتنع المقترضون بالرّبا عن طرق أبواب المرابين لما وجد هؤلاء المرابون من يتعاملون معه، ولما تمت هذه الجريمة المنكرة!

6. فى قوله تعالى: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ تشبيه للمرابي بالشيطان، إذ كان مصدر شر يتهدد حياة من يتعامل معه، ويذهب بمقومات حياته، ويغتال ثمرة جهده.. وكما أن الشيطان يزيّن للإنسان الشرّ، ويغريه به، حتى ليسيل لعابه إلى تلك المنكرات التي يوسوس له بها، ويرفعها لعينيه في صورة رائعة معجبة ـ كذلك يفعل المرابي، بما في يديه من مال أعدّه للمراباة، ولوّح به لذوى الحاجات، فجاؤوا إليه، ووقعوا في شباكه، كما يقع الفراش في النار، وهو يرقص على ضوئها الذي خيل إليه أنه مطلع فجر جديد، فالمرابي شيطان يتسلط على المتعامل معه، فيصاب منه بالخبل والاضطراب، كما يصاب الممسوس من الشيطان بالتخالج والتخبط.

7. من هذا كله نرى أن ما ذهبنا إليه من أن‏ ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ هم الذين يقترضون بالرّبا من المرابين، وليسوا هم المرابين، كما ذهب إلى ذلك المفسرون، وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه يجعل الآية الكريمة غير منسوخة، كما يقول ذلك المفسرون بإجماع، وإنما هي لتقرير حكم خاص بطرف من أطراف العملية الربوية، وهو الطرف المقترض، لا المقرض.. أما المقرضون بالرّبا فسيجيء بعد ذلك الحكم الخاص بهم، في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

8. أما تقديم المقترضين بالربا على المقرضين به في مجال التشنيع على الرّبا، والتهديد للمتعاملين به، فذلك لأن المقترض ـ كما قلنا ـ هو الذي بيده مفتاح هذه العملية، وأنه هو الذي يطرق باب المرابي، وبتلك الطرقات يفتح الباب، وتتم الجريمة.. ولو أمسك المقترضون عن التعامل بالرّبا لما وجد المرابون سوقا رائجة يتعاملون معها، فكان تقديم الحديث إليهم في هذا الموقف هو من مقتضيات الحكمة والبلاغة معا.

9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ القول هو قول آكلى الرّبا، وهم المقترضون، والإشارة بـ ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى تلك الحال التي لبست آكلى الرّبا، وما صار إليه أمرهم بعد أكله، حتى أصبحوا كمن يتخبطه الشيطان من المسّ، والمعنى: أن هؤلاء الذين أكلوا الرّبا إنما صار حالهم إلى ما هو عليه من السوء والبلاء بسبب غفلتهم، وسوء تقديرهم، واغترارهم بظاهر الأمور، حتى خيّل إليهم أن التعامل بالرّبا لا يعدوا أن يكون من باب البيع، وأنه كما يشترى المشترى السلعة بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع البائع، كذلك يشترى المقترض بالرّبا المال الذي اقترضه بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع المقرض،! هكذا يركب الإنسان طرق الشرّ ويأكل ما يلقى فيها من خبيث الطعام، وهو يحسبه الطيب الهنيء المريء، ثم لا يقف عند هذا، بل يتكلّف له المبرّرات والمسوّغات.

10. قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ جاء على غير المألوف المتوقع، وهو أن يقولوا: (إنما الرّبا مثل البيع) إذ أنهم إنّما قبلوا الرّبا، ورضوا بالتعامل به، قياسا على أصل قاسوه عليه، وهو البيع، فكان عليهم أن يقولوا لأنفسهم، أو لمن يسفّه عملهم هذا: (إنما الربا الذي يلام عليه، أو يحذّر عاقبته، هو مثل البيع الذي لا ينكره أحد، ولا يحذّر منه أحد)، وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم يكشف عن مدى ما يفعل السوء بأهله حين يستبد بهم، ويفسد عليهم أمرهم، حتى لتنقلب عندهم أوضاع الأمور، وتختل موازينها في تفكيرهم، فيبدو الشر حسنا، والقبيح جميلا.. فهم هنا يرون الرّبا الذي يتعاملون به أصلا يقاس عليه البيع، على حين أنهما من واديين مختلفين، وإن يكن ثمة قياس، فالبيع هو الأصل الذي تقاس عليه الصور المشابهة له!

11. وقد ردّ الله عليهم هذا القول، وأبطل هذا الادعاء الذي ادّعوه، فقال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فإنه إذا كان ثمة تقابل بين البيع والربا في ظاهر الأمر، فإنهما في الحقيقة ضدان لا يلتقيان أبدا.. هذا حلال، وذاك حرام، ويا بعد ما بين الحلال والحرام، وليس يمنع من تشابه الشيئين في الصورة أن يكونا على بعد بعيد من الخلاف حتى يبلغ حد التناقض والتضاد في الحكم الواقع على كل منهما، فالحيوان الذي أحلّ أكله.. إذا ذبح كان لحمه حلالا، وإذا مات حتف أنفه مثلا.. كان لحمه حراما خبيثا، وهو هو الحيوان في حلّه وفى حرمته.

12. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ الموعظة ما يوعظ به، من توجيه إلى الخير، وتحذير من الشر، وإذا كانت الموعظة من الله فهي حكم ملزم، لا اجتهاد لأحد فيه برأي أو تقدير.. بل هو هكذا.. يؤخذ به، أو يترك.. فمن أخذ به رشد ونجا، ومن تركه أثم، وهلك.. وهذه الموعظة التي حملتها الآية الكريمة في التشنيع على الرّبا، وتحريمه إنما هي لآكلي الربا وهم المقترضون خاصة.

13. ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي فقد تجاوز الله عما سلف أي ما أكله من الرّبا قبل أن يبيّن له هذا البيان، ويجيئه هذا الحكم، في تلك الآية الكريمة.

14. فى قوله تعالى‏: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ إشارة إلى رحمة الله ومغفرته التي تمحو سيئات المسيئين، إذا هم تابوا إلى الله وأنابوا.. فمن كان أمره إلى الله فإنه في ضمان من كل سوء.

15. ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ أي ومن عاد إلى أكل الرّبا، مستحلا له بعد أن حرّمه، الله فقد تعرض لغضب الله وانتقامه، ونعوذ بالله من غضبه وانتقامه.

16. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، وصف الله سبحانه بالعزة هنا، هو عرض لسلطان الله، وقوته، وأن حرماته في حمى عزيز، ولكنه ـ سبحانه ـ لا يعجل بأخذ الذين يعتدون على حرماته، كرما منه ورحمة، بل يمهلهم حتى يراجعوا أنفسهم، ويفيئوا إليه، فإن فاؤوا وجدوا المغفرة والرضوان، وإن عادوا ولم يتوبوا فقد وقعوا تحت نقمة الله، الذي يغار على حرماته أن تستباح بلا قيود ولا حدود.. فمع عزة الله، وقوته، وبسطة سلطانه، تقوم نقمته تتعقب بالعقاب أولئك الذين استخفوا بعزة العزيز، واستباحوا حرمات المنتقم.. بلا حساب! هذا، ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن المراد في قوله تعالى‏: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ هم المقترضون ما جاء في الحديث الشريف: (لعن الربا.. آكله، ومؤكّله، وشاهديه، وكاتبه)

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/350.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نظم القرآن أهمّ أصول حفظ مال الأمّة في سلك هاته الآيات، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أو تطوّعا وهو الصدقة، فأطنب في الحثّ عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ، عطف الكلام‏ إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ربا الجاهلية، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زاد في الدين، يقولون: إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي، وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء، والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلب النظرة أعطى ربا آخر، وربّما تسامح بعضهم في ذلك، وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجّة الوداع‏ (ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبدأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب)

2. جملة ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ إلى آخره، والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا: أكل مال الناس‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: 10]، ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ﴾ [الصافات: 91، 92]، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن‏ ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]

3. الربا: اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء ـ بالمد ـ فصيّروه اسم مصدر، لفعل ربا الشيء يربو ربوا ـ بسكون الباء على القياس كما في (الصحاح) وبضم الراء والباء كعلو ـ وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرّماء إذا زاد قال تعالى: ﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم: 39]، وقال: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: 5]، ـ ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان، وكتب بالألف، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضا ـ قال الزجاج: ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيهم الخطأ في الخطّ حتى أخطئوا في التثنية كيف وهم يقرؤون‏: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ﴾ [الروم: 39] ـ بفتحة على الواو ـ ﴿فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ [الروم: 39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة، وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفا، فقال‏ الزمخشري: كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو، والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف، وقال المبرّد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلّا في قوله تعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى‏﴾ [الإسراء: 32]، وقال الفراء: إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: ربو ـ بواو ساكنة ـ فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع، والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصّلوين لا من الاصطلاء، وقال الزمخشري: وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع، وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلّا يقرأها الناس الربو.

4. أريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلّا التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم، أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ في سورة آل عمران، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا، وتقدم ذلك كلّه إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظا عليهم، وتعريضا بتخويف المسلمين، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر، وقد قال ابن عباس: كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال‏ الله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275] وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276]

5. ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 278] الآيات، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار: إنّما البيع مثل الربا، فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبيانا لكيفية تدارك ما سلف منه.

6. الربا يقع على وجهين: أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل.

7. ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازا على تحسّن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب، فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون ـ يوم يقوم الناس لرب العالمين ـ إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان، أي إلّا قياما كقيام الذي يتخبّطه الشيطان، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئا، فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.

8. التخبّط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له، أي تحرّك تحرّكا شديدا، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق، ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّيا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار، فعوضا عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا: اضطرّه إلى كذا، فتخبّط الشيطان المرء جعله إياه متخبّطا، أي متحرّكا على غير اتّساق، والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع، فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيئة بالهيأة جيء في لفظ الهيئة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلّا لما فهمت الهيئة المشبّه بها، وقد عرف ذلك عندهم، قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلا كاملا:

çوتصبح عن غب السري وكأنّها...ألمّ بها من طائف الجنّ أولق‏é

وهو إذا أطلق معرّفا بدون عهد مسّ معروف دل عندهم على مسّ الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة، و(من) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة.

9. ﴿يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ عند المعتزلة، ومن وافقهم جار على ما عهده العربي مثل قوله: ﴿طلعها كأنّه رؤوس الشياطين﴾، وقول امرئ القيس: (ومسنونة زرق كأنياب أغوال) إلّا أنّ هذا أثره مشاهد وعلته متخيّلة والآخران متخيّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة، وعندنا (2) هو أيضا مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلّا أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية، فإنّ عوالم المجرّدات ـ كالأرواح ـ لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد.

10. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ الإشارة إلى‏ ﴿كَمَا يَقُومُ﴾ لأنّ ما مصدرية، والباء سببية، والمحكيّ عنهم بقوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حين تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة، ويجوز أن يكون‏ ﴿قَالُوا﴾ مجازا لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به.

11. قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولمّا صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال: إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس‏؛ لأنّ قياس العكس إنّما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه، وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله.

12. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام، وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذلك، وما ذلك إلّا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة.

13. مبنى شبهة القائلين‏ ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنّه يرجعها له أحد عشر درهما، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله، وكشف هاته الشبهة:

أ. قد تصدّى له القفال فقال: (من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة)، ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.

ب. وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنّه يستطيع أن يتّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير، وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصدّيه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.

ج. فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّا وكربا، وقد استعاذ منه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وحال التاجر حال التفضّل، وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا؛ لأنّ المتسلّف مظنّة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده‏ لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال، فالتجارة معاملة بين غنيّين: ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه، فالمتسلّف مظنّة الفقر، والمشتري مظنّة الغنى، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات، فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساة والمعروف، وأنّها مؤكّدة التعيّن على المواسي وجوبا أو ندبا، وأيّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف، فأما الذي يستقرض مالا ليتّجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف، وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.

14. ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة:

أ. أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه.

ب. الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلّا بالتجارة والصناعة والعمارة.

ج. الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.

د. الرابع أنّ الغالب في المقرض أن يكون غنيا، وفي المستقرض أن يكون فقيرا، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف.

15. أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ من سورة آل عمران، هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه.

16. (أل) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها: أحدهما يسمّى بيعا والآخر يسمّى ربا، أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة، وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده، وأنّه حرم الربا بجنسه‏ كذلك، ولما كان معنى‏ ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ‏﴾ [البقرة: 275] أذن فيه كان في قوة قضية موجبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو الحمد لله، فبقي محتملا شمول الحلّ لسائر أفراد البيع، ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية.

17. معنى قوله: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ هو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالا، ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع:

أ. فذهب ابن عباس وابن عمر إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة (إنّما الربا في النسيئة) ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر: (ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد)، يعني أنّه حمل‏ ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ‏﴾ على عمومه.

ب. وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيّن جميع المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال: (كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمها أحب إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها) قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يفسر آية الربا، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها، وقال ابن العربي: بيّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثا، والوجه عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمّه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيان تغيير، وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان، وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ من‏ المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعموميها: عموم البيع وعموم الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلّا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

18. الذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث.

19. ذكر هنا بعض الأحاديث التي سبق ذكرها في الربا، ثم ذكر ما يستنبط منها من أحكام، وقد نقلناه إلى محله من السلسلة.

20. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ الآية تفريع على الوعيد في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾، والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران، والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق، وكأنّه مشتق من النّهى ـ بضم النون ـ وهو العقل، ومعنى ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، أي ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض، بقرينة قوله ـ الآتي ـ ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ [البقرة: 279]

21. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى (من جاءه) وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود، وأنّ معنى‏ ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم، فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

22. جعل العائد خالدا في النار:

أ. إما لأنّ المراد العود إلى قوله: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق؛ فإنّ كثيرا منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته.

ب. وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلته بقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ والخلود طول المكث كقول لبيد:

çفوقفت أسألها وكيف سؤالنا...صمّا خوالد ما يبين كلامهاé

ومنه: خلّد الله ملك فلان.

23. تمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها، وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن؛ إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر، ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/547.

(2) يقصد أهل السنة

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآيات الكريمات من قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة] إلى هذه الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ كلها في الصدقات؛ بينت مقاصدها، وبينت آفاتها، وبينت وعاءها، وما يكون الإنفاق منه، ثم بينت مواضع الصدقات، وما ينبغي الإنفاق فيه؛ وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه قبح الربا؛ وإن المناسبة بين الإنفاق في سبيل الله والربا، هي المناسبة بين الضدين؛ فإنه إذا تذكر الشخص أحد الضدين سبق إلى ذهنه ضده؛ وإن التضاد ثابت بين الإنفاق في سبيل الجماعة والربا من عدة نواح: من ناحية النفس التي ينبعث منها الربا، والنفس التي تنبعث منها الصدقة؛ فنفس الربوى نفس محب لذاته يريد أن يحتاز كل شيء، ونفس المنفق في سبيل الله نفس محب للناس ألوف، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ومن ناحية الحقيقة، فالربا أكل لأموال الناس بالباطل، والإنفاق بذل لمال النفس في سبيل الغير ورفعة شأن الجماعة، وأكل أموال الناس نقيض لإعطاء الناس من حر ماله، ومن ناحية النتيجة فالربا يقطع التعاون بين الناس، أو يكون التعاون قائما على الإثم والعدوان، بينما الإنفاق فى‏ سبيل الله يقيم التعاون بين الجماعة والآحاد على أساس من الفضيلة، والبر والتقوى، ثم الربا يوجد قلق المرابي، والصدقة توجد اطمئنانا وقرارا، فالربا والإنفاق في سبيل الله نقيضان لا يجتمعان؛ ولذا جعلهما سبحانه وتعالى متقابلين تقابل الأضداد، في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم‏]

2. ابتدأ سبحانه في بيان حقيقة الربا وحكمه ببيان أثره في نفس المرابي، ليعلم كل إنسان أن أثره شر في نفس صاحبه، وأن أول من يناله الضرر هو المرابي نفسه، فهو بمقدار ما يكثر من مال يكثر من الهموم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته؛ فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفى أحواله، وهو في قلق مستمر.

3. معنى التخبط الضرب في غير استواء؛ ولذا قيل في المثل: خبط عشواء، والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهمّ المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسّه الشيطان.

4. تشبيه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان فيه إشارة إلى أن الشيطان قد يمسّ نفس الإنسان فيصيبه، وقد أنكر ذلك الزمخشري في تفسيره، وخرج الآية الكريمة على غير المعنى الذي يفيد هذا فقال في الكشّاف في هذا التعبير الكريم: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم وأن الجنى يمسه فيختلط عقله، وكذلك جنّ الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجنّ قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات.

5. هذا الكلام يفيد بفحواه أن العرب يزعمون صلة بين الجنون والجن، وأنه من مسّ شياطين الجنّ، وأن القرآن ورد التعبير فيه على مثل ما كانوا يعبرون، وإن لم يكن ذلك حقيقة مقررة في الإسلام عند الزمخشري ولكن وردت أحاديث تفيد أن الشيطان يمس الإنسان، ويكون لمسّه أثر في فكره وعقله؛ فهل نترك ظواهر هذه الأحاديث مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه النسائي: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا)

6. فى الحق إن البحوث الروحية التي يجريها العلماء الآن في أوربا أثبتت أن الشياطين من الجن تخبط نفس الإنسان أو تمسها فيكون الجنون، وأن تلك العبارات التي كانت تجرى على ألسنة العرب حقائق ثابتة الآن، فلا يسوغ لنا أن نؤول القرآن الكريم بغير ظاهره، لإنكار لا دليل عليه.

7. ظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا التمثيل هو لبيان حالهم في الدنيا، فهو تصوير لاضطرابهم وقلقهم وتخبطهم في حياتهم، وإن بدوا منظمين فهو تنظيم مادى، ومعه القلق النفسي، والانزعاج المستمر.

8. هذا هو ظاهر الآية، وبه قال بعض المفسرين، ولكن قال الزمخشري ومعه الكثيرون: إن ذلك التخبط من أكلة الربا هو يوم القيامة، فقال في الكشّاف: (المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين؛ تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، ينهضون‏ ويسقطون كالمصروعين؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض)، ونرى من هذا أن الكشاف يقصر تلك الحال التي صورها التمثيل على الآخرة، وإني أرى أنه يصور حالهم في الدنيا والآخرة؛ فهم في الدنيا في قلق مستمر، وفى الآخرة تثقلهم سيئاتهم فيتخبطون، وكأنهم المصروعون.

9. لا عجب في أن تكون تلك حالهم في الدنيا، فالربويون أكثر الناس تعرضا للأزمات القلبية، كما يعرّضون الجماعات للأزمات الاقتصادية؛ ولقد قرر الأطباء أن نسبة ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والشلل والذبحة الصدرية عند الربويين أضعافها عند غيرهم، وما علمت ربويا مات إلا سبقه الشلل أو أخواته قبل أن يجيء إليه الموت ليستقبل نار جهنم؛ وذلك لأنهم‏ ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ والله أصدق القائلين.

10. الربا معناه واضح يفهمه العامة وهو الزيادة في الدّين في نظير الأجل، ولكن الذين يحاولون تطويع الشريعة لتكون أمة ذليلة للاقتصاد الربوى عقّدوا معنى الربا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولذلك وجب أن نتكلم بإيجاز في معنى هذه الكلمة.

11. أصل الربا من (ربا) يربو بمعنى (زاد)، أو (نما)، ثم أطلقت كلمة ربا على ذلك النوع من التداين، وهو أن يزيد المدين في الدّين في نظير الزيادة في الأجل، وقد صار إطلاق كلمة الربا على هذا المعنى حقيقة لغوية، أو هو عرف لغوى، وهذا هو الربا المذكور في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران‏]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم‏] وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم (ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب) وهذا الربا يسمى ربا النسيئة؛ ولقد ورد فى‏ الأثر (إنما الربا النسيئة) ولم يشك أحد من الفقهاء في أن هذا محرم، فتحريمه ثابت بالنص القرآني والحديث النبوي، والإجماع الفقهي؛ ولقد سئل الإمام أحمد عن الربا المحرم قطعا، فقال: أن تزيد في الدين في نظير الزيادة في الأجل.

12. هناك نوع سمى الربا في الشرع الإسلامي، لا في الحقيقة اللغوية، وهو ربا العقود، الثابت بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطى فيه سواء)، وهذا النوع من الربا لم يكن معروفا في الجاهلية، بل هو حقيقة إسلامية وردت في مقام النهى؛ ولذا يقسم الجصاص الربا قسمين: ربا غير اصطلاحي، وهو ربا الجاهلية عرفته اللغة، ولا مجال للريب فيه؛ وربا اصطلاحي، وهو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه.

13. مع وضوح معنى الربا الجاهلي ذلك الوضوح، وهو الذي جاء بتحريمه القرآن الكريم، وجدنا ناسا يحاولون أن يشككوا الناس في حقيقته، ليحلوا بذلك التشكيك ربا المصارف، وقد سلكوا للتشكيك مسلكين:

أ. أولهما: أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران‏] فهموا منه أو بالأحرى حاولوا أن يفهموا الناس أن الربا المحرم هو ما يكون بمضاعفة الدين، وما دون ذلك حلال، وأهملوا قوله تعالى: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ‏﴾ [البقرة] مع أن قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ حال من (الربا) وهو الزيادة، أي لا تأكلوا تلك الزيادة التى‏ تتضاعف عاما بعد عام، فالمضاعفة في الزيادة لا في أصل الدّين، وفوق ذلك فالوصف جار مجرى الواقع من تكرار الزيادة حتى تصل إلى قدر الدّين أو تزيد، ثم إنه من المقرر فقها أن النهى إذا ورد عاما ثم جاء نهى في بعض أفراد هذا العام لا يكون ثمة تعارض حتى يخصص العام، بل أقصاه أن بعض أفراد العام ورد فيه النهى مرتين، فله فضل تأكيد، وكذلك الأمر، كما في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة]

ب. الثاني من مسالك التشكيك أنهم قالوا: إن الربا المحرم هو ما قصد فيه المقترض أن يستدين للاستهلاك لا للاستغلال؛ فمن يقترض لشراء حاجات لازمة لنفسه أو أهله لا يصح أن يؤخذ منه زيادة نظير الأجل، ومن اقترض ليوسع تجارته، أو ليصلح زراعته، فهو مستغل بما اقترض، فالزيادة لا تكون ربا، بل هي مشاركة في الربح، ذلك قولهم بأفواههم، والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل، وينقض ذلك الزعم أمران:

أحدهما: عموم النص القرآني فهو عام في كل قرض قد جر زيادة فوق رأس المال، بدليل‏ ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ﴾ [البقرة]

ثانيهما: أن الذين كانوا يقرضون تجارا، وكان ربا الجاهلية في مكة التي اشتهرت بالتجارة، وكان تجارها ينقلون بضائع الروم إلى الفرس والفرس إلى الروم، وكانت اليمن والشام فيهما الجلب والعرض، كما قال تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ [قريش‏] فشيوع الربا في ذلك الجو التجارى يدل على أنه كان ثمة ربا استغلال، وأن ربا الاستهلاك والاستغلال كلاهما حرام، ولا يصح أن يسمى ربا الاستغلال مشاركة في الربح؛ لأن أصول المشاركة أن يكون ثمة شركة في المغنم والمغرم معا، لا أن تكون الشركة في المغنم دون المغرم.

14. هذه حقيقة الربا، وهى واضحة إلا عند الذين يتقبلون تشكيك المشككين وقد كان أهل الجاهلية يسوغون الربا مع إحساسهم الفطري بأنه ليس أمرا حسنا، وكانوا يسوغونه بعقد المشابهة بينه وبين البيع؛ ولذا قال الله تعالى فيهم وفى الرد عليهم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ لقد عقد أولئك المشركون مقايسة بين البيع والربا، فقالوا: إن البيع يماثل الربا، فكما أن كسب البيع حلال، فكسب الربا حلال أيضا، ولا فرق بينهما في نظرهم الكليل، كالذين قالوا مقالتهم في ظل الإسلام، لا في حكم الجاهلية، ولكن ما الوصف الجامع في نظرهم بين البيع والربا؟ لعلهم نظروا إلى أن البيع قد يكون فيه بيع ما يساوى عشرة بخمسة عشر، فكان كسبه من تلك الزيادة، وهى حلال، فكذلك إعطاء مائة وأخذ عشرين ومائة حلال أيضا؛ وإلى أن من يقترض مالا ليتجر فيه يكسب منه وكسبه حلال بالبيع والشراء، فكذلك يكون الربا بالمشاركة في هذا الكسب؛ وإلى أن البيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن العاجل حلال، فكذلك تأجيل الدّين في نظير زيادة يكون حلالا، وتكون الزيادة كسبا طيبا.

15. ذلك قولهم، وقد ردّ الله سبحانه وتعالى قولهم بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فهذه الجملة السامية رد من الله سبحانه وتعالى لقولهم، وعلى ذلك جمهور المفسرين، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، ومرمى الرد الحكيم، أن طالب الحق من عند الله يجب عليه أن يتلقى حكم الله من غير محاولة تشكيك ولا اعتراض، والله قد حرم الربا وأحل البيع، فحق على كل امرئ يؤمن بالله أن يذعن لحكم الله، من غير تململ ولا اعتراض؛ وإنه نظام الله الذي ارتضاه، ولم يرتض سبحانه سواه، وإن هذا الكلام جدير بأن يخاطب الذين يحاولون التخلص من النهى عن الربا بالتفرقة بين الاستدانة للاستهلاك، والاستدانة للاستغلال.

16. التفرقة بين البيع والربا واضحة؛ فإن البيع موضوعه عين مغلة أو منتفع بها مع بقاء عينها، أو يجرى عليها الغلاء والرخص، فكان من المعقول أن يجرى‏ فيها الكسب؛ أما الدّين فموضوعه نقد لا يغل بنفسه، ولا ينتفع من عينه، ولا يجرى عليه الغلاء والرخص؛ لأنه ميزان لقيم الأشياء، فلا تتغير قيمته في الأمة، وإن اختلفت قوة الشراء به، فالتفرقة بين البيع والربا ثابتة، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا الأدب في تلقى أحكامه، فلا يصح أن نقايس أمام أمر الله ونهيه، لتناقض عموم أمر الله ونهيه، وكل تفكير فيه معارضة لأوامر الله أو لنهيه فهو رد على صاحبه.

17. كان مقتضى القياس الظاهري أن يقاس الربا على البيع فيقال: إنما الربا مثل البيع، لا أن يقاس البيع على الربا فيقال: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ ولكن جاء سياق القول على ذلك النحو؛ للإشارة إلى أن أولئك يؤمنون بالربا أشد الإيمان، حتى إنهم ليجعلونه أصلا في التشبيه، فيشبهون البيع به، وكأن حلّه أصل، والبيع فرع، ولقد ذكر ابن كثير أنهم بقولهم هذا إنما يعترضون على الله في تحريمه، فاقتضى ذلك أن يكون أصلا، وكأن مرادهم أن يقولوا: إن البيع يشبه الربا تماما، فما دام الإسلام قد حكم بتحريم الربا، فكان ينبغي أن يحكم بتحريم البيع؛ ولذلك رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وما كان لهم أن يعترضوا على أحكام ربهم، وهو العليم بكل أمورهم، الخبير بالصالح لهم، وينبغي أن يتلقوا أوامره ونواهيه بالإذعان الكامل؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾

18. الموعظة: اسم لما يأمر الله سبحانه وتعالى زاجرا للناس إن خالفوا، مبينا لهم أن المصلحة في اتباعه، ضاربا لهم الأمثال على أن فيه مصلحتهم في معادهم ومعاشهم؛ والمعنى: من جاءه الأمر من الله سبحانه وتعالى أو النهى عنه فعليه اتباعه والتفكير فيه والاتعاظ به، بالبحث عن حكمته، لا أن يعترض عليه، ويجعل الشريعة تبعا لهواه، ويخالف قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) بأن يخضع الشريعة لأهواء الناس، وإن انته من جاءته موعظة توبته.

19. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي أمر المرابي الذي رابى قبل التحريم إلى ربه، وهو العفو الغفور الرحيم؛ وفى هذا إشارة إلى أن ما يحرمه الشارع الإسلامي لا يكون مباحا قبل التحريم بل يكون في مرتبة العفو من الله سبحانه، وأمره إليه تعالت حكمته.

20. هذا شأن من انتهى، أما من عاد إلى المحرم بعد تحريمه، فقد بينه سبحانه بقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي ومن عاد إلى حكم الجاهلية بعد إذ بين سبحانه حكم الإسلام فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، وفى هذا التعبير الكريم إشارات بيانية إلى عدة معان، منها:

أ. أولا: تأكيد العقاب النازل بهم بالتعبير ب (أولئك) التي تدل على البعيد، فإنهم بعيدون عن رحمة الله تعالى، والتعبير بالجملة الاسمية، وفيه فضل توكيد؛ وتأكيد القول ب (هم)؛ والتعبير ب (أصحاب)، فإنه يدل على ملازمة العقاب.

ب. وثانيا: أنه سبحانه قال‏ ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ولم يقل فعقابهم، للإشارة إلى الملازمة بين الجريمة والعقاب، وإلى أن العقاب ثمرتها.

ج. وثالثا: الإشارة إلى أن المعاند لإرادة الله سبحانه وتعالى، والمستحل لما حرم الله تعالى إذ يحكم بالحل وقد حكم سبحانه بالتحريم كافر؛ ولذا حكم الله سبحانه بأنه خالد في النار، ولا يخلد في النار مؤمن.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1042.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. موضوع كل من الصدقة والربا هو المال، مع وجود الفارق، لأن الصدقة بذل بلا عوض، وطهارة وزكاة، وتكافل وتضامن، والربا استرداد للمال مع الزيادة، وطمع وجشع، ودنس وقذارة، وسلب واستغلال، فالمقابلة بينهما من حيث الموضوع مقابلة النظير للنظير، ومن حيث الحكم والغاية مقابلة الضد للضد.. وإذا كانت الأشياء تذكر بنظائرها فإنها تذكر أيضا بأضدادها، ولذا جاء حكم الربا عقب حكم الصدقات مباشرة، وقبل أن نتعرض لتفسير الآيات نمهد بالإشارة الى تحديد الربا في الشريعة، ودليل تحريمه، والسبب الموجب له.

2. الربا في اللغة الزيادة، ومنه قوله تعالى: ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾، أي زادت، وفي الشريعة ينقسم الى ربا النسيئة، أي القرض، وربا الفضل، أي الزيادة بسبب المعاوضة بين متجانسين على التفصيل التالي:

أ. ومعنى ربا النسيئة أو القرض أن يقرض الإنسان شيئا لغيره، أي شيء كان، ويشترط على المستقرض المنفعة من وراء القرض، سواء أكانت المنفعة من جنس المال، كمن أقرض عشرة دراهم بشرط أن يردها أحد عشر، أو من غير جنس المال الذي أقرضه، كما لو اشترط صاحب المال على المستقرض أن يعمل له عملا، أو يعيره كتابا، أو أي شيء، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل قرض جر نفعا فهو حرام).. فلم يفرق بين أنواع النفع.. أجل، إذا رد المستقرض المال، مع الزيادة تبرعا منه، ودون شرط كان له ذلك، وجاز للمقرض أن يأخذه، فقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يرد القرض مع الزيادة، ويقول: (ان خير الناس أحسنهم قرضا)، وينبغي أن نتنبه الى أن الربا يثبت في القرض بشرط الزيادة والمنفعة إطلاقا، سواء أكانت العين من نوع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع، وسواء أكانت من نوع المال المقترض، أو من غيره.. وبكلمة ان ربا القرض لا فرق فيه بين عين وعين، ولا بين منفعة ومنفعة.

ب. أما ربا الفضل، وهو الزيادة في المعاوضة، فيشترط فيه أمران:

الأول أن يصدق على كل من العوضين اسم الحقيقة النوعية التي توجد فيهما بجميع مقوماتهما، كبيع الحنطة بالحنطة، أو بيع الحنطة بالدقيق، لأن الثاني متفرع عن الأول، أو بيع النشاء بالدقيق، لأن الاثنين متفرعان عن أصل واحد، وهو الحنطة، والدليل على هذا الشرط قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم)، وأجمع الفقهاء الا من شذ على ان الحنطة والشعير من جنس واحد.

الثاني: أن يكون العوضان مما يكال أو يوزن، فلا ربا فيما يباع عدا كالبيض، ولا مشاهدة كالثوب والحيوان، فيجوز بيع بيضة ببيضتين، وثوب بثوبين نقدا ونسيئة.

3. الخلاصة ان الربا محرم في الدين إطلاقا، وفي المعاوضة في خصوص ما يكال أو يوزن معدنا كان كالذهب والفضة، أو حبا كالحنطة والشعير، أو فاكهة أو نباتا مع كون الاثنين من جنس واحد.

4. حرم الربا بنص الكتاب والسنة المتواترة، واجماع المسلمين كافة من يوم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الى اليوم، بل لا يحتاج التحريم الى دليل، لأنه من الواضحات البديهية، تماما كوجوب الصلاة، وتحريم الزنا، ومن هنا حكم الفقهاء بكفر من أنكر تحريم الربا، لأنه ينكر ما ثبت بضرورة الدين.. وكما يحرم أخذ الربا يحرم إعطاؤه، فقد جاء في الحديث: (لعن الله الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه والشاهد عليه)

5. من يؤمن بالله، وأنه المشرع الأول للحرام والحلال لا يطلب أكثر من وجود الوحي على تحريم الربا، وإذا سأل عن السبب الموجب فلا يسأل ليقتنع، بل لمجرد حب الاطلاع، أو ليقنع الذين أشارت اليهم هذه الآية: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، وكيف كان، فقد ذكروا لتحريم الربا أسبابا:

أ. منها: انه يتنافى مع أسمى المبادئ الانسانية، كالبر والتعاون والتعاطف.

ب. ومنها: انه أكل للمال بالباطل، لأن المرابي يأخذه بلا عوض..

ج. ومنها: ان المرابي يربح دائما، والمستقرض معرّض للخسارة، وفي النهاية يحتكر المرابي الثروة بكاملها، وقد تنبه لهذا العيب بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين الذين نشأوا في ظل النظام الربوي، ومن هؤلاء الدكتور شاخت الألماني مدير بنك الرايخ سابقا، قال من محاضرة ألقاها بدمشق عام 1953: (يمكننا بعملية رياضية ان نعلم ان جميع المال في الأرض سوف ينتهي الى عدد قليل جدا من المرابين، وذلك ان الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فان المال كله في النهاية لا بد أن يصير الى الذي يربح دائما، وهذه النظرية في طريقها الى التحقيق الكامل، فان معظم ملاك المال يملكه بضعة آلاف، أما جميع الملاك، وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال وغيرهم فليسوا سوى أجراء، يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الآلاف)

6. سؤال وإشكال: ان العوض موجود، وهو ان صاحب المال قد سلط المستقرض‏ على ماله، ومكنه من استغلاله والانتفاع به، فيكون حال الربا، تماما كحال ايجار الأرض والدار والحيوان، والجواب: فرق بعيد بين الايجار والربا، ذلك ان المستأجر غير مسؤول عن العين المستأجرة إذا تلفت، أو اعيبت إلا إذا تسبب هو في ذلك، تماما كالأجنبي، اما إذا تلف الشيء المقترض ـ بفتح الراء ـ فإنه يتلف من مال المستقرض.

7. من المتخصصين بعلم الاقتصاد من أثبت ان فكرة الربا أساسها ومصدرها الأول اليهود، وان غيرهم أخذها عنهم.. وليس ذلك ببعيد، فان تاريخ اليهود القديم والحديث يثبت بأن إلههم ودينهم وشرفهم وسياستهم هو المال وحده لا شريك له، وان أية وسيلة تؤدي اليه فهي شريفة ونبيلة، حتى ولو كانت دعارة، أو تدييثا، أو قتلا أو سرقة، أو نفاقا ورياء، أو أية جريمة ورذيلة.

8. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ ان الشيطان لا يمس أحدا، ولا سلطان له على أحد في الخبل والصرع، وإنما القصد مجرد التشبيه والتقريب لأذهان العرب الذين يقولون عمن يصاب بالصرع: مسه الشيطان.. ومعنى الآية ان حال الذين يتعاملون بالربا، تماما كحال المجنون والمصروع الذي يخبط في تصرفاته خبط عشواء، وروي عن ابن عباس: ان المرابين يقومون من قبورهم غدا كالمصروعين، ويكون ذلك امارة لأهل الموقف على انهم اكلة الربا.

9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، ذلك اشارة الى استحلالهم للربا، وقد فلسفوه بأن البيع والربا متماثلان من جميع الوجوه، فكيف يكون البيع حلالا دون الربا!؟، أليس للإنسان أن يبيع ما يساوي خمسة دراهم بستة، وان يبيع ما يساوي درهما معجلا بدرهمين مؤجلين؟.. اذن، ينبغي أن يسمح له بإعطاء عشرة دراهم بأحد عشر الى شهر، والفرق تحكم في نظر العقل.

10. رد الله سبحانه هذا الزعم بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، ووجه الرد ان مجرد تماثلهما في الظاهر لا يستدعي أن يكونا كذلك في الواقع، فان البيع عملية تجارية نافعة، والبائع يقوم بدور الوسيط بين المنتج والمستهلك، فيكون ربحه عوضا عن أتعابه، وليس أكلا للمال بالباطل، أما الربا فهو استغلال محض، وأخذ للزيادة من غير مقابل، فيكون أكلا للمال بالباطل.. ومن أجل هذا أحل الله البيع، وحرم الربا.. فاختلافهما حكما عند الله دليل على اختلافهما واقعا، وكذلك العكس.

11. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، أي من كان قد أخذ الربا قبل أن ينزل به التحريم، ثم تركه بعد التحريم لا يكلّف رده الى من أخذه منه، وكذلك من يسلم الآن، فان كان قد أخذ الربا قبل إسلامه لا يجب عليه الرد بعد ان يسلم، فهذه الآية، تماما كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، ومبدأ عدم المفعول الرجعي للقانون أخذ به التشريع الجديد في موارد كثيرة، بخاصة في الأمور المالية، وعللوه بأنه يحدث هزة اقتصادية يصعب تلافيها.

12. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، ذكروا في تفسير العبارة وجوها لم تركن النفس اليها، والذي فهمناه نحن ان من أخذ الربا جهلا بحكمه، وتركه بعد أن علم نهي الله عنه‏ طاعة له فان الله سبحانه يشمله بعنايته، ويغنيه بحلاله عن حرامه، لأنه ترك الحرام توكلا على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

13. ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، معناه ان الذين لا يأتمرون بأمر الله، ولا ينتهون بنهيه، يستمرون على أكل الربا عنادا واستخفافا فهم مخلدون في النار، لأن مثل هذا العناد والإصرار لا يصدر إلا عن كافر جاحد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/433.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف ولسانها غير لسان التشريع، وإنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وسياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، ومن هنا يظهر معنى قوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية على ما سيجيء بيانه.

2. تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم وهي مكية: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾، ومن هنا يظهر أن الربا كان أمرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها، ومن هنا يظهر: أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.

3. على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله‏: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، ويشعر به قوله: ـ حكاية عنهم ـ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإسلام.

4. آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران‏ مقارنا لذكر الإنفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه، على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة، وإقامة أصلاب المساكين والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الأمر واستقرار النظام والأمن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا.

5. شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، وأما سائر الكبائر فإن القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولي أعداء الدين، وليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤومة، ولا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلا في الأعمال والأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفي أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الإنسانية ويسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح، وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم: لا يملكون مالا ولا عرضا ولا نفسا، ولا يستحقون موتا ولا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامة الفضائل، وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدد الإنسانية بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى، وسيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

6. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، وللإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح، والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لأمور وينقبض عن أخرى في معاشرته، ويريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، وإذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه، وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته، وإنما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك، وأما الإنسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن والقبيح والنافع والضار والخير والشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالأخرة إنسان ذو إرادة، ومن المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد، وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.

7. هذا حال المرابي في أخذه‏ الربا (إعطاء الشيء وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل) فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل‏ بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، وأما إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلا من مال الغير، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر، وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين، فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

8. هذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدلّ تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، ومن هذا البيان يظهر:

أ. أولا: أن المراد بالقيام في قوله تعالى: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ﴾، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، وقال: ﴿أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾، وقال: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، وأما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية.

ب. ثانيا: أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا، وبناء عمله عليه، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة!.

ج. ثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، ولم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجيء توضيحه.

د. رابعا: أن التشبيه أعني قوله: ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية وإن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الإنس، وإبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.

هـ. خامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون، ووجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة، قال في تفسير المنار: (وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن، أقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وإن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني‏ من حديث عوف بن مالك مرفوعا: إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة ـ مجنونا يتخبط)، ثم قال: (والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع)، ثم قال: (وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، وقلما يصح في التفسير شيء، انتهى ما ذكره)، ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: (أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة، وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء)، فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية:

أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته.

وأما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج‏ على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم، فالمصير إلى ما قدمناه.

9. ما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن، ففيه:

أ. أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه‏ ﴿لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾

ب. وأما إن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل، على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال، لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل‏ الحسن قبيحا وبالعكس، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.

ج. على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السلام إذ قال (﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، وإذ قال (﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.. وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.

10. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك ـ لو أجاب ـ إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، ولو قال إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، ولو أنّه قال إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.

11. الظاهر أن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ حكاية لحالهم الناطق بذلك وإن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس، وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ نظمهما في سلك واحد، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلا وشبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله:

çومهمة مغبرة أرجاؤه‏...كأن لون أرضه سماؤه‏é

وكذا فساد ما ذكره آخرون: أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه: أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم، ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.

12. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد، يقال: جاءني زيد وقد ضرب عمرا، ولا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل‏ الربا إنما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية وإنما هي مستأنفة، وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فالجملة أعني قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ﴾ الآية لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإخبار عن حكم سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جاءه موعظة من ربه إلخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة، وقد قيل: إن قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ مسوق لإبطال قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل أحدهما وحرم الآخر، وفيه أنه وإن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة، ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ﴾ الآية، حالية وليست بحال، وأضعف منه ما ذكره آخرون: أن معنى قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ﴾ الآية إنه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، وفيه: أنه أيضا مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية، وبعبارة أخرى على نفي العلية والمعلولية بين الأشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، والضرورة تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه وشرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الآية، وقوله: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ الآية، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ إلى قوله‏: ﴿مِثْلُ الرِّبَا﴾، تدل على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة، وكونه منافيا غير ملائم للإيمان بالله تعالى، وكونه ظلما.

13. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، تفريع على قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ الآية، والكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، والمعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم ومن جاءه موعظة.. فإن انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله، ومن هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى، ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه، ومن قوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، ويبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، وربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.

14. أمر الآية عجيب، فإن قوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، ورجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية، إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وإن شاء عفا عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب‏ الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك، فإن قوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في أول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل الأعصار اللاحقة.

15. أما قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، ويلازم ذلك الإصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردة باطنا ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا ولا يفلح أبدا، فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.

16. من هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب، فإن الآية وإن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه.

17. وقد ذكر في قوله تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، وفي قوله: ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ الآية وجوه من المعاني والاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/409.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما كمل الحث على الإنفاق والترغيب فيه بحيث إذا عمل به المسلمون لم يحتج الفقير إلى الربا جاء التحذير من الربا فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قال القاسم عليه السلام: المس: هو اللمم، واللمم فهو الجنون، وأما التخبط فما يعرف من خبط المتخبَّط، وهو الغشيان من خارج لا من داخل، وكما يعلم من مقابلة المقابل)

2. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ في هذه الآية يقول القاسم عليه السلام: إنما مثّل الله آكل الربا إذ مثلوا رباهم وما حرم الله عليهم من الربا ونهاهم بالبيع الذي فيه إرباء، وإنما هو أخذ بالتراضي وإعطاء، فقالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ وشبهوا ما لم يجعل الله متشابهاً فشبهوا الحرام بالحلال، والهدى فيه بالضلال فمثلهم الله لما هم عليه من الجهل أنه عندهم أنقص أهل النقص من الجنون والخبل)

3. قيل: أن هذه صفتهم يوم القيامة يعرفون بها يقومون ويسقطون كالمصروع، وأنا لا أستبعد أن هذا في الدنيا، وأن المراد بقيامهم قوتهم بالمال إذا جمعوه من الربا وأنه يشتد حرصهم على المال وخوفهم من الفقر ولا يزال بهم خوف الفقر والسقوط بعد القوة، فهم في توقعهم للفقر وخوفهم منه؛ كالذي يصاب بالصرع، فلا يقوم إلا وهو خائف أن يصيبه مرضه متوقع له، وقد روى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أمسى وأصبح والآخرة أكبر همّه جعل الله الغنى في قلبه، وجمع له أمره، ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، ومن أمسى وأصبح والدنيا أكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له)، فظهر: أن هذا المعنى قريب أن يرسل الله خوف الفقر على آكل الربا، فلا يزال يتوقع السقوط أي ذهاب المال وضعف الحال.

4. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى﴾ عن الربا ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ في الجاهلية لا يطلب به تيسيراً عليه لكونه أخذه قبل نزول القرآن بتحريمه ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ إن تاب تاب عليه وإلا عذبه ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى الربا بعد نزول القرآن ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ عقوبة على الربا.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/401.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحديث في هذه الآيات عن الرّبا من خلال الواقع المتمثل في شخصية المرابي واختلاط الصورة في ذهنه، من جهة، وفي حركة الربا في حياة المرابي مقارنا بالصدقة في حياة المتصدق في حساب الله من جهة أخرى، ثم الملاحقة لهذا الواقع من أجل الدعوة إلى التخلص منه وتغييره بالموعظة الحسنة، والترغيب بما عند الله من ثواب للسائرين على خط التقوي، الذين لا يريدون أن يظلموا أحدا كما لا يريدون أن يظلمهم أحد، فإذا لم ينسجموا مع هذا الخط ولم يتوبوا إلى الله الذي يقف بهم عند خط العدل في الأشياء، فليتحملوا مسئولية إعلان الحرب عليهم من الله ورسوله، مما يعني المواجهة بالعنف في خطوات الشريعة في الدنيا، وفي عذاب الله في الآخرة، حيث يوفّي الله كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

2. تلك هي الصورة الإجمالية المتحصلة من هذه الآيات المتحدثة عن الربا في خطوات الواقع، الذي كان البعض من المؤمنين مستمرين عليه، بعد نزول آيات التحريم، التي ربما كانت من الآيات الواردة في سورة آل عمران‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 130]، واستمرار هذا الواقع الربوي، بعد نزول آيات التحريم، قد يكون ناتجا عن طبيعة النظام الاقتصادي الذي كان يسود المجتمع العربي، لا سيما مجتمع المدينة الذي كان خاضعا للسيطرة الماليّة للمرابين اليهود، كما هو شأنهم في كثير من المجتمعات التي يعيشون فيها، فكان لا بدّ من الحملة المشدّدة التي تواجه هذا الواقع بأسلوب عنيف لتكون عنصرا رادعا للانحراف عن الخط المستقيم.

3. ربّما كان ترتيب آيات الربا إلى جانب آيات الإنفاق في سبيل الله، من أجل الإيحاء بالجو الطيّب الطاهر الذي يعيشه الإنسان المتصدّق في مشاعر الخير المنسابة مع مشاعر الإيمان في إنسانيتها الباحثة أبدا عن مواقع الخير في حياة الناس الذين يحتاجون إلى الإعانة والهداية والقوة والتسديد، فقد يشعر الإنسان الذي عاش أجواء الانحراف، بالحاجة إلى أن يعيش الأجواء الأخرى التي توحي له بالتغيير من ناحية الإحساس المرهف الجديد الذي يتنفسه في تلك الأجواء.

4. لعلّ هذا الأسلوب القرآني يمثّل الطريقة العملية الروحية للهداية من خلال المقارنة بين النموذجين بالكلمة، مما يوحي بالحاجة إلى المقارنة بينهما في حركة الواقع في الحياة، كما يمكن الاستفادة من ذلك في حركة الفن التمثيلي المسرحي الذي يحاول أن يعرض صورة الإنسان الطيب الذي يعيش روح العطاء والرحمة إزاء الآخرين، إلى جانب صورة المرابي الشرير الذي يتغذى على آلام الآخرين ويتاجر بمآسيهم، حيث يتمثل لنا الوجه المشرق الجميل للإنسان في مقابل الوجه المظلم البشع له، وذلك في الأجواء التربوية التي نريد إثارتها أمام الأجيال الطالعة من وحي القرآن الكريم.

5. الآن لا بد لنا من وقفة قصيرة مع الربا، ما شأنه؟ وما هي مضارّه الأخلاقية والاجتماعية؟ وما هي كلمات المدافعين عنه؟ ثم الانطلاق بعد ذلك في وقفات متنوعة مع الآيات الكريمة في أسلوب تفسيري تفصيلي.

6. الربا، هو الزيادة والنمو للأشياء، ويراد به هنا، بيع المتماثلين جنسا وكمية بزيادة في أحدهما، أو إقراض مال بزيادة مادية عينية، كإقراض عشرة في مقابل خمسة عشر أو بزيادة معنوية أو حكمية، كإقراض عشرة بعشرة بشرط صياغة خاتم أو خياطة ثوب، ولكل منهما حكمه المتنوع في تفاصيله في كتب الفقه مما لا شأن لنا به الآن..

7. أمّا مضارّه الأخلاقية، فقد أراد الله للإنسان أن يتفاعل مع أخيه الإنسان، لا سيّما إذا كان أخاه في الإيمان، وذلك بأن يصنع المعروف إليه فيما يحتاجه من شؤون العيش وفي ما يواجهه من مشاكل الحياة، فيشاركه آلامه وهمومه ويحاول أن يخففها عنه بالكلمة والبسمة والحركة والعمل، لتنفتح الحياة الإنسانية على البعد الروحي الذي يغني إنسانية الإنسان ويرفع من مستواها الروحي، فلا تعود العلاقات مجرّد مبادلات تجارية تقوم على استغلال فرص الربح في كل شيء مهما كانت الأوضاع والظروف، وترتكز على قاعدة المنفعة المادية، بل يبقى لله حساب في داخل هذه العلاقات، بحيث يفكر الإنسان بالثواب من عنده وبالعمل على الحصول على رضاه، بعيدا عن رضا طرف العلاقة الآخر وعدم رضاه، مما يجعل التضحية مكسبا، والخسارة المادية ربحا، فنحن نعطي، لأن الله هو الذي يدفع لنا الثمن من ثوابه في الدنيا والآخرة، ونحن نتجاوز الربح، لأن الله هو الذي يعوّضنا عنه ثوابا مضاعفا في مستقرّ رحمته، وقد أطلق الإسلام هذه الروح في اتجاهين:

أ. الأول: اتجاه العطاء الذي لا يبحث عن البدل حتى في الحساب‏ المماثل للعطاء من ناحية مادية، بل يبحث عن الانطلاق من العطاء في ذاته كقيمة روحية يريد بها ما عند الله، لا ما عند الناس، وذلك هو ما يتمثل في الصدقة التي تقوم على العطاء دون مقابل قربة إلى الله، وبذلك كانت عبادة كبقية العبادات التي تقرّب الإنسان إلى الله..

ب. الثاني: هو اتجاه القرض الذي يتمثل في دفع المال المقترض على أن يكون مضمونا عليه بمثله، فيجب عليه أن يدفعه للمقرض عند حلول الأجل، وفي هذا المجال، يلتقي العنصر المادي الذي يفكر فيه الإنسان بحفظ ماله في ذمة المقترض ليرجع إليه بعد حين، بالعنصر الروحي الذي يفكر فيه الإنسان بالتضحية بالزيادة التي قد يأخذها الآخرون في مقابل تجميد هذا المال مدة من الزمن، وحرمانه من منافعه التجارية التي يمكنه أن يحرّكها في طريق تحصيل الربح، وذلك هو مورد القربة إلى الله في هذا العمل الذي عبّر عنه في القرآن وفي الحديث بالقرض الحسن.. فإن ذلك هو سبيل الوصول إلى محبة الله ورضاه، لما يشتمل عليه هذا العمل من حلّ لمشكلة هذا الإنسان الواقع تحت ضغط الحاجة إلى المال الذي يسد به خلّته، وقد وردت الأحاديث المتنوعة التي تتحدث عن القرض الحسن في أسلوب تشجيعي، يجعله أفضل من الصدقة في بعض المجالات، فقد ورد أن درهم الصدقة بعشرة، أمّا درهم القرض فبثمانية عشر.. وربما كان ذلك من أجل مواجهة نزعة الربح التي قد تدفع إلى الرّبا وذلك بتحويلها إلى التفكير بالربح في الدار الآخرة، بالإيحاء بأنها ترقى إلى أعلى من مستوى الصدقة، مما يرضي طموح المقرضين الذين قد لا يستريحون للصدقة من ناحية ذاتية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ربما كان درهم القرض متحركا في حلّ أكثر من مشكلة لأكثر من شخص، مما يعطيه معنى الامتداد والنموّ، عندما يعود من يد المقترض ليتحوّل إلى مقترض آخر، مما يوجب تضاعف جانب العطاء في المسألة، بينما يذهب درهم الصدقة ليحل مشكلة واحدة لإنسان واحد، ثم لا يعود.

8. إن الإسلام أراد للإنسان أن يعيش حسّ العطاء في نوعيه، بعيدا عن التفكير المادي، لتعيش العلاقات الإنسانية في نطاق البعد الروحي، كما تعيش حركتها في نطاق البعد المادي، وهذا ما لا يتحقق في المعاملات الربويّة التي تخلق في داخل نفس المقرض شعورا بالجشع والاستغلال والفرح بآلام الآخرين ومشاكلهم والعمل على زيادة الأزمات المادية والمعنوية التي تساعد في شدة حاجتهم إليه.. أما المقترض، فإنه يشعر بالحقد إزاء المرابي من خلال المشاكل التي يخلقها الربا في حياته، ويتنامى هذا الحقد حتى يتحوّل إلى عقدة نفسية ضاغطة، كما يعيش الإحساس بالقهر والحرمان والجدب العاطفي أمام الناس الذين لا يتعاطفون معه، بل يعملون على زيادة آلامه ومشاكله، مما يجعله واقعا تحت ضغط الشعور بالغربة والوحدة الروحية في الحياة.

9. أما الجانب الاقتصادي في الموضوع فيتمثل في عدّة نقاط سلبية:

أ. إن الزيادة التي يأخذها المرابي هي في مقابل لا شيء، لأن المفروض في ربا البيع، التماثل في النوع وفي الكم، فلا يحقق التبادل منفعة لكل منهما زائدة على ما يملكه من منفعة سلعته، لتكون الزيادة في مقابل تلك الخاصة الزائدة على ما يدفعه للآخر، أما ربا القرض، فكذلك، فيما عدا الأجل ـ وسنرى فيما يأتي أن الأجل لا يصلح أن يكون أساسا للزيادة في القرض ـ فإذا كان الأمر على هذا الشكل، فإن الزيادة تكون أكلا للمال بالباطل، لأنه مال يكسبه من دون أن يقدم في مقابله عملا أو خدمة أو إنتاجا.

ب. إن الربا يؤدي إلى زيادة فقر الفئات المستضعفة، وتضخّم ثروات الفئات الغنية التي تملك رؤوس الأموال، لأن الفقير ينطلق في استقراضه من موقع حاجته إلى هذا المبلغ، فإذا انطلق في مجالات العمل، فإن الحاجة ستتضاعف، بينما يواجه العامل عبء الزيادة التي يضطر إلى اقتطاعها من أرباحه ليوفّرها للدائن، وهكذا يأخذ الزيادة من حاجاته الأساسية إذا اضطر إلى أن يضغط على تلك الحاجات أو تضيف إلى دينه دينا جديدا وزيادة جديدة إذا لم يستطع أن يقلّص حاجاته إلى المستوى الأدنى، وهكذا، حتى يسقط في قبضة المرابي حقيرا ضعيفا، مما يسيء إلى طبيعة العلاقات في المجتمع ويحوّلها إلى ما يشبه الثورة، إن لم يكن إلى ثورة تأكل الأخضر واليابس، كما نشاهده في وقتنا المعاصر.

ج. إن الربا عادة، يؤدي إلى تجمع الثروات المادية في أيدي جماعة من الناس، وهم أصحاب الأموال الضخمة الذين يستغلون حاجات المجتمع، فيفرضون لأنفسهم النسب المئوية على رأس المال، مما يؤدي إلى نموّ رأس المال على حساب حاجة المستضعفين الذين يمثلون الفئة المنتجة في المجتمع، وفي هذا الحال، يتحول العامل إلى إنسان يكدح لمصلحة الرأسمالي من دون مقابل، مما يوجب استنزاف الطاقة المنتجة لغير مصلحتها، كما يؤدي بالأغنياء إلى السيطرة على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمحافظة على الظروف الموضوعية لحرية الاستغلال، ولحماية حركة رأس المال في التزايد والتضخم بلا عمل أو جهد، الأمر الذي يؤدي إلى استضعاف الشعوب من قبل الطغاة والمستكبرين، ويهيّئ للاستعمار الذي ينهب ثروات المستضعفين، ويحولهم إلى طاقة استهلاكية لا مجال لها إلّا الاستقراض الدائم على حساب حاجاتها الحيوية وعزتها وكرامتها، وهذا ما نواجهه في كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية للشعوب الضعيفة التي تعيش تحت ضغط الشركات الاحتكارية في العالم، وفي هذا يقول الدكتور شاخت، الخبير الاقتصادي المعروف، فيما ينقله عنه صاحب تفسير الكاشف، في محاضرة ألقاها في دمشق عام 1953 م: (يمكننا بعملية رياضية أن نعلم أن جميع المال في الأرض سوف ينتهي إلى عدد قليل جدا من المرابين، وذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرّض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد أن يصير إلى الذي يربح دائما، وهذه النظرية في طريقها إلى التحقيق الكامل، فإن معظم ملاك المال يملكه بضعة آلاف، أمّا جميع الملّاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال وغيرهم، فليسوا سوى أجراء، يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدّهم أولئك الآلاف..)

10. سؤال وإشكال: الزيادة في القرض حق للمرابي، لأن المال الذي يدفعه للمقترض يتيح له الفرصة للعمل وللربح، تماما كما هو حال صاحب الدار الذي يتيح لمستأجر فرصة الانتفاع بالسكنى، فيأخذ الأجرة في مقابل ذلك، فالقضية في مجملها، هي أن تكون الزيادة في مقابل المنفعة، فكيف يكون ذلك أكلا للمال بالباطل؟ والجواب: أنّ المنفعة في الدار هي أمر حقيقي قائم بالدار، وهي ملك لصاحبها كما هي الدار ملك له، فيستحق العوض عليها من مستثمرها الذي لا يتحمل أيّة مسئولية فيما يحدث للدار إذا لم يكن هناك اعتداء من قبله، فإذا تلف شيء من الدار من دون تعدّ ولا تفريط، فإن المالك هو الذي يتحمله وحده، أما رأس المال في القرض، فإن العامل يتحمل مسئوليته، بالإضافة إلى الزيادة، من دون أن يتحمل صاحب المال شيئا، فهو رابح دائما، بينما يكون العامل معرّضا للربح والخسارة، مما يعني أن القضية ليست انتفاعا بمال الآخرين في مقابل أجرة، بل القضية هي الانتفاع بماله الذي يتملكه بالقرض في مقابل ضمانه له وتحمّله لمسؤوليته، مما يجعل بين الأمرين فرقا كبيرا.

11. سؤال وإشكال: الزيادة المأخوذة في معاملة الربا، ليست زيادة في الحقيقة، بل هي تعويض لصاحب المال عن الخسارة الطارئة بسبب ضعف القوّة الشرائية للعملة على مرور الزمن، وربما تكون الخسارة أكثر من التعويض، كما نشاهده في العملات التي تهبط إلى أكثر من النصف، بينما تكون الزيادة بنسبة خمسة بالمائة أو أكثر أو أقل قليلا، وذلك من خلال الأوضاع الاقتصادية المرتبكة، والجواب: أن القضية إذا كانت على هذا الأساس، فكيف نصنع بالحالة الاقتصادية التي تساهم في رفع سعر العملة، فهل يتوقف الدائن عن طلب الزيادة، أم يظل على موقفه في حالة الزيادة والنقصان؟ إن فكرة التعويض لا تنسجم مع طبيعة قانون الربا الذي لا يراعي الدقّة في هذا الجانب فيما يفرضه من زيادة ثابتة في جميع الأحوال، هذا مع ملاحظة مهمة، وهو أن الواقع الربوي يتحرك في تحديد الزيادة بالمستوى الذي يتناسب مع الواقع الاقتصادي، بحيث يضمن الربح لنفسه في حالة ضعف القيمة للنقد، فيحقق التوازن من خلال الفائدة الممددة، وإذا كان انخفاض القوة الشرائية مشكلة للدائن، فإنها تتحول إلى مشكلة للمدين الذي لا ينتفع بما أخذه من المال إلا في نطاق الوضع الاقتصادي، مما يجعله خاسرا في الحالين، مما يدفعه من الفائدة ومما ينقص من قيمة المال الذي أخذه، ولو كانت المسألة كما يقول السؤال، لا بتعد المرابون عن الأخذ بالربا، لأنه لا يمثل ربحا لهم، بل يمثل خسارة أو بقاء للمال من دون ربح في النتيجة، ولكننا نجد أن النظام الربوي لا يزال يتعاظم على مستوى الأفراد والجماعات والدول، لأن الخلل في حجم قيمة النقد ليس قاعدة ثابتة، بل هي خاضعة لحركة الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية، التي لا تمثل سقوطا كبيرا، بل تمثل حركة تتوازن فيها الزيادة والنقصان، بحيث إذا ارتفعت القيمة اليوم بنسبة معينة انخفضت غدا بنسبة خاصة، مما يجعل التعويض حاصلا من الحركة الاقتصادية نفسها، وإذا كانت بعض الأوضاع الاقتصادية والأمنية تفرض سقوط العملة بدرجة قريبة من الإلغاء، فإن ذلك لا يمثل قاعدة عامة، بل يمثل حالة طارئة لا تملك الشمول في الواقع العالمي.

12. سؤال وإشكال: قد تثار ـ في هذا الجانب ـ قضية حيويّة، وهي أن بعض الناس قد يحتاجون إلى أن يحركوا أموالهم في اتجاه الربح من دون أن يقدّموا عملا عضويا أو فكريا في ذلك، إمّا لعجزهم عن العمل، وإمّا لظروف ذاتية خاصة، فما هي الطريقة إلى تحقيق ذلك، بدلا عن الرّبا!؟ وقد يضيف هؤلاء، إننا نعرف أن الربح لا يتحرك من خلال العمل، بل ينطلق من عنصرين: رأس المال، والعمل، فلولا المال، لما تمكن العامل من‏ التجارة، ولما استطاع صاحب المصنع أن يصل إلى ما يريده من مستوى الإنتاج، فلا بد من أن يكون لرأس المال حصة من أجل تحقيق العدالة والتوازن في هذا المجال، والجواب: بأن الإسلام قد وضع حلا عمليا يرتكز على المزاوجة بين رأس المال وبين العمل، وهو المضاربة، التي تمثل الشركة بين صاحب المال وبين العمل، بحيث تكون النتيجة لهما على حسب الاتفاق بينهما في مقدار الحصّة لأيّ منهما في حالة الربح، كما أن الخسارة في حال حدوثها تلحق رأس المال، تماما كما يخسر العامل عمله، وبذلك يتم التوازن في حركة المال نحو الربح من دون عمل، وحركة العمل نحو الربح من دون رأس مال، فيتحمل كل منهما خسارة الجانب الذي يقدّمه في حالة الخسارة، كما يحصل كل منهما على الربح في حالة الربح، فهذا هو الحل الإسلامي العملي الذي يحرّك رأس المال والقوى المنتجة على حدّ سواء على أساس العدل.

13. سؤال وإشكال: هناك من يقول: إن تحريم الربا يؤدي إلى شلل في الاقتصاد على مستوى الفرد والمجتمع، لأن معنى ذلك هو إلغاء المصارف والعلاقات الاقتصادية القائمة في حياة الناس على أساس الربا، مما يجعل من التحريم أمرا غير واقعي ولا عملي، فلا يكون صالحا للتطبيق، فلا بد من تجميده في هذه الظروف من أجل مصلحة الإنسان التي قد تواجه بعض السلبيات في مقابل الكثير من الإيجابيات، والجواب: بأن كل حكم إسلامي، تحريما أو إيجابا أو إباحة، لا يمكن أن نعرف واقعيته وعلاقته بالحل الشامل لمشكلة الإنسان، إلا من خلال مقارنته بالأحكام الأخرى التي تلتقي معه في إيجاد الحل، لأن الإسلام يمثل، في أيّة مشكلة من مشاكل الواقع، كلّا مترابط الأجزاء، أو هيكلا متناسق الخصائص فيما يطلقه من تشريعات لتحقيق الحل الأفضل الشامل، وهذا هو ما نفهمه في موضوع تحريم الربا، فإننا لا نستطيع معرفة سلبياته وإيجابياته في نطاق النظام الرأسمالي الذي يمثل الربا العمود الفقري له، ولا يمكن أن نفكر في إلغاء الربا، مع إبقاء العلاقات الاقتصادية على ما هي عليه، لأننا لا نتحدث عن التحريم على أساس الأمر الواقع، بل من موقع العمل على تغيير النظام في قواعده وأسسه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الأمر الذي نعرف فيه الإيجابيات العملية لتحريم الربا في الخطّة الإسلامية المتكاملة.

14. سؤال وإشكال: هل معنى ذلك أن التحريم ينتظر ولادة الدولة الإسلامية وتحقيق النظام الإسلامي الشامل، فلا موقع للتحريم في ظل النظام اللاإسلامي، تماما كما هو الحال في التشريعات المنطلقة من مضمون العقيدة الماركسية أو غيرها التي لا يدعو إليها واضعوها إلا في نطاق ولادة النظام الكامل المستند إلى القاعدة الفكرية، فلا مجال لها على المستوى الفردي لأنها لا تحلّ أية مشكلة للإنسان؟ والجواب: أن هناك فرقا بين النظام الإسلامي في تشريعاته العامة والخاصة، وبين الأنظمة المادية الأخرى:

أ. فإن الإسلام قد انطلق من قاعدة بناء شخصية الإنسان الفردية والاجتماعية على أساس الجوانب الأخلاقية والروحية، بالإضافة إلى الجوانب الأخرى المادية، وفي ضوء ذلك، لم يكن الحل الشامل للمشكلة هو كل شيء في حركة التشريع في حياته، بل كانت هناك العناصر الروحية والأخلاقية التي تبني له شخصيته لتعزله عن التيار المنحرف في المجتمع، الأمر الذي يجعل التشريع حيا في النطاق الفردي لتحقيق تلك العناصر، وإن لم يتوفر له الحركة في النطاق الاجتماعي، ولذلك رأينا الأحكام الشرعية باقية في مدى الزمن خارج نطاق حكم الإسلام، من أجل بناء الإنسان المسلم على أساس الإسلام في‏ قيمة الروحية والمادية، ولو كان ذلك بشكل جزئي، الأمر الذي يعيش معه المسلم حياته اليومية فيما يأكل ويشرب، ويلبس ويتعامل، أو فيما ينشأ من علاقات في أجواء إسلامية طاهرة، يتنفس فيها جوّ الإسلام وروحانيته، ويعيش فيها روحية القرب إلى الله من خلال طاعته، ويتحمل في ذلك الصعوبات النفسية والعملية، لأنه يشعر أن هدف حياته هو تحقيق رضا الله فيما يأمر به أو ينهى عنه، سواء حقق له ذلك الحل لمشكلته في إطار جزئي، أو كلّي، أو لم يحقق له ذلك، فإن الحياة كلها تتلخّص عنده في كلمة واحدة هي، أن يحقق الإنسان من خلالها إرادته التابعة لإرادة الله الخالق الواحد، ولهذا كان الربا محرما على المسلمين حتى في نطاق النظام الربوي، وربما أوقع ذلك المسلمين في مشاكل عملية معقدة، وربما وضعت لهذه المشاكل بعض الحلول الفقهية التي يحصل الإنسان فيها على نتائج الربا من دون أن تقترب من أجوائه وأخلاقه فيما يسمى (بالحيل الشرعية) التي شرعت بوحي الحالات الطارئة الضاغطة التي يراد من خلالها الفرار من الحرام إلى الحلال، ولكن المسلم ـ كما ألمحنا إلى ذلك ـ يشعر بالسعادة في هذه المعاناة ما دامت تحقق رضا الله في أموره الخاصة والعامة، وينطلق ـ بعد ذلك ـ من خلال وعيه لعمق المشكلة في حياته التي يعيش فيها الازدواجية بين ما تفرضه الشريعة، وما يطلبه القانون، إلى العمل في سبيل إقامة الحكم الإسلامي الشامل الذي يقود الحياة كلها إلى شريعة الله.

ب. أمّا الأنظمة الأخرى، فإنها لا تدرس الإنسان من حيث هو كائن روحي أو أخلاقي، بل كل ما عندها هو الجانب المادي من حياته، ولذا، فإنها تفكر له من خلال حاجاته المادية، بل ربما يعتبر بعضها الحاجات الروحية وجها من وجوه الحاجات المادية، الأمر الذي يؤدي بها إلى أن تجد في السير على أي تشريع من التشريعات عبثا لا طائل تحته في المجال الفردي إذا لم يحقق الحل للحالة العامة.

15. إن الإسلام يريد للإنسان أن يعيش في مناخ روحي وعملي في كل جوانب حياته، ليصوغ نفسه على صورة عقيدته، فلا ينفصل عن الصورة في أي وجه من وجوه الحياة، مما يعطي للطاعة في الأمور الجزئية بعدا روحيا وعمليا في الأمور الكليّة على المدى الطويل، وفي هذا الإطار، نستطيع أن نقرر الحقيقة التالية، وهي أن الإسلام لم ينفصل عن خط التطبيق العملي في الحياة في حركة الإنسان اليومية، منذ انطلق، إلى يومنا هذا، وإن اختلف الحال بين المجالات الخاصة والعامة.

16. هذا هو بعض الحديث عن الجانب التحليلي لتحريم الربا في القرآن، ويبقى لنا الجانب التفسيري التفصيلي لآياته الكريمة.

17. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، كيف نفهم هذا التشبيه:

أ. هل هو حديث عن حالة المرابي في يوم القيامة، حيث يقوم من قبره كما يقوم المصروع، كعلامة على أنه من أكلة الربا ـ كما يروى عن ابن عباس ـ؟

ب. أو هو حديث عن جانب التخبط العملي الذي يوجب اختلاط خطواته العملية بطريقة غير متوازنة كما يتخبط المصروع في خطواته عندما يسير أو يتصرّف؟

ج. أو هو تشبيه بحالة المصروع في السير على غير هدى لاختلاط الأمور في ذهنه مما يؤدي به إلى أن يرى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، ويتحول ذلك إلى التخبط في مجاله العملي؟ لعل هذا هو الأقرب ـ والله العالم ـ لمناسبته للفقرة التالية ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ فقد جرت هذه الفقرة مجرى التعليل لحالتهم في التشبيه، إذ اختلط الأمر عليهم، فاستنكروا الموقف السلبي ضد الربا في الوقت الذي يكون الموقف فيه إيجابيا تجاه البيع، وخيّل إليهم أن البيع مثل الربا، لاشتمال كل منهما على الربح والزيادة، ولكن هذا الموقف خاطئ، فإن البيع يؤدي إلى تسهيل عملية التبادل في المجتمع فيما تختلف فيه خصائص الأشياء، فيدفع الإنسان إلى غيره ما يستغني عنه في مقابل الحصول على ما يحتاج إليه، لتعود المنفعة إليهما معا فيما يفترق به كل من العوضين من خصوصيات متنوعة، وبذلك تتقدم الحياة وتنمو وتزدهر، أما الربا، فإنه لا يضيف إلى المشتري الذي يأخذ مثل ما يدفع بزيادة أية ميزة تفرض ذلك، مما يجعل الزيادة أكلا للمال بالباطل من جهة، وانحرافا عن مصلحة الإنسان الفرد والمجتمع من جهة أخرى، فيما قدمناه من حديث.

18. قد يرى بعض المفسرين، أن التخبط قد يظهر في اعتبار الأصل فرعا، لا كما هو كلام المرابين في عكس الموضوع، وذلك بقياس البيع على الربا، لأن من المعقول أن يقول الإنسان إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به، وليس من المعقول أن يقول: إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه، لأن معنى القول الأول، أنه يسلّم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه، لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزيّة مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس‏، لكن هذا المعنى غير ظاهر من اللفظ في تحديد حالة الخبط، بل‏ الظاهر من سياق الكلام هو إنكارهم التفريق بينهما في التشريع، في حلّية هذا وحرمة ذاك، فكأنهم يريدون أن يقولوا: إن الشيء الذي تمارسونه وتستحلونه لا يختلف عن الشيء الذي نمارسه مما تستنكرونه علينا وتحرمونه على أنفسكم، فلا بد لكم من أن تحرموهما معا أو تحللوهما معا، وما دامت المسألة حاسمة لديكم في تحليل البيع، فلا بد من أن تكون كذلك بتحليل الربا، لأن وحدة العلة تقتضي وحدة المعلول، وربما يؤكد ذلك قوله تعالى في الفقرة التالية من الآية: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فإنه يوحي بالإنكار عليهم فيما قرروه من رفض الفكرة في الفرق بينهما، من دون تحديد لخصائص التعبير وذلك من خلال دعوتهم إلى التفكير في المسألة بشكل أعمق من خلال معرفتهم بأن الله أحل البيع وحرم الربا، مما يعني بأن هناك مفسدة كبيرة في الربا ليست موجودة في البيع، وأن هناك مصلحة في البيع لا يتضمنها الربا، لأن الله لا يشرّع حكما إلا من خلال ما يحقق صلاح الإنسان أو يبعده عن الفساد.

19. في ضوء ذلك يمكن فهم كلام علماء البلاغة، من أن هذا من التشبيه المقلوب، فإنهم يريدون القول: إنما الربا مثل البيع، ليصلوا إلى غرضهم وهو التحليل، فعكسوا الكلام للمبالغة وقالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ الذي يوحي بأنهم يريدون تحريم البيع، من خلال الظاهر، فأصبح المشبّه به قائما بالمشبه وتابعا له، فإن هذا النحو من القلب في الكلام لا يبتعد عن تحقيق غرضهم بالطريقة التي أشرنا فيها إلى معنى الكلام المذكور.

20. عرض المفسرون لجانب آخر في تفسير هذه الفقرة من الآية، فإننا نستفيد منها أن هناك حالة من الصرع أو الجنون تعرض للإنسان من خلال مسّ الشيطان له، كما تعتقد العامة في أمثال هذه الحالات أنها من عمل الجنّ، فهل يريد القرآن أن يؤكد هذه الفكرة ويعتبرها كحقيقة دينية حاسمة في تقريره لبعض حقائق الظواهر الإنسانية في الحياة، أو أن التشبيه وارد في سياق التعبير المعروف لدى الناس فيما يعتقدونه من أسباب الصرع، فكأنّ القرآن قصد الفكرة التي أريدت من الكلمات، لا المدلول الحرفي نفسه لها، تماما كما هو المعنى الذي يراد الكناية عنه بلازمه في أساليب الكناية في اللغة العربية، أو أنّ هناك وجها ثالثا للقضية غير هذين الوجهين؟

21. ربما يجد بعض المفسرين المعنى الثاني أقرب إلى عدل الله، فإنه ـ سبحانه ـ أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن، ولكن صاحب الميزان يردّ هذا الرأي، بأن الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول، بأيّ نحو كان من الاستناد، إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وبأن تسليط الشيطان على عقل الإنسان إذا كان منافيا للعدل، فإن تسليط الأسباب الطبيعية عليه فيما كان منها مذهبا للعقل كذلك، لأنهما سيان في استنادهما إلى الله بالنهاية، مع خروجهما عن إرادة الإنسان واختياره.. وبأن مبدأ إذهاب العقل لا يتنافى مع العدل، فإنه رافع للتكليف من الأساس، فلا مشكلة أمام الإنسان من هذه الجهة، ثم يضيف صاحب الميزان إلى ذلك قوله: (على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة، بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السّلام إذ قال أنى مسنى الشيطان بنصب‏ وعذاب، وإذ قال ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، والضرّ هو المرض، وله أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان، ثم يختم ملاحظته بأن أسلوب القرآن في إسناد الأعمال أو الظواهر إلى الله أو إلى الروح أو الملك أو الشيطان لا يعني الإسناد المباشر الذي يلغي الأسباب الطبيعية، بل ما يتناسب مع ذلك مما يجعل الفاعل في طول السبب لا في عرضه‏.)

22. نوافق صاحب الميزان على ملاحظته بأن القضية لا علاقة لها بموضوع عدالة الله، غير أن ذلك لا يعني تأكيدنا للفكرة التي يعتقدها العامة من خلال الآية، فإن القضية متعلقة بالفهم الصحيح لمعنى الآية فيما تذكره من كلمة (الشيطان)، فما هو المراد منها:

أ. هل هو المعنى الحقيقي الذي تحدث عنه القرآن في أكثر من مرة الذي يعبّر عن الكائن الخفيّ الذي أبقاه الله في الدنيا ومنحه الخلود فيها من أجل أن يثير في الإنسان خواطر الشرّ ودوافع العصيان، وهو الذي يعطيه القرآن اسم إبليس في أكثر من مورد؟

ب. أو هو المعنى المجازي الذي يراد منه العوامل الخفيّة المتنوعة التي تسبب الجنون وغيره من الأمراض، وتكون العلاقة بين المعنيين عبارة عن أن كلّا منهما يمثل عنصرا خفيّا يؤثر في الفكر والشعور تارة، وفي البدن والعقل تارة أخرى؟ وإذا كان المراد هو المعنى المجازي، فما هي القرينة أو الدليل على صرف اللفظ عن معناه الحقيقي؟

23. إننا نستقرب ورود اللفظ على أساس المجاز لا على أساس الحقيقة، وذلك من خلال دراستنا لشخصية الشيطان في القرآن وعلاقته بالإنسان فيما أعطاه الله من دور فاعل في حياته، فإننا نلاحظ محاولة القرآن للتأكيد على أن دور الشيطان الأول والأخير هو إثارة وساوس الشر من خلال تزيينه في‏ أعين الناس ومحاولة الإضلال بالأساليب التي تساهم في تحقيق الضلال، بإرادة الإنسان واختياره، أمّا السيطرة عليه بالمستوى الذي لا يستطيع معه الوقوف أمامه، ولا يملك إلا الرضوخ لسلطانه، فهذا ما نفاه القرآن في أكثر من آية ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ [الحجر: 42]، فإننا نجد في الآية نفيا مطلقا لسلطان الشيطان على الإنسان إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تلغي عنصر الاختيار الذي تتحرك في داخله المسؤولية.. فإذا لم يكن للشيطان سلطان تكويني على نقل الإنسان من قناعة إلى قناعة مضادّة في موضوع الكفر والإيمان والخير والشرّ، فكيف يكون له سلطان على إلغاء عقل الإنسان بالكلية من خلال وسائل غير منظورة لا يملك الإنسان أمامها القدرة على المقاومة، إن القضية ليست قضية عدالة الموضوع وعدم عدالته، بل هي قضية دور الشيطان في حياة الإنسان من خلال حكمة وجوده في الأرض، مما يوحي لنا بأنه لا يملك أيّ دور آخر تجاه الإنسان.

24. هناك نقطة أخرى لا بد لنا من إثارتها في هذا المجال، وهي أن ذلك قد يتنافى مع الجوّ الذي أراد الله أن يثيره في صراع الإنسان مع الشيطان، وهو الإيحاء بكرامة الإنسان من خلال أمره للشيطان بالسجود لآدم، وجعله خليفة الله في الأرض، مما يوجب أن لا يجعله تحت رحمته في أقدس شيء وهبه الله له وميزه به على مخلوقاته الأخرى وهو العقل، لأن ذلك يجعله ألعوبة في يده يعبث به كيف يشاء من خلال الوسائل الخفية التي يملكها ضد الإنسان.. أمّا تسليطه على إضلاله بالوسوسة وأمثالها، فإنها تؤكد جانب الكرامة فيه ولا تنفيها، وذلك من خلال ثقة الله بالإنسان، بما زوّده به من العقل وأرسله إليه من رسل، وفي ما أنزله عليه من كتب ورسالات، بأنه يستطيع الانتصار على الشيطان باستعمال هذه الوسائل، ليبلغ بذلك الدرجات التي تعلو درجات الملائكة فيما وردت به الأحاديث الشريفة.. إن الله‏ سبحانه قد وضع الإنسان في ساحة المعركة التي يملك إرادة الانتصار فيها، وفي ذلك تأكيد لقدرة الإنسان على الانتصار في معركته مع الشيطان.

25. من خلال هذا العرض، نستطيع الخروج بنتيجة حاسمة، وهي أن كلمة الشيطان هنا لا يراد بها إبليس، كما لم يرد منها ذلك فيما حكاه الله عن أيوب، فإن الظاهر إرادة الضرّ والمرض منه، لا على أساس أن الشيطان هو السبب الأعمق في سلسلة الأسباب الطبيعية، بل على أساس استعمال اللفظ في المرض نفسه ونحوه، أما الدليل على هذا الاستعمال، فهو ما قررناه من عدم وجود دور للشيطان في هذا المجال، والله العالم.

26. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، هل الواو هنا للاستئناف لبيان هذا الحكم الذي شرعه الله من قبل، أو هي للحال؟ يذهب البعض إلى الأول، لأن الفعل الماضي الواقع في نطاق الجملة الحالية ينبغي أن يكون مصدّرا بقد، ولأن الجملة الحالية واقعة في زمان الفعل، فيلزم أن يكون قولهم وتخبطهم في هذا الزمان، مع أنه ثابت قبله وبعده، ولكن سياق الجملة لا يناسب الاستئناف، لأنها واردة ـ على الظاهر ـ في مقام الرد على ما ذهبوا إليه من المساواة بينهما، أمّا قضية وحدة الزمان بين الفعل والحال، فلا مانع منها، وذلك على أساس بيان أن قولهم ثابت في زمان ثبوت الحكمين، كتأكيد للإنكار عليهم، فيكون المعنى أنهم قالوا هذا القول في حال ثبوت هذا التشريع، بمعنى أنهم لم يتأملوا فيه ليدركوا طبيعة الفارق بين الأمرين، ولم ينسجموا معه على أساس الانسجام فيه مع خط الإيمان، لأن الحديث ـ في الأغلبـ مع المؤمنين الذين ينحرفون عن الإيمان، فيأكلون الربا كما يظهر من الآيات اللاحقة، أما التصدير بقد، فإنه غير لازم على الظاهر، لا سيما إذا لاحظنا أن القرآن الكريم هو المرجع الأساسي في اللغة الصحيحة لا كتب اللغة؛ والله العالم.

27. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام في تفسير هذه الآية ـ كما في مجمع البيان ـ من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع الله عنه ما سلف‏.

28. ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى أكل الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من أن البيع مثل الربا، ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحلّ للربا.

29. الظاهر أن المقصود من كلمة ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أنّها واردة مورد العفو عن الذنب من خلال سياق الآية التي تعني التوبة التي تستتبع قبولها، ولكن الله قد يغمض الحديث عن العفو ويبهمه ليظل العبد مشدودا إلى الله في طلبه المغفرة منه، فتكون الآية على هذا الأساس متعرضة للعفو عن المال وعدم مطالبته بإرجاعه إلى أصحابه، وللعفو عن الذنب بإرجاع أمره إلى الله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوّابين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/125.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع، وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف‏ الآيات السابقة، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.

2. هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه، فإذا لا حظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك، فبحسب ترتيب نزول القرآن، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا، لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾، أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا، ولكنّه لا يزداد عند الله،

3. ثمّ بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرّم الربا تحريما صريحا ـ قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه.

4. على كلّ حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملا مهمّا من عوامل الحياة الطبقية، وسببا من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من‏ أهمّ الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام.

5. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، الآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته، ولعلّ المقصود هو وصف طريقة (سير المرابين الاجتماعي) في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي السليم، بل إنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الاستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضا بعمله الجنوني هذا، لكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين، أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياما غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

6. الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين، ففي حديث عن‏ الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: (آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان)، وفي رواية أخرى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال (لمّا أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل! قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس)، الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالا عليهم.

7. سؤال وإشكال: هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان، مع أنّنا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب؟ والجواب: يرى بعضهم أنّ تعبير (مسّ الشيطان) كناية عن الأمراض النفسية والجنون، وهو تعبير كان شائعا عند العرب، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيرا فعليا في روح الإنسان، ولكن مع ذلك لا يستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون تروّ أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي، ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد الإنسان قدرته على تمييز من السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج.

8. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما، يقول القرآن جوابا على ذلك: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ولم يزد في ذلك شرحا وتفصيلا، ربما لوضوح الاختلاف:

أ. فأوّلا: في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوما فيوما، ويكبر رأس مالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

ب. وثانيا: في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في (الإنتاج والاستهلاك)، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال.

ج. وثالثا: بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الاقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

د. ورابعا: الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

9. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل (أي أنّ القانون ليس رجعيا) لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادة من تاريخ سنّها، وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

10. ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو، ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة، ووردت احتمالات أخرى في معنى هذه الجملة، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر.

11. ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذابا أليما في النار دائما، إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله، لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار، كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم.

12. من أضرار الربا:

أ. الربا يخلّ بالتوازن الاقتصادي في المجتمع، ويؤدي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة، لأنّ هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط، والربا يشكّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

ب. الربا لون من ألوان التبادل الاقتصادي غير السليم، يضعف العلائق العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب، ذلك لأنّ الربا يقوم في الواقع على أساس أنّ المرابي لا ينظر إلّا إلى أرباحه، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدّين، هنا يبدأ المدين بالاعتقاد بأنّ المرابي يتّخذ من أمواله وسيلة لتدمير حياة الآخرين.

ج. صحيح أنّ دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك، ولكنّه لن ينسى هذا الظلم أبدا، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه وتكاد تخنقه، وفي هذه الحالة تبدأ كلّ جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطّش لشرب دمه، إنّه يرى بأمّ عينيه كيف أنّ حاصل شقاءة وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي، في مثل هذه الحالة الهائجة ترتكب عشرات الجرائم المرعبة، فقد يقدم المدين على الانتحار، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة، وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجارا عامّا في ثورة عارمة.

د. إنّ انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضا، إنّ الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنّها تتحيّن الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق، وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأنّ للربا أثرا أخلاقيا سيئا جدّا في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.

هـ. في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى، جاء في كتاب (وسائل الشيعة) عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق عليه السّلام قال (إنّما حرّم الله عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/337.

137. الربا والمحق وتنزه المؤمنين

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈137⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 276 ـ 277]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ ينقص الربا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾، يعني: لا يقبل منه صدقة، ولا جهادا، ولا حجا، ولا صلة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾، يعني: يضمحل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ ينقص الربا، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يزيد فيها(4).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٥.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/٢٨٣.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٧.

(4) ابن المنذر: ١/٥٥.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يعني: يضاعف الصدقات ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٧.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ الربا يربو في الدنيا ويكثر، ويمحقه الله في الآخرة، ولا يبقى لأهله شيء منه(1).

2. روي أنّه قال: وأما قوله: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ فإن الله يأخذها من المتصدق قبل أن تصل إلى المتصدق عليه، فما يزال الله يربيها حتى يلقى صاحبها ربه فيعطيها إياه، وتكون الصدقة التمرة أو نحوها، فما يزال الله يربيها حتى تكون مثل الجبل العظيم(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٥٦.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ ذلك يوم القيامة، يمحق الله الربا يومئذ وأهله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٧.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ معناه يذهب(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 106.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إني سمعت الله يقول: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276]، وقد أرى من يأكل الربا يربو ماله، فقال: أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدين، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر(1).

2. روي أنّه قال: (إن الله يقول: ليس من شيء إلا وكلت به من يقبضه غيري، إلا الصدقة فإني أتلقفها بيدي تلقفا، حتى إن الرجل والمرأة يتصدق بالتمرة وبشق تمرة، فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله، فيلقاني يوم القيامة وهي مثل احد، وأعظم من احد)(2).

__________

(1) التهذيب: 7/15/65.

(2) تفسير العيّاشي: 1/152.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ ما كان من ربا وإن ثرى حتى تغبط به صاحبه؛ يمحقه الله تعالى(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ فيضمحل وينقص(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يعني: ويضاعف الصدقات، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ بربه تعالى(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المكتوبة في مواقيتها، ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ يعني: وأعطوا الزكاة من أموالهم، ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾:

أ. قيل‏: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ﴾ يهلك.

ب. وقيل: ﴿يَمْحَقُ﴾ يبطل.

2. أصل (المحق) هو رفع البركة؛ وذلك أن الناس يقصدون بجمع الأموال والشح عليها، لينتفع أولادهم من بعدهم إشفاقا عليهم، وكذلك يمتنعون من التصدق على الناس، فأخبر الله تعالى: أن الأموال التي جمعت من جهة الربا ألا ينتفع أولادهم بها، وهو الأمر الظاهر في الناس، وأخبر أن الصدقات التي لا يمتنعون من الإنفاق عنها يربى ويخلف أولادهم إذا تصدقوا، ويمحق الربا ويرفع البركة عنها؛ حتى لا ينتفع أولادهم بها، وهو ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فيه، وإن كذبا وكتما محققت عنهما البركة)

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/272.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، أي ويكثر الصدقات في الميزان، ويثيب عليها بأضعافها من الفضل والإحسان، ومعنى قوله: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾: فهو يدل على أنه بعد كثرته سيمتحق في الدنيا، ويوشك أن يؤخذ ممن اكتسبه حتى لا يبقى منه شيء، وقد شاهدنا صدق وعد الله في قوم تزين لهم الربا ثم امتحق، وذهب كله وبقي لهم عذابه ووزره، فنعوذ بالله من معاصي الله، ونهرب إليه، ونؤمن به ونطيعه ونتوكل عليه، ونبرأ إلى الله من كل من عصاه، ونتقرب إليه بمحبة من والاه، وبعداوة من عانده وأعرض عنه وعاداه(2).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 292.

(2) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 293.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ يعني ينقصه شيئاً بعد شيء مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي وينمي الأموال بإخراج الصدقات.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/129.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ أي ينقصه شيئا بعد شيء، مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه، وفيه وجهان:

أ. أحدهما: يبطله يوم القيامة إذا تصدق به في الدنيا.

ب. الثاني: يرفع البركة منه في الدنيا مع تعذيبه عليه في الآخرة.

1. في قوله تعالى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة.

ب. الثاني: يضاعف أجر الصدقة ويزيدها، وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل.

2. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ في الكفّار وجهان:

أ. أحدهما: الذي يستر نعم الله ويجحدها.

ب. الثاني: هو الذي يكثر فعل ما يكفر به.

3. في الأثيم وجهان:

أ. أحدهما: أنه من بيّت الإثم.

ب. الثاني: الذي يكثر فعل ما يأثم به.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/351.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المحق: نقصان الشيء حالا بعد حال، محقه الله يمحقه محقاً، فانمحق وامتحق أي هلك وتلف بذهابه حالا بعد حال، والمحاق آخر الشهر لا محاق الهلال فيه، والشيء محيق بمعنى ممحوق وأصل الباب المحق فان قيل بأي شيء ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ قلنا: يمحقه بأن ينقصه حالا بعد حال، وقال البلخي محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته بالفسق.

2. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ معناه يزيدها بما يثمر المال في نفسه وبالأجر عليه وذلك بحسب الانتفاع بها وحسن النية فيها ووجه زيادته على المستحق بالعمل تفصل بالوعد به‏، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن الله يقبل الصدقة، ولا يقبل منها إلا الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وذلك قوله: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾

3. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ إنما لم يقل كل كافر مع دخول الكفار في الكافر:

أ. لأن كل كفار كافر وليس كل كافر كفار للدلالة على أن مستحل الربا في قوله‏: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ مع أنه كافر كفار.

ب. ويجوز للدلالة على صفات الذم إذ قد يتوهم أن الكفار من استكثر من كفر نعمة إنسان لا يبلغ به استحقاق العقاب.

ج. ويجوز أن يكون من باب الاختصاص لعظم المنزلة في الأمر الذي تعلق به الذكر.

4. ﴿أَثِيمٍ﴾ هو المتمادي في الإثم، والآثم: الفاعل للإثم وإنما قال لا يحبه ولم يقل يبغضه لأنه إذا لم يحب المكلف فهو يبغضه فقولك لا يحبه الله من صفات الذم كما أن قولك لم ينصف في المعاملة من صفات الذم.

5. سؤال وإشكال: حول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وهو: إذا كان الثواب يستحق بخلوص الايمان فلم يشرط غيره من الخصال؟ والجواب: لم يذكر ذلك ليكون شرطاً في استحقاق الثواب على الايمان وإنما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق به الثواب ونظير ذلك ما ذكره في آية الوعيد في قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ فإنما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق بها العقاب لأن من المعلوم أن من دعا مع الله إلهاً آخر لا يحتاج إلى شرط عمل آخر استحق العقاب وإن كان الوعيد إنما يتوجه عليه بمجموع تلك الخصال لكان فيه تسهيل لكل واحد منها وليس التقييد في آيتي الوعيد يجري مجرى قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ من قبل أن هذا معلق بحكم يجب بوجوبه ويرتفع بارتفاعه بإجماع وليس كذلك ذكر هذه الخصال.

6. هذه الآية تدل على أن أفعال الجوارح ليست من الايمان وإن الايمان هو التصديق بما وجب لأنها لو كانت من الايمان، لكان قوله‏: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قد اشتمل عليها فلا معنى لذكرها بواو العطف إذ لا يعطف الشيء على نفسه، فان قيل ذلك يجري مجرى قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قلنا والخلاف في هاتين كالخلاف في تلك لأنا لا نقول إن التكذيب بالآيات هو الكفر نفسه وإنما نقول هو دلالة على الكفر وكذلك الصد عن سبيل الله كما نقول: إن قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فلان كافر يدل على كفره، وإن لم يكن ذلك كفراً.

7. قال قوم من المرجئة: إن الوعد بهذه الخصال يدل على بطلان التحابط، لأنه تعالى ضمن الثواب بنفس فعل هذه الخصال، ولم يشرط ألا يأتي بما يحبطها.

8. سؤال وإشكال: لا بد أن يكون ذلك مشروطاً كما أن الوعيد على الكفر لا بد أن يكون مشروطاً بارتفاع التوبة منه، لأن كل واحد من الأمرين إنما يستحق بخلوه مما ينافيه وإذا اتبع بكبيرة لم يخلص كما لم يخلص ما اتبع بتوبة، والجواب: إنما شرطنا الوعيد على الكفر بعدم التوبة لمكان الإجماع، لا لأن التوبة تسقط العقاب على الكفر، وإنما وعد الله تعالى تفضلا بإسقاط العقاب على المعاصي بالتوبة منها، وليس مثل ذلك موجوداً في آية الوعد لأنه ليس على شرط انتفاء الكبيرة إجماع، والعمل هو التغيير للشيء بالاحداث له أو فيه فإذا قيل: عمل فلان الصالحات كان معناه أحدثها وإذا قيل: عمل الموازين والخوض والسروج والصفر وغير ذلك، كان المراد أنه أحدث فيها ما تتغير به صورتها.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/363.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المَحْقُ: النقصان حالاً بعد حال، ومنه: المحاق آخر الشهر لإمحاق الهلال فيه.

ب. والآثم والأثيم نظيران، وبينهما فرق، فالأثيم: المتمادي في الإثم، والآثم: فاعل الإثم.

ج. الكفّار الكافر إلا أن فيه مبالغة، وأصله من الستر، ومنه يقال لِلأْكَرَةِ كفار، والكفران: جحود النعمة.

د. الإيمان: التصديق في اللغة، وفي الشرع: فعل الواجبات والانتهاء عن القبائح.

2. لما حرم الله تعالى الربا، وعاب من زعم أن فيه نمو المال كالبيع كذبهم في قولهم فقال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾:

أ. قيل: ينقصه حالا بعد حال حتى يتلف من غير عوض، وينمي الصدقات بتثمير المال والبركة فيها، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (الربا وإن كثر فإلى قل)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلم: إن اللَّه تعالى يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فصيله حتى إنه يوم القيامة يصير مثل أحد، فذلك قوله: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾

ب. وقيل: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ في أن لا يقبل منه صدقة ولا حجًّا ولا جهادًا ولا صلة، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ بأن يبارك فيها ويجازي عليها.

ج. وقيل: يمحق الربا في الآخرة فلا ينتفع به أهله ويربي الصدقات بأن يعطي ثوابها ويضاعف لهم.

3. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ﴾ أي لا يريد إعظامه وإكرامه وإثابته ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ جاحد بِاللَّهِ وبنعمه وبرسوله وما أنزله عليه من تحريم الربا ﴿أَثِيمٍ﴾ فاعل الإثم عاص.

4. ثم ذكر الله تعالى وعد المؤمنين عقيب الوعيد لأولئك فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أ. قيل: صدقوا وأقروا بما جاءهم من الحلال والحرام.

ب. وقيل: فعلوا جميع خصال الإيمان.

5. ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي الطاعات التي أمروا بها، وإنما عطف العمل على الإيمان وإن كان من الإيمان لوجهين:

أ. أحدهما: أن المراد آمنوا صدقوا.

ب. الثاني: ليعلم أن للعمل تأثيرًا في إيجاب الثواب، كما أن للإيمان والتصديق، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ ولهذا عطف ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ على الأعمال الصالحة وإن كان ذلك منها تأكيدًا للأمر بها.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾:

أ. قيل: جزاء أعمالهم على ربهم يوفرها عليهم.

ب. وقيل: يعني معدة لهم عنده.

7. ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من عذاب الآخرة يومئذ، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فوت نعمة أو إحباط حسنة، ولا غير ذلك من أسباب الحزن.

8. تدل الآيات الكريمة على:

أ. ما لهم في الصدقة من النفع العاجل، وهو الخلف والبركة والثواب الجزيل في الآخرة.

ب. ما لهم في الربا من المحق في الدنيا بالإقلال، وفي الآخرة بالعذاب الدائم.

ج. أن الأجر لا ينال بمجرد التصديق حتى ينضم إليه العمل، ومتى لم ينضم فلا أجر له، وذلك يبطل مذهب المرجئة، ويصحح قولنا في الوعيد.

د. عظم موقع الصلاة والزكاة في العبادات من حيث خصهما بالذكر تفخيمًا لشأنهما كقوله تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾

هـ. أن الثواب لا تنغيص فيه، وأن المؤمن لا يلحقه هَمٌّ؛ لذلك قال: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

و. دوام الثواب؛ إذ لو جاز الانقطاع لكانوا في أعظم حزن وأشد خوف.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/132.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المحق: نقصان الشئ حالا بعد حال، يقال: محقه الله يمحقه محقا فانمحق وامتحق: أي هلك وتلف بذهابه حالا بعد حال، والمحاق: آخر الشهر لانمحاق الهلال فيه.

ب. الأثيم: المتمادي في الإثم، والآثم: الفاعل للإثم.

2. ثم أكد سبحانه ما تقدم بقول ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: أي: ينقص الله ﴿الرِّبَا﴾ حالا بعد حال إلى أن يتلف المال كله.

ب. وقال ابن عباس: معناه يهلكه ويذهب ببركته.

ج. وقيل للصادق عليه السلام: وقد يرى الرجل يربي فيكثر ماله؟ فقال: يمحق الله دينه وإن كثر ماله.

د. وقال أبو القاسم البلخي: يمحقه الله في الدنيا بسقوط عدالته، والحكم بفسقه، والتسمية بالفسق.

3. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي: وينمي الصدقات ويزيدها بأن يثمر المال في نفسه في العاجل، وبالأجر عليه والثواب في الآجل، وذلك بحسب الانتفاع بها، وحسن النية فيها، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد)، والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب بالربى زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين الله سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان.

4. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ الكفار: فعال من الكفر، وهو المقيم عليه، المستمسك به، المعتاد له، ومعناه: والله يبغض كل كفار لنعمته باستحلال الربا، منهمك في غوايته، متماد في إثمه بأكله، وإنما لم يقل كل كافر، لأنه إذا استحل الربا صار كافرا، لأنه إذا كثر أكله للربا مع الاستحلال، فقد ضم كفرا إلى كفر، وإذا استحل الربا، ولم يعقد عقد الربا، لم يلحقه من المندمة ما يلحق من جمع بين الأمرين، فالجمع بين الأمرين يستدعي من غضب الله ما لا يستدعيه أحد الأمرين، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يأتي على الناس زمان، لا يبقى أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره.

5. ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون﴾ هذه الآية ظاهرة المعنى، وقد مر تفسيرها فيما مضى، وإنما جمع بين هذه الخصال، لأن الثواب لا يستحق على كل واحدة منها، إذ لو كان كذلك لكان فيه تصغير من كل واحدة منها، ولكن جمع بينها للترغيب في الأعمال الصالحة، والتفخيم لأمرها، والتعظيم لشأنها، أو لبيان أن الجمع بين هذه الخصال أعظم أجرا من الإفراد بواحدة منها، ونظيره قوله سبحانه ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ الآية، فجمع بين هذه الخصال في الوعيد، ليبين أن الوعيد يستحق بكل واحدة منها، وللتحذير عن كل خصلة منها، لأن من المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر، لا يحتاج إلى شرط عمل آخر في استحقاق الوعيد، إذ لو كان الوعيد إنما يستحق بمجموع تلك الخصال، لكان فيه تسهيل لكل واحد منها.

6. أمثال هذه الآية تدل على أن الإيمان ليس من أفعال الجوارح، ولا مشتملا عليها، إذ لو كان كذلك لما صار لعطفها عليه معنى، لأن الشئ لا يعطف على نفسه.

7. سؤال وإشكال: إن ذلك يجري مجرى قوله ﴿الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله والذين كفروا وكذبوا بآياتنا﴾ والجواب: إن الخلاف ها هنا كالخلاف هناك، لأن التكذيب عندنا (2) ليس بالكفر نفسه، وإنما هو دلالة على الكفر، وكذلك الصد عن سبيل الله.

8. استدل بهذه الآية وأمثالها في بطلان التحابط، لأنه تعالى ضمن الثواب بنفس هذه الخصال، ولم يشترط أن لا يؤتى بما يحبطها.

9. سؤال وإشكال: لا بد من هذا الشرط، كما أن الوعيد على الكفر لا بد أن يكون مشروطا بارتفاع التوبة؟ والجواب: إن التوبة إنما صارت شرطا هناك، لمكان إجماع المسلمين، لا لأن التوبة مسقطة للعقاب، وإنما وعد الله تعالى بإسقاط العقاب عندها، تفضلا منه سبحانه، ولا إجماع على ما ادعوه من الشرط في آيات الوعد، فبان الفرق بين الأمرين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/672.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق الشهر، لنقصان الهلال فيه، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.

ب. الثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحّاك عن ابن عباس.

2. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾، قال ابن جبير: يضاعفها، والكفّار: الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصرّ عليه.

__________

(1) زاد المسير: 1/248.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بالغ الله تعالى في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا ما يجرى مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير، فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة، إلا أنها زيادة في المعنى، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم.

2. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه الله فانمحق وامتحق، ويقال: هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته، ومحق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة، أما في الدنيا فنقول: محق الربا في الدنيا من وجوه:

أ. أحدها: أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أنه تؤل عاقبته إلى الفقر، وتزول البركة عن ماله، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (الربا وإن كثر فإلى قل)

ب. ثانيها: إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم، والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة.

ج. ثالثها: أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه، وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله.

د. رابعها: أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إليه الأطماع، وقصده كل ظالم ومارق وطماع، ويقولون: إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده.

3. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ كون الربا سببا للمحق في الآخرة لوجوه:

أ. الأول: قال ابن عباس: معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً، ولا حجاً، ولا صلة رحم.

ب. ثانيها: إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى التبعة والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.

ج. ثالثها: أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون، فذلك هو المحق والنقصان.

4. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يحتمل أن يكون المراد في الدنيا، وأن يكون المراد في الآخرة، أما في الدنيا فمن وجوه:

أ. أحدها: أن من كان الله له، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى‏ عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم (اللهم يسر لكل منفق خلفاً ولممسك تلفاً)

ب. ثانيها: أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال.

ج. ثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة.

د. رابعها: الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء، فكل أحد يحترز عن منازعته، وكل ظالم، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله، اللهم إلا نادراً، فهذا هو المراد بأرباء الصدقات في الدنيا.

5. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أما إرباؤها في الآخرة:

أ. فقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد)، وتصديق ذلك بين في كتاب الله‏ ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: 104]

ب. قال القفال: نظير قوله‏: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً، ونظير قوله‏: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ الكفار فعال من الكفر، ومعناه من كان ذلك منه عادة، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا، فتقول: فلان فعال للخير أمار به، والأثيم فعيل بمعنى فاعل، وهو الآثم، وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم، فتكون الآية جامعة للفريقين.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً فلما بالغ هاهنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد، وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع.

8. احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، ومن الناس من أجاب عنه أليس أنّه قال في هذه الآية: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ مع أنه لا نزاع أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت‏ ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فكذا فيما ذكرتم، وأيضاً قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [محمد: 34]، وقال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [البقرة: 239]، وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.

9. ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أقوى من قوله: على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد، فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه، وقوله: أجرهم على ربهم، يجرى مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة، ولا شك أن الأول أفضل.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾:

أ. قال ابن عباس: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا، فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة، وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة.

ب. وقال الأصم: لا خوف عليهم من عذاب يومئذ، ولا هم يحزنون بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة.

11. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت، ثم عند انقطاع حيضها ماتت، أو الرجل بلغ عارفاً بالله، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات، فهما بالاتفاق من أهل الثواب، فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال، وأيضاً من مذهبنا(2) أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ والجواب: أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا، بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب، كما قال في ضد هذا ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: 68] ثم قال ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68] ومعلوم أن من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلهاً لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/81.

(2) يقصد الأشاعرة، وهو يعبر عنه كثيرا بكونه مذهب أهل السنة

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾:

أ. قيل: يعني في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيرا، روى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل)

ب. وقيل: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ يعني في الآخرة، وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ قال: لا يقبل منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة، والمحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه.

2. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي ينميها في الدنيا بالبركة ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة، وفي صحيح مسلم: (إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يجئ يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر أحد)

3. قرأ ابن الزبير ﴿يَمْحَقُ﴾ بضم الياء وكسر الحاء مشددة (يربي) بفتح الراء وتشديد الباء، ورويت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كذلك.

4. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ ووصف كفار بأثيم مبالغة، من حيث اختلف اللفظان، وقيل: لإزالة الاشتراك في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض: قاله ابن فورك.

5. تقدم القول في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾، وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقد تضمنها عمل الصالحات تشريفا لهما وتنبيها على قدرهما إذ هما رأس الأعمال، الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/363.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ أي: يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيرا فلا يبقى بيد صاحبه؛ وقيل: يمحق بركته في الآخرة.

2. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي: يزيد في المال الذي أخرجت صدقته؛ وقيل: يبارك في ثواب الصدقة ويضاعفه ويزيد في أجر المتصدّق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعا.

3. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ أي: لا يرضى، لأن الحبّ مختص بالتّوابين، وفيه تشديد وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة؛ وقيل: لإزالة الاشتراك، إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا: إنما البيع مثل الرّبا كفار.

4. تقدم تفسير قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآية.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/341.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ أي يذهب ريعه ويمحو خيره، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم: 39]، وقال تعالى: ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ [الأنفال: 37]

2. ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي يكثرها وينميها وإن كانت نقصانا في الشاهد.

3. سر ذلك كما قال القاشانيّ: لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين:

أ. والمال الحاصل من الربا لا بركة له لأنه حصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي، إذ كل طعام يولّد في آكله دواعي وأفعالا من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو المحق الكليّ.

ب. أما المتصدق فلكون ماله مزكّى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل، وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به، وذلك هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به‏ زيادة، وأي زيادة أفضل مما تبقّى عند الله؟ ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا، وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله؟.

آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر(2)، فإن كل مكتسب له توكل مّا في كسبه، قليلا كان أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولن تتعين لهم قبل الاكتساب، فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم)، وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه، سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه، وعن رزقه بتعيينه، لا توكّل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله، وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه، لا يهتدي إلى مقصد.

4. قال بعض العلماء العمرانيين: يشترط لجواز التمول أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة، وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها، وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية، أكل الربا، قصدا لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية، لأن الربا هو كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغصب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية، كالتجارة والزراعة والأملاك، ومن المشاهد أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس، ثم قال وقد نظر الماليون، والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا: إن المعتدل منه نافع بل لا بد منه، أولا لأجل قيام المعاملات الكبيرة، وثانيا لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا؟ وثالثا لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أولا يقدرون عليها، كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان، فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم، أما السياسيون‏ والأخلاقيون فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأن هذه الثروات الأفرادية تمكن الاستبداد الداخليّ، فتجعل الناس صنفين عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجيّ فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالا وعدّة، وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة، ولذلك حرمت الأديان الربا تحريما مغلظا.

5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله﴾ ورسوله وكتبه وبتحريم الربا، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق، على جمعهم للمال ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ التي تنهى عن الفحشاء والمنكر كالشح والربا ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ ثوابهم الكامل ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الجنة ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ يوم الفزع الأكبر ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/228.

(2) الكلام هنا للقاشانيّ

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا﴾ يُذهب عنه البركة ويُذهِبُه أيضًا، والمال الذي هو فيه، وعن ابن العبَّاس: لا يقبل الله منه صدقة ولا حجًّا ولا جهادًا ولا صلة، وجاء مرفوعا: (إنَّ الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلٍّ)، ويقال عن بعض الصحابة: (لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتَّى يُمْحَقَ)، وهذا خارج مخرج الغالب، ولعلَّ هذا أيضًا فيمن اعتقد حرمته لا في المشركين، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يضاعف ثوابها ويزيد في مال أخرجت منه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله يقبل الصدقة فيربِّيها كما يربِّي أحدكم مهره)، وهذا في مضاعفة الثواب، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما نقصت صدقة من مال قطُّ)، وهذا بركة في الدنيا بالزيادة كمًّا أو كيفًا، بأن يدرك بالباقي ما يدرك بالكلِّ لو لم تخرج.

2. ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ﴾ أي: والله يعاقب؛ لأنَّه لا واسطة للمكلَّف بين الثواب والعقاب، فإذا لم يكن ثواب له كان العقاب، ﴿كُلَّ كَفَّارٍ﴾ بأيِّ أمر، ومنها الكفَّار بتحليل الربا، ومثله فاعله بلا تحليل، والنفي لعموم السلب ولو تأخَّرت عنه أداة العموم لا لسلب العموم.

3. ﴿اَثِيمٍ﴾ فاجر بالكبائر، مقارفة أو تحليلاً، جاء مرفوعا: (إنَّ درهما واحدًا من الربـا أشدُّ عند الله من ستٍّ وثلاثين زنية)، ويروى: (.. من سبعين زنية بذات محرم في البيت الحرام)، وأنَّ (الربا سبعون بابا أدناها كزنى الرجل بأمِّه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه)، وأنَّ (النار أولى بكلِّ لحم نبت من سحت)، و(لُعن آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه)، والعدد تمثيل، وكذا سبعون تكثير.

4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ بالله ورسله وما جاءوا به كتحريم الربا، ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ كتركه، ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ﴾ تعظيمًا لله، ﴿وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ تعظيما له، وشفقة على خلق الله، ﴿لَهُمُ أجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ذكر الإقامة والإيتاء مع دخولهما في الصالحات لشرفهما وليتَّصلا بذكر الجزاء، قدَّم التصديق وهو بالقلب واللِّسان وعمَّ العمل بعده، وخصَّ العمل بعد العموم بالصلاة من أعمال البدن والزكاة من المال تعظيما لهما، فالصلاة أعظم أعمال البدن، والزكاة أعظم الأعمال الماليَّة، ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ آت، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فائت.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/164.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين الله تعالى الفرق بين الربا والصدقة، إذ جاء الكلام عنه بعد الكلام عنها ببيان أثرهما فقال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ فسروا محق الله الربا بإذهاب بركته وإهلاكه أو إهلاك المال الذي يدخل فيه، وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة فهم يذكرون دائما ما يحفظون من أخبار آكلي الربا الذين ذهبت أموالهم وخربت بيوتهم، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه والحاكم وأخرجه ابن جرير في التفسير: (إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل) وقال الضحاك: إن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه، فلا يبقى لأهله منه شيء.

2. قال محمد عبده: ليس المراد بهذا المحق محق الزيادة في المال؛ فإن هذا مكابرة للمشاهدة والاختبار، وإنما المراد به ما يلاقي المرابي من عداوة الناس وما يصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها:

أ. أما عداوة الناس فمن حيث هو عدو المحتاجين وبغيض المعوزين، وقد تفضي العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضرات، واعتداء على الأموال والأنفس والثمرات وقد ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا إذ قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء ويتألب العمال عليهم حتى صارت هذه المسألة أعقد المسائل عندهم.

ب. أما ما يصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام فهو ما لا يعرفه إلا من راقب هؤلاء العابدين وتلا أخبارهم، ولا أذكر عنه مثالا على ذلك، وما الأمثال فيه بقليلة: فمنهم من يشغله المال عن طعامه وشرابه وعن أهله وولده حتى يقصر في حق نفسه وحقوقهم تقصيرا يفضي إلى الخسر أو المهانة والذل، ومنهم من يركب لذلك الصعب ويقتحم الخطر حتى يكون من الهالكين.

3. المحق في اللغة: محو الشيء والذهاب به، كمحاق القمر، وكل ما لا يحسن المرء عمله فقد محقه ـ كما في الأساس ـ فلعل المراد بمحق الربا محو ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، وزيادة الربا تذهب بذلك لاشتغال المرابي غالبا عن اللذة وخفض المعيشة بولهه في ماله ولمقت الناس إياه وكراهتهم له كما علم مما تقدم، فهو لم يحسن التصرف في التوصل إلى ثمرة المال.

4. إرباء الصدقات هو زيادة فائدتها وثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة، كما تقدم في تفسير آيات الصدقة ومضاعفة الله إياها.

5. معنى ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أن سنة الله تعالى قضت في عابد المال الذي لا يرحم معوزا ولا ينظر معسرا إلا بمال يأخذه ربا بدون مقابل أن يكون محروما من الثمرة الشريفة للثروة، وهي كون صاحبها ناعما عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدرا لخيرهم والتفضل عليهم وإعانتهم على زمنهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو في عدم انتفاعه بماله هذا الضرب من الانتفاع كمن محق ماله وهلك، وقضت سنته في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله ـ وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده ـ وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا طيبا ـ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل) والحديث من باب التمثيل كما هو ظاهر.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ قالوا: لا يحب لا يرضى، والكفار: المستحل للربا، والأثيم: المقيم على الإثم، وأقول: إن حب الله للعبد شأن من شئونه يعرف باستعمال العبد إتمام حكم الله في صلاح عباده، ونفي هذا الحب يعرف بضد ذلك، والكفار هنا: هو المتمادي على كفر إنعام الله عليه بالمال إذ لا ينفق منه في سبيله ولا يواسي به المحتاجين من عباده، والأثيم: هو الذي جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فافترص إعسارهم لاستغلال اضطرارهم.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي صدقوا تصديق إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة كغيرها وعملوا الصالحات أي الأعمال التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم، ومنها مواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين، وإنظار المعسرين، ومن سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح في مقام الوعد؛ لأن الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان يتبعه العمل الصالح حتما لا يتخلف عنه، وهذا برهان على ما قلناه في تفسير الآية السابقة.

8. ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ التي تذكر المؤمن بالله تعالى فتزيد في إيمانه وحبه ومراقبته له حتى تسهل عليها، ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل، وذكر الصلاة والزكاة بعد الأعمال الصالحة التي تشملهما؛ لأنهما أعظم أركان العبادة النفسية والمالية، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كل عمل صالح

9. ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ تقدم نظير هذا الجزاء قريبا فلا حاجة لإعادة التذكير بمعناه، وجملة الآية تعريض بآكل الربا ـ كأنه يقول: لو كان من هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. لكف عنه ولكنه كفار أثيم ـ وتمهيد لما بعدها.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/100.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، فلا ينتفع به أحد من بعده، ويضاعف ثواب الصدقات، ويزيد المال الذي أخرجت منه، أخرج البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)

1. قال العلماء: المراد بالمحق ما يلاقى المرابي من عداوة المحتاجين، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، فقد قام الفقراء يعادون‏ الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم، فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه، بل عن أهله وولده، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة.

2. قصارى ذلك ـ إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان، والحب الشديد للمال، ومقت الناس له، وكراهتهم إياه، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة، وهى أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدر الخير لهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع، فكان كمن محق ماله وهلك، وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وقد تقدم إيضاح هذا.

3. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال، لأنه لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسى به المحتاجين من عباده، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدى الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم، وأخذ أقواتهم، وامتص دماءهم.

4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين ـ وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان ـ وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه، وحبه لربه ومراقبته له، فتسهل عليه طاعته في كل شيء، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر ـ وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات‏ النفسية والبدنية ـ لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء، ولا يحزنون على ما فات، ولا يخافون مما هو آت، وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/66.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لعل كثيرين يغريهم طول الأمد، وجهل الموعد، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا؛ ويقرر أن الصدقات ـ لا الربا ـ هي التي تربو وتزكو؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم، ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾..

2. وصدق وعيد الله ووعده، فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة.. إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء، وقد ترى العين ـ في ظاهر الأمر ـ رخاء وإنتاجا وموارد موفورة، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد، وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده، ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم، حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة.. وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم ـ سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا ـ ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال!

3. وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون ـ الممثلين في الصدقات المفروض منها والمبروك للتطوع ـ وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها.. ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله ـ أفرادا وجماعات ـ فيما لهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم.

4. الذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية، هم الذين لا يريدون أن يروا، لأن لهم هوى في عدم الرؤية! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة!

5. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.. وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي ـ بعد تحريمه ـ من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله، وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. فالإسلام ليس كلمة باللسان؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل.. وليس في حرمة الربا شبهة؛ وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم.. والعياذ بالله..

6. في الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم، والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه، يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح، وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب، وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر ـ نظام الزكاة ـ المقابل لنظام الربا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾..

7. العنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر (الزكاة)، عنصر البذل بلا عوض ولا رد، والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن، ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن، إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن؛ الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.

8. وقد بهتت صورة (الزكاة) في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع؛ ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية، ويجعل (الزكاة) قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية، ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا!

9. بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية، إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي، القائم على الأساس الربوي، وشهدت الكزازة والشح، والتكالب والتطاحن، والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس، فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات، ما لم يكن لهم رصيد من المال؛ أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به، ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية! فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام؛ وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس!

10. بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحسانا فرديا هزيلا، لا ينهض على أساسه نظام عصري! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة، وهي تتناول اثنين ونصفا في المائة من أصل رؤوس الأموال الاهلية مع ربحها؟ يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة، ويربيهم تربية خاصة، بالتوجيهات والتشريعات، وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه! وتحصلها الدولة المسلمة، حقا مفروضا، لا إحسانا فرديا، وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة؛ حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة؛ وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان دينا تجاريا أو غير تجاري، من حصيلة الزكاة.

11. ليس المهم هو شكلية النظام، إنما المهم هو روحه، فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة، وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشئوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى، ولكنها حقيقة نعرفها نحن ـ أهل الإسلام ـ ونتذوقها بذوقنا الإيماني، فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم ـ وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها ـ فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾.. ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون! إن الله ـ سبحانه ـ يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون، أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده، ويعدهم بالأمن فلا يخافون، وبالسعادة فلا يحزنون: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.. في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف.

12. شهدت البشرية ذلك واقعا في المجتمع المسلم؛ وتشهد اليوم هذا واقعا كذلك في المجتمع الربوي! ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزا عنيفا حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة؛ ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع.. لو كنا نملك لفعلنا.. ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة؛ لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها.. والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، والهدى هدى الله.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/328.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن حرّم الله أكل الرّبا في الآية السابقة، وكشف هذا الطرف من أطراف الربا ـ وهو طرف ـ المقترضين على تلك الصورة الكريهة ـ جاءت هذه الآية لتكشف وجها آخر من وجوهه، وطرفا ثانيا من أطرافه، وهو المال المتعامل به، فصاحب هذا المال، وهو المرابي، يوجه مآله إلى هذا الوجه، يريد له النماء والكثرة، ويبغى منه الثروة والغنى.

2. أخبر الله سبحانه أنه لا يبارك هذا المال، ولا يزكّى الوجه الذي اتجه إليه.. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ والمحق هو المحو والإزالة، بحيث لا يبقى أثر لما يمحق، والمراد هنا بمحق الرّبا، أن هذا المال الذي يجمع من وجوه الرّبا مصيره الزوال، وأنه إذا كان له مع صاحبه شأن في هذه الدنيا، فإنه لا يجد منه شيئا بين يديه في الآخرة، على حين أن المال المتصدّق به، وإن كان قليلا، فإنه ينمو النماء الحقيقي، الذي لا يفنى بفناء صاحبه، ولا يذهب بذهاب الدنيا كلها، بل يظل هكذا في ازدهار ونماء، حتى يستقبل صاحبه يوم القيامة، فيكون له زادا طيبا في هذا اليوم العظيم، كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وكما يقول الرسول الكريم: (إنّ الله ليربّي لأحدكم التمرة كما يربّى أحدكم فلوّه وفصيله حتى يكون مثل أحد)، والفلوّ: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة.

3. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ تعريض بالمرابين، وهم الطرف الثالث في عملية الربا، وتمهيد لما سيأتي من حديث عنهم، فالمرابي كافر بنعمة الله، إذ وسّع الله له في الرزق، حتى فضل المال عن حاجته، وكان من شأن هذا الفضل أن يعود به على ذوى الحاجة، صدقة أو قرضا حسنا، فلم يفعل، بل جعله سلاحا حادا مرهفا، لا يسلط إلا على رقاب المحتاجين والبائسين خاصة، فهو بفعله هذا قد حرم الفقراء وذوى الحاجة حقا لهم وضعه الله في يده، ثم لم يقف عند هذا، بل صنع من هذا الحق شباكا يصطاد بها الفقراء وذوى الحاجة ثم يلقى بهم ليد الهلاك والضياع.. فهو كافر.. كافر بنعمة الله، ثم هو آثم‏ آثم، بهذا الموقف اللئيم الذي يتخذ فيه من نعمة الله نقمة يسلطها على عبادة الله.

4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بعد أن توعد الله سبحانه وتعالى المرابين بمحق أموالهم، ووصمهم بالكفر الشديد لنعمه، بما ارتكبوا من هذا الإثم الغليظ الذي يعرضهم لسخط الله وعذابه ـ وعد سبحانه ـ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة بالأجر العظيم، والرحمة والرضوان، والأمن يوم الفزع الأكبر.. ذلك لأنهم استقاموا على الصراط المستقيم، وجاءتهم الموعظة فاستمعوا إليها، وامتثلوا لها، وانتهوا عما نهوا عنه من منكرات كانوا يأتونها وهم جاهلون، و(إيتاء الزكاة) هنا له آثاره في التحريض على البذل والإنفاق على ذوى الحاجات، حتى لا تضطرهم الحاجة إلى التعامل بالربا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/358.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقّع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله، وقوله: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان.

2. المحق هو كالمحو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السّرار، ومعنى‏ ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلّا بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله‏ صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث: (من تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلّا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوّه)، ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك.

3. جملة: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ معترضة بين أحكام الربا، ولما كان شأن الاعتراض ألّا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذنا بأنّ الربا من شعار أهل الكفر، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضا بأنّ المرابي متّسم بخلال أهل الشرك.

4. مفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحدا من الكافرين الآثمين لأنّ (كل) من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صبرة مجموعة، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه كل إلّا مجازا، فإذا أضيفت (كل) إلى اسم استغرقت جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على (كل) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو، إلّا أنه يتكيّف بالسلب عوضا عن تكيّفه بالإيجاب، فإذا قلت كلّ الديار ما دخلته، أو لم أدخل كلّ دار، أو كلّ دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النّجم:

çقد أصبحت أمّ الخيار تدّعي‏...عليّ ذنبا كلّه لم أصنع‏é

كما قال سيبويه: إنّه لو نصب لكان أولى؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان، ولا تخرج (كل) عن إفادة العموم إلّا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه (كل) صريحا أو تقديرا، كأن يقول أحد: كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثل: (ما كل بيضاء شحمة)، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي: (وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة)، وقد نظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال (كل) إذا وقعت في حيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع (كل) ونصبه في قوله (كلّه لم أصنع)، وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّبا مجملا بأنّ ما قاله أغلبي، وأنّه قد تخلّف في مواضع، وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي (الإيجاز على دلائل الإعجاز) أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.

5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا، والمقصود التعريض بأنّ الصفات المقابلة لهاته الصفات صفت غير المؤمنين، والمناسبة تزداد ظهورا لقوله: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/559.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ المحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر: أي انتقاصه في الرؤية شيئا فشيئا حتى لا يرى، فكأنه زال وذهب؛ والله سبحانه وتعالى يمحق الربا في الدنيا والآخرة؛ ففي الآخرة عقاب أليم، وعذاب مقيم، وفى الدنيا ينقص ماله، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ) أو تمحى من المال البركة، بحيث لا يمكن الانتفاع به، إما لهمّ دائم وقلق مستمر، وإما لمرض يصيبه فيكون المال الكثير مع عدم القدرة على الانتفاع به، كمن عنده طعام شهى ولكنه لا يستطيع أن يتناوله؛ لأنه يكون وبالا عليه؛ وإما لمقت الناس له، فيفقد تعاونهم، وفى ذلك شر عليه، والربوي لا يمكن أن يخلو في الدنيا من واحد من هذه الأمور، فكان الربا ممحوقا دائما.

2. هذه نتيجة الربا، أما الصدقات فإن الله يربيها وينميها، إما بالكسب الوفير، وإما بفضل التعاون وبالهدوء والاطمئنان، ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة؛ كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يجئ يوم القيامة، وإن اللقمة لعلى قدر أحد)

3. الصدقة ليس المراد منها مجرد العطاء، بل تشمل كل نفع عام أو خاص لا يقصد به المؤمن المنفعة الشخصية التي تنبع من الهوى، وعلى ذلك يكون القرض الحسن الذي يقصد به التعاون على الاستغلال من الصدقة أيضا، وهو من خير الصدقات أيضا، وهو من خير الصدقات التي يربيها الله في الدنيا والآخرة.

4. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ هذا تهديد لمن استحلوا الربا، أو ارتكبوه، وقد ذكروا في ذلك الكلام العام للإشارة إلى أن المرابين يسترون الحق، ويعوقون عن الخير؛ إذ معنى (كفّار) من كفر بمعنى ستر وأخفى وجحد، فهي صيغة مبالغة لكافر؛ ومعنى أثيم معوق مبطئ عن الخير؛ فالذين يرابون ويأكلون أموال الناس بالباطل يدخلون في عموم قوله تعالى: ﴿كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾

5. جمع سبحانه وتعالى بين الوصفين ﴿كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه، وهم كفار إن استحلوه؛ وهم في الحالين آثمون معاقبون، ولكل حال مقدارها من الإثم، فليس إثم من جحد بآيات الله كإثم من نقص إيمانه بترك العمل بها، فذلك كافر، وهذا فاسق، وفرق ما بين الأمرين عظيم، ويصح أن نقول: إن الكافر هو الكفّار بنعمة الله والمتمادي في كفرانها، بأن يتخذ ما أنعم الله به عليه من نعم كالمال، في الإيذاء لا في النفع، فيأكل أموال الناس بالباطل بسبب ما أعطاه الله من مال، وإن ذلك توجيه حسن، وهو في هذا المقام مناسب.

6. نفى حب الله تعالى بحرمان الآثمين من رضاه؛ إذ إن محبة الله تعالى شأن من شئونه، ومن مظهره الرضا، ومن حرم من رضا الله فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإلى الله عاقبة الأمور.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بيّن الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الجرم العظيم الذي يقع فيه آكل الربا، والأثر الذي ينال نفوسهم وعقولهم من مغبة إثمهم، والعذاب الأليم الذي يرتقبهم يوم القيامة؛ ثم بيّن سبحانه بعد ذلك جزاء الصالحين الذين لا يأكلون الربا، والذين يستبدلون بأكل أموال الناس بالباطل الزكاة يؤدونها، والفرائض يقيمونها، وحق الله والناس في أنفسهم وأموالهم يأتون به على الوجه الأكمل؛ وبعد بيان تلك المرتبة العالية لأهل الإيمان، ذكر الطريق لتوبة أكلة الربا، والمسلك الذي يسلكونه ليرتفعوا إلى مرتبة الطاهرين، وعاقبة السوء إن استمروا في غيّهم يعمهون.

8. ابتدأ سبحانه ببيان الأطهار في مالهم وأنفسهم فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ ذكر سبحانه ذلك الصنف الفاضل الذي جعله الله تعالى من صفوة عباده، فوصفه بأربع صفات، هي الإيمان.. والعمل الصالح.. وإقامة الصلاة.. وإيتاء الزكاة:

أ. أما الوصف الأول فهو الإيمان، فهو نور القلب به يشرق وبه يهتدى، وإذا قوى الإيمان تطهرت النفس من كل أدران الهوى ومقاصد السوء، وذكر القرآن الإيمان في أول أوصاف الأبرار لثلاثة أمور:

أولها: إن الإيمان بالله ورسوله إذا استغرق النفس، واستولى على القلب وجد الإخلاص للناس وطلب الحق، فاتجه الإنسان بكل جوارحه إليه؛ والإخلاص هو النور الذي يهتدى به الإنسان ويحميه من كل حيرة.

ثانيها: إن الإيمان الذي هو الوصف الثابت للمؤمنين هو والربا نقيضان لا يجتمعان؛ فما من شخص يأكل الربا أو يبيحه إلا كان منشأ ذلك نقصا في إيمانه، واضطرابا في يقينه؛ إذ يكون إيمانه بالمال أكثر من إيمانه بالله.

ثالثها: إن الإيمان يتضمن معنى الإذعان للحق، ومن ادعى الإيمان ولم يذعن للحق، فقد جافى حقيقته، ومن أجل هذه المعاني صدّرت أوصاف الذين لا يأكلون الربا بوصف الإيمان.

ب. الوصف الثاني من أوصاف الذين لا يأكلون الربا: هو العمل الصالح؛ والعمل الصالح هو كل عمل فيه خير للمجتمع الذي يعيش فيه المؤمن، يبتدئ فيه بالأسرة: الأقرب فالأقرب، ثم بالجيران: الأدنى فالأدنى، ثم بالعشيرة كلها، ثم بقومه، ثم بأمته، وإن اقتران الإيمان دائما بالعمل الصالح يدل على أن الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي للخير، فليس الإيمان في الإسلام مجرد نزاهة روحية، وتعبد في الصوامع، إنما الإيمان مظهره عمل إيجابي فيه نفع للناس؛ فالإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي، لا مجرد التقديس السلبى، وإذا كان العمل الصالح هو النفع العام والنفع الخاص، فإنه يفترق عن الصلاة والزكاة، من حيث إن هذه هي الفرائض الوقتية المنظمة للعلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس؛ أما العمل الصالح فهو الحال الدائمة للمؤمن التي لا تتقيد بزمان ولا مكان، ولا حال؛ فكما أن الإيمان حال دائمة، فالعمل الصالح أي النفع الدائم المستمر للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون حالا دائمة مستمرة للمؤمن، وذكر هذا الوصف في مقابل أكل الربا فيه إشارة إلى التقابل بين الشر والخير، والإثم والبر؛ فإن الإثم إيذاء للناس ومن ذلك الربا، وأخلاق المؤمن العمل النافع الدائم للناس، وهو الخير وهو البر.

ج. الوصف الثالث: إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مقومة غير معوجة بحيث يستذكر فيها المصلى ربه، ولا يسهو فيها عن ذكره سبحانه، وما ذكرت الصلاة في مقام المدح للمصلين إلا ذكرت بالإقامة؛ لأن إقامتها هي التي تهذب النفس، وتبعدها عن الفواحش والمنكرات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت‏]، وإنّ ذكر الصلاة بجوار العمل الصالح فيه إشارة إلى أن الإسلام يلتقى فيه وصفان جليلان: التهذيب الروحي، والنزاهة النفسية التي تكون بالصلاة والمداومة على إقامتها، والعمل النافع المستمر وجلب الخير للناس، ففيه نزاهة الروح والنفع العام.

د. والوصف الرابع من أوصاف المؤمنين إيتاء الزكاة؛ والزكاة هي الفريضة الاجتماعية التي فرضها الله سبحانه وتعالى، وبها يأخذ ولى الأمر من مال الغنى ما يسد به حاجة الفقير؛ فهي قدر معلوم قدره الشارع الحكيم، بحيث يأخذه من مال الغنى قسرا أو اختيارا، وذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الجملة أولئك الذين يؤتون الزكاة طواعية واختيارا، فهم يعطونها محتسبين النية معتقدين أن الزكاة مغنم لهم ومطهرة لأموالهم، وليست مغرما لهم، ولا منقصة لأموالهم، وقد أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن المسلمين بخير ما حسبوا الزكاة مغنما، ولم يحسبوها مغرما، ولقد قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة]، وذكرت الزكاة في هذا المقام؛ لأنها مقابلة للربا كما بينا في الآية السابقة، وقد تلونا فيما سبق قول الله تعالى: ﴿وما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم‏]

9. ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا جزاء الذين يؤمنون، ويعملون العمل الصالح في سبيل النفع، ويطهرون نفوسهم بالصلاة، ويطهرون أموالهم بالزكاة، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهم أنواعا ثلاثة من الجزاء:

أ. أولها: الأجر، وهو عوض ما قاموا به من خير، واعتبر إنعامه عليهم بأضعاف ما صنعوا أجرا وعوضا وهو المنعم المتفضل، حثا على فعل الخير، وتعليم الناس الشكر، ومقابلة الخير بالخير.

ب. الثاني: الأمن وعدم الخوف، فلا مزعج يزعج فاعل الخير، إذ إنه بالعمل للنفع العام، وتطهير النفس، وإعطاء الفقير حقه المعلوم قد وقى نفسه ووقى مجتمعه من ذرائع الفتن ونوازع الشر؛ هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة، فالأمن من عذاب الله تعالى.

ج. الثالث: أنهم لا يحزنون؛ وذلك لأنهم باستقامة قلوبهم، وامتلائها بالإيمان وتهذيب أرواحهم وأدائهم ما عليهم من واجب في حق أنفسهم ومجتمعهم ـ قد حصنوا أنفسهم من أسباب الهم والغم، فلا يأسون على ما يفوتهم، ولا يجزعون لما يصيبهم؛ لأن نفوسهم روحانية تعلو عن متنازع الأهواء التي تملأ النفس بأسباب الهم والغمّ.

10. ذكر هذه الأحوال في مقام مقابل لحال الربويين الذين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ـ له مغزاه ومعناه؛ إذ فيه بيان للنعيم في مقابل الجحيم، وللراحة والاطمئنان، في مقابل الجزع والاضطراب، وكل امرئ بما كسب رهين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1051.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، المحق هو النقصان، والربا الزيادة، والمعنى:

أ. ان المرابي طلب المزيد في ماله، ولكن الربا في الحقيقة نقصان للمال، حيث يصبح رجسا محرما، والحرام يخرج المال عن المالك، ويجعل تصرف المرابي فيه كتصرف الغاصب في المال المغصوب، هذا بالإضافة الى الإثم والعذاب، وبديهة ان كل ما كان سببا لغضب الله وعذابه فهو رجس ونقصان، وعمل من وحي الشيطان.

ب. أما الصدقة فإنها تطهر المال وتزكيه، وتثبته على ملك المتصدق والمزكي، وتستدعي مرضاة الله وثوابه، وهذا هو عين الكمال والزيادة.. وبكلمة ان كثير المال الحرام قليل، وقليل المال الحلال كثير.

2. (الكفار الأثيم) هو الذي يتمادى في أكل الربا، لا يرتدع عنه، وكذا من يتمادى في ترك الزكاة، ولا يكترث بتهديد الله ووعيده، واستنادا الى هذه الآية يصح القول: ان أكثر المنتمين الى الإسلام في هذا العصر كفار آثمون، لتماديهم في أكل الربا، وترك الخمس والزكاة.

3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، هذه الآية ظاهرة المعنى لا تحتاج الى تفسير، ومع هذا فقد مر تفسيرها في الآية 25 و82.. وإنما أعاد الله سبحانه هذا الوعد اطرادا في ذكر الوعد بعد الوعيد، وبالعكس، ولما بالغ هنا في وعيد المرابين اتبعه بوعد الصالحين.. وتجمل الاشارة إلى أن ظاهر الآية يدل على ان الايمان النظري مجردا عن العمل ليس بشيء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/438.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ الآية، المحق‏ نقصان الشيء حالا بعد حال، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجا، والإرباء الإنماء، والأثيم‏ الحامل للإثم، وقد مر معنى الإثم، وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا، وقد تقدم أن إرباء الصدقات وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة:

أ. فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب وتبسط الأمن والحفظ، وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والإفساد والسرقة، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافا مضاعفة.

ب. كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال ويفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الأمن والحفظ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، وتدعو إلى التفرق والاختلاف، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.

2. كل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، واستعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، وهموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فإن أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض ـ والحال هذه ـ وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان وحسن النية وأثرت الأثر الجميل، وإن أسيء إليهم بإعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة، وقلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم، ويجب عليك أن تعلم:

أ. أولا: أن العلل والأسباب التي تبنى عليها الأمور والحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود والتأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحققها، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم، وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية، والتدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال والأعمال ومفاسدها مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال وبناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.

ب. ثانيا: أن المجتمع كالفرد والأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما أن للفرد حياة وعمرا وموتا مؤجلا وأفعالا وآثارا فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره، وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾، وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه وزواله وأثره، فالعفة والخلاعة الفردية حال كونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الإنسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا والمجتمع على خلافه، وأما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والأمراض التناسلية والمفاسد الآخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة، وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة والبطء.

3. إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء والمذلة، وبين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول بالرسمية، ووضعت عليها القوانين، وأسست عليها البنوك فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في معايبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين: الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السيئ المشئوم، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، وربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وهذا اليوم يراد به العصر الذي‏ ظهر فيه ناس، على ناس وطائفة، على طائفة وحكومة على حكومة، وأمة، على أمة، وظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.

4. القرآن لا يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعادة الإنسان: نوعه وفرده، ومهيمنا على سعادة الدنيا: حاضرها وغابرها، فقوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يبين حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق وإن سمي ربا والصدقة ربا رابية وإن لم تسم ربا، وإلى ذلك يشير تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق.

5. بما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم:

أ. أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة والعيان يكذبه، وإنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءا، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له، ووجه ضعفه ظاهر.

ب. وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد به محق الآخرة وثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.

ج. وكذا ضعف ما استدلّ به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾.. وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعا.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، والمعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية، وهي طرق المعاملات الفطرية، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات‏ والمعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، وباستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، ويضمن غيره، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة، وباستعمال الطمع والحرص في أموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق والفضائل وفروعها، وهو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.. تعليل يبين به ثواب المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/419.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ ينقصه ويبخسه والمحق ضد البركة ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يضاعفها لأهلها المتصدقين بها فتوفَّى إليهم في الآخرة مضاعفة ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ فهم مظنة أن لا يهديهم ولا يوفقهم لتوبة، والكَفّار المبالِغ في الكفر بآيات الله أو الكفر لنعم الله، والأثيم صاحب الإثم، ودخل في هذا أهل الربا القائلون: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا الوعد للمؤمنين بعد الوعيد لأهل الربا والكَفَّار الأثيم على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الإنذار والتبشير تحذيراً وترغيباً، وبضدها تتبين الأشياء، ليختار العاقل ما هو خير له؛ حيث يرى الفرق بين الإيمان الموجب للجنة، والعصيان الموجب للنار، ويرى الفرق بين المحسن والمسيء وحكمة الله في الفرق بينهما.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/403.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، المحق هو النقص، والربا هو الزيادة، فكيف نفهم هذا النقص هنا، والزيادة هناك؟

أ. هل هي فيما ينتجه الربا من نتائج سلبية في الدنيا، بحيث يجعلها الله ضدّ مصلحة المرابي فيما يأمله ويريده من زيادة ماله، وذلك من خلال النتائج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يؤدي إليها الربا في نهاية المطاف بما يثيره من أحقاد وأضغان وثوارت تدمر كل ما بناه المرابون وتقضي على كل ما جمعوه، أمّا الصدقة فإنها تنتهي إلى الزيادة في مال المتصدق على أساس ما تثيره الصدقة، من محبة وحب وخير وأجواء تهيّئ للنمو والازدهار؟

ب. أو هي فيما يواجه به الله المرابين من العذاب والعقاب في الآخرة الذي يشعرون معه بأن كل ما حصلوا عليه في الدنيا يتحول إلى هباء، لأنهم لم يجنوا من ذلك إلا الخسران الأبدي في الآخرة، بينما يحصل المتصدق على النتائج الطيّبة للصدقة من الثواب الذي يتضاعف إلى عشر أمثالها؟

ج. أو هناك وجوه أخر تستوحي الحكم الشرعي الذي لا يعترف بشرعية الربا مما يجعله رجسا محرما، تماما كما هو الغاصب في تصرفاته، بينما الصدقة تنمي المال وتزكيه وتثبته على ملك صاحبه؟

2. إننا نستقرب الوجه الثاني وذلك بشهادة بعض الأحاديث: (إن الرجل يتصدق أو المرأة تتصدق بالتمرة أو بشق تمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه وفصيله فيلقاني يوم القيامة وهي مثل جبل أحد)، وقد لا يكون من البعيد أن تحمل الآية على النتائج في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال‏ انطلاق الحكم الشرعي من المفاسد الكامنة في موضوعه إن كان تحريما، ومن المصالح الموجودة في داخله إن كان وجوبا، وانتهائه إلى العذاب على مخالفته والثواب على موافقته في الآخرة.

3. في ضوء ذلك، قد يكون للربا أثره الماحق على حركة المجتمعات والأفراد من خلال النتائج السلبية الأخلاقية في تأثيرها على العلاقات العامة بين الناس، فإن قيم المحبة والرحمة والخير والعطاء تنتج التقارب والتعاون والتواصل والانفتاح العقلي والروحي والعملي على المصالح المشتركة، مما يؤدي إلى تنمية الأموال والطاقات والأوضاع للمجتمع الذي يتحرك أفراده بهذه الطريقة، أو للأفراد الذين يعيشون في هذا الاتجاه، أما قيم الحقد والقسوة والشر والبخل، فإنها تنتج التباعد والتقاطع والانغلاق الروحي، مما يجعل كل شخص بعيدا عن الآخر، أو يؤدي إلى التعقيد الذاتي والعملي بما يسبّبه من الضرر للأفراد وللمجتمعات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي، وهذا ما نراه من ثبات الأنظمة والمجتمعات القائمة على قيم العدالة والحق والخير، واهتزاز الدول والجماعات المرتكزة على قيم الظلم والباطل والشر، الأمر الذي يجعل الدولة تزول والمجتمع ينهار، والأفراد ينكمشون، وهذا ما لاحظناه من الاهتزازات التي تحصل للنظام الربوي في المدى البعيد من خلال التراكمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يفسّر لنا محق الربا للإنسان في الدنيا، لأنه يمحق ثروته وربما يهلك وجوده في نهاية المطاف، بينما تنطلق الصدقات لتؤسس له القوّة والامتداد والنتائج الإيجابية، هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فإن الحكم الإلهي العادل الذي يواجه الإنسان العاصي بالعقاب والمطيع بالثواب هو الذي ينتظر المرابين والمتصدقين.

4. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ الظاهر أنه جار مجرى كثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الانحراف عن الخط العملي للإيمان بصفة الكفر، باعتبار أنه من نتائجه الطبيعية، لأن قيمة الإيمان هي بالعمل، فإذا ابتعد عنه صار والكفر سواء من الناحية العملية، والله العالم.

5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وهذا أسلوب قرآني مميز يثير أمام الحكم الشرعي الذي يدعو الإنسان إلى السير عليه، أجواء الآخرة فيما ينتظره فيها من عقاب على تقدير المعصية، وثواب في حالة الطاعة، وقد أراد الله في هذه الآية أن يوحي للإنسان بأن قضية الربا تمثل جزءا من كل في الشخصية المؤمنة المتكاملة التي تعمل الصالحات وتقوم بالصلاة وإيتاء الزكاة، مما يجعل من الإيمان عنصرا حيّا لا ينفصل عن العمل في نجاة الإنسان من العقاب وحصوله على الثواب.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/145.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ تبيّن الفرق بين الربا والصدقة، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

2. (المحق) النقصان التدريجي، و(الربا) هو النموّ التدريجي، فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة، وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين ويهدّدون أموالهم وأرواحهم، فالقرآن يقول إنّ الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

3. إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضا، وبالمقابل، فالأشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموما، وأموال هؤلاء فضلا عن عدم تعرّضها لأيّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّا طبيعيا، وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾

4. هذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع، فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامّة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيّز الوجود ذلك النظام الاقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامّة.

5. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، (الكفّار) من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و(الأثيم) هو الموغل في ارتكاب الآثام.

6. هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامّة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ الله لا يحبّ أمثال هؤلاء.

7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم، هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

8. ثمّ إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع، وأخيرا فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام‏ ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/343.

138. الربا وحرب الله ورسوله وكيفية التوبة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈138⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278 ـ 279]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾ استيقنوا بحرب(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ فتربون، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فتنقصون(3).

4. روي أنّه قال: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ فتأخذون أكثر، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فتبخسون منه(4).

5. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ بلغنا: أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم؛ كان بنو المغيرة يربون لثقيف، فلما أظهر الله رسوله على مكة، ووضع يومئذ الربا كله، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم، وما كان عليهم من ربا فهو موضوع، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في آخر صحيفتهم: (أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، أن لا يأكلوا الربا، ولا يؤكلوه)، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد ـ وهو على مكة ـ، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا، ووضع عن الناس غيرنا؟ فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب بن أسيد ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فنزلت هذه الآية: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾(5).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٣٩.

(2) ابن جرير: ٥/٥٣.

(3) ابن جرير: ٥/٥٦.

(4) الواحدي في أسباب النزول: ت: الفحل: ص ٢١٢.

(5) أبو يعلى: ٥/٧٤.

عروة:

روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنّه قال: لما حضرت الوليد بن المغيرة الوفاة دعا بنيه، وكانوا ثلاثة: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، فقال: يا بني، أوصيكم بثلاث، فلا تضيعوا فيهن: دمي في خزاعة فلا تطلنه، والله، إني لأعلم أنهم منه برآء، ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقاري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به، قال ابن إسحاق: ولما أسلم أهل الطائف كلم خالد بن الوليد بن المغيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما كان أبوه أوصاه، قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم: أن هؤلاء الآيات نزلت في تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس، نزلت في طلب خالد بن الوليد ذلك الربا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إلى آخر القصة فيها(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٥٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ لا تأخذوا غير رؤوس أموالكم، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ لا يظلمكم الذي لكم عليهم أموالكم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥١ ـ: ٥٥٢.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فنهاهما؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فسمعا وأطاعا، وأخذا رؤوس أموالهما(1).

__________

(1) أورده الواحدي في أسباب النزول: ص٩٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة ربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٠.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فإن لم تؤمنوا بتحريم الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أوعدهم بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجا أين ما لقوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، ولا تلجئنكم إلى معصية الله فاقة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ﴾ والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥١.

(3) ابن جرير: ٥/٥٤ وابن المنذر: ١/٦٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ معناه أخبروا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 106.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ الآية: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني غيرة، وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا؛ فأنزل الله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ﴾ من فضل كان في الجاهلية: ﴿مِنَ الرِّبَا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٤٩.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال في قول الله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ ما بقي على الناس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٨.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: نهى الله تعالى عن الربا كأشد النهي، وتقدم فيه، فاتقوا الربا والريبة، والربا من الكبائر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٤٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إلى قوله: ﴿تُظْلَمُونَ﴾ فهذا ما دعا الله إليه عباده من التوبة، ووعد عليها من ثوابه، فمن خالف ما أمر الله به من التوبة سخط الله عليه، وكانت النار أولى به وأحق)(1).

2. روي أنّه قال: (كل الربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا، فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة)، وقال: (لو أن رجلا ورث من أبيه مالا، وقد عرف أن في ذلك المال ربا، ولكن اختلط في التجارة بغيره، فإنه له حلال طيب فليأكله، وإن عرف منه شيئا معزولا أنه ربا، فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة)(2)

3. روي أنّه قال: أتى رجل إلى أبي، فقال: إني ورثت مالا، وقد علمت أن صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي، وقد عرفت أن فيه ربا وأستيقن ذلك، وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه، وقد سألت فقهاء من أهل العراق، وأهل الحجاز، فقالوا: لا يحل لك أكله من أجل ما فيه، فقال له الإمام الباقر أنّه قال: (إن كنت تعرف أن فيه مالا معروفا ربا، وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك، وإن كان مختلطا فكله هنيئا مريئا، فإن المال مالك، واجتنب ما كان يصنع صاحبه، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد وضع ما مضى من الربا، وحرم عليهم ما بقي، فمن جهله وسع له جهله حتى يعرفه، فإذا عرف تحريمه حرم عليه، ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه، كما يجب على من يأكل الربا)، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(2).

4. روي أنّه قال: إن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة، قال الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 277 ـ 279]، فهذا ما دعا الله اليه عباده من التوبة ووعد عليها من ثوابه، فمن خالف ما أمره الله به من التوبة سخط الله عليه، وكانت النار أولى به وأحق(3).

5. روي أنّه سئل عن الرجل يكون عليه الدين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه، فيقول: أنقد لي، فقال: (لا أرى به بأسا، لأنه لم يزد على رأس ماله، وقال الله: ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾)(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/153.

(2) التهذيب: 7/16.

(3) تفسير العياشي: 1/153/512.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ أحدا إذا لم تزدادوا على أموالكم، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فتنقصون من رؤوس أموالكم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٦.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الربا هو: الذي نهى الله عنه وحرمه، مما أنت به عارف من هذه المعاملات والزيادات، في الأسلاف والديون والمشارءات، فلما أن حرم الله عز وجل ذلك وحظره، كانت بقايا للمسلمين من تلك الأسلاف والمبايعات، قد بقيت من ديونهم، وتخلفت على غرمائهم، فكانوا يظنون أنه ليس عليهم إثم في اقتضاء ما بقي منها، وأجروا آخرها كمجرى أولها، فنهاهم الله عن ذلك، وغفر لهم ما قد سلف، من قبل التحريم، وخطر عليهم ما بقي لهم، فأمرهم بتركه، ومنعهم من أخذه واقتضائه، وهو بقيه ديون الربا.

2. ثم قال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، يقول: إن لم تتركوا بقية الربا الحرام فأذنوا بحرب من الله ورسوله، يريد: القتل والقتال، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويرجعوا إلى حكمه، وحكم عليهم بالقتل بعد إذ سماهم مؤمنين، إن لم يفعلوا عن أخذ الربا، والميل إلى الهوى، وأوجب عليهم في ذلك أعظم بلاء؛ فهذا معناها ومجراها.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/132.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وجهان:

أ. قيل: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ﴾ من عمركم‏ ﴿الرِّبَا﴾ إذا صرتم مؤمنين.

ب. وقيل: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ الذي تقبضون‏ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

2. فى الآية دلالة على أن الربا الذي لم يقبض إذا ورد عليه حرمة القبض أفسدته، لذلك قال أصحابنا(2): إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد، كما كان فوت قبض الربا في ذلك العقد أوجب منع قبض الربا، والذى يدل عليه قوله تعالى: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ﴾ فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد رأس المال.

3. فى الآية دليل وجه آخر: وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض، يرتفع به العقد في فساد العقد؛ فعلى ذلك يجعل حدوث شيء في عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه في استئجار حصته من الثمن.

4. في قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ وقوله: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ﴾ دلالة: أن ما جرت بين أهل الإسلام وأهل الحرب من المداينات والمقارضات ثم أسلموا يرد، وما أخذوا قهرا لا يردون؛ وذلك أن الربا الذي قبضوا لئلا يرد لم يؤمر برده، فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد، لم يجب رده، وأما رأس المال فإنما أخذوا للرد؛ فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دينا أو قرضا وجب رده، ففيه دليل لقول أصحابنا على ما ذكرنا.

5. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ عن ابن عباس‏ قال فمن كان مقيما على الربا مستحلّا له لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه: فإن تاب ونزع عنه، وإلا ضرب عنقه.

6. ﴿فَأْذَنُوا﴾ فيه لغتان: بالقطع، والوصل، فمن قرأ بالقطع، فهو على الأمر بالإعلام لمستحليه أنه يصير حربا له بالاستحلال، ومن قرأ بالوصل، فهو على العلم، كأنه قال للمؤمنين: إنه حرب لنا.

7. عن ابن عباس قوله: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ أي ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ فتربون، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فتنقصون، وقتادة يقول: بطل الربا وبقيت رؤوس الأموال.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/272.

(2) يقصد الحنفية

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني ترك ما بقي من الربا ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وتقرأ: فآذنوا بالمد: أعلموا غيركم، من قرأ بالقصر فإن معناه اعلموا ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ﴾ أي ما دفعتم إليه ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بأن تمنعوا رؤوس أموالكم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/129.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: يا أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم.

ب. الثاني: يا أيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم.

2. ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ فيمن نزلت هذه الآية قولان:

أ. أحدهما: أنها نزلت في ثقيف وكان بينهم وبين عامر وبني مخزوم، فتحاكموا فيه إلى عتاب بن أسيد بمكة وكان قاضيا عليها من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: دخلنا في الإسلام على أن ما كان لنا من الربا فهو باق، وما كان علينا فهو موضوع، فنزل ذلك فيهم وكتب به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إليهم.

ب. الثاني: أنها نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد يا ليل وحبيب ابن ربيعة عند بني المغيرة.

3. ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ محمول على أن من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره وأسلم وقد بقي بعضه، فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رد، وما بقي منه بعد إسلامه، حرام عليه لا يجوز له أخذه، فأما المراباة بعد الإسلام فيجب ردّه فيما قبض وبقي، فيرد ما قبض ويسقط ما بقي، بخلاف المقبوض في الكفر، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.

4. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه.

ب. الثاني: معناه إذا كنتم مؤمنين.

5. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني ترك ما بقي من الربا، ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذنوا بالمد، بمعنى: فأعلموا غيركم، وقرأ الباقون بالقصر بمعنى فاعلموا أنتم، وفيه وجهان:

أ. أحدهما: إن لم تنتهوا عن الربا أمرت النبي بحربكم.

ب. الثاني: إن لم تنتهوا عنه فأنتم حرب الله ورسوله، يعني أعداءه.

6. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ يعني التي دفعتم‏ ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم، ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بأن تمنعوا رؤوس أموالكم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/352.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:

أ. ذكر السدي وابن جريج وعكرمة أن هذه الآية نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد يأليل وحبيب وربيعة، وبني عمرو بن عمير.

ب. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وكان بقي له بقايا على‏ ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت هذه الآية في المنع من ذلك.

2.﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ ظاهره تحريم ما بقي ديناً من الربا وإيجاب أخذ رأس المال دون الزيادة على جهة الربا، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قيل فيه قولان:

أ. أحدهما: من كان مؤمناً فهذا حكمه.. وهو الأقوى.

ب. الثاني: إذ كنتم مؤمنين.

3. معنى (ذروا) اتركوا، ولم يستعمل منه وذر، ولا واذر لكراهية الواو مبتدأة لأنها لم تزد أولًا في كلامهم كزيادة أختيها الياء والهمزة، قال الخليل: إذا التقت واوان في أول الكلمة أشبه بنباح الكلب فرفضوا ذلك إلا فيما هو عارض لا يعتد به فاستعملوا يذر، لأنه لا تظهر فيه الواو، ومثله يدع، فأما وعد فجاء على الأصل، فان قيل: لم جاز وصف المبهم بالوصول، ولم يحسن بالمضاف فجاز أن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولم يحسن (يا أيها غلام زيد) قلنا: لأن المبهم حقه أن يوصف بالجنس المعرَّف بالألف واللام، لأنه إذا عرض فيه تنكير بطلت دلالته على الجنس، فاحتيج إلى وصفه بالجنس لذلك، فان قيل: هلا جاز (يا أيها غلام الرجل) كما جاز (نعم غلام الرجل) إذ المضاف إلى الجنس يقوم مقام الجنس، قيل: لأنه لا يجوز في الأسماء التامة أن تكون ثلاثة أسماء بمنزلة اسم واحد منها، وقد جعل (يا أيها الرجل) بمنزلة اسمين ضم أحدهما إلى الآخر نحو (حضرموت) ليكون بذلك أشد اتصالًا بالموصوف من سائر الصفات، فلم يجز في المضاف لما يجب له من شدة الاتصال وجاز في نعم، لأنه على الانفصال.

4. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرئ (فآذنوا) من الرباعي ممدودة حمزة وعاصم: من آذنت أي أعلمت، والباقون ﴿فَأْذَنُوا﴾

5. التقدير في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني ترك ما بقي من الربا أو تجنب ما بقي من الربا، لأن ما تقدم دلّ عليه، وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من عامل بالربا استتابه الامام فان تاب، وإلا قتله، وقال البلخي: لو اجتمع أهل قرية على اظهار المعاملة بالربا، لكان على الامام محاربتهم، وإن كانوا محرمين له، ولو فعل الواحد بعد الواحد، والأكثر منكر لفعله لم يقتل الواحد، لكن يقام عليه من الحكم ما يستحقه، وعندنا أنه يؤدبه الامام ثلاث مرات بما يرتدع معه عن فعل مثله فان عاد رابعاً قتله.

6. معنى قوله: (فاذنوا) ممدوداً: علموا غيركم، ومن قرأ بالقصر فهو من أذنت به آذن اذناً إذا علمت به.

7. ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فالحرب: القتال، والحرب: الشدة، والحربة: التي يطعن بها من آلة الحرب، والتحريب: التحريش، لأنه حمل على ما هو كالحرب من الأذى، والمحراب: مقام الامام، لأنه كموضع الحرب في شدة التحفظ، والحربا: المسمار الذي يجمع حلقتي الدرع، والحرباء: دويبة أكبر من العظاءة، لأنه ينتصب على الشجرة كمصلوب أخذ من الحرب لشدة طلبه للشمس تدور معها كيفما دارت، وأصل الباب الشدة.

8. معنى قوله: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ يعني من الربا لأن الكلام يدل عليه، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون بأخذ الزيادة على رأس المال ولا تظلمون بالنقصان، وروي في الشواذ ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ والمعنى واحد وإنما فيه تقديم وتأخير وموضع (لا تظلمون) نصب على الحال، وتقديره فلكم رؤوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/366.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ذروا: دعوا واتركوا، ولم يجز وَذرَ ولا واذِر، وإنما جاء يَذَرٌ وذَرْهُ ولا تذر لكراهة الواو مبتدأة حتى لم ترد أولا في كلمة كزيادة أختيها الياء والهمزة، واستعملوا يذر؛ لأنه لا يظهر فيه الواو، ونظيره: يدع، قال الخليل: إذا التقت واوان في أول الكلمة أشبه نباح الكلاب، فأما وعد فجاء على الأصل.

ب. الحرب: القتال، والحرب: الشدة وهو الأصل، سمي القتال حربًا لشدته.

ج. الأذان: الإعلام، ومنه يسمى الأذان أذانًا، ومنه الإذن؛ لأنه به يعلم.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في العباس وعثمان بن عفان، وكانا أسلفا في الثمرة فلما حضر الجذاذ قبضا، وزادا في الباقي، فنزلت الآية، عن عطاء وعكرمة.

ب. وقيل: نزلت في العباس وخالد بن الوليد كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: كل ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عمي العباس)، عن السدي.

ج. وقيل: نزلت في أربعة إخوة من ثقيف: مسعود، وعبد ياليل، وحبيب، وربيعة بني عمرو بن عمير الثقفي، وكانوا يداينون بني مغيرة، فلما ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على الطائف وصالح ثقيفًا أسلم هَؤُلَاءِ الأربعة وطلبوا رباهم من بني المغيرة فأبوا، وقالوا: واللَّه لا نعطي الربا في الإسلام، واختصموا إلى عتاب بن أسيد، وهو يؤمئذ أمير مكة، فكتب بذلك إلى رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك مالاً عظيمًا فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، فلما قرئت عليهم قالوا: بل نتوب فلا يدان لنا بحرب اللَّه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم) ورضوا برأس المال عن مقاتل.

3. ثم بَيَّنَ تعالى حكم الربا، وبين أن ما سلف للآخذ، وبين حكم ما بقي فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا اللَّه ورسوله فيما جاءهم به ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعني اتقوا عذابه باتقاء معاصيه ﴿وَذَرُوا﴾ اتركوا ودعوا ﴿مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ لكم على الناس.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: يعني من كان مؤمنًا فهذا حكمه، فإن كنتم مؤمنين فاتركوا ذلك.

ب. وقيل: معناه إذ كنتم مؤمنين؛ لأنه وصفهم تعالى في أول الآية بالإيمان.

﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما أمركم اللَّه تعالى به من ترك ما بقي من الربا، ﴿فَأْذَنُوا﴾ أي اعلموا وكونوا على علم، وبالمد (فَأَعْلِمُوا) مَنْ فعل ذلك ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾:

أ. قيل: هذا في المستحل.

ب. وقيل: بل في فاعل الربا، وإن اعتقد تحريمه.

5. اختلفوا أنه متى الإيذان ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾:

أ. قيل: في الدنيا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، عن ابن عباس وقتادة والربيع، وعلى هذا الآية في المستحل.

ب. وقيل: إذا أجمع أهل قرية على إظهار الربا حاربهم الإمام، وإن كانوا محرمين له، ولو فعله الواحد لا يقتل، ولكن يقام عليه من الحكم ما يستحقه، عن أبي القاسم البلخي.

ج. وقيل: ذلك في الآخرة، يقال له يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

د. وقيل: حرب اللَّه النار، وحرب رسوله السيف.

هـ. وقيل: هو مبالغة في التهديد دون نفس الحرب.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾:

أ. قيل: أسلمتم.

ب. وقيل: تبتم ممن فضل الربا وأخذ ما بقي.

7. ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ﴾ الغريم بطلب زيادة على رأس المال ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ أنتم بنقصان رأس المال.

8. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب ترك الباقي من الربا، وهو الزيادة على أصل المال، وأنه لا يملك المطالبة به.

ب. أن الربا كبيرة؛ لأنه علق التقوى بتركه، ونبه أن الإيمان يحصل إذا تركه.

ج. أن أفعال الجوارح من الإيمان؛ لأنه جعل ترك الربا من الإيمان.

د. عظم أمر الربا؛ إذ جعل المربي حربًا لله ورسوله.

هـ. يدل قوله: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ أن المحرَّم هو الزيادة على رأس المال، وهذا فيما يمكن أن يتميز.

و. أن المحرم من العقود بعد الإسلام حكمه بخلاف حكمه قبل الإسلام؛ فلذلك منع عن أخذ الزيادة وقد أسلم، ولو تناول في حال كفره ثم أسلم لم يجب الرد.

ز. وجوب رد رأس المال من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن في كل واحد منهما ظُلْمَ آخر.

ح. أن الظلم فعل العبد لذلك أضاف إليهم.

9. قراءات وحجج:

أ. قرأ عاصم وحمزة ﴿فَأْذَنُوا﴾ مفتوحة الألف ممدودة، والذال مكسورة من آذنت أي أعلمت، وقرأ الباقون ﴿فَأْذَنُوا﴾ ساكنة الهمزة مفتوحة الذال مقصورة من أذنت به آذن إذنًا إذا أعلمت له، والأول بمعنى فأعلموا غيركم. والثاني: فاعلموا أنتم وقراءة العامة ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ﴾ وهي لغة الحجاز، وقرأ الحسن ما بَقَى) بالألف، وهي لغة طيء.

ب. قراءة العامة ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بفتح التاء، وروى أبان والمفضل عن عاصم بضم التاء.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/134.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أن الوليد بن المغيرة كان يربى في الجاهلية، وقد بقي له بقايا على ثقيف، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم، فنزلت الآية.

ب. وقال السدي وعكرمة: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الاسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: على أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.

ج. وقال مقاتل: نزلت في أربعة أخوة من ثقيف: مسعود وعبد يا ليل وحبيب وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وكانوا يداينون بني المغيرة، وكانوا يربون، فلما ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على الطائف، وصالح ثقيفا، أسلم هؤلاء الاخوة الأربعة، فطلبوا رباهم من بني المغيرة، واختصموا إلى عتاب بن أسيد، عامل رسول الله على مكة، فكتب عتاب إلى النبي بالقصة، فأنزل الله الآية.

2. ثم بين سبحانه حكم ما بقي من الربا، فقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أمر الربا، وفي جميع ما نهاكم عنه ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أي: واتركوا ما بقي من الربا، فلا تأخذوه، واقتصروا على رؤوس أموالكم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: معناه: من كان مؤمنا فهذا حكمه، فأما من ليس بمؤمن، فإنه يكون حربا.

ب. وقيل: معناه إن كنتم مؤمنين بتحريم الربا، مصدقين به، وبما فيه من المفسدة التي يعلمها الله.

4. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي: فإن لم تقبلوا أمر الله، ولم تنقادوا له، ولم تتركوا بقية الربا بعد نزول الآية بتركه ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: فأيقنوا واعلموا بقتال من الله ورسوله، والمعنى: أيقنوا أنكم تستحقون القتل في الدنيا، والنار في الآخرة، لمخالفة أمر الله ورسوله، ومن قرأ ﴿فَأْذَنُوا﴾: فمعناه فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب.

5. معنى الحرب: عداوة الله، وعداوة رسوله، وهذا إخبار بعظم المعصية، وروي عن ابن عباس وقتادة والربيع أن من عامل بالربا، استتابه الإمام، فإن تاب وإلا قتله، وقال الصادق: آكل الربا يؤدب بعد البينة، فإن عاد أدب، وإن عاد قتل.

6. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من استحلال الربا، وأقررتم بتحريمه ﴿فلكم رؤوس أموالكم﴾ دون الزيادة ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بأخذ الزيادة على رأس المال ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بالنقصان من رأس المال.

7. قراءات وحجج:

أ. قرأ عاصم برواية أبي بكر، غير ابن غالب والبرجي وحمزة ﴿فَأْذَنُوا﴾ بالمد وكسر الذال، والباقون ﴿فَأْذَنُوا﴾.. قال سيبويه: آذنت أعلمت، وأذنت، والتأذين: النداء، والتصويت، بالإعلام قال: وبعض العرب يجري آذنت مجرى أذنت الذي معناه التصويت والنداء، قال أبو عبيدة: آذنتك بحرب فأذنت به تأذن إذنا أي: علمت:

فمن قرأ ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فقصر، فالمعنى اعلموا بحرب من الله، والمعنى أنكم في امتناعكم من وضع ذلك حرب لله ورسوله.

ومن قرأ ﴿فَأْذَنُوا﴾: فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، فالمفعول محذوف على قوله وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم أيضا لا محالة، ففي أمرهم بإعلام ما يعلمون هم أيضا أنهم حرب إن لم يمتنعوا عما نهوا عنه، وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهو في الإبلاغ آكد

ب. قرئ في الشواذ ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾

8. مسائل نحوية:

أ. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: جواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فذروا ما بقي من الربا.

ب. موضع ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾: نصب على الحال من ﴿لَكُمْ﴾، والتقدير: فلكم رؤوس أموالكم غير ظالمين، ولا مظلومين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/674.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الرّبا من ثقيف، فلمّا وضع الله الرّبا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفّان، والعبّاس، كانا قد أسلفا في التّمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التّمر: إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذوا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حلّ الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فنهاهما عليه السّلام، فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة.

ج. الثالث: أنها نزلت في العبّاس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الرّبا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الرّبا، فنزلت هذه الآية، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العبّاس) هذا قول السّدّيّ، وقال ابن عباس، وعكرمة، والضحّاك، إنما قال ﴿مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ لأن كلّ ربا كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف، وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره، ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عمّا مضى، فأمّا المراباة بعد الإسلام، فمردودة فيما قبض، ويسقط ما بقي.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا﴾، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ﴿فَأْذَنُوا﴾ مقصورة مفتوحة، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم (فآذنوا) بمدّ الألف وكسر الذال، قال الزجّاج: من قرأ: فأذنوا، بقصر الألف وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا، ومن قرأ بمدّ الألف وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كلّ من لم يترك الرّبا أنه حرب، قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب.

3. ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ أي التي أقرضتموها، لا تظلمون فتأخذون أكثر منها، ولا تظلمون فتنقصون منها، والجمهور على فتح (تاء) تظلمون الأولى، وضم (تاء) تظلمون الثانية، وروى المفضّل عن عاصم: ضمّ الأولى، وفتح الثانية.

__________

(1) زاد المسير: 1/249.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين الله تعالى في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف، فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم، فقال تعالى في هذه الآية ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض، فالزيادة تحرم، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم، وإنما شدد تعالى في ذلك، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم، فقال: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ واتقاؤه ما نهى عنه‏ ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه، أو لم تقبضوا بعضه، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان، أو بعضاً فإنه محرم قبضه.

2. في هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا، وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص، ولا يفسخ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب، وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي.

3. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا﴾ ثم قال في آخره‏ ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أن هذا مثل ما يقال: إن كنت أخاً فأكرمني، معناه: إن من كان أخا أكرم أخاه.

ب. الثاني: قيل: معناه إن كنتم مؤمنين قبله.

ج. الثالث: إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان.

د. الرابع: يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.

4. في سبب نزول الآية روايات:

أ. الأولى: أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.

ب. الثانية: قال مقاتل: إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف: مسعود، وعبد يا ليل، وحبيب، وربيعة، بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على الطائف أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ج. الثالثة: نزلت في العباس، وعثمان بن عفان وكانا أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قبضا بعضاً، وزاد في الباقي فنزلت الآية، وهذا قول عطاء وعكرمة.

د. الرابعة: نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا يسلفان في الربا، وهو قول السدي.

5. قال المعتزلة، ومن وافقهم(2): قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر، والجواب: لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله‏: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3] على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل.

6. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وقرأ عاصم وحمزة (فآذنوا) مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال‏ ﴿فَآمِنُوا﴾ والباقون‏ ﴿فَأْذَنُوا﴾ بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وعن علي ‏ أنهما قرآ كذلك (فآذنوا) ممدودة، أي فاعلموا من قوله تعالى: ﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنبياء: 109] ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية، والتقدير: فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، وقال أحمد بن يحيى: قراءة العامة من الاذن، أي كونوا على علم وإذن، وقرأ الحسن (فأيقنوا) وهو دليل لقراءة العامة.

7. اختلفوا في الخطاب بقوله‏: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: هو خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا.. قال القاضي: وهو أولى، لأن قوله‏: ﴿فَأْذَنُوا﴾ خطاب مع قوم تقدم ذكرهم، وهم المخاطبون بقوله‏: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين.

ب. وقيل: هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، وأن معنى الآية ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278] معترفين بتحريم الربا ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه‏ ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ومن ذهب إلى هذا القول قال إن فيه دليلًا على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً، كما لو كفر بجميع شرائعه.

8. سؤال وإشكال: كيف أمر الله تعالى بالمحاربة مع المسلمين؟ والجواب: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل، كما جاء في الخبر (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)، وعن جابر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)، وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: 33] أصلًا في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله، وفي الجواب عن السؤال المذكور وجهان:

أ. الأول: المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.

ب. الثاني: المراد نفس الحرب وفيه تفصيل، وهو أن الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية.. وقال ابن عباس: من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه.

9. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا، وعلى القول الثاني من استحلال الربا ﴿فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ‏﴾ أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/83.

(2) الكلام هنا للقاضي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول آية التحريم ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا.

1. قيل: إن الآية نزلت بسبب ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على أن مالهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبنى عبد ة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت على بني المغيرة المخزوميين، فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئا فإن الربا قد رفع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد، فكتب به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونزلت الآية فكتب بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت، هذا سبب الآية على اختصار مجموع ما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم، والمعنى اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من الربا وصفحكم عنه.

2. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام، وإذا قدرنا الآية فيمن قد تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إن ﴿أَنْ﴾ في هذه الآية بمعنى ﴿إِذِ﴾، قال ابن عطية: وهذا مردود لا يعرف في اللغة، وقال ابن فورك: يحتمل أن يريد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمن قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم! إذ لا ينفع الأول إلا بهذا، وهذا مردود بما روى في سبب الآية.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ هذا وعيد إن لم يذروا الربا، والحرب داعية القتل:

أ. وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستثيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.

ب. وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا.

ج. وقيل: المعنى إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء.

د. وقال ابن خويز منداد: ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالا كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالا جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وقرأ أبو بكر عن عاصم فآذنوا، على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم.

4. ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب.

5. دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك على نبينه، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه غباره) وروى الدارقطني عن عبد الله ابن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة) وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الربا تسعة وتسعون بابا أدناها كإتيان الرجل بأمه) يعني الزنا بأمه، وقال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ملعون على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات... ـ وفيها ـ وآكل الربا)، وفي مصنف أبي داوود عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده.

6. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ الآية، روى أبو داوود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول في حجة الوداع: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية، موضوع فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) وذكر الحديث، فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ في أخذ الربا ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم، ويحتمل أن يكون ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ في مطل، لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شي بالصلح، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم للآخر: (قم فاقضه)، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات.

7. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر، هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي، ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد، وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض، وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب فلا يتعرض له، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكي عن اليهود في قوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا: ﴿أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء﴾ فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به، نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد.

8. ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب، لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام، قال ابن العربي: وهذا غلو في الدين، فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتمييزه، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب، وهذا بين حسا بين معنى.

9. قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ومطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه، وفارق ها هنا المفلس في قول أكثر العلماء، لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء بل هم الذين صيروها إليه، فيترك له ما يواريه وما هو هيئة لباسه، وأبو عبيد وغيره يرى ألا يترك للمفلس اللباس إلا أقل ما يجزئه في الصلاة وهو ما يواريه من سرته إلى ركبته، ثم كلما وقع بيد هذا شي أخرجه عن يده ولم يمسك منه إلا ما ذكرنا، حتى يعلم هو ومن يعلم حاله أنه أدى ما عليه.

10. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالمزارعة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/363.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: قوا أنفسكم من عقابه، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا.

2. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قيل: هو شرط مجازي على جهة المبالغة؛ وقيل: إنّ (إن) في هذه الآية بمعنى إذ، قال ابن عطية: وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني: ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: فاعلموا بها، من أذن بالشيء: إذا علم به؛ قيل: هو من الإذن بالشيء: وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم، وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة: (فأذنوا) على معنى: فأعلموا غيركم أنكم على حربهم.

4. دلت هذه: على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب: للتعظيم، وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته.

5. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ أي: من الربا ﴿فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ تأخذونها ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ غرماءكم بأخذ الزيادة ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ أنتم من قبلهم بالمطل والنقص، والجملة حالية أو استئنافية، وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/342.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي اخشوا الله في الربا لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أي اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ على الحقيقة، فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة، قال الحراليّ: فبيّن أن الربا والإيمان لا يجتمعان.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي لم تتركوا ما بقي ﴿فَأْذَنُوا﴾ أي اعلموا ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قال المهايميّ: أي إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره، ومن تهاون بأمر ملك حاربه، والحرب نقيض السلم، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله،

3. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من الربا ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ﴾ أي أصولها ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بطلب الزيادة ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بالنقص والمطل، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/231.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم نفاقا بإضمار الشرك، بدليل قوله: ﴿إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ أي: مؤمنين بقلوبكم، أو صادقين في إيمانكم، وهذا أولى من تقدير: إن ثبتُّم على الإيمان أو زدتم إيمانا في قوله: ﴿إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ أي: يا أيُّها الذين آمنوا تحقيقا، ﴿اتَّقُواْ اللهَ﴾ في أموركم، ﴿وَذَرُواْ﴾ اُتركوا، ﴿مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَآ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ أي: ثبتُّم على الإيمان، أو زدتم إيمانا.

أسلف العبَّاس وعثمان بن عفان في الثمر، وَلَمَّا حان وقت الجذاذ قال لهم صاحب الثمر: إن أخذتما حقَّكما لم يبق لي ما يكفي عيالي ونحن ذوو عسرة، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخِّرا النصف وأضعِّفه لكما؟ ففعلا، فلمَّا حلَّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم فنهاهما، وأنزل الله تعالى : ﴿يَآ أيُّهَا الَّذِينَ﴾ الآية، ولا يخفى أنَّهما لم يضمرا شركًا، فإمَّا أن يكون الآية فيمن أضمره، أو يجعل (ءَامَنُوا) على ظاهره و(إِن كُنتُم مُّومِنِينَ) بمعنى ثبَّتم أو زدتم، أو جعل مخالفة الحقِّ بالعمل كإنكاره مبالغةً، حتَّى كأنَّه لم يؤمن مَن طَلَبَ الزيادة مع أنَّه آمن، وقيل: طلباها بعد النهي لعدم بلوغ النهي لهما، أو طلباها ظنًّا أنَّ ما سبق النهيَ يبقى على حاله.

2. ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ تقوى الله وترك الباقي من الربا ﴿فَاذَنُواْ﴾ اعلموا يقينا، كأنَّه قيل: فأيقنوا ﴿بِحَرْبٍ﴾ عظيمة، كحرب البغاة لمن لم يستحلَّ، وحرب المشركين لمن استحلَّ.

3. ﴿مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ تُقتَلون في الدنيا وتحرقون يوم القيامة، والقتل الذي بأمر الله به هو من الله، كما قال: ﴿يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الَارْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: 33] ولو جرى على يد النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، أو المعنى: بحرب بأمر من الله ورسوله، وإنَّما يقتلون بعد الإقدام عليهم، وكذا كلُّ من أحلَّ ما حرَّم الله.

4. ويروى أنَّه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم به وبالربا عند الأجل، فنزلت ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا﴾، فقالوا: (لا يَدَيْ لنا بحرب الله ورسوله)، أي: لا قدرة لنا.

5. وحذفت النون لشبه الإضافة، وليس مضافا لِـ (نا) واللَّام زائدة؛ لأنَّ اسم (لا) لا يضاف لمعرفة، وعبَّروا باليد عن القوَّة لأنَّ المباشرة والدفع باليد، وكأنَّه عدمت اليدان حين العجز.

6. يروى أنَّ بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل وأخويه ربيعة وحبيبا، طلبوا بني المغيرة من بني مخزوم بربا من الجاهليَّة فقالوا: قد وُضِعَ الربا، فكتب بإذنهم معاذٌ ـ وقيل: عتاب بن أسيد ـ إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنزل: ﴿يَآ أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ فكتب إلى معاذ أن يقرأ عليهم الآية، فإن أبوا إِلَّا طلب الربا فقاتلهم، وكذا ترك العبَّاس ورجل من بني المغيرة المشتركين رباهما من الجاهليَّة حين نزلت.

7. ﴿وَإِن تُبْتُمْ﴾ عن الربا ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ﴾ بأخذ الزيادة من أيِّ وجه كانت ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بنقص عن رؤوس أموالكم أو بالمطل، يجب على من أخذ القليل أن يردَّه، وإن ذهب بعضه ردَّ الباقي ومثلَ الذاهب أو قيمته إن لم يكن المثل، ويردُّ من أخذ الزائد كلَّ ما أخذ من زائد ورأس مال، وإن ذهب بعضٌ ردَّ الباقي ومثلَ الذاهب أو قيمته كذلك، ومن ذهب له منهما كلُّ ما أخذ ردَّ المثل أو القيمة، ويحرم عليهما أن يقتصرا على ردِّ الزيادة وأن يتقاضيا في الباقي، فإنَّ الربا لا مُحالَّة فيه ولا تقاضِيَ، ومن أعطى عشرة ليأخذ تسعة وجب عليه ردُّ التسعة وقبض عشرته، وعلى آخذها ردُّها له، ومن أعطى تسعة ليأخذ عشرة وجب عليه ردُّ العشرة كلِّها، وعلى آخذ التسعة ردُّها، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا مُحَالَّة ولا قضاء ولا إبراء في الربا)، ومن أربى باستحلال فهو مشرك، فإن أبى من التوبة فمالُهُ فيء للمسلمين، الذي أربى به وسائر ماله، وما في دار الإسلام لورثته، وما كسب بعد الردَّة فيء للمسلمين، وإن هم استحلُّوه ولهم شوكة لم تسلم رؤوسهم، ولهم رؤوس أموالهم، وعن ابن عبَّاس: (من عامل الربا يستتاب وإلَّا ضرب عنقه)، وقيل: يحبسون ولا يمكَّنون من التصرُّف، فما لم يتوبوا لم يسلَّم لهم شيء بل إِنَّمَا يسلَّم لورثتهم إذا ماتوا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/166.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ وصفهم الله تعالى بالإيمان وذكرهم بالتقوى، ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون منهم عند غرمائهم، ثم وصل ذلك بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قال محمد عبده: أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من الأحكام فذروا بقايا الربا، وقد عهد في الأسلوب العربي أن يقال: إن كنت متصفا بهذا الشيء فافعل كذا، ويذكر أمرا من شأنه أن يكون أثرا لذلك الوصف، أقول: ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فلا يعد من أهل هذا الإيمان التام الشامل الذي له السلطان الأعلى على إرادة العامل، وهذا يؤيد ما قلناه في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار، ومن الناس من يؤمن ببعض الكتاب إيمانا يبعث على العمل، ويكفر ببعض فلا يذعن له ويعمل به، فهو يجحده بفعله وإن أقر به بلسانه، ولا يعتد الله بإيمانه إلا إذا صدق قلبه وعمله لسانه لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي فإن لم تتركوا ما بقي لكم من الربا كما أمرتم فاعلموا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله إذ نبذتم ما جاءكم به رسوله عنه، فقوله: ﴿فَأْذَنُوا﴾ كقوله: ﴿فَاعْلَمُوا﴾ وزنا ومعنى وهي قراءة الجمهور، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش (فآذنوا) بمد الألف من الإيذان بمعنى الإعلام، أي فأعلموا أنفسكم ـ أي ليعلم بعضكم بعضا ـ أو المسلمين بأنكم محاربون لله ورسوله بالخروج عن الشريعة وعدم الخضوع للحكم، وهذا يستلزم أن يكونوا عالمين بذلك، كأنه يقول: إن عدم الخضوع للأمر خروج عن الشريعة، فهو إعلام للمسلمين بأنكم خارجون عن حكم الله ورسوله محاربون لهما.

3. فسر محمد عبده حرب الله لهم بغضبه وانتقامه، قال: ونحن إن لم نر أثر هذا في الماضين فإننا نراه في الحاضرين ممن أصبحوا بعد الغنى يتكففون، ومن باتوا والمسألة الاجتماعية (مناصبة العمال لأرباب الأموال) تهددهم بالويل والثبور، وأما الحرب من رسوله لهم فهي مقاومتهم بالفعل في زمنه، واعتبارهم أعداء له في هذا الزمن الذي لا يخلفه فيه أحد يقيم شرعه.

﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ ورجعتم عن الربا امتثالا وخضوعا ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ﴾ غرماءكم بأخذ الزيادة ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كاملا.

4. في الآية أن الربا حرم لأنه ظلم، ولكن بعض ما يعده الفقهاء منه لا ظلم فيه، بل ربما كان فيه فائدة للآخذ والمعطي.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/103.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه، وقد عهد في كلام العرب أن يقال: إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف، وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)

1. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه، وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها، وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس، وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.

2. ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين، فلكم رؤوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء، ولا تنقصون منها شيئا، بل تأخذونها كاملة.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/68.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة، التي تنبذ الربا من حياتها، فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة.. في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت؛ وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾..

2. إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا، فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون، فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به.

3. والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر، ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته، فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين، مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾..

4. لقد ترك لهم ما سلف من الربا ـ لم يقرر استرداده منهم، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها.. إذ لا تحريم بغير نص.. ولا حكم بغير تشريع.. والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره.. فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون، وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا، وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها، ويطلقها تنمو وترتفع معا..

5. في الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به، واستجاش في قلوبهم ـ مع هذا ـ شعور التقوي لله، وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته، فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان.

6. فهذه صفحة الترغيب.. وإلى جوارها صفحة الترهيب.. الترهيب الذي يزلزل القلوب: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.. يا للهول! حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية.. حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة!؟

7. لقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن‏ يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي، وقد أمر صلّى الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية ـ وأوله ربا عمه العباس ـ عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم في هذه الخطبة: (وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس).. ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حال الجاهلية.

8. الإمام مكلف ـ حين يقوم المجتمع الإسلامي ـ أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون.. فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة! على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام، فهذه الحرب معلنة ـ كما قال أصدق القائلين ـ على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي، هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة، وهي حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض، حرب المطاردة والمشاكسة، حرب الغبن والظلم، حرب القلق والخوف.. وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول، الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت، فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر، وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات، ثم تقع فيها الشعوب والحكومات، ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب!

9. وأيسر ما يقع ـ إن لم يقع هذا كله ـ هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة! إنها الحرب المشبوبة دائما، وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا.. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها ـ وهي تخرج من منبع الربا الملوث ـ لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقا؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون!

10. لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾.. فهي التوبة عن خطيئة، إنها خطيئة الجاهلية، الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام.. إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان.. خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة، وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة، وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته، ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، أنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي! واسترداد رأس المال مجردا، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين.. فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة، لها وسيلة الجهد الفردي، ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة، ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق ـ بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح ـ وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه، ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة ـ على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة ـ ولا تعطيها بالفائدة الثابتة ـ ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت.. وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال.. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها.. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن‏!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/331.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ هنا تعرض الآية الكريمة الطرف الثالث من أطراف العملية الربوية، وهم المقرضون بالرّبا، بعد أن عرضت الآيات السابقة الطرفين الآخرين وهما: المقترضون، والمال المقترض.. وإذ وعد الله سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم، والجزاء الحسن في الآخرة، وإذ كان ذلك موقظا لأشواق النفس نحو هذا المقام الكريم، حافزا الهمم والعزائم إلى بلوغ هذه الغاية المسعدة ـ فقد جاءت دعوة الذين آمنوا إلى ترك هذا المنكر، في وقتها المناسب، لتتلقاها النفوس، وهى في نشوة أشواقها إلى رضوان الله، وإلى الطمع فيما أعدّ للمتقين من جنات فيها نعيم مقيم، فمن واجب الذين آمنوا، وصافحت قلوبهم أضواء الهدى؛ أن يتقوا الله، وأن يقدروه حق قدره، فلا ينتهكوا حرماته، ولا يحوموا حول حماه.. وقد حرّم الله الرّبا، ومن تقوى الله اجتناب هذا المحرم، إن أراد المؤمن أن يكون في المؤمنين حقا.. إذ لا يجتمع الإيمان بالله، والمحادّة لله، ومحاربته.

2. ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أي اتركوا ما تعاملتم به من ربا قبل أن يأتيكم الله حكم فيه؛ بالتحريم، فليس لكم بعد هذا إلا رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ أي فإن أنتم أيها المقرضون بالرّبا لم تنتهوا عما نهيتم عنه من أخذ الربا، فأعدّوا أنفسكم لحرب معلنة عليكم من الله ورسوله.. فهل لكم على هذه الحرب صبر؟ وأين لكم القوة التي تقف لقوة الله، وتحول بينكم وبين ما يرسل عليكم من صواعق سخطه، ووابل عذابه؟

4. سؤال وإشكال: فى قوله تعالى‏: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ما يسأل عنه، وهو: إذا كان لحرب الله للمصرّين على أخذ الربا مفهوم، وهو وقوعهم تحت سلطان‏ سخطه ونقمته وعذابه.. فما مفهوم حرب رسول الله لهم؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن مخالفتهم لأمر الله وخروجهم عن طاعته هو مخالفة لأمر الرسول، وخروج طاعته، إذ كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هو حامل أمر الله ومبلغه، فعقاب الله الذي يأخذهم به هو عقاب من رسول الله أيضا، وحرب الله لهم، هي حرب لحساب رسول الله كذلك.. وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾

ب. الثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منفّذ أمر الله فيهم، بما مكّن الله من سلطان، يقيم به حدود الله على الخارجين عليها.. وإذ لم يكن للرّبا حدّ مفروض يعاقب به المرابون، كحدّ السرقة والزنا مثلا، وذلك لشناعة الربا، وغلظ جريمته التي لا حدّ لها إلا عذاب جهنم أو مغفرة الله ـ إذ كان ذلك كذلك، فإن لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا عرض عليه نزاع في معاملة ربوية أن يسقط الربا، وأن يجعل للمرابي رأس ماله دون ما أربى به.. كما فعل صلوات الله وسلامه عليه، فوضع ربا الجاهلية كلّه، وذلك في قوله في خطبة الوداع: (كلّ ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب)، وهذا الذي لرسول الله من تسلط على الرّبا، هو حق من بعده لولىّ الأمر، إذا عرض له نزاع في معاملة ربوية، وضع الربا عن المقترض، وجعل للمقرض رأس ماله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/360.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ إفضاء إلى التشريع بعد أن قدم أمامه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه، فإن كان قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] من كلام الذين قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.

2. أمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها، فهو كالأمر بطريق برهاني.

3. معنى‏ ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه.

4. قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف ـ أهل الطائف ـ إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسيد ـ الذي أولاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مكة بعد الفتح ـ بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شرطهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم ـ وكانوا حديثي عهد بإسلام ـ فقالوا: لا يدي لنا بحرب الله ورسوله، فقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ معناه إن كنتم مؤمنين حقا، فلا ينافي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذ معناه يا أيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت إشكالات عرضت، وقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾

5. تنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر، فإذا صح ما ذكر في‏ سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الأحكام إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء مالهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾؛ فيحتمل أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يقرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه.

6. دلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلّا بعد القبض، ولذلك جاء قبلها ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ وجاء هنا ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾

7. هذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقال الضمان بالقبض، والفوات بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأنّ القيمة بدل من رأس المال، ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث‏ (رأس الأمر الإسلام)، ومعنى‏ ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/560.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى طريق التوبة من الربا، والخروج من مآثمه، ويحث على هذه التوبة بإثبات أنها من مقتضيات الإيمان؛ وأول طرق التوبة لمن خوطبوا بالقرآن أول نزوله، أن يتركوا ما بقى من الربا؛ فما كسبوه قبل الخطاب بالتحريم فإنه في مرتبة العفو، أما ما يجيء من بعد ذلك ولو كان بعقد سابق فإنه حرام؛ ولذا خاطبهم سبحانه وتعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وفى ذلك نهى عن أخذ ما استحق بالعقود السابقة؛ وقد تأكد النهى بثلاثة مؤكدات:

أ. أولها: تصدير النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإن ذلك التصدير لبيان أن ترك الربا من شأن الإيمان ومقتضياته، فليس من خلق أهل الإيمان بالله ورسوله وكتابه وما اشتمل عليه من أخلاق سامية ومبادئ اجتماعية عالية، أن يأكلوا الربا وأن يتعاملوا به؛ لأنه ضد تهذيب النفس وسمو الروح؛ إذ هو شره مادى وكسب بغير الطريق الطبعي، ولأنه يقوض بنيان الاجتماع، ويجعل كل واحد من آحاده ينظر إلى الآخر نظر القنيصة التي يقتنصها والفريسة التي يفترسها، فتنقطع الأوصال، وينتثر العقد الجامع.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فهذا النص يفيد أن من مقتضيات التقوي اجتناب الربا؛ لأن التقوي معناها أن يجعل المؤمن بينه وبين الآثام وقاية، وأن يجعل بينه وبين غضب الله تعالى وقاية، وأن يجعل بينه وبين إيذاء الناس وقاية؛ والربا ضد هذا كله؛ لأنه يعرض المرء للمآثم؛ فإنه بمجرد أن يعجز المدين عن الوفاء ـ وذلك كثير ـ تتوالى المطالبة المصحوبة بالأذى والترصد المستمر حتى تصبح عيشة المدين ضنكا، وقد يبخع نفسه تخلصا من تلك المآثم المتوالية المستمرة.

ج. ثالثها: أنه سبحانه جعل ترك الربا شرطا للاستمرار على الإيمان، فقال في ختام الآية الكريمة: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم مستمرين على حكم الإيمان، مذعنين لأحكام الديان.

2. معنى كلمة (ذروا) اتركوا، وقد قال النحويون: إن ماضي (ذروا) ومصدرها قد أماتهما العرب كالشأن في دع ويدع، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: (يقال في ذلك فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به، ولم يستعمل ماضيه) وهذا الكلام يدل على أن الماضي قد مات، وعلى أن (يذر) لا تستعمل في مطلق الترك، بل تطلق على الترك الذي يصحبه عدم اعتداد بالمتروك، فكأن معنى ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ اتركوه غير معتدين به، بل اتركوه مهملين له؛ لأنه أذى في ذاته، والزمخشري يقرر ذلك في أساس البلاغة ولكنه يقرر أن المصدر هو الذي مات، وليس الماضي ولذا قال في أساس البلاغة: (ذره واحذره، والعرب أماتت المصدر منه، فيقولون: ذر تركا، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه)، وهذا معنى جديد أتى به الإمام الزمخشري في معنى ذره؛ لأنه يدل على ترك الشيء مع الحذر منه، فكأن معنى ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: اتركوه غير معتدين به حذرين من أن تنالوا منه شيئا فإنه إثم كله، وهذا البحث اللغوي يظهر لنا بعض ما في النص الكريم من دقة وإحكام وإشارات بينة محكمة.

3. سؤال وإشكال: ﴿مَا بَقِيَ﴾ الذي أوجب الله تركه في قوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ ما المراد منه: أهو الجزء الباقي من الربا الواجب التنفيذ بمقتضى العقد؟ وهل الجزء الذي تسلموه من قبل مباح أو في موضع العفو؟ والجواب: قال العلماء ذلك؛ أي أن الآية خاصة بالذين كانوا يتعاملون بالربا، ولهم عقود ربوية قد قبضوا بعضها، فإن لهم ما سلف؛ أما الباقي فليس لهم أن يقبضوه، وإن كان بعقود ربوية عقدت قبل التحريم، ويزكى هذا المعنى قوله تعالى من قبل: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة]، ولقد روى في سبب نزول هذه الآية أنه كان بين قوم من ثقيف، وبنى المغيرة من بنى مخزوم عقود ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام وحرم الربا ودخلت ثقيف في الإسلام طالبوا بنى مخروم بالربا الذي تعاقدوا عليه من قبل، فقال أولئك؛ لا نؤدى الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ف نزلت هذه الآية، وترى من هذا أن ما أخذ قبل التحريم فأمره إلى الله تعالى، وما كان بعد التحريم لا يحل، ولو كان العقد قبله؛ ولذلك كانت الأحكام الإسلامية واجبة التطبيق على العقود التي تعقد قبل الإسلام إذا كانت مستمرة التنفيذ بعده وأحكامها تشتمل على أمر منهى عنه في الإسلام.

4. هذا حكم الله، ومن امتنع عن تنفيذه فإنه يحاد الله ورسوله؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، أي فإن لم تفعلوا وأخذتم ما بقى من الربا فأنتم معاندون لله ولرسوله، وأنتم في حرب معهما، ومن حارب الله فإن الله غالبه، وهو مهزوم لا محالة، وإن الله سيعاقبه على عظيم ما ارتكب.

5. هنا عدة كلمات فيها إشارات بيانية تبين عظيم ما يتعرض له من يعاند الله ورسوله، ويخالف أحكامه التي يقررها الله تعالى لتنظيم المجتمع الإسلامي، وتبين أيضا عظيم عمل من يحترم أحكام الله تعالى:

أ. أول هذه الكلمات: إن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي لم تتركوا ما بقى من الربا؛ فعبر عن الترك هنا بالفعل، فلم يقل: فإن لم تتركوا، بل قال ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ وذلك لأن الذين يتركون ما بقى من عقود عقدوها، يقاومون رغباتهم ويقاومون أهواءهم وشهواتهم، فهذه المقاومة، وذلك الكف فعل نفسي جليل يحرّضهم سبحانه وتعالى عليه، ويدعوهم إليه، فإن فعلوه كان لهم الثواب المقيم والرضا الكريم، وإن لم يفعلوا فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله.

ب. الكلمة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى يقول للذين لا يتركون ما حرم الله من ربا ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾ أي فاعلموا بأنكم في حرب؛ وذلك لأن أذن هنا بمعنى علم، وفى قراءة (فآذنوا) بحرب، ويقول الزمخشري في هذه القراءة إن معناها (فأعلموا بها غيركم) وعلى ذلك يكون آذنوا بالحرب معناها الإعلام بها، وأما أذنوا بحرب فمعناها العلم بها؛ ولكن الراغب الأصفهاني يقول: (إن الإذن بالحرب والإيذان بها بمعنى واحد)، ولماذا عبر عن معاندتهم لله وحربهم لشريعته بقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾ ولم يقل فأنتم في حرب؟ للإشارة إلى أن الجهالة توهمهم أنهم ليسوا بخارجين عن إرادة الله تعالى إن طالبوا بأحكام العقود التي عقدوها من قبل، فالله سبحانه وتعالى أعلمهم بأنهم في أخطر مخالفة وأشد معاندة.

ج. الكلمة الثالثة: إنه تعالى قال في الحرب: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولم يقل في حرب الله ورسوله، وقد بين السر في ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: (كان هذا أبلغ؛ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله‏ ورسوله) أي أن في هذا التعبير الكريم تهويلا لشأن هذه الحرب من ناحيتين: ناحية التنكير، فهي حرب هائلة لم يدركوا كنهها، والناحية الثانية ناحية التصريح بإضافتها إلى الله ورسوله، فهي حرب معهما، والنتيجة في هذا مؤكدة محتومة.

6. سؤال وإشكال: هذه الحرب أهي مجازية، أم حقيقة؟ والجواب: يبدو بادى الرأي أنها مجازية من حيث إن كل معاندة لله ولرسوله عن عمد وبسبق إصرار، فيها معاندة لأحكامه سبحانه، ومصادمة لأوامره ونواهيه، وكل مصادمة لأوامر الله تعالى ونواهيه نوع من الحرب والمحادة له سبحانه، لكن بعض المفسرين يقول: إن ذلك كان إيذانا فعلا بالحرب؛ كما أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عندما بلغه صنيع ثقيف من مطالبتهم بربا كان ثمرة لعقود عقدوها من قبل، قد آذنهم بحرب، وكتب إلى عتاب بن أسيد والى مكة من قبله يقول له: (إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب) أي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم اعتبرهم مرتدين يقاتلون باستمرارهم على أكل الربا؛ وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم عندما صالح ثقيفا بعد حرب كان مما نص عليه في هذا الصلح أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا موضوع، وما أجدر بعض الذين يتكلمون في هذا اليوم مستحلين الفوائد على أنها ليست من الربا أن يعتبروا ببنى ثقيف وبنى مخروم! فإن أولئك كانوا يأخذون من الثقفيين ليتجروا، وليربوا، فوضع الله الربا الجاهلي كله، واعتبر المطالبة بما بقى حربا لله ولرسوله.. ألا فليمتنع هؤلاء عن قولهم حتى لا يخاطبوا بقول الله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

7. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ‏﴾ أي أن من يقع في الربا وأراد أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، فليعلم أنه ليس له أن يأخذ بعد تحريم الربا إلا رأس المال، وإن الاقتصار على رأس المال لا يكون فيه ظلم للدائن؛ لأنه‏ وصل إليه مثل ما أعطى وليس له وراء ذلك حق، ولا ظلم فيه على المدين؛ لأن أداء الحق لا ظلم فيه، وإن امتنع عن إعطاء رأس المال كان ظالما؛ ما دام يمتنع عن قدرة؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (مطل الغنى ظلم)

8. فى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ‏﴾ إشارة إلى أمرين:

أ. أحدهما: أن من يعطى الربا ليس له إلا رأس المال، وأن الزيادة أكل لمال الناس بالباطل أيا كانت هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة، فلا عبرة بالمقدار مهما يكن ضئيلا، ولا عبرة بالدين أيا كان نوعه، والتعبير عن أصل الدين برأس المال نص في أن الربا يكون إذا كان الدين قد اتخذ أصلا للاتجار والكسب؛ أي أن الدين الذي يؤخذ للاستغلال الربا فيه حرام، وب الأولى الدين الذي يؤخذ للاستهلاك واختيار ذلك اللفظ بالذات يومئ إلى أن الربا كان يتخذ سبيلا للاستغلال، والتعبير ب (رأس) أيضا يحسم الخلاف؛ لأنه لو عبر بالدين فربما يدعى الربوى أن الدين هو الأصل والزيادة معا.

ب. ثانيهما: الذي يدل عليه النص الكريم: أن طريق التوبة دائما أن ينقى التائب ماله من كل مال خبيث، فكل زيادة عليه ترد إلى أصحابها، وإلا يتصدق بها.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1056.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتهم‏ ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ حقا في قلوبكم، وقوله: ذروا ما بقي من الربا يشعر بأن التحريم ليس له مفعول رجعي، كما أشرنا.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ولا موجب لإعلان الحرب من الله ورسوله على من أصر على أكل الربا الا انه كافر، أو بحكم الكافر، حتى ولو أكله تهاونا لا جحودا.. ولكن الروايات عن المعصوم قسمت أكل الربا الى نوعين:

أ. الأول من يأكله مستحلا له، وهذا كافر من غير شك، لأنه قد أنكر ما ثبت بضرورة الدين، قبل للإمام جعفر الصادق عليه السلام: ان فلانا يأكل الربا ويسميه اللبأ، قال لئن أمكنني الله منه لأضربن عنقه، النوع.

ب. الثاني: ان يأكله تهاونا بحكم الله، مع الايمان بتحريمه، وهذا يستتاب أولا وثانيا فان أصر يقتل، فعن الإمام الصادق عليه السلام: (آكل الربا يؤدب بعد البينة، فان عاد أدب، فان عاد قتل)، وقيل: يقتل في الرابعة.

3. ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾، أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/438.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، وهو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية، وهذا يؤيد ما ورد من الرواية في سبب نزول الآية.

2. في تقييد الكلام بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان، وتأكيد لما تقدم من قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾.. وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾

3. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، الإذن كالعلم وزنا ومعنى، وقرئ فآذنوا بالأمر من الإيذان، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه، والمعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله، وتنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ، ولو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، وأما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾

4. الحرب من الله ورسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه وهو محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، وهي التي تقطع أنفاسهم، وتخرب ديارهم، وتعفي آثارهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾

5. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾، كلمة ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه، وقوله: ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ﴾ أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى رؤوس أموالكم، وفي الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا: وعلى كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: وعلى إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله ﴿رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ﴾ والمال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب ثالثا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/423.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ذَرْوًا﴾ اتركوا ما بقي من الربا عند صاحب الدين الذي ضوعف عليه فما بقي من التضعيف لا حق للمقرض فيه؛ وإنما عفي له ما أكل في الجاهلية لا ما بقي ولم يأكله، وفي معنى هذه الآية يقول المرتضى عليه السلام: الربا الذي نهى الله عنه وحرمه: هو ما قد عرف من هذه المعاملات والزيادات في الإسلام والديون والمشارات، فلما أن حرم الله ذلك وحظره كانت بقايا للمسلمين من تلك الأسلاف والديون والمباعات قد بقيت من ديونهم وتخلفت عن غرمائهم، فكانوا يظنون أنه ليس عليهم إثم في اقتضاء ما بقي منها، وأجروا آخرها كمجرى أولها؛ فنهاهم الله عن ذلك وغفر لهم ما قد سلف من قبل التحريم وحظر عليهم ما بقي لهم، فأمرهم بتركه ومنعهم من أخذه واقتضائه وهو بقية الربا، ثم قال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ يريد القتل والقتال حتى يفيئوا إلى أمر الله ويرجعوا إلى حكمه، وحكم عليهم بالقتل بعد إذ سماهم مؤمنين إن لم ينتهوا عن أخذ الربا والميل إلى الهوى، وأوجب عليهم في ذلك أعظم بلاء فهذا معناها ومجراها)، وتسميته ديناً لهم بقي لهم؛ مجاراة لهم في التعبير، ولا شيء لهم بعد تحريم الله له في الآيات السابقة.

2. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من الربا ﴿فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ﴾ فما بقي من رؤوس الأموال فلهم أخذه ﴿لَا تُظْلَمُونَ﴾ بأخذ الربا ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بمنع رؤوس أموالكم كاملة غير منقوصة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/404.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وفي هذه الآية يتصاعد الجوّ الضاغط على موقف الإنسان المؤمن عندما يقع تحت تأثير الأوضاع الاقتصادية المحيطة به في المجتمع المنحرف، فينسى إيمانه ويبدأ في الإلحاح بالمطالبة فيما له على المدينين له من زيادة ربويّة، إن الآية تريد أن توحي للإنسان أن الموقف يتلخص في كلمة واحدة، هي أن تكون مؤمنا أو لا تكون، في موضوع المطالبة بالربا فيما بقي له منه، وقد روي: أنه لما أنزل الله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله، ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ الآية، وروى قريبا منه في مجمع البيان عن الباقر عليه السّلام، وجاء في مجمع البيان عن السدّي وعكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: على أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل‏.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لأن الله سبحانه يريد للقضايا المتعلقة بمصلحة الناس العليا وبالتالي بسلامة المجتمع في نطاق المدلول الأخلاقي والعملي لعلاقات أفراده المادية والإنسانية، أن تكون موضوعا حاسما لا يتهاون الإنسان فيه ولا يتسامح، لأن الانحراف لا يمس الفرد، بل يشكل خطرا على السلامة العامة للناس، ولهذا، فإن الإنسان الذي يسيء إلى التنظيم الاجتماعي للحياة، لا بد له من أن يواجه الدخول في حرب شديدة من الله ورسوله، الأمر الذي ينذره، وهو الإنسان الذي لا حول له ولا قوة، بالهول والرعب والشعور بالانسحاق أمام القوة العظيمة الهائلة التي لا حدّ لها، والتي هي منبع كل قوّة، إن الآية تثير في الإنسان المنحرف مشاعر الهلع والفرق الكبير، كما لو أنه واقف تحت جبل عظيم شامخ يكاد يطبق عليه من جميع الجهات، حيث لا مجال له للهروب أو الاختباء، لأنه يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.. إنه الرعب والهول الذي لا يبلغ مداه التصور، فكيف‏ يتماسك الإنسان أمامه؟

3. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ‏﴾، ويعود الأسلوب الرحيم الذي يثير أمام الإنسان خط التراجع في الحلّ المتوازن، فهناك المجال الواسع للتوبة التي لا يريد الله فيها للإنسان أن يخسر ماله ويفقده جزاء على ما فعله من المعصية، بل يريد له أن لا يظلم الناس، وإذا كانت القضية قد انطلقت من قاعدة رفض الظلم ضد المدين، فلا يمكن لله أن يقبل وقوع الظلم على الدائن من قبل المدين بأن يسلطه على رأس المال الذي دفعه إليه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/147.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في تفسير علي بن إبراهيم‏ أنّه بعد نزول آيات الربا جاء (خالد بن الوليد) إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلّم دينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد، فهل يجوز لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهيا شديدا، وفي رواية أخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ألا كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب)، يتضح من هذا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلا، وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العبّاس ممّن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهليّة، فقد ألغى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أوّلا ـ ربا هؤلاء، وجاء في الروايات أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآيات امر أمير مكّة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم‏.

2. في الآية الأولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية، يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله، ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

3. تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلّا أن يتوسّل بالقوّة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهي الحرب التي تنطلق من قانون: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾، لذلك عندما سمع الإمام الصادق عليه السّلام أنّ مرابيا يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزئ بحرمته هدّده بالقتل.

4. يستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا، ﴿فَأْذَنُوا﴾ من مادة (اذن) وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله‏: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يعني أعلموا أنّ الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه (اسمحوا بإعلان الحرب من الله)، عن أبي بكير قال بلغ أبا عبد الله الصادق عليه السّلام عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبأ، فقال: لئن أمكنني الله منه لأضربنّ عنقه‏، يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام، وعلى كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا.

5. ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ‏﴾، أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط (بغير ربح)، وهذا قانون عادل تماما لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

6. إنّ تعبير ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم، وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضا، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم، فقبل أن نقول الظالم: لا تظلم، علينا أن نقول المظلوم: لا تستسلم للظلم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/345.

139. الربا والتصدق والتقوى والنظرة إلى ميسرة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈139⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280 ـ 281]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ في الربا والدين، في كل ذلك(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦١.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ نزلت في الدين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾، يعني: المطلوب(2).

3. روي أنّه قال: آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا(3).

4. روي أنّه قال: آخر آية نزلت: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، نزلت بمنى، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أحد وثمانون يوما(4).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦٢.

(2) ابن جرير: ٥/٦٠.

(3) البخاري: ٦/٣٣.

(4) البيهقي في الدلائل: ٧/١٣٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، يعني: من تصدق بدين له على معدم فهو أعظم لأجره، ومن لم يتصدق عليه لم يأثم، ومن حبس معسرا في السجن فهو آثم؛ لقوله: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، ومن كان عنده ما يستطيع أن يؤدي عن دينه فلم يفعل كتب ظالما(1).

2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ يعني: ما عملت من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني: من أعمالهم، لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم(2).

3. روي أنّه قال: آخر ما نزل من القرآن كله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية، وعاش النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٣.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٤.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٤، وفي تفسير الثعلبي: ٢/٢٩٠.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، والنظرة واجبة، وخير الله الصدقة على النظرة، والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ من رؤوس أموالكم، يعني: على المعسر: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من نظرة إلى ميسرة، فاختار الله الصدقة على النظارة(1).

3. روي أنّه قال: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وكذلك كل دين على المسلم، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه، وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦٥.

(2) ابن جرير: ٥/٦١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ يؤخره ولا يزد عليه، وكان إذا حل دين بعضهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه، وأخره(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦٠.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، أي: خير لكم في يوم ترجعون فيه إلى الله، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ فنظرة إلى ميسرة برأس ماله(1).

2. روي أنّه قال: إن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده، وأخر عنه(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٥٩.

(2) ابن جرير: ٥/٣٨.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي أنّ أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم، فخرج صبي، فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا، فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي قال آلله، إنك معسر؟ قال نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من نفس عن غريمه، أو محا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة)(1).

__________

(1) أحمد: ٣٧/٢٥١.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ يؤخره، ولا يزد عليه بشيء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ﴾ برأس المال: ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ إلى غنى(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٢.

(2) ابن جرير: ٥/٥٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر معسرا، أو ليدع له من حقه(1).

2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في يوم حار: من سره أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر غريما أو ليدع لمعسر(2).

3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة، بمثل ما له عليه، حتى يستوفي حقه (2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه معسر، فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم)(3).

5. روي أنّه سئل: ما للرجل أن يبلغ من غريمه؟ قال: (لا يبلغ به شيئا الله أنظره)(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/153.

(2) تفسير العيّاشي: 1/154.

(3) الكافي: 4/35.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: لا يحبس الحر ولا العبد في الدين، ولكن يستبرئ أمره، فإن اتهم أنه خبأ مالا أو غيبه حبسه، وإن لم يجد له شيئا ولم يخبئ شيئا لم يحبسه، وخلى سبيله، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، إلا أن يحبسه قدر ما يتلوم من اختباره ومعرفة ماله، وعليه أن يأخذ عليه حميلا(1).

__________

(1) المدونة: ٤/٥٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من النظرة ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٦٤.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه قيل له: جعلت فداك، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، فأخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله، لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لا بد له من أن ينتظر، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفق على عياله، وليس له غلة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محله، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: (ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله، فإن كان أنفقه في معصية الله فلا شيء له على الإمام)، قيل: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه، وهو لا يعلم فيم أنفقه في طاعة الله أو في معصية؟ قال (يسعى له في ماله فيرده وهو صاغر)(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/155.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ عن ابن عباس‏: ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ قال: هو المطلوب، وهو في الربا، وفيه دلالة جواز التقلب في البيع الفاسد؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة من عليه المال، فلو كان له حق أخذه حيثما وجده بعد ما تناسخت الأيدي، أو كان له حق تضمين من هو أغنى لم يكن لإنظار المعسر إلى وقت الميسرة معنى، ولكن يحتاج إلى تضمين أيسرهم وأغناهم إذا كان يقدر، فله خصومته، وإذا كان شرط سقطت الخصومة، كما تقول في الذي يكفل عن معسر أو عمن أجل، ثم النظرة بالاختيار ممن له الحق، لا أنه يكون هكذا شاء هو أو أبى، دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لصاحب الحق اليد واللسان)، أما اللسان فيتقاضاه، وأما اليد فيلازمه بها ويحبسه، ولكنه إذا أجل قطع على نفسه حق اللسان واليد إلى أن يمضى ذلك الوقت، فإذا مضى ذلك الوقت ثبت له حق اللسان واليد.

2. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعنى برؤوس الأموال إذا ظهر إعساره، وعن الضحاك‏ أنّه قال في قوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ قال أخذ رأس المال حسن، وتركه أحسن، وإنما الصدقة على المعسر، فأما على الموسر فلا، وفيه دليل جواز صدقة الدين وهبته ممن عليه دين، وهو الأخير له إذا ظهر إعساره وفقره.

3. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قال عامة أهل التأويل: إن هذه الآية آخر ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكذلك روى عن ابن عباس‏، فإن كان ما ذكروا فهو أنه عزّ وجل رغبهم في ذكر ذلك اليوم؛ لما في ترك ذكره بطول الأمل، وطول الأمل يورث الحرص، والحرص يورث البخل ويشغله عن إقامة العبادات والطاعات، فإذا كان كذلك فأحق ما يختم القرآن به هذا؛ لئلا يتركوا ذكر ذلك اليوم فيسقطوا عن منزلته الثواب والجزاء، ويصير كأنه قال اتقوا وعيده تعالى في جميع ما يعدكم وما ألزمكم من الحق.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/273.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ ويقرأ: فإن كان ذا عسرة، وكلا الوجهين جائز في العربية ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ والإنظار بالدين واجب في الربا كان أو في غيره عند الإعسار إلى ميسرة مفعلة من اليسر ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي على المعسر خير لكم إن تصدقتم عليه بالدين من أن تنظروه.

2. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ يعني إلى جزاء الله وملكه ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي جزاء ما كسبت من الأعمال ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في محاسبتهم على أعمالهم فهم لا ينقصون ما يستحقون من الثواب ولا يزدادون على ما يستحقون من العقاب، روينا عن أمير المؤمنين أن هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/129.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾ قيل إن في قراءة أبيّ ذا عسرة وهو جائز في العربية، وفيه قولان:

أ. أحدهما: أن الإنظار بالعسرة واجب في دين الربا خاصّة، قاله ابن عباس، وشريح.

ب. الثاني: أنه عام يجب إنظاره بالعسرة في كل دين، لظاهر الآية، وهو قول‏ عطاء، والضحاك، وقيل إن الإنظار بالعسرة في دين الربا بالنص، وفي غيره من الديون بالقياس.

2. في قوله تعالى: ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: مفعلة من اليسر، وهو أن يوسر، وهو قول الأكثرين.

ب. الثاني: إلى الموت، قاله إبراهيم النخعي.

3. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يعني وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين خير لكم من أن تنظروه، روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، فدعوا الربا والرّبية، وإن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبض قبل أن يفسرها.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ أي اتقوا بالطاعة فيما أمرتم به من ترك الربا وما بقي منه.

5. في قوله تعالى: ﴿يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني إلى جزاء الله.

ب. الثاني: إلى ملك الله.

6. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: جزاء ما كسبت من الأعمال.

ب. الثاني: ما كسبت من الثواب والعقاب.

7. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني بنقصان ما يستحقونه من الثواب، ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب.

8. روى ابن عباس أن آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ هذه الآية، قال ابن عباس: مكث بعدها سبع ليال.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/354.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ أي من غرمائكم إن كان معسراً، وارتفع ذو عسرة لأحد وجهين:

أ. أحدهما: حذف الخبر، وتقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم.

ب. الثاني: أن تكون كان التامة المكتفية باسمها وتقديره وإن وقع ذو عسرة أو وجد ذو عسرة وكان يجوز وإن كان ذا عسرة على تقدير وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة، وروي ذلك في قراءة أبي.

2. ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ معناه فعليكم نظرة، وهل الانظار واجب في كل دين أو في دين الربا فقط، قيل فيه ثلاثة أقوال:

أ. أولها: قال شريح، وإبراهيم في دين الربا خاصة.

ب. الثاني: قال ابن عباس، والضحاك، والحسن: في كل دين، وهو قول أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.

ج. الثالث: بالآية يجب في دين الربا وبالقياس في كل دين، واستدل على أنه يجب في كل دين بأنه لا يخلو أن يجب في ذمته أو في رقبته أو عين ماله، فلو كان في رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه، ولو كان في عين ما له كان إذا هلك بطل وجوبه فصح أنه في ذمته، ولا سبيل له عليه في غير ذلك من حبس أو نحوه.

3. قرأ نافع (ميسرة) ـ بضم السين ـ الباقون بفتحها، وهما لغتان: ومعناه إلى أن يوسع عليه، وقال أبو جعفر عليه السلام: إلى أن يبلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في معروف.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: معناه على المعسر بما عليه من الدين خير لكم.

ب. وقيل: إن معناه وإن تصدقوا بجميع المال على الفقراء، والاول أليق بما تقدم.

5. روي عن ابن عباس، وعمر أن آخر ما نزل من القرآن آي الربا.

6. روي عن مجاهد (ميسره) بالهاء في الوصل مضافاً إلى الهاء، ولم يجز ذلك البصريون لأنه ليس في الكلام مفعله.

7. اختلف في الإعسار الذي يجب فيه الأنظار:

أ. قال الجبائي: التعذر بالإعدام أو بكساد المتاع ونحوه.

ب. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام هو إذا لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوة عياله على الاقتصاد.

8. وروي عن عطا (فناظرة) وهو شاذ، وهو مصدر نحو قوله: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ و﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ وكذلك العاقبة والعافية.

9. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قرأ أبو عمرو، وحده (ترجعون) بفتح التاء الباقون بضمها، قال ابن عباس وعطية والسدي: هذه الآية آخر ما نزلت من القرآن، وقال جبريل عليه السلام ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

10. قيل في معنى ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ترجعون فيه إلى جزاء الله.

ب. الثاني: ترجعون فيه إلى ملك الله‏ لنفعكم وضركم دون غيره ممن كان ملكه إياه في دار الدنيا.

11. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: توفى جزاء ما كسبت من الاعمال.

ب. الثاني: توفى بما كسبت من الثواب أو العقاب، لأن الكسب على وجهين: كسب العبد لفعله وكسبه لما ليس من فعله ككسبه المال.

12. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ معناه لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزداد عليهم فيما يستحقونه من العقاب.

13. الآية تدل على أن الجزاء لا يكون إلا على الكسب لأنه لو كان خاصاً لجرى مجرى توفى كل نفس ما قالت وليس مفهومه كذلك لأنه عام فيما يجازي به العبد.

14. موضع‏ ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ نصب بانه عطف على صفة يوماً إلا أنه حذف منه فيه لدلالة الأول عليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/369.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. العسرة والإعسار هو: ضيق ذات اليد.

ب. نظرة وناظرة مصدر وهو: الإمهال والانتظار.

ج. الميسرة واليسار: الغنى، وهو كثرة المال أُخِذَ من اليسر؛ لأنه يتيسر عليه التصرف وقضاء الحوائج.

د. توفيت الشيء واستوفيته: أخذته كاملاً.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. قيل: لما نزلت الآية التي قبلها قالت بنو عمرو المربون: بل نتوب، ورضوا برأس المال فشكا بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن ندرك الغلات فأبوا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

ب. وقيل: آخر آية من القرآن نزل ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾

ج. وقيل: آخر ما نزل آي الربا، عن عمر وابن عباس.

د. قيل: قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ آخر آية نزلت من القرآن، عن ابن عباس وعطية والسدي وجبريل، وضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة، قال ابن عباس: لما نزلت سورة الفتح كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يبكي ويقول: أما إن نفسي نعيت إليَّ، وعاش بعدها سنة، ثم نزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخر السورة، وهذه السورة آخر سورة نزلت من القرآن فعاش بعدها ستة أشهر، ثم خرج بحجة الوداع، فنزلت في الطريق ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ فعاش بعدها واحدًا، وثمانين يومًا، ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ وهي آخر آية نزلت من السماء، فعاش بعدها واحدا وعشرين يومًا، وقيل: سبع ليال، ثم توفي يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زالت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقيل: لتسع ليال، عن ابن جريج.

3. لما أمر الله تعالى بأخذ رأس المال من الموسر بين حال المعسر، فقال تعالى: ﴿وإنْ كَانَ ذُوعُسْرَةٍ﴾:

أ. قيل: يعني إن كان مَنْ عليه الحق معسرًا على هذا أكثر العلماء فعليكم إنظاره وإمهاله إلى ميسرة أي وقت يساره. وغناه.

ب. وقيل: الإنظار يجب عقيب الربا خاصة عن شريح وإبراهيم.

ج. وقيل: في كل دَين، عن ابن عباس والحسن والضحاك.

د. وقيل: الآية في دَين الربا، وبالقياس في كل دَين.

4. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ يعني على المعسر بما عليه من الدين؛ إذ لا يصح التصدق به على غيره ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: أي أنفع لكم لما فيه من الحمد عاجلاً، والثواب آجلاً.

ب. وقيل: خير لكم من أخذه كاملاً لما يحصل من الثواب.

ج. وقيل: خير لكم من الإنظار.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: فاعلموا ذلك، عن أبي علي.

ب. وقيل: إن كنتم تعلمون فإنما يعلم ما رغبه تعالى فيه من يعلم ويعقل، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: إن كنتم تعلمون أن ثواب اللَّه خير من أخذ هذا المال.

د. وقيل: إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض.

هـ. وقيل: إن كنتم تعلمون أنما يأمركم به ربكم أصلح لكم، وخير مما تدعو إليه أنفسكم.

6. ثم حذر تعالى تعدي حدوده فيما تقدم، فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾:

أ. قيل: اتقوا بالطاعة فيما أمركم بها شر ذلك اليوم، عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: اتقوا أن توافوا ذلك اليوم وقد خالفتم أمر اللَّه، عن الأصم.

7. ﴿يَوْمًا﴾ يعني يوم القيامة، يعني عذاب يوم القيامة ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾:

أ. قيل: إلى جزائه وثوابه.

ب. وقيل: إلى ملك اللَّه لنفعكم وضركم دون غيره من أهل الدنيا فإنه تعالى قد ملكهم أشياء.

ج. وقيل: إلى الموضع الذي لا حاكم سواه، كقولهم: رفع أمرنا إلى الأمير، عن أبي علي.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾:

أ. قيل: أي يوفى عليه جزاء ما كسب من الأعمال.

ب. وقيل: يوفى ما كسب من الثواب والعقاب؛ لأنه الذي أوجبه لنفسه فجاز أن يوصف بأنه كسبه.

9. ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ قيل: ما عملت من خير أو شر ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقصان ما يستحقونه من العقاب.

10. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب إنظار المعسر، وقد بينا اختلافهم أنه في دَين الربا أو في جميع الديون، والصحيح أنه في جميع الديون.

ب. أنه إذا علم الإعسار لا يجوز الحبس.

ج. أنه لا يلازمه كما لا يحبسه.

د. إنظار وتصدق، ففي حال اليسار هو مخير إن شاء قبض، وإن شاء أنظر، وإن شاء تصدق، وإذا ظهر الإعسار يجب الإنظار، والتصدق مستحب وليس بواجب.

هـ. أن إنظار الواجد لا يجب لذلك شرط العسرة، والعسرة تكون بشيئين للفقر والثاني لتعذر بيع سلعة، ولا يأخذه الغريم، وقد اختلفوا في ظهور العسرة فقيل: إذا قال: أنا معسر لا يحبس حتى يظهر يساره، وهو قول الحسن، ومنهم من قال: يحبس ثم يسأل عنه، فإن ظهر إعساره خلي عنه، وهو قول أهل العراق.

و. بطلان قول من يقول: يؤاجر الغريم المعسر؛ لأنه لو وجب ذلك ما وجب الإنظار.

ز. بطلان مذهب الجبر من وجوه:

منها: أنه أسقط الطلب عن المعسر في الدَّين لعدم ذلك فبأن يسقط التكليف عنه وهو غير قادر ولا متمكن أولى.

ومنها: أن عندهم مع اليسار إذا لم يَخْلُقْ فيه الدفع وقدرة الدفع يسقط، فحاله عند اليسار كحاله عند الإعسار، فكيف يفصل تعالى بين الحالتين في الغرماء؟.

ومنها: أنه أمر بإنظار المعسر بترك التشدد. والحبس؛ لأجل التعذر فكيف يطلب مَنْ لا يقدر على الإيمان ولا يمكنه منه، بل خلق فيه ضده، ثم إذا لم يحصل يعاقبه بنار الأبد؟.!.

ح. يدل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أنه يوفي كل نفس جزاء ما كسبت من خير أو شر، وذلك يبطل قول المرجئة، وفيه ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد.

ط. أنه تعالى لا يظلم أحدًا، ولا ظلم أعظم من أن يعذب بغير ذنب أو بذنب غيره، أو يخلق فيه المعاصي، ثم يعذبه عليها، ولا يمكنه من الإيمان، ثم يعاقبه عليه، على ما تزعم الْمُجْبِرَة، فوجب أن ننفي ذلك.

11. قراءات وحجج:

أ. قرأ أبو جعفر ﴿ذُو عُسْرَةٍ﴾ بضم السين، والباقون بسكونها وهما لغتان.

ب. قرأ نافع ﴿مَيْسَرَةٍ﴾ والباقون بفتحها، وهو مصدر أيسر إيسارًا وميسرة: إذا كثر ماله، وقرأ يعقوب بضم السين وكسر الهاء مشبعة.

ج. قرأ عاصم ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها، والأصل أن فيه تاءين تتصدقوا فمن حذف إحدى التاءين تخفيفًا، ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى.

د. في الآية روايات شاذة لا يجوز القراءة بها وإن جاز في العربية، فروي عن ابن مسعود وابن عباس (ذا عسرة) على تقدير أن كان الغريم ذا عسرة، وروي أنها كذلك في قراءة أبي بن كعب، وعن أبان بن عثمان: (فمن كان ذا عسرة)، وعن الأعمش: (وإن كان معسرا)، وعن الحسن وقتادة ﴿فَنَاظِرَةٌ﴾ أي منتظرة، وعن عطاء ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ ساكنة الظاء، وعن مجاهد (مَيسُرِهِ) بالهاء نحو ما حكيناه عن يعقوب، قال علي بن عيسى: وذلك غير جائز؛ لأنه ليس في الكلام مِفْعُل، وعن ابن مسعود: (فناظرة إلى ميسورة) كلها لغات معناها اليسار، والأولى أنهم فسروا الآية.

هـ. قرأ أبو عمرو ويعقوب ﴿تُرْجَعُونَ﴾ بفتح التاء أي تصيرون، أضاف الفعل إليهم، وقرأ الباقون بضم التاء يعني تردون على ما لم يسم فاعله.

12. مسائل نحوية:

أ. المحذوف من ﴿ذُوعُسْرَةٍ﴾ تقديره: وإن كان ذو عسرة من غرمائكم.

ب. رفع ﴿ذُو﴾ لوجهين:

أحدهما: على حذف الخبر، تقديره: وإن كان ذو عسرة، غريماً لكم.

الثاني: على كان المكتفية باسمها على تقدير: وإن وقع ذو عسرة، أو وجد ذو عسرة، ويجوز فتحه في العربية على تقدير: إن كان المطلوب ذا عسرة فيكون اسم ﴿كَانَ﴾

ج. المحذوف من ﴿فَنَظِرَةٌ﴾: فعليكم بنظرة، وأن تصدقوا على المعسر بما عليه.

د. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ قيل: بمنزلة المصدر كقوله: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ إلا أنّ ﴿أَنْ﴾ وما بعدها بمنزلة اسم، وتقديره: والتصدق خير لكم.

هـ. نصب ﴿يَوْمًا﴾ على الظرف، وتقديره: عذاب يوم، فلما حذف ذلك وصل الفعل إليه، فنصبه وَنَوَّنَهُ ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ موضعه نصب عطفًا على صفة ﴿يَوْمًا﴾؛ لأنه دخل عليه فيه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه، وتقديره: وتوفى كل نفس فيه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/137.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النظرة: التأخير، وهو اسم قام مقام الانظار مثل أخرة يقال: بعته بأخرة، وبنظرة أي: بنسيئة، ورأيت فلانا بأخرة الناس أي: قي آخرهم.

ب. الميسرة والميسور بمعنى اليسار والغنى والسعة، وما روي من قراءة من قرأ (إلى ميسره) فلم يجزه البصريون، لأن مفعل لا يجئ في الآحاد إلا بالتاء، وقد جاء في الجمع، قال جميل:

بثين الزمي، لا إن لا إن لزمته... على كثرة الواشين أي معون

وروي:

أبلغ النعمان عني مألكا... أنه قد طال حبسي، وانتظاري

والأول جمع معونة.

2. لما أمر سبحانه بأخذ رأس المال من الموسر، بين بعده حال المعسر، فقال: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ معناه: وإن وقع في غرمائكم ذو عسرة، ويجوز أن يكون تقديره: وإن كان غريما لكم ذو عسرة.

3. ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ أي: فالذي تعاملونه به نظرة ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي: إلى وقت اليسار أي: فالواجب نظرة صيغته الخبر، والمراد به الأمر أي: فأنظروه إلى وقت يساره، وقال الباقر عليه السلام: إلى ميسرة معناه: إلى أن يبلغ خبره الإمام، فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.

4. اختلف في حد الإعسار:

أ. فروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الإقتصاد.

ب. وقال أبو علي الجبائي: هو التعذر بالإعدام، أو بكساد المتاع أو نحوه.

5. اختلف في وجوب إنظار المعسر على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إنه واجب في كل دين، عن ابن عباس والضحاك والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله.

ب. وثانيها: إنه واجب في دين الربا خاصة، عن شريح وإبراهيم النخعي.

ج. وثالثها: إنه واجب في دين الربا بالآية، وفي كل دين بالقياس عليه.

6. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ معناه: وأن تتصدقوا على المعسر بما عليه من الذين خير لكم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير من الشر، وتميزون ما لكم عما عليكم.

7. مما جاء في معنى الآية من الحديث قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: من أنظر معسرا، أو وضع عنه، أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وروى بريدة عنه أنه قال: من أنظر معسرا، كان له بكل يوم صدقة.

8. في هذه الآية دلالة على أن الانسان إن علم أن غريمه معسر، حرم عليه حبسه، وملازمته، ومطالبته بما له عليه وانه يجب عليه إنظاره، انتظارا لليسارة، وأن الصدقة برأس المال على المعسر، خير وأفضل من انتظار يسره.

9. روي عن ابن عباس، وابن عمر: آخر ما نزلت من القرآن آي الربا.

10. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾:

أ. قيل: هذا آخر آية نزلت من القرآن، وقال جبرائيل: ضعها في رأس الثمانين والمأتين من البقرة، عن ابن عباس والسدي.

ب. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ليتني أعلم متى يكون ذلك! فأنزل الله تعالى سورة النصر: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يسكت بين التكبير والقراءة بعد نزول هذه السورة، فيقول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقيل له: إنك لم تكن تقوله قبل هذا!؟ فقال: أما إن نفسي نعيت إلي، ثم بكى بكاء شديدا، فقيل: يا رسول الله! أو تبكي من الموت وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: فأين هول المطلع؟ وأين ضيق القبر وظلمة اللحد؟ وأين القيامة والأهوال؟ فعاش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه السورة عاما تاما، ثم نزلت ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾ إلى آخر السورة، وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت من القرآن، فعاش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها ستة أشهر، ثم لما خرج رسول الله إلى حجة الوداع، نزلت عليه في الطريق ﴿يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم﴾ إلى آخرها، فسميت آية الصيف، ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ الآية، فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما، ثم نزلت عليه آيات الربا ثم نزلت بعدها ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ وهي آخر آية نزلت من السماء، فعاش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما، وقال ابن جريج: تسع ليال، وقال سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، حين بزغت الشمس، وروى أصحابنا لليلتين بقيتا من صفر، سنة إحدى عشرة من الهجرة، ولسنة واحدة من ملك أردشير بن شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، بنفسي هو صلّى الله عليه وآله وسلم حيا وميتا.

11. ثم حذر سبحانه المكلفين من بعد ما تقدم من ذكر آي الحدود والأحكام، فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ معناه: واحذروا يوما، واخشوا يوما ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ تردون جميعا إلى جزاء الله، ويقال إلى ملك الله لنفعكم وضركم دون غيره ممن ملكه إياه في دار الدنيا، وهو المراد بكل ما في القرآن من هذا اللفظ، لأن الله سبحانه لا يغيب عن أحد، ولا يغيب أحد عن علمه وملكه وسلطانه، ويدل عليه قوله: ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾، ﴿وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾، وإنما خص يوم القيامة بهذه الصفة، لأن الناس إذا حشروا انقطع أمرهم، وبطل ملكهم، ولا يبقى لواحد منهم أمر ولا نهي، كما قال سبحانه: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾

12. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: توفى جزاء ما كسبت من الأعمال.

ب. والثاني: توفى ما كسبت من الثواب والعقاب، لأن الكسب على وجهين: كسب العبد لفعله، وكسبه لما ليس من فعله، كما يكسب المال.

13. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ معناه: لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب، ولا يزاد عليهم ما يستحقونه من العقاب.

14. قراءات وحجج:

أ. قرأ أبو جعفر ﴿عُسْرَةٍ﴾ بضم السين، والباقون ﴿عُسْرَةٍ﴾ بإسكانها، وهما لغتان.

ب. قرأ زيد عن يعقوب ﴿مَيْسَرَةٍ﴾ بضم السين، مضافا إلى الهاء، وروى ذلك عن مجاهد.

ج. قرأ عاصم ﴿تَصَدَّقُوا﴾ بتخفيف الصاد، والباقون بتشديدها، وقد تقدم الكلام في مثله، فإن الأصل في القراءتين (تتصدقوا) فخفف في إحداهما بحذف إحدى التاءين، وفي الأخرى بالإدغام.

د. قرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء في قوله تعالى: ﴿تُرْجَعُونَ﴾، والباقون بضمها، حجة أبي عمرو قوله: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾، فأضاف المصدر إلى الفاعل، فهذا بمنزلة ترجعون، وآب: مثل رجع، ومن حجته قوله: (وإنا إليه راجعون) فإلينا مرجعهم.

15. مسائل نحوية:

أ. ﴿كَانَ﴾: هذه هي التامة، وهي التي تتم بفاعلها، ويكتفى به، وتقديره: وإن وقع ذو عسرة، وقيل: هي ناقصة محذوفة الخبر، وتقديره: وإن كان ذو عسرة غريما لكم، وكان يجوز لو قرئ وإن كان ذا عسرة أي: وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة، وروي ذلك في الشواذ عن أبي.

ب. فنظرة: مرفوعة لأنها خبر مبتدأ محذوف، والفاء فيه للجزاء وتقديره: فالذي تعاملونه به نظرة.

ج. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾: في موضع رفع بأنه مبتدأ وخبره ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾

د. ﴿يَوْمًا﴾: منصوب، لأنه مفعول به، ولا ينتصب على الظرف، لأنه ليس المعنى اتقوا في هذا اليوم.

هـ. ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾: جملة في موضع نصب بكونه صفة لقوله ﴿يَوْمًا﴾

و. ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾: في موضع نصب بأنه عطف على صفة ﴿يَوْمَ﴾، إلا أنه حذف منه فيه، لدلالة الأول عليه.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/675.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾، ذكر ابن السّائب، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾، قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم الرّبا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذه الآية.

2. العسرة، هي الفقر، والضّيق، والجمهور على تسكين السين، وضمّها أبو جعفر هاهنا، وفي‏ ﴿سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾، وقرأ الجمهور بفتح سين (الميسرة)، وضمّها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضمّ السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب الياء هاء، ووصلها بباء، قال الزجّاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع.

3. النّظرة؛ التّأخير، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الرّبا إذا كان المطالب معسرا، وأعلمهم أن الصّدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ والأكثرون على تشديد الصاد، وخفّفها عاصم مع تشديد الدال، وسكّنها ابن أبي عبلة مع ضمّ الدال فجعله من الصّدق.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، قرأ أبو عمرو بفتح تاء (ترجعون) وضمّها الباقون، قال ابن عباس، وأبو سعيد الخدريّ، وسعيد بن جبير، وعطيّة، ومقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن‏، قال ابن عباس: وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها بأحد وثمانين‏ يوما، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال، وقال مقاتل: بسبع ليال.

__________

(1) زاد المسير: 1/250.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾ قال النحويون (كان) كلمة تستعمل على وجوه(2):

أ. أحدها: أن تكون بمنزلة حدث ووقع، وذلك في قوله: قد كان الأمر، أي وجد، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر.

ب. الثاني: أن يخلع منه معنى الحدث، فتبقى‏ الكلمة مجردة للزمان، وحينئذ يحتاج إلى الخبر، وذلك كقوله: كان زيد ذاهباً.

2. المفهوم الثالث: لكان يكون بمعنى صار، وأنشدوا:

çبتيهاء قفر والمطي كأنها...قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضهاé

وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع، إلا أنه حدوث مخصوص، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.

3. المفهوم الرابع: أن تكون زائدة وأنشدوا:

çسراة بني أبي بكر تسامى‏...علي كان المسومة الجيادé

4. في‏ قوله تعالى: ﴿كَانَ﴾ في هذه الآية وجهان:

أ. الأول: أنها بمعنى وقع وحدث، والمعنى: وإن وجد ذو عسرة، ونظيره قوله‏: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ بالرفع على معنى: وإن وقعت تجارة حاضرة، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه، وليس الأمر كذلك، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة.

ب. الثاني: أنها ناقصة على حذف الخبر، تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم، وقرأ عثمان (ذا عسرة) والتقدير: إن كان الغريم ذا عسرة، وقرئ (ومن كان ذا عسرة)

5. العسرة اسم من الأعسار، وهو تعذر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال.

6. ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ في الآية حذف، والتقدير: فالحكم أو فالأمر نظرة، أو فالذي تعاملونه نظرة، ونظرة أي تأخير، والنظرة الاسم من الأنظار، وهو الإمهال، تقول: بعته الشيء بنظرة وبانظار، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: 36، 37، 38]

7. قرئ‏ ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ بسكون الظاء، وقرأ عطاء (فناظره) أي فصاحب الحق أي منتظره، أو صاحب نظرته، على طريق النسب، كقولهم: مكان عاشب وباقل، أي ذو عشب وذو بقل، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة.

8. الميسرة مفعلة من اليسر واليسار، الذي هو ضد الأعسار، وهو تيسر الموجود من المال، ومنه يقال: أيسر الرجل فهو موسر، أي صار إلى اليسر، فالميسرة واليسر والميسور الغنى، وقرأ نافع‏ ﴿مَيْسَرَةٍ﴾ بضم السين والباقون بفتحها، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة، والمشرفة، والمشربة، والمسربة، والفتح أشهر اللغتين، لأنه جاء في كلامهم كثيراً.

9. اختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل:

أ. الأول: قال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل: إنه معسر، فقال شريح: إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58] وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا: بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك، فشكا بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾.. قال القاضي: وهو أرجح، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ من غير بخس ولا نقص، ثم قال في هذه الآية: وإن كان من عليه المال معسرا وجب إنظاره إلى وقت القدرة، لأن النظرة يراد بها التأخر، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنفية ومالك والشافعي.

ب. الثاني: وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين: إنها عامة في كل دين، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ ولم يقل: وإن كان ذا عسرة، ليكون الحكم عاما في كل المفسرين.

10. الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه، فلهذا قلنا: من وحد دارا وثيابا لا يعد في ذوي العسرة إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها، ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم، واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره:

أ. فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله.

ب. وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك.

11. اختلفوا أيضاً إذا كان معسراً، وقد بذل غيره ما يؤديه، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك، فأما من له بضاعة كسدت عليه، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك، ويؤديه في الدين.

12. إذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار.. وإذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض، أو لا يكون كذلك، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر.

13. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ قرأ عاصم‏ ﴿تَصَدَّقُوا﴾ بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها، والأصل فيه: أن تتصدقوا بتاءين، فمن خفف حذف إحدى التائين تخفيفاً، ومن شدد أدغم إحدى التائين في الأخرى، وفي التصدق قولان:

أ. الأول: معناه: وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما، وهو كقوله‏: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237]

ب. الثاني: أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: ‏ (لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة)، وهذا القول ضعيف، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة، ولأن قوله‏: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لا يليق بالواجب بل بالمندوب.

14. المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.

15. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وجوه:

أ. الأول: معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه، فجعل العمل من لوازم العلم، وفيه تهديد شديد على العصاة.

ب. الثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض.

ج. الثالث: إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم.

16. ثم قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وهذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد، حتى يمتنعوا عن الربا، وعن أخذ أموال الناس بالباطل، فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية، وخوفهم على أعظم الوجوه، قال ابن عباس: هذه الآية آخر آية نزلت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت‏ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ [النساء: 127] وهي آية الكلالة، ثم نزل وهو واقف بعرفة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3] ثم نزل‏ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 281] فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة، وعاش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها أحدا وثمانين يوماً، وقيل: أحدا وعشرين وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات.

17. انتصب‏ ﴿يَوْمًا﴾ على المفعول به، لا على الظرف، لأنه ليس المعنى: واتقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح، ومثله قوله‏: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل: 17] أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله.

18. اليوم عبارة عن زمان مخصوص(3)، وذلك لا يتقي، وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات، فصار قوله‏: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف.

19. الرجوع إلى الله تعالى ليس، المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى، وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه، فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله‏: ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ له معنيان:

أ. الأول: أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب:

فالحالة الأولى: كونهم في بطون أمهاتهم، ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم، بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى.

والحالة الثانية: كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم، وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين، ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر.

والحالة الثالثة: بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا هو معنى الرجوع إلى الله.

ب. الثاني: أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب، وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ.

20. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وقال: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ [لقمان: 16] وقال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]

21. في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ وجهان:

أ. الأول: أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت.

ب. الثاني: أن المكتسب هو ذلك الجزاء، لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه، فقوله‏: ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي توفى كل نفس مكتسبها، وهذا التأويل أولى، لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى.

22. الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، وأهل السنة، ومن وافقهم يتمسكون بها في‏ القطع بعدم الخلود، لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة.

23. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ سؤال وهو أن قوله‏: ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون، فكان ذلك تكريراً، والجواب: أنه تعالى لما قال ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ كان ذلك دليلًا على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار، فكان لقائل أن يقول: كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله‏: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره، وسهل عليه طريق الاستدلال، وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه، وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة، ومن وافقهم، وأما على أصول أهل السنة، ومن وافقهم، فهو أنه سبحانه مالك الخلق، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً، فكان قوله‏: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/85.

(2) ذكر هذا هنا، وليس له علاقة بالتفسير: حين كنت مقيماً بخوارزم، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء، أوردت عليهم إشكالًا في هذا الباب فقلت: إنكم تقولون إن (كان) إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلًا وهذا محال، لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان، فقولك (كان) يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلًا كانت تامة لا ناقصة، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلًا ألبتة بل كانت حرفاً، وأنتم تنكرون ذلك، فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلًا، وصنفوا في الجواب عنه كتباً، وما أفلحوا فيه، ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين:

أ. أحدها: أن يكون المعنى: وجد وحدث الشيء كقولك: وجد الجوهر وحدث العرض.

ب. الثاني: أن يكون المعنى: وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة، وفي الحقيقة فالمفهوم من (كان) في الموضعين هو الحدوث والوقوع، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه، فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالًا على وقوع المصدر في الزمان الماضي، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة، وإن قلنا: إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر، وجميع خواص الأفعال، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية

(3) الكلام هنا للقاضي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ لما حكم تعالى لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة ـ يعنى بنى المغيرة ـ وقالوا: ليس لنا شي، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾

2. ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ مع قوله ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ ماله بغير رضاه، ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما، فإن الله تعالى يقول: ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ فجعل له المطالبة برأس ماله، فإذا كان له حق المطالبة فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.

3. قال المهدوي وقال بعض العلماء: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر، وحكى مكي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمر به في صدر الإسلام، قال ابن عطية: فإن ثبت فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو نسخ وإلا فليس بنسخ، قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام إذا لم يكن له مال يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله ذلك فقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، واحتجوا بحديث رواه الدارقطني من حديث مسلم بن خالد الزنجي أخبرنا زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن سرق قال: كان لرجل علي مال ـ أو قال دين ـ فذهب بي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم يصب لي مالا فباعني منه، أو باعني له، أخرجه البزار بهذا الإسناد أطول منه، ومسلم بن خالد الزنجي وعبد الرحمن بن البيلماني لا يحتج بهما.

4. قال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء، قال النحاس: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم، قال: هي لكل معسر ينظر في الربا والدين كله، فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه، ولأن القراءة بالرفع بمعنى وإن وقع ذو عسرة من الناس أجمعين، ولو كان في الربا خاصة لكان النصب الوجه، بمعنى وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة، وقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم، واحتجوا بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ الآية، قال ابن عطية: فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح فالحكم هو النظرة ضرورة.

5. من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته، روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه، والمشهور أنه يترك له كسوته المعتادة ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزريا به، وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف، ولا يترك له مسكن ولا خادم ولا ثوب جمعة ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه، والأصل في هذا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا عليه) فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)، وفي مصنف أبي داوود فلم يزد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غرماءه على أن خلع لهم ماله، وهذا نص، فلم يأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بحبس الرجل، وهو معاذ بن جبل كما قال شريح، ولا بملازمته، خلافا لأبي حنيفة فإنه قال: يلازم لإمكان أن يظهر له مال، ولا يكلف أن يكتسب لما ذكرنا، وبالله توفيقنا.

6. يحبس المفلس في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين عدمه، ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده، وكذلك لا يحبس إن صح عسره على ما ذكرنا، فإن جمع مال المفلس ثم تلف قبل وصوله إلى أربابه وقبل البيع، فعلى المفلس ضمانه، ودين الغرماء ثابت في ذمته، فإن باع الحاكم ماله وقبض ثمنه ثم تلف الثمن قبل قبض الغرماء له، كان عليهم ضمانه وقد برئ المفلس منه، وقال محمد بن عبد الحكم: ضمانه من المفلس أبدا حتى يصل إلى الغرماء.

7. العسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ﴿ذُو﴾ بكان التامة التي بمعنى وجد وحدث، هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، وأنشد سيبويه:

çفدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوم ذو كواكب أشهبé

ويجوز النصب، وفي مصحف أبي بن كعب (وإن كان ذا عسرة) على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة، وقرأ الأعمش (وإن كان معسرا فنظرة)، قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب، قال النحاس ومكي والنقاش: وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ﴿ذُو﴾ فهي عامة في جميع من عليه دين، وقد تقدم.

8. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ ابتداء، وخبره ﴿خَيْرُ﴾، ندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك، وقال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، والصحيح الأول، وليس في الآية مدخل للغني:

أ. روى أبو جعفر الطحاوي عن بريدة بن الخصيب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة) ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة، قال فقال: (بكل يوم صدقة ما لم يحل الدين فإذا أنظره بعد الحل فله بكل يوم مثله صدقة)

ب. وروى مسلم عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شي إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال قال الله تعالى نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه)

ج. وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)

د. وفي حديث أبى اليسر الطويل ـ واسمه كعب بن عمروأنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله)

9. في هذه الأحاديث من الترغيب ما هو منصوص فيها، وحديث أبي قتادة يدل على أن رب الدين إذا علم عسرة غريمه أو ظنها حرمت عليه مطالبته، وإن لم تثبت عسرته عند الحاكم، وإنظار المعسر تأخيره إلى أن يوسر، والوضع عنه إسقاط الدين عن ذمته، وقد جمع المعنيين أبو اليسر لغريمه حيث محا عنه الصحيفة وقال له: إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل.

10. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شي، قاله ابن جريج، وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (اجعلوها بين آية الربا وآية الدين)، وحكى مكي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: جاءني جبريل فقال: (اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية)، وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، والقول الأول أعرف وأكثر وأصح وأشهر، ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فقال جبريل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة)، ذكره أبو بكر الأنباري في كتاب الرد) له، وهو قول ابن عمر أنها آخر ما نزل، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم عاش بعدها أحدا وعشرين يوما، على ما يأتي بيانه في آخر سورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ إن شاء تعالى.

11. الآية الكريمة وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان، و﴿يَوْمًا﴾ منصوب على المفعول لا على الظرف، ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ من نعته، وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، مثل ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ واعتبارا بقراءة أبي (يوما تصيرون فيه إلى الله)، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، مثل ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾ واعتبارا بقراءة عبد الله (يوما تردون فيه إلى الله) وقرأ الحسن ﴿يَرْجِعُونَ﴾ بالياء، على معنى يرجع جميع الناس، قال ابن جني: كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم.

12. جمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم: هو يوم الموت، قال ابن عطية: والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية.

13. في قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه، ﴿وَهُمْ﴾ رد على معنى ﴿كُلِّ﴾ لا على اللفظ، إلا على قراءة الحسن ﴿يَرْجِعُونَ﴾ فقوله ﴿وَهُمْ﴾ رد على ضمير الجماعة في ﴿يَرْجِعُونَ﴾، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الأعمال، وهو رد على الجبرية.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/372.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ لمّا حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال؛ حكم في ذوي العسرة بالنّظرة إلى يسار، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة، والنظرة: التأخير، والميسرة: مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه وأبي عليّ الفارسي وغيرهما.

2. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا﴾ بحذف إحدى التائين، وقرئ بتشديد الصاد: أي: وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك، قال الطبري: وقال آخرون: معنى الآية: وأن تصدقوا على الغنيّ والفقير خير لكم، والصحيح الأوّل، وليس في الآية مدخل للغنيّ.

3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جوابه محذوف، أي: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف، وقوله: ﴿تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ وصف له، وذهب قوم: إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت، وذهب الجمهور: إلى أنه يوم القيامة كما تقدّم.

5. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ فيه مضاف محذوف، تقديره: إلى حكم الله‏ ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس المكلفة ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ أي: جزاء ما عملت من خير أو شر، وجملة: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ حالية، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/342.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ أي بالكل أو البعض ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ أي فالواجب إمهال بقدر ما أعسر ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي بذلك القدر، لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.

2. ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال، فيأخذ ما يساويه في الآخرة، والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة:

أ. وقد أخرج البخاريّ ومسلم والنسائيّ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه)، وأخرج مسلم والترمذيّ نحوه عن أبي مسعود البدريّ.

ب. وعن أبي قتادة الحارث بن ربعيّ الأنصاريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من نفّس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة)، رواه الإمام أحمد ومسلم‏

ج. وعن بريدة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة، قال ثم سمعته يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة، فسألته عن ذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة)

د. وعن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أنظر معسرا أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم)، رواهما الإمام أحمد.

3. ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ ما عملت من خير أو شر، قال المهايميّ: فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة، والمديون، إن لم يوف حق‏ الدائن مع قدرته على الأداء استوفى الله منه حقّه، وأما من لا يقدر، فيرجى أن يعفو الله عنه، ويرضى خصمه بعوض من عنده‏ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

4. من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبر جرمه وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله واللعنة، وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه، وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها! وقد شرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة، فمنها:

أ. ما رواه الشيخان‏ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: اجتنبوا السبع الموبقات (أي المهلكات) قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)

ب. وأخرج البخاريّ‏ عن سمرة بن جندب عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قال آكل الربا)

ج. وأخرج مسلم‏ عن جابر بن عبد الله قال (لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)

د. وأخرج البخاريّ‏ وأبو داوود عن أبي جحيفة قال (لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم‏ الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله)، وثمة آثار وافرة، ساقها السيوطيّ في الدر المنثور.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/231.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِن كَان ذُو عُسْرَةٍ﴾ حصل متداين مداينةَ حقٍّ خالية عن الربا، كما روي أنَّ بني المغيرة أخذوا ديونًا بمبايعة حقٍّ لا بالربا، فطالبهم بها أصحابها، فشكوا العسرة، وقالوا: أخِّرونا إلى الإيسار، فنزل ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾.

2. ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ فعليكم يا أصحاب الأموال، أو الواجب عليكم يا أصحاب الأموال انتظارٌ لهم، وعدم مطالبتهم بها، أو فقد تجب نَظِرَةٌ ﴿اِلَى مَيْسُرَةٍ﴾ وجود يسر فحينئذٍ تطالبونهم بأموالكم، واليسر: الغنى؛ فمن وجد ما يقضي به دينه فهو غنيٌّ من حيث وجود ذلك، ولو حلَّ له أخذ الزكاة إذا لم يكن له إِلَّا ذلك أو مع قليل، وهذا الوزن شاذٌّ، وقيل: هو مفرد جمعه أو اسم جمعه: مَيْسُرٌ، بلا تاء، كما قيل: مكرم جمع مكرمة، وقيل: أصله: ميسورة، خفِّف بحذف الواو.

3. ﴿وَأَن تَصَّدَّقُواْ﴾ تتصدَّقوا على من لكم عليه دين من معسر، بالدَّين كلِّه أو بعضه بمعاملة حقٍّ، أو بوجه ما بلا ربًا، ﴿خَيْرٌ لَّكُم﴾ مِمَّا تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامِه، أو أكثر من الإنظار مع أنَّ الإنظار واجب،، فهذا من النفل الذي هو أفضل من الفرض، كابتداء السلام سنَّة أفضل ثوابًا من ردِّه الواجب، وكالوضوء قبل الوقت نفلاً أفضل منه في الوقت فرضًا، وقيل: المراد بالتصدُّق الإنظار مجازا باستعارة للشبه، ويدلُّ له قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يحلُّ دين رجل مسلم فيؤخِّره إِلَّا كان له بكلِّ يوم صدقة)، والمراد: المسلم المعسر، وأمَّا دين الربا فلا يحلُّ لأحد المتعاملين به أن يتصدَّق به على الآخر؛ لأنَّه حرام بمعاملة حرام، ولا ثواب له على ذلك ولا إباحة بل يجب على كلٍّ منهما أن يردَّ للآخر، لا يجوز أن يجعله في حلٍّ، ولا أن يقتصَّ له بما عليه، فقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ خارج عن الربا؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا محالَّة ولا تقاضي في الربا)، ولِمَا علمت من أنَّه نزل في قوم دانوا دينا مباحًا وأعسروا، وهَبْ أنَّه في الربا لكن فيمن فَعَلَه قبل نزول آية الربا، أو قبل علمه بنزولها، وهو على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بعده لبعد موضعه حتَّى يصله نزولها، وهذا تكلُّف أيضًا، ولا بأس بإنظار المعسر فيما يردُّه بلا زيادة، إِلَّا أنَّ الآية لا تشمله، لقوله تعالى: ﴿وَأَن تَصَّدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُم﴾، إِلَّا أن يحمل التصدُّق على دين الحلال، والإنظار عليه وعلى الربا، ونسب لابن عبَّاس وغيره أنَّه يجب إنظار المعسر من الربا، والصحيح: إن تاب ولا زيادة.

4. ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنَّه خير فافعلوه، أو إن كنتم تعلمون ما فيه من الذكر الجميل في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، والذكر الجميل مطلوب للمؤمنين قصد الانخراط في سلك السعداء لا رئاء.

5. ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ يوم القيامة أو يوم الموت؛ لأنَّ الموت القيامة الصغرى، وأوَّل ملاقاة الجزاء بالثواب والعقاب، والنظر من القبر إلى منزله من الجنَّة والنار، ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ جزاء ما عملت من شرٍّ، كعدم إنظار المعسر أو خير كإنظاره، وكالتصدُّق عليه، وفي الحديث: (من أنظر معسرا أو وضع عنه ـ أي: كُلًّا أو بعضا ـ أظلَّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إِلَّا ظلُّه) رواه مسلم، و(ثمَّ) للتراخي في الزمان؛ لأنَّ التوفية في الجنَّة والنار، سواء فسَّرنا اليوم بيوم الموت أو القيامة، ويجوز أن تكون للتراخي في الرتبة إذا فسَّرناه بيوم الموت؛ لأنَّ ما يَلْقى في الجنَّة أو النار أعظم مِمَّا في القبر.

6. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص الثواب في جنب السعداء، ولا بزيادة عذاب في جنب الأشقياء، وأمَّا مضاعفة العذاب فمن حقِّهم استحقُّوها بأعمالهم، ونفس الخلود بالنيَّات؛ لأنَّ نيَّة الشقيِّ الاستمرار على المعاصي منافقًا أو مشركًا.

7. وفي كتب الحديث عن ابن عبَّاس  : (إنَّ هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام ، نزل بها وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة)، وهو الصحيح، وقيل: المراد آخر آية نزلت في البيوع، كما أخرجه البيهقي، وعاش صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدها أحدًا وعشرين يوما، وهو المختار؛ لأنَّه عاش بعد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] أحدا وثمانين يوما، فضَعُف قول من قال: عاش بعد قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ الآية أحَدًا وثمانين، وقول من قال: تسعة أيَّام، وقول من قال: سبعة أيَّام، وقول من قال: ثلاث ساعات، فآخر المائتين وإحدى والثمانين: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وآخر التي بعدها: ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وآخر الأخرى: ﴿عَلِيمٌ﴾، وأخرى: ﴿قَدِيرٌ﴾، وأخرى: ﴿الْمَصِيرُ﴾، والأخرى: ﴿فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، والسورة مائتان وستٌّ وثمانون.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/169.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي وإن وجد غريم معسر من غرمائكم فأنظروه وأمهلوه إلى وقت يسار يتمكن فيه من الأداء.. أي: وتصدقكم على المعسر بوضع الدين عنه وإبرائه منه ـ خير لكم من إنظاره، فهو ندب إلى الصدقة والسماح للمدين المعسر لما فيه من التعاطف والتراحم بين الناس وبر بعضهم ببعض، وذلك من أعظم أسباب هناء المعيشة وحسن حال الأمة؛ ولذلك نبه إلى العلم بذلك فقال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لأن من لا يعلم وجه الخيرية في شيء؛ لا يعمله، ومن علم حتما؛ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به وعاملتم إخوانكم بالمسامحة، فعليكم بالعلم الذي يهديكم إلى خير العمل الذي يقرب بعضكم من بعض ويجعلكم متحابين متوادين.

2. استدل بعضهم بالآية على وجوب إنظار المعسر مطلقا، وبعضهم على وجوب ذلك في دين الربا خاصة، وقالوا: إن هذا الواجب يفضله شيء مندوب وهو الإبراء والتصدق على المعسر، فإنه ليس بواجب اتفاقا، وقيل: إن المراد بالتصدق هنا الإنظار، كأنه يقول: وهذا الإنظار الذي أمرتم به خير لكم وهو خلاف المتبادر.

3. ثم ختم ـ جل ثناؤه ـ آيات الربا بهذه الموعظة العامة التي تسهل على المؤمن إذا وعاها السماح بالمال، بل وبالنفس رجاء أن يلقى الله تعالى على أحسن حال من الفضل والكمال فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾.. أي واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه من غفلاتكم وشواغل الحياة الجسدية التي تشغلكم عن مراقبة الله فتصيرون إلى الله، أي إلى الاستغراق في العلم والشعور بأنه لا سلطان إلا سلطانه ولا ملك إلا له، ذكر معنى ذلك محمد عبده وقال ما معناه مبسوطا: أما حقيقة الرجوع فلا تصح هنا لأننا ما غبنا عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن نغيب عنه فنرجع إليه، ولكن الإنسان في غفلته وشغله بشئونه الحيوانية يتوهم أن له استقلالا تاما بنفسه وأن له رؤساء وأمراء يخافهم ويرجوهم، ويرى أنه تعرض له حاجات وضرورات يجب عليه أن يستعد لها بتكثير المال وجمعه من حرام وحلال، فأمثال هذه الخواطر تكون له شغلا شاغلا ربما يستغرق وقته فيصرفه عن التفكر في منافع التسامح في معاملة الناس والتصدق على المحتاج منهم، فكان أنفع دواء لمرض انصراف النفس عن التفكر في سلطان الله وقدرته والتقرب إليه بما فيه تمام حكمته ـ التذكير بيوم القيامة الذي تبطل فيه هذه الشواغل، وتتلاشى هذه الصوارف؛ حتى لا يشغل الإنسان فيه شيء ما عن الله تعالى وما أعده من الجزاء للعباد على قدر أعمالهم؛ ولذلك قال بعد التذكير بالرجوع إليه: ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تجازى على ما عملت في الدنيا جزاء وافيا وهم لا يظلمون أي لا ينقصون من أجورهم شيئا، بل قد يزاد المحسنون منهم فيعطون أكثر مما يستحقون على إحسانهم كما ثبت في آيات أخرى.

4. ذكر هنا بعض المباحث المفصلة المرتبطة بالحكمة من تحريم الربا، وأنواعه، وما يرتبط بذلك ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة، مع العلم أنا ذكرنا ملخص ذلك كما ذكره المراغي.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/104.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾ أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين، روى أن بنى المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.

2. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أصل تصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه، وفي هذا حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر، لما فيه من التعاطف‏ والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة، كما يرشد إلى ذلك‏ الحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.

4. في الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.

5. ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.

6. الخلاصة ـ إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.

7. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم، عن ابن عباس‏ أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل أحدا وثمانين يوما.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/69.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار.. فليس السبيل هو ربا النسيئة: بالتأجيل مقابل الزيادة.. ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة، والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾..

2. إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية، إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار، إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع! ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما (معقولا) في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد! ـ وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجئون مرغمين إلى أوكار الوحوش، فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها، تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية، فكلهم سواء، غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش.. كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون..!

3. نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب.. ولكنا نعرف أنها الحق، ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، إن المعسر ـ في الإسلام ـ لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم، إنما ينظر حتى يوسر.

4. ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين، فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه ـ إن تطوع بهذا الخير، وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين، وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة، لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر! ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق، وهو معسر لا يملك السداد، فهنا كان الأمر ـ في صورة شرط وجوابـ بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء، وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار.

5. على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾.. ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ وهم أصحاب الديون، الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم، إنما أنفقوها في الطيب النظيف، ثم قعدت بهم الظروف!

6. ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء، الذي ترجف منه النفس المؤمنة، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.. واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول، والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان! وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات، جو الأخذ والعطاء، جو الكسب والجزاء.. إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه، والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه، فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه.

7. إن التقوي هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارا منه لأنه في الأعماق هناك! إنه الإسلام.. النظام القوي.. الحلم الندي الممثل في واقع أرضي.. رحمة الله بالبشر، وتكريم الله للإنسان، والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/333.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حين يستجيب المؤمن لأمر الله بترك الرّبا، وأخذ ما أقرضه دون زيادة، فإن عليه أن ينظر في حال المدين، فإن كان معسرا ـ وهو ما يكون غالبا ـ ترفّق به، ومدّ له في الأجل إلى أن يتدبر أمره، ويتهيأ له الظرف المناسب لأداء ما عليه من دين.. فذلك ما تمليه عاطفة الرحمة والمودّة، وما تقتضيه المروءة في مثل هذه الحال.. ثم هو فوق ذلك عمل مبرور، له ثوابه وجزاؤه عند الله.. وخير من هذا وأعظم ثوابا وأحسن جزاء عند الله، هو أن يتصدق الدائن بدينه على المدين.. كله، أو بعضه، حسب ما يرى الدائن من حال المدين.

2. فى الدعوة إلى التصدق بالدّين على المدين هنا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين تضطرهم أحوالهم إلى الدين إنما هم ـ في الغالب الأعم ـ الفقراء، الذين لا يجدون من مالهم ما يستجيب لحاجتهم من ضرورات الحياة، فيمدّون أيديهم إلى ذوى اليسار ممن يتوسمون فيهم المروءة، ليعينوهم بشيء من مالهم، على أن يكون ذلك دينا يرد إليهم في أجل معلوم! فإذا سخت نفس الإنسان أن يقدم هذا العون للمحتاج في صورة دين، فإنه لأجمل وأكمل أن يحتسبه صدقة عند الله، على ألا يجرح بذلك مشاعر المدين، وألّا يمنّ عليه، ويفضحه، بأن يقول له على سبيل المباهاة، أو الإيذاء والانتقام: تصدقت عليك بما لي عليك من دين.. فذلك مما يذهب بصدقته ويمحقها، والطريق الأمثل في هذا ـ إن رأى أن يتصدق بدينه ـ أن يترك‏ المدين، فلا يطالبه بالدين، تصريحا أو تلميحا.. فإن أيسر المدين أدى إليه دينه، وإن ظل على إعساره أمسك عنه، ولم يطالبه.

3. (كان) في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ تامة، بمعنى وجد، أي وإن وجد في المدينين ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، إذ ليس كلّ المدينين على حال واحدة من الإعسار!

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ الخطاب هنا للمقرضين بالرّبا خاصة وللمؤمنين عامة ـ وهو دعوة إلى تقوى الله، والإعداد ليوم يرجع فيه الناس إلى الله، فيوفيهم حسابهم حسب أعمالهم، وما كسبت أيديهم من خير أو شر، ولا يظلم ربك أحدا.

5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالربا وأنواعه وأحكامه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/363.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ عطف على قوله: ﴿فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ‏﴾ لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة، إذ العقود قد فسخت، فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوف عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب، والأصل حصول المشروط عند الشرط، والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر، وفي الآية حجة على أنّ (ذو) تضاف لغير ما يفيد شيئا شريفا.

2. النظرة ـ بكسر الظاء ـ الانتظار، والميسرة ـ بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين ـ اسم لليسر وهو ضدّ العسر ـ بضم العين ـ وهي مفعلة كمشرقة ومشربة ومألكة ومقدرة، قال أبو علي ومفعلة بالفتح أكثر في كلامهم، وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له.

3. الصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب:

أ. فإن أريد بالعسرة العدم أي نفاد ماله كلّه فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء، وقد قيل: إن ذلك كان حكما في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]، وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريبا من هذا، وروي أنّه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت.

ب. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب، غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلّا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص.

4. مورد الآية على ديون معاملات الربا، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال دينا بحتا، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كله، وخالف شريح فخصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها.

5. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف.

6. جيء بقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ تذييلا لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثارا من ثوابها، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/562.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾ أي إن كان المدين غير قادر على الأداء لعسرة ملازمة له كملازمة الصاحب لصاحبه فانتظار إلى وقت يتيسر فيه، فلا يزيد عليه ليرهقه، فيعجز عن الوفاء، بل ينتظر حتى يجيء الوقت الذي يستطيع الأداء فيه، وهنا بعض عبارات فيها إشارات بيانية جديرة بالتنبيه:

أ. أولها: التعبير بذو عسرة في قوله‏ ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ أي كان صاحب عسرة وضيق شديد يلازمه كملازمة الصاحب، لأن كلمة ذو تدل على المصاحبة؛ وفرض أن بعض المدينين ذو عسرة يدل على أن مدينين آخرين يستطيعون الوفاء، ومنهم الذين يقترضون للاستغلال.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ معناها: فالحكم أو الأمر انتظار إلى ميسرة، وهناك قراءة أخرى، وهى (فناظره إلى ميسرة) أي فمنتظرة إلى ميسرة.

ج. ثالثها: قوله‏: ﴿إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ فالميسرة بفتح السين وضمها كمقبرة ومقبرة: هي حال اليسر، فليست الميسرة هي مجرد اليسار، بل هي اليسار المستقر الثابت الذي يتمكن فيه المدين من وفاء دينه كله مقدما القوى على الضعيف، أي أن الدائن ينتظر المدين حتى يقف من عثرة العسرة ويستقيم أمره، لا أن يترقب أي مال حتى يأخذه كما يأخذ الصائد قنيصته.

2. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي أنه إذا ثبت العجز وتقرر، وأصبح احتمال اليسار غير قريب فتصدقوا بالدين على صاحبه وأبرؤوه منه؛ فإن ذلك يكون خيرا لكم في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فلأنكم إذا فقدتم الأمل في الاستيفاء فكل جهد في سبيله ضائع، وكل تعقب في سبيله يورث الإحن من غير جدوى؛ ويثير الأحقاد المستمرة من غير فائدة، فيكون من الخير العفو والإبراء، والإبقاء على الأخوة، والعلاقات الاجتماعية؛ وأما في الآخرة فالنعيم المقيم.

3. هذا الجزء من النص الكريم فيه إشعار للدائنين بأنه إذا ذهب دينهم بالتّوى‏ وعجز المدين عن الوفاء فلا تذهب أنفسهم حسرات، وليعلموا أن التصدق أجدى إن كانوا يعلمون، وذكر سبحانه هذه الجملة السامية: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لأن غمرة الألم لفقد الدين قد تنسيهم ما ينبغي في مثل هذه الحال فنبههم إلى ما ينبغي ليكونوا في حال وعى نفسي دائم، ولا ينسيهم المال الحال والمآل.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ ترقبوا وخافوا يوما يردكم الله سبحانه وتعالى إليه فلا تملكون من أموركم شيئا فيه؛ فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لا تملكون شيئا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لا تملكون شيئا، وفى هذا اليوم‏ ﴿تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي جزاء ما كسبت إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل‏ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي لا ينقصون شيئا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا، وتمت آيات الربا بهذه الآية ترغيبا وترهيبا، ترغيبا في القرض الحسن، وترهيبا من أكل الربا.

5. من الحق علينا أن نختم الكلام في هذه الآيات بكلمات ننقلها عن الأستاذ الإمام محمد عبده، لقد قال: (يقول كثير من الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية، وأخذوا الشهادات من المدارس، ومن هو أكبر من هؤلاء: إن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب، وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب، ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغنى لا ينمو.. وهذه أوهام لم تقل عن اختبار؛ فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكّمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة ما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين)، هذه كلمة الأستاذ الإمام الذي تجنى عليه المنحرفون، وقالوا عليه ما لم يقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1061.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾، كل مدين سواء استدان بالربا، أو بدونه لا تجوز مضايقته، إذا كان معسرا، كما لا يجوز للمدين الموسر أن يماطل بالوفاء، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كما لا يحل لغريمك أن يمطلك، وهو موسر كذلك لا يحل لك أن تعسره ـ أي تضايقه ـ إذا كان معسرا)

2. حدّ المعسر الذي لا تجوز مضايقته في الشريعة الاسلامية هو الذي لا يملك الا دار سكناه، وما تدعو اليه الضرورة كثيابه وكتبه وأثاث بيته اللازمة لحياته، وأدوات الصناعة التي يكتسب منها قوته، ومؤنة يوم واحد له ولعياله، كل هذه لا يجب بيعها لقضاء الدين، وذكرنا مستثنيات الدين مفصلا في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فصل المفلس.

3. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ليس من شك ان إبراء المعسر من الدين فضيلة، بل ومن أعظم الطاعات، لأن فيه تنفيسا لكربته، وقضاء لحاجته، وقد جاء في الحديث: (من انظر معسرا، أو وضع عنه أظلّه الله تحت ظله يوم لا ظل الا ظله)

4. اتفق الفقهاء كلمة واحدة على ان من استدان في غير معصية، ثم عجز عن الوفاء تسدد ديونه من بيت المال، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (من طلب هذا الرزق من حله، ليعود به على نفسه، وعلى عياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فان غلب عليه، فليستدن على الله، وعلى رسوله ما يقوت به عياله)، ومعنى فليستدن على الله ورسوله ان دينه يسدد من بيت المال الذي يجب صرفه في سبيل الله، ونص القرآن الكريم على ذلك في سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، والغارمون قوم وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله.

5. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ترغيب في العمل بالعلم، أي ما دمتم تعلمون ان إبراء المعسر من الدين خير فعليكم أن تعملوا بعلمكم هذا، وقيل: ان المراد ب ﴿تَعْلَمُونَ﴾ هنا تعملون، أي ان كنتم عاملين بالخير فتصدقوا بالدين على المعسر.. وليس هذا ببعيد.. قال الإمام علي عليه السلام: (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل، فان أجابه والا ارتحل عنه).. وكثير من علماء هذا العصر لا يسمون النظرية، أية نظرية، علما الا بعد أن يلمسوا صدقها بالتطبيق والتجربة.

6. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، بعد أن نهى سبحانه عن الربا، وتشدد فيه وأمر بالصبر على المدين المعسر، أو ابرائه من الدين في سبع آيات، بعد هذا عقب سبحانه بهذه الآية التي خوف فيها العصاة من يوم الحساب والجزاء، وهوله وعذابه، وفي مجمع البيان ان هذه الآية آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وانه عاش بعدها واحدا وعشرين يوما.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/439.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، والنظرة المهلة، والميسرة اليسار، والتمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وأمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.

2. الآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالإنظار.

3. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، ويهيئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، وهو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، وأما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، ومعنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

5. قيل: إن هذه الآية: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

6. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

7. ذكر بعدها بعض المباحث المرتبطة بحقيقة الربا ومنشئه والحكمة من تحريمه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/424.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كَانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾ معسر وفي ذمته رأس مال ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ بدل من طلبه في حال الإعسار فينظر حتى الإيسار وتمكنه من القضاء ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فتسقطوا عن المعسر ما في ذمته أو بعضه، وهذا ترغيب يكفي العاقل؛ ولذلك قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ومن لم يصدق خبر الله سبحانه فليس بمؤمن.

2. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ جعل اليوم نفسه مخوفاً نحتاج إلى اتقائه كما قال تعالى حاكياً: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10] واتقاؤه هو الإعداد له في هذه الحياة الدنيا بتوبة نصوح وتجنب للمعاصي وعمل صالح والرجوع إلى الله المصيّر إلى موقف الحساب والسؤال عن الأعمال، ولعله سمِّي رجوعاً لرجوع الحياة فيه بعد الموت.

3. ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ من صالح أو سيئ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بزيادة عقاب على ما يستحقون ولا بنقص صالح مما كسبوا كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8] ولهذا عظم ذلك اليوم وثقلت القيامة في السماوات والأرض، قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: (دلت على صحة التوبة خوفاً من الله ومما يجازي به أهل المعاصي يوم القيامة)، يعني إذا صحت التوبة بالندم على المعصية لقبحها كما حققه في (الأساس)

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/405.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾، أمّا إذا كان المدين معسرا لا يستطيع أن يرجع رأس المال إلى صاحبه في الوقت الحاضر، فإن الله يريد من الإنسان المؤمن أن ينتظره حتى يتمكن من ذلك ويجعل له الله من أمره يسرا، لأن ذلك هو خط العدل والرحمة في معناهما الإنساني الواقعي، فإذا كان العدل يفرض على المدين أن يدفع ما في ذمته إلى دائنه فلا يأكله بالباطل، فإنه يفرض على الدائن أن يراعي ظروف المدين في حالة العسر، فلا يضطره إلى أن يبيع ما يحتاجه من ضرورات الحياة الطبيعية أو يرهق نفسه بدين جديد يضطر إلى الخضوع فيه لشروط صعبة في ماله وكرامته وحياته، لأن حركة العدل في الحقوق والعلاقات تبقى في نطاق القدرة العادية للإنسان، فلا تتجاوزها إلى ما يخرج عن القدرة، فإن في ذلك الحرج كل‏ الحرج، والعسر كل العسر، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]

2. جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال صعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المنبر ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه (صلى الله عليهم) ثم قال: أيها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسرا، كان له على الله عز وجل في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله عليه السّلام: ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏﴾ أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم‏.

3. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ثم يثير أمام الدائن القادر الموقف الروحي الذي يتسامى معه الإنسان إلى أجواء التضحية والعطاء، فيبدأ بالتفكير في المكاسب التي يحصل عليها عند الله، بدلا من الحسابات المادية التي تخضع للربح والخسارة فيما يحصل عليه من ماله أو فيما لا يحصل عليه منه، فإذا كان المدين غير قادر، وكان من حقه أن ينتظره، فإن من حق الله عليه في شكره لنعمه، ومن حق نفسه عليه في أن يرفع درجتها عند الله من خلال أعمال الخير، أن يتصدق بهذا الدين على صاحبه قربة إلى الله، فهو خير له عند الله الذي يتقبل صدقات عباده ويعفو عنهم ويجزل لهم العطاء في الدنيا والآخرة، إن كانوا يعلمون موازين الربح والخسارة فيما يبقى ويخلد ويستمر، فلا يقتصرون على الموازين العاجلة التي يفكر فيها الغافلون.

4. ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وتأتي الدعوة إلى التقوي في هذا الفصل الذي تتنوع أغراضه، في‏ نطاق ما يحبه الله وما لا يحبه، لتبعث في روح الإنسان التفكير العميق في ذلك اليوم العظيم الذي يمثل العودة إلى الله من هذه الدنيا الفانية التي يترك فيها الإنسان كل شيء وراءه مما يتنافس عليه الناس ويتقاتلون حوله، ولا يبقى مع الإنسان إلا العمل، فيما أعطاه وفي ما منعه من مال الله ومن مال الناس، وفي ما أطاع الله فيه وفي ما عصاه، ويقف الإنسان في الانتظار، كلّ ينتظر دوره، ويحاول أن يعرف رصيده، وتعرض الأعمال، فلكل نفس ما كسبت، تستوفيه وتأخذه لا ينقص منه شيء مهما قلّ، لأن اليوم هو يوم العدل ويوم الجزاء العادل الذي يحمل الشعار الخالد العظيم ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾، وبعد ذلك ماذا ينتظر الإنسان في هذه الدنيا ليسير على خط التقوي في حياته، ما دام يؤمن بالله وباليوم الآخر ويعرف أنّ عليه أن يوجه نفسه إلى ما يسعدها ويرفع درجاتها في الآخرة ويحقق لها طموحها في السعادة، كما يفكر في تحقيق ذلك في الدنيا.

5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بخصائص الربا القرآني وخصائص معاملات المصارف‏، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/149.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾، استكمالا لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله (بدون ربح) تبيّن الآية هنا حقّا من حقوق المدين إذا كان عاجزا عن الدفع، ففضلا عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيدا من الوقت لتسديد أصل الدين عند القدرة والاستطاعة.

2. إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دينه، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك، وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

3. ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية، أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم.

4. تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

5. من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيرا عامّا شاملا يؤكّد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذا جيّدا في العقل والنفس، لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرئ جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره، ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه‏ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وجدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

6. مما يلفت النظر أنّ تفسير (الدرّ المنثور) ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا يستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار، وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لا حقة لها، وذلك بأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم نفسه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/348.

140. الدَّين والتوثيق والكتابة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈140⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا بأس بالسلم كيلا معلوما إلى أجل معلوم، ولا تسلمه إلى دياس ولا إلى حصاد(1).

2. روي أنّه قال: لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال، وما يكال فيما يوزن(2).

3. روي أنّه قال: من اشترى طعاما أو علفا إلى أجل فلم يجد صاحبه وليس شرطه إلا الورق، وإن قال خذ منّي بسعر اليوم ورقا فلا يأخذ إلا شرطه طعامه أو علفه، فإن لم يجد شرطه وأخذ ورقا لا محالة قبل أن يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله لا تظلمون ولا تظلمون(3).

__________

(1) الكافي: 5/184/1.

(2) التهذيب: 7/44/192.

(3) التهذيب: 7/32/134.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه، ثم قرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ نزلت في السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى أجل معلوم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ فأمر بالشهادة عند المداينة، لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى(4).

5. روي أنّه قال: قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)(5).

6. روي أنّه قال: لا سلف إلى العطاء، ولا إلى الحصاد، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير، واضرب له أجلا(6).

7. روي أنّه قال (7): لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن أول من جحد آدم، إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر قال أي رب، من هذا؟ قال هذا ابنك داوود قال أي رب، كم عمره؟ قال ستون عاما قال رب، زد في عمره، فقال: لا، إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عاما، فكتب عليه بذلك كتابا، وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داوود قال ما فعلت، فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة، فكمل الله لآدم ألف سنة، وأكمل لداود مائة عام(8).

__________

(1) الشافعي: ٢/٣٦٠.

(2) البيهقي: ٦/٣١.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٤.

(4) ابن المنذر: ١/٦٧.

(5) البخاري: ٣/٨٥.

(6) البيهقي: ٦/٢٥.

(7) لا نرى صحة هذا الحديث لمعارضته القرآن الكريم من نواح متعددة

(8) أحمد: ٤/١٢٧.

الخدري:

روي عن أبي سعيد الخدري (ت 74 هـ) أنّه قرأ هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، حتى إذا بلغ: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ قال هذه نسخت ما قبلها(1).

__________

(1) البخاري في التاريخ الكبير: ١/٢٣٢.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: أن رجلا أسلف في نخل، فلم يخرج تلك السنة شيئا، فاختصما إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: (بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله) ثم قال (لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه)(1).

__________

(1) أبو داوود: 3467.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ كما علمه الكتابة وترك غيره(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، يعني: المطلوب يقول: ليمل ما عليه من الحق على الكاتب، من حق المطلوب(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ لا ينقص من حق الطالب شيئا(1).

4. روي أنّه قال: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ﴾ يعني: لا يحسن: ﴿أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ أن يمل ما عليه(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٧.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ فما كان من بيع إلى أجل مسمى، صغير أو كبير؛ فإن الله قد أمر فيه بالكتاب والبينة إلى أجله، وقال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ لا ينبغي للكاتب أن يأبى أن يكتب كما علمه الله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾ هو الصبي الصغير، أو ضعيف في عقله، لا يعبر عن نفسه(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ قال كانت عزيمة، فنسختها: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ قال كانت عزيمة، فنسختها: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾(5).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٦٦.

(2) ابن جرير: ٥/٧٨.

(3) ابن المنذر: ١/٧٢.

(4) ابن جرير: ٥/٧٧، وعلَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٦.

(5) ابن جرير: ٥/٧٧.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: العدل: من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٩٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ واجب على الكاتب أن يكتب(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٧.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ لا يظلم منه شيئا، ولا ينقص مما عليه شيئا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ بالحق، ولي اليتيم الذي يجوز عليه أمره، يدون على اليتيم الحق، فهو وليه بالعدل، هو الذي يمل بالحق(2).

3. روي أنّه قال: هو من لم يعلم له خزية(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٨.

(2) ابن المنذر: ١/٧٢.

(3) تفسير الثعلبي: ٢/٢٩٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا بأس باستقراض الخبز، ولا بأس بشراء جرار الماء والروايا، ولا بأس بالفلس بالفلسين، والقلتين بالقلتين، ولا بأس بالسلف في الفلوس(1).

2. روي أنّه سئل عن السلف في اللحم، فقال: لا تقربنه فإنه يعطيك مرة السمين، ومرة التاوي، ومرة المهزول، اشتره معاينة يدا بيد.. واسأل عن السلف في روايا الماء؟ فقال: لا تقربنها فإنه يعطيك مرة ناقصة، ومرة كاملة، ولكن اشترها معاينة، فهو أسلم لك وله(2).

__________

(1) التهذيب: 7/238/1041.

(2) الكافي: 5/222/12.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ إن كان فارغا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٨.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ)

1. روي أنّه قال: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾، فكان هذا واجبا على الكتاب(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾: فكان هذا واجبا، ثم جاءت الرخصة والسعة قال ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾(2).

3. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب، فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، أو لي حاجة، فانطلق إلى غيري، فيلزمه، ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي، فلا يدعه، ويضاره بذلك وهو يجد غيره، ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فأشهدك، فيقول: اذهب إلى غيري فإني مشغول، أو لي حاجة، فيلزمه، ويقول: قد أمرت أن تتبعني، فيضاره بذلك، وهو يجد غيره؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٨.

(2) ابن جرير: ٥/٧٢.

(3) ابن جرير: ٥/١١٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن السلم وهو السلف في الحرير والمتاع الذي يصنع في البلد الذي أنت به، فقال: نعم إذا كان إلى أجل معلوم(1).

2. روي أنّه سئل عن رجل يسلم في غير زرع ولا نخل، فقال: يسمّي شيئاً إلى أجل مسمى(2).

3. روي أنّه سئل عن رجل اشترى الجلود من القصاب فيعطيه كل يوم شيئا معلوماً، فقال: لا بأس به(3).

4. روي أنّه سئل عن السلم وهو السلف في الحرير والمتاع الذي يصنع في البلد الذي أنت فيه، فقال: نعم إذا كان إلى أجل معلوم، واسأل عن السلم في الحيوان إذا وصفته إلى أجل، وعن السلف في الطعام كيلا معلوما إلى أجل معلوم؟ فقال: لا بأس به(4).

__________

(1) الكافي: 5/199/2.

(2) الكافي: 5/185/4.

(3) التهذيب: 7/28/120.

(4) التهذيب: 7/41/176.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ الكاتب إذا كانت له حاجة ووجد غيره؛ فليمض لحاجته ويلتمس غيره، وذلك أن الكتّاب في ذلك الزمان كانوا قليلا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني الذي قبله الحق(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٧.

(2) ابن المنذر: ١/٧٠.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد(1).

2. روي أنّه قال: قلت لعطاء: قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال نعم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٢.

(2) عبد الرزاق في مصنفه: ١٥٥٦٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾، يعني: اكتبوا الدين والأجل(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ الكتابة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ الكاتب، ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ على الكاتب: ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني: المطلوب(1).

4. روي أنّه قال: ثم خوّف المطلوب، فقال تعالى: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، يعني: ولا ينقص المطلوب من الحق شيئا، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: ٨٥] (1).

5. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾، يعني: جاهلا بالإملاء(1).

6. روي أنّه قال: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ لا يعقل الإملاء؛ لعيه، أو لخرسه، أو لسفهه(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٨.

الشافعي:

روي عن بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) أنّه قال: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ إنما معناه: أن يقر قط بالحق، ليس معناه: أن يملي(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٧.

الرسّي:

قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): وسألت: عن قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾: هل ذلك فرض عليهم، لا يسعهم أن يتركوه؟ فنعم هو فرض عليهم فيمن لم يأمنوا، وليس بفرض عليهم فيمن أمنوا، فاجرا كان المؤتمن أو برا، أو موسرا كان الغريم أو معسرا(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/133.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما قوله سبحانه: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ فإنما معناها: فليتكلم الذي عليه الحق بما عليه لصاحبه؛ حتى يشهد الشهود على ما يسمعون من إقراره على نفسه.

2. أما قوله عز وجل: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ هو: لا ينقص مما عليه لغريمه شقصا، ولينطق بما عليه من ذلك طرا.

3. أما قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، فإن السفيه هاهنا هو: سفه العقل وقلته: إما بصغر السن، وإما بضعف العقل.

4. أما قوله سبحانه وتعالى: ﴿ضَعِيفًا﴾ فإن الضعف: قد يكون ضعف العقل، أو ضعف المرض، أو ضعف العمل عن الكلام للعلة النازلة، وكذلك قوله عز وجل: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ فقد يكون: لعيه عن حجته، أو لصغر سن أيضا، أو لعلة تمنعه من ذلك، فإذا كان ذلك كذلك وجب على الولي أن يمل ما يجب على صاحبه، وأن يبينه ويشرحه بحضرة من صاحب الدين، وإقرار منه به عند الشاهدين.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/134.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، وهذا في الرجل إذا كان مريضا وجب على وليه أن يسأله عما عليه، ويكتبه؛ وقد يدخل في قوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾: أن يكون ضعيف الفهم، يغلب عليه العي والعجز؛ فيكون وليه يقوم لفظه، ويثبت ما ألقى إليه من كلامه، وقد قيل: إن معنى: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ أي: ولي الحق والمطالب به يملي حقه، ويذكر ما له على غريمه، وذلك وجه حسن جائز، وقد ذكر أن الناس على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كان الكاتب فيهم قليل؛ فنهاهم الله أن يتضاروا؛ فكل هذه معاني مؤتلفة، يشهد بعضها لبعض، حسنة ليس فيها عن الحق مخرج، ولا عن الصواب معزل)(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/138.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾:

أ. قيل: فيه دليل جواز السلم من قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾؛ لأن المداينة هي فعل اثنين، وهو السلم نفسه؛ لأنه دين من الجانبين جميعا، وعلى ذلك روى عن ابن عباس أنّه قال: شهدوا أن المسلم المضمون مما أجازه الله تعالى في كتاب الكريم، ثم تلا هذه الآية، فأما الخبر الذي جاء به نهى عن الدين، فإن ذلك على فوت القبض فيه، دليله: جواز ما كان دينا بدين إذا قبض أحد الجانبين.

ب. وقال آخرون: قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى‏ التداين، كما يسمى البائع والمشترى: المتبايعين؛ لأن كل واحد منهما بائع في وجه، ومشتر في وجه، فعلى ذلك المداينة والتداين.

2. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ العرف في الإسلاف عند الناس: ألا يخلى عن الأجل، فصار الأجل بالعرف شرطا في جواز السلم وإن لم يؤجل؛ لأن الرجل لا يسلم السلف ليؤديه حالة الإسلاف؛ لأن الحاجة هي التي تحمله على الإسلاف فهو إنما يسلف ليؤديه في وقت ثان؛ لأنه لو كان عنده حاضرا لا يحتاج إلى غيره، ولكنه يبيعه فيصل إلى حاجته، ولا يتحمل المؤنة العظيمة، فصار في العرف كأنه بأجل، يفسد لترك بيان الأجل، والله أعلم، وعلى ذلك روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)

3. ثم أمر عزّ وجل بالكتابة في التداين بقوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾:

أ. وذلك لأنه وصل إلى حاجته بقبض رأس المال والآخر لم يصل؛ فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود؛ فأمر عزّ وجل بالكتابة؛ احترازا عن الإنكار وجحود الحق له؛ لأنه إذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه يرتدع عن الإنكار والجحود؛ فهو كما ذكرنا في قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]؛ لأنه إذا ذكر أنه يقتل ارتدع عن قتل غيره؛ فكذلك إذا ذكر أنه مكتوب عليه يمتنع من الإنكار والجحود؛ لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، ولا كذلك بيع العين بالعين؛ لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى؛ لذلك لم يؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، وأمر في المداينات.

ب. ويحتمل الأمر بالكتابة في التداين وجها آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا؛ فأمر الله تعالى بالكتابة؛ لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة، ولا كذلك بيع العين؛ لذلك افترقا.

ج. النسيان يعقب التنازع، والمنازعة توجب التخالف، وفيه الفساد؛ فأمر بالكتابة لدفع ذلك، وللوفاء بالحق، ودفع الخصومات.

4. لا يحتمل أن يفرض الكتابة، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق، ولمن له تركه كذلك ألا يقبضه مع ما ليست في عقد أو فسخ فيكلم فيه بوجوب واختيار، إنما هي للحق، فله فعل ذلك.

5. اختلف في الكتابة:

أ. قال بعضهم: هي واجبة لازمة، واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ أخبر برفع الجناح في التجارة الحاضرة، فلو كانت في المداينة غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى؛ فدل أنها لازمة في المداينة حيث رفع الجناح في الحاضرة منها.

ب. أما عندنا (2): فهي ليست بواجبة؛ لأنه قال عزّ وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ ثم أمر، قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ ذكر الرهن بدلا عن الكتابة، ثم ذكر ترك الرهن بالائتمان، فإذا كان له ترك الرهن بالائتمان، وهو بدل الكتابة ـ فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان، إن كان أصله مفروضا لم يحتمل ترك بدله بالائتمان، فإذا كان ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم.

6. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾: هذا لأن الكاتب مأمون عليه فيؤدى حق ما اؤتمن فيه، لا يزيد على ما أملى عليه بالنصيحة وأداء الأمانة، وهكذا الواجب على كل محكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58] وكقوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]، وكقوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2]

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾:

أ. قال بعضهم: هذا وذلك أن الكتبة كانوا في صدر الاسلام قليلا، فنهوا عن ترك الكتابة؛ إذ في ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها، وأما اليوم فلا بأس بالإبقاء عليها، لم يجد من يكتب له بالأجر؛ فلا يبطل حقه.

ب. وفيه وجه آخر: وهو أن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾، أي لا يأب الكاتب إذا كتب أن يكتب بالعدل، أي له ترك الكتابة، ولكنه إذا كتب لا يكتب إلا بالعدل.

8. قوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾، هو نقض على المعتزلة، ومن وافقهم؛ لأنهم يقولون: يكتب وإن لم يعلمه الله تعالى، والله ـ عزّ وجل ـ أخبر أنه يكتب بتعليم الله إياه، ولو كان التعليم من الله تعالى إيتاء الأسباب لم يكن لقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ [يس: 70] معنى؛ لأنه قد أعطى أسبابه.

9. العدل ـ ما ذكرنا ـ: ألا يزيد على الحق، ولا ينقص منه، وأصل العدل: هو وضع الشيء موضعه.

10. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ ما عليه، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ﴾ ولا ينقص، ﴿مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي: لا يملى على الكاتب أقل من حقه ولا ينقص منه شيئا، ففيه دلالة على أن القول قوله في قدر الحق حيث أوعد فيما يملى على الكاتب ألا ينقص من حق الطالب شيئا.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ﴾:

أ. قال قائلون: هذا كله واحد: السفيه، والضعيف، والذى لا يستطيع أن يمل.

ب. وقال آخرون: بل هو مختلف، السفيه هو الصغير، فليملل وليه، والضعيف هو المريض الذي لا يقدر أن يملّ، والذى لا يستطيع أن يمل هو الجاهل الذي لا يعرف أن يمل.

12. اختلف في الولي:

أ. قال بعضهم‏: الولي: هو صاحب الحق، يملّ بالعدل بين يدى من عليه الحق؛ لئلا يزيد على ذلك شيئا، فإن زاده أو نقصه أنكر عليه صاحبه.

ب. وقال آخرون: الولي هو وصى الصغير، أو ذو النسب منه.

13. اختلف في في الحجر:

أ. قال أبو حنيفة: الحجر لا يمنع عقوده.. لقوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ أجاز تداينه؛ فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه، ولأن السفيه لم يستفد الإذن من السلطان؛ إنما استفاده من الله تعالى، ولا يجوز حجر من لم يستفد الإذن منه.

ب. وقال محمد بن الحسن: لا يجوز عقوده، ولكن الولي هو الذي يتولى ذلك؛ استدلالا بظاهر قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ فإنما جعل الإملاء إلى الولي، لا إليه، ولو كان يجوز إملاؤه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره؛ دل أنه لا يجوز.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/275.

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾ يعني سفه العقل، وليس يعني السفه الذي هو الكفر، والضعف: قد يكون العي عن الكلام، وقد يكون ضعيفاً صغيراً في السن عن الإملال على الكاتب، فقال مولانا عز وجل: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 293.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ أي تعاملتم، وفي قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أمر على الندبـ ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ وأمر الكاتب بذلك ندبـ ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ أي على الكاتب ويقر به عند الشاهد ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لا ينقص منه شيئاً ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ والسفيه المبذر لماله الفاسد في دينه ويدخل في الآية الصبي والمجنون والضعيف وهو العاجز عن الإملاء إما لعي أو خرس أو غيره، ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ﴾ أي العي والأخرس ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ أي ولي من عليه الحق.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/130.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: تجازيتم.

ب. الثاني: تعاملتم.

2. في قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه ندب، وهو قول أبي سعيد الخدري، والحسن، والشعبي.

ب. الثاني: أنه فرض، قاله الربيع، وكعب.

3. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ وعدل الكاتب ألّا يزيد فيه إضرارا بمن هو عليه، ولا ينقص منه، إضرارا بمن هو له.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنه فرض على الكفاية كالجهاد، قاله عامر.

ب. الثاني: أنه واجب عليه في حال فراغه، قاله الشعبي أيضا.

ج. الثالث: أنه ندب، قاله مجاهد.

د. الرابع: أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، قاله الضحاك.

5. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني على الكاتب، ويقرّ به عند الشاهد، ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لا ينقص منه شيئا.

6. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أنه الجاهل بالصواب فيما عليه أن يملّه على الكاتب، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن:

ج. الثالث: أنه المبذر لماله، المفسد في دينه، وهو معنى قول الشافعي.

د. الرابع: الذي يجهل قدر المال، ولا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره.

7. في قوله تعالى: ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنه الأحمق، قاله مجاهد، والشعبي.

ب. الثاني: أنه العاجز عن الإملاء إما بعيّ أو خرس، قاله الطبري.

8. في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنه العييّ الأخرس، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنه الممنوع عن الإملاء إما بحبس أو عيبة.

ج. الثالث: أنه المجنون.

9. في قوله تعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: وليّ من عليه الحق، وهو قول الضحاك، وابن زيد.

ب. الثاني: وليّ الحق، وهو صاحبه، قاله ابن عباس، والربيع.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/355.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة وحده (ان تضل إحداهما) بكسر الالف، الباقون بفتحها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو (فتذكر) بالتخفيف والنصب، وقرأ حمزة بالتشديد، والرفع، وقرأ (تجارة حاضرة) بالنصب عاصم، الباقون بالرفع.

2. ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ معناه تعاملتم بدين، وإنما قال (بدين) وإن كان تداينتم أفاده لأمرين:

أ. أحدهما: أنه على وجه التأكيد كما تقول ضربته ضرباً.

ب. الثاني: أن تداينتم يكون بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء فإذا قال بدين اختص بالدين خاصة.

3. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ معناه معلوم، ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ ظاهره الأمر بالكتابة، واختلفوا في مقتضاه:

أ. فقال أبو سعيد الخدري، والشعبي، والحسن: هو مندوب إليه.. وهو أصح، لإجماع أهل عصرنا على ذلك، ولقوله تعالى‏: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ ومفهومه فان أمنه فيما له أن يأمنه.

ب. وقال الربيع، وكعب: هو على الفرض.

4. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾:

أ. قال ابن عباس: هذه الآية في السَّلم خاصة.

ب. وقال غيره: حكمها في كل دين من سلم أو تأخير ثمن في بيع، وهو الأقوى لآية العموم، فأما القرض فلا مدخل له فيه لأنه لا يجوز مؤجلا.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾:

أ. ظاهره النهي عن الامتناع من الكتابة، والنهي يقتضي تحريم الامتناع.

ب. وقال عامر الشعبي هو فرض على الكفاية كالجهاد، وهو اختيار الرماني، والجبائي وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك، وعندنا (2) لا يجوز ذلك، والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين، ويكون الكتاب في يده لأنه له، وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه، وقال مجاهد وعطا هو واجب إذا أمر.

ج. وقال الضحاك نسختها قوله: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾

6. ﴿أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ يعني الكاتب‏ ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ أمر لمن عليه الحق بالاملال وهو والاملاء بمعنى تقول أمليت عليه وأمللت عليه بمعنى واحد، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ معناه لا يملل إلا الحق الذي عليه والإملال المراد به الندب لأنه لو أملأ غيره وأشهد هو كان جائزاً بلا خلاف.

7. ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لا ينقص منه شيئاً والبخس النقص ظلماً، وقد بخسه حقه يبخسه بخساً إذا نقصه ظلماً ومنه قوله تعالى‏: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ أي لا تنقصوهم ظالمين لهم، ومنه قوله‏: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ أي ناقص عن حقه والبخس فقأ العين لأنه إدخال نقص على صاحبها وتباخس القوم في البيع إذا تعاتبوا.

8. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ قال مجاهد السفيه: الجاهل، وقال السدي الصغير وأصل السفه الخفة، ومن ذلك قول الشاعر:

çمشين كما اهتزت رماح تسفهت‏...أعاليها مرّ الرياح النواسم‏é

أي استخفتها الرياح وقال الشاعر:

çنخاف أن يسفه أحلامنا...فنحمل الدهر مع الخامل‏é

أي تخف أحلامنا فالسفيه الجاهل، لأنه خفيف العقل بنقصه.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾:

أ. قال مجاهد والشعبي: هو الأحمق.

ب. وقال الطبري: هو العاجز عن الاملاء بالعي أو بالخرس‏.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ﴾:

أ. قال ابن عباس: هو العي الأخرس.

ب. وقيل: المجنون.

11. اختلف في الهاء في قوله: ﴿وَلِيُّهُ﴾:

أ. قيل: عائدة إلى السفيه في قول‏ الضحاك، وابن زيد الذي يقوم مقامه.. وهو أقوى، وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته بل يلزم ذلك في مال المولى عليه.

ب. وقال الربيع: ترجع إلى ولي الحق.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/372.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الدَّيْن: ما ثبت في الذمة، داين مداينة.

ب. الأجل: الوقت، وقيل: انقضاء الوقت.

ج. الإملاء والإملال لغتان، أملى يملي إملاء، ومنه ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، وأَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً، ومنه ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ نطق بهما القرآن، وأصل الإملال: إعادة الشيء مرة بعد مرة.

د. البخس: النقص ظلمًا، بخسه حقه، ومنه ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾

هـ. السفه: الجهل، وأصله من الخفة، سمي بذلك لخفة عقله.

و. السأم: الملل، سأم يسأم سأمًا إذا مل من الشيء وضجر منه.

2. لما حرم تعالى الربا رخص في السَّلَم والمداينات، فلما أمر بالإنظار أمر بالاستيفاء قبل الكتابة والإشهاد فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا اللَّه ورسوله ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ أي داين بعضكم بعضًا يعني أعطاه دَيْنًا بدين، ذكر الدين مع المداينة لوجهين:

أ. أحدهما: تخليص المشترك لأن ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ يرد بمعنى تجازيتم، وبمعنى تعاملتم بدين.

ب. الثاني: التأكيد على جهة تمكين المعنى في النفس كقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾

3. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وقت مسمى.

4. اختلف في عموم الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية خاصة في السَّلَم، عن ابن عباس.

ب. قيل: في كل دين وثمن بمبيع مُسَلَّمٍ وغيره، وعليه المفسرون والفقهاء.

5. ﴿مُسَمًّى﴾ أي مذكور معلوم ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أي اكتبوا الدين؛ لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، واختلفوا في هذه الكتابة:

أ. فقيل: هو ندب، عن أبي سعيد الخدري والحسن وعليه الأكثر.. وهو الوجه؛ لأنه ليس ببعيد، وإنما هو استيثاق بحقوق الناس.

ب. وقيل: فرض، عن الربيع وكعب.

ج. وقيل: كانت الكتابة والإشهاد والرهن واجبًا فنسخ بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية، عن الشعبي.

6. ثم بين كيفية الكتاب فقال تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ يعني وليكتب كتاب المداينة أو البيع بين المتعاقدين كاتب بالعدل أي بالحق والإنصاف، ولا يزيد فيه ولا ينقص، ولا يكتب شيئًا يضر بأحدهما إلا بعلمه ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ لا يمتنع.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: الكتابة واجبة على الكفاية كالجهاد ونحوه، عن الشعبي وجماعة من المفسرين.

ب. وقيل: واجب على الكاتب في حال فراغه، عن السدي منسوب من غيره إلى سدة المسجد.

ج. وقيل: واجب إذا أمر، عن مجاهد وعطاء والربيع.

د. وقيل: نسختها ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، والعمل على القول الأول.

8. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ أمر للكاتب، وكانت الكتبة فيهم قلة على عهد رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فلذلك أكد بقوله: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ ثم بين كيفية الإملاء على الكاتب فقال تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني المطلوب المدْيون يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه فليكتب ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي يتقي مخالفة أمره ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ لا ينقص من الحق شيئًا.

9. ثم بَيَّنَ تعالى حال من لا يصح منه الإملاء، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني المديون ﴿سَفِيهًا﴾:

أ. قيل: جاهلاً بالإملاء، عن مجاهد.

ب. وقيل: طفلاً صغيرًا عن السدي والضحاك.

ج. وقيل: عاجزًا أحمق، عن ابن زيد.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾:

أ. قيل: مريضًا.

ب. وقيل: شيخًا خرفا.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾:

أ. قيل: أي لا يقدر على الإملاء لخرس أو عجمة أو نحوه.

ب. وقيل: الأقرب أن يحمل على ثلاث صفات لكيلا يؤدي إلى التكرار، ثم اختلف هَؤُلَاءِ:

فقيل: السفيه المجنون والضعيف الصغير، ومن لا يستطيع الأخرس ونحوه، ثم يدخل في كل واحد من هو في معناه.

وقيل: السفيه: المبذر، والضعيف: الصبي المراهق، ومن لا يستطيع أن يمل المجنون عن القاضي، وهذا أوجه.

12. ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ أي قَيِّمُهُ:

أ. قيل: ولي السفيه يملي ما على السفيه، فيقوم مقامه، عن الضحاك وابن زيد.

ب. وقيل: ولي الحق، عن ابن عباس والربيع ومقاتل؛ لأنه أعلم بدينه، فيملي بالحق والعدل.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز المداينة، واتفقوا على جوازها فيما له مثل، نحو الدراهم والدنانير والحنطة والشعير ونحوها، فأما الذي لا مثل له كالحيوان والثياب فعند الأكثر لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز.

ب. أن في المداينة ما يدخله الأجل، واتفقوا أن ما يكون في الذمة يقبل الآجال، فأما الأعيان فلا تقبل الآجال.

ج. أن الآجال يجب أن تكون معلومة؛ لذلك قال: ﴿مُسَمًّى﴾، وهو يفيد كونه معلومًا، ولأن الغرض بالكتابة والإشهاد الطلب، وجهالة الأجل تمنع من ذلك.

د. الكتابة والإشهاد عليه فالأقرب أنه إرشاد وندب غير واجب؛ لأن لصاحب الحق أن يسقط حقه أصلاً فكيف يجب عليه أن يكتبه احتياطًا.

هـ. أن الدين لا يجب المطالبة به قبل الأجل، لولا ذلك لم يفد الأجل.

و. أن الدين واجب، وإن تأخرت المطالبة.

ز. أن قوله: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ إرشاد وندب، وقد قيل: إنه إن كان هناك جماعة فهو فرض على الكفاية، وإن كان واحد تعين عليه.

ح. كيفية كتب الشرائط والوثائق، حيث أمر بكتابته بالعدل، وحذر من الإضرار بأحدهما.

ط. أن الكاتب يجب أن يكون من أهل المعرفة حتى يميز العدل من غيره.

ي. قوله: ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ يدل على أن من عليه الحق يجب أن يقر به، ويشهد على نفسه، ولا خلاف في وجوب الإقرار والإشهاد مقدار ما يتوثق به، فأما ما زاد عليه فلا يجب.

ك. قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ يدل عليه؛ لأن جميع ذلك إنما يمنع الإقرار وصحته.

ل. تدل على أن الإقرار مقبول معمول به، وأن الشهادة تقع عليه كما تقع على المداينات.

م. أن إقرار السفيه والضعيف لا يقبل، ثم منهم مَنْ حَمَلَ الجميع على أمر واحد، ومنهم من جعلها أمورًا متغايرة تغاير الأسباب الثلاثة، وعند كل واحد يجب أن يمل وليه، ولا خلاف أن إقرار الصغير والمجنون لا يصح، فأما إقرار المبذر فيقبل عند أهل العراق، وعند الشافعي لا يقبل، وهذا بعد الحجر، فوجب أن يحمل السفيه على المجنون، والضعيف على الصغير، ومن لا يستطيع على الأخرس ومن في معناه.

ن. وجوب نصب الولاة والحكام من حيث لا يتم أمر السفيه والضعيف إلا بهم.

14. قراءة العامة ﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ بسكون اللام، وعن الحسن بكسرها، وهذه لام الأمر، ولا يؤمر به غير الغائب، فإذا كانت مفردة فليس فيها إلا الحركة والكسرة، فإن كان قبلها واو، أو فاء، أو ﴿ثُمَّ﴾ فأكثر العرب على تسكينها طلبًا للخفة، ومنهم من يكسرها على الأصل.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/142.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. تقول: داينت الرجل مداينة: إذا عاملته بدين أخذت منه، أو أعطيته، وتداين القوم، أو الرجلان بمعناه، قال الشاعر:

çداينت أروى، والديون تقضى... فمطلت بعضا، وأدت بعضاé

ويقال: دنت وأدنت: إذا اقترضت، وأدنت: إذ ا أقرضت، قال:

çأدان، وأنبأه الأولون... بأن المدان ملئ، وفيé

ب. الإملال الإملاء، يقال: أمل عليه، وأملى عليه بمعنى.

ج. البخس: النقص ظلما، يقال بخسه حقه يبخسه بخسا، وثمن بخس: ناقص عن حقه، والبخس فقوء العين، لأنه إدخال نقص على صاحبها.

د. السفيه: الجاهل، وأصل السفه: الخفة، قال الشاعر:

çتخاف أن تسفه أحلامنا... فتخمل الدهر مع الخاملé

وإنما سمي الجاهل بالسفيه، لخفة عقله.

2. لما أمر سبحانه بإنظار المعسر، وتأجيل دينه، عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤجلة، وعقود المداينة، فقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ أي: تعاملتم، وداين بعضكم بعضا.

3. في قوله تعالى: ﴿بِدَيْنٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إنه على وجه التأكيد، وتمكين المعنى في النفس كقوله تعالى ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾

ب. والآخر: إنه إنما قال ﴿بِدَيْنٍ﴾ لأن ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ قد يكون بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء، وقد يكون بمعنى تعاملتم بدين، فقيده بالدين لتلخيص اللفظ من الاشتراك.

4. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي: وقت مذكور معلوم بالتسمية، واختلفوا:

أ. قال ابن عباس: إن الآية وردت في السلم خاصة، وكان يقول: أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم، وأنزل فيه أطول آية من كتابه، وتلا هذه الآية.

ب. وظاهر الآية يقع على كل دين مؤجل، سلما كان أو غيره، وعليه المفسرون والفقهاء.

5. ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ معناه فاكتبوا الدين في صك، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وليكون ذلك توثقة للحق، ونظرا للذي له الحق، وللذي عليه الحق، وللشهود، فوجه النظر:

أ. للذي له الحق أن يكون حقه موثقا بالصك والشهود، فلا يضيع حقه.

ب. للذي عليه الحق أن يكون أبعد به من الجحود، فلا يستوجب النقمة والعقوبة.

ج. للشهود أنه إذا كتب بخطه، كان ذلك أقوم للشهادة، وأبعد من السهو، وأقرب إلى الذكر.

اختلف في هذا الأمر:

أ. قيل: هو مندوب إليه، عن أبي سعيد الخدري، والحسن والشعبي، وهو الأصح، وعليه الأكثر.. ويدل على صحته قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، والمفهوم من هذا الظاهر: فإن ائتمنه على ما له أن يأتمنه عليه.

ب. وقيل: هو فرض، عن الربيع وكعب.

6. ثم بين الله تعالى كيفية الكتابة فقال: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ يعني: وليكتب كتاب المداينة، أو البيع بين المتعاقدين، كاتب بالقسط والإنصاف والحق، لا يزيد فيه، ولا ينقص منه في صفة ولا مقدار، ولا يستبدل، ولا يكتب شيئا يضر بأحدهما إلا بعلمه.

7. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ أي: ولا يمتنع كاتب من ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ الصك على الوجه المأمور به ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: من الكتابة بالعدل.

ب. وقيل: كما فضله الله تعالى بتعليمه إياه، فلا يبخل على غيره بالكتابة.

8. اختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا:

أ. فقيل: هي فرض على الكفاية، كالجهاد ونحوه، عن الشعبي وجماعة من المفسرين، واختاره الرماني والجبائي، وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: وعندنا (2) لا يجوز ذلك، والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين، ويكون الكتاب في يده، لأنه له.

ب. وقيل: واجب على الكاتب أن يكتب في حال فراغه، عن السدي.

ج. وقيل: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، عن مجاهد وعطا.

د. وقيل: إن ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره، فيضر بصاحب الدين إن امتنع، فإذا كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره، عن الحسن.

هـ. وقيل: كان واجبا، ثم نسخ بقوله ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، عن الضحاك.

9. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ أمر للكاتب أي: فليكتب الصك على الوجه المأمور به، وكانت الكتبة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيهم قلة، فلذلك أكد بقوله: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ إذ الجمع بين الأمر بالشئ، والنهي عن تركه، أدعى إلى فعله، من الاقتصار على أحدهما.

10. ثم بين سبحانه كيفية الإملاء على الكاتب، فقال سبحانه: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ يعني المديون يقر على نفسه بلسانه، ليعلم ما عليه فليكتب، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي: الذي عليه الحق في الإملاء ﴿وَلَا يَبْخَسْ﴾ أي: ولا ينقص ﴿مِنْهُ﴾ أي: من الحق ﴿شَيْئًا﴾ لا من قدره، ولا من صفته.

11. ثم بين الله تعالى حال من لا يصح منه الإملاء، فقال: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾:

أ. قيل: أي جاهلا بالاملاء، عن مجاهد.

ب. وقيل: صغيرا طفلا، عن السدي والضحاك.

ج. وقيل: عاجزا أحمق، عن ابن زيد.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾:

أ. قيل: أي: ضعيف العقل من عته أو جنون.

ب. وقيل: شيخا خرفا.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾:

أ. قيل: أي: مجنونا.

ب. وقيل: عييا أخرس، عن ابن عباس.

ج. وقيل: الأقرب أن يحمل على ثلاث صفات، لكيلا يؤدي إلى التكرار، ثم اختلف في ذلك:

فقيل: السفيه: المجنون، والضعيف: الصغير، ومن لا يستطيع أن يمل: الأخرس ونحوه، ثم يدخل في كل واحد من هو في معناه.

وقيل: السفيه المبذر، والضيف: الصبي المراهق، ومن لا يستطيع أن يمل: المجنون، عن القاضي.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾:

أ. قيل: معناه فليملل ولي الذي عليه الحق، إذا عجز عن الإملاء بنفسه، عن الضحاك وابن زيد.

ب. وقيل: معناه ولي الحق وهو الذي له الحق، عن ابن عباس، لأنه أعلم بدينه، فيملي بالحق والعدل.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/679.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، قال الزجّاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت منه بدين، وأعطيته، قال الشاعر: (دنّاهم كما دانوا)، فدلّ بقوله: ﴿بِدَيْنٍ﴾ على المراد بقوله: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾، ذكره ابن الأنباريّ، فأمّا العدل فهو الحق، قال قتادة: لا تدعنّ حقا، ولا تزيدنّ باطلا.

2. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾، أي: لا يمتنع أن يكتب كما علّمه الله، وفيه قولان:

أ. أحدهما: كما علّمه الله الكتابة، قاله سعيد بن جبير، وقال الشّعبيّ: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد.

ب. الثاني: كما أمره الله به من الحق، قاله الزجّاج.

3. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، قال سعيد بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حقّ الطّالب على الكاتب، ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ﴾، أي: لا ينقص عند الإملاء، قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ: يقال: أمللت أملّ، وأمليت أملي لغتان: فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن المملّ يطيل قوله على الكاتب ويكرّره.

4. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾، في المراد بالسّفيه هاهنا أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه الجاهل بالأموال، والجاهل بالإملاء، قاله مجاهد، وابن جبير.

ب. الثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن.

ج. الثالث: أنه الصغير، قاله الضحّاك، والسّدّيّ.

د. الرابع: أنه المبذّر، قاله القاضي أبو يعلى.

5. في المراد بالضّعيف ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه العاجز والأخرس ومن به حمق، قاله ابن عباس وابن جبير.

ب. الثاني: أنه الأحمق، قاله مجاهد والسّدّيّ.

ج. الثالث: أنه الصغير، قاله القاضي أبو يعلى.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾:

أ. قال ابن عباس: لا يستطيع لعيّه.

ب. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يملّ ما عليه.

ج. وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون.

7. في هاء الكناية في قوله تعالى؛ ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها تعود إلى الحق، فتقديره: فليملل وليّ الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والرّبيع بن أنس، ومقاتل، واختاره ابن قتيبة.

ب. الثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحّاك، وابن زيد، واختاره الزجّاج، وعاب قول الأوّلين، فقال: كيف يقبل المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله!؟ وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا، والعدل: الإنصاف.

__________

(1) زاد المسير: 1/251.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحكم الثالث: من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة، وفي كيفية النظم وجهان:

أ. الأول: أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم: أحدهما: الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال، الثاني: ترك الربا، وهو أيضاً سبب لتنقيص المال.. ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم، فقال: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الربا، وعلى ملازمة التقوي لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال، ثم إنه تعالى لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف، وقد ورد نظيره في سورة النساء: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد.

ب. الثاني: أن قوماً من المفسرين قالوا: المراد بالمداينة السلم، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالًا وسبيلًا مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم.

2. الذي يدل على أهمية الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد(2): أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنّه قال: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ ثم قال ثانيا: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ ثم قال ثالثاً: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ فكان هذا كالتكرار لقوله‏: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ لأن العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ وهذا إعادة الأمر الأول، ثم قال خامساً: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ وفي قوله‏: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ كفاية عن قوله‏: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ وهذا تأكيد، ثم قال سابعاً: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ فهذا كالمستفاد من قوله‏: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ ثم قال ثامناً: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ وهو أيضا تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم، وهو حسن لطيف.

3. التداين تفاعل من الدين، ومعناه داين بعضكم بعضاً، وتداينتم تبايعتم بدين، قال أهل اللغة: القرض غير الدين، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم، أو دنانير، أو حباً، أو تمراً، أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل، ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل، ودان يدين إذا أقرض، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر:

çندين ويقضي الله عنا وقد نرى‏...مصارع قوم لا يدينون ضيقاé

4. في المراد بهذه المداينة أقوال:

أ. قال ابن عباس: أنها نزلت في السلف لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، ثم إن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل، فقال: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾

ب. الثاني: أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل.

ج. الثالث: وهو قول أكثر المفسرين: أن البياعات على أربعة أوجه:

أ. أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة البتة.

ب. الثاني: بيع الدين بالدين وهو باطل، فلا يكون داخلًا تحت هذه الآية.

ج. بقي هنا قسمان: بيع‏ العين بالدين، وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل.

د. وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية.

5. سؤال وإشكال: المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق، والجواب: أن المراد من تداينتم تعاملتم، والتقدير: إذا تعاملتم بما فيه دين.

6. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ يدل على الدين فما الفائدة بقوله‏: ﴿بِدَيْنٍ﴾؟ والجواب: من وجوه:

أ. الأول: قال ابن الأنباري: التداين يكون لمعنيين: أحدهما: التداين بالمال، والآخر التداين بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين.

ب. الثاني: قال الزمخشري: إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله‏: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن.

ج. الثالث: أنه تعالى ذكره للتأكيد، كقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30] [ص: 73] ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]

د. الرابع: فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً، على أي وجه كان، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل.

هـ. الخامس: ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل، أما لما قال ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ كان المعنى: إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ويبقى بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.

7. سؤال وإشكال: المراد من الآية: كلما تداينتم بدين فاكتبوه، وكلمة (إذا) لا تفيد العموم فلم قال ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ ولم يقل كلما تداينتم؟ والجواب: أن كلمة (إذا) وإن كانت لا تقتضي العموم، إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية، وهو قوله‏: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾، والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب، فالظاهر أنه تنسى الكيفية، فربما توهم الزيادة، فطلب الزيادة وهو ظلم، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل، كان الحكم أيضاً حاصلًا في الكل.

8. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر، والآجل نقيض العاجل.

9. سؤال وإشكال: المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟ والجواب: إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله‏: ﴿مُسَمًّى﴾ والفائدة في قوله‏: ﴿مُسَمًّى﴾ ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام، ولو قال إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو إلى قدوم الحاج، لم يجز لعدم التسمية.

10. أمر الله تعالى في المداينة بأمرين:

أ. أحدهما: الكتبة وهي قوله هاهنا ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾

ب. الثاني: الإشهاد وهو قوله‏: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾

11. فائدة الكتابة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان، ويدخل فيه الجحد، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به.

12. القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه:

أ. فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري، وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل.

ب. وقال آخرون: هذا الأمر محمول على الندب، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة)

ج. وقال قوم: بل كانت واجبة، إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله‏: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283] وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة، وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾

13. لما أمر الله تعالى بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين:

أ. الأول: أن يكون الكاتب عدلًا وهو قوله‏: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾

ب. الثاني: أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلأجل ذلك قال تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾

14. قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب، لكن ذلك غير ممكن، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً، فصار معنى قوله‏: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أي لا بد من حصول هذه الكتبة، وهو كقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً﴾ [المائدة: 38] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إما الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هاهنا، ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان.

15. في قوله تعالى: ﴿بِالْعَدْلِ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه.

ب. الثاني: إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه.

ج. الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلًا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين.

د. الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها.

16. هذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة.

17. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ ظاهر هذا الكلام نهي لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً، وفيه وجوه:

أ. الأول: أن هذا على سبيل الإرشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلًا لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77] فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.

ب. الثاني: وهو قول الشعبي: أنه فرض كفاية، فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه، فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.

ج. الثالث: أن هذا كان واجباً على الكاتب، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾

د. الرابع: أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله، وأن لا يخل بشرط من الشرائط، ولا يدرج فيه قيدا يخل بمقصود الإنسان، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان، وضاع ماله، فكأنه قيل له: إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى.

18. في قوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ احتمالان:

أ. الأول: أن يكون متعلقاً بما قبله، ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك: فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.

ب. الثاني: أن يكون متعلقاً بما بعده، والتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب، وهاهنا تم الكلام، ثم قال بعده‏ ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها، والوجهان ذكرهما الزجاج.

19. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ الإملال والإملاء لغتان، قال الفرّاء: أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد، وأمليت لغة تميم وقيس، ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]

20. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ هذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال‏ الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً.

21. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ المعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه، وإدخال حرف (أو) بين هذه الألفاظ الثلاثة، أعني السفيه، والضعيف، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس، أو جهله بماله وما عليه، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، فقال تعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾:

أ. والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة، لأن ولي المحجور السفيه، وولي الصبي: هو الذي يقر عليه بالدين، كما يقرب بسائر أموره، وهذا هو القول الصحيح.

ب. وقال ابن عباس ومقاتل والربيع: المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد، لأنه كيف يقبل قول المدعي، وإن كان قوله معتبراً، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/90.

(2) الكلام هنا للقفال

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ الآية، قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة، معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المدائنات إجماعا، وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما، وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المدائنات، وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.

2. ﴿بِدَيْنٍ﴾ تأكيد، مثل قوله ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾، ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا، قال الشاعر:

çوعدتنا بدرهمينا طلاء... وشواء معجلا غير دينé

وقال آخر:

çلترم بي المنايا حيث شاءت... إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا... فذاك الموت نقدا غير دينé

وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾

3. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال ابن المنذر: (دل قول الله ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلت سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى، ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه ابن عباس، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وقال ابن عمر: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم الجائز أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامة لا يخطئ مثلها، بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ممن ما أسلم فيه قبل أن يفترقا من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسميا المكان الذي يقبض فيه الطعام، فإذا فعلا ذلك وكان جائز الأمر كان سلما صحيحا لا أعلم أحدا من أهل العلم يبطله)

4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالسلم، وخصوصا ما ذكره فقهاء المالكية بشأنه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

5. ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ يعني الدين والأجل، ويقال: أمر بالكتابة ولكن المراد الكتابة والإشهاد، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، ويقال: أمرنا بالكتابة لكيلا ننسى، وروى أبو داوود الطيالسي في مسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في قول الله تعالى ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ إلى آخر الآية: إن أول من جحد آدم صلّى الله عليه وآله وسلم إن الله أراه ذريته فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره فقال يا رب من هذا قال هذا ابنك داوود قال يا رب فما عمره قال ستون سنة قال يا رب زده في عمره فقال لا إلا أن تزيده من عمرك قال وما عمري قال ألف سنة قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة قال فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة قال إنه بقي من عمري أربعون سنة، قالوا إنك قد وهبتها لابنك داوود قال ما وهبت لأحد شيئا فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته ـ في رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة)(2)، خرجه الترمذي أيضا.

6. في قوله ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له المعربة عنه، للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه.

7. ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري، وقال ابن جريج: من ادان فليكتب، ومن باع فليشهد، وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾ ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس.

8. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، السدي: واجب مع الفراغ، وحذفت اللام من الأول وأثبتت في الثاني، لأن الثاني غائب والأول للمخاطب، وقد ثبتت في المخاطب، ومنه قوله تعالى: ﴿فلتفرحوا﴾ بالتاء، وتحذف في الغائب، ومنه: محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شي تبالا

9. ﴿بِالْعَدْلِ﴾ أي بالحق والمعدلة، أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل، وإنما قال ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر، وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل.

10. الباء في قوله تعالى ﴿بِالْعَدْلِ﴾ متعلقة بقوله: ﴿وَلْيَكْتُبْ﴾ وليست متعلقة بـ ﴿كَاتِبٌ﴾ لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها، أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، قال مالك: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، فالباء على هذا متعلقة بـ ﴿كَاتِبٌ﴾ أي ليكتب بينكم كاتب عدل، ف ﴿بِالْعَدْلِ﴾ في موضع الصفة.

11. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ نهى الله الكاتب عن الإباء، واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد:

أ. فقال الطبري والربيع: واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب.

ب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره، فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره.

ج. وقال السدي: واجب عليه في حال فراغه، وقد تقدم.

د. حكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله ﴿وَلَا يَأْبَ﴾ منسوخ بقوله ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، وهذا يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان، ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة.

هـ. وقال ابن العربي: والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذه حقه، وأبى يأبي شاذ، ولم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى وغسى يغسى وجبى الخراج يجبى، وقد تقدم.

12. ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ الكاف في ﴿كَمَا﴾ متعلقة بقوله ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ المعنى كتبا كما علمه الله، ويحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله ﴿وَلَا يَأْبَ﴾ من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾ ثم يكون ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾

13. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملاء والإملال لغتان، أمل وأملى، فأمل لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم تقول: أمليت، وجاء القرآن باللغتين، قال تعالى: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، والأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنه أخف، فأمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره، وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهى عن أن يبخس شيئا من الحق، والبخس النقص، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾

14. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾ قال بعض الناس: أي صغيرا، وهو خطأ فإن السفيه قد يكون كبيرا على ما يأتي بيانه، ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ أي كبيرا لا عقل له، ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ﴾ جعل الله الذي عليه الحق أربعة أصناف: مستقل بنفسه يمل، وثلاثة أصناف لا يملون وتقع نوازلهم في كل زمن، وكون الحق يترتب لهم في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، وهم السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل.

15. السفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والبذي اللسان يسمى سفيها، لأنه لا تكاد تتفق البذاءة إلا في جهال الناس وأصحاب العقول الخفيفة، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، قال الشاعر:

çنخاف أن تسفه أحلامنا... ويجهل الدهر مع الحالمé

وقال ذو الرمة:

çمشين كما اهتزت رماح تسفهت... أعاليها مر الرياح النواسمé

أي استضعفها واستلانها فحركها.

16. الضعف بضم الضاد في البدن وبفتحها في الرأي، وقيل: هما لغتان، والأول أصح، لما روى أبو داوود عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يبتاع وفي عقله ضعف فأتى أهله نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبي الله، احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف، فدعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله، إني لا أصبر عن البيع ساعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة)، وأخرجه أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي من حديث أنس وقال: هو صحيح، وقال: إن رجلا كان في عقله ضعف، وذكر الحديث، وذكره البخاري في التاريخ وقال فيه: (إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال)، وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع ابني حبان: وقيل: وهو منقذ جد يحيى وواسع شيخي مالك ووالده حبان، أتى عليه مائة وثلاثون سنة، وكان شج في بعض مغازيه مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مأمومة خبل منها عقله ولسانه: وروى الدارقطني قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا ضرير البصر وكان قد سفع في رأسه مأمومة، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم له الخيار فيما يشتري ثلاثة أيام، وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (بع وقل لا خلابة) فكنت أسمعه يقول: لا خذابة لا خذابة، أخرجه من حديث ابن عمرو، الخلابة: الخديعة، ومنه قولهم: (إذا لم تغلب فاخلب)

17. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالحجر والخداع، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

18. ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطرة العاجز عن الإملاء، إما لعيه أو لخرسه أو جهله بأداء الكلام، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليه وصيه أو أبو هـ والغائب عن موضع الإشهاد، إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووليه وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز.

19. ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ ذهب الطبري إلى أن الضمير في ﴿وَلِيُّهُ﴾ عائد على ﴿الْحَقُّ﴾ وأسند في ذلك عن الربيع، وعن ابن عباس، وقيل: هو عائد على ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ وهو الصحيح، وما روي عن ابن عباس لا يصح، وكيف تشهد البينة على شي وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين! هذا شي ليس في الشريعة، إلا أن يريد قائله: إن الذي لا يستطيع أن يمل لمرض أو كبر سن لثقل لسانه عن الإملاء أو لخرس، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه عن الإملاء لخرس ولي عند أحد العلماء، مثل ما ثبت على الصبي والسفيه عند من يحجر عليه، فإذا كان كذلك فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه: ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل لمرض ومن ذكر معه.

20. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ دل ذلك على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم، فيقول الراهن رهنت بخمسين والمرتهن يدعي مائة، فالقول قول الراهن والرهن قائم، وهو مذهب أكثر الفقهاء: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر قال: لأن المرتهن مدع للفضل، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)، وقال مالك: القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن ولا يصدق على أكثر من ذلك، فكأنه يرى أن الرهن ويمينه شاهد للمرتهن، وقوله تعالى ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ رد عليه، فإن الذي عليه الحق هو الراهن.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/377.

(2) لا نرى صحة هذا الحديث

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا، أي: إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ وقيل: إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ ولو قال فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ والدين: عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا.

2. بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله: ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وقد استدلّ به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصا أجل السّلم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم) وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين، قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع القافلة، أو نحو ذلك وجوّزه مالك، ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أي: الدين بأجله، لأنه أدفع للنزاع، وأقطع للخلاف.

3. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ﴾ هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه؛ وقيل الأمر للندب.

4. ﴿بِالْعَدْلِ﴾ متعلق بمحذوف صفة لكاتب، أي: كاتب كائن بالعدل، أي: يكتب بالسوية، لا يزيد ولا ينقص، ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة، لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرّى الحق بينهم والمعدلة فيهم.

5. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم، أي: لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله، أي: على الطريقة التي علمه الله من الكتابة، أو كما علمه الله بقوله: ﴿بِالْعَدْلِ﴾

6. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ الإملال والإملاء لغتان: الأولى: لغة أهل الحجاز، وبني أسد، والثانية: لغة بني تميم، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾

7. ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ هو من عليه الدين، أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، بالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ ونهاه عن البخس وهو: النقص؛ وقيل: إنه نهي للكاتب، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص، ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصره في نهيه على النقص، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.

8. السفيه: هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه، وهو: الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى.. وبالجملة فالسفيه: هو المبذر إما لجهله بالصرف، أو لتلاعبه بالمال عبثا، مع كونه لا يجهل الصواب.

9. الضعيف: هو الشيخ الكبير، أو الصبي، قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي، والذي لا يستطيع أن يملّ هو: الأخرس، أو العييّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي؛ وقيل: إن الضعيف هو المذهول العقل، الناقص الفطنة، العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يملّ هو الصغير.

10. ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويملّ عن الصبي وصيه أو وليه، وكذلك يملّ عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه، لأنه في حكم الصبيّ أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويملّ عن الذي لا يستطيع وكيله، إذا كان صحيح العقل، وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي، وقال الطبري: إن الضمير في قوله: ﴿وَلِيُّهُ﴾ يعود إلى الحق، وهو ضعيف جدا، قال القرطبي في تفسيره: وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا، مفسوخ أبدا، لا يوجب حكما، ولا يؤثر شيئا، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/345.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾

2. في قوله تعالى: ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ دليل على جواز السلم، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه، لأنه دين من الجانبين جميعا، وعلى ذلك روي عن ابن عباس قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، أن الله تعالى أحلّه وأذن فيه ثم قرأ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ الآية، رواه البخاري، وقال آخرون: قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى التداين، كما يسمى البائع والمشترى المتبايعين، لأن كل واحد منهما بائع في وجه، فعلى ذلك، المداينة التداين، وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان لأنه في‏ المداينات وصل أحدهما إلى حاجته بقبض رأس المال، والآخر لم يصل، فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود، فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود، لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، ولا كذلك مع العين بالعين، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى، وثمة وجه آخر وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة، ولا كذلك في بيع العين بالعين، فافترقا، كذا في التأويلات للماتريديّ‏.

3. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ﴾ أي الدين المذكور ﴿كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ الجار متعلق إما بالفعل أي (وليكتب بالحق)، أو بمحذوف صفة لكاتب، أي: وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين، لا يزيد ولا ينقص، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه ديّن، حتى يجيء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع.

4. ﴿وَلَا يَأْبَ﴾ أي ولا يمتنع‏ ﴿كَاتِبٌ﴾ من‏ ﴿أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ أي كما بيّنه بقوله تعالى‏: ﴿بِالْعَدْلِ﴾، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليم الكتاب، كقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]، وفي الحديث‏: (إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق)، وفي الحديث الآخر: (من كتم علما يعلمه، ألجم بلجام من نار)، قال الرازيّ: ظاهر هذا الكلام نهي لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة، وإيجابها على كل من كان كاتبا.

5. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ أي تلك الكتابة المعلمة، أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيدا لها ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ الإملال الإملاء، وهما لغتان نطق القرآن بهما، قال تعالى: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾ [الفرقان: 5]، أي وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه‏ ﴿وَلْيَتَّقِ﴾ أي وليخش المملي‏ ﴿اللَّهَ رَبَّهُ﴾ جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، للمبالغة في التحذير ﴿وَلَا يَبْخَسْ﴾ أي لا ينقص‏ ﴿مِنْهُ﴾ أي مما عليه‏ ﴿شَيْئًا﴾ مما عليه من الدين.

6. ﴿فَإِنْ كَانَ﴾ المدين وهو ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ أي خفيف الحلم أو جاهلا بالإملاء لا يحسنه‏ ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ صبيا أو شيخا هرما ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ أي أو غير مستطيع للإملاء بنفسه ـ لعيّ به أو خرس أو عجمة، ولفظ (هو) هنا توكيد للفاعل المضمر ـ والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها فهي مبدوء بها، وقرئ بإسكانها على أن يكون أجري المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام، نحو: وهو، فهو، لهو، قاله أبو البقاء، ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ يعني الذي يلي أمره من قيّم أو وكيل أو ترجمان‏ ﴿بِالْعَدْلِ﴾ من غير نقص ولا زيادة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/234.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم﴾ تعاملتم، وهو شامل للآخذ والمعطي، فإنَّه يجب أن يتأكَّد عليهما معًا توثُّق لئلَّا يضيع مال المعطي، وليقضي ورثة الآخذ إن مات، أو هو أو نائبه دينه فلا يهلك، ولكن إذا استوثق صاحب الحقِّ بالكتابة والإشهاد كفاه، وينبغي له مع ذلك أن يكتب ويقدِّم في ذلك لورثته ووصيِّه.

2. ﴿بِدَيْنٍ﴾ أيِّ دين كان، قليلا أو كثيرا، فهذا تأكيد في الكتابة، ويبعد توهُّم المجازاة مع السياق واللِّحاق، فليس ذكر (دَيْنٍ) دفعا لتوهُّمها كما قيل: إنَّه ذُكِرَ دفعا لها، وإنَّ السياق قد لا ينتبه له إِلَّا الفطن، وقيل: ذُكِرَ لترجع إليه الهاء، ولو لم يذكر لقيل: (فاكتبوا الدَّين) فلا يكون الكلام بليغا، ولو قيل: مع عدم ذكر (بدين فاكتبوه) لكان من باب: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: 8]، لكنَّ الدَّين ليس بمعنى المصدر، بل أحد العِوَضين، وقيل: ذكر لبيان أنَّ البيع آجل وعاجل، وهو شامل لمطلق البيع وللبيع بالسَّلَم، إِلَّا القرض فلا يؤجَّل على الصحيح، كما بسطته في الفروع، وصحَّ القرض وبطل الأجل إن كان لغرض المقرِض، وإن كان لغرض المستقرض لم يفسد، واستُحِبَّ الوفاء أو وجب؛ وذلك أنَّ الأجل زيادة كزيادة الربا، كما أنَّه لو أقرضه وشَرَطَ أحدهما مكانا مخصوصا لكان ربا؛ لأنَّ شرط المكان منفعة لأحدهما، ورخَّص فيه بعض، مثل القرض في تونس وشرط الوفاء في مضاب، وأجاز مالك القرض إلى أجل.

3. ﴿إلَى أَجَلٍ﴾ متعلِّق بـ (تَدَايَنتُم)، أو بكون خاصٍّ نعتٌ لـ (دَيْنٍ)، أي: مؤخَّر أو مؤجَّل إلى أجل ﴿مُّسَمًّى﴾ معلوم، إرشادا إلى أنَّه لا يكون الأجل إِلَّا معلوما، وأنَّ من الشأن أن لا يكون منهم إِلَّا أجل معلوم إذا صار إلى التأجيل ليرتفع النزاع لو كان إلى مجهول، كالحصاد وقدوم الحاجِّ والفراغ من نسج الثوب، ويلحق بالأجل البيع بالعاجل غير النقد قياسا جليًّا لإمكان النسيان والإنكار فيه، كما في الأجل المسمَّى إذا لم يكتب، وقوله بعد: ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجارَةٌ حَاضِرَةٌ﴾ كالنصِّ فيما قلت، ولو كان استثناء منقطعا، فكيف لو جعلناه متَّصلا من قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾، وإن كان لأجل مجهول بطل البيع على الصحيح، والبسط في الفروع، ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أي: الدَّين، كمًّا وجنسا وكيفا وأجلا، والأمر للوجوب بلا إثم إن لم يكتب، وقال بعض الفقهاء بإثمه إن ضاع لعدم الكتابة، وقيل: هذا الأمر للندب.

4. ﴿فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُوَدِّ الَّذِي اِوتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ وعليه جمهور الأمَّة؛ لأنَّ الدَّين لترفيه الناس، فلو وجب لكان ضيقا لا ترفيها، ولا سيما مع كثرة وقوع التداين، ومع كثرة وقوع الدين القليل، مِمَّا يكون السعي في كتابته أو أجرتها أكثر منه أو مساويا أو أقلَّ بقليل، إِلَّا السَّلَم فيجب فيه الإشهاد إجماعا إِلَّا شاذًّا، وعن ابن عبَّاس كما في البخاري أنَّ الآية مخصوصة بالسَّلَم، والجمهور على العموم، وعن ابن عبَّاس: لَمَّا حرم الله الربا أباح السلف، وصرَّحوا بأنَّه يكفي الإشهاد بلا كتابة.

5. والواضح أنَّ الآية أوجبت الكتابة أو أكَّدتها؛ لأنَّ الشهود قد يَنسون وقد يُنسون، وقد يصيرون إلى حال لا يؤدُّون الشهادة معها كجنون وخرف، وحالٍ لا تقبل كرِدَّة، ولو كان الإشهاد يكفي، وكَتْبُ الدَّين عبارة عن كَتْبِ ما يدلُّ عليه من الألفاظ؛ لأنَّه ما في الذِّمَّة من جسم المال، فذلك مجاز عقليٌّ للدالِّيَّة والمدلوليَّة.

6. ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ﴾ ما تداينتم به ﴿كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ معروف مقدَّم لذلك بعينه أو بوصف معروف الخطِّ، فكتابة الواحد تجزي بلا شرط أن يكتب ثان أسفل كتابته، ومعنى العدل: السويَّة لا بالنقص ولا بالزيادة في الدَّين ولا في الأجل، فهو كاتب، فقيهٌ دَيِّن يكون بينهما مقبلا لشأنهما معًا لا مائلا لأحدهما، ولا يكتف بأحدهما، والباء متعلِّق بـ (يَكْتُبْ)، أو بـ (كَاتِبٌ)، أو بمحذوف نعت لـ (كَاتِبٌ).

7. ﴿وَلَا يَابَ كَاتِبٌ﴾ في الجملة أو بالصلوح لأن يكتب، أو مَن جُعل لذلك وهو تقيٌّ، يَعرف كيف يَكتب، وما يحلُّ كتبه وما يحرم كتبه، أمَّا كاتب غير تقيٍّ فلا يكتب لئلَّا تبطل كتابته لفسقه، فيضيع مال الناس، وإن كتب ورضيَا به ولم يكتب ما لا يحلُّ وعدل في كتبه وقد عرفا حاله فلا ضمان عليه، وكذا من لا يَعرف ما يَحرُمُ كَتْبُه أو كيف يكتب فلا يكتب.

8. ﴿اَنْ يَّكْتُبَ﴾ بالفعل، وقوله: ﴿كَاتِبٌ﴾ هو بالقوَّة فلا تحصيل حاصل، والمراد: أن يكتب ما أُملِيَ عليه مِمَّا ليس حراما، ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ الكتابة، أي: لا يأب لتعليم الله إيَّاه، فهو يكتب شكرًا لتعليم الله الكتابة له، ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]، وبهذا القصد يكون شاكرا ولو أخذ الأجرة، أو أن يكتب كتبا مثل الكتب الذي علَّمه الله، أي: طبقا للقاعدة التي علَّمه الله في الكتابة، والكتابة فرض كفاية للام الأمر في الموضعين ولا الناهية، وقيل: ذلك ندب، وقيل: وجب ثمَّ نسخ الوجوب، ويجوز ـ قيل ـ عود قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ إلى قوله: ﴿فَلْيَكْتُب﴾، أو إلى قوله: ﴿وَلْيُمْلِل﴾ على أنَّ الفاء صلة للتأكيد ولو كانت شبيهة بفاء الجزاء، والأصل خلاف هذا، وكيف يصحُّ تقديم معمول ما بعد العاطف وهو الواو وعلى العاطف! قيل: الأولى: أن لا يعود إليه، أمر الله بالكتب بعد النهي عن الإباء تأكيدا، وإذا عاد إلى (فَلْيَكْتُب) كان النهي عن الإباء مطلقًا، والأمر مقيَّدا بأن يكون الكتب كما علَّمه الله، قلت: لا إشكال؛ لأنَّ المراد: فليكتب بالعدل؛ لأنَّ الكلام مبنيٌّ عليه كما أنَّ المراد: ﴿وَلَا يَابَ كَاتِبٌ اَنْ يَّكْتُبَ﴾ إذا كان بالعدل، ومعنى (يُمْلِل): يُلقِ على الكاتب.

9. ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ الدَّين، لأنَّه المشهود عليه، فيقرّ للكاتب والشهود ﴿وَلْيَتَّقِ﴾ الذي عليه الحقُّ، وأمَّا الكاتب فالبخس والزيادة ممكنان منه على حدٍّ سواء، ولأنَّ قوله: ﴿بِالْعَدْلِ﴾ كاف في حقِّ الكاتب، ﴿اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ﴾ لا ينقص ﴿مِنْهُ﴾ أي: من الحقِّ الذي عليه، متعلِّق بـ (يَبْخَسْ)، أو بمحذوف حالٌ لقوله: ﴿شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ مبذِّرًا لِنقص عقله بكبرٍ أو قلَّة عقل أو لجنون أو صبيًّا ﴿اَوْ ضَعِيفًا﴾ لأنَّه صبيٌّ أو شيخ كبير السنِّ أو لمرض أو علَّة ﴿اَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُّمِلَّ هُوَ﴾ لخرس أو لعدم إفصاح أو لجهل باللغة أو غير ذلك، وذكر (هُوَ) ليكون أشدَّ مناسبة لقوله: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ وليُّ أمره من أب أو وصيٍّ أو خليفة أو بوكالة أو ترجمة، ووجه الوكالة أن يملَّ له ويوكِّله على التبليغ للكاتب بإشهاد في ذلك كلِّه، ولا يجوز أن يكون فاعلا لأنَّ هذا ليس من المواضع التي يبرز فيها الضمير بل تأكيد للمستتر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/172.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر محمد عبده في وجوه الاتصال بين هاتين الآيتين وما قبلهما صفوة ما قال المفسرون موضحا ونذكر صفوة ما قاله كذلك: الكلام في الأموال بدأ بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله وذلك محض الرحمة، وثنى بالنهي عن الربا الذي هو محض القساوة ثم جاء بأحكام الدين والتجارة والرهن، وهي محض العدالة فقد أمرنا الله ببذل المال حيث ينبغي البذل وهو الصدقة والإنفاق في سبيله، وبتركه حيث ينبغي الترك وهو الربا، وبتأخيره حيث ينبغي التأخير وهو إنظار المعسر، وبحفظه حيث ينبغي الحفظ وهو كتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد، ذلك بأن من يضيع ماله بإهمال المحافظة عليه لا يكون محمودا عند الناس ولا مأجورا عند الله، كما قال الحسن عليه الرضوان في المغبون بالبيع.

2. قال محمد عبده: ولما كانت سلطة صاحب الربا قد زالت بتحريمه ولم يبق له إلا رأس المال وقد أمر بإنظار المعسر فيه، وكان لا بد لحفظه من كتابته إذ ربما يخشى ضياعه بالإنظار إلى الأجل، جاء بعد أحكام الربا بأحكام الدين ونحوه، ويقول بعض المفسرين ـ وله الحق ـ: إنه تقدم في الآيات طلب الإنفاق والتصدق ثم حكم الربا الذي يناقض الصدقة ثم جاء هنا بما يحفظ المال الحلال، لأن الذي يؤمر بالإنفاق والصدقة، وبترك الربا لا بد له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع ليتسنى له القيام بالإنفاق في سبيل الله، ولا يضطر بالفاقة إلى الوقوع فيما حرم الله، وهذا يدل على أن المال ليس مذموما لذاته في دين الله، ولا مبغضا عنده تعالى على الإطلاق؛ كيف وقد شرع لنا الكسب الحلال، وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه، وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه بأن نستعمل عقولنا في تعرفها، ونوجه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها، ففي آية الدين بعد ما تقدم ـ احتراس أو استدراك مزيل ما عساه يتوهم من الكلام السابق، وهو أن المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والتشديد في تحريم الربا يدلان على أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق، كما هو ظاهر نصوص بعض الآيات السابقة، فكأنه يقول: إنا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله، ولا بترك استثماره واستغلاله، إنما نأمركم بأن تكسبوه من طرق الحل، وتنفقوا منه في طرق الخير والبر، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، أي تقوم وتثبت بها منافعكم ومصالحكم، وحديث: (نعما المال الصالح للمرء الصالح) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح، وإنما المذموم في الشرع أن يكون الإنسان عبدا للمال، يبخل به ويجمعه من الحرام والحلال، كما ورد في حديث أبي هريرة عند البخاري تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم الحديث، ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصودة لما جاءت آية الدين بما جاءت به من المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه مع ما يعهد في أسلوب القرآن من الإيجاز لا سيما في الأحكام العملية، وقد عد القفال هذه التأكيدات في الآية فبلغت تسعة، أقول: وفي الآية الأولى خمسة عشر أمرا ونهيا.

3. ذكر الرازي وجها آخر للاتصال في النظم عزاه إلى قوم من المفسرين قالوا: (إن المراد بالمداينة السلم، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم؛ ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله ـ سبحانه وتعالى ـ لتحصيل مثل تلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا)

4. الفرق بين الربا القطعي المحرم في القرآن وبين السلم أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافا مضاعفة كربا النسيئة ولولا ذلك لم يظهر لتحريم الربا مع إباحة السلم فائدة، إذ ليس في أمور المكاسب والمعايش تعبد لا يعقل، وإذ قد فهمت وجه اتصال الآيتين بما قبلهما فهاك تفسيرهما وفيهما عدة أحكام.

5. ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾: داين بعضكم بعضا، وهو يأتي بمعنى تعاملتم بالدين وبمعنى تجازيتم، ولما قال ﴿بِدَيْنٍ﴾ تعين المعنى بالنص القطعي، والمراد بالدين: المال الذي يكون في الذمة، لا المصدر، وقد حمل المداينة بعضهم على السلف (السَّلم) وروي عن ابن عباس، فقد أخرج البخاري وغيره عنه أنه قال: (أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله قد أحله) وقرأ هذه الآية، وبعضهم على القرض وضعفه الرازي بأن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل، وما في الآية قد اشترط فيه الأجل، وقوله هذا هو الضعيف، وقال الجمهور: إن الدين عام يشمل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل وهو الصواب، والأجل الوقت المضروب لإنهاء شيء والمسمى المعين بالتسمية كشهر وسنة مثلا.

6. بعد أن أمر بالكتابة إجمالا بين كيفيتها ومن يتولاها فقال: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي ليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته يساوي بين المتعاملين لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحق ما ليس له ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئا، وقال محمد عبده: إن قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أمر عام للمتعاملين، وفيهم الأمي الذي لا يكتب ولذلك احتيج إلى هذه الجملة.

7. ذكروا أن العدل في الكاتب يستلزم العلم بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق؛ لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يبهم في الكتابة بجهله فيلتبس بذلك الحق بالباطل، ويضيع حق أحد المتعاملين، كما يضيع بتعمد الترك أو الزيادة أو الإبهام إذا لم يكن عادلا، وافقهم محمد عبده على ذلك، وقد يغني عن أخذ ذلك بطريق اللزوم.

8. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ فإن تعليم الله إياه ليس خاصا بصناعة الكتابة، بل هو يعم ما وفقه له من علم الأحكام والفقه فيها فالكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بما يجب علمه في ذلك من الأحكام الشرعية والشروط المرعية والاصطلاحات العرفية، وكان عادلا مستقيما لا غرض له إلا بيان الحق، كما هو من غير محاباة ولا مراعاة، وإنما قدم صفة العدالة على صفة العلم بذلك؛ لأن من كان عدلا يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق؛ لأن العدالة تهديه إلى ذلك، ومن كان عالما غير عدل فإن العلم بذلك لا يهديه إلى العدالة، قلما يقع فساد من عدل ناقص العلم، وإنما أكثر الفساد من العلماء الفاقدين لملكة العدالة.

9. قال محمد عبده: إن كاتب العقود والوثائق بمنزلة المحكمة الفاصلة بين الناس، وليس كل من يخط بالقلم أهلا لذلك، وإنما أهله من يصح أن يكون قاضي العدل والإنصاف، وقال: إن ما ذكر في وصف الكاتب إرشاد من الله تعالى لتلك الأمة الأمية إلى نظام معروف، وهو أن يكون كاتب الديون عادلا عارفا بالحقوق والأحكام فيها حتى لا يقع التنازع بعد ذلك فيما يكتبه، وإرشاد للمسلمين إلى أنه ينبغي أن يكون فيهم هذا الصنف من الكتاب، فهذه قاعدة شرعية لإيجاد المقتدرين على كتابة العقود، وهو ما يسمونه اليوم: العقود الرسمية، ويتحتم ذلك على القول بأن الكتابة واجبة، قال: وفيه أيضا أن الكاتب ينبغي أن يكون غير المتعاقدين ـ وإن كانا يحسنان الكتابة ـ لئلا يغالط أحدهما الآخر أو يغشه وكأن هذا أمر حتم، وعليه العمل الآن، فإن للعقود الرسمية كتابا يختصون بها.

10. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ دليل على أن العالم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة؛ ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل أمر بها أمرا صريحا فقال: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ وهذا ظاهر لا سيما على قول من قال من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده، وقال محمد عبده: إنه تأكيد؛ لأن الموضوع غريب في نظر الأميين الذين خوطبوا به أولا.

11. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، أي وليلق على الكاتب ما يكتبه من عليه الحق من المتعاملين، ليكون إملاله حجة عليه تبينها الكتابة وتحفظها، والإملال والإملاء واحد، يقال: أمل على الكاتب وأملى عليه إذا ألقى عليه ما يكتبه والأصل فيه اللام، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في إملاله بأن يبين الحق الذي عليه كاملا ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، أي لا ينقص منه شيئا ما، وإن قل، أمر الذي عليه الحق بتقوى الله في إملاله على الكاتب وذكره بأن الله ربه الذي غذاه بنعمه وسخر له قلب الدائن فبذل له ماله ليحمله بالتذكير بجلال الذات الإلهية وهو من قبيل الترهيب، وبجمال نعم الربوبية وهو من قبيل الترغيب على شكر الله بالاستقامة، وشكر الدائن بالاعتراف بحقه على وجه الكمال؛ لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس كما ورد في الحديث، ثم نهاه بعد هذا الأمر المؤكد أن يبخس من الحق شيئا؛ لأن الإنسان عرضه للطمع فربما يستخفه طمعه إلى نقص شيء من الحق أو الإبهام في الإقرار الذي يملي على الكاتب تمهيدا للمحاولة والمماطلة ونحو ذلك، فهذا التأكيد بالنهي بعد الأمر لمقاومة هذا الأمر.

12. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ ذكر الذي عليه الحق مظهرا في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان كما قالوا، وفسر السفيه بضعيف الرأي، أي من لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله واختاره محمد عبده، وقيل: هو العاجز الأحمق، وقيل: الجاهل بالإملال، وقال الإمام الشافعي: هو المبذر لماله المفسد لدينه، وهو بمعنى الأول، والضعيف: الصبي والشيخ الهرم، ومن لا يستطيع الإملال: هو الجاهل والألكن والأخرس، وولي الإنسان من يتولى أموره ويقوم بها عنه، وقد اكتفى في أمر الولي بالعدل كالكاتب، ولم يؤمر وليه بمثل ما أمر ونهي به من عليه الحق؛ لأن من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/119.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهى عن الربا لما فيه من القسوة ـ ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه، إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة، وينهى عن ترك الربا لا بدّ له من كسب ينمى ماله ويحفظه من الضياع، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه، وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله، ولا مذموما في دين الله، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه، وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.

2. كأنّ هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، والتشديد في تحريم الربا، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعض الأديان السابقة وكأنه يقول: إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال، وتنفقوا منه في وجوه البر والخير، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء خوفا من ضياعه بقوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم.

3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل] ويسميه العامة (الغاروقة) وبيع الأعيان إلى أجل معين ـ أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها.

4. بين الله تعالى كيفية الكتابة، ومن يتولاها فقال: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي وليكن الكاتب الذي يكتب لكم الديون عادلا يساوى بين المتعاملين، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.

5. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا، وكان عادلا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة، وقدم صفة العدالة على صفة العلم، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغي أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.

6. في ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصّنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه.

7. في التعبير بقوله ﴿وَلَا يَأْبَ﴾ رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس، إذا دعي إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبّى الدعوة، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ وهذا الأمر بعد النهى عن الإباء كالتأكيد، لأن الموضوع هامّ لتعلقه بحفظ الحقوق، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولا.

8. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال، بأن يذكر ما عليه كاملا، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوي بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب.

9. ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه، وعرضة للطمع، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شيء من الحق، أو الإبهام في الإقرار الذي يملى على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة.

10. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/72.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا، فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية.. أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا..

2. إن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن ـ حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر، وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته، وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية، وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها، وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضى الإشارة إلى الرابطة بينهما..

3. إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه، بل هو أوضح وأقوى، لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ، ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد.. ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون!

4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾.. هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره، فالكتابة أمر مفروض بالنص، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل، لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص.

5. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾.. هذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب، وليس أحد المتعاقدين، وحكمة استدعاء ثالث ـ ليس أحد الطرفين في التعاقد ـ هي الاحتياط والحيدة المطلقة، وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل، فلا يميل مع أحد الطرفين، ولا ينقص أو يزيد في النصوص..

6. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾.. فالتكليف هنا من الله ـ بالقياس إلى الكاتب ـ كيلا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه، فتلك فريضة من الله بنص التشريع، حسابه فيها على الله، وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب.. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ كما علمه الله، وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل، ومن تعيين من يتولى الكتابة، ومن تكليفه بأن يكتب، ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل..

7. وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب.. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾.. إن المدين ـ الذي عليه الحق ـ هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله.. ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرب الأجل، أو ذكر شروطا معينة في مصلحته، والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن، فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر، ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي.. وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين ـ وهو يملي ـ أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئا من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى.. فإن كان المدين سفيها لا يحسن تدبير أموره، أو ضعيفا ـ أي صغيرا أو ضعيف العقل ـ أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية.. فليملل ولي أمره القيم عليه..

8. ﴿بِالْعَدْلِ﴾.. والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة، فربما تهاون الولي ـ ولو قليلا ـ لأن الدين لا يخصه شخصيا، كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/335.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حرّم الله سبحانه القرض بالرّبا، ورغّب في القرض الحسن، المراد به وجه الله، وفك ضائقة ذوى الحاجة، فذلك عمل مبرور يجزى الله عليه الجزاء الحسن، ولأن عملية القرض عملية إنسانية، تنبع من عاطفة كريمة رحيمة، فقد حرص الإسلام على أن يثبّت دعائمها، وأن يحرسها من الآفات التي تشوّه معالمها، وتفسد الجوّ الذي تتنفس فيه، ففي النفوس ضعف، وفى القلوب مرض، وفى الناس نكران للمعروف، وجحود للإحسان.

2. قد تتوارد هذه الآفات جميعها على عملية القرض، فتجعله مصدر عداوة وبغضاء، بعد أن كان باب تواصل وتراحم وتوادّ.. فقد يجحد المدين أصل الدّين، أو يجحد بعضه، أو يقع سهو أو نسيان في أصل الدين.. عند كل من الدائن والمدين.. وكل هذا يوجد شقاقا، ويوقع عداوة! لهذا أمر الإسلام على وجه الإرشاد والنصح أن يكتب الدّين، وأن يشهد عليه.. فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ فكما تعرف قيمة الدين، كذلك ينبغي أن يعرف الأجل الذي يؤدّى فيه إلى صاحبه، إذ أن تجهيل الوقت الذي يردّ فيه الدين، وتركه مفتوحا لتقدير المدين ـ يفتح بابا واسعا للماطلة والتسويف، مما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، في أمر ينبغي أن يصان عما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، وأن يخلص للبر والإحسان!

3. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي ليقم بين الدائن والمدين من يكتب لهما الدين وأجله، وليشهد عليه.. وذلك إذا لم يكن الدائن والمدين معا ممن يحسنون القراءة والكتابة، فإذا كان أحدهما يحسنهما أو كانا معا لا يحسنانهما فليقم بينهما كاتب عدل، يكون منهما بمنزلة الحكم، وهو أمر موجه إلى من يحسنون الكتابة أن يقوموا بهذه المهمة إذا دعوا إليها.. والأمر لا يكون إلا حضوريا، يخاطب به من يراد منه الأمر، وقد وجّه الأمر هنا إلى غائب، وذلك أنه لا غائب عن علم الله وقدرته، فكل غائب هنا حاضر في علم الله.. فكل كاتب موجود أو سيوجد، ماثل بين يدى الله، ومخاطب بهذا الأمر.

4. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ هو نهى لمن يعرف الكتابة أن يمتنع عن كتابة الدين إذا دعي إلى كتابته، فقد أنعم الله عليه بأن علّمه ما لم يكن يعلم، فلينفق من هذا الرزق الذي رزقه الله إياه، في سبيل الخير، فذلك من زكاة هذه النعمة، وكما أن الأمر لا يتجه إلى غائب، كذلك النهى لا يكون لغير حاضر.. وكما قلنا، فإنه لا غائب في علم الله، فالله سبحانه وتعالى يأمر وينهى الحاضرين والغائبين.. في نظرنا، والجميع حاضر بين يدى الله، واقع تحت علمه.

5. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ أمر آخر، بالكتابة، يتوجه إلى من يحسنها، ويؤكد الواجب المدعوّ إليه في تلك الحال، فإن تخلّى عنه كان ذلك منه عصيانا عن عمد، وتحدّ صريح لأمر الله، الذي بلّغه في أبلغ بيان وآكده.. بالأمر به، ثم بالنهى عن مخالفته، ثم بالأمر به مرة أخرى..

6. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، هذا بيان لحق المدين في توثيق الدين.. فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كلّا من الدائن والمدين أن يكتبوا الدين، ثم دعا إليهما من يكتب لهما ـ أمر المدين أن يملل أي يملى على الكاتب المال الذي استدانه، والأجل المتفق على أدائه فيه، ليكون ذلك بإقراره، الذي يتعلق بذمته، وذلك بحضور الدائن، ومصادقته على ما يمليه المدين، أو يستمليه منه الكاتب.

7. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ هو أمر توجيهى للمدين‏ بأن يتقى الله ربّه في هذا المال الذي صار وديعة في يديه، وأمانة في ذمته، إلى أن يؤديه، كما أخذه، محمولا إلى الدائن بيد الشكر وعرفان الجميل، وألا يبخس من هذا المال شيئا، إذ ليس ذلك من صنيع الكرام إلى من أكرمهم وأحسن إليهم، وذكر الاسم الكريم (ربّه) بعد ذكر لفظ الجلالة (الله) تذكير للمدين بربوبية الله له بعد تذكيره بألوهيته، فيستحضر بذلك عظمة الله وجلاله كما يذكر نعمه وآلاءه، ويذكر مع هذا أن من نعم الله على المدين أن يسر له أمره العسر، وفرج كربه على يد عبد من عباده، هو الدائن، وتلك نعمة من نعم الله، يجب على المدين أن يرعاها، وأن يحرص على شكرها، بأدائها إلى أهلها، في سماحة ويسر وشكر.

8. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ أي فإن عرض للمدين ما يمنعه من أن يتولّى بنفسه إملاء الدين والإقرار به، بأن كان سفيها محجورا عليه، أو صغيرا، أو أبكم أو أصم، أو نحو هذا مما ينقص من أهليته وقدرته، فليتولّ ذلك عنه وليّه، أو وصيّه، فيستدين له، ويقرّ بالدين الذي استدانه، متوخيا في ذلك العدل، فلا يقر بأكثر أو أقل مما استدانه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/378.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من‏ مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان، وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ الجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرماء أهل الربا.

3. التداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأنّ المترفة قد ينضب المال من بين يديه وله قبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله، فشرّع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه، وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد.

4. الخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله، فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القصص عن موسى وشعيب، إذ استأجر شعيب موسى، فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسأله شعيب ذلك.

5. التداين تفاعل، وأطلق هنا ـ مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المسلّف ـ لأنّك تقول ادّان منه فدانه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأنّ في المجموع دائنا ومدينا، فصار المجموع مشتملا على جانبين، ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تداينت من زيد.

6. زيادة قيد ﴿بِدَيْنٍ﴾ إما لمجرد الإطناب، كما يقولون رأيته بعيني ولمسته بيدي، وإما ليكون معادا للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدّين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنّه أبين لتنويع الدين إلى مؤجّل وحالّ، قاله في (الكشاف)، وقال الطيبي عن صاحب الفرائد: يمكن أن يظنّ استعمال التداين مجازا في الوعد كقول رؤبة:

çداينت أروى والديون تقضى‏...فمطلت بعضا وأدّت بعضاé

فذكر قوله (بدين) دفعا لتوهم المجاز، والدين في كلام العرب العوض المؤخّر قال شاعرهم:

çوعدتنا بدرهمينا طلاء...وشواء معجّلا غير دين‏é

7. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ طلب تعيين الآجال للديون لئلّا يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل، والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفا لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها، والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل، ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ [البقرة: 234] وقوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ [البقرة: 235]

8. المسمّى حقيقته المميّز باسم يميّزه عمّا يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمّى هنا مستعار للمعيّن المحدود، وإنّما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلّا بذلك، فأطلق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المهر المسمى، فالمعنى أجل معيّن بنهايته، والدين لا يكون إلّا إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، وهو وصف أجل بمسمّى إدماجا للأمر بتعيين الأجل.

9. ﴿بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ يعمّ كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك، وعن ابن عباس أنّها نزلت في السلم ـ يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل ـ وكان السلم من معاملات أهل المدينة، ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم.

10. الأمر في ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 283] تكميلا لمعنى الاستحباب، وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن‏ أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبري، ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 283] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخا.

11. القصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة، والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات، وأنّ قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي ـ فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام ـ لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة، لئلّا يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفيا للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظنّ به، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين، وقال ابن عطية: (الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنّما هو ندب للاحتياط)، وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع.

12. مقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضا، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام.

13. قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ يشمل حالتين:

أ. الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معا، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر.

ب. الثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما، فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية، فكانت الأميّة بينهم فاشية، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلا من مكة والمدينة.

14. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أمر للمتداينين بأن يوسّطوا كاتبا يكتب بينهم‏ لأنّ غالب حالهم جهل الكتابة، فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب، والعرب تعمد إلى المقصود فتنزّله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدك مهذّبا، وفي النهي لا تنس ما أوصيتك، ولا أعرفنّك تفعل كذا، فمتعلّق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمرا للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾

15. ﴿بِالْعَدْلِ﴾ أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، ولذلك قصر المفسرون قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه، ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه.

16. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيدا لقوله: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ لما علمت آنفا من كون ذلك حكما موجّها للمتداينين، وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه:

أ. فقيل نهي تحريم، فالذي يدعي لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع، وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه.

ب. وقيل: إنّما تجب الإجابة وجوبا عينيا إذا لم يكن في الموضع إلّا كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالئوا على الامتناع أثموا جميعا.

ج. ولو قيل: إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدهم لكان وجيها، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفا.

د. وقيل: إنّما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السّدي.

هـ. وقيل: هو منسوخ بقوله: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر لأنّ الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلّا في أحوال نادرة كبعد مكان المتداينين من مكان الكاتب، وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنّه منسوخ بقوله تعالى ـ بعد هذا ـ ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283] وسيأتي لنا إبطال ذلك.

17. على هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنّها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلّا فالأجر جائز.

18. يلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثّق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾

19. ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف، و(ما) موصولة، ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأنّ الله ما علم إلّا الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه‏ قوله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (واستفت نفسك وإن أفتاك الناس)،، ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوض بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكرا على تيسير الله له أسباب علمها، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77] وقوله: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 198]، والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فعل أن يكتب بالمكتوب، و(ما) على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: ﴿أَنْ يَكْتُبَ﴾، وجوّز الزمخشري تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية.

20. ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ تفريع على قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾، فهو يفيد تأكيد الأمر وتأكيد النهي أيضا، وإنّما أعيد ليرتّب عليه قوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ لبعد الأمر الأول بما وليه، ومثله قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ [الأعراف: 148] بعد قوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا﴾ [الأعراف: 148] الآية.

21. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ أملّ وأملى لغتان: فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ وقال: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]، قالوا والأصل هو أملل ثم أبدلت اللّام ياء لأنّها أخف؛ أي عكس ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذ أصله تقضض، ومعنى اللفظين أن يلقي كلاما على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في (اللّسان) و(القاموس)، وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلّا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال ملّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان، فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ، والحق هنا ما حقّ أي ثبت للدائن، وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلّا إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.

22. الضميران في قوله: ﴿وَلْيَتَّقِ﴾، وقوله: ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا ينقص ربّ الدين شيئا حين الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن، وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئا أو غبن لأنكر عليه ربّ الدين لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ﴾

ب. ويحتمل أن يعود الضميران إلى‏ ﴿كَاتِبٌ﴾ بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقا بالكاتب؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.

23. الضمير في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين، فإذا بخس منه شيئا أضرّ بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع.

24. البخس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص، فهو نقص بإخفاء، وأقرب الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: (البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه) أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85]

25. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾ السفيه هو مختلّ العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ [البقرة: 142]، والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: ﴿وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ﴾ [البقرة: 266]، والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بكم وعمّى وصمم جميعا، ووجه تأكيد الضمير المستتر في فعل يملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله:

26. ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة، والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليرفع إليّ عرفاؤكم أمركم)، وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القبليّة.

27. ﴿بِالْعَدْلِ﴾ أي بالحق، وهذا دليل على أنّ إقرار الوصي والمقدّم في حق المولّى عليه ماض إذا ظهر سببه، وإنّما لم يعمل به المتأخّرون من الفقهاء سدّا للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/564.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أن الآيات كلها موضوعها المال؛ فالآيات الأولى كانت في بيان الحقوق المتعلقة بالمال، وهى الإنفاق في سبيل الله، وإعطاء السائل والمحروم؛ وآيات الربا كانت في الحدود المحرمة التي لا يصح لصاحب المال أن يرتع فيها، وهى أكل أموال الناس بالباطل؛ وهذه الآية في بيان حق صاحب المال‏ إن خرج من يده، وهو الاستيثاق من الوفاء، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه، ويشمل الإشهاد على المعاملات المالية ذات الأثر الباقي بين المتعاملين.

2. ثمة مناسبة خاصة بين هذه الآية وآيات الربا؛ فإن الربا استغلال آثم غير حلال ويؤدى إلى الأكل لأموال الناس بالباطل؛ إذ إنه كسب لا يتعرض للخسارة، فهو غنم لا غرم فيه، بل لا تعرض فيه للغرم؛ وفى آية الديون إشارة إلى طريق كسب حلال؛ فإن من الديون ما يكون سلما وهو أن يبيع شخص لآخر شيئا غير حاضر، ولكنه معرف بجنسه ونوعه ووصفه، ويكون التسليم مؤجلا إلى أجل معلوم على أن يقبض البائع الثمن معجلا فيكون البائع مدينا بذلك المبيع المعرف بالأوصاف، فقد ثبت دينا في الذمة؛ وإن هذا السلم باب حلال من أبواب الاستغلال، فدافع النقود ينتفع لأنه سينتفع من فرق السعر بين العقد وبين التسليم، وفى غالب الأحوال يكون علو السعر متوقعا، وينتفع البائع من أخذ الثمن يستغله في أي باب من أبواب الاستغلال؛ فالدافع ينتفع مع التعرض للخسارة، وهذا هو الفرق بين الربا والسلم في المعنى.

3. ثمة وجه خاص للمناسبة بين هذه الآية وآخر آية الربا؛ فإن آخر آية الربا ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ﴾ وقد بين سبحانه وتعالى طريق الاستيثاق من وفاء الدين وعدم جحوده، وهو كتابته والإشهاد عليه، وإن الدين المؤجل يحتاج دائما إلى الاستيثاق من الوفاء.

4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ التداين معناه: التعامل بالدين، أي أن يستدين بعضهم من بعض على نية الجزاء، والدين يطلق على المال الثابت في الذمة الذي يكون معرفا بالجنس والوصف والنوع، فهو يشمل اقتراض النقود، واقتراض المثليات بشكل عام، كما يشمل الدين الذي يكون مبيعا في باب السلم؛ بل روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في سلم أهل المدينة.

5. سؤال وإشكال: لماذا صرح بقوله‏: ﴿بِدَيْنٍ﴾ مع أن‏ ﴿تَدَايَنْتُمْ﴾ لا يتحقق معناها إلا في الديون؟ والجواب: أجيب عن ذلك بجوابين:

أ. أحدهما: بأن معنى تداينتم هو تعاملتم، والتعامل يكون بالدين وغيره، فلما ذكرت كلمة ﴿بِدَيْنٍ﴾ كانت صريحة في أن التعامل كان بالدين، وعندى أن استعمال تداين بمعنى تعامل هو توسع، وإن التفسير الخاص لها هو أن التداين معناه التعامل بالدين، لا مطلق تعامل.

ب. الثاني: هو ما أجاب به الزمخشري في الكشاف بقوله: (ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ)، ومقتضى هذا الكلام أنه صرح بالدين لأنه موضوع القول لا مجرد التعامل به؛ وإن هذا التخريج أوجه من قول غيره إن ذكره لمجرد التأكيد، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام‏]

6. عبر سبحانه وتعالى بتداينتم بدل استدنتم، أو أدنتم، لأن تداينتم تعم الفريقين: الدائن والمدين؛ فكلاهما متداين: ذلك بالعطاء، وهذا بالأخذ؛ أما استدنتم فإنها تطلق على المدين فقط، والثانية تطلق على الدائن، والمطالبة بالكتابة موجهة إلى الدائن والمدين معا، فالكتابة ليست حقا للدائن، بل هي واجب عليه، وإن كان الذي يتولاها هو المدين.

7. وصف الأجل بالمسمى، للإشارة إلى وجوب إعلام الأجل، فيذكر الشهر الفلاني، أو إلى وقت الحصاد، ونحو ذلك مما يكون معرفا تعريفا يمنع من الجهالة.

8. الدين يشمل دين القرض، ويشمل أثمان المبيعات إذا كانت مؤجلة، ويشمل المبيع في السلم إذا كان الثمن معجلا والمبيع مؤجلا ومعرفا بالوصف والنوع والجنس؛ فكل هذه ديون مؤجلة إلى آجال مسماة، على خلاف في القرض:

أ. فإن الحنفية والشافعية قالوا: إنه لا يصح أن يسمى له أجل؛ وذلك لأن القرض تبرع، والأجل شرط، والشروط لا تلزم في عقود التبرعات، ولأن القرض عارية، ولا ينقلب مضمونا إلا باستهلاكه على رأى البعض؛ ولذلك يقول فقهاء هذين المذهبين: عارية الدراهم والدنانير قرض، ويقول القانونيون في مثل هذا إنه عارية استهلاك، أي عارية لا ينتفع بالعين فيها إلا باستهلاكها والتصرف فيها.

ب. وقال المالكية وأكثر الحنابلة: إنه يصح الأجل في القرض وتجب تسميته وتعريفه، لنص هذه الآية؛ إذ هو دين داخل في عموم الدين في الآية الكريمة؛ ولأن القرض لا فائدة فيه للمدين إلا إذا كان مؤجلا، فكانت المصلحة في أن يعين الأجل ويتفق عليه بينهما دفعا للمشاحة، ومنعا للنزاع وإن ذلك الرأي هو الأظهر وهو الذي يشمله عموم النص، وهو الأقرب إلى عرف الناس، والمصلحة فيه.

9. اختلف في الأمر بالكتابة هنا أهو للطلب الملزم الذي لا محيص للمكلف عنه، أم للإرشاد أو الندب:

أ. قال جمهور العلماء: إنه للندب؛ وذلك لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ما ألزم الدائنين بكتابة ديونهم، ولا المدينين بأن يكتبوها؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) ولأن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة] وإن ذلك بلا ريب تسويغ لعدم الكتابة، والاعتماد على مجرد الأمانة، فإنه مع الكتابة لا ائتمان، أو لا اعتماد على الأمانة.

ب. وقال الظاهرية: إن الأمر هنا للوجوب، ومن لم يفعل كان آثما، ذلك لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يخرج عن الوجوب إلى غيره إلا بدليل من النصوص، ولم يوجد الدليل؛ ولأن طلب الكتابة تأكد بطرق عدة؛ منها النص على الكتابة في الصغير والكبير من الديون بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ ومنها النص على أنه الأقسط والأقوم للشهادة، والأدنى للمنع من الارتياب؛ ومنها التعميم واستثناء صورة واحدة، وهى حال التجارة الدائرة بين التجار، وقصر نفى الإثم عليها دون غيرها، فإنه إذا كان نفى الإثم مقصورا على هذه الحال فمعنى ذلك أن الإثم ثابت في غيرها؛ وإن الائتمان لا يتنافى مع الكتابة، بل إنه مع الكتابة الائتمان قائم؛ على أن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة] سيق في حال السفر عند تعذر الكتابة.

10. تصدير الآية الكريمة بالنداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يشير إلى أمرين:

أ. أحدهما: أنه ليس من مقتضى الإيمان أن تلزموا المساجد والصوامع، بل إن الإيمان أن تهذبوا نفوسكم، وترهفوا وجدانكم وتشعروا بمراقبة ربكم، لتكون دنياكم فاضلة، ويكون تعاملكم، وإدارة المال بينكم على نهج ديني فاضل، فالمال ليس طلبه ممنوعا، بل إنه من طريقه الحلال مشروع ومطلوب.

ب. الثاني: أن الإسلام ليست أوامره مقصورة على العبادات، بل جاء لتنظيم المعاملات، بل إن العبادات فيه طريق لإصلاح التعامل الإنساني وكذلك كل الأديان السماوية، فإنه من الجهل الادعاء بأن الأديان جاءت لتنظيم العلاقة بين العبد والرب فقط، ولا تتدخل في العلاقة بين الإنسان والإنسان.

11. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ في النص السابق أمر بالكتابة وحث عليها، وفى هذا النص يبين الكاتب؛ فبين أن الذي يكتب شخص يجيد الكتابة، وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على علم بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط سائغا في الشرع وما يكون غير سائغ؛ وقيّد كتابته بأن تكون بالعدل بألا يزيد ولا ينقص في الدين الذي يكتبه، ولا يقيد أحد العاقدين بشروط شديدة، ويحل الآخر من كل القيود والشروط، بل يكون مراعيا العدل في كتابة أصل الدين، ومراعيا العدل في الالتزامات بين الفريقين، ثم إن العدل يتقاضى مع هذين أيضا أن يكون الكاتب خبيرا بمعاملات الناس، وما يقع بينهم، وما يمكن تنفيذه من الشروط وما لا يمكن، وهكذا فالكاتب الذي يتولى ميزان العدل بين العاقدين يمنعهما من الشطط، ويمنعهما من التجانف لإثم، وقد ذكر في النص السامي بوصف (كاتب) للدلالة على مهارته في الكتابة، وكونها له كالملكة.

12. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ هذا نهى لمن كان قادرا على الكتابة من أن يمتنع عن الكتابة، فلا يصح لمن يحسن الكتابة من حيث جودة الخط واستبانته، ومن حيث العلم بفقه العقود، والقدرة على تحقيق العدالة بين العاقدين في وثيقة العقد؛ لا يصح له أن يمتنع عن الكتابة إذا دعي إليها؛ وإنه ليأثم إن تعين للكتابة ولم يوجد موثوق به فيها سواه، وامتنع عن الكتابة؛ ولقد قال الفقهاء: إن الكتابة فرض كفاية بمعنى أنه إذا امتنع كتّاب أهل قرية عن الكتابة أثموا، بل إنه يجب على أهل كل قرية أن يخصصوا ناسا لكتابة الوثائق فيها، وإنه على هذا يجب أن تعمل الدولة على تهيئة ناس لتوثيق العقود وكتابتها، وإن الكتابة لطلابها من التعاون على البر والتقوى، فهي صناعة، وهى علم، وواجب على الصانع أن يعين من لا يحسن؛ فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن من الصدقة أن تعين صانعا، أو تصنع لأخرق) والامتناع عن الكتابة ككتمان العلم، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)

13. قوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ فيه بحثان لغويان:

أ. أولهما: في التشبيه بالكاف في قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ ذكر الزمخشري أن معناه إما أن يكون تشبيها بين علم الكتابة والواجب على الكاتب، أي أنه كما أن الله علمه الكتابة ويسّرها له، وجعله أهل خبرة، عليه واجب المعاونة بالكتابة لغيره، فالتشبيه تشبيه بين نعمة الكتابة، والواجب المتعلق بها، فما من نعمة إلا تتولد عنها واجبات مساوية لها، فنعمة الكتابة يقابلها ويشابهها ويماثلها واجب معاونة غيره بها، وهو بقدرها، ويأثم عند الترك بمقدار علمه، هذا أحد وجهى التشبيه، أما الوجه الآخر، فهو أن التماثل بين ما يكتب على القرطاس وما آتاه الله الكاتب من فقه وعلم بالعقود والالتزامات؛ والمعنى على‏ ذلك: لتكن كتابة وثيقة الدين على مقتضى العلم والفقه الذي فقّه الله به الكاتب، أي تكون الكتابة على مقتضى أحكام الشرع، فلا تكون فيها شروط ليست في كتاب الله، أو لا يسوغها الشرع، أو لا يمكن تنفيذها.

ب. الثاني: إن قوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ قد يكون متعلقا بـ (يكتب) الأولى، أو (فليكتب) الثانية، وعلى الأول يكون المعنى: لا يمتنع أن يكتب كما علمه الله؛ ثم أكد المعنى بعد ذلك بتكرار الأمر بالكتابة، فقال سبحانه: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ وعلى الثاني وهو أن يتعلق بقوله‏: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ يكون المعنى: لا يأب كاتب أن يكتب؛ فهذا نهى عن الامتناع؛ ثم قال ذلك في كيفية الكتابة ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أي لتكن على قدر علمه وفقهه، ومساوية في روحها لنعمة العلم بها.

14. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ في الجمل السامية السابقة بيان طلب الكتابة والكاتب، وفى هذه الجملة بيان من يتولى الإملاء؛ فقال سبحانه: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ أي ليمل على الكاتب الذي عليه الدين ويلتزم بأدائه، وذلك ليكون إملاؤه إقرارا بالدين وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها.

15. الإملال معناه الإملاء، وهما لغتان في الإملاء، وقال بعض اللغويين: إن الأصل هو الإملال، وعلى أي حال قد وردت اللغتان في القرآن، فقد قال تعالى: ﴿اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان‏]، وإذا كانت تبعة الإملاء قد وضعت في عنق من عليه الحق فإن عليه عند الإملاء واجبين: تقوى الله، وعدم البخس؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ﴾ أي لا ينقص‏ ﴿مِنْهُ شَيْئًا﴾ وقد وثق سبحانه الأمر بالتقوى بأن جعل التقوي من الله، وهو رب كل شيء ورب من عليه الحق، أي عليه عند الإملاء أن يراقب الله جل جلاله الواحد القهار الغالب على كل شيء المسيطر على كل شيء الذي يغلب ولا يغلب، فلا يتلاعب بالعبارات حتى لا يذهب بحق صاحب الحق؛ ثم‏ ليعلم أن الذي عليه أن يتقيه هو ربه الذي ذرأه ورباه ونماه، ووهب له المواهب التي توجب الشكر، ولا تسوغ التلاعب بالحقوق، وإذا كان لا يسوغ أن يتلاعب بالعبارات فلا يسوغ أن ينقص من الدين أو يزيد في الأجل، أو يضع شروطا في مصلحته وليست في مصلحة الدائن، فإن ذلك وغيره بخس لحق صاحب الحق.

16. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ في هذه الجملة السامية بيان الحكم إذا كان من عليه الحق لا يحسن الإملاء، وقد أظهر في موضع الإضمار فلم يقل تعالت كلماته: (فإن كان سفيها) وإنما أظهر للتوضيح؛ ولأن الذي عليه الحق المبين الفاهم المتكلم القادر وهو المذكور أولا، غير الذي عليه الحق السفيه أو الضعيف أو الذي لا يستطيع، وقد ذكر سبحانه في هذا النص ثلاثة لا يحسنون الإملاء، وهم:

أ. أولا: السفيه، وهو الجاهل بالعقود والتصرفات، أو الذي لا رأى له، أو المبذر المتلاف الذي لا يحسن تدبير أموره وإدارة أمواله؛ وكل هذه معان تدور حول الجهل بالعقود، أو فساد الرأي في التصرفات.

ب. وثانيا: الضعيف وهو الصبى والشيخ الهرم.

ج. ثالثا: من لا يستطيع، وهو معقود اللسان، أو من لا خبرة له بهذه العقود.

17. الولي: هو النصير الموالي ذو الصلة بمن عليه الحق الذي يهمه أمره، ويهمه ألا يضيع حقه، سواء أكان النصير وليا بالمعنى الشرعي أو قيما أقامه القاضي المختص، أم كان وكيلا أقامه صاحب الشأن معبرا عن إرادته مصورا لما يعتزم عليه.

18. ذكرت كلمة العدل في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك الولي عليه العدل، ويجب أن يلاحظه من ثلاث نواح: من ناحية صاحب الحق، فلا يبخسه ولا ينقصه، ومن ناحية من عليه الحق الذي يتكلم باسمه ويملى عنه، فعليه ألا يمالئ‏ الطرف الثاني في أمره، ومن ناحية الشرع فلا يذكر شرطا أو التزاما يخالف الشرع الشريف.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1064.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله سبحانه في آخر هذه السورة احكاما شرعية تتعلق بالصدقات والربا والدّين والتجارة والرهن، وتقدم الكلام عن الصدقة والربا، والكلام الآن في بعض مسائل الدّين والرهن والتجارة، وقد اهتمت الآية كثيرا بكتابة الدين، والاشهاد عليه، حيث أمر الله بالكتابة أولا بقوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾، وثانيا: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾، وثالثا في بيان الحكمة من الكتابة والاشهاد: ﴿ذلِكُمْ أَقْسَطُ وأَقْوَمُ وأَدْنى‏﴾

2. بالرغم من ذلك فان أكثر فقهاء المذاهب لم يوجبوا الكتابة في الدين، ولا في البيع، ولا الاشهاد عليهما، وحملوا الأمر بذلك على الاستحباب، ويؤيد قولهم بالاستحباب ان الله سبحانه بعد أن أمر بالكتابة والاشهاد قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، أي إذا ائتمن الدائن المديون من غير صك ولا إشهاد فعلى المديون الوفاء، وهذا ترخيص ظاهر بترك الكتابة والاشهاد، وقريبا يأتي تفسير هذه الآية، وهي‏ ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾

3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، التداين على وزن تفاعل، أي داين بعضكم بعضا، ويأتي التداين لمعنيين: الأول التداين بالمال، الثاني المجازاة، قال الإمام علي عليه السلام: (كما تدين تدان)، ولما كان اللفظ محتملا لهذين المعنيين قال تعالى: ﴿تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾، دفعا لإرادة المجازاة من التداين، والأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد، والمسمى هو الذي يعين بالتسمية، كالسنة والشهر، وقوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أمر بكتابة الدّين، والأمر يدل على الوجوب، ولكن جرت سيرة المسلمين منذ القديم على عدم الالتزام بكتابة الدّين والاشهاد عليه، فتعين حمل الأمر على الندب والإرشاد.

4. يشترك الدّين مع القرض في ان كلا منهما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه، وانه حق ثابت في الذمة، ويفترق القرض عن الدّين في ان العين المقترضة تسدد بمثلها في الجنس والصفات، فإذا استقرضت نقدا ثبت في ذمتك للمقرض نقد مثله، وكذا إذا استقرضت طعاما أو شرابا أو ثوبا، وعلى هذا ينحصر القرض في المثليات دون القيميات، أما الدّين فيثبت في الذمة بسبب من الأسباب الموجبة له، كالقرض، والبيع نسيئة، والزواج بمهر مؤجل، والجناية، وما إلى هذه، وعلى هذا يكون الدّين أعم من القرض، ويقضى بمثله ان كان مثليا، وبقيمته ان كان قيميا.

5. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، لما كان الغرض من كتابة الدين ضمان الحق لكل من الدائن والمدين، ودفع التنازع والتخاصم بينهما ـ لما كان كذلك وجب أن يكون الكاتب أمينا عارفا بأحكام الدين، إذ لو كان جاهلا، أو متحيزا انتقض الغرض المقصود.

6. سؤال وإشكال: لماذا قال ليكتب كاتب بالعدل، ولم يقل: ليكتب بينكم كاتب عادل؟ والجواب: لأن الكتابة بين الناس لا يشترط فيها أن يتصف الكاتب بالعدالة بمعناها الشرعي، كما هو الشأن في القاضي والمفتي وامام الجماعة في الصلاة، لأن الغرض من كتابة الدّين ضمان الحق وصيانته، كما أشرنا، ويكفي لذلك أن يكون الكاتب عادلا في هذه الجهة فقط، لا في جميع أقواله وأفعاله.. ومن هنا يمكن القول بأن هذه الآية تشعر بأن الشاهد لا يشترط فيه العدالة الشرعية، بل يكفي الثقة بكونه صادقا وعادلا في شهادته، لم يتحيز فيها لأحد المتخاصمين، ونحمل عدالة الشاهد التي وردت في الأخبار على العدالة النسبية، دون العدالة المطلقة.

7. سؤال وإشكال: ان إعطاء حكم كاتب الدين للشاهد قياس، وأنت من القائلين ببطلانه؟ والجواب: ان كاتب الدين شاهد على من أملى عليه الدين، وان لم يسمّ شاهدا عند العرف، وبكلمة ان للشاهد فردين لافظا وكاتبا، هذا يشهد بالكلام المكتوب، وذاك يشهد بالكلام الملفوظ، والكتابة أخت اللفظ.

8. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾، المراد بعلمه الله أمره والمأمور به الكتابة بالعدل، ومن غير تحيز، وقوله: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ تأكيد لقوله: ﴿لا يَأْبَ﴾، وسر هذا التأكيد ان الذين يحسنون الكتابة آنذاك كانوا قلة، فإذا ما امتنع الكاتب تعذر الاستعانة بغيره.

9. سؤال وإشكال: ان قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ نهي، والنهي يدل على التحريم، ومعنى هذا ان الكاتب يجب عليه أن يلبي إذا دعي الى كتابة الدين، مع العلم بأن هذه الكتابة ندب لا فرض، فكيف زاد الفرع على الأصل؟ والجواب: كما حملنا قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ على الاستحباب دون الوجوب نحمل قوله: ﴿لا يَأْبَ﴾ على الكراهة دون التحريم.. اللهم الا إذا تيقن المدعو الى الكتابة بأن امتناعه سبب تام للفساد، ووقوع المتخاصمين في الحرام.. فعندها يحرم عليه أن يمتنع، ولكن من باب دفع الفساد، لا من باب وجوب كتابة الدين.

10. ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، يملل، أي يملي، والذي عليه الحق هو المديون، والضمير في منه يعود على الدين، أو على الحق، والمعنى ان المديون يجب أن يلقي على كاتب الدين الحق الذي عليه للدائن، دون نقصان، يلقيه بلفظ صريح واضح، ليكون إقرارا منه بالحق يلزم به هو أو ورثته عند الاقتضاء، فربما توفي قبل وفاء الدين، وتمنع الورثة عن الدفع، فيذهب الحق على صاحبه إذا لم يكن بيده حجة من غريمه تثبت دعواه، وهذا أقل ما يجب على المديون تجاه صاحب الدين الذي قضى حاجته، وحل مشكلته ساعة العسرة، وقد رأيت أكثر من واحد يخفض جناح الذل لصاحب المال من الحاجة راجيا أن يقرضه ما يسد به الضرورة، حتى إذا استجاب صاحب المال، وأحسن تنكر له المديون، واتخذه عدوا، ووصفه بكل قبيح، لا لشيء الا لأنه طالبه بحقه، وفضلا عن ان مقابلة الإحسان بالإساءة حرام شرعا وعقلا فإنها تنبئ عن الخبث واللؤم.

11. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، السفيه المبذر الذي لا يحسن التصرف في المال، والضعيف الصبي، ومن لا يستطيع الاملاء المجنون، كل هؤلاء لا يصح منهم الاملاء والإقرار، فلا بد أن يقوم مقامهم من يتولى شئونهم، ويقوم بعنايتهم.. وتجمل الاشارة الى أن الولي على قسمين: ولي خاص، وهو الأب والجد للأب، وولي عام، وهو الحاكم الشرعي الجامع بين الاجتهاد والعدالة، ولا ولاية له إلا مع فقد الأب والجد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/442.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ الآية، التداين‏، مداينة بعضهم بعضا، والإملال والإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، والبخس‏ هو النقص والحيف والسأمة هي الملال، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره، والفسوق‏ هو الخروج عن الطاعة، والرهان‏، وقرئ فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.

2. الإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.

3. الضمير البارز في قوله: ﴿أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين الأوليين هو المسئول بالأمر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/435.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ التداين: التعامل، أي إذا تعاملتم بدين، أو هو التعامل بالدين، أي إذا تعاملتم بدين، أي بتأجيل لأحد العوضين في المعاملة من قرض أو غيره؛ فاكتبوا الدين المؤجل عند المعاملة، وظاهره الوجوب.

2. ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أي التمسوا كاتباً يكتب بينكم الدين بالعدل واطلبوه أن يكتبـ ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ فليس له أن يمتنع وعليه أن يجيب شكراً لنعمة الله عليه بتعليمه الكتابة ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ الدين ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ أي يملي على الكاتب ﴿الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ ليكون إملاؤه اعترافاً وإقراراً بالدين أو بالمسلم فيه إن كانت المعاملة سَلَماً، قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: (دلت على وجوب الكتابة لا يضيع الدين بأن ينساه أيهما لا سيما الغريم فيكون ظالماً ولا يضيع لرب الدين ماله، فإن تضييع المال حرام لأنه حينئذٍ لم يتصدق به، وعلى وجوب الكتابة لمن كان يحسنها، وعلى أن لا يزيغ فيما كتب ولا يكتب إلا الحق ولا يبخس)

3. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي الذي عليه الحق ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ عند إملائه على الكاتب لينقص بعض الحق نقص عين أو نقص صفة، ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ وفي الآية دلالة على أن الكتابة إنما تكون بعد ثبوت الدين في ذمة المؤجل له، فما يقع من الكتابة قبل استلام القرض وقبل أن يثبت في الذمة كذب وخطأ.

4. السفيه: المعتوه الذي لا يحكم بإقراره، والضعيف: الذي نقص ذهنه وإدراكه وعقله من الكبر، والذي لا يستطيع أن يمل: هو الأخرس العاجز، والولي: هو الأب والجد والوصي والإمام ومنصوبه، فعليه أن يملي بالعدل لا زيادة ولا نقص، والأولى أن الضعيف يعم الصبي والكبير المختل عقله، لقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ [الروم: 54]، قال إمام زمانه القاسم بن محمد عليه السلام: (دلت على وجوب الولاية على من كان هذا حاله، وعلى وجوب قيام الولي بما يجب على من كان كذلك)

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/406.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هاتين الآيتين جولة تشريعية حول أحكام الدّين فيما يراد توثيقه وإثباته، من أجل أن لا يكون هناك مجال لإنكاره من قبل المدين في الحالات التي لا يوجد هناك أي مستند للدائن عليه، فقد أراد الله أن يكتب الدين بشكل موثّق لا يدع مجالا للالتباس والإنكار، ودعا الكاتب الذي يحسن الكتابة إلى أن يستجيب لذلك إذا طلب منه، وحثّ على الشهادة، وطلب من الشهداء أن لا يمتنعوا إذا دعوا إلى تحمّلها، كما لا يجوز لهم الامتناع إذا دعوا إلى إقامتها، ثم أشار إلى تشريع الرهن إذا لم يكن هناك مجال للكتابة، ثم ترك المجال للمسلمين أن يتعاملوا على أساس الثقة المتبادلة التي تدفعهم إلى الوثوق ببعضهم البعض من دون حاجة إلى الإشهاد والكتابة، وهكذا نجد في هاتين الآيتين برنامجا عمليا إرشاديا يريد الله ـ من خلاله ـ أن يخطط للإنسان علاقاته الماليّة لئلا تدخل في أوضاع سلبيّة تهدم العلاقات الإنسانية في نهاية المطاف.

2. سؤال وإشكال: لماذا كل هذا؟ إن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن، بالدقة التي تتحدث عنها هاتان الآيتان، قد يترك انطباعا سلبيا فيما يتعلق بالعلاقات، ويلقي ظلّا من الشك على تصور الوثاقة في علاقات المؤمنين بعضهم مع البعض الآخر، فإذا كانت العلاقات المالية تحتاج إلى الإثبات والتوثيق، فأين تقف ثقة المؤمنين‏ ببعضهم البعض، وما هو موقعها في التخطيط للمجتمع المؤمن؟ فإن الإنسان إنما يحتاج إلى التوثيق بالكتابة ونحوها في حالة انعدام الثقة بالشخص نفسه، والجواب: من الوجوه التالية:

أ. أولا: الإسلام يدعو إلى حسن ظن المؤمن بأخيه المؤمن، ويريد للثقة المتبادلة أن تسود العلاقات فيما بينهم، ولكنه يريد لذلك أن يستمر ويتركز ويقوى حتى لا يتعرض للحالة الطارئة الاستثنائية التي قد تسيء إلى الخط العام في كثير من المواقع، فإن الإيمان لا يعني العصمة التي يمتنع فيها الخطأ لتكون العصمة ضمانا روحيا وعمليا من الانحرافات السلبية، بل تبقى للإنسان نقاط ضعفه التي تستيقظ في داخله، فتضعف إرادته وتقوده إلى أن ينحرف عن خط الله فيما أمره به ونهاه عنه، فيخون الأمانة وينكر الحق، ويتنكر للمسؤولية، إذا لم تكن هناك ضوابط ماديّة تواجه نقاط ضعفه بضغوط عملية تحميه من الانحراف، فتثير أمامه الصعوبات، وتواجهه بالتحديات، ليعرف أن الخيانة تعني الفضيحة، وأن الإنكار للحق والتنكر للمسؤولية لا يثبتان أمام الدلائل الواضحة التي لا يملك الإنسان معها إلا الاعتراف الحاسم، لأنها تحيط به من بين يديه ومن خلفه.

ب. ثانيا: الثقة إذا كانت ضمانا لعدم الخيانة من قبل المدين، فهل هناك ضمانة دائمة لعدم الخيانة من وارثه إذا مات المدين؟ فقد نجد بعض المدينين ينكرون الدين إذا لم يكن للدائن مستند مادي من كتابة أو شهادة أو رهن، كما قد نجد ورثة بعضهم ينكرون وجود الدين لضعف في الدين أو لعدم علمهم بذلك من غير طريق الدائن، أمّا إذا كان هناك إثبات مادي، فإنه يحميهم من الإنكار، كما يحمي للدائن حقه في حال إنكاره حالة شاذة أو عقدة مستعصية.

ج. ثالثا: إن الإسلام يرى أن الإنسان لا بد له من ضوابط خارجية تحمي مسيرته على خط الاستقامة، وذلك بعد أن أطلق في حياته الضوابط الداخلية من‏ خلال الإيمان، وفي ذلك كله تأكيد لاستمرار الثقة في العلاقات وتنمية لها في مواجهة نقاط الضعف التي تزلزل قواعدها الإيمانية في الداخل، ذلك هو الخط العام الذي ينبغي للمسلمين أن يتحركوا فيه في خط حياتهم الطويل، ولا ينبغي لهم أن يتعقّدوا عندما يطلب منهم ذلك انسياقا مع الهواجس التي يثيرها الشيطان في نفوسهم ليسوّل لهم تنافي ذلك مع الشعور بكرامتهم والثقة بأمانتهم، بل يجب أن يجدوا فيه الضمانة العملية لبناء المجتمع على أسس ثابتة لا تقبل الاهتزاز والانهيار، وقد ترك الإسلام الساحة مفتوحة للمسلمين في هذا التشريع، فلم يغلق عليهم الأبواب ولم يفرض عليهم ممارسة بنوده التشريعية فرضا من باب الواجب، بل كلّ ما هناك، أنه أراد إثارته في حياتهم كنظام اختياري ينطلق من قاعدة المصلحة العامة التي تركز حياتهم على أساس ثابت، فلهم أن يأخذوا به في نطاق التطبيق العملي الذي لا يشعرون معه بالعقدة ضدّه، بل يتقبلونه كأسلوب واقعي حكيم، ولهم أن يتركوه في الحالات التي يشعرون فيها بالأمن على حقوقهم وأموالهم من دون أيّ مبرر للخوف، فذلك هو شأنهم فيما يفعلون وفي ما يتركون، لأنه قضيتهم الخاصة في حقوقهم وأموالهم.

د. رابعا: إن القضية هي قضية المبدأ كقاعدة وكقيمة اجتماعية، من موقع النصح والإرشاد، لا من موقع الفرض والإلزام، وهذا ما يعبر عنه في المصطلح الفقهي الأصولي بالأمر الإرشادي الذي لا يستتبع موافقته ومخالفته ثوابا وعقابا، في مقابل الأمر المولوي الذي ينطلق في خط طاعة المكلف لله على أساس الثواب والعقاب، والله العالم بحقائق أحكامه.

3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، وذلك بأن يراعي العدل في كتابته، فيكون دقيقا في كل الخصوصيات المتعلقة بالموضوع، فلا يكتب ما لا أساس له في القضية، وقد عبر بالدّين ولم يعبر بالقرض، لأن القرض هو أن يأخذ الإنسان من إنسان آخر نقدا معينا أو بضاعة معينة إلى أجل ليدفعه الآخر عند حلول الأجل، مثلا بمثل، أما الدّين، فهو كل تعامل مبني على عوض أو معوّض مؤجّل، كما في الإجارة أو البيع أو الصلح أو نحوها، بحيث يكون أحدهما مدينا للآخر، وفي ضوء ذلك، فإن الآية تشمل القرض كما تشمل كل المعاملات المشتملة على تأجيل أحد العوضين، وليست الكتابة واردة على سبيل الوجوب، بل الإرشاد، على الرغم من ظهور الأمر في الوجوب، لأن الظاهر من سياق الآية هو ورود المسألة على سبيل الاستيثاق، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ ممّا يوحي بأن القضية ناظرة إلى المستقبل الذي قد يتمخض عن بعض الأوضاع والانحرافات التي تؤدي إلى النزاع فيما بينهما، فأريد توثيق الدّين بحيث لا يستطيع المدين أن ينكره فيما بعد.

4. ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ وفي هذا إيحاء بأن الثقافة مسئولية المثقف في الإسلام لمن يحتاج إليه، فليس له الامتناع عن تقديمها للآخرين الذين يحتاجون إلى خدماتها في أمورهم، لأنها ليست شيئا ذاتيا بعيدا عن المسؤولية، وقد يستوحي الإنسان منها ضرورة وجود أشخاص في المجتمع يملكون مثل هذه المعرفة التي تساهم في تنظيم وثائق المجتمع في معاملاته مما يحتاج فيها إلى التوثيق، ولعل وظيفة (كاتب العدل) الذي يعمل على كتابة العقود المتداولة بين الناس بما فيها الديون مستوحاة من هذه‏ الآية، لأن الدّين لا خصوصية له في المسألة، بل القضية تشمل كل المعاملات الجارية بين الناس التي يحتاج فيها إلى التوثيق حذرا من أن ينكر البائع بيعه والمؤجر إجارته والشريك شراكته ونحو ذلك، فهي قضية عامّة في عمق المسؤولية.

5. ﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ بأن يلقي عليه حدود الحق الذي يلزمه للدائن‏ ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ فإن التقوي تفرض على الإنسان أن لا ينقص أحدا فيما يعطي وفي ما يوثق من إثباتات.

6. ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ لأن الإنسان الذي لا يتمتع بصفات المسؤولية التي تجعل إقراره أو تصرفه شرعيا، أو الذي لا يستطيع ممارسة مسئوليته، لا بد من أن يكون له وليّ خاص كالأب والجدّ بالنسبة للصغير والمجنون، أو عام كالحاكم الشرعي، ولا بد من أن يراعي العدل في تحديد المبلغ والأجل مع كل الخصوصيات في مثل هذه الحالة بشكل أكثر تأكيدا لتعلق الموضوع بالإنسان القاصر الذي لا بد للولي من أن يراعي الاحتياط في المحافظة على حقه بكل دقة، فهو الذي يتولى أموره ويوثق عقوده ويرعى كل علاقاته العامة والخاصة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/166.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن شنّ القرآن على الربا والاحتكار والبخل حربا شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّا طبيعيا دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

2. تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بندا من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي (2):

أ. إذا أقرض شخص شخصا أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مدينا، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، ومن الجدير بالذكر أنّه يستعمل كلمة (دين) هنا ولا يستعمل كلمة (قرض)، وذلك لأنّ القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها، ثمّ يعيد نقودا أو بضاعة إلى المقرض مثلا بمثل، أمّا (الدين) فأوسع معنى، فهو يشمل كلّ تعامل، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مدينا للطرف الآخر، وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

ب. لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصا ثالثا ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ﴾، على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد، يتبيّن من الآية التالية ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.

ج. على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحقّ، وأن يكتب الحقيقة الواقعة ﴿بِالْعَدْلِ﴾

د. يجب على كاتب العقد، الذي وهبه الله علما بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي‏ ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾، وتعبير ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب، ويمكن القول إنّه يشير إلى أمر آخر، وهو ضرورة التزامه الأمانة، وأن يكتب العقد، كما علّمه الله، كتابة متقنة، وبديهيّ أنّ قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجبا عينيا، كما يتّضح من قوله سبحانه‏ ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾

هـ. على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب، ولكن أيّ الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، ومن المتّفق عليه أنّ التوقيع المهمّ في العقد هو توقيع المدين، ولذلك فإنّ العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكا لا يمكنه إنكاره‏.

و. على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه، فلا يترك شيئا إلّا قاله ليكتبه الكاتب‏ ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، إذا كان المدين واحدا ممّن تنطبق عليه صفة (السفيه)، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو (الضعيف) القاصر في‏ فكره والضعيف في عقله المجنون، أو (الأبكم والأصم) الذي لا يقدر على النطق، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه‏ ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾

ز. على (الولي) في الإملاء والاعتراف بالدّين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله، وأن يتجنّب الابتعاد عن الحقّ‏ ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾

3. إنّ الأحكام الدقيقة المذكورة في هذه الآية لتنظيم الأسناد والمعاملات وذكر الجزئيّات أيضا في جميع المراحل في أطول آية من القرآن الكريم يبيّن الاهتمام الكبير الذي يليه القرآن الكريم بالنسبة للأمور الاقتصادية بين المسلمين وتنظيمها، وخاصّة مع الالتفات إلى أنّ هذا الكتاب قد نزل في مجتمع متخلّف إلى درجة أنّ القراءة والكتابة كانتا سلعة نادرة جدّا، وحتّى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وهو صاحب القرآن لم يكن قد درس شيئا ولم يذهب إلى مدرسة أو مكتب، وهذا بنفسه‏ دليل على عظمة القرآن من جهة، وأهميّة النظام الاقتصادي للمسلمين من جهة أخرى.

4. يقول (علي بن إبراهيم) في تفسيره المعروف: جاء في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكم إسلامي وفي هذه الآية ورد خمسة عشر حكما، وكما رأينا أنّ عدد أحكام هذه الآية يصل إلى تسعة عشر حكما، بل أنّنا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأحكام الضمنيّة لها فسيكون عدد الأحكام أكثر إلى حدّ أنّ الفاضل المقداد استفاد منها في كتابه (كنز العرفان) واحدا وعشرين حكما بالإضافة إلى الفروع المتعدّدة الأخرى، فعلى هذا يكون قوله بأنّ عدد أحكام هذه الآية خمسة عشر حكما إنّما هو بسبب إدغام بعض أحكام هذه الآية بالبعض الآخر.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/353.

(2) اقتصرنا هنا على ما يتعلق بهذا المقطع، وذكرنا الباقي في المقطع التالي

141. الدَّين والتوثيق والإشهاد

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈141⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قوله عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾: من أحراركم من المسلمين العدول، استشهدوهم لتحوطوا بهم أديانكم وأموالكم، ولتستعملوا أدب الله ووصيته، وإن فيها النفع والبركة، ولا تخالفوها فيلحقكم الندم حيث لا ينفعكم الندم، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: ثلاثة لا يستجيب الله دعاءهم، بل يعذلهم ويوبخهم: أما أحدهم: فرجل ابتلي بامرأة سوء فهي تؤذيه وتضاره، وتعيب عليه دنياه فتنغصها وتكدرها، وتفسد عليه آخرته، فهو يقول: اللهم يا رب خلصني منها، يقول الله تعالى: يا أيها الجاهل قد خلصتك منها وجعلت بيدك طلاقها، والتخلص منها طلاقها، الثاني: رجل مقيم في بلد قد استوبله ولا يحضر له فيه كل ما يريده، وكل ما التمسه حرمه، يقول: اللهم خلصني من هذا البلد الذي استوبلته، يقول الله تعالى: يا عبدي، قد خلصتك من هذا البلد، وقد أوضحت لك طرق الخروج، ومكنتك من ذلك، فاخرج منه إلى غيره تجتلب عافيتي وتسترزقني، الثالث: رجل أوصاه الله تعالى بأن يحتاط لدينه بشهود، وكتاب، فلم يفعل، ودفع ماله إلى غير ثقة، بغير وثيقة فجحده أو بخسه، وهو يقول: اللهم يا رب، رد علي مالي، يقول الله تعالى: يا عبدي، قد علمتك كيف تستوثق لمالك فيكون محفوظا لئلا يتعرض للتلف فأبيت، فأنت الآن تدعوني، وقد ضيعت مالك وأتلفته، وغيرت وصيتي، فلا أستجيب لك، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ألا فاستعملوا وصية الله تفلحوا وتنجحوا، ولا تخالفوها فتندموا(1).

2. روي أنّه قال(2) في قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾: عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة قضي بشهادتهم.. وبينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يذاكرنا بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قال أحراركم دون عبيدكم، فإن الله عز وجل: قد شغل بخدمة مواليهم عن تحمل الشهادات، وعن أدائها، وليكونوا من المسلمين منكم، فإن الله عز وجل: إنما شرف المسلمين العدول بقبول شهادتهم، وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم، ومن ثواب دنياهم قبل أن ينقلوا إلى الآخرة، إذ جاءت امرأة فوقفت قبالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقالت: بأبي أنت وأمي، يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، فما من امرأة يبلغها مسيري هذا إليك إلا سرها ذلك، يا رسول الله، إن الله عز وجل: رب الرجال والنساء، وإنك رسول الله، للرجال والنساء، فما بال المرأتين برجل في الشهادة وفي الميراث؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يا أيتها المرأة، ذلك قضاء من عدل حكيم لا يجور ولا يحيف ولا يتحامل، لا ينفعه ما منعكن، ولا ينقصه ما بذله لكن، يدبر الأمر بعلمه، يا أيتها المرأة، لأنكن ناقصات الدين والعقل، قالت: يا رسول الله، وما نقصان ديننا؟ قال إن إحداكن تقعد نصف دهرها لا تصلي بحيضة عن الصلاة لله تعالى، وإنكن تكثرن اللعن وتكفرن بالعشرة، تمكث إحداكن عند الرجل عشر سنين فصاعدا، يحسن إليها وينعم عليها، فإذا ضاقت يده يوما أو خاصمها، قالت له: ما رأيت منك خيرا قط، ومن لم يكن من النساء هذه خلقها فالذي يصيبها من هذا النقصان محنة عليها، لتصبر فيعظم الله تعالى ثوابها، فأبشري، ثم قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنه ما من رجل رديء إلا والمرأة الرديئة أردأ منه، ولا من امرأة صالحة إلا والرجل الصالح أفضل منها، وما ساوى الله قط امرأة برجل إلا ما كان من تسوية الله فاطمة بعلي عليهما السلام أي في الشهادة)(3).

3. روي أنّه قال: تعرضوا للتجارات فإن لكم فيها غنى عما في أيدي الناس، وإن الله عزّ وجلّ يحب المحترف الأمين، المغبون غير محمود ولا مأجور(4).

4. روي أنّه قال في بيان معايش الخلق: وأما وجه التجارة فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، فعرفهم سبحانه كيف يشترون المتاع في الحضر والسفر، وكيف يتجرون، إذ كان ذلك من أسباب المعاش(5).

5. روي أنّه قال للموالي: اتجروا بارك الله لكم، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: الرزق عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة، وواحد في غيرها(6).

__________

(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، 651/372.

(2) الحديث غير صحيح، لعدم اعتبار المصدر، ولمعارضته القرآن الكريم

(3) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، 656/374.

(4) الخصال: 621/10.

(5) المحكم والمتشابه: 59.

(6) الكافي: 5/318/59.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ذلك في إقامة الشهادة، يعني: قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾: على الدرهم، والنصف درهم(2).

3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ أن يؤديا ما قبلهما(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٩٨.

(2) ابن المنذر: ١/٨٤، وعلَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٦.

(3) عبد الرزاق: ١/١١١.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة، أو كانت عنده شهادة؛ فلا يحل له أن يأبى إذا ما دعي(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا كانت عندهم شهادة(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد، فيقول: خلوا سبيله(4).

5. روي أنّه قال: إذا كانت عندك شهادة، فسألك عنها؛ فأخبره بها، ولا تقل: أخبر بها عند الأمير، أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي(5).

6. روي أنّه قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: ٧٢]، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة؛ لأن الله يقول: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾(5).

7. روي عن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله عن شهادة الصبيان، فكتب إلي: إن الله يقول: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، فليسوا ممن نرضى؛ لا تجوز(6).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٥.

(2) ابن جرير: ٥/٩٥.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٣.

(4) ابن جرير: ٥/١١٥.

(5) ابن جرير: ٥/١٢٧.

(6) سعيد بن منصور: ٤٥٥ ـ تفسير، وابن أبي حاتم: ٢/٥٦١.

ابن الزبير:

روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) في شهادة الصبيان: هم أحرى إذا سئلوا عما رأوا أن يشهدوا، قال ابن أبي مليكة: فما رأيت القضاة أخذت إلا بقول ابن الزبير(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١١/٨٠.

الخدري:

روي عن أبي سعيد الخدري (ت 74 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ نسختها: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] (1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٥٧١.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ كان إذا باع بالنقد أشهد ولم يكتب، قال مجاهد: وإذا باع بالنسيئة كتب وأشهد(1).

2. روي أنّه قال: لا تجوز شهادة النساء وحدهن، إلا على ما لا يطلع عليه إلا هن من عورات النساء، وما أشبه ذلك من حملهن، وحيضهن(2).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٧٤.

(2) ابن المنذر: ١/٧٦.

ابن زيد:

روي عن جابر بن زيد (ت 93 هـ): أنه اشترى سوطا فأشهد، وقال: قال الله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٨٤، وعلَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٦.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾، يعني: على حقكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ يقول: أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة، ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ يعني: تذكرها التي حفظت شهادتها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكُمْ﴾ يعني: الكتابـ ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يعني: أعدل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَقْوَمُ﴾ يعني: أصوبـ ﴿لِلشَّهَادَةِ﴾(3).

5. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ يعني: يدا بيد ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ يعني: ليس فيها أجل؛ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ يعني: حرج ﴿أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ يعني: التجارة الحاضرة(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، يعني: أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن، فأشهدوا على حقكم على كل حال(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ يعني: إن تضاروا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه: ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، ثم خوفهم، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾(6).

8. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ولا تعصوه فيها، ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يعني: من أعمالكم(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٠.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٥٧.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٤.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٥ ـ: ٥٦٦.

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٦.

(6) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٨.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ)

1. روي أنّه قال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾: الذي لم يعلم، أو ير له حرابة(1).

2. روي أنّه قال في الآية: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت، ولو دستجة بقل(2).

روي عن مغيرة: سألت إبراهيم النخعي قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال فلا تشهد إن شئت(3).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٧٧.

(2) النحاس في ناسخه: ص٢٦٧.

(3) سعيد بن منصور في سننه: ٤٦١ ـ تفسير، وابن جرير: ٥/٩٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهد لرجل فشهد، والكاتب الذي يكتب الكتاب؛ إذا دعوا إلى مقطع الحق فعليهم أن يجيبوا، وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أجدر ألا تنسوا(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه صغيرا كان أو كبيرا، ورخص لهم أن لا يكتبوه(3).

الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ)، ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أشهدوا ولو على دستجة من بقل(4).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ إن تفعلوا غير الذي أمركم به فإنه فسوق بكم(5).

5. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ هذا تعليم علمكموه، فخذوا به(6).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٩٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٥.

(3) ابن جرير: ٥/١٠٦.

(4) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.

(5) ابن جرير: ٥/١١٨.

(6) ابن جرير: ٥/١٢٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ عدلان، حران، مسلمان(1).

مجاهد (ت 104 هـ) بن موسى: سمعت ابن عيينة يقول: حفظت الحديث منذ خمس وسبعين سنة، وقد نسيت، ولكن إذا ذكرت ذُكرت، هو مثل قول الله تعالى: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، لو قيل لي: هذا فلان، ثم لم يكن هو، لقلت: لا، ولو قيل: هو خلفك، فالتفت فنظرت إليه، لقلت: نعم، فهذا ليس هو هذا(2).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا كانت عندك شهادة فأقمها، فأما إذا دعيت لتشهد؛ فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب(3).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ هو الحق الذي بينهما الدّين(4).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ إذا كان نسيئة كتب، وإذا كان نقدا أشهد(5).

__________

(1) الشافعي: ٧/١٢٦.

(2) ابن المنذر: ١/٧٧.

(3) ابن جرير: ٥/٩٧.

(4) ابن جرير: ٥/١٠٢.

(5) سفيان الثوري في تفسيره: ص٧٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ يكون به العلة، أو يكون مشغولا، فلا يضاره(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١١٥.

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ فيكتب ما لم يمل عليه، ﴿وَلَا شَهِيدٌ﴾ بما لم يستشهد(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١١١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: جمعت أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة(1).

2. روي أنّه قال: إن وجد غيره فهو واسع(2).

3. روي أنّه قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ فيزيد شيئا أو يحرف، ﴿وَلَا شَهِيدٌ﴾ لا يكتم الشهادة، ولا يشهد إلا بحق(4).

5. روي أنه قيل له: أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها؟ قال فلا تجب إن شئت(5).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١١٠.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٩.

(3) ابن المنذر: ١/٨٣.

(4) ابن جرير: ٥/١١٢.

(5) ابن جرير: ٥/٩٨.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٠٠.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾: علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضكم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لأموالكم، ولعمري، لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا، وإن كان فاجرا فبالحرى أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم؛ فأنزل الله هذه الآية(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾: كان الحسن يتأولها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ لا تأب أن تشهد إذا دعيت إلى شهادة(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ لا يضار كاتب فيكتب ما لم يملل عليه، ولا شهيد فيشهد بما لم يشهد(5).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٩٣.

(2) ابن جرير: ٥/٩٤.

(3) سعيد بن منصور في سننه: ٤٦٣ ـ تفسير، وابن جرير: ٥/٩٩.

(4) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١١٠.

(5) عبد الرزاق: ١/١١٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿أَدْنَى﴾ معناه أقرب و: ﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ معناه لا تشكوا(1).

2. روي أنّه قال: (﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ معناه معصية بكم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 106.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ ألا تشكوا في الشهادة(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٩٩.

(2) ابن جرير: ٥/١٠٤.

ابن عبد الرحمن:

روي عن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك (ت 130 هـ) أنّه قال: لا تجوز شهادة أربع نسوة مكان رجلين في الحقوق، ولا تجوز شهادتهن إلا معهن رجل، ولا تجوز شهادة رجل وامرأة؛ لأن الله يقول: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦١.

السختياني:

روي عن أيوب السختياني (ت 131 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ هو بالخيار(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٨٣.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا شهد ثم دعي إلى شهادته فلا ينبغي إلا أن يأتي يشهد(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/٩٧.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ في الدين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾: وذلك في الدين(1).

3. روي أنّه قال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ عدول(1).

4. روي أنّه قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٨٧.

(2) ابن جرير: ٥/٩٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [البقرة: 282]: (ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان، ورجل واحد ويمين المدعي إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والإمام علي)(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾: قبل الشهادة، وقوله: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ بعد الشهادة(2).

3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾: لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة يشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم عليها(2).

4. روي أنّه قال: (إذا دعيت إلى الشهادة فأجب)(2).

__________

(1) التهذيب: 6/281.

(2) التهذيب: 6/275.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ يأمر بإشهاده العدل من الرجال والنساء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾: جمعت الصغير والكبير في الدّين، سواء أمر أن يشهد عليه، وأن يكتب(2).

3. روي أنّه قال: ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾، يعني: ليس فيها أجل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ وإن لم تفعلوا الذي أمركم الله في آية الدين فإنه إثم ومعصية(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦١.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٤.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٦.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٨.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ هم الذين قد شهدوا قال ولا يضر إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء، قلت لعطاء: ما شأنه إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء؟ قال كذلك يجب على الكاتب أن يكتب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء؛ الشهداء كثير(1).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه مختصرًا: ١٥٥٦٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ على حقكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ ولا يشهد الرجل على حقه إلا مرضيا، إن كان الشاهد رجلا أو امرأة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا ما دعي الرجل ليستشهد على أخيه فلا يأب إن كان فارغا(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ يقول: ولا تملوا، وكل شيء في القرآن ﴿تَسْأَمُوا﴾ يعني: تملّوا، ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ يعني: قليل الحق وكثيره ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ لأن الكتاب أحصى للأجل، وأحفظ للمال(1).

5. روي أنّه قال: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ يعني: وأجدر ألا تشكوا ـ نظيرها: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ﴾ [المائدة: ١٠٨] أي: أجدر، ونظيرها في الأحزاب: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ يعني: أجدر ﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ ـ في الحق، والأجل، والشهادة إذا كان مكتوبا(1).

6. روي أنّه قال: ثم رخص في الاستثناء، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ وليس فيها أجل؛ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ يعني: حرج ﴿أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ يعني: التجارة الحاضرة إذا كانت يدا بيد على كل حال(2).

7. روي أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ على حقكم: ﴿إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾(3).

8. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ وإن تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عنه فإنه إثم بكم(3).

9. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ولا تعصوه فيهما، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ من أعمالكم عليم(3).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٩.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٢٩ ـ: ٢٣٠.

(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣٠.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أثبت للشهادة(1).

2. روي أنّه قال: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم(2).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٨١.

(2) الدرّ المنثور: أبي يعقوب البغدادي في كتاب رواية الكبار عن الصغار.

الليث:

روي عن عبد الله بن وهب أنّه قال: سألت الليث بن سعد (ت 175 هـ) عن قول الله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ قال ذلك إذا شهد قبل ذلك فلا يأب أن يؤدي شهادته، فقلت له: فقول رسول الله: (حتى يشهد الرجل ولم يستشهد)، فقال: الذي يقع في قلبي من ذلك وأظنه: الذي يشهد بما لم يعلم، فقلت له: مثل شهادة الزور؟ قال نعم(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ١/٩٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، الفسوق: الكذب، هذا فسوق؛ لأنه كذب الكاتب فحول كتابه فكذب، وكذب الشاهد فحول شهادته، فأخبرهم الله تعالى أنه كذب(2).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه مختصرًا: ١٥٥٦٠.

(2) ابن جرير: ٥/١١٩.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾: إذا دعاك الرجل لتشهد له على دين، أو حق لم ينبغ لك أن تتقاعس عنها(1).

__________

(1) التهذيب: 6/276.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ليس تأويل قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ من الذكر بعد النسيان، إنما هو من الذكر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٨٩.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: بلغني عن عطاء أنّه قال هي في الوجهين جميعا؛ إذا دعي ليشهد، أو ليشهد بما عنده(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٦٩.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما قوله عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فإنما يريد: أهل دينكم، وأهل الثقة من أهل ملتكم ممن ترضون عدالته.

2. أما قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ فإن الله سبحانه أقام المرأتين مقام شاهد ثان؛ لضعفهما، وقلة معرفتهما بالواجب عليهما؛ ألا تسمع كيف يقول: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، يريد بالضلال: النسيان أو غير ذلك من الشأن، ممن لا يؤمن على ضعفه النسوان، فأراد أن تذكرها الأخرى وتخوفها بربها فيه، إن أرادت تعمد الجحدان لشهادتها، ثم قال سبحانه: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، قال لا يأبوا أن يشهدوا بما قد علموا، مما له دعوى حين استشهدوا، فأوجب عليهم الشهادة عند الامام بما يعلمون؛ لكي يستخرج بشهادتهم حقوق من له يشهدون.

3. أما قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾، فإنه يقول: لا تملوا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ومدى تأخيره.

4. أما قوله عز وجل: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ فمعناه: أن لا تشكوا فيه، ولا في عدده، ولا في وزنه، ولا في أجله، إذا كان مكتوبا بخطوط الشهود ذلك أدنى أن يعلم الشهود ويعرفوا إذا رأوا خطوطهم، فيذكروا ويقفوا على ذلك، ويعلموا جميع ما عليه شهدوا.

5. أما قوله عز وجل: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾، والحاضرة هاهنا فهي: حاضرة معكم في بلدكم، حاضر نقدها عندكم، فليس عليكم جناح إذا كانت كذا: ألا تكتبوها، ولا تشهدوا فيها وعليها، ثم قال عز وجل: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، يريد سبحانه: وأشهدوا على الرضى من البائع والمبتاع؛ لكيلا يكون في ذلك رجوع من أحدهما ولا نزاع.

6. أما قوله سبحانه: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ هو: نهي من الله عز وجل للكتاب أن يمتنعوا من الكتاب كما علمهم الله، وللشهود أن يمتنعوا من أداء الشهادة على الحق إذا دعوا كما أمرهم الله، ثم أخبرهم أنه من فعل ذلك فإنه آثم قلبه.

7. أما قوله سبحانه: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ فإنه أعدل وأثبت إذا كان في الكتاب، وكانت على الغريم الشهود به والبينة، فحينئذ لا يستطيع الغريم أن يدفع غريمه، ولا أن ينتقص حقه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/134.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، والكاتب هو: الذي يكتب الحق عليه، وقد يمكن أن يكون: الكاتب الذي يكتب، والشهيد هو: الذي يشهد على الشهادة، ثم يضار فيها، ويكتمها، فلا يحل له ذلك ولا يسعه؛ بل عليه أن يؤدي شهادته، ويحفظ في ذلك أمانته، والشاهد أيضا إذا دعي إلى الشهادة فيأبى، فنهاه الله عن ذلك، إذا كانت شهادته حقا، ولاح مستحق)، قيل: هل يحل إذا دعي رجل إلى الشهادة ليشهد عليها أن يمتنع؟ قال (ما يجب له إذا دعاه المسلم ليشهد له على شهادة حق: أن يأبى؛ لأن هذا من المعونة على التقوي، وإن كان المستشهد له مبطلا غير محق ـ فما أحب أن يشهد له على شيء، ولا يدخل معه في سبب من الأسباب، ولا يعينه في باب من الأبواب؛ لأن البعد من الفاسق فريضة، والمجانبة له قربة)، قيل: هل يأثم الرجل إذا نسي بعض شهادته، فلم يذكرها، والتبس عليه الأمر، فلم يدر كيف هو؟، قال (القول في ذلك عندي: أنه إذا نسي الشهادة، ولم يدر ما كان شهد عليه ـ أن الوقوف عما ألتبس أفضل وأصلح، إلا أن يكون معه شهود عدول، قد شهدوا على الشهادة التي شهد عليها، فيذكرونه ويوقفونه على الأمر حتى يفهمه، فإذا كان ذلك جاز له أن يشهد.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/138.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ لم يجعل الإشهاد شرطا في جواز البيع، ولكنه معطوف على قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾:

أ. أمر عزّ وجل بالإشهاد في البيع والتداين؛ للمعنى الذي ذكرنا: أن ترك الإشهاد والكتابة يحمله على الإنكار وجحود الحق، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع من الإنكار؛ لخوف ظهور الكذب، ولم يصر شرطا في جواز التداين؛ لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة، وكذلك الكتابة فهو لما ذكرنا: أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو؛ فأمر بالاستشهاد والكتابة لئلا ينسى، أو يحمله ترك الإشهاد والكتابة على الإنكار، وأما الأمر بالإشهاد في النكاح ـ في عقد النكاح نفسه ـ دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نكاح إلا بشهود)؛ لذلك صار شرطا في عقد النكاح، ولم يصر شرطا في المبايعة.

ب. ووجه آخر: وهو أن الشهادة في النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما، وقد يحوج إليه في أول أحواله، والحاجة إلى الشهادة في البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح؛ لذلك صار الإشهاد شرطا في جواز النكاح، ولم يكن شرطا في البيع.

2. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ في الآية دلالة أن من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب، وهو أيضا خلاف السنة؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ ليس هو الإشهاد، إنما هو الإحضار للشهادة؛ إذ العجز لا يقع في الإشهاد، إنما يقع عند الاستحضار، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما؛ ولأن الآية ذكرت حق القضاء في البياعات‏ الواقعة والأحكام إلى سبيلها لزوم الفصل بالقضاء بين أربابها، فمن جعل فصل القضاء بالشاهد واليمين جعل على خلاف ما جعله من له نصب الشرائع والحجج، وقال الله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وأما مخالفة السنة فقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه)‏، فإذا أتى بشاهد واحد لم يخرج الآخر من أن يكون مدعى عليه، فإذا كان كذلك، وقد جعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم حجة المدعى عليه اليمين، ولم يجعل اليمين حجة للمدعى؛ فلذلك قلنا: إنه المخالف لظاهر الكتاب والسنة، ولأن الله تعالى جعل المرأتين في حال الضرورة، وهو حال عدم الرجل مقام ذلك الرجل، فلو كان يجوز القضاء بالشاهد واليمين، لم يحتج إلى أن يكلف النساء من الخروج إلى أبواب القضاء والسلاطين لأداء الشهادة، وفى ذلك هتك الستر عليهن وكشف عورتهن، وتكلف القضاة فضل التفحص في حالهن ومعرفتهن؛ لذلك بطل القضاء بالشاهد واليمين.

3. سؤال وإشكال: روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه قضى به‏، والجواب: إنه لم يرو أنه فيم قضى في الأموال أو في غير الأموال فإن ثبت أنه فيم قضى لكنا نقضى به، ثم قال الصحابة: أنه قضى بالشاهد واليمين فى‏ الأمان، ونحن نقضى بعض أحكام الأمان بالشاهد الواحد إذا كان عدلا، واليمين باب ما يحتاط فيه إذا شهد شاهد أنه أمنه لم يقبل، ولكن يسترق، وأما الأموال فإن الاحتياط في ذلك ترك القضاء إلى أن تقوم الحجة التي تزيل الشبهة من جميع الوجوه.

4. شهادة النساء: جائزة في الأموال وفى غير الأموال إلا في الحدود خاصة، فإنها غير مقبولة، أما جوازها في غير الحدود؛ لأن الله تعالى ذكر التداين، وذكر في التداين الأجل، والأجل ليس بمال، ثم أجاز شهادتهن في التداين وفى الأجل الذي ليس هو بمال؛ دل ذلك أن علة جواز شهادتهن ليس هو المالية نفسها، وأجيزت شهادتهن فيما لا مالية فيه وهو الأجل؛ فظهرت أن علتها ليست مالية، وأما بطلان شهادتهن في الحدود:

أ. فلأن شهادتهن إنما أجيزت بحكم البدل عن شهادة الرجال، والأبدال في الحدود غير مقبولة نحو الوكالات والكفالات؛ فعلى ذلك شهادتهن لما كانت جوازها بحكم البدل لم تقبل، ولأنهن جعلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدين؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنهن ناقصات عقل ودين) في ذلك الإسرار والستر؛ لذلك قلنا بأن شهادتهن تجوز في النكاح والطلاق والعتاق؛ لأن النكاح يبتغى فيه الإعلان على ما جاء: (أعلنوا النكاح)؛ لذلك قبلت.

ب. ومعنى آخر: أن الخصم أجاز شهادة النساء بالانفراد في كل شيء ما خلا الحدود والقصاص؛ لذلك قبل بالرجال، ولأن شهادة النساء أجيزت في الأصل توسيعا، فلا يجوز أن ترد فيما يتوسع، وتقبل فيما يضيق، وأمر النكاح والطلاق في الشهادة أوسع، فهو أحق أن يقبل.

5. سؤال وإشكال: كيف جاز استشهاد المرأتين عند وجود الرجلين؟ والجواب:

أ. الله أمر باستحضار الرجلين عند الحاكم للشهادة، لا أمر بالإشهاد عليها؛ لذلك قال عزّ وجل: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي لا تكلف النساء حضور أبواب القضاة ومجلسهم لأداء الشهادة إلا عند العجز عن وجود الرجل؛ لما في ذلك هتك أستارهن، وكشف عورتهن.

ب. الثاني: أن الله تعالى ذكر امرأتين وأقامهما مقام رجل فائت، والرجل الذي قامت امرأتان مقامه هو فائت أبدا غير موجود، إذ له أن يشهد عددا على ذلك الحق؛ لذلك جازت شهادتهن وإن كان هناك رجلان.

6. سؤال وإشكال: ما الحكمة في ذكر رجلين دون ذكر العدد، أو ذكر واحد؟ والجواب: لوجوه:

أ. أحدها: ذكر على قدر الأشياء ومراتبها عند الناس، إذا كان أمرا عظيما فظيعا لا تقبل فيه إلا شهادة عدد، نحو الزنى، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ [النور: 4]، وإذا كان خسيسا سهلا عند الناس قبل قول الفرد حرّا كان أو عبدا، من نحو الاستئذان للدخول على آخر ونحوه، ثم الأموال وغيرها هي المتوسطة المترددة بين هذين، فقبل الوسط من الشهادة، ولم يقبل دونها.

ب. ووجه آخر: قيل: إنه ذكر ذلك عبادة، لا لمعنى المودع فيه، ولكن سمعا، فهو على ما ذكر، لا يطلب معناه.

ج. الثالث: أن الواحد لم تقبل شهادته في الحقوق بالانفراد؛ لأنه ينتفع بها، لأن من صدق في قوله يتلذذ بتصديقهم إياه، فعلى ذلك لم يقبل قول المدعى في دعواه وإن كان عدلا، لما ينتفع بالتصديق وقبول قوله فيه، فإذا كانا اثنين صار تلذذ كل واحد منهما وانتفاعه لصاحبه؛ فحصلت الشهادة خالصة صافية؛ فقبلت.

د. الرابع: أن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة، فإذا كان فردا يخاف عليه النسيان؛ أمر بضم آخر إليه ليذكر كل واحد منهما صاحبه إذا نسيه، وعلى ذلك يخرج قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ لما ذكر أنهن جبلن وطبعن على فضل السهو والغفلة، أمر بضم غيرها إليها إذا سهت وغفلت عنها.

7. قوله تعالى: ﴿شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قال أصحابنا (2): يرجع الخطاب إلى الأحرار خاصة دون العبيد والكفرة:

أ. أما الكفرة؛ فلأن الخطاب في الابتداء للمؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ الآية؛ فخرج الكفار من خطاب الآية؛ لذلك لم تقبل شهادتهم على أهل الإسلام.

ب. وأما العبيد فلم يدخلوا تحت هذا الخطاب لوجوه:

أحدها: ما ذكرنا: أن ظاهر الخطاب للأحرار دون العبيد، لما لا يملكون هم التداين والتبايع؛ فعلى ذلك خطاب الشهادة، فإن قيل: أليس العبيد يملكون التبايع والتداين؟ قيل: يملكون بالإذن والتولية لا بملك أنفسهم فذلك القدر من التداين وغيره، يملك الكفار، ثم لم يجب قبول شهادتهم، ولا دخلوا تحت ذلك الخطاب؛ فكذلك العبيد.

الثاني: ما قاله عزّ وجل: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ ثم لا يملك العبيد الإجابة لكل ما دعوا لحق السادات؛ فعلى ذلك ليس عليهم الإجابة في الشهادة لحق السادات.

الثالث: أن الله تعالى قسم الشهادة قسمة الميراث بقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ وقال في الميراث: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، ثم لا حظ للعبيد في الميراث؛ فعلى ذلك لا حظ لهم في الشهادة.

الرابع: أن الشهادات تجرى مجرى الولايات والتمليكات، ثم لا ولاية تكون للعبد على غيره ولا تمليك؛ فعلى ذلك الشهادة، إذ فيها ولاية وتمليك الحاكم الحكم، والله أعلم، وعلى هذا بطلت شهادة الكفار على أهل الإسلام لما لا ولاية لهم عليهم.

الخامس: أن الشهود بين حالين: بين أن يصدقوا فتمضى شهادتهم، وبين أن يكذبوا فيضمنوا، ولما كان العبيد إذا كذبوا في شهادتهم لم يضمنوا؛ لأن ضمان الشهادة ضمان معروف؛ لأنه لا بدل له بإزاء من لم يكن من أهل الشهادة؛ دل أنهم ليسوا من أهل الشهادة، وعلى ذلك قلنا: إن النكاح يجوز بشهادة الفاسق والمحدود في القذف، وأنهما من أهل الشهادة فيه؛ لأنهما من أهل الضمان، وإن كانت شهادتهما ردت لتهمة الكذب في سائر الحقوق، وأما العبد: فليس هو من أهل الشهادة بحال، للمعنى الذي وصفنا، وإلا القياس يقتضى أن تجوز شهادة العبيد؛ لأنها من حق الله، ودليله قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله﴾ [الطلاق: 2]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 8]، فإذا كانت من حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى لا يختلف‏ العبيد والأحرار فيها، فيجب أن تقبل شهادتهم، لكنها لم تقبل للوجوه التي ذكرناها.

8. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ إلى أن قال ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ قد ذكرنا فيما تقدم أنهن لما جبلن وطبعن على فضل سهو وغفلة، ضمت إليها أخرى لتذكرها الشهادة إذا نسيت.

9. فى الآية دلالة أن الرجل إذا نسى الشهادة، ثم ذكر فتذكر، يجوز أن يشهد، وأما إذا أخبر بالشهادة ولم يتذكر، لم يجز له أن يشهد؛ لقوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ إذ لم يقل: (فتخبر إحداهما الأخرى)

10. في قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ دلالة أن من المسلمين من لا يكون مرضيّا، وكذلك فيهم من يكون عدلا ومن لا يكون عدلا، دليله قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، لأنه لو لم يكن فيهم مرضيا وغير مرضى لكان يقول: (وأشهدوا رجلين منكم)، ولم يشترط فيه العدالة والرضاء، وهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: المسلم لا يكون غير عدل ولا غير مرضى، وفى الآية التي ذكرنا دلالة ما قلنا.

11. في قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ دلالة أن الشهود إذا شهدوا على المدعى عليه بالحق، وهم مرضيون عنده، يجب أن يؤدى إليه حقه؛ لأنا قلنا: إن قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أمر باستحضارهم عند الحاكم، فإذا كان كذلك فهو دليل ما قلنا.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾:

أ. قيل: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ للإشهاد.

ب. وقيل‏: لا يأبوا إذا ما دعوا للأداء، وهذا أشبه؛ لأن للشهود أن يقولوا: أحضر الخصم هاهنا لتشهدنا عليه، فإنا لا نحضر المكان الذي هو فيه، وليس هذا القول في الأداء، إذ الأداء لا يكون إلا عند الحاكم؛ لذلك كان أولى، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ ولا يجد من يشهدهم، ولا يجد من يشهد له غيرهم.

13. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ دلالة جواز السلم في الثياب؛ لأن ما يكال ويوزن لا يقال فيه: (الصغير والكبير)، ولا يكتب: (صغيرة وكبيرة)، إنما يقال ذلك في العددي.

14. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يقول: أعدل عند الله، ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ في الحجة، ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أقرب إلى دفع الظنون والشكوك التي تحملكم على التناكر والتنازع الذي عاقبته الفسخ؛ ولهذا ما أمر عزّ وجل بالكتابة فيه والإشهاد، وذكر كل صغير وكبير، لئلا يقع بينهم في العاقبة تنازع وتناكر، فيحمل ذلك الحاكم على فسخ العقد بينهما، وعلى ذلك نصبوا الأجل فيه شرطا لقطع وقوع التنازع والتناكر الذي حكمه الفسخ في العاقبة جميعا؛ فالأمر بالكتابة لمحافظة الحقوق ومعاهدة كل قليل وكثير فيه، وأما الأمر بالإشهاد للأدب، والأمر بالرهن أمر بالوفاء، والرهن والكتابة والإشهاد كل ذلك يمنع صاحبه عن الإنكار والجحود، ويذكر عند النسيان والسهو، ذلك كله لقطع التنازع الواقع فيما بينهما في المتعقب.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾:

أ. قال بعضهم: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ لا يشغل الكاتب ولا الشهيد، فيقول له: اكتب لي كذا، واشهد لي على كذا، وهو يجد غيره.

ب. وقال آخرون‏: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ أي لا يضار كاتب صاحب الحق، فيكتب ما لا ينبغي أن يكتب بالزيادة والنقصان، وكذلك الشاهد لا يزيد على الحق ولا ينقص من الحق شيئا، ولا يكتم الشهادة أيضا، فهذا أقرب.

16. سؤال وإشكال: إذا كان المعنى راجعا إلى ما ذكرت ألا يزيد الكاتب ولا ينقص ألا قال لا يضار بالرفع؟ والجواب: إنه لا يضاره فطرحت إحداهما فإذا طرحت انتصبت علامة للطرح إذ هكذا عمل الإضمار، وعن ابن عباس أنّه قال: (الإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنى: إن الله أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت فتضاره بذلك)

17. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ أي تضاروا فإنه فسوق بكم؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهى عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان؛ إذ في ذلك خروج عن الأمر.

18. الفسق هو الخروج عن الأمر كقوله‏: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50] وهو على المعتزلة؛ كقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان‏ ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل‏ ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ حرف وعيد.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/279.

(2) يقصد الحنفية

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: من أهل دينكم.

ب. الثاني: من أحراركم، قاله مجاهد.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يعني فإن لم تكن البينة برجلين، فبرجل وامرأتين‏ ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: أنهم الأحرار المسلمون العدول، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: أنهم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا، وهو قول شريح، وعثمان البتّي، وأبي ثور.

3. في قوله تعالى: ﴿تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: لئلا تضل، قاله أهل الكوفة.

ب. الثاني: كراهة أن تضل، قاله أهل البصرة.

4. في المراد بقوله تعالى: ﴿تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أن تخطئ.

ب. الثاني: أن تنسى، قاله سيبويه.

5. في قوله تعالى: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنها تجعلها كذكر من الرجال، قاله سفيان بن عيينة.

ب. الثاني: أنها تذكرها إن نسيت، قاله قتادة، والسدي، والضحاك، وابن زيد.

6. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: لتحمّلها وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع.

ب. الثاني: لإقامتها وأدائها عند الحاكم، قاله مجاهد، والشعبي، وعطاء.

ج. الثالث: أنها للتحمل والأداء جميعا، قاله الحسن.

7. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه ندب وليس بفرض، قاله عطاء، وعطية العوفي.

ب. الثاني: أنه فرض على الكفاية، قاله الشعبي.

ج. الثالث: أنه فرض على الأعيان، قاله قتادة، والربيع.

8. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ وليس يريد بالصغير ما كان تافها حقيرا كالقيراط والدانق لخروج ذلك عن العرف المعهود.

9. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي أعدل، يقال: أقسط إذا عدل فهو مقسط، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9] وقسط إذا جار، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: 14]

10. في قوله تعالى: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أصحّ لها، مأخوذ من الاستقامة.

ب. الثاني: أحفظ لها، مأخوذ من القيام، بمعنى الحفظ.

11. قوله تعالى: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ يحتمل وجهين‏:

أ. أحدهما: ألا ترتابوا بمن عليه حق أن ينكره.

ب. الثاني: ألّا ترتابوا بالشاهد أن يضل.

12. قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن الحاضرة ما تعجّل ولم يداخله أجل في مبيع ولا ثمن.

ب. الثاني: أنها ما يحوزه المشتري من العروض المنقولة.

13. قوله تعالى: ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: تتناقلونها من يد إلى يد.

ب. الثاني: تكثرون تبايعها في كل وقت.

14. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ يعني أنه غير مأمور بكتبه وإن كان مباحا.

15. في قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه فرض، وهو قول الضحاك، وداوود بن علي.

ب. الثاني: أنه ندب، وهو قول الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي.

16. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أن المضارة هو أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ويشهد الشاهد بما لم يستشهد، قاله طاووس، والحسن، وقتادة.

ب. الثاني: أن المضارّة أن يمنع الكاتب أن يكتب، ويمنع الشاهد أن يشهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء.

ج. الثالث: أن المضارّة أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان معذوران، قاله عكرمة، والضحاك، والسدي، والربيع.

د. ويحتمل تأويلا رابعا: أن تكون المضارّة في الكتابة والشهادة.

17. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أن الفسوق المعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.

ب. الثاني: أنه الكذب، قاله ابن زيد.

ج. ويحتمل ثالثا: أن الفسوق المأثم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/357.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾: أي لا تضل إحداهما جعلناهما ثنتين حتى ﴿تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، إذا نسيت أو جحدت.

2. معنى قوله: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا تملوا أن تكتبوه، قال الشاعر:

çسَئمتُ من المطاعم كلَّ مُرٍّ... من الباذنج والقطفِ السليقé

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 293.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ وهذا أيضاً أمر على الندبـ ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يعني فإن لم تكن البينة رجلين فرجل وامرأتان، ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ وهم المسلمون العدول ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي تذكرها إذا نسيت.

2. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي لتحمل الشهادة وأدائها عند الحاكم وهذا فرض على الكفاية ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا تملوا وليس المراد بالصغر التافه الحقير الذي يخرج عن العرف المعهود ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي أعدل يقال أقسط الرجل إذا عدل فهو مقسط قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة]، وقسط إذا جار قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن]

3. ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ يعني أي أصح لها مأخوذ من الاستقامة ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ بمن عليه الحق أن ينكر ولا بالشاهد أن يضل.

4. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ وهذه على الإباحة ولو كتب جاز، ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ وهذا الأمر على الندبـ ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ ومضارتهما هو أن يكتب الكاتب ما لم يملى عليه ويشهد الشاهد ما لم يشهد فيه ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ والفسوق المعصية والكذب.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/130.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾:

أ. قيل: يعني من رجال الأحرار المسلمين دون الكفار والعبيد ـ في قول مجاهد ـ

ب. الحرية ليست عندنا (2) شرطاً في قبول الشهادة، وإنما الإسلام شرط من العدالة، وبه قال شريح والبتي، وأبو ثور، ومثله قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾

2. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يحتمل رفعه أربعة أوجه:

أ. أحدها: فليكن رجل وامرأتان.

ب. الثاني: فليشهد رجل وامرأتان.

ج. الثالث: فالشاهد رجل وامرأتان.

د. الرابع: فرجل وامرأتان يشهدون.

هـ. وكل ذلك حسن، وكان يجوز أن ينصب رجلا وامرأتين بمعنى واستشهدوا رجلا وامرأتين.

3. قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: قال الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين إنه من الذكر الذي هو ضد النسيان.

ب. وقال سفيان بن عيينة: هو من الذكر، ومعناه أن تجعلها كذكر من الرجال.

4. معنى ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ لأن تضل أو من أجل أن.

5. سؤال وإشكال: لم قال:‏ ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ وإنما الاشهاد، للاذكار لا للضلال؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: قال سيبويه أنه لما كان الضلال سبب الاذكار قدّم لذلك وجاز لتعلق كل واحد منهما بالآخر في حكم واحد فصار بمنزلة ما وقع الاشهاد للمرأتين من أجل الضلال، كما وقع من أجل الاذكار وكثيراً في السبب والمسبب أن يحمل كل واحد منهما على الآخر، ومثله أعددت الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه وإنما أعددته في الحقيقة للدعم ولكن حمل عليه الميل لأنه سببه.

ب. الثاني: قال الفراء إنه بمعنى الجزاء على أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إلا أنه لما قدّمت (أن) اتصلت بما قبلها من العامل فانفتحت، ومثله يعجبني أن سأل السائل فيعطى، وإنما يعجبك الإعطاء دون المسألة، ومثله قوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا﴾ ومعناه ولولا أن يقولوا أن أصابهم مصيبة، وإنما قدّم وأخر، قال الرماني قول سيبويه في هذا أقوى لما في الثاني من الدعوى لإخراج الجزاء إلى المصدر لغير فائدة، وأنكر بعضهم قراءة حمزة (إن تضل) ـ بكسر الهمزة ـ وقال الرماني: لا معنى لهذا الإنكار، لأن عليها إجماع الأمة وتسليم القراءة بها ولها وجه صحيح في العربية، وقال أبو علي الفارسي إن حمزة جعل إن للجزاء، والفاء في قوله (فتذكر) جواب الجزاء، ويكون موضع جوابه رفعاً بكونها وصفاً للمنكرين وهما المرأتان في الآي.

6. ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ خبر ابتداء محذوف، وتقديره فمن يشهد رجل وامرأتان، وانفتحت اللام في هذه القراءة لالتقاء الساكنين، وموضعهما الجزم ولو كسرت، لكان جائزاً وقال قوم: غلط سفيان بن عيينة في تأويله، لأن إحداهما إذا نسيت لم تجعلها الأخرى ذكراً وهذا ليس بشيء، لأن المعنى تذكرها تصير معها بمنزلة الذكر لأن بعدهما من النسيان إذا اجتمعا بمنزلة بعد الذكر.

7. سؤال وإشكال: لم قال‏ ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ فكرر لفظ إحداهما، ولو قال فتذكرها الأخرى لقام مقامه مع اختصاره، والجواب:

أ. قال الحسين بن علي المغربي: أن تضل إحداهما يعني إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر أحدى المرأتين الأخرى، لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى ويؤيد ذلك أنه يسمى ناسي الشهادة ضالًا، ويجوز أن يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال تعالى: ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي ضاعوا منا.

ب. ويحتمل أن يكون إنما كرر لئلا يفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول فان ذلك مكروه غير جيد، فعلى هذا يكون إحداهما الفاعلة والأخرى مفعولًا بها.

8. في معنى ما دعوا إليه في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: لإثبات الشهادة في الكتاب وتحملها ذهب إليه ابن عباس، وقتادة والربيع.

ب. الثاني: قال مجاهد، وعامر، وعطا ذلك إذا دعوا لإقامتها.

ج. الثالث: في‏ رواية عن ابن عباس، والحسن، وأبي عبد الله عليه السلام لإقامتها وإثباتها، وهو أعم فائدة.

د. وقال الطبري: لا يجوز إلا إذا دعوا لإقامتها، لأن قبل أن يشهدوا لا يوصفون بأنهم شهداء، وهذا باطل لأنه تعالى قال ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فسماهما شاهدين قبل إقامة الشهادة.

9. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ فالسأم: الملل، سئم يسأم سأماً إذا مل من الشيء وضجر منه قال زهير:

çسئمت تكاليف الحياة ومن يعش‏...ثمانين حولا لا أبالك يسأم‏é

10. الصغير: خلاف الكبير صغر الشيء يصغر صغراً، وصغره تصغيراً واستصغره استصغاراً وتصاغر تصاغراً، وصغر يصغر صغراً وصغاراً: إذا رضي بالضيم، لأنه رضي باستصغاره، وتصاغرت إليه نفسه ذلًا ومهانة، والاصغار حنين الناقة الحفيض والإكبار حنينها الكبير.

11. الهاء في قوله تعالى: ﴿أَجَلِهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن تكون عائدة إلى أجل الدين، وهو الأقوى.

ب. الثاني إلى أجل الشاهد، أي الوقت الذي تجوز فيه الشهادة.

12. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ معناه أعدل والقسط: العدل تقول: أقسط إقساطاً، فهو مقسط إذا عدل ومنه قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والقسط: الحصة تقول أخذ فلان قسطه أي حصته، وقد تقسطوا الشيء بينهم أي اقتسموه على القسط أي على العدل، وكل مقدار قسط لأنه عدل غيره بالمساواة له، والقسوط: الجور لأنه عدول عن الحق قسط يقسط قسطاً، فهو قاسط إذا جاز عن الحق، وقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾، والرجل القسطاء: التي في ساقها اعوجاج لعدوله عن الاستقامة.

13. ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ معناه أصح لها مأخوذ من الاستقامة، ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾:

أ. أي أقرب ألا تشكوا بأن ينكر من عليه الحق.

ب. وقيل: بالا ترتابوا بالشاهد أن يضل.

14. من رفع قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ احتمل رفعه أمرين:

أ. أحدهما: أن تكون (كان) تامة بمعنى وقع، فيكون اسم كان.

ب. ويحتمل أن تكون ناقصة ويكون اسمها والخبر تديرونها.

15. من نصب ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ معناه أن تكون التبايع تجارة أو التجارة تجارة.

16. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾:

أ. قال الضحاك: الاشهاد: فرض في التبايع وبه قال أصحاب الطاهر واختاره الطبري.

ب. وقال الحسن، والشعبي ذو ندب، وهو الصحيح وبه قال جميع الفقهاء.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ﴾:

أ. قيل: أصله يضار ـ بكسر الراء ـ عند الحسن، وقتادة، وعطا، وابن زيد.

ب. وقيل: المضارة وهو أن يشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه، ويكتب الكاتب بما لم يمل عليه، ذهب إليه الحسن، وطاووس وهو الأقوى، بدلالة قوله‏: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ يعني المضارة.

18. ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي معصية في قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، ومن دعا الشاهد وهو مشغول، فتأخر لا يكون فاسقاً بلا خلاف، وقال ابن مسعود، ومجاهد ـ بفتح الراء ـ ومعناه لا يدعى الكاتب، والشاهد، وهو مشغول على وجه الإضرار به.

19. ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ معناه هو في العادة صغير جرت العادة بكتب مثله، ولا يريد بذلك ما قدره حبة أو قيراط، لأن ذلك لم تجر العادة بكتب مثله، والاشهاد عليه وليس في الآية ما يدل على أنه لا يجوز الحكم بالشاهد واليمين، لأن الحكم بالشاهد والمرأتين أو بالشاهدين لا يمنع من قيام الدلالة على جواب الحكم بالشاهد مع اليمين، ولا يكون ذلك نسخاً لذلك، لأنه ليس بمناف للمذكور في الآية والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصد به المال فأما الحدود التي هي حق الله وحقوق الآدميين وما يوجب القصاص، فلا يحكم‏ فيها بشهادة رجل وامرأتين، وكذلك عندنا في الشاهد، واليمين حكم الشاهد والمرأتين سواء، وقد بسطنا مسائل الشهادات، وفروعها، وما يقبل منها وما لا يقبل وأحكام شهادة النساء والعبيد وغير ذلك في كتابينا النهاية، والمبسوط، فلا معنى للتطويل بذكرها هاهنا.

20. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ معناه اتقوا معاصيه وعقابه، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ معناه يعلمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وما ينبغي لكم فعله، وما يحرم عليكم، والله عليم بذلك وبما سواه من المعلومات فلذلك، قال‏ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

21. قال أبو علي الفارسي‏: قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ لا يكون متعلقاً بقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ ولكن يتعلق بأن يفعل مضمر دل عليه هذا الكلام، لأن قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يدل على قولك واستشهدوا رجلًا وامرأتين، فتعلق (ان) إنما هو بهذا الفعل المدلول عليه، قال ويجوز أن تتعلق (ان) بأحد ثلاثة أشياء:

أ. أحدها: المضمر الذي دل عليه قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾

ب. الثاني: الفعل الذي هو فليشهد رجل وامرأتان.

ج. الثالث: الفعل الذي هو خبر المبتدأ، وتقديره فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون خبر المبتدأ.

22. قال أبو علي الفارسي‏: قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم‏ ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما لاختلاف إعراب الموصوفين ألا ترى أن شهيدين منصوبان، ورجل وامرأتان اعرابهم الرفع، فإذا كان كذلك علمت أن الوصف الذي هو ظرف إنما هو وصف لقوله: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ دون من تقدم ذكرهما من الشاهدين، والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين، لأن الشرط، والجزاء جملة يوصف بها كما يوصل بها في قوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ﴾ الآية.

23. إحدى هو مؤنث الواحد والواحد الذي مؤنثه إحدى إنما هو اسم وليس، بوصف ولذلك جاء احدى على بناء لا يكون للصفات أبداً كما كان الذي هو مذكره كذلك وقال أحمد بن يحيى قالوا: هو إحدى الأحد، وواحد الأحدين وواحد الآحاد وأنشد:

çعدّوني الثعلب فيما عدّوا...حتى استثاروا بي أحدى الأحدé

24. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ استثناء من جملة ما أمر الله بكتابته والاشهاد عليه عند التبايع فاستثنى منه يداً بيد فإنه لا يحتاج إلى الكتابة ولا الاشهاد عليه، والأول يحتاج إليه على خلاف، في كونه ندباً أو وجوباً كما ذكرناه.

25. قيل في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية أربعة عشر حكماً:

أ. أولها قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾

ب. الثاني: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾

ج. الثالث: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾

د. الرابع: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ وهو أقداره إذا أملاه.

هـ. الخامس: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، أي لا يخون، ولا ينقصه.

و. السادس: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ أي لا يحسن ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾

ز. السابع: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾

ح. الثامن: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾

ط. التاسع: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾

ي. العاشر: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا تضجروا.

ك. الحادي عشر: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾

ل. الثاني عشر: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾

م. الثالث عشر: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾

ن. الرابع عشر: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾

26. وقال قوم: فيها إحدى وعشرون حكماً: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ﴾ حكم‏ ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ حكم‏ ﴿وَلَا يَبْخَسْ﴾ حكم‏ ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا﴾ حكم‏ ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ حكم‏ ﴿أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ﴾ حكم‏ ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ حكم (بالعدل) حكم‏ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ حكم‏ ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ حكم‏ ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ حكم‏ ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ﴾ حكم‏ ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ حكم‏ ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ حكم‏ ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ حكم‏ ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ حكم‏ ﴿وَلَا شَهِيدٌ﴾ حكم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/374.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الضلال: أصله الهلاك تقول العرب: ضل الماء في اللبن، ومنه ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾، وقيل: أصله الذهاب بحيث لا يوجد، ومنه ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾

ب. الإباء: الامتناع من الشيء أبي يأبى إباءً، ومنه ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾

ج. القسط: العدل، وأصله العدول؛ لأنه عدول إلى الحق، وأقسط فهو مقسط.

د. أدنى: من الدنو، وهو القرب، ومنه الدنيا؛ لأنها أقرب من الآخرة.

هـ. الارتياب: الشك في تهمة.

2. أمر الله تعالى بالإشهاد فقال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ يعني اطلبوا الشهود وأشهدوا على المكتوب، ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ يعني رجلين، والشهود في كل موضع يكفي رجلان، إلا في الزنا فهو أربعة.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قيل: من الأحرار البالغين المسلمين دون الكفار والعبيد والصبيان، عن مجاهد وجماعة من الفقهاء، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد، وأجاز مالك شهادة الصبيان في الجراح.

4. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾ يعني فإن لم يكن الشاهدان رجلين ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾:

أ. قيل: فالشاهد رجل وامرأتان.

ب. وقيل: هذا في الأموال خاصة، عن مالك والأوزاعي والشافعي.

ج. وقيل: في كل شيء ما خلا الحدود والقصاص، وهو قول أهل العراق.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾:

أ. قيل: يعني من كان مَرْضِيًّا في دينه وأمانته وكفايته وهو العدل.

ب. وقيل: العدل المرضي من لم يظهر منه ريبة، عن إبراهيم.

ج. وقيل: من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج، عن الشعبي.

6. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي تنسى ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾:

أ. قيل: هو من الذِّكْر أي تذكرها الشهادة، عن الربيع والسدي والضحاك وابن زيد وأكثر المفسرين.

ب. وقيل: من الذَّكر أي تجعلها كذكر من الرجال، عن سفيان بن عيينة، وهذا يبعد لأنه تقدم قوله: ﴿تُضِلُّ﴾ فدل أن المراد به الذِّكر.

7. ثم خاطب الشهود فقال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي لا يمتنع، ثم فيه ثلاثة أقوال:

أ. الأول: إذا دعوا لإثبات الشهادة وتحملها، عن قتادة والربيع.

ب. الثاني: لإقامتها، عن مجاهد وعطاء والشعبي والسدي وسعيد بن جبير، وهو الذي اختاره القاضي.

ج. الثالث: لإثباتها وإقامتها، عن ابن عباس والحسن، وأنكر بعضهم حمل الآية على التحمل؛ لأنهم ليسوا بشهداء، وهذا الاحتجاج يبطل بقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾

8. سؤال وإشكال: هل يجب التحمل؟ وكيف يجب الأداء؟، والجواب:

أ. إن حملت الآية على التحمل:

فقيل: واجب على الكفاية.

وقيل: هو أمر ندب.

وقيل: هو إباحة.

ب. وإن حملت على الإقامة فقد يجب على الكفاية عند وجود غيره، وقد يتعين إذا لم يكن غيره.

9. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ لا تملوا ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا﴾ كان الحق ﴿أَوْ كَبِيرًا﴾ قليلاً كان المال أو كبيرًا ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾:

أ. قيل: يعني محل الدين والحق.

ب. وقيل: إلى أجل الشاهد.

10. ﴿ذَلِكُمْ﴾ يعني الكتابة ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي أعدل؛ لأنه. أَمَرَ به، واتباع أمره أعدل من تركه ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أصوب وأعدل وأقرب إلى الحق ﴿وَأَدْنَى﴾ أقرب ﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي لا تشكوا ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ يعني إلا أن تكون المبايعة تجارة ﴿حَاضِرَةَ﴾ يدًا بيد نقدًا غير نسيئة ولا فيه أجل.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾:

أ. قيل: حرج وضيق.

ب. وقيل: ضرر في أموالكم، عن أبي علي.

12. ﴿أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ أي التجارة الحاضرة ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾:

أ. قيل: الإشهاد فرض عن الضحاك.

ب. وقيل: ندب، عن الحسن والشافعي، وهو قول الفقهاء.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾:

أ. قيل: أصله ولا يُضَارِرْ، بكسر الراء، والفاعل الكاتب والشهيد، ومعناه لا يضار كاتب بألا يكتب، أو يكتب ما لم يملل بزيادة أو نقصان ﴿وَلَا شَهِيدٌ﴾ بأن يمتنع من إقامة الشهادة أو يشهد بما ليس عنده، عن عطاء وطاووس والحسن وقتادة وابن زيد.

ب. وقيل: هو على الفعل المجهول والكاتب والشهيد مفعولان؛ يعني (لا يضارر) بفتح الراء: الكاتب والشاهد إذا دعوا، وهما على حاجة مهمة، فينبغي ألا يضر به ويُدْعَى غيره ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ قيل: ما نهيتكم عنه من الضرار.

ج. وقيل: إن تفعلوا ما نهيتكم به، أو خلاف ما أمرتم به.

14. ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي خروج عن أمر اللَّه وطاعته ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾:

أ. قيل: يعني اتقوا مخالفة أمره والفسوق.

ب. وقيل: اتقوا في الأمانات ألا تؤدوها.

15. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ما فيه صلاحكم في أمر دينكم ودنياكم ما لم تعلموا ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: هو عام أي عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء.

ب. وقيل: عالم بأعمالكم فيجازيكم بها.

ج. وقيل: عالم بمصالحكم، فيأمر وينهى بحسبه.

16. تدل الآية الكريمة على:

أ. قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ يدل على الشاهد وعدده وكيفيته وصفته ووجوب إقامة الشهادة(2)

ب. قوله: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ يدل على أن الواجب ألا يشهد مع الارتياب، وأنه يشهد مع اليقين كما قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فلا)

ج. يدل قوله: ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أن المضارة كثيرة وشيوخنا يقولون: إنه يكون فسوقًا إذا بلغ حدًّا يكَون كبيرًا، فأما الصغير فدخله الوعيد وليس بفسوق.

د. أن الفسوق اسم ذم على ما نقوله.

17. قراءات وحجج:

أ. قرأ حمزة ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ بكسر الألف ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالرفع والتشديد، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع ﴿تُضِلُّ﴾ جزم بالجزاء إلا أنه لا يبين في التضعيف ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ رفع؛ لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقرأ الباقون بنصب الألف والراء على الاتصال بالكلام الأول، وأن محله نصب بوقوع الفعل عليه، وهو تذكر، وقيل: بنزع حرف الصفة يعني ﴿بِأَن﴾، و﴿تُضِلُّ﴾ نصب بـ ﴿أَنْ﴾، وتذكر معطوف عليه، وقرأ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتشديد والنصب نافع وعاصم والكسائي وابن عامر، وبالتشديد والرفع حمزة، وبالتخفيف والنصب ابن كثير وأبو عمرو، وهما لغتان نحو ذكَّر وأَذكر، ونَزَّل وأنزل، وعن عاصم والجحدري ﴿تُضِلُّ﴾ بضم الياء وفتح الضاد على المجهول، وعن زيد بن أسلم (فَتُذَاكِر) بالألف من المذاكرة.

ب. قراءة العامة: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ بالتاء على الخطاب، وعن السلمي (ولا يسأموا) بالياء رجوعًا إلى الماضي.

ج. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ قرأ عاصم بنصب تجارة على أنه خبر كان، وأضمر الاسم، وتقديره: إلا أن تكون التجارة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع على وجهين: أحدهما: إلا أن تقع تجارة. والثاني: أن تجعل اسم كان في التجارة والخبر في الفعل، وهو ﴿تُدِيرُونَهَا﴾ تقديره: إلا أن تكون تجارة دائرة بينكم.

د. ﴿وَلَا يُضَارَّ﴾ قرأ أبو جعفر مجزومًا مخففًا، وعن الحسن ﴿يُضَارَّ﴾ بكسر الراء مشددة، وقراءة العامة بالنصب والتشديد؛ لأن أصله لا تُضَارَرْ) براءين، أدغم أحدهما في الآخر.

18. مسائل نحوية:

أ. ارتفاع ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يحتمل أربعة أوجه:

الأول: فليكن رجل وامرأتان.

الثاني: فليشهد رجل وامرأتان.

الثالث: فالشاهد رجل وامرأتان.

الرابع: رجل وامرأتان يشهدون. كل هذه التقديرات جائز حسن، ذكره علي بن عيسى، ويجوز فيه النصب على تقدير: فاستشهدوا رجلاً وامرأتين.

ب. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾، والإشهاد للإذكار لا الضلال قولان:

الأول: قول سيبويه: لَمَّا كان الضلال سببًا للإذكار قُدِّمَ لذلك فصار ـ من أجل تعلق أحدهما بالآخر ـ في حكم واحد، فصارت شهادة المرأتين كأنها وقعت من أجل الضلال كما وقعت من أجل الإذكار، ومثله: أعمدته أن يميل الحائط فأدعمه، وفي الحقيقة بعد الإدعام لكن الميل بسببه حمل عليه.

الثاني: قول الفراء، إنه بمعنى الجزاء، على أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، إلا أنه لما قدمت ﴿أَنْ﴾ اتصلت بما قبلها من العامل فانفتحت.

ج. إلى ما يعود الهاء في قوله: ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ قولان:

الأول: إلى أجل الدين.

الثاني: إلى أجل الشاهد أي الوقت الذي لا يجوز فيه شهادته، والأول أوجه.

د. في زِنَة ﴿يُضَارَّ﴾ وجهان:

قيل: يُضَارِر بكسر الراء في معنى قول الحسن وقتادة وابن زيد.

وقيل: لا يضارَر بفتح الراء، عن ابن مسعود ومجاهد، أي لا يُدعى وهو مشغول على جهة الإضرار به، أدغم أحد الراءين في الآخر، ونصب بحق التضعيف لاجتماع الساكنين، والفتح أخف الحركات، فحركت إليه.

هـ. أظهرت اللامين في قوله: ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ لأن الأخيرة ساكنة، وإذا سكنت الأخيرة لا تدغم كقولك اُرْدُدْ، ولو تحركت أدغمت كقولك: رُدَّ، ويملُّ أدغم؛ لأن اللام قد تحركت؛ لأنك قد نصبتها بـ ﴿أَنْ﴾ وجزمت ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾؛ لأنه أمر؛ فلذلك لم تدغم.

و. زنة ﴿تَرْتَابُوا﴾ تَفْتَعِلُوا من الريبة، وأضله تَرْتَيِبُوا إلا أن الياء لما تحركت وما قبلها مفتوح قلبتها ألفًا ساكنة.

ز. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ﴾ هو في محل النصب لوجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدرًا تقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت بنزع حرف الصفة تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه.

ح. يعود الهاء في قوله: ﴿تَكْتُبُوهُ﴾ على ﴿الْحَقُّ﴾

ط. انتصب ﴿صَغِيرًا﴾ لوجهين: أحدهما: على الحال، والثاني: أن تجعله خبرًا لـ ﴿كَانَ﴾، وأضمرت يعني: ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا كان الحق أو كبيرًا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/142.

(2) ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالشهادة ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. تقول من الإباء: أبى يأبى، ولم يأت مثله في اللغة، لأن فعل يفعل، لا يأتي إلا أن يكون في موضع العين من الفعل، أو اللام حرف من حروف الحلق، والقول فيه: إن الألف من أبى أشبهت الهمزة، فجاء يفعل منه مفتوحا لهذه العلة.

ب. الضلال: أصله الهلاك، تقول العرب: ضل الماء في اللبن، ومنه قوله ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾، وقيل: أصله الذهاب بحيث لا يوجد وقيل ومنه: (أئذا ضللنا في الأرض)

ج. السأم: الملل، يقال: سئم يسأم سأما: إذا مل من الشئ، وضجر منه، قال زهير:

çسئمت تكاليف الحياة، ومن يعش... ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأمé

د. أقسط أي أعدل والقسط: العدل، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط يقسط قسوطا: إذا جار، والقسط: الحصة.

2. ثم أمر سبحانه بالاشهاد فقال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ يعني: اطلبوا الشهود، وأشهدوا على المكتوب:

أ. قيل: رجلين من رجالكم أي: من أهل دينكم.

ب. وقال مجاهد: من الأحرار العالمين البالغين المسلمين، دون العبيد والكفار، والحرية ليست بشرط عندنا في قبول الشهادة، وإنما اشترط الاسلام مع العدالة، وبه قال شريح والليثي وأبو ثور.

ج. وقيل: هذا أمر للقضاة بأن يلتمسوا عند القضاء بالحق شهيدين من المدعي عند إنكار المدعى عليه، فيكون السين في الحالتين سين السؤال والطلب.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾ يعني: فإن لم يكن الشهيدان رجلين ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي: فليكن رجل وامرأتان، أو فليشهد رجل وامرأتان ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ عدالته، وهذا يدل:

أ. على أن العدالة شرط في الشهود.

ب. ويدل أيضا على أنا لم نتعبد بإشهاد مرضيين على الإطلاق لقوله ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾، ولم يقل من المرضيين، لأنه لا طريق لنا إلى معرفة من هو مرضي عند الله تعالى، وإنما تعبدنا بإشهاد من هو مرضي عندنا في الظاهر، وهو من نرضى دينه وأمانته، ونعرفه بالستر والصلاح.

4. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي: تنسى إحدى المرأتين، ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾:

أ. قيل: هو من الذكر الذي هو ضد النسيان، عن الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين، والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملتاها، ومن قرأ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتخفيف من الإذكار: فهو بهذا المعنى أيضا أي: يقول لها هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا، وبحضرتنا فلان أو فلانة، حتى تذكر الشهادة، وهذا النسيان يغلب على النساء، أكثر مما يغلب على الرجال.

ب. وقيل: هو من الذكر أي: يجعلها كذكر من الرجال، عن سفيان بن عيينة، والأول أقوى.

5. سؤال وإشكال: لم كرر لفظة إحداهما؟ وهلا قال: فتذكرها الأخرى؟ والجواب: على وجهين:

أ. أحدهما: إنه إنما كرر ليكون الفاعل مقدما على المفعول، ولو قال فتذكرها الأخرى، لكان قد فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، وذلك مكروه.

ب. الثاني: ما قاله حسين بن علي المغربي: إن معناه أن تضل إحدى الشهادتين أي: تضيع بالنسيان، فتذكر إحدى المرأتين الأخرى، لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى، ويؤيد ذلك أنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا، ويقال: ضلت الشهادة: إذا ضاعت، كما قال سبحانه ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي: ضاعوا منا.

6. ثم خاطب سبحانه الشهود فقال، ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، وفي معناه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إن معناه ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا لإقامة الشهادة، عن مجاهد وعطا وسعيد بن جبير، وهذا إذا كانوا عالمين بالشهادة على وجه لا يرتابون فيه، ولم يخافوا من أدائها ضررا.

ب. الثاني: إن معناه إذا دعوا لإثبات الشهادة وتحملها، عن قتادة والربيع.

ج. الثالث: إن معناه إذا دعوا إلى إثبات الشهادة وإلى إقامتها، عن ابن عباس والحسن، وعن أبي عبد الله عليه السلام وهو أولى، لأنه أعم فائدة.

7. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ أي: ولا تضجروا، ولا تملوا ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ أي: تكتبوا الحق ﴿صَغِيرًا﴾ كان الحق ﴿أَوْ كَبِيرًا﴾، وقيل: إن هذا خطاب للشاهد، ومعناه: لا تملوا أن تكتبوا الشهادة على الحق ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾:

أ. قيل: أي: إلى أجل الدين.

ب. وقيل: معناه إلى أجل الشاهد أي: إلى الوقت الذي تجوز فيه الشهادة، والأول أقوى.

8. ﴿ذَلِكُمْ﴾ الكتاب، أو كتابة الشهادة والصك، ﴿أَقْسَطُ﴾ أي: أعدل ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ لأنه سبحانه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾:

أ. قيل: أي: أصوب للشهادة، وأبعد من الزيادة والنقصان، والسهو والغلط والنسيان.

ب. وقيل: معناه أحفظ للشهادة، مأخوذ من القيام على الشئ: بمعنى الحفظ.

9. ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ معناه: إلا أن تقع تجارة أي: مداينة ومبايعة حاضرة حالة يدا بيد، ومن قرأ بالنصب فمعناه: إلا أن تكون التجارة تجارة ﴿حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ أي: تتناقلونها من يد إلى يد، نقدا لا نسيئة.

10. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي: حرج وضيق ﴿أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ ومعناه: فليس عليكم إثم في ترك كتابتها، لأن الكتابة للوثيقة ولا يحتاج إلى الوثيقة إلا في النسيئة دون النقد.

11. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أي: وأشهدوا الشهود على بيعكم إذا تبايعتم:

أ. وهذا أمر على الاستحباب والندب، عن الحسن وجميع الفقهاء.

ب. وقال أصحاب الظاهر: الإشهاد فرض في التبايع.

12. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾:

أ. قيل: أصله يضارر بكسر الراء الأولى، عن الحسن وقتادة وعطا وابن زيد، فيكون النهي للكاتب والشاهد عن المضارة، فعلى هذا فمعنى المضارة أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ويشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه، أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة.. قال الزجاج: وهو أبين لقوله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ فالفاسق أشبه بغير العدل، وبمن حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهدا ليشهد أو دعا كاتبا ليكتب، وهو مشغول، وقال غيره: معناه وإن تفعلوا مضارة الكاتب والشهيد، فإن المضارة في الكتابة والشهادة فسوق بكم أي: خروج عما أمر الله سبحانه به.

ب. وقيل: الأصل فيه لا يضارر بفتح الراء الأولى، عن ابن مسعود ومجاهد، فيكون معناه: لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر، ولا يتفرغ إليها، ولا يضيق الأمر على الشاهد بأن يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر، ولا يعنف عليهما.

13. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما أمركم به، ونهاكم عنه ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ما تحتاجون إليه من أمور دينكم ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: عليم بذلك، وبكل ما سواه من المعلومات.

14. ذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أن في البقرة خمسمائة حكم، وفي هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما.

15. قراءات وحجج:

أ. قرأ حمزة وحده ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.. والوجه في قراءة حمزة ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ بكسر الهمزة: وهو أنه جعل إن للجزاء، والفاء في قوله ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ جواب الجزاء، وموضع الشرط وجزائه رفع بكونهما وصفا للمنكورين، وهما المرأتان في قوله ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، فقوله رجل وامرأتان: خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: فمن يشهد رجل وامرأتان، ويجوز أن يكون رجل مرتفعا بالابتداء وامرأتان معطوفتان عليه، وخبر الابتداء محذوف، وتقديره: فرجل وامرأتان يشهدون، وقوله ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾: فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم رجل وامرأتان، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما لاختلاف إعراب الموصوفين، ألا ترى أن ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ منصوبان، ورجل وامرأتان: إعرابها الرفع، فإذا كان كذلك علمت أن الوصف الذي هو ظرف، إنما هو وصف لقوله فرجل وامرأتان دون من تقدم ذكرهما من الشهيدين، والشرط وجزاؤه وصف لقوله وامرأتان، لأن الشرط جملة يوصف بها كما يوصل بها في نحو قوله ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾، واللام التي هي في قوله ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ فيمن جعل إن جزاء في موضع جزم، وإنما حركت بالفتح لالتقاء الساكنين، ولو كسرت للكسرة قبلها، لكان جائزا في القياس.

ب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتخفيف والنصب، وقرأ حمزة ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتشديد والرفع، وقرأ الباقون ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتشديد والنصب.. وقياس قول سيبويه في قوله تعالى ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ والآي التي تلاها معها، أن يكون بعد الفاء في ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ مبتدأ محذوف، ولو أظهرته لكان فهما تذكر إحداهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله إحداهما، وأما الأصل في تذكر، فهو من الذكر الذي هو ضد النسيان، وذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمز، أو ضعفت العين منه، تعدى إلى مفعول آخر، وذلك نحو فرحته وأفرحته، فمن قرأ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ كان ممن جعل بالتضعيف، ومن قرأ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾: كان ممن نقل بالهمزة، وكلاهما سائغ، والمفعول الثاني في قوله ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ محذوف، والمعنى فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملتاها، وأما قراءة الأكثرين وهو ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ بفتح الألف فأن يتعلق فيها بفعل مضمر دل عليه هذا الكلام، وذلك أحد ثلاثة أشياء: الأول: هو ان قوله ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يدل على قولك (واستشهدوا رجلا وامرأتين)، وعلى هذا فتقديره: فليشهد رجل وامرأتان، فتعلق ﴿أَنْ﴾ إنما هو بهذا الفعل، والثاني: ما قاله أبو الحسن وهو: إن تقديره فليكن رجل وامرأتان، وعلى هذا فيكون معناه فليحدث شهادة رجل وامرأتين، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والثالث: أن يضمر خبر المبتدأ الذي هو ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي: فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون العامل في أن وموضع إضماره فيمن فتح الهمزة من ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ قبل أن، وفيمن كسر ﴿أَنْ﴾ بعد انقضاء الشرط بجزائه، وأما موضع ﴿أَنْ﴾ هذه فنصب، وتقديره لأن تضل إحداهما فتذكر، فإن قيل: فإن الشهادة إنما وقعت للذكر والحفظ، لا للضلال الذي هو النسيان؟ فجوابه: إن سيبويه قد قال: أمر بالإشهاد لأن تذكر إحداهما الأخرى، وإنما ذكر ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ لأنه سبب الإذكار، كما يقول القائل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه وهو لا يطلب بذلك ميلان الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم وسببه، وقوله فتذكر أو فتذكر بالنصب معطوف على الفعل المنصوب بأن.

ج. قرأ عاصم وحده ﴿تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع.. أما قراءة من قرأ ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ بالرفع فالوجه فيها أن يكون كان بمعنى وقع وحدث، فكأنه قال: إلا أن تقع تجارة حاضرة، مثل قوله ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾، وأما من نصب ﴿تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ فيكون على خبر كان، ولم يخل اسم كان من أحد شيئين أحدهما: أن يكون ما يقتضيه الكلام من الإشهاد والارتهان، قد علم من فحواه التبايع، فأضمر التبايع لدلالة الحال عليه، كما يقال: إذا كان غدا فأتني، والآخر: أن يكون أضمر التجارة، فكأنه قال: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، ومثل ذلك قول الشاعر:

çفدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعاé

د. قرأ أبو جعفر ﴿وَلَا يُضَارَّ﴾ بتشديد الراء وتسكينها، والباقون: (لا يضار) بالنصب والتشديد، أي: إذا كان اليوم يوما، وأما قوله: (لا يضار) ففيه قولان: أحدهما: إن أصله لا يضارر، فأدغمت الراء في الراء، وفتحت لالتقاء الساكنين، فيكون معناه: لا يكتب الكاتب إلا بالحق ولا يشهد الشاهد إلا بالحق الثاني: إن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فأدغمت، فيكون المعنى: لا يدع الكاتب على وجه يضر به، وكذلك الشاهد، والأول أبين، وأما قراءة أبي جعفر بتسكين الراء مع التشديد ففيه نظر، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف كقولهم: (ببازل وجنا أو عيهل) وقد تقدم أمثاله.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/684.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه يعني الأحرار، قاله مجاهد.

ب. الثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجّاج، والقاضي أبي يعلى، ويدلّ عليه أنه خاطب المؤمنين في أوّل الآية.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾، أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين‏ ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان، ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، قال ابن عباس: من أهل الفضل والدّين.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾:

أ. ذكر الزجّاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويّين الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى.

ب. الثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعيّ عن أبي عمرو نحوه، واختاره القاضي أبو يعلى، وقد ردّه جماعة، منهم ابن قتيبة، قال أبو عليّ: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهنّ لو بلغن ما بلغن، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهنّ رجل، ولأن الضلال هاهنا: النّسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو التّذكير.

4. قرأ حمزة (إن تضل) بكسر الألف، والضّلال هاهنا: النّسيان، قاله ابن عباس، والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، فأمّا قوله: (فتذكر) فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بالتخفيف مع نصب الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف، فمن شدّد أراد الاذكار عند النسيان، وفي قراءة من خفّف قولان: أحدهما: أنها بمعنى المشدّدة أيضا، وهذا قول الجمهور، قال الضحّاك، والرّبيع بن أنس، والسّديّ: ومعنى القراءتين واحد.

5. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت هذه الآية.

6. إلى ماذا يكون هذا الدّعاء ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إلى تحمّل الشهادة، وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطيّة، وقتادة، والرّبيع.

ب. الثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكّام بعد أن تقدّمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاووس ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والشّعبيّ، وأبو مجلز، والضحّاك، وابن زيد، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل.

ج. الثالث: إلى تحمّلها وإلى أدائها، روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجّاج، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحمّلها جماعة، لم تتعيّن عليه، وكذلك في حال تحمّلها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه.

7. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾، أي: لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله، أي: إلى محلّ أجله‏ ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، أي: أعدل، ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ لأن الكتاب يذكّر الشهود جميع ما شهدوا عليه‏ ﴿وَأَدْنَى﴾ أي: أقرب‏ ﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي: لا تشكّوا ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ﴾ الأموال‏ ﴿تِجَارَةً﴾ أي: إلا أن تقع تجارة، وقرأ عاصم (تجارة) بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب، ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.

8. هذه الآية تتضمّن الأمر بإثبات الدّين في كتاب، وإثبات شهادة في البيع والدّين، واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب‏، أم على وجه الاستحباب؟

أ. ذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب، فعلى هذا هو محكم.

ب. وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحّاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد، ثم اختلف هؤلاء، هل هذا الحكم باق أم منسوخ؟

فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ.

وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾

9. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من (يضار) وسكونها، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: لا يضارّ بأن يدعى وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس، والفرّاء، ومقاتل، وقال الرّبيع: كان أحدهم‏ يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، فيلزمه، ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة، فيضارّه، ولا يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت‏ ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾

ب. الثاني: أن معناه: النّهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب غير ما يملّ عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول الحسن، وطاووس وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، والزجّاج، واحتجّ الزجّاج على صحته بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، قال: ولا يسمّى من دعا كاتبا ليكتب، وهو مشغول، أو شاهدا؛ فاسقا، إنما يسمّى من حرّف الكتاب، أو كذب في الشهادة، فاسقا.

ج. الثالث: أن معنى المضارّة: امتناع الكاتب أن يكتب، والشاهد أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين.

10. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾، يعني: المضارّة.

__________

(1) زاد المسير: 1/252.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد، وهو قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، والمقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق.

﴿اسْتَشْهِدُوا﴾ أي أشهدوا يقال: أشهدت الرجل واستشهدته، بمعنى: والشهيدان هما الشاهدان، فعيل بمعنى فاعل.

2. في الإضافة في قوله‏: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ وجوه:

أ. الأول: يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون.

ب. الثاني: قال بعضهم: يعني الأحرار.

ج. الثالث: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة.

3. شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هاهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد، وعند الشافعي وأبي حنيفة لا تجوز:

أ. حجة شريح أن قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ عام يتناول العبيد وغيرهم، والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه، وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي، فصار ذلك سبباً في إحياء حقه، والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب الحرية والرق، فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة.

ب. حجة الشافعي وأبي حنيفة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة، ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة، فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب، فوجب أن لا يكون العبد شاهداً، وهذا الاستدلال حسن.

4. في ارتفاع رجل وامرأتان في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أربعة أوجه:

أ. الأول: فليكن رجل وامرأتان.

ب. الثاني: فليشهد رجل وامرأتان.

ج. الثالث: فالشاهد رجل وامرأتان.

د. الرابع: فرجل وامرأتان يشهدون.

هـ. وكل هذه التقديرات جائز حسن، ذكرها علي بن عيسى.

5. ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ وهو كقوله تعالى في الطلاق‏: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، وهذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا: شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلًا عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.

6. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية.

7. قرأ حمزة ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ بكسر إن‏ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالرفع والتشديد، ومعناه: الجزاء موضع‏ ﴿تُضِلُّ﴾ جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف‏ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤوا بنصب (أن) وفيه وجهان:

أ. أحدهما: التقدير: لأن تضل، فحذف منه الخافض.

ب. الثاني: على أنه مفعول له، أي إرادة أن تضل.

8. سؤال وإشكال: كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال، والجواب: هاهنا غرضان:

أ. أحدهما: حصول الإشهاد، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية.

ب. الثاني: بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها.

9. في الضلال في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى النسيان، قال تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي ذهب عنهم.

ب. الثاني: أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له، والوجهان متقاربان، وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة الغيبوبة.

10. قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي‏ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتشديد والنصب، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل، والتشديد أكثر استعمالًا، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية: 21] ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنّه قال في قوله‏: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين، ويدل على ضعفه ووجهان:

أ. الأول: أن النساء لو بلغن ما بلغن، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.

ب. الثاني: أن قوله‏: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ مقابل لما قبله من قوله‏: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الاذكار مفسراً بما يقابل النسيان.

11. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ وجوه:

أ. الأول: وهو الأصح: أنه نهي الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها.. واحتج القائلون بهذا بوجوه:

الأول: أن قوله‏: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ يقتضي تقديم كونهم شهداء، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء، فإن قيل: يشكل هذا بقوله‏: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب، فالجواب: الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية.

الثاني: أن ظاهر قوله‏: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ النهي عن الامتناع، والأمر بالفعل، وذلك للوجوب في حق الكل، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل، فلم يجز حمله عليه، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل، ومتأكد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ فكان هذا أولى.

الثالث: أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلًا في قوله‏: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فكان صرف قوله‏: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إلى الأمر بالأداء حملًا له على فائدة جديدة، فكان ذلك أولى.

ب. الثاني: أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة واختيار القفال، قال كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر، وفي عدمهما ضياع الحقوق.

ج. الثالث: أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره.

د. الرابع: وهو قول الزجاج: أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولًا، والأداء ثانياً.

12. ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها، والشاهد إما أن يكون متعيناً، وإما أن يكون فيهم كثرة، فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية.

13. لما أمر الله تعالى عند المداينة بالكتبة أولًا، ثم بالإشهاد ثانياً، أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتبة، فقال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾

14. السآمة الملال والضجر، يقال: سئمت الشيء سأماً وسآمة، والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر، فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير، فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد، فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة، فقال: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا﴾ أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا.

15. سؤال وإشكال: هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟ والجواب: لا لأن هذا محمول على العادة، ليس في العادة أن يكتبوا التافه.

16. (أن)في محل النصب لوجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت بنزع الخافض تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله.

17. الضمير في قوله‏: ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ لا بد وأن يعود إلى المذكور سابقاً، وهو هاهنا إما الدين وإما الحق.

18. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ بيّن الله تعالى أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث:

أ. الأولى: ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾

ب. الثانية: ﴿أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾

ج. الثالثة: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾

19. إنما كانت الكتابة أقوم للشهادة، لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية:

أ. أن الأولى: تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى.

ب. والثانية: بتحصيل مصلحة الدنيا.

20. وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعارا بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا.

21. في ﴿ذَلِكُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وجهان:

أ. الأول: أنه إشارة إلى قوله‏: ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ لأنه في معنى المصدر، أي ذلك الكتب أقسط.

ب. الثاني: قال القفال: ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا.

22. ﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أعدل عند الله، والقسط اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، ويقال: هو قاسط إذا جار، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: 15] وإنما كان هذا أعدل عند الله، لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب، وعن الجهل والكذب أبعد، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5] أي أعدل عند الله، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.

23. ﴿أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ معنى‏ ﴿أَقْوَمُ﴾ أبلغ في الاستقامة، التي هي ضد الاعوجاج، وذلك لأن المنتصب القائم، ضد المنحني المعوج، وأفعل التفضيل: أقسط وأقوم يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط، وأقوم من قويم.

24. ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين، والفرق بين الوجهين الأولين، وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة، فـ:

أ. الأول: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين.

ب. الثاني: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا.

ج. الثالث: إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً، وأما دفع الضرر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط، وما أحسن ما فيها من الترتيب.

25. في ﴿إِلَّا﴾ في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أنه استثناء متصل.. وفيه وجهان:

الأول: أنه راجع إلى قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب، وقد يكون إلى أجل بعيد، فلما أمر بالكتبة عند المداينة، استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً، والتقدير: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً، وهو المراد من التجارة الحاضرة.

الثاني: أن هذا استثناء من قوله‏: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾

ب. الثاني: أنه منقطع.. فالتقدير: لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها، فهذا يكون كلاماً مستأنفاً.

26. إنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة، لكثرة ما يجري بين الناس، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس، لم يكن هناك خوف التجاحد، فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد.

27. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَكُونَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله‏ ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ﴾

ب. الثاني: قال الفرّاء: إن شئت جعلت‏ ﴿كَانَ﴾ هاهنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة، والخبر تديرونها، والتقدير: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.

28. قرأ عاصم‏ ﴿تِجَارَةً﴾ بالنصب، والباقون بالرفع(2)، أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان، ولا بد فيه من إضمار الاسم، وفيه وجوه:

أ. أحدها: التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب، ومنه قول الشاعر:

çبني أسد هل تعلمون بلاءنا...إذا كان يوما ذا كواكب أشهباé

أي إذا كان اليوم.

ب. ثانيها: أن يكون التقدير: إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة.

ج. ثالثها: قال الزجاج: التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة، قال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة، صح تسميتها بالتجارة الحاضرة، فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة.

29. التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين، فالتجارة تجارة حاضرة، فقوله‏: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد.

30. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ معناه: لا مضرة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحق بتركها، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه.

31. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أكثر المفسرين قالوا: المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان، ولا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط.

32. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع.. وهوقول أكثر المفسرين والحسن وطاووس وقتادة.

ب. ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما.. وهو قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.

33. كلا الوجهين جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في‏ ﴿لا يُضَارَّ﴾:

أ. أحدهما: أن يكون أصله لا يضارر، بكسر الراء الأولى، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار.

ب. الثاني: أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فيكون هما المفعول بهما الضرار.

34. نظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة، وهو قوله‏: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر (ولا يضارر) بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس (ولا يضارر) بالإظهار والفتح:

أ. واختار الزجاج القول الأول، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك‏ ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ قال: وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283] والآثم والفاسق متقاربان.

ب. واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكم، وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم.

35. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى: فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار.

ب. الثاني: أنه عام في جميع التكليف، والمعنى: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته.

36. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعني فيما حذر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ المعنى: أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين‏ ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/95.

(2) القراءة بالرفع، فالوجه فيها ما ذكره سابقا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الاستشهاد طلب الشهادة، واختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنه ندب.

2. ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ رتب الله سبحانه الشهادة بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود وجعل في كل فن شهيدين إلا في الزنا، على ما يأتي بيانه في سورة النساء، وشهيد بناء مبالغة، وفي ذلك دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنه إشارة إلى العدالة.

3. قوله تعالى: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم، وقال مجاهد: المراد الأحرار، واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه، وقد اختلف العلماء في شهادة العبيد:

أ. فقال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية.

ب. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق.

ج. وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير.

4. الصحيح قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ وساق الخطاب إلى قوله ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة، فإن قالوا: إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها، قيل لهم: هذا يخصه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ على ما يأتي بيانه.

5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بشهادة الأعمى، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

6. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين، هذا قول الجمهور، ﴿فَرَجُلٌ﴾ رفع بالابتداء، ﴿وَامْرَأَتَانِ﴾ عطف عليه والخبر محذوف، أي فرجل وامرأتان يقومان مقامهما، ويجوز النصب في غير القرآن، أي فاستشهدوا رجلا وامرأتين، وحكى سيبويه: إن خنجرا فخنجرا، وقال قوم: بل المعنى فإن ولم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين، فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل، وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها، لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال، ولا يتوهم عاقل أن قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح على دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح، وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة، وعلى مثل ذلك أجيزت شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم للضرورة.

7. اختلف العلماء في شهادة الصبيان في الجراح، فأجازها مالك ما لم يختلفوا ولم يفترقوا، ولا يجوز أقل من شهادة اثنين منهم على صغير لكبير ولكبير على صغير، وممن كان يقضي بشهادة الصبيان فيمابينهم من الجراح عبد الله بن الزبير، وقال مالك: وهو الأمر عندنا المجتمع عليه، ولم يجز الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه شهادتهم، لقوله تعالى: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ وقوله ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ وقوله ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ وهذه الصفات ليست في الصبي.

8. لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بدل شهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه، فكماله أن يحلف مع الشاهد عندنا(2)، وعند الشافعي كذلك، يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية، وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا اليمين مع الشاهد، وقالوا: إن الله سبحانه قسم الشهادة وعددها، ولم يذكر الشاهد واليمين، فلا يجوز القضاء به، لأنه يكون قسما زائدا على ما قسمه الله، وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ، وممن قال بهذا القول الثوري والأوزاعي وعطاء والحكم بن عتيبة وطائفة.

9. ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين، قال ابن بكير وغيره: هذه مخاطبة للحكام، ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض.

10. لما قال الله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ دل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام، وهذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال، وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا.. فعمموا الحكم، ويلزم منه قبول قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه، وهو من رجالنا وأهل ديننا، وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي، قال الله تعالى ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فـ ﴿مِنْكُمْ﴾ خطاب للمسلمين، وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة، لان الصفة زائدة على الموصوف، وكذلك ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ مثله، خلاف ما قال أبو حنيفة، ثم لا يعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله، فيلزمه ألا يكتفي بظاهر الإسلام، وذهب أحمد بن حنبل ومالك في رواية ابن وهب عنه إلى رد شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية، والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا، على ما يأتي في النساء وبراءة إن شاء الله تعالى، وليس في حديث أبي هريرة فرق بين القروي في الحضر أو السفر، ومتى كان في السفر فلا خلاف في قبوله.

11. قال علماؤنا: العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية، وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر، ظاهر الأمانة غير مغفل، وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل، والمعنى متقارب.

لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة، وهي قبول قول الغير على الغير، شرط تعالى فيها الرضا والعدالة، فمن حكم الشاهد أن تكون له شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها حتى تكون له مزية على غيره، توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله، ويحكم بشغل ذمه المطلوب بشهادته، وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام، وسيأتي لهذا في سورة ﴿يُوسُفُ﴾ زيادة بيان إن شاء الله تعالى، وفيه ما يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة فيرد شهادته لذلك.

12. قال أبو حنيفة: يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود، وهذه مناقضة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه، لأننا نقول: حق من الحقوق، فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود، قاله ابن العربي.

13. إذ قد شرط الله تعالى الرضا والعدالة في المداينة كما بينا فاشتراطها في النكاح أولى، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إن النكاح ينعقد بشهادة فاسقين، فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح، وهو أولى لما يتعلق به من الحل والحرمة والحد والنسب.. وقول أبي حنيفة في هذا الباب ضعيف جدا، لشرط الله تعالى الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحوال حسب ما تقدم، ولا يغتر بظاهر قوله: أنا مسلم، فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته، مثل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ إلى قوله ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ الآية.

14. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها.

15. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ قال الحسن: جمعت هذه الآية أمرين، وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس، وقال قتادة والربيع وابن عباس: أي لتحملها وإثباتها في الكتاب، وقال مجاهد: معنى الآية إذا دعيت إلى أداء شهادة وقد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا فإن شئت فاذهب وإن شئت فلا، وقال أبو مجلز وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم، وعليه فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب فهذه الحالة التي يجوز أن تراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ لإثبات الشهادة فإذا ثبتت شهادتهم ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو بحضورهما عند الحاكم، على ما يأتي، وقال ابن عطية: (والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء)

16. قد يستلوح من هذه الآية دليل على أن جائزا للإمام أن يقيم للناس شهودا ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظا لها، وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت، فيكون المعنى ولا يأب الشهداء إذا أخذوا حقوقهم أن يجيبوا، والله أعلم، فإن قيل: هذه شهادة بالأجرة، قلنا: إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال، وذلك كأرزاق القضاة والولاة وجميع المصالح التي تعن للمسلمين وهذا من جملتها، والله أعلم، وقد قال تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ ففرض لهم.

17. لما قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ دل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم، وهذا أمر بني عليه الشرع وعمل به في كل زمان وفهمته كل أمة، ومن أمثالهم: (في بيته يؤتى الحكم)

العبد خارج عن جملة الشهداء، وهو يخص عموم قوله: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ لأنه لا يمكنه أن يجيب، ولا يصح له أن يأتي، لأنه لا استقلال له بنفسه، وإنما يتصرف بإذن غيره، فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منزل الولاية، نعم! وكما انحط عن فرض الجمعة والجهاد والحج، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

18. قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة، فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ ففرض الله الأداء عند الدعاء، فإذا لم يدع كان ندبا، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) رواه الأئمة، والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك، فيجب على من تحمل شيئا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق، وقد قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ وقال: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فقد تعين عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.

19. لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنها جرحة في الشاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وهذا قول ابن القاسم وغيره، وذهب بعضهم إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جرحة في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك، والصحيح الأول، لأن الذي يوجب جرحته إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عذر، والفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا، وهذا واضح.

20. لا تعارض بين قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)، وبين قوله صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث عمران بن حصين: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ـ ثم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ـ ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن) أخرجهما الصحيحان، وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه:

أ. أحدها أن يراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمله ولا حمله، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب خطب بباب الجابية فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قام فينا كمقامي فيكم ثم قال: (يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور)

ب. الثاني أن يراد به الذي يحمله الشره على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدل على هوى غالب على الشاهد.

ج. الثالث ما قاله إبراهيم النخعي راوي طرق بعض هذا الحديث: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات.

21. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ ﴿تَسْأَمُوا﴾ معناه تملوا، قال الأخفش: يقال سئمت أسأم سأما وسآمة وسآما وسأمة وسأما، ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ في موضع نصب بالفعل، ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ حالان من الضمير في ﴿تَكْتُبُوهُ﴾ وقدم الصغير اهتماما به، وهذا النهي عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتب، ويقول أحدهم: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه، فأكد تعالى التحضيض في القليل والكثير، قال علماؤنا: إلا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوف النفس إليه إقرارا وإنكارا.

22. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ معناه أعدل، يعني أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه، ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أي أصح وأحفظ، ﴿وَأَدْنَى﴾ معناه أقرب، و﴿تَرْتَابُوا﴾ تشكوا.

23. ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ دليل على أن الشاهد إذا رأى الكتاب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها لما دخل عليه من الريبة فيها، ولا يؤدى الإما يعلم، لكنه يقول: هذا خطي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه، قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة، واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا﴾، وقال بعض العلماء: لما نسب الله تعالى الكتابة إلى العدالة وسعه أن يشهد على خطه وإن لم يتذكر، ذكر ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الرجل يشهد على شهادة فينساها قال: لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك أو خط يده، قال ابن المبارك: استحسنت هذا جدا، وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد، وعن الرسل من قبله ما يدل على صحة هذا المذهب.

24. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ ﴿أَنْ﴾ في موضع نصب استثناء ليس من الأول، قال الأخفش أبو سعيد: أي إلا أن تقع تجارة، فكان بمعنى وقع وحدث، وقال غيره: ﴿تُدِيرُونَهَا﴾ الخبر، وقرأ عاصم وحده ﴿تِجَارَةً﴾ على خبر كان واسمها مضمر فيها، ﴿حَاضِرَةَ﴾ نعت لتجارة، والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، أو إلا أن تكون المبايعة تجارة، هكذا قدره مكي وأبو علي الفارسي، وقد تقدم نظائره والاستشهاد عليه، ولما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحو لا في كثير كالأملاك ونحوها، وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يدا بيد.

25. ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، حسن الكتب فيما ولحقت في ذلك مبايعة الدين، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب، فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة، ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن، قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرأ هذه الآية، وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب.

26. اختلف في حكم قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾:

أ. قال الطبري: معناه واشهدوا على صغيره ذلك وكبيره، واختلف الناس هل ذلك على الواجب أو الندب، فقال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداوود بن على وابنه وأبو بكر: وهو على الواجب، ومن أشدهم في ذلك عطاء قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقل من ذلك، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، وعن إبراهيم قال: أشهدوا إذا بعت وإذا اشتريت ولو دستجة بقل.

ب. وممن كان يذهب إلى هذا ويرجحه الطبري، وقال: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفا كتاب الله تعالى، وكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبا، وذهب الشعبي والحسن إلى أن ذلك على الندب والإرشاد ولا على الحتم، ويحكى أن هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وزعم ابن العربي أن هذا القول الكافة، قال: وهو الصحيح، ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك، قال وقد باع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكتب، وقال: نسخته كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، اشترى منه عبد ا ـ أو أمة ـ لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم)، وقد باع ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة..

ج. قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك، وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني وأبو داوود وكان إسلامه بعد الفتح وحنين، وهو القائل: قاتلنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا، ثم أسلم فحسن إسلامه، ذكره عمر، وذكر حديثه هذا، وقال في آخره: قال الأصمعي: سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال: الإباق والسرقة والزنا، وسألته عن الخبثة فقال: بيع أهل عهد المسلمين.

د. وقال الإمام أبو محمد بن عطية: والوجوب في ذلك قلق، أما في الدقائق فصعب شاق، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحى من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان يبقى الأمر بالإشهاد ندبا، لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا.

هـ. وحكى المهدوي والنحاس ومكي عن قوم أنهم قالوا: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ منسوخ بقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري، وأنه تلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ إلى قوله ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، قال: نسخت هذه الآية ما قبلها، قال النحاس: وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد، قال الطبري: وهذا لا معنى له، لان هذا حكم غير الأول وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ ـ أي فلم يطالبه برهن ـ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ الآية ناسخا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ الآية ولجاز أن يكون قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ ناسخا لقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قال بعض العلماء: إن قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة، قال: وقد روى عن ابن عباس أنه لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الرهن، ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الواجب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.

و. هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الإشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا، فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين أقبل القوم؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم، قال بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا، فتلاومنا بيننا وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه! فقالت الظعينة: لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إليكم، وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا.. وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، الحديث، وفيه: فطفق الأعرابي يقول: هلم شاهدا يشهد أني بعتك ـ قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته، فأقبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، أخرجه النسائي وغيره.

27. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. الأول: لا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقض منها، قاله الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم.

ب. وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن المعنى لا يمتنع الكاتب أن يكتب ولا الشاهد أن يشهد، ﴿وَلَا يُضَارَّ﴾ على هذين القولين أصله يضارر بكسر الراء، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، قال: لأن بعده ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ فالأولى أن تكون، من شهد بغير الحق أو حرف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى بهذا ممن سأل شاهدا أن يشهد وهو مشغول، وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق يضارر بكسر الراء الأولى.

ج. وقال مجاهد والضحكاك وطاوس والسدي وروي عن ابن عباس: معنى الآية ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ بأن يدعى الشاهد إلى الشهادة والكاتب إلى الكتب وهما مشغولان، فإذا اعتذرا بعذرهما أخرجهما وآذاهما، وقال: خلفتما أمر الله، ونحو هذا من القول فيضربها، وأصل ﴿يُضَارَّ﴾ على هذا يضارر بفتح الراء، وكذا قرأ ابن مسعود (يضارر) بفتح الراء الأولى، فنهى الله سبحانه عن هذا، لأنه لو أطلقه لكان فيه شغل لهما عن أمر دينهما ومعاشهما، ولفظ المضارة، إذ هو من اثنين، يقتضى هده المعاني، والكاتب والشهيد على القولين الأولين رفع بفعلهما، وعلى القول الثالث رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.

28. ﴿أَنْ تَفْعَلُوا﴾ يعني المضارة، ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي معصية، عن سفيان الثوري، فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق، وكذلك إذايتهما إذا كانا مشغولين معصية وخورج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله، ﴿بِكُمُ﴾ تقديره فسوق حال بكم.

29. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقانا، أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/390.

(2) يقصد هنا المالكية خصوصا

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الاستشهاد: طلب الشهادة، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول، أي: باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة.

2. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ أو بمحذوف هو: صفة لشهيدين، أي: كائنين من رجالكم، أي: من المسلمين، فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية؛ فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح، وعثمان البتي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وقال ابو حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق، وقال الشعبي والنخعي: يصح في الشيء اليسير دون الكثير، واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد: بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة، والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة، ويجاب عن هذا: بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا: العبد تصح منه المداينة، وسائر المعاملات؛ إذا أذن له مالكه بذلك، وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، ومجاهد، وداوود بن علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري؛ وذهب الشعبي، والحسن، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع، واستدل الموجبون بقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا﴾ أي: الشهيدان‏ ﴿رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي: فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان‏ يكفون، ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان، أي: كائنون ممن ترضون، حال كونهم من الشهداء، والمراد: ممن ترضون دينهم وعدالتهم، وفيه: أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة، واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدّعى كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعى؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدّعى، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها، وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا، ومعلوم عند كل من يفهم: أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هار هي قولهم: إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وأيضا كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب، وقد حكموا بهما، والجواب الجواب.

4. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ قال أبو عبيد: معنى تضل: تنسى، والضلال عن الشهادة: إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، وقرأ حمزة: (إن تضلّ) بكسر الهمزة، وقوله: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ جوابه على هذه القراءة، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضلّ، ومن رفعه فعلى الاستئناف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (فتذكر) بتخفيف الذال والكاف، ومعناه: تزيدها ذكرا، وقراءة الجماعة: بالتشديد، أي: تنبهها إذا غفلت ونسيت، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء، أي: فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر، لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد، فقيل: وجهه أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضلّ وتذكر، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان؛ فالمعنى: إن ضلت هذه ذكرتها هذه، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه، لا على التعيين، أي: إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال، وقد يكون الوجه في الإبهام: أن ذلك، يعني: الضلال والتذكر يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها، وقال سفيان بن عيينة: معنى قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ تصيرها ذكرا، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل.

5. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي: لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل؛ وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين، وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.

6. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ معنى تسأموا: تملوا، قال الأخفش: يقال سئمت أسأم سآمة وسآما.. أي: لا تملوا أن تكتبوه، أي: الدين الذي تداينتم به؛ وقيل: الحق؛ وقيل: الشاهد؛ وقيل: الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا، ثم بالغ في ذلك فقال: ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ أي: حال كون ذلك المكتوب صغيرا أو كبيرا، أي: لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا؛ وقيل: إنه كنى بالسآمة عن الكسل، والأول أولى، وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير، أي: قليل لا احتياج إلى كتبه.

7. الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله: ﴿أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ و﴿أَقْسَطُ﴾ معناه: أعدل، أي: أصح وأحفظ ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أي: أعون على إقامة الشهادة، وأثبت لها، وهو مبني من: أقام، وكذلك أقسط مبني من فعله، أي: أقسط، وقد صرح سيبويه بأنه قياسي، أي: بنى أفعل التفضيل، ومعنى قوله: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أقرب لنفي الريب في معاملاتكم، أي: الشك، ولذلك إن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائنا ما كان.

8. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش، وكان تامة: أي إلا أن تقع أو توجد تجارة، والاستثناء منقطع، أي: لكن وقت تبايعكم وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين.

9. ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ تتعاطونها يدا بيد، فالإدارة: التعاطي والتقابض، فالمراد: التبايع الناجز يدا بيد، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته، وقرئ: بنصب تجارة، على أن كل ناقصة، أي: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة.

10. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ قيل معناه: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي؛ وقيل: معناه: إذا تبايعتم أيّ تبايع كان حاضرا أو كالئا، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار، وقد تقدّم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا.

11. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، أو للمفعول؛ فعلى الأوّل معناه: لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة، أو بالتحريف، والتبديل، والزيادة والنقصان في كتابته؛ ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن أبي إسحاق: (ولا يضارر) بكسر الراء الأولى؛ وعلى، الثاني: لا يضارر كاتب ولا شهيد، بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما، ويضيق عليهما في الإجابة، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود: (ولا يضارر) بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا، وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله.

12. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ أي: ما نهيتم عنه من المضارة ﴿فَإِنَّهُ﴾ أي: فعلكم هذا ﴿فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي: خروج عن الطاعة إلى المعصية، ملتبس بكم‏.

13. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في فعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ما تحتاجون إليه من العلم، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/346.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا﴾ أي الشاهدان‏ ﴿رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ أي في العدالة ﴿مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال، العدد من النساء، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال‏ ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ أي تغيب عنها الشهادة ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ الضالة.

2. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها، وتسميتهم (شهداء) قبل التحمل من تنزيل المشارف منزلة الواقع‏ ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾ أي الدين‏ ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ﴾ أي المذكور من الكتابة ﴿أَقْسَطُ﴾ أي أعدل‏ ﴿عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ أي أعون لإقامتها إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ﴿وَأَدْنَى﴾ أي أقرب‏ ﴿أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي لا تشكو في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين‏.

3. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ أي حالة ﴿تُدِيرُونَهَا﴾ أي تكثرون إدارتها ﴿بَيْنَكُمْ﴾ فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان، قال أبو البقاء (تجارة) يقرأ بالرفع على أن تكون التامة (وحاضرة) صفتها، ويجوز أن تكون الناقصة واسمها تجارة، وحاضرة صفتها، وتديرونها الخبر.

4. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف، ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع، يعني التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة، وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل، كذا في الكشاف، وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطا فأشهد وقال: قال الله‏ ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه (الناسخ والمنسوخ): قد كان جماعة من التابعين يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع، فمنهم الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ، كانوا يقولون إنا نرى أن نشهد ولو في جزرة بقل.

5. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ يحتمل البناء للفاعل والمفعول، ويدل عليه أنه قرئ: ولا يضارر (بالكسر والفتح) والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما، بأن يعجلا عن مهمّ، قال الحراليّ: في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده، ويعينه على الائتمار لأمر بما يدفع من ضرر، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه.

6. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ أي ما نهيتم عنه من الضرار ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم، قال الحراليّ: وفي صيغة (فعول) تأكيد فيه وتشديد في النذارة.

7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أن يعذبكم بالخروج عن طاعته‏ ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ أحكامه المتضمنة لمصالحكم‏ ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/236.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ﴾ اُطلبوا تحمُّل الشهادة، أو أشهدوا بمبالغة على الحقِّ الذي هو الدَّين ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ من يصلحان للشهادة، مِمَّن ترضون من الشهداء بدليل ذِكرِهِ بعدُ، وقولِهِ: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ﴾ [الطلاق: 2] والأحاديثِ، ﴿مِن رِّجَالِكُمْ﴾ أي: من المسلمين البُلَّغ الأحرار العقلاء، لا من غير رجالكم، وهو المشركون والعبيد والأطفال والمجانين.

2. ومذهبنا ومذهب الحنفيَّة جواز شهادة المشرك على المشرك لمسلم أو لمشرك، لا على مسلم خلافا للشافعيَّة، وأجاز أبو حنيفة شهادة المشرك على المشرك في الطلاق والبيع ونحوهما، لا الحدود والقصاص وهو مذهبنا؛ وذلك أنَّ الخطاب للبلَّغ الأحرار الموحِّدين، ومعنى (رِجَالِكُم): من جنسكم، إذ لا يخاطب الطفل، مع أنَّ إطلاق الرجل عليه مجاز أو تغليب إذا أطلق، والعبد كالبهيمة ولا عقد له ولا ولاية إِلَّا بإذن سيِّده، والمشرك أبعد من أن يكون منَّا، فإنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الفاسق والمشرك ليسا منَّا)، والمسلمون البلَّغ العقلاء هم الرجال الأكملون، والمجنون كالطفل أو دونه، وأجازت الإماميَّة من الشيعة شهادة العبد المسلم البالغ العدل، وهو قول شريح وابن سيرين وأبي ثور وعثمان البتي، وهو مردود.

3. ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا﴾ الألف لمن يشهد، أي: فإن لم يكن من يشهد، وأتى بألف الاِثنين لتثنية الخبر وهو قوله: ﴿رَجُلَيْنِ﴾، والمراد: لم يقصد إشهادهما، ولو كانا موجودين متيسِّرين، إذ لا يشترط لشهادة الرجل والمرأتين فَقْدُ الرجلين أو تعسُّرهما، أو فإن لم يكن الشاهدان رجلين بطريق رفع الإيجاب الكلِّيِّ لا السلب الكلِّيِّ.

4. ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي: يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، و(يَكُن) له خبر، أو فليكن رجل وامرأتان ويكن لا خبر له، أو فليشهد رجل وامرأتان بالبناء للفاعل من الثلاثيِّ، أو فليُشْهَد رجل وامرأتان بالبناء للمفعول من الرباعيِّ، أو فليُستَشْهَد رجل وامرأتان بالبناء له، واللام للأمر في ذلك كلِّه، أو فرجل وامرأتان يشهدون كذلك أو يُستشهدون.

5. ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ﴾ أيُّها المؤمنون، أو أيُّها الحكام ﴿مِنَ الشُّهَدَآءِ﴾ دينا وعدالة، ولو كانوا مخالفين فيما يقطع فيه العذر مِمَّا لا يجوز الاختلاف فيه إذا كانوا ورعين، وليس خلافهم يتضمَّن شركا كالمجسِّمة والإمامية القائلين بأنَّ عليًّا نبيء.

6. ولا تجوز شهادة النساء في الحدود والقصاص عندنا وعند الحنفيَّة، وأجازها الشافعيُّ في الأموال مع الرجال لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز في الحدود والقصاص والولاء والإحصان، وجازت الواحدة العدلة فيما لا يباشر الرجل، وقيل: عدلتان، وقيل: ثلاث كالولادة والبكارة والاستهلال، واقتصر على ذكر الرضا هنا مع أنَّه في الرجلين أيضًا لقلَّة اتِّصاف النساء به غالبا، إذ الغالب عليهنَّ عدم العدالة وقلَّة الديانة والجهل.

7. و(مِمَّن تَرْضَوْنَ) نعت لـ (رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)، ويجوز أن يقدِّر: وهؤلاء الشهود مِمَّن ترضون الرجلان والرجل والمرأتان، وهو حَسَنٌ؛ لأنَّه عمَّ الشرط في الكلِّ، ولك أن تقدِّر لقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ﴾ مثل هذا، أي: فاستشهدوا شهيدين من رجالكم مِمَّن ترضون، وليس تعليقه بـ (اسْتَشْهِدُوا) مغنيا عن مراعاته في قوله: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، وكذا جَعْلُهُ نعتا لـ (شَهِيدَيْنِ)، ولكن فيه الفصل، ولكن إذا جعل نعتا له أو علِّق بـ (اسْتَشْهِدُوا) عُلِم اشتراط الرضا للرجل والمرأتين من باب أولى.

8. ﴿اَن تَضِلَّ﴾ أي: تعدَّدت المرأة لاحتمال أن تضلَّ، أو حكمنا بذلك إرادة أن تضلَّ ﴿إِحْدَاهُمَا﴾ أن تنسى الشهادة إحداهما وتزيغ عنها كلِّها أو بعضها، ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا﴾ الشهادة أو ما زاغت عنه منها، وإحداهما هي الذاكرة، ﴿الاُخْرَى﴾ أي: الضالَّة عنها، ودخلت لام التعليل على (تَضِلَّ) لأنَّ الضلال سبب التذكير وملزومه، ومن شان العرب إذا كان للعلَّة علَّة أن يقدِّموا علَّة العلَّة ويعطفوا العلَّة عليها فتحصل العلَّتان بعبارة واحدة، فإنَّ النسيان لا يكون سببا لاعتبار العدد في شهادة امرأتين لكنَّه سبب للسبب فنُزِّل منزلته، وجعل ذلك الضلال سببا له مجازا، فإن التذكير إِنَّمَا يكون بسبب الضلال وهو النسيان، وكأنَّه قيل: (أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلَّت)، وذلك بناء على أنَّ سبب السبب ليس سببا حقيقيًّا، ومن ذلك: (أعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه)، فإنَّ مجيء العدوِّ ليس سببا لإعداد السلاح بل لدفع الأعداء المسبَّب عن مجيئهم، و(أعددتُ الخشبة أن يميل الجدار فأدعِّمه بها)، فالإدعام علَّة في إعداد الخشبة والميل علَّة الإدعام، ولم تقصد بإعداد الخشبة ميل الحائط بل المعنى: لأدعِّم بها إذا مال، والمعوَّل على المعنى دون اللَّفظ، وذكر ذلك في النساء لسرعة النسيان إليهنَّ لكثرة الرطوبة في أمزجتهنَّ، ويجوز أن تقدَّر اللام قبل (أَن تَضِلَّ) للاستحقاق لا للتعليل، ﴿وَلَا يَابَ الشُّهَدَآءُ﴾ عن الإجابة ﴿إِذَا مَا دُعُواْ﴾ لتحمُّل الشهادة أو لأدائها، وهو أولى؛ لأنَّ تسميتهم شهداء حقيقة حينئذ بخلاف الأوَّل، فإنَّ تسميتهم شهداء مجاز لعلاقة المشارفة والسببيَّة؛ لأنَّ دعاءهم لتحمُّلها سبب لكونهم شهداء بها.

9. روي أنَّها نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم إلى تحمُّل الشهادة فلا يجد، فهذا يناسب أنَّ المراد: من يتحمَّلها لا من يؤدِّيها.

10. وتحمُّل الشهادة وأداؤها فرض كفاية على الرجال والنساء، فإن وجد غير المدعوِّ لم تلزمه إن قبل غيره، وإلَّا أو لم يوجد سواه كانت فرض عين عليه وكذا غيره، وقد يقال: المدعوُّ لأدائها تسميته شاهدا مجاز للمشارفة والأَوْل، وإنَّما يكون حقيقة إذا أدَّاها فيكون المدعوُّ لتحمُّلها شاهدًا بتوسُّط وقوع تحمُّله لها المؤدِّي إلى أدائها.

11. ﴿ولَا تَسْأَمُواْ﴾ تَمَلُّوا لمؤونة الذهاب إلى الكَتْب وأجرته وكثرة المداينة، وقد قيل: كنَّى بالسأم عن الكسل لأنَّه من صفة المنافق، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يقل المؤمن: كَسِلتُ)، قيل: وإنَّما يقول: ثقلتُ، ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾ الدَّين أو الحقَّ أو ما دُعيتم إليه، أو ما شهدتم عليه، أو المكتوب؛ لأنَّه مذكور ضمنا والمأصدق واحد، والخطاب لأصحاب الحقوق ومن عليه الحقُّ والشهود، وسمَّاهم كُتَّابًا لأنَّهم أسباب الكتْب، والمصدر مفعول به لـ (تَسْأَمُوا) بمعنى تملُّوا، وعلى تقدير الجارِّ له على معنى تكسلوا، أي: لا تكسلوا عن أن تكتبوه ﴿صَغِيرًا اَوْ كَبِيرًا﴾ ذلك الدَّين، أو كَتْبا قليل الألفاظ أو كثيرها، وقدَّم الصغير لأنَّه مِمَّا يتهاون به، فقدَّم التحذير عن تركه بلا كتب، وفيه الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى، وهو حال من الهاء، ومن العجيب جعله خبرا لـ (كَانَ) تُقدَّر بلا داع! ﴿اِلَى أَجَلِهِ﴾ مستقرًّا في الذمَّة إلى حلول وقته، فهو حال لا متعلِّق بـ (تَكْتُبُ)؛ لأنَّ إيقاع الكتابة غير متكرِّر إلى الأجل.

12. ﴿ذَالِكُم﴾ أي: الكتْب المذكور في قوله: ﴿أَن تَكْتُبُوهُ﴾، وهذا أولى من أن تجعل الإشارة إلى الإشهاد، ورجِّح أن الإشارة إلى جميع ما ذكر والخطاب للمؤمنين أو الحكَّام، ﴿أَقْسَطُ عِندَ اللهِ﴾ أي: ذلكم العدل، فـ (أَقْسَطُ) خارج عن التفضيل إلى معنى الصفة المشبَّهة، إذ لا قسط في ترك الكتب، أو هو على بابه لكن في الإشهاد بلا كتب نوع توثُّق، والكَتْبُ أفضل منه، أو الكتب في حُسْنِهِ أبلغ من الترك في سوئه والأوجَه أيضًا في قوله: ﴿وَأَقْوَمُ﴾، صحَّت الواو ولم تقلب ألفا فيقال: وأقامُ ـ بفتح الهمزة وضمِّ الميم ـ لأنَّها صحَّت في فعل أفعل التفضيل، وهو فعل التعجُّب نحو: ما أقومه، وكذا تصحُّ الياء فيه لأنَّها تصحُّ في فعل التعجُّب، ﴿لِلشَّهَادَةِ﴾ أشدُّ إعانة على إقامتها، لأنَّه يذكِّر ما ينسى، وهما اسما تفضيل من (أقسط)، و(أقام) الرباعيُّ سماعا عند الجمهور، وقاسه سيبويه والكوفيُّون من الرباعيِّ بزيادة همزة، بل لنا أن نقول: جاء (قسَطَ) بمعنى عَدَل، وقاسط بمعنى عادل وقسط بمعنى العدل، ولا يختصُّ بالجور، كما صحَّ قام، فهما من الثلاثيِّ، أي: أشدُّ قياما للشهادة، تقول: (فلان قويم) بمعنى ذي استقامة، أو مِن قَسُط بضمِّ السين بمعنى صار ذا قسط، أي: عدل.

13. ﴿وَأَدْنَى﴾ أقرب ﴿أَلَّا تَرْتَابُواْ﴾ إلى أن لا ترتابوا، أي: أن لا تشُكُّوا في جنس الدَّين وعدده وأجله وشهوده وما عقدتم عليه من الأحوال، أو أدنى من أن لا ترتابوا، وليست بـ (مِن) التفضيليَّة، أو أدنى لأن لا ترتابوا، وذلك كما تقول: قربت من زيد وقربت لزيد، أو في أن لا ترتابوا، أي: قريب في شأن انتفاء الارتياب.

14. ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجارَةٌ﴾ تصرُّف في المال بالعقد لقصد الربح، ﴿حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا﴾ تعاطونها ﴿بَيْنَكُمْ﴾ يدا بيد، والإدارة تُتصوَّر في المال، فإسناد الحضور والإدارة إلى التجارة مجاز عقليٌّ، ولا مانع من جعل التجارة بمعنى اسم المفعول، أي: متَّجَر به بفتح الجيم، وحضور المال غير إدارته، فـ (تُديرُ) تأسيسٌ لا تأكيد، والاستثناء منقطع، أي: لكنَّ التجارة الحاضرة لا يشترط الكتب والإشهاد فيها، أو متَّصل أي: اكتبوه كلَّ حال إِلَّا حال كون التجارة حاضرة، كذا يقولون بالتفريغ في الإثبات وليس المشهور، ولكن المعنى صحيح.

15. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ اَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ لا ذنب عليكم في انتفاء كَتْبِكُمُوها، لأنَّه قد أخذ كلُّ واحد حقَّه، فلا جحود ولا نسيان، واليد دليل الملك فلا يلزم الكتْب، وإن كتب فحسن؛ لأنَّ الآية رخَّصت أن لا يكتب رفعا للمشقَّة ولم توجب أن لا يكتب، إذ ربَّما عرفه الناس للآخر إذا كان مِمَّا له علامة فيدَّعى عليه السرقة أو نحوها، فيصار إلى البيِّنة واليمين، وذكرُ الكتابة ذكرٌ للإشهاد، ولأنَّها تكون مع الإشهاد، فكأنَّه قيل: ألَّا تكتبوها ولا تُشهدوا عليها.

16. ﴿وَأَشْهِدُواْ﴾ على الْمُتَّجر به المعبَّر عنه بـ (تِجَارَةٌ)، أو على التصرُّف فيه بالبيع، ﴿إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ يدا بيد، وهذا عند الجمهور ندبٌ لثواب الآخرة، أو أمرُ إرشادٍ لنفع الدنيا، فما مرَّ نفي للوجوب وهذا استحباب، ويجوز أن يراد هنا مطلق البيع يدا بيد، وعاجلا أو آجلا، وقيل: الإشهاد واجب في مطلق البيع غير منسوخ وقيل: وجوبا منسوخا.

17. ﴿وَلَا يُضَآرَّ﴾ مجزوم بسكون مقدَّر منع من ظهوره حركة التخلُّص من التقاء الساكنين، وهي الفتحة للتخفيف، ﴿كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ لا يَضُرَّان غيرَهما، فالراء المدغمة عن كسر، كما فكَّها عمر وكسرها، وذلك بزيادة أو نقص أو تحريف أو تأخير الأجل أو تقديمه، أو بالامتناع من الكتابة أو الشهادة أو أدائها، أو طلب أجرة عظيمة، أو لا يضرُّهما غيرُهما فهي عن فتحٍ، كما فكَّها ابن عبَّاس وفَتَحها، وذلك بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة أو الشهادة، ومنع أجرتهما، أو تقليلها عن عنائهما، أو يعجَّلان عن مهمٍّ.

18. لَمَّا نزل ﴿وَلَا يَابَ كَاتِبٌ اَنْ يَّكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اُكتبْ لي، فيقول: إنِّي مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري، فيلزمه فيقول: إنَّك أُمرت أن تكتب لي، فيضرَّه بالمكث والإلحاح وقد وجد غيره، فنزل: ﴿وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ ومعنى حمل بعضهم العبارة على المعنيين أنَّ الله أنزلها محتملة، وهو حسن، وإنَّما يستحقُّها الشاهد إذا كان لا يجد قوته أو قوت عياله إن تفرَّغ لتحمُّلها أو أدائها، أو يجد ذلك لكن يخرج الأميال، أو يراد إعادتها حيث تجوز الإعادة.

19. ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ﴾ ما نهيتم عنه مطلقًا، أو الضرار، والخطاب للطالبين أو للكاتب والشاهد لعمومهما بالتنكير بعد النهي، ولتعدُّد الوقائع، أو للمجموع، وهو أولى، ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ فإنَّ الفعل لذلك خروج عن الطاعة لاحقٌ بكم، أو متعلِّق بكم، أو فسق فيكم حتَّى أنتم كظرف له.

20. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ في أمره ونهيه عن الضرار أو غيره، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ مصالح أموركم بإنزال الآيات، عطف إخبار على إنشاء أو الجملة حال، ويقدَّر (وقد يعلِّمكم الله) بـ (قد) التحقيقيَّة، أو أنتم يعلِّمكم الله، ولا تثبت عندي واو الاستئناف إذ لا معنى لها، ولا يصحُّ أن تكون حرف هجاء، ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ذكر لفظ الجلالة ثلاث مرَّات: الأولى: حثٌّ على التقوى لتربية المهابة وهي للوجوب، والثانية: وعد بإنزال الآيات زيادة على ما في السورة وهو من أجلِّ النعم، والثالثة: تعظيم لشأنه وتهديد لمن خالفه ووعد لمن أطاعه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/176.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي اطلبوا أن يشهد على ذلك رجلان ممن حضر ذلك منكم أو أشهدوها على ذلك، فالشهيد من شهد الشيء وحضره بإمعان، كما يؤخذ من صيغة المبالغة، واستشهده سأله أن يشهد؛ أي أن تكون شاهدا بذلك عند الحاجة إليه، ويطلق الشهيد على الأمين في الشهادة كما في القاموس ولعل الوصف منتزع من صيغة المبالغة، ولكن حمل هذا التفسير على الشهيد اسما لله تعالى ولا دليل على التخصيص، والسياق يدل مع الصيغة على أن وصف الكمال معتبر فيمن يستشهد، كما اعتبر مثله في الكاتب والولي، وما بيناه في معنى الشهيد يرد قول القائلين: إن المراد بالشهيدين من سيكونان شاهدين بذلك الحق من باب مجاز الأول.

2. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الخطاب للمؤمنين يدل على أنهم لا يستشهدون من لم يكن منهم، وكون استشهاد غيرهم ليس مشروعا لهم أو ليس جائزا عملا بمفهوم الصفة لا يعد نصا على أن شهادته إذا هو شهد لا تصح أو لا تدل على شيء، ولكن العلماء اتفقوا على شروط في الشهادة الشرعية منها: الإسلام والعدالة؛ لهذه الآية ولقوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [65:2] وجعلوا قوله تعالى في آية الوصية: ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ [5:106] خاصا بمثل تلك الواقعة، وأولها بعضهم بغير ذلك كما يأتي في محله، ولا أحفظ عن محمد عبده شيئا في المسألة، وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما تبين به الحق بينه، كالقرائن القطعية، ويمكن أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بهذا المعنى الذي استدل عليه بالكتاب والسنة واللغة إذا تبين للحاكم بها الحق.

3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا﴾ أي من تستشهدونهما ﴿رَجُلَيْنِ﴾ وجعل المفسرون الضمير للشاهدين بحسب الإرادة والقصد ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يستشهدان أو فليستشهد رجل وامرأتان، وتقديرنا أولى من تقدير الجمهور الإشهاد، وإنما وافقوا اصطلاح الفقهاء واتبعنا نظم القرآن ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ قالوا: أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم حال كونهم من الشهداء.

4. إنما وصف الرجل مع المرأتين بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها؛ ولذلك وكل الأمر فيه إلى رضا المستشهدين، ثم بين علة جعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله عز وجل: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي حذر أن تضل إحداهما أي تخطئ لعدم ضبطها وقلة عنايتها فتذكر كل منهما الأخرى بما كان، فتكون شهادتها متممة لشهادتها؛ أي إن كلا منهما عرضة للخطأ والضلال، أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان وقع بالضبط فاحتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد؛ لأنهما بتذكير كل منهما للأخرى تقومان مقام الرجل، ولهذا أعاد لفظ ﴿إِحْدَاهُمَا﴾ مظهرا وليس المعنى لئلا تنسى واحدة فتذكرها الثانية، كما فهم كثير من المفسرين، وقال بعضهم (وهو الحسين بن علي المغربي) معناه أن تضل إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين فتذكرها بها المرأة الأخرى، فجعل إحدى الأولى للشهادة والثانية للمرأة، وأيده الطبرسي بأن نسيان الشهادة لا يسمى ضلالا؛ لأن الضلال معناه الضياع، والمرأة لا تضيع واستدل على التفرقة بين الضلال والنسيان بقوله تعالى: ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾، ومثله: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ وكأن محمد عبده أقره عند ما ذكره، ورده بعضهم بما في من التفكيك، وبأن تفسير الضلال بالنسيان مروي عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما، ونقله ابن الأثير لغة، أقول: وما ذكرته يغني عن هذا، وذكر الألوسي في وجه العدول عن قوله: (فتذكرها) إلى قوله: فتذكر إحداهما الأخرى أنه رأى في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي للقضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار ﴿إِحْدَى﴾ معرضا بما ذكره المغربي فقال:

çيا رأس أهل العلوم السادة البرره... ومن نداه على كل الورى نشره

ما سر تكرار ﴿إِحْدَى﴾ دون (تذكرها)... في آية لذوي الإشهاد في البقره

وظاهر الحال إيجاز الضمير على... تكرار ﴿إِحْدَاهُمَا﴾ لو أنه ذكره

وحمل الاحدى على نفس الشهادة في... أولاهما ليس مرضيا لدى المهره

فغص بفكرك لاستخراج جوهرة... من بحر علمك ثم ابعث لنا دررهé

فأجاب القاضي:

çيا من فوائده بالعلم منتشره... ومن فضائله بالكون مشتهره

يا من تفرد في كشف العلوم... لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره

﴿تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ فالقول محتمل... كليهما فهي للإظهار مفتقره

ولو أتى بضمير كان مقتضيا... تعيين واحدة للحكم معتبره

ومن رددتم عليه الحل فهو كما أشرتم... ليس مرضيا لمن سبره

هذا الذي سمح الذهن الكليل به... والله أعلم في الفحوى بما ذكرهé

5. علل بعضهم كون النساء عرضة للضلال أو النسيان بأنهن ناقصات عقل ودين، وعلله بعضهم بكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقال محمد عبده: تكلم المفسرون في هذا وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن من طبع البشر ذكرانا وإناثا أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها.

6. قال محمد عبده: إن الله تعالى جعل شهادة المرأتين شهادة واحدة، فإذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى وتتم شهادتها، وللقاضي بل عليه أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى ويعتد بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، قال: هذا هو الواجب وإن كان القضاة لا يعملون به جهلا منهم، وأما الرجال فلا يجوز له أن يعاملهم بذلك، بل عليه أن يفرق بينهم، فإن قصر أحد الشاهدين أو نسي فليس للآخر أن يذكره، وإذا ترك شيئا تكون الشهادة باطلة، يعني إذا ترك شيئا مما يبين الحق فكانت شهادته وحده غير كافية لبيانه فإنها لا يعتد بها ولا بشهادة الآخر وحدها وإن بينت.

7. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ إلى تحمل الشهادة، كما روي عن البيع أنها نزلت حين كان الرجل في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يجيبه أحد، فالشهداء على هذا مجاز وربما قواه ما يأتي من النهي عن كتمان الشهادة أو إلى أداء الشهادة، وهو الظاهر الذي لا تجوز فيه، وقال بعضهم بالإطلاق الشامل للتحمل والأداء، وعزاه محمد عبده إلى الجمهور واختاره، وظاهر النهي أن الامتناع عن الشهادة تحملا وأداء محرم، وأن الإجابة واجبة، وقد صرح من قال بذلك بأنه فرض كفاية لا يجب على من دعي إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم به.

8. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا تملوا أو تضجروا أو لا تكسلوا من كتابة الدين أو الحق سواء كان صغيرا أو كبيرا مبينا ثبوته في الذمة إلى أجله المسمى، قال محمد عبده: وهذا دليل على أن الكتابة يعمل بها، وأنها من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شرطها.. وهو دليل أيضا على أن الكتابة واجبة في القليل والكثير، ولذلك قدم ذكر الصغير الذي يتهاون فيه الناس لعدم مبالاتهم بضياعه، ومن لا يحرص على الصغير والقليل أن يضيع فقلما يتقن حفظ الكبير والكثير، ففي الآية إرشاد إلى عدم التهاون بشيء من الحقوق أن يذهب سدى، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الاقتصاد، والعمل بها آية الكياسة والعقل، وكم من حريص على الدرهم والدانق يجود بالدنانير والبدر.

9. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ الخطاب للمؤمنين والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأحكام لا الواحد منها وتلك سنة القرآن في بيان حكمة الحكم، وعلة الأمر والنهي بعد ذكرهما، وقيل: إن الإشارة للإشهاد وقيل: للكتاب؛ أي الكتابة؛ لأنه الأقرب في الذكر، وعزاه محمد عبده إلى الجمهور، وقال: إنه من دلائل العمل بالكتابة، ومعنى كونه أقسط عند الله أنه أعدل في حكمه، أي أحرى بإقامة العدل بين العاملين، ومعنى كونه أقوم للشهادة أنه أعون على إقامتها على وجهها، قال محمد عبده، وفي هذا دليل على أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان على وجهه، وقد يقال: إن كون المشار إليه أقوم للشهادة دليل على أن المراد به الكتابة التي تعين على الشهادة فتكون الإشارة إلى الكتابة حتما ويجاب عنه بأن ما ذكر من أحكام الشهادة مما يعين على إقامتها على وجهها أيضا، وكذلك ما ذكر من أحكام الإملاء، فالمختار عندي أن الإشارة إلى جميع ما ذكر كما تقدم.

10. ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ معناه وأقرب إلى انتفاء ارتياب بعضكم ببعض، فإن هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها وتقوى الله والعدل من المتعاملين والكتاب والشهداء يمنع كل ريبة وكل ما يترتب على الارتياب من المفاسد والعداوات والمخاصمات، وقال ابن جرير: المراد انتفاء الريب في الشهادة، وقال غيره: في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك، والأول هو ما تبادر إلى فهمنا، ولعله الصواب إن شاء الله، قال محمد عبده: وهذه مزية ثالثة للكتابة تؤكد القول بالأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود والاحتجاج بها إذا استوفيت شروطها.

11. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ قرأ عاصم تجارة بالنصب والباقون بالضم، والإعراب ظاهر على الحالين، والاستثناء من الكتابة وهو المختار، وقيل: الإشهاد، وقيل هما، والمعنى أن ذلك مطلوب واجب إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة، أو إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطي بأن يأخذ المشتري المبيع أو البائع الثمن، فلا حرج في ترك كتابتها ولا إثم؛ إذ لا يترتب عليه شيء من الارتياب الذي يجر إلى التنازع والتخاصم، وما وراء ذلك من المفاسد.

12. في نفي الجناح إشارة إلى أن كتابة ذلك أولى، وهو إرشاد إلى استحباب ضبط الإنسان لماله وإحصائه لما يرد عليه وما يصدر عنه، وذلك من الكمال المدني ومن أسباب ارتقاء أمور الكسب ولم يجعل هذا حتما؛ لأنه مما يشق على غير المرتقين في المدنية، والترخيص فيه دليل على وجوب كتابة الديون المؤجلة كما هو ظاهر مما تقدم.

13. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ قيل: معناه هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة، وقيل: مطلقا، واختار محمد عبده الأول، قال: لأن البيع بالكالئ يستلزم الدين، وهو الذي أمر بكتابته والاستشهاد عليه، والإشهاد لازم لما يحصل من المجاحدين في بعض العقود الحاضرة بعد العقد من التنازع والخلاف وكأنه يعني أن من شأن هذه المجاحدة أن تحصل عن قريب، ولذلك اكتفى بالإشهاد لتلافي ما عساه يقع منها، وأما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود؛ لأنها مما يطول زمنها لاسيما إذا كان الأجل بعيدا؛ فلهذا وجبت كتابتها وشرع الاحتجاج عليها بالكتابة.

14. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ لفظ (يضار) يحتمل البناء للفاعل وللمفعول ويروى أن بعض الصحابة قد قرؤوا بفك الإدغام، فعمر وابن عباس على الأول وابن مسعود على الثاني، ولعل ذلك كان تفسيرا لا قراءة، والمعنى على الأول نهي الكاتب والشهيد أن يضرا أحد المتعاملين بعدم الإجابة أو بالتحريف والتغيير ونحو ذلك، ومعنى الثاني نهي المتعاملين عن ضر الكاتب أو الشهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما فيكلفان تركه، وروى ابن جرير ما يؤيد هذا وهو أن الرجل كان يجيء الكاتب فيقول: (اكتب لي) فيعتذر بعذره ويدل على غيره فلا يقبل منه، ويقال له: إنك قد أمرت أن تكتب فيلزم بذلك ويضار فنزلت، وهذه الرواية لا تصلح سببا إلا إذا كان نزول هذا النهي متراخيا عن نزول الأمر بالكتابة وهما في آية واحدة نزلت دفعة واحدة، وأقوى منها في تأييده: ما قد اشترط في الكاتب والشهداء من الشروط التي تستلزم نفي المضارة، فبقي أن يؤمر المتعاملون بعدم مضارة الكتاب والشهداء بإلزامهم بترك منافعهم لأجل الكتابة والشهادة أو بتحميلهم المشقة في ذلك بلا عوض، فالمتبادر من النهي أنه عن مضارة المتعاملين للكاتب والشهيد، وإذا قيل بأنها ترشد إلى إعطائهما أجرة ما يحملان من الكلفة لم يكن ببعيد، ومقتضى مذهب الشافعية في جواز استعمال المشترك في معنييه واللفظ في حقيقته ومجازه: أنه يجوز أن يراد بـ (يضار) البناء للفاعل وللمفعول معا؛ لأنه من قبيل الأول، واستعمل (يضار) الدال على المشاركة للإشارة إلى أن ضر الإنسان لغيره ضر لنفسه.

15. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ ما نهيتم عنه من إضرار الكاتب والشهيد ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، أي فإن هذا الفعل خروج بكم عن حدود طاعة الله تعالى إلى معصيته وأشير بقوله: ﴿وَإِن﴾ إلى أن مثل هذا الفعل الذي يتحقق به الفسق لا يكاد يقع من المخاطبين، وهم الذين آمنوا؛ لأن من شأن الإيمان أن يمنع منه.

16. ثم ختم الآية بالموعظة العامة التي تعين النفس على الامتثال في جميع الأعمال وذلك قوله عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي اتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم، فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك، وهو ـ سبحانه ـ العليم بكل شيء فإذا شرع شيئا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه، وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير، وقال البيضاوي: كرر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية، وهذا مبني على أن الثانية جملة مستأنفة وقيل: هي جملة حالية.

17. قال محمد عبده: اشتهر على ألسنة المدعين للتصوف في معنى هاتين الجملتين ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ أن التقوى تكون سببا للعلم، وبنوا على ذلك أن سلوك طريقتهم وما يأتونه فيها من الرياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تثمر لهم العلوم الآلهية وعلم النفس وغير ذلك من العلوم بدون تعلم، وهذا الزعم فتح للجاهلين الذين يلبسون لباس الصلاح دعوى العلم بالله وفهم القرآن والحديث ومعرفة أسرار الشريعة من غير أن يكونوا قد تعلموا من ذلك شيئا، والعامة تسلم لهم بهذه الدعوى وتصدق قولهم أن الله هو الذي تولى تعليمهم ويسمون علمهم هذا بالعلم اللدني، ويرد استدلالهم بالآية على ذلك من وجهين:

أ. أحدهما: أنه لا يرضى به سيبويه وله الحق في ذلك؛ لأن عطف يعلمكم على اتقوا الله ينافي أن يكون جزاء له ومرتبا عليه؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولو قال ﴿يعلمكم﴾ بالجزم لكان مفيدا لما قالوه، وكذلك لو كان العطف بالفاء أو اتصل بالفعل لام التعليل.

ب. والثاني: أن قولهم هذا عبارة عن جعل المسبب سببا والفرع أصلا والنتيجة مقدمة، فإن المعروف المعقول أن العلم هو الذي يثمر التقوى، فلا تقوى بلا علم فالعلم هو الأصل الأول، وعليه المعول.

18. بعد أن أطال محمد عبده بعض الإطالة في بيان تأثير العلم في الإرادة بتوجيهها إلى العمل الصالح وصرفها عن العمل القبيح ـ وتلك هي التقوى ـ قال: إننا لا ننكر العلم الذي يسمونه لدنيا، وإنما ننكر أن يكون غاية لذلك الطريق الجائر الذي يشترط فيه الجهل، ونقول: إن العلم بالله تعالى والعلم بالشرع والعمل به مع الإخلاص قد يصرف العالم العامل المخلص إلى الله تعالى حتى يكون كالمنفصل بقلبه وروحه عن العالم الطبيعي، وقد يحصل له عند ذلك إشراف على ما لا يشرف عليه غيره يعني من أسرار الحكمة الإلهية والتحقق ببعض المعارف الغيبية، فيعلم مما قصه الله علينا من خبر الآخرة والملائكة ما لا يعلمه كل ناظر في معاني الألفاظ والأساليب في الكتاب، وأين هذا مما يدعيه أعوان الجهل وأعداء العلم!

19. إنهم يستدلون على زعمهم ذلك بآية أخرى توهم بعض من كتب في التفسير أنها بمعنى ما قالوه هنا وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ الآية وهو غلط، فسر بعض أهل الأثر الفرقان هنا بالمخرج، فالشرطية عنده كالشرطية في قوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ وبعضهم بالنجاة، وبعضهم بالنصر، قال ابن جرير وكل ذلك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات، وهو كما قال فإن الآية في سورة الأنفال ومعظمها يتعلق بحال المسلمين قبل واقعة بدر، وكانوا في ضيق شديد كان الخروج منه بإنجائهم من عدوهم ونصرهم عليه، وما نصروا على قلتهم إلا بتقوى الله التي جمعت كلمتهم وقوت عزيمتهم، والتقوى تكون سبب الفرقان والمخرج في كل شيء بحسبه؛ لأنها عبارة عن اتقاء أسباب الضرر والخذلان في النفس وفي الخارج؛ ولذلك يفسر المخرج في آية سورة الطلاق ـ وهي في مقام الإنفاق على النساء ـ بما لا يفسر به في سورة الأنفال، وهي في مقام المدافعة والقتال لحماية الدعوة وأهلها.

20. هذا وإن الفرقان في اللغة هو الصبح الذي يفرق بين الليل والنهار، ويسمى القرآن فرقانا؛ لأنه كالصبح يفرق بين الحق والباطل، وتقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبها نورا يفرق به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس فهي تفيده علما خاصا لم يكن ليهتدي إليه لولاها، وهذا العلم الذي هو غير العلم الذي يتوقف على التلقين كالشرع أصوله وفروعه، وهو ما لا تتحقق التقوى بدونه؛ لأنها عبارة عن العمل ـ فعلا وتركا ـ بعلم، فالعلم الذي هو أصل التقوى وسببها لا يكون إلا بالتعلم كما ورد في الحديث (العلم بالتعلم)

21. العلم الذي هو فرعها وثمرتها هو ما تفطن له النفس بعد فيفيدها الرسوخ في العلم الأول بالعمل به، فإن العلم يكون في النفس مجملا مبهما حتى يعمل به، فإذا عمل به صار مفصلا جليا راسخا تتبين به الدقائق والخفايا، وبذلك تفطن نفس العامل إلى مسائل أخرى تطلبها بالتجربة والبحث حتى تصل إليها كما يعرف كل واقف على ترقي العلوم الطبيعية في الأنفس والأشياء، وهو المشار إليه بحديث: (ومن تعلم فعمل علمه الله ما لم يعلم) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس وحديث (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس، وإذا علمت أن التقوى عمل يتوقف على العلم، وأن هذا العلم لا بد أن يؤخذ بالتعليم والتلقي، وأن العمل بالعلم من أسباب المزيد فيه وخروجه من مضيق الإبهام والإجمال إلى فضاء الجلاء والتفصيل، فهمت المراد بالفرقان على عمومه، وعلمت أن أدعياء التصوف الجاهلين لا حظ لهم من ذلك العلم الأول، ولا من هذه التقوى التي هي أثره ولا من هذا العلم الأخير الذي هو أثر العلم والتقوى جميعا، فبينهم وبين العلم اللدني مرحلتان بعيدتان: العلم الذي يؤخذ بالتلقي والتقوى بالعمل به.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/123.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي واطلبوا أن يشهد على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: البيّنة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين، فليستشهد رجل وامرأتان، ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، وإنما جيء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، ومن ثم فوّض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين، ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي حذر أن تضل إحداهما وتخطئ لعدم ضبطها وقلة عنايتها، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى.

3. خلاصة هذا ـ أنه لما كان كل منهما عرضة للخطإ والضلال: أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى‏ وتتم شهادتها، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى، ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغي أن يتبع في نحو هذا، أما الرجلان فيفرق بينهما، فإن قصر أحدهما أو نسى شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق، وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوى تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم، لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل.

4. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي ولا ينبغي للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة، روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها، فالامتناع عن كل منهما محرم، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعي إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه.

5. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين، قليلا كان أو كثيرا، مبينين بذلك أجله المسمى، وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير، وعلى أنه لا ينبغي التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شيء منها، وهذا قاعدة من قواعده الاقتصاد في العصر الحديث، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات‏.

6. ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس، وأثلج للقلب قال ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها، وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها، وقوله: ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾؛ أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات ـ وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.

7. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطي بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك، إذ لا يترتب عليه شيء من التنازع والتخاصم، وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه، وهذا منتهى الرقى المدني، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.

8. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد، فاكتفى بالإشهاد، أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود، إذ هي مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.

9. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ أصل يضارّ يضارر (بكسر الراء) وهذا نهى للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما، ويؤيده قوله بعد ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم، ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته.

10. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم، ولولا هديه لكم لم تعلموا شيئا، وهو العليم بكل شيء، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه.

11. جاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع ما تضمنته من الأحكام ـ وهذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها أحكاما، وفيها مبالغة في التوصية بحفظ المال وصونه من الضياع، ليتمكن المرء من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عما يوجب سخطه من التعامل بالربا وغيره، ومن المواظبة على تقواه التي هي الوسيلة لكل فوز وفلاح.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/75.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد، نقطة الشهادة: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾.. إنه لا بد من شاهدين على العقد ـ ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ ـ والرضى يشمل معنيين: الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة، والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد.

2. لكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا، فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم!

3. فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان.. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾.. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة، فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معا على تذكر ملابسات الموضوع كله، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية، فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما، تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء.. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة.. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها ـ حين تكون امرأة سوية ـ بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى ـ إذا انحرفت مع أي انفعال ـ فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.

4. وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعا، فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق، والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية، بدون تضرر أو تلكؤ، وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما.

5. وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر، غرض عام للتشريع، يؤكد ضرورة الكتابة ـ كبر الدين أم صغر ـ ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾

6. لا تسأموا.. فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته.. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾.. أعدل وأفضل، وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره، ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾، فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها، وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة.

7. ﴿وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾: أقرب لعدم الريبة، الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد، وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته، إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة.

8. ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل، أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة، وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيرا للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها، أما الإشهاد فموجب، وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب، ولكن الأرجح هو ذاك.

9. الآن ـ وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة ـ على الوجوب وعلى الرخصة ـ فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل.. لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة، فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

10. لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه، وإذا وقع فإنه يكون خروجا منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه، وهو احتياط لا بد منه، لأن الكتّاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة، فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال.

11. ثم ـ وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص ـ يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/336.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أي فإذا كتب الدين بحضور المتداينين، وأقر المدين أو وليه بما كتب الكاتب، فليشهد على ذلك شاهدين عدلين من الرجال، أو رجل وامرأتان.

2. فى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ إشارة إلى تحيّر الشاهدين، والتماس الصفات الطيبة فيهما، فليس كل من حضر مجلس العقد كان صالحا للشهادة، قادرا على تحملها، بل يجب أن يكون ذلك بعد طلب، وبحث، فقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ أي اطلبوا شاهدين، وفى قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ أي ممن رأيتم فيهما، الاستقامة والسلامة، من بين أهل الاستقامة والسلامة.

3. قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ معدول به عن أن يقال: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ حيث يبدو معناهما واحدا، وهو أنه إذا ضلّت إحدى المرأتين عن الحقيقة التي شهدت عليها، ذكرتها الأخرى بهذه الحقيقة، وأعادتها إلى الصواب.

4. سؤال وإشكال: لم يعرض القرآن الكريم للرجلين، إذا ضل أحدهما وأنكر ما شهد عليه، كما لم يعرض للرجل مع المرأتين.. إذا ضل عما شهد عليه، وإنما عرض للمرأتين فقط، وما قد يقع من إحداهما.. فما وجه هذا؟ والجواب: إن الشهادة أمانة تحمّلها الشاهد، وقبلها طائعا مختارا، حسبة لوجه الله.. فإذا غيّر الشاهد وبدل فيما شهد عليه، فليس لأحد عليه من سبيل، وحسابه عند ربّه! سواء أكان الشاهد رجلا أو امرأة، ولكن لما كانت المرأة أقرب إلى السهو والنسيان من الرجل بسبب ما يعرض لها من أحوال جسدية، من حمل وولادة، ومن هزّات عاطفية، فى‏ قيامها على شئون صغارها وما يعرض لهم ـ لما كانت المرأة على تلك الصفة هنا فإن استشهادها لم يكن إلا لضرورة، وذلك حين لم يكن ثمة أكثر من رجل واحد يصلح للشهادة! وهنا تقوم المرأتان مقام الرجل الآخر المطلوب للشهادة، ولما كان الضلال عن طريق الحق في جانب المرأتين ليس مقصورا على إحداهما دون الأخرى، بل هو قدر مشترك بينهما، فقد تذكر إحداهما بعض ما شهدت عليه وتنسى بعضا، كأن تذكر أن الدين قدره كذا وتنسى الأجل المضروب له، أو تذكر أين كان مجلس العقد وتنسى زمانه، أو يختلط عليها الأمر في من هو الدائن أو المدين.. على حين تذكر الأخرى ما نسيته الأولى، وتنسى ما تذكره صاحبتها.. وهكذا تكمّل إحداهما الأخرى، فيأتيان بالشهادة على وجهها الصحيح، أو على ما هو أقرب إلى الصحيح! فالمراد بالضلال هنا الحيدة عن الواقع، بسبب سهو أو نسيان، كما يضلّ السائر طريقه إلى الغاية التي يقصدها.

5. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أمر موجه إلى الشهود بأداء الشهادة إذا ما دعوا إلى أدائها عند الحاجة إلى شهادتهم، وبهذا يتحقق الغرض المقصود من توثيق الدين، والإشهاد عليه، وفى التعبير عن الشهود بلفظ (الشهداء) الدال على علو القدر وشرف المنزلة ـ احتفاء بالشهادة وتكريم عظيم للشاهد، إذا كان أهلا لحمل الأمانة، وموضع ثقة بين الناس، حيث ائتمنوه، ورضوا به حكم عدل بينهما، ففي كلمته التي يشهد بها مقطع الحق.

6. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾، هو تحذير من التهاون في توثيق الدين أيّا كان قدره، فقد يستخف بعض الناس بشأن الدين، حين يكون قليلا، فلا يكتبه، ولا يحدد له أجلا، وهذا من شأنه أن يفتح بابا للخلاف، ثم الشقاق والعداوة.

7. كتابة الدين أيّا كان قدره هو العمل المبرور عند الله، لأنه قائم على العدل والإحسان، ولأنه هو الذي يضبط الشهادة ويقيمها على وجهها الصحيح، إذا اختلف الشهداء فيها، ولأنه من جهة ثالثة يبعد الريب والشبهات، حيث يرجع المتداينين إلى ما كتب، وضبط.

8. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ استثناء من الحكم العام المأمور به في كتابة الدين، ففي عملية البيع والشراء، حيث تكون البضاعة حاضرة، والثمن حاضرا معجلا، وحيث تسلّم البضاعة ويقبض الثمن في مجلس البيع ـ في هذه العملية لا تكون الكتابة ضرورية، إذ لا غناء لها، ولا معوّل عليها بعد أن يتم تسليم البضاعة وقبض الثمن.

9. ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ إشارة إلى فورية التسليم والقبض، وتبادل البضاعة وثمنها بين البائع والمشترى، ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أمر توجيهى بأن يكون البيع والشراء بحضور شاهدين، ذلك أنه إذا لم يكن للكتابة أثر في عمليه البيع الحاضر، فإن للشهود أثرهم في حسم ما قد يقع بين البائع والمشترى من خلاف، في مجلس البيع، كأن يختلفا في الشيء المباع، كمية، أو عددا، ونحو هذا، أو أن يختلفا في الثمن الذي تراضى به كل منهما، فيكون للشاهدين الكلمة الحاسمة في هذا الخلاف.

10. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ حماية للكاتب، وللشاهدين من أن يلحقهما أذّى في هذا العمل الذي أدّياه حسبة لوجه الله، فالكاتب والشاهد في العقود المبرمة بين المتعاقدين يؤديان عملا إنسانيا، حسبة لوجه الله، ومن الظلم أن يمسّهما سوء أو ينالهما أذى من أجل هذا العمل الذي يقومان به، وإلّا زهد الناس في هذا العمل المبرور، إذا لم تيسر سبله، ولم يمط عنه كل أذى، لهذا جاء قول الله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ حماية للإحسان وللمحسنين من أن يكدر صفو الإحسان، وأن يساء إلى أهله بأي لون من ألوان الأذى الماديّ أو الأدبي.

11. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ تحذير للدائنين والمدينين، والبائعين والمشترين، ولكل طرف من الطرفين المتعاقدين في أية عملية يضبطها عقد ويشهد عليها شهود ـ تحذير لهؤلاء جميعا من أن ينال الكاتب أو الشاهد أذى منهم، فإن فعلوا كان ذلك فسقا منهم، وخروجا على سنة العدل والإحسان، وتعديا على حدود الله.

12. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذا أمر عام بتقوى الله، ومراقبته، والوفاء بأوامره ونواهيه على الوجه الأتم الأكمل.. وتقوى الله مطلوبة هنا فيما بيّنه الله تعالى من أحكام، وأوضحه من معالم، ورسمه من حدود في عملية الدين، وفى البيع والشراء، فإنه إذا كانت‏ تقوى الله بمحضر من قلوب المتعاملين هنا، استقام أمرهم، وسلم لهم دينهم ودنياهم جميعا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/381.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ عطف على‏ ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾، وهو غيره وليس بيانا له إذ لو كان بيانا لما اقترن بالواو، فالمأمور به المتداينون شيئان: الكتابة، والإشهاد عليها، والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان، ومن أجل ذلك سمّاها الفقهاء ذكر الحق، وتسمّى عقدا قال الحارث بن حلزة:

çحذر الجور والتطاخي وهل ين...قض ما في المهارق الأهواءé

2. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]، فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأنّ قوله: ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ [البقرة: 283] صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين، وإنّما جعل القرآن كاتبا وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة.

3. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفا بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق، ويكون قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ تكليفا لمن يطلب منه صاحب الحق أن يشهد عليهما ألّا يمتنع.

4. الشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضور لمشاهدة تعاقد بين متعاقدين أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحبس، وتطلق الشهادة أيضا على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النور: 4]

5. جعل المأمور به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله، ولهذا أمر المستشهد ـ بفتح الهاء ـ بعد ذلك بالامتثال فقال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾

6. الأمر في قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾

7. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنّهم رجال، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير، وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يا أيها الذين آمنوا:

أ. وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل‏ التهم.

ب. والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان.

ج. والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام، فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي، فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين، فتوهم أتباعهم دحضها، وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريح بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه، فماذا يرجى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصرانية تابعة لأحكام التوراة، على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالا فيما يأمرهم به في شأنهم، وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، وفي (البخاري)، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز، وما روي عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: أنّ نفرا من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فشكوا إليه، فقال لهم: (تأتون بالبيّنة على من قتله)، قالوا: (ما لنا بيّنة)، قال (فتحلف لكم يهود خمسين يمينا)، قالوا: (ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون)، فكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يبطل دمه ووداه من مال الصدقة، فقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قول الأنصار في اليهود: إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون.

8. سؤال وإشكال: كيف اعتدت الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار؟ والجواب: اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتها الشريعة خيرا من إهمال الدعوى من أصلها، ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر:

أ. واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر:

فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكوفة، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء،

وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي.

ب. واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظرا في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالفه الجمهور، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفا.

9. ظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألّا يرد مطلقا إلّا مرادا به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي:

çيا ربّة البيت قومي غير صاغرة...ضمي إليك رجال الحيّ والغرباé

وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شئون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالبا؛ ولأنّهم ينشئون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل.

10. اشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعا، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور، فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن، ولهذا لو روى راو حديثا هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على‏ أنّ رسول الله قال (إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع)، إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع، فشهد له أبو سعيد الخدري في ملإ من الأنصار، والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا.

11. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾ أي لم يكن الشاهدان رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد، فرجل وامرأتان يشهدان، فقوله: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ جواب الشرط، وهو جزء جملة حذف خبرها لأنّ المقدر أنسب بالخبرية ـ ودليل المحذوف قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ ـ وقد فهم المحذوف فكيفما قدّرته ساغ لك.

12. جيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكن رجلان لئلّا يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلّا عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين، وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شئون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشئون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان.

13. ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ قرأه الجمهور بفتح همزة أن على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أن، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يعلّل لقصد إقناع المكلّفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكما قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلّا جعل عوض الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصرح بتعليله، واللام المقدرة قبل أن متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرؤوه بنصب‏ ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ عطفا على‏ ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إن شرطية وتضلّ فعل الشرط، وبرفع تذكر على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: 95]، ولما كان (أن تضلّ) في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرّع عليه قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ [البقرة: 266]، ونظيره كما في (الكشاف) أن تقول: أعددت الخشبة أن‏ يميل الحائط فأدعّمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدوّ فأدفعه، وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها، ووجّهه الزمخشري بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله، وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة ـ وكان للعلة علة ـ قدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة، ومثّله بالمثال الذي مثّل به (الكشاف)، وظاهر كلامه أنّ ذلك ملتزم ولم أره لغيره، والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكراما لك، وتارة تكون مركّبة من دفع ضر وجلب نفع بدفعه، فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازا في الكلام كما في الآية والمثالين، لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخذ بقولها حقّ المشهود عليه وقصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره الزمخشري.

14. ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحدا، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحا سواء كان قوله إحداهما ـ المظهر ـ فاعلا أو مفعولا به، فلا يظنّ أن كون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلا ينافي كونه إظهارا في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولا، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى، وهو موجود في الآية كما لا يخفى.

15. نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون:

أ. قال التفتازاني في (شرح الكشاف): (ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكّرة هي الناسية إلّا أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة)

ب. وقال العصام في (حاشية البيضاوي) (نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن‏ لفظ لأخرى بلفظ إحداهما) ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كان لم يقدم عليه، ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ يعني فهذا وجه الإظهار.

ج. وقال الخفاجي في (حاشية التفسير) (قالوا: إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم) يعني أنّه أظهر لئلّا يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلّا مذكّرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة، وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال:

çيا رأس أهل العلوم السادة البررة...ومن نداه على كل الورى نشره‏

ما سرّ تكرار إحدى دون تذكرها...في آية لذوي الأشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على‏...تكرار إحداهما لو أنّه ذكره‏

وحمل الإحدى على نفس الشهادة في‏...أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة

فغص بفكرك لاستخراج جوهره‏...من بحر علمك ثم ابعث لنا درره‏é

فأجاب الغزنوي:

çيا من فوائده بالعلم منتشره‏...ومن فضائله في الكون مشتهره‏

تضلّ إحداهما فالقول محتمل‏...كليهما فهي للإظهار مفتقره‏

ولو أتى بضمير كان مقتضيا...تعيين واحدة للحكم معتبره‏

ومن رددتم عليه الحلّ فهو كما...أشرتم ليس مرضيا لمن سبره‏

هذا الذي سمح الذهن الكليل به‏...والله أعلم في الفحوى بما ذكره‏é

وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره‏؛ إذ جعل إحداهما الأول مرادا به إحدى الشهادتين، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مرادا به إحدى المرأتين، ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في‏ مقام الإضمار، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزّه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: (ومن رددتم عليه الحلّ إلخ)

د. والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه معاد الضمير لو أضمر، وذلك يرشّح الجملة لأن تجري مجرى المثل، وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى، فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها.

16. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ عطف‏ ﴿وَلَا يَأْبَ﴾ على‏ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نهى من يطلب إشهاده عن أن يأبى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد، وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماما بما فيه التفريط، فإنّ المتعاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضدّه، وتسمية المدعوّين شهداء باعتبار الأوّل القريب، وهو المشارفة، وكأنّ في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعيّنت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء.

17. حذف معمول دعوا إمّا لظهوره من قوله ـ قبله ـ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأولى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معا؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله: ﴿الشُّهَدَاءِ﴾ لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلّا بعد التحمّل، ويبعده أنّ الله تعالى قال ـ بعد هذا ـ ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ [البقرة: 283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء، والذي يظهر أنّ حذف المتعلّق بفعل‏ ﴿دَعَوُا﴾ لإفادة شمول ما يدعون لأجله في‏ التعاقد: من تحمّل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البيّنة، قال ابن الحاجب: (والتحمّل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين ـ إن كانا اثنين ـ فرض عين، ولا تحلّ إحالته على اليمين)

18. القول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ ويظهر أنّ التحمّل يتعيّن بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلّا لضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلّا إذا تعيّن عليه: بأن لا يوجد بدله، وإنّما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان: بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعلمه بأنّه تقبل شهادته، وطلب المدّعي، وفي هذه التعليقات ردّ بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه.

19. قال القرطبي: (يؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهودا، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلّا تحمل حقوق الناس حفظا لها)، وقد أحسن، قضاة تونس المتقدّمون، وأمراؤها، في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممّن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من حسن النظر للأمة، ولم يكن ذلك متّبعا في بلاد المشرق، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان ممّا يعدّ في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولا عند القاضي فلان.

20. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل، والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا، والسآمة: الملل من تكرير فعل ما، والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب، والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون، وانتصب‏ صغيرا أو كبيرا على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كان مع اسمها.

21. تقديم الصغير على الكبير هنا، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السنة على النوم في قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير.

22. جملة ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مغيّا الدّين إلى أجله الذي تعاقدا عليه، والمراد التغيية في الكتابة.

23. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة: بأنّ الكتابة فيها زيادة التوثّق، وهو أقسط أي أشدّ قسطا، أي عدلا، لأنّه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أنّ المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بيّنة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهّمات، واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنّه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد، وفي الآية حجّة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعدّدة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه.

24. اشتقاق‏ ﴿أَقْسَطُ﴾ من أقسط بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قسط لأنّه بمعنى جار، وكذا اشتقاق‏ ﴿أَقْوَمُ﴾ من أقام الشهادة إذا أظهرها جار على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجّب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفرط، وجوّز صاحب (الكشّاف) أن يكون أقسط مشتقا من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغة نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل، واستشكل أيضا بأنّ صوغه من الجامد أشدّ من صوغه من الرباعي، والجواب عندي أنّ النسب هنا لما كان إلى المصدر شابه المشتق: إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقا من قام الذي هو محوّل إلى وزن فعل ـ بضم العين ـ الدال على السجيّة، الذي يجيء منه قويم صفة مشبّهة.

25. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله: ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾، وهو استثناء؛ قيل منقطع، لأنّ التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء، والتقدير: إلّا كون تجارة حاضرة، والحاضرة الناجزة، التي لا تأخير فيها، إذ الحاضر، والعاجل، والناجز: مترادفة، والدين، والأجل، والنّسيئة: مترادفة.

26. ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ بيان لجملة ﴿أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾ بل البيان في مثل هذا، أقرب منه في قول الشاعر ممّا أنشده ابن الأعرابي في نوادره، وقال العيني: ينسب إلى الفرزدق:

çإلى الله أشكو بالمدينة حاجة...وبالشّام أخرى كيف يلتقيان‏é

إذ جعل الزمخشري كيف يلتقيان بيانا لحاجة وأخرى، أو تجعل‏ ﴿تُدِيرُونَهَا﴾ صفة ثانية لتجارة في معنى البيان، ولعلّ فائدة ذكره الإيماء إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة، لأنّ إدارتها أغنت عن الكتابة، وقيل: الاستثناء متّصل، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجّلة إلى أجل قريب، فهي من جملة الديون، رخص فيها ترك الكتابة بها، وهذا بعيد.

27. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله: ﴿جُنَاحَ﴾ من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم رخصة، لأنّ رفع الجناح مؤذن بأنّ الكتابة أولى وأحسن، وقرأ الجمهور تجارة بالرفع: على أنّ تكون تامة، وقرأه عاصم بالنصب: على أنّ تكون ناقصة، وأنّ في فعل تكون ضميرا مستترا عائدا على ما يفيده خبر كان، أي إلّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، كما في قول عمرو بن شاس ـ أنشده سيبويه ـ:

çبني أسد هل تعلمون بلاءنا...إذا كان يوما ذا كواكب أشنعاé

تقديره إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، وقوله: ﴿إِلَّا﴾ أصله أن لا فرسم مدغما.

28. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غير تجارة حاضرة، وهذا إكمال لصور المعاملة: فإنّها إمّا تداين، أو آيل إليه كالبيع بدين، وإمّا تناجز في تجارة، وإمّا تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر، وقيل: المراد بتبايعتم التجارة، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة، وهذا بعيد جدا، لأنّ الكتابة ما شرعت إلّا لأجل الإشهاد والتوثّق.

29. ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ أمر:

أ. قيل هو للوجوب، وهذا قول أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وسعيد بن المسيّب، ومجاهد، والضحّاك، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، وجابر بن زيد، وداوود الظاهري، والطبري، وقد أشهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على بيع عبد باعه للعداء بن خالد بن هوذة، وكتب في ذلك (باسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم)

ب. وقيل: هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن، والشعبي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وتمسّكوا بالسنّة: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم باع ولم يشهد، قاله ابن العربي، وجوابه: أنّ ذلك في مواضع الائتمان، وسيجيء قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [البقرة: 283] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب وردّنا له عند قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾

30. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدرا للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدرا للإضرار: لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين، ليكون الكلام موجّها فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز.

31. المضارّة: إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدان أحد المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة، وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاما كثيرة تتفرّع عن الإضرار: منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان، ومنها استفساره استفسارا يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة.

32. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم، لأنّه الإضرار المستفاد من لا يضارّ مثل (اعدلوا هو أقرب) والفسوق: الإثم العظيم، قال تعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11]

33. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أمر بالتّقوى لأنّها ملاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق، وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعد بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوي سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم، وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح.

34. إظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث:

أ. لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالة، غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على معاد ضميرها، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي‏:

çاللّؤم أكرم من وبر ووالده‏...واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

واللؤم داء لوبر يقتلون به‏...لا يقتلون بداء غيره أبداé

فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومن ولدها، وما ولدته، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها.

ب. هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل، وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في (دلائل الإعجاز)، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يهتدى لأسبابها، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل: (ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها:

çأتحت ضلوعي جمرة تتوقّد...على ما مضى أم حسرة تتجدّدé

وقال لي: تأمّلها، فتأمّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقّط عليه وهو قوله:

çبجهل كجهل السيف والسيف منتضى‏...وحلم كحلم السيف والسيف مغمدé

فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعلّ القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّا من تركه؛ فقال: إنّما تركته لأنّه أعاد السيف أربع مرات، قال الصاحب: لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب ـ ثم قال ـ قاله أبو يعقوب: إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: 105] وقوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الصمد: 1، 2] عمل لولاه لم يكن.

وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله: (فما للنّوى جذّ النّوى قطع النّوى) حتى قيل: لو سلّط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النّوى، ثم قال: إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد:

çلمّا رأيت الشيب لاح بياضه‏...بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباé

(كان الواجب أن يقول: قلت له مرحبا، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم)

ج. ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر، كما تقدّم في بيتي الحماسة: (اللؤم أكرم من وبر) إلخ، وقد وقع التكرير متعاقبا في قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/571.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ احتاط الشارع الحكيم للديون المؤجلة، فأمر سبحانه وتعالى بكتابتها، ولم يكتف بذلك، بل أمر بالإشهاد عليها حتى لا تتعرض للضياع، ودعا المتداينين إلى أن يطلبوا شهودا عدولا يشهدون عند كتابة الدين، توثيقا للدين وتوثيقا للكتابة؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ أي اطلبوا وابحثوا وتحروا؛ فالسين والتاء للطلب.

2. ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ أي شاهدين عدلين؛ لأن (شهيد) صيغة مبالغة من شاهد، والمبالغة في معنى الشهادة تحرى معنى العدالة فيها، وأسباب المعاينة، وأن يكون التحمل على وجه التعيين والجزم، فالتعبير بشهيد دون شاهد إشارة إلى ضرورة العدالة وقوة الضبط وقوة الصدق والمروءة فيهما.

3. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ خرج به شهادة النساء من غير حضور الرجال، وشهادة غير المسلمين، وقال بعض المفسرين: إنه خرج به أيضا شهادة العبيد؛ لأن‏ ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي من أحراركم، وبنوا على ذلك بطلان شهادة العبيد من المسلمين، وهو قول الجمهور؛ وخالف في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وقرر أن شهادة العبيد من المسلمين، جائزة تلزم القضاء، وإنما نميل إلى ذلك الرأي من بين آراء الفقهاء، فإذا كان الموالي تقبل روايتهم عن رسول الله تعالى، فكيف لا تقبل شهادتهم في أمور الناس؟ ولأن‏ ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ يدخل في عمومها العبيد؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وهم من الرجال المؤمنين، وإخراجهم يقتضى إخراجهم من الخطاب بيا أيها الذين آمنوا، فكيف يخرجهم مفسر من ذلك الخطاب؟

4. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ في هذا بيان لشهادة النساء مع الرجال، وهو أنه إذا لم يكن رجلان يشهدان، يقوم مقامهما رجل وامرأتان؛ والمعنى: فإن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان يشهدان، واشترط فيهما ما هو الشرط في كل شهادة، وهو أن يكونوا ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ أى‏ من الذين يرتضى قولهم ويقبل، أي من العدول الذين يمارسون الشهادة ويقولون الحق، ويقيمونها على وجهها الحق، ويشهدون ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين.

5. التعبير بقوله: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ أدق في الدلالة على صدق الشهادة من العدالة؛ لأن العدل قد يكون مرضيا في دينه وخلقه ولكنه ممن يتأثرون بالمشاهد المؤثرة، فتخونهم ذاكرتهم في وقت الحاجة إليها، وقد يكون في الناس ذوو مروءات يمنعهم جاههم ومقامهم في الناس من أن يكذبوا، وإن كان منهم بعض المعاصي.

6. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ هذا بيان العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل؛ فالمعنى كانت المرأتان بدل رجل لتوقع أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى؛ فإن المرأة لقوة عاطفتها، وشدة انفعال نفسها بالحوادث، قد تتوهم ما لم تر، وهذا هو الضلال؛ فهو نسيان مع اعتقاد غير الواقع، أو ظن غير الواقع، وهذا النوع من الضلال يكثر في النساء والأطفال؛ فالحوادث تفعل في نفوس هؤلاء ما يجعلهم يتخيلون ما لم يقع واقعيا؛ ولهذا الضلال كان لا بد أن يكون مع المرأة أخرى بحيث يتذاكران الحق فيما بينهما، وليس من المعقول أن يتحد الضلال؛ ولذلك كان من المقررات الفقهية أن الرجال تسمع شهاداتهم على انفراد بحيث يسمع كل شاهد منفردا من غير أن يسمعه الآخرون من الشهود؛ أما المرأتان فتسمعان معا، لتتذاكرا إن كان ضلال من إحداهما أو منهما بحيث تذكّر كل واحدة الأخرى بما غاب عنها متوهمة سواه.

7. سؤال وإشكال: لماذا أظهر في موضع الإضمار، فقال سبحانه: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ ولم يقل فتذكرها الأخرى؟ والجواب: فيما يبدو لي أن إحداهما معناها واحدة منهما فالمعنى فيه: أن تضل واحدة منهما؛ فتذكر كل واحدة تضل الأخرى، فهما يتبادلان الخطأ ويتبادلان التذكير، فكان في إظهار المضمر إشارة إلى هذا المعنى، وإشارة إلى أنهما معا فيهما شهادة رجل متذكر غير ناس، إذ إن التصريح بـ ﴿إِحْدَاهُمَا﴾ ثانية تصريح بأن إحداهما والأخرى شهادة لا نسيان فيها، فهي شهادة رجل متذكر.

8. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أي لا يأب الذين اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم واطمأنوا إليهم عن الشهادة إذا دعوا إليها، سواء أكانت الدعوة للحضور وتحمل الشهادة كالشهادة في التوثيق بالكتابة، أم كانت الدعوة لأداء الشهادة عند الإنكار في مجالس القضاء؛ وإن هذا يدل على أن الشهادة إذا تعين الشاهد فرض أداؤها، وهذا تطبيق لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة] وقال بعض العلماء: إن أداء الشهادة عند الدعوة واجب، ولكن ليست إجابة الدعوة إلى تحمل الشهادة بحضور الكتابة ونحوها فرضا.

9. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا تملوا من كتاب الدين إلى أجله بأن تحدّوه وتبينوا أجله، سواء أكان الدين كبيرا أم كان الدين صغيرا، فلا يذهب بكم احتقار الصغر إلى إهماله وعدم كتابته؛ لأن الصغر والكبر لا حدود لهما، فقد يكون صغيرا في نظر غنى مليء، ويكون كبيرا خطيرا عند غيره؛ ولأن إهمال الصغير يؤدى إلى جحوده، وعندئذ تذهب الثقة، وإذا ذهبت ساد التناحر والتنازع؛ ولأن التهاون في الصغير قد يؤدى إلى التهاون في الكبير؛ وإن التشديد في كتابة الصغير والكبير يدل على أن الأمر بالكتابة للوجوب كما بينا.

10. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ الإشارة هنا إلى كل ما ذكر من الأمر بالكتابة، والنهى عن الامتناع عنها، والأمر بالاستشهاد، والنهى عن الامتناع عن الشهادة، والأمر بكتابة الصغير والكبير؛ وإن هذه الجملة السامية فيها تعليل للتشديد في الأوامر السابقة، وقد تعللت هذه الأوامر والوصايا بثلاثة أمور:

أ. أولها: أنها أقسط عند الله، أي أنها أعدل في ذاتها؛ لأنها أعدل عند الله تعالى، وكل ما يكون أعدل في علم الله تعالى فهو الأعدل في ذاته، وكانت الأعدل في ذاتها؛ لأنها حماية لنفس المدين من الجحود، وحماية لحق الدائن من الضياع، فهي حماية للفريقين.

ب. الثاني: أنها ﴿أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ أي أن الكتابة والشهادة على الكتابة أشد تقويما للشهادة والإتيان بها مقومة عادلة ثابتة لا زيف فيها ولا اضطراب؛ والمراد بالشهادة الإثبات، أي أن الكتابة والإشهاد عليها أقوم طريق للإثبات والحكم، وقد فهم بعض العلماء من هذا أنه يجوز أن يستعين الشاهد بما كتب وقت المعاينة عند تحمل الشهادة.

ج. الثالث: أنها ﴿أَدْنى‏ أَلَّا تَرْتابُوا﴾ أي الأوامر السابقة والوصايا إذا نفذت على وجهها أقرب إلى ألا يكون ريبا وتظننا في التعامل، والريب والتظنن ونحوهما يفقد الثقة، وإذا فقدت الثقة بين المتعاملين فسد التعامل، وانحلت عرى التضافر الاجتماعي، والتعاون الإسلامي، والاقتصادي.

11. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ التجارة الحاضرة التي تدور بين التجار، هي التي يجرى فيها التقابض في المجالس، أو التي يتأخر فيها الأداء ساعة أو بعض يوم أو نحو ذلك، ووصفت بأنها تدور؛ لأن هذا يعطى وذاك يأخذ، وقد يطلب هذا بضاعة ويدفع ثمنا مرة، ثم يعطى بضاعة أحيانا، وسميت حاضرة؛ لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر؛ فهذا النوع من التعامل ليس هناك جناح أو إثم في ألّا يكتب؛ وإن الاستثناء على هذا يكون استثناء منقطعا؛ لأنه إذا كانت التجارة حاضرة بمعنى أن الثمن والمبيع كلاهما حاضر مهيأ للدفع، وإن تأخر أحدهما قليلا من الزمن لا يعد تأجيلا، فإنه ليس ثمة دين داخل فلا أمر بالكتابة حتى يكون الاستثناء منه، ف (إلا) هنا بمعنى (لكن)، وفى نفى الجناح والإثم إشارة إلى أمرين: أولهما ـ أن الأولى الكتابة، وثانيهما ـ أن غير ذلك يأثم فيه من لا يكتب؛ فالكتابة واجبة في غير موضع الاستثناء، لأن الامتناع عن موضع الإثم واجب.

12. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ هذه وصية جديدة من وصايا التعامل، وهو الإشهاد على البيع، وقد قرر الظاهرية أن الإشهاد على البيع واجب بحيث لو لم يشهد المتبايعان على البيع يأثمان، وإن كان البيع يقع صحيحا؛ وذلك لأن الظاهرية قرروا أن الأمر للوجوب حتى يوجد دليل يمنع الوجوب، ولم يوجد عندهم الدليل، وقال الجمهور: إن الإشهاد في البيع غير واجب، وإنما هذا إرشاد وتعليم مجرد؛ وذلك‏ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم كان يتبايع ولا يشهد، حتى لقد جحد البائع العقد مرة فشهد له خزيمة، وعندى أن الإشهاد في بيع الأشياء التي تبقى يجب، حتى يعلم الناس انتقال اليد فيه، وانتقال الحوزة، وليمنع الجحود.

13. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ كلمة (يضار) تحتمل أن تكون للفاعل، ويحتمل أن تكون بالبناء للمجهول، والمعنى على الأول نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضررا بأحد المتعاملين، بأن يبخس الكاتب أحدهما، أو يشهد الشاهد بغير الحق؛ والمعنى على الثاني: وهو الظاهر ـ لا يصح أن ينزل ضرر بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق، فإنهما أمينان، وإضرار الأمناء يحملهم على الخيانة وفى ذلك ضياع للأمانة، وذهاب للثقة؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي إن تفعلوا الضرر بالشاهد والكاتب، وتنزلوا الأذى بهما فإن ذلك يكون فسوقا بكم، أي معصية وخروجا عن جادة العدل يحل بكم، وينزل في جماعتكم فتضيع الحقوق، وتذهب الأمانات، وتمحى الثقة في التعامل، ولا يمكن إقامة حق وخفض باطل، فخير الجماعة في حماية الذين يوثقون الحقوق من كاتبين وشاهدين.

14. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بما يربى المهابة للأوامر العلية والوصايا الإلهية؛ وقد اشتمل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:

أ. أولها: تقوى الله، فإنها نور القلب، وهى الشعور بمراقبة الله، وفى ذلك إشارة إلى وجوب مراقبة الله عند التعامل، ونية الأداء.

ب. ثانيها: الإشعار بأن هذا تعليم من الله اللطيف الخبير، ليحسن التعامل، ويقوم على أسس من الثقة والاطمئنان ومنع الريب.

ج. ثالثها: الإشعار بإحاطة علم الله، فما يأمر به هو أمر عليم حكيم يعلم وجه المصلحة، وهو عليم بالضمائر، وهو الذي يتولى السرائر.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1072.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، هذا هو النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله في الدين، الأول الكتابة، والثاني الاشهاد، واستشهدوا، أي أشهدوا، يقال: استشهدت الرجل، واشهدته بمعنى واحد، والشهيدان هما الشاهدان، وقد اعتبر القانون الوضعي وجود شاهدين في تحرير العقود الرسمية، تماما كما جاء في القرآن.

2. ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ استدلّ به الفقهاء على ان الشاهد يشترط فيه الإسلام، وقال الشيعة الامامية والحنفية: هذا إذا كان المشهود عليه مسلما، أما إذا كان غير مسلم فان شهادة أهل ملة تقبل على ملتهم، وقال المالكية والشافعية: لا تقبل شهادة غير المسلم، حتى ولو كان على مثله، (المغني وفتح القدير، باب الشهادة)

3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، تثبت الحقوق المالية بشهادة رجلين، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين باتفاق المذاهب إلا أبا حنيفة فإنه قال لا يقضى بشاهد ويمين، والقرآن الكريم ذكر شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين فقط، أما ثبوت الحق المالي بالشاهد واليمين فقد صرحت به السنة النبوية.

4. سؤال وإشكال: هل يثبت الحق المالي بشهادة النساء فقط؟ ثم هل يثبت بشهادة المرأتين ويمين، كما ثبت بشهادة الرجل واليمين؟ والجواب: اتفقت المذاهب على ان الحقوق في المال لا تثبت بشهادة النساء مفردات عن الرجال، وبدون يمين، واختلفت في ثبوتها بشهادة امرأتين ويمين، قال المالكية والامامية: يثبت، وقال غيرهم: لا يثبت.

5. قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ يحتمل معنيين:

أ. الأول أن يكون المراد من الرضا خصوص الرضا لنفس هذه الشهادة الخاصة، لا للشهود بما هم مرضيون دينا وصلاحا بصرف النظر عن شهادتهم هذه وغيرها، وعلى هذا فلا تشترط العدالة في الشاهد، بل يكفي أن يثق القاضي بأن شهادة الشاهد مطابقة للواقع، كما هو شأن الشهادة في القوانين الوضعية، حيث تركت تقدير الشهادة للقاضي وحده.

ب. الثاني أن يكون المراد الرضا للشهود أنفسهم بما هم مرضيون دينا وصلاحا، وعليه فلا بد من عدالة الشاهد نفسه.. ولفظ الآية يحتمل هذا المعنى والمعنى الأول، ولكن الاخبار وفتوى الفقهاء يرجحان ارادة العدالة في الشاهد نفسه.. قال الإمام علي عليه السلام: (اشهدوا ممن ترتضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته)، وعلى هذا إذا شهد العدلان فعلى القاضي أن يحكم بموجب شهادتهما، سواء أحصل له العلم من قولهما، أم لم يحصل تعبدا بالنص، أما إذا شهد عنده غير العدول فلا يحكم بشهادتهم الا إذا حصل له العلم من أقوالهم، بحيث يكون العلم هو المصدر للحكم، لا شهادة غير العدول.

6. سؤال وإشكال: لماذا قال تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، ولم يقل‏ فتذكرها الأخرى، فأعاد الاسم الظاهر، وهو إحداهما في جملتين لا فاصل بينهما بعيد أو قريب؟ والجواب: أجيب عن ذلك بوجوه خيرها جميعا ان شهادة المرأتين لما كانت بمنزلة شهادة الرجل الواحد وجب الجمع بين المرأتين لتؤدي كل منهما شهادتها على مسمع من الثانية، حتى إذا تركت شيئا من الشهادة ذهولا عنه ذكرتها الأخرى، فإذا انتهت الأولى أدت الثانية بمحضر من زميلتها، ومثلت الدور الذي مثلته تلك، وعليه تكون شهادة كل منهما متممة لشهادة الأخرى، وهذا المعنى لا يتأدى الا بإعادة لفظ إحداهما، لكي ينطبق على الاثنتين، ولو قال فتذكرها الأخرى لكان المعنى لئلا تنسى واحدة فتذكر الثانية، فتكون إحداهما ناسية، والأخرى ذاكرة، وليس هذا بمراد، وإنما المراد ان كلا منهما تذكر الأخرى كما قدمنا، وتجمل الاشارة الى انه لا يجب الجمع بين الشهود إذا كانوا رجالا، بل التفريق أولى على العكس من النساء الشاهدات.

7. سؤال وإشكال: ما هو السر في ان شهادة امرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد؟ والجواب: أجيب عن هذا السؤال بأوجه، منها ان المرأة ضعيفة العقل، ومن الطريف جواب بعض المفسرين بأن مزاج المرأة تكثر فيه الرطوبة.. ولو صح هذا القول يكون كل رطب المزاج نصف شاهد، حتى ولو كان رجلا، وكل حار المزاج يكون شاهدا كاملا، حتى ولو كان امرأة.. وأرجح الأقوال نسبيا ان الرجل يملك عاطفته وهواه أكثر من المرأة ـ غالبا ـ والجواب الصحيح ان علينا ان نتعبد بالنص، حتى ولو جهلنا الحكمة منه.

8. تجمل الاشارة الى أن القاضي قد تركن نفسه الى شهادة امرأة واحدة، ويحصل له العلم من قولها أكثر مما تركن نفسه إلى شهادة عشرة رجال غير عدول.. والقاضي يجوز له أن يقضي بعلمه إذا تكوّن هذا العلم من ظروف الدعوى وملابساتها وقرائنها، ولو كانت هذه القرينة شهادة امرأة، ما دامت وسيلة للعلم أو الاطمئنان.

9. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، إذا دعاك داع لتشهد له على حق أو دين وجب عليك أن تستجيب لدعوته على الكفاية، أي إذا قام غيرك بهذه المهمة سقط الوجوب عنك، والا كنت مسؤولا أمام الله سبحانه، والدليل هذه الآية، والحديث الشريف: (إذا دعاك الرجل، لتشهد له على حق أو دين فلا يسعك أن تتقاعس عنه)

10. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾، السأم الملال، والضمير في تكتبوه يعود الى الدين أو الحق، والقصد هو الحث على كتابة الدين من غير فرق بين قليله وكثيره، ما دام الغرض التحفظ من وقوع النزاع والخلاف.

11. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾، أي ان كتابة الدين والاشهاد عليه أعدل وأبلغ في الاستقامة وأقرب الى نفي الشك والارتياب.

12. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه أمر بالكتابة أولا في قوله: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ وثانيا: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ﴾، وثالثا أشار الى الحكمة من ذلك بأن الكتابة أقسط وأقوم وأدنى، ومع كل هذا فقد أفتى الفقهاء باستحباب الكتابة، لا بوجوبها، لسيرة المسلمين القطعية منذ الصدر الأول، حتى اليوم، ونحن معهم في ذلك، ولكن هناك شيء آخر غير كتابة الدين، والاشهاد عليه، وهو ان الفقهاء قد أوجبوا على القاضي أن يحكم بموجب البينة العادلة، حتى ولو لم يحصل له العلم منها، وما ذاك إلا تعبدا بالنص.. ولكن الفقهاء لم يعتبروا الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة، وقالوا: لا يجوز الحكم بموجبها الا إذا أوجبت العلم أو الاطمئنان.. ألا يدل هذا الأمر المتكرر بالكتابة على انها طريق لإثبات الحق، ولو بالدلالة الالتزامية؟ والجواب: ان الأمر بكتابة الدين صونا للحق الثابت شيء، واعتبار البينة العادلة طريقا لإثبات الحق شيء آخر، ومن هنا يجب الحكم بموجب البينة، سواء أقرّ بها المحكوم عليه، أو أنكرها، أما الكتابة فلا بد من سؤال المدعى عليه عنها، فان أقر بها دخلت في باب الإقرار، وان أنكرها احتاج إثباتها الى وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة أو اليمين أو الاختبار والمقابلة بينها وبين خط الكاتب، وعليه فلا تكون الكتابة وسيلة مستقلة بذاتها، كما هو الشأن في البينة.

13. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ الكلام هنا في التجارة الحاضرة، واباحة عدم كتابتها، ومعنى التجارة الحاضرة البيع بثمن معجل، لا مؤجل، ومعنى تديرونها بينكم تتناقلونها من يد إلى يد، فيأخذ البائع الثمن من المشتري، ويأخذ المشتري المثمن من البائع، وينتقل بذلك ما كان في يد كل الى ملك الآخر.

14. محصل المعنى انه لا بأس عليكم بترك الكتابة في المعاملات التجارية التي تقع بينكم بثمن معجل، أما السر لإباحة ترك الكتابة في ذلك فلأن مثل هذا البيع المعروف ببيع المعاطاة يجري كثيرا بين الناس، فلو كلفوا بكتابة الصكوك لكل المبيعات لشق الأمر عليهم، بخاصة في الأشياء الصغيرة.

15. كيف كان، فان المسائل التجارية يوكل الشارع الأقدس أمرها الى الناس يديرونها بينهم حسبما تستدعيه مصالحهم، فان كانت المصلحة في الكتابة والتسجيل فعلوا، كما هو شأنهم في بيع العقارات، وغيرها من المنقولات الثمينة كالسيارات، وما اليها، وان كانت المصلحة في ترك الكتابة تركوها، كما هي عادتهم في بيع المأكول والملبوس.. وإذا أمر الله بكتابة الدين والبيع، أو رخص بتركها فإنما يأمر استحبابا وإرشادا إلى ما يجنبهم المشاكل والمتاعب.. أجل، انه تعالى ينهاهم تحريما عن الغش والتغرير، والربا والاستغلال، وأكل المال بالباطل من غير عوض ومقابل.

16. سؤال وإشكال: ان نفي الجناح عن ترك كتابة التجارة الحاضرة يشعر بأن ترك كتابة الديون فيه جناح، وعليه تكون كتابة الديون واجبة خلافا لما عليه الفقهاء الذين قالوا باستحبابها، لا بوجوبها، والجواب: ان المراد بقوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ نفي البأس والمضرة الدنيوية، لا نفي الإثم والمضرة الاخروية، كي يكون الأمر بكتابة الديون للوجوب.

17. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، اتفق الفقهاء على ان الاشهاد على البيع ندب، لا فرض إلا الظاهرية، فإنهم قالوا بأنه فرض، لا ندب عملا بظاهر اللفظ.

18. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، إذا اتفق المتبايعان على الكتابة والاشهاد في الدين أو البيع فعلى الكاتب أن يكتب بالعدل، وعلى الشاهد أن يشهد بالحق.

19. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾، الفسوق هو الخروج عن طاعة الله، وكل من‏ فعل شيئا نهى الله عنه، أو ترك شيئا أمر الله به فهو فاسق خارج عن طاعة الله، مستحق لغضبه وعقابه.

20. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في الطاعة لجميع أوامره ونواهيه، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، يعلمكم ما فيه خير لكم دينا ودنيا، وبديهة ان الله سبحانه لا يعلمنا مباشرة، ولا يلقي العلم في عقولنا وقلوبنا إلقاء، وإنما يعلمنا بواسطة الوحي الذي ينزله على أنبيائه، هذا الوحي الذي يتضمن كل ما فيه هدايتنا وإرشادنا إلى المصالح التي تضمن بقاءنا وسعادتنا.

21. قال الصوفية كلهم أو جلهم: لا سبيل الى المعرفة والعلم بالله ووحيه، والشريعة وأسرارها إلا الايمان والتقوى، فمن اتقى الله عرفه وعرف شريعته وأحكامها، وعرف الآخرة وأهوالها، وفهم القرآن والحديث من غير درس وتعلم، ويسمون علمهم هذا بالعلم اللدني، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، ولفظ الآية الكريمة يأبى هذا الاستدلال، لأنه لو كان كما قالوا لجزم يعلمكم جوابا لاتقوا، ولاقترن الجواب بالفاء، لا بالواو.. هذا، الى ان من أمعن الفكر في قول الصوفية هذا يجده أشبه بهذيان المحموم الذي يلغو ويقول: ان البيت لا يتم بناؤه إلا بعد السكن فيه، وان الثوب لا يتم نسيجه إلا بعد لبسه، ولا أدري كيف يدعي الصوفية العلم بالحديث، وقد تواتر عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين.. العلم بالتعلم)؟ ونحن لا نشك أبدا في أن النظريات تتبلور بالتطبيق والعمل، وان العالم العامل تتفتح له أبواب بمعلومات جديدة، ولكن هذا شيء، وكون التقوي وسيلة الى المعرفة شيء آخر.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/446.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾، على تقدير حذر أن تضل إحداهما، وفي قوله: ﴿إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى، فالمعنيان مختلفان.

2. ﴿وَاتَّقُوا﴾ أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر والنهي، وأما قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، فالمراد به‏ الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.

3. ما قيل: إن قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ يدل على أن التقوي سبب للتعليم الإلهي، فيه أنه وإن كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها، ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فإنه لولا كون قوله‏: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق أن يقال: يعلمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، أظهر الاسم أولا وثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل، كأنه قيل: هو بكل شيء عليم لأنه الله.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/435.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا﴾ على الإملاء أو على المداينة ﴿شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فلا يكتفى بالصبيان ولا بالنساء ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ﴾ حيث لم يوجد رجلان أو لم يرضيا ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ يجزون عن رجلين ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ وهم العدول حيث يوجد العدول، والمعروفون بالصدق الموثوق بهم عند عدم العدول كما في كثير من الأقطار؛ لأنهم يكونون مرضيين للضرورة أي موثوق بهم، وقد أجاز الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي الحسيني العمل بشهادتهم إذا حصل الظن بصدقها، وظاهر الآية: العموم لمن وثق به المتعاملون.

2. ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ والضلال قد يكون النسيان، فالتذكير للناسي تذكيره بالدين وما حضر عليه من المعاملة، وقد يكون الضلال العدول عن طريق الحق والعزم على كتمان الشهادة أو تغييرها عن وجهها فتذكيره تخويفه بالله، وظاهر الضمير في إحداهما للمرأتين فهو تعليل لإيجاب امرأتين بدلاً من رجل.

3. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ أعتقد أنه كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ﴾ فالمعنى لا يأبوا تحمل الشهادة إذا ما دعوا؛ فهو أمر لهم بإجابة طلب المتعاملين المأمورين باستشهادهم، وسمُّوا شهداء كما سمّوا في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ فأما تحريم كتمان الشهادة فيأتي في الآية التي بعد هذه، وهذا لأن السياق ما زال في أول المعاملة وما يجب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ وهذا تأكيد للأمر بالكتابة وتحذير من التكاسل والتساهل بأمر الكتابة، والسآمة: الملل والضجر فلا تجوز؛ لأن هذا واجب أوجبه الله، وقوله تعالى: ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ تأكيد للأمر بكتابة الأجل.

4. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ أقسط عند الله أي كتابة الدين إلى أجله أعدل عند الله؛ لئلا يؤخذ في القضاء أكثر من الحق ولا ينقص من الدين شيء ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ لأن الشهود بالكتابة يتذكرون، فيشهدون شهادة قيمة لا عوج فيها، وأدنى أي أقرب لئلا ترتابوا، فلا يرتاب الذي عليه الحق بتوهمه أنه قد طلب بأكثر مما عليه، ولا يرتاب الذي له الحق بتوهمه أن الذي عليه الدين يريد أن ينقصه مما له، فالكتابة تمنع الريب؛ لأنها تذكرهما بالحقيقة، وتمنع التوهم والغلط، وهذا تأكيد لإيجاب الكتابة، ودلالة على وجوبها لئلا يقع نزاع أو ارتياب يفسد ذات البين فهي من المحافظة على صلاح ذات البين.

5. ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾ تجارة حاضرة أي كلا العوضين حاضر، تديرونها بينكم فتداولها الأيدي لطلب الربح فيها فلا جناح في ترك الكتابة؛ لأنه لا يكون نزاع على أحد العوضين لعدم التأجيل.

6. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ ليشهد الشهود على ذلك عند الحاجة؛ لأن الأصل بقاء المال للبائع إذا لم يثبت البيع إذا لم يرتفع الأصل باليد، وقد تكون مشكلة إذا شهد الشهود على ملك البائع لأنهم لا يعلمون البيع، ويمكن أن يقاس مظنة الخلاف على الدين فتجب الكتابة؛ لا لأجل الخلاف في قدر الثمن؛ بل لأجل نفي البيع جملة والتشاجر فيما بعد؛ وهذا في الأراضي والدور الموروثة، فأما المستهلكات والأشياء الحقيرة والتي لا يعرف ملك البائع فيها لقرب عهده باستفادته، أي لو أنكر البيع ما وجد شهوداً على الملك فلا بأس، ويمكن أن يؤخذ من قوله تعالى: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ إذا كان الشهود ينسون مع طول المدة؛ وهذا لأن قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ في سياق التوثيق بسبب التأجيل، وهنا سبب آخر في بعض المعاملة غير التأجيل وليس من التخصيص بالقياس؛ لأن الأقرب في قوله تعالى: ﴿تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ أنه في الذي تتداوله الأيدي لطلب الربح؛ وهذا بعيد عن المشكلة بخلاف الموروث الذي يباع، فليس بيعه تجارة؛ لأن التجارة ما يطلب فيه الربح، وكذلك قد يحدث الخلاف في الحدود أو الحقوق في الأراضي والدور.

7. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ الراجح في هذا أن أصله (ولا يضارَر) بفتح الراء الأولى، بدليل الخطاب بعده بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا﴾ ولم يقل: وإن يفعلا، أو إن يفعلوا؛ لأن حث الكاتب على العدل قد سبق، فترجح أن المراد نهي الغرماء عن مضارة الكاتب أو الشهيد؛ وذلك ليكتموا الحق فيقول الكاتب: ليس هذا خطي، والشهود: لا نعلم هذا؛ خوفاً من الغريم، أو يقول الكاتب: أنا غلطت في الكتابة والصواب أقل أو أكثر؛ ليسهل للشهود الباطل إذا خافوا أو ليشكك عليهم إذا كانت المدة قد طالت ومضارّتهم بعد أداء الحق والشهادة على وجهها معاقبة لهم من الغريم الظالم ومن الضرار: تهديدهم إن شهدوا بالحق، ومن الضرار: إدخالهم في خصومة شديدة، فإذا شهدوا قال الغريم: لا تصح شهادتهم عليّ لأنهم غرماء حاقدون، فالآية تنهى عن الضرر كله وبأي شكل كان، وقد جعلها الإمام القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بمعنى فتح (الراء) وبمعنى كسره، حملاً للمشترك على معنييه.

8. ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ خروج بكم عن الحق إلى الخباثة والفجور.

9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فلا تخالفوا في شيء مما في هذه الآية الكريمة ولا غيرها ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ العلم النافع، فاعملوا به، واشكروا الله عليه ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فتعليمه الحق والصواب وهو ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن اتبع تعليمه ومن خالف، فيجزي كلاً بما يستحق.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/408.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ جعل الله الشهادة طريقا من طرق إثبات الحق، وذلك من خلال البيّنة التي تتمثل في شاهدين عدلين، ولا بد من أن يكونا بالغين عاقلين راشدين حافظين مسلمين، وهذا مستوحى من قوله: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي ممن كان على دينكم.

2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ فإنهما تقومان مقام الرجل في‏ الشهادة، أما السبب في ذلك، فهو ما ذكره الله سبحانه بقوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، وقد يكون الأساس فيه هو قوّة الجانب العاطفي الذي تقتضيه طبيعة الأمومة التي تحتاج في تحمّل مسئولياتها وأعبائها الثقيلة المرهقة إلى رصيد كبير من العاطفة، كما تقتضيه طبيعة الأنوثة التي توحي بالأجواء والمشاعر العاطفية المرهفة التي تثير في الجو الزوجي الحنان والعاطفة والطمأنينة، وربما تتغلب العاطفة فتنحرف بالمرأة عن خط العدل في الشهادة وتضلّ عن الهدى، لا سيما إذا كان جوّ القضية المشهود بها يوحي بالمأساة في جانب المشهود عليه أو المشهود له، فتتجه العاطفة إلى مراعاة مصلحته من خلال الحالة المأساوية الخاصة التي تحيط به، فكان لا بد من امرأة مثلها تصحح لها الخطأ، وتذكرها المسؤولية، وتترك للحاكم المجال لممارسة حريته في الوصول إلى الحق من خلال ذلك، وليس في القضية امتهان لكرامة المرأة، لأن العاطفة ليست شيئا ضد القيمة في شخصيتها، بل هي قيمة إنسانية كبيرة، ولكن الله أراد لها أن تعيش الضوابط الداخلية والخارجية التي تحميها من الانحراف في الجانب الأقوى منها، على أساس الاحتياط للعدالة التي أراد الله للإنسان أن يبلغها في كل ما يحدث من قضايا وأوضاع على مستوى الفرد أو المجتمع.

3. سؤال وإشكال: إننا نسلّم بأن رصيد المرأة من العاطفة أقوى من رصيد الرجل منها، ولكننا نعرف ـ مع ذلك ـ بأن التربية الموجّهة قد تضعف هذا الجانب في المرأة فتسير به إلى خط التوازن، كما أن التربية المنحرفة، أو عدم التربية السليمة، قد تقوي الجانب العاطفي في الرجل إلى مستوى الانحراف، وتضعف فيه الجانب العقلي إلى مستوى كبير، فكيف نواجه مثل هذه الحالة؟ هل تنعكس القضية فيحتاج الرجل العاطفي إلى رجل آخر يذكّره إذا ضلّ، وهل يمكن الاكتفاء بشهادة مثل هذه المرأة المتوازنة العاطفة إلى جانب شهادة رجل آخر؟ أم أن التشريع يبقى كما هو في ترجيح دور الرجل على دور المرأة مهما كان الرجل ضعيفا ومهما كانت المرأة قوية؟ والجواب: من الوجوه التالية:

أ. التشريعات المتعلقة بالرجل والمرأة في توزيع أدوارهما العملية في جوانب الحياة، لا تنطلق من الخصائص الفردية التي يتمتع بها الأفراد في أسباب التشريعات وحيثياتها، لأن الخصائص الذاتية للشخصية الفردية لا تخضع للضوابط العامة للأشياء، فقد تختلف في الشخص الواحد، حسب اختلاف الظروف التي تترك تأثيراتها الإيجابية والسلبية على حركة الشخصية في صعيد الواقع العملي، بل لا بد من أن تنطلق أسس التشريع من الخصائص النوعية العامة التي تتمثل البعد الإنساني التكويني للشخص، وذلك ليمكن وضع الضوابط العامة للقضايا والأشياء.

ب. وعلى ضوء ذلك، لا بد لنا من ملاحظة العنصر النوعي في شخصية الرجل والمرأة من حيث تكوينهما الطبيعي في إيجابيات القضايا وسلبياتها، مع الاستفادة من الخصائص الذاتية للفرد في تفصيلات الموضوع في حركة العدالة في مجال القضاء.. هذا بالإضافة إلى أن التربية الموجهة، في جانبها الإيجابي، أو التربية المنحرفة، في جانبها السلبي، قد تخلق طبيعة ثانية فاعلة أو منفعلة في حياة الإنسان، ولكنها لا تمنع من يقظة نقاط الضعف أمام بعض المواقف، مما يجعل جانب الاحتياط للعدالة منسجما مع الخط النوعي للشخصية الإنسانية.

ج. ولا بد لنا من أن نشير في هذا المجال إلى أن طبيعة التشريع لا تمنع من وجود سلبيات إلى جانب الإيجابيات، لأنه ليس هناك فعل يكون خيرا كله أو شرا كله، بل هناك خير يصاحب بعض الشر أو شرّ يصاحب بعض الخير، مما يجعل القضية، في جانب الوجوب أو الحلّية، خاضعة لزيادة جانب الخير على جانب الشر، أما في طرف التحريم، فتخضع للعكس، وهو غلبة جانب الشر على جانب الخير، فلا بد من السلبيّات على كل حال، ولكنها تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقيصة تبعا لطبيعة الموضوع في أجواء التشريع، والله العالم بحقائق أحكامه.

4. قوله تعالى‏: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، وضع الظاهر موقع المضمر، وربما قيل: إن المناسب أن يقول (فتذكرها الأخرى)، وأجاب صاحب الميزان عن ذلك فقال: (والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى، فالمعنيان مختلفان)، وهو جيّد، وربما كان ذلك للتأكيد، ولعله أقرب، لأن كلمة إحداهما الأولى تختزن في داخلها المعنى الأول الذي ذكره تفسيرا للكلمة الثانية، فيمكن الاستغناء بها عنها، وهناك وجهان آخران ذكرهما صاحب المجمع:

أ. الأول: أنه إنما كرر ليكون الفاعل مقدما على المفعول، ولو قال فتذكرها الأخرى، لكان قد فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، وذلك مكروه، و(الثاني) ما قاله حسين بن علي المغربي إن معناه أن تضل إحدى الشهادتين، أي تضيع بالنسيان، فتذكر إحدى المرأتين الأخرى لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى، ويؤيد ذلك أنه لا يسمي‏ ناسي الشهادة ضالا، ويقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت‏، وهما بعيدان.

ب. الثانية: أن المفسرين فسروا الضلال في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ﴾ بالنسيان، فقد جاء في تفسير الكشاف: (أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها)، وجاء في مجمع البيان (أي تنسى إحدى المرأتين)، وعلى ضوء ذلك، فسّر قوله: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾، بقوله: (قيل: هو من الذكر الذي هو ضد النسيان، الربيع والسدّي والضحاك وأكثر المفسرين، والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي تحملّتاها، ومن قرأ: ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بالتخفيف من الاذكار، فهو بهذا المعنى أيضا، أي يقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا وبحضرتنا فلان أو فلانة حتى تذكر الشهادة، وهذا لأن النسيان يغلب على النساء أكثر مما يغلب على الرجال)

5. نلاحظ على ذلك أنهم حاولوا تفسير كلمة ﴿تُضِلُّ﴾ من خلال كلمة ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ من جهة ما قرروه من ظهور كلمة التذكير بالعمل على إعادة الفكرة إلى ذاكرة الناسي، ولكن الأقرب هو أن تكون كلمة ﴿تُضِلُّ﴾ مفسرة للتذكر، لأن المطلوب في سلامة الشهادة أن لا يتأثر الشاهد بأية حالة من الحالات التي تؤدي إلى الشهادة بخلاف الواقع، سواء كان ذلك من جهة النسيان أو الخطأ الناشئ من اشتباه الأمور عنده كنتيجة للخلل في الرؤية أو في فهم الموضوع من دون انتباه الى ذلك، ولهذا، فإن النسيان لا خصوصية له في الموضوع، بل الخصوصية للضلال، وهو الابتعاد عن الحق من خلال أسبابه الطبيعية.

6. سؤال وإشكال: المفروض عدالة الشاهدة، فكيف تخضع المرأة للخلل‏ في الرؤية أو للفهم السيئ لتشهد على أساس ذلك، في الوقت الذي تفرض العدالة عليها أن تدقق في المشهود به، فلا يتناسب الإقدام على الشهادة في حالة الخطأ مع العدالة؟ والجواب: من الوجوه التالية:

أ. قد يكون من غير التفات إلى أساس الخطأ كما في الكثير من حالات الاستغراق في الأشياء بحيث ينفتح الإنسان فيها على جانب واحد، فلا ينافي ذلك العدالة، كما لا ينافيها النسيان، لأنّ من الممكن أن تكون الحالتان غير اختياريتين.

ب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التذكير قد يتمثل في الإخراج من الغفلة كما يتمثل في الإخراج من النسيان، أو من حالة الخطأ على سبيل الجهل المركّب، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ وغيرها من الآيات التي تعتبر التذكير رسالة الأنبياء الذين يبلّغون الناس رسالات الله لإخراجهم من ضلالهم لينتبهوا إلى حقائق الأمور وقضايا المصير التي كانوا يعيشون الفكرة الخطأ في طبيعتها وتفاصيلها.

7. من الغريب ما جاء في هذا الكلام من أن النساء أكثر نسيانا من الرجال، ولكنّ ذلك لم يثبت علميا ولا وجدانيا، بل هما على حدّ سواء، لأن أسباب النسيان قد تعيش في داخل الرجال والنساء لتؤثر فيهم، وربما تحدث للرجل من خلال بعض الحالات الداخلية أو الخارجية الضاغطة المؤدية إلى ذلك بما لا تحدث للمرأة، لذلك، فإن الأقرب ـ والله العالم ـ أن يكون المراد من الضلال معناه الواسع الذي يتمثل في الابتعاد عن الحق في الشهادة، إما خطأ أو غفلة أو نسيانا، ليكون التذكير شاملا لأية حالة تنبيه على الخطأ.

8. ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ الظاهر من ذلك هو الرضا بلحاظ حالة الوثاقة التي تحصل من العدالة التي هي الاستقامة على الخط الشرعي الذي يبعث على الصدق ويمنع عن الكذب.

9. ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ فإن الشهادة هي مسئولية الناس من أجل الوصول إلى الحقيقة التي ينبغي تركيز الحياة على قواعدها الثابتة، فلا بد من تحمّلها إذا دعي إلى ذلك، لأن ذلك هو سبيل إقامة العدل ومحاربة الظلم، ولولا ذلك لكانت إقامة البينة معتمدة على الصدفة من دون أي أساس للإلزام.

10. ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي لا يدفعكم الملل أو الضجر اللذان قد ينشئان من الأوضاع النفسية أو من انتظار تهيئة الأجواء أو الشروط الضرورية للشهادة والكتابة، إلى أن ترفضوا الكتابة أو تمتنعوا من الدخول في تفاصيل الموضوع صغيرا أو كبيرا إلى الوقت المحدد له، فلا بد من توضيح الصورة للحق مهما كان حجمها ليقف الناس عندها من دون حاجة إلى الجدال والنزاع.

11. ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ فإن أقرب الأمور إلى العدل عند الله، وأعظم الأشياء إقامة للشهادة، وأكثر الأساليب تأكيدا على عدم الارتياب في الوصول إلى معرفة الحق، هو الوقوف عند هذا الخط التشريعي فيما قرره الله من هذا البرنامج العملي المحدّد، وذلك كله في المعاملات التي تفرض تأجيل دفع أحد العوضين إلى أجل مسمى، أمّا في المعاملات الحاضرة المبنيّة على الدفع نقدا في حالة الأخذ والعطاء، فلا بأس عليكم من عدم الكتابة لعدم الحاجة إليها إلا في حالات خاصة، ولما في ذلك من الحرج الشديد الذي يوجب صعوبة التعامل لما يتطلبه ذلك من‏ تأخير فيما تقتضي المصلحة الإسراع فيه، وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾، لأنه لا ضرر عليكم من ذلك.

12. ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ كما تشهدون في حال الدّين، لتثبت من خلال ذلك ملكيتكم للأشياء التي تشترونها.. ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ لأن الكاتب بالعدل والشاهد به ينطلقان من أمر الله الذي أراد به مصلحة الناس، فلا يجوز لأحد الإضرار بهما، فيما إذا كان الحق على خلاف رغبته، ومن يفعل ذلك، فإنه ينحرف عن خط الله الذي أمرنا بالسير عليه وجعل الانحراف عنه فسقا وضلالا وضياعا في متاهات الضلال.

13. ذكر بعضهم ـ كما في مجمع البيان ـ أن أصل (يضارّ) يضارر بكسر الراء الأولى عن الحسن وقتادة وعطاء وابن زيد، فيكون النهي للكاتب والشاهد عن المضارّة، فعلى هذا، فمعنى المضارّة أن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ويشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه أو بأن يمتنع من إقامة الشهادة، وقيل: الأصل فيه لا يضارر بفتح الراء الأولى عن ابن مسعود ومجاهد، فيكون معناه: لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر ولا يتفرغ إليها ولا يضيق الأمر على الشاهد بأن يدعى إلى إثبات الشهادة وإقامتها في حال عذر ولا يعنّف عليهما، قال الزجاج: والأول أبين لقوله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ فالفاسق أشبه بغير العدل وبمن حرّف الكتاب منه بالذي دعا شاهدا ليشهد أو دعا كاتبا ليكتب وهو مشغول‏، والظاهر هو الوجه الثاني، لأن الخطاب هو للناس الذين يطلبون الشهادة والكتابة بقرينة قوله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ ولو كان ـ على نحو المبني للفاعل ـ كما هو الوجه الأول ـ لكان من المفروض توجيه الخطاب للكاتب أو الشهيد، إما على نحو المفرد أو المثنى، ولعل هذا الوجه أقرب مما ذكرناه أولا في توجيه الآية ـ وإن كان محتملا ـ لأن الملحوظ فيه هو الإضرار بالشاهد والكاتب بعد الشهادة أو الكتابة من قبل الناس الذين يتضررون منهما، بينما الظاهر أن الفقرة واردة في المنع من الضغط الذي يوجّه إلى الكاتب أو الشاهد عند دعوتهما إلى ذلك، فلا يجوز تعجيلهما بتعطيلهما عن أشغالهما المهمّة، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل أو يحمّل الشاهد مؤنة مجيئه من بلده ـ كما جاء في الكشاف ـ والله العالم‏.

14. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فإنه أساس النجاة في الدنيا والآخرة، فلا بد لكم من اتباع أوامره ونواهيه وتعاليمه وتشريعاته لتحصلوا على رضوانه الذي هو غاية الغايات للمؤمنين.

15. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو الذي يفتح لكم أبواب المعرفة، ويقودكم إلى الوضوح في الرؤية من خلال علمه فيما هيّأه لكم من وسائل العلم الذاتية، وفي ما أوحى به إليكم من خلال رسله، وأنتم لا تعلمون شيئا من ذلك، فاشكروه على ما علمكم وأطيعوه فيما أراد لكم من العمل بما علمكم إياه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/170.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بندا من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي (2):

أ. بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين‏ ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾

ب. يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ أي ممّن هم على دينكم.

ج. يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال‏ ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾

د. لا بدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، يتبيّن من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي (العدالة) التي وردت في الأخبار أيضا.

هـ. إذا كان الشاهدان من الرجال، فلكلّ منهما أن يشهد منفردا، أمّا إذا كانوا رجلا واحدا وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معا لكي تذكّر إحداهما الأخرى إذا نسيت شيئا أو أخطأت فيه، أمّا سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثّرات خارجية، لذلك فوجود امرأة أخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾

و. يجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عذر كما قال: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلّا به.

ز. تجب كتابة الدين سواء أكان الدين صغيرا أو كبيرا، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتّى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه، وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقّة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة أخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظنّ بين أفراد المجتمع‏ ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾

ح. إذا كان التعاقد نقدا فلا ضرورة للكتابة ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا﴾، و(التجارة الحاضرة) تعني التعامل النقدي، و(تديرونها) تعني الجارية في التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة، وتعبير ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ يعني: ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضا، وهو خير، لأنّه يزيل كلّ خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد.

ط. في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد، لا بدّ من شهود: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾

ي. وآخر حكم تذكرة الآية هو أنّه ينبغي ألّا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر بسبب تأييدهم الحقّ والعدالة: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾، والفعل (يضارّ) يعني ـ كما فسّرناه ـ أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر، أي أنّه مجهول، ولا حاجة إلى تفسيره بأنّه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود ضرر في الكتابة والشهادة، بعبارة أخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلا معلوما، لأنّ هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية.

2. ثمّ تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهدا أو كاتبا لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة لله: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾

3. في الختام، وبعد كلّ تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوي وامتثال أمر الله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ثمّ تقول إنّ الله يعلّمكم كلّ ما تحتاجونه في حياتكم الماديّة والمعنوية: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ وهو يعلم كلّ مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

4. إنّ جملة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وجملة ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ رغم أنّها ذكرتا في الآية بصوره مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الأخرى، ولكنّ اقترانهما معا إشارة إلى الارتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية الله لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه واطّلاعه.. فعندما يتطّهر قلب الإنسان من الشوائب بوسيلة التقوي فسيغدوا كالمرآة الصافية تعكس الحقائق الإلهيّة، وهذا المعنى لا شكّ فيه ولا إشكال من جانبه المنطقي، لأنّ الصفات الخبيثة والأعمال الذميمة تشكّل حجبا على فكر الإنسان ولا تدعه يرى وجه الحقيقة كما هي عليه، وعند ما يقوم الإنسان بإزاحة هذه الحجب بوسيلة التقوي فإنّ وجه الحقّ سيظهر ويتجلّى، لكنّ بعض الصوفيّين الجهلاء أساؤوا الاستفادة من هذا المعنى وجعلوه دليلا على ترك تحصيل العلوم الرسميّة في حين أنّ هذا الكلام يخالف الكثير من آيات‏ القرآن والروايات الإسلامية الشريفة، والحقّ أنّ بعض العلوم يجب اكتسابها عن طريق العلم والتعلّم بالشكل السائد والمتعارف، وقسم آخر من العلوم الإلهيّة لا تتحصّل للإنسان إلّا بوسيلة تزكية القلب وتصفية الباطن بماء المعرفة والتقوى، وهذا هو النور الذي ورد في الروايات أنّ الله يقذفه في قلب من يليق بهذه الكرامة (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/355.

(2) اقتصرنا هنا على ما يتعلق بهذا المقطع، وذكرنا أولها في المقطع السابق

142. الرهن والكتابة والإشهاد

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈142⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 283]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن الإمام الباقر أنّه قال: قضى أمير المؤمنين في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدي الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان الرهن أقل من ماله فهلك الرهن أدى إلى صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه شيء(1).

2. روي أنه قيل له: رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن، فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر، قال الإمام علي: يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن لأنه أمينه(2).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 3/199/905.

(2) التهذيب: 7/175/774.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: تجوز شهادة النساء في الاستهلال، ولا يجوز في ذلك أقل من أربع(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٧٦.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فليرتهن الذي له الحق من المطلوب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ ليؤد الحق الذي عليه إلى صاحبه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا﴾ يعني: الشهادة، ولا يشهد بها إذا دعي لها؛: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعني: من كتمان الشهادة، وإقامتها(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٦٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ من كان على سفر، فبايع بيعا إلى أجل، فلم يجد كاتبا؛ فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ فمن لم يجد فإنها عزمة أن يكتب ويشهد، ولا يأخذ رهنا إذا وجد كاتبا، كما قال في الظهار: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [المجادلة: ٤]، وكما قال في موضع آخر: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦]، فهذا يشبه بعضه بعضا، وآية الدّين حكم حكمه الله وفصله وبينه، فليس لأحد أن يتخير في حكم الله(2).

3. روي أنّه قال: ثلاثة لا يستمع الله تعالى لهم دعاء: رجل معه امرأة زناء، كلما قضى شهوته منها قال رب، اغفر لي، فيقول الرب ـ تبارك وتعالى ـ: تحول عنها وأنا أغفر لك، وإلا فلا، ورجل باع بيعا إلى أجل مسمى ولم يشهد ولم يكتب، فكافره الرجل بماله، فيقول: يا رب، كافرني فلان بمالي، فيقول الرب: لا آجرك ولا أجيبك، إني أمرتك بالكتاب والشهود فعصيتني، ورجل يأكل مال قوم وهو ينظر إليهم، ويقول: يا رب، اغفر لي ما آكل من مالهم، فيقول الرب تعالى: رد إليهم مالهم وإلا فلا(3).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٢١.

(2) ابن المنذر، وابن أبي حاتم: ٢/٥٧٠.

(3) هنّاد في الزهد: ٢/٤٥٥.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة(2).

3. روي أنّه قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد؛ لقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ صار الأمر إلى الأمانة(4).

5. روي أنّه قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله(5).

6. روي عن إسماعيل بن أبي خالد قال قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ فقال: ألا ترى إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾؟، قد نسخ ما كان قبله(2).

7. روي أنّه قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من الله(5).

8. روي أنّه قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله(5).

9. روي أنّه قال: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] (6).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٤.

(2) ابن جرير: ٥/٧٥.

(3) عبد الرزاق: ١/١١١.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧١.

(5) سفيان الثوري في تفسيره بنحوه: ص٧٣.

(6) سفيان الثوري في تفسيره: ص٧٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ لا يكون الرهن إلا في السفر(1).

__________

(1) ابن المنذر، وابن أبي حاتم: ٢/٥٦٩.

سالم:

روي عن خالد بن دينار: سألت سالم بن عمر (ت 106 هـ) عن الرهن في السلم، فقرأ: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، كأنه لم ير به بأسا(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٤٩٩.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: من ائتمن غير مؤمن فلا حجة له على الله عزّ وجّل(1).

__________

(1) الكافي: 5/298/3.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أن أبا سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال رجل باع بيعا إلى أجل مسمى، فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٣.

ابن أبي سليمان:

روي عن بن أبي سليمان (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أخلاق دلهم عليها(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧١.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ معكم بالبلد تديرونها، فتأخذ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ فاجر قلبه(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٠٦.

(2) ابن جرير: ٥/١٢٦.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ يقول: كاتبا يكتب لكم: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾(1).

الربيع بن أنس (ت 139 هـ)، في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين(2).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ ومن كتمها فقد ركب إثما عظيما(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٢١.

(2) ابن جرير: ٥/١٢٦.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ إذا لم يكن الكاتب والصحيفة حاضرين فليرتهن الذي عليه الحق من المطلوب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ في السفر، فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه لثقته به وحسن ظنه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلْيُؤَدِّ﴾ ذلك: ﴿الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ ليرد على صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا﴾ ولا يشهد بها عند الحاكم، ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من كتمان الشهادة وإقامتها: ﴿عَلِيمٌ﴾(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣٠.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: نسخ ذلك قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ قال فلولا هذا الحرف لم ينبغ لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن، فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/٧٤.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فإنه يقول: إن كنتم على سفر، ولم تجدوا كاتبا، أو ما يكون به الكتاب من الدواة والقرطاس ـ فليكن رهان مقبوضة؛ بدلا من الشهود والكتاب، والرهان المقبوضة هو: الرهن المسلم إلى صاحب السلعة.

2. أما قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ هو: نهي منه للشهود أن يكتموا ما يعلمون من شهادتهم، والكتمان فقد يكون بمعان وأسباب، فمنها: الجحدان للشهادة، ومنها: التعلل من الشاهد على المستشهد له بعلة ليست له عند الله بعلة، أو بالتشاغل عن إقامة شهادته بأمر لا يكون له فيه عند خالقه حجة.

3. ينبغي لمن أراد التجارة أن يتفقه في الدين، وينظر في الحلال والحرام من كتاب الله رب العالمين؛ حتى يأمن على نفسه الزلل والخطأ، في المضاربة والبيع والشراء؛ وفي ذلك ما بلغنا عن أمير المؤمنين [الإمام علي] الإمام علي (ت 40 هـ) رحمة الله عليه: أن رجلا أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد التجارة؛ فادع الله لي.. فقال له أمير المؤمنين: (أو فقهت في دين الله؟)، قال أو يكون بعض ذلك؟ فقال: (ويحك، الفقه ثم المتجر؛ إن من باع واشترى، ثم لم يسأل عن حلال ولا حرام ارتطم في الربا، ثم ارتطم، ثم ارتطم)، قال وبلغنا عن أمير المؤمنين أنّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله سبحانه يحب العبد يكون: سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء)، وبلغنا عن أمير المؤمنين أنّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إني لعنت الامام يتجر في رعيته.

4. أما قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ فهذه: آية منسوخة، نسخها قول الله سبحانه: ﴿يا أيا الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾، وليس نسخها تحريما لما ذكر فيها، كغيرها من المنسوخات اللواتي نسخ ما أمر به فيهن بما أثبت من الحكم، وبدل في غيرهن؛ لأن الائتمان من بعض المسلمين لبعض على ما لهم وعليهم إنظار وإحسان؛ والإحسان فغير مسخوط عند الواحد الرحمن؛ ولكنه سبحانه نسخ ذلك بالدلالة لهم على الأفضل والأحوط بينهم ولهم، والأبعد من كل فساد، فدلهم على المكاتبة والإشهاد؛ نظرا منه سبحانه لجميع العباد، ومن أنظر وأتبع المعروف كان عند الله إن شاء الله مأجورا، غير معاقب ولا مأزور.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/136.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد ذكرنا فيما تقدم في الأمر بالكتابة والإشهاد: أنهما لحفظ الحقوق، ما جل منها وما دق، وألا يحملهم على الإنكار والجحد، وأن يذكرهم ذلك حتى لا ينسوا، فعلى ذلك الأمر بالرهان لئلا يؤخر قضاء الدين ويذكرون ولا ينسون، ثم فيه دلالة ألا يجوز الرهن إلا مقبوضا؛ لأن الرهن يقبض لأمرين:

أ. أحدهما: لأنه إذا كان مقبوضا محبوسا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره وتقاضاه لقضاء دينه، وإذا كان في يديه لم يتقاضاه على ذلك؛ لذلك قلنا: إنه لا يجوز إلا مقبوضا.

ب. الثاني: أنه إنما يقبض ليستوفي منه الدين، ولا يستوفى إلا بعد القبض، أو يأخذ ليأخذ الدين منه من غير بخس فيه ولا منع عنه.

ج. ووجه آخر ـ فيما لا يجوز الرهن إلا مقبوضا ـ لأنه جعل وثيقة، فلا جائز أن يكون وثيقة وهو في يدى الراهن غير محبوس ولا ممنوع عن منافعه.

2. دل ما ذكرنا من طلب الناس بعضهم من بعض الرهون، أنهم طلبوا وثيقة، فإذا كان وثيقة فهو إنما يكون وثيقة إذا كان في يدى المرتهن محبوسا عن صاحبه، ألا ترى أن الكاتب أمر بأداء الأمانة إذا أمن بعضهم بعضا بغير رهن، فلو كان الرهن يكون رهنا في يدى الراهن لذكر فيه أداء الأمانة في الرهن، ولم يكن لذكر القبض وجه؛ لذلك قلنا: إن الرهن لا يجوز إلا أن يكون مقبوضا محبوسا عن منافع صاحبه.

3. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ فيه دلالة ضمان الرهن دلالة استيفاء الدين من الرهن؛ لأنه إنما ذكر الأداء فيما أمن بعضهم بعضا بلا رهن، ولم يذكر الأداء فيما فيه الرهن، فلولا أن جعل في الرهن استيفاء الحق والدين وإلا لذكر الأداء فيه كما ذكر في الرهن فدل أنه مضمون به إذا هلك، هلك به.

4. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ دليل لقولهم في الشركات: إنه يكتب اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة؛ لأن كل واحد منهما أمين في ذلك، لذلك ذكر فيه تقوى الله وأداء الأمانة كما ذكر ـ عزّ وجل ـ تقوى الله وأداء الأمانة فيما اؤتمن.

5. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ ذكر إثم القلب، والإثم موضعه القلب لكنه يشيع في الجوارح ويظهر على ما روى: (إن في النفس مضغة إذا صلحت صلح البدن، وإذا فسدت فسد البدن)، وفيه دلالة أن المأثم تعمد القلوب بأي شيء كان؛ فلذلك وصف القلب بأنه آثم؛ وهو كقوله: ﴿يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وكذا قوله‏: ﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ الآية.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/288.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ الآية: فهذه الآية منسوخة نسخها أمر الله بالكتاب والشهود دلالة على ما هو أفضل منه، وليس نسخها بنسخ تحريم كغيرها.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 293.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ والرهان جمع رهن كثمار وثمر وليس السفر شرطاً في جواز الرهن لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد رهن درعه عند أبي شحمة اليهودي وهو بالمدينة حاضر ولا عدم الكاتب والشاهد شرط لأنه زيادة وثيقة.

2. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أي بغير كاتب ولا شاهد ولا رهن ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ وأداء الحق وترك الفصل به ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أي مكتسب الإثم بكتمان الشهادة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/130.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فرهن، وقرأ الباقون فرهان، وفيها قولان:

أ. أحدهما: أن الرّهن في الأموال، والرّهان في الخيل.

ب. الثاني: أن الرّهان جمع، والرهن جمع الجمع مثل ثمار وثمر، قاله الكسائي، والفراء.

2. في قوله تعالى: ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أن القبض من تمام الرهن، وهو قبل القبض غير تام، قاله الشافعي، وأبو حنيفة.

ب. الثاني: لأنه من لوازم الرهن، وهو قبل القبض تام، قاله مالك.

3. ليس السفر شرطا في جواز الرهن، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي‏ بالمدينة وهي حضر، ولا عدم الكاتب والشاهد شرطا فيه لأنه زيادة وثيقة.

4. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يعني بغير كاتب ولا شاهد ولا رهن، ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ يعني في أداء الحق وترك المطل به، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في ألا يكتم من الحق شيئا.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: معناه فاجر قلبه، قاله السدي.

ب. الثاني: مكتسب لإثم الشهادة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/359.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1): قوله تعالى: [سورة البقرة: آية 283]

1. قرأ أبو عمرو وابن كثير (فرهن) على وزن فعل، الباقون (فرهان) على فعال، الرهن مصدر رهنت الشيء أرهنه رهناً وأرهنته إرهاناً، والأول أفصح قال الشاعر في أرهنت:

çفلما خشيت أظافيره‏...نجوت وأرهنته مالكاé

وقال الازهري: أرهنت في الشيء إذا سلفت فيه، قال الشاعر: (عيدّية أرهنت فيها الدنانير)

2. من شرط صحة الرهن أن يكون مقبوضاً لقوله: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فان لم يقبض لم ينعقد الرهن، ومسائل الرهن ذكرناها في النهاية والمبسوط مستوفاة فلا فائدة للتطويل بذكرها هاهنا، ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اشترى طعاماً نساء ورهن فيه درعاً، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا يغلق الرهن، معناه أن يقول الراهن إن جئتك بفكاكه إلى شهر وإلا فهو لك بالدين، وهذا باطل بلا خلاف.

3. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ يعني بعد تحملها ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ إنما أضاف إلى القلب مجازاً، لأنه محل الكتمان، وإلا فالآثم هو الحي.

4. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ معناه ان أتمنه فلم يقبض منه رهناً ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ يعني الذي عليه الدين‏ ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أن يظلمه أو يخونه‏ ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ بما تسرونه وتكتمونه.

5. دل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ على أن الاشهاد والكتابة في المداينة ليس بواجب، وإنما هو على جهة الاحتياط، وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما (فان لم تجدوا كتابا) يعني ما تكتبون فيه من طرس أو غيره، والمشهور هو الاول الذي حكيناه عن قراء أهل الأمصار، وحكي عن بعضهم أنه قرأ (فانه آثم قلبه) بالنصب فان صح فهو من قولهم: سفهت نفسك وأثمت قلبك.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/380.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرهن: مصدر رهنت الشيء أرهنه رهنًا، وأرهنت أيضًا، والأول أفصح، والرهن: حبس الشيء عليه، وكل شيء يحتبس به غيره فهو رهينة ومرتهنة، ومنه: الإنسان رهين عمله.

ب. القبض ـ بالضاد معجمة ـ: قبض الشيء ملء الكف، وبالصاد ـ غير معجمة ـ: القبض بأطراف الأصابع.

ج. أتمن افتعل من الأمانة.

د. الكتمان: ضد الإظهار.

2. لما تقدم حكم الوثيقة بالإشهاد أتبعه ذكر الوثيقة بالرهن عند عدم الإشهاد، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ من يكتب الكتاب والشهود ﴿فَرِهَانٌ﴾ أي فالوثيقة رهن، وهو أن يأخذ ممن داينه رهنًا وثيقة بماله ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ فإن الرهن لا يصح إلا مقبوضًا بالإجماع والنص؛ لأن الوثيقة لا تتم إلا بالقبض.

3. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ يعني الذي له الحق يأتمن من عليه فلا يكتب ولا يشهد ولا يرتهن ﴿فَلْيُؤَدِّ﴾:

أ. قيل: خطاب للمديون يعني فليؤد المؤتَمن أمانته يعني حقه.. وهو الوجه.

ب. وقيل: خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال، فإنه أمانة في يده.

4. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ يعني مخالفة أمره ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ عاد الخطاب إلى الشهود:

أ. قيل: لأنه قد يكون شاهدًا على الرهن.

ب. وقيل: لأنه قد يحضر العقد وإن لم يستشهد، فكلف أن يقيم البينة، فلذلك عاد ذكره عن القاضي، والمعنى لا تكتموا الشهادة إذا دعيتم إلى إقامتها.

5. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا﴾ يعني ومن يكتم الشهادة عند الحاجة ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ يعني فاجر عاص قلبه، وهو ابتداء وخبر، وإنما أضاف الإثم إلى القلب لأن الإنسان يقلبه، ولأن الكتمان عقد النية والعزم ولا نصيب للجوارح واللسان فيه، عن أبي علي وأبي مسلم.

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الكتمان والإظهار ﴿عَلِيمٌ﴾ لأنه عالم لذاته، لا يخفى عليه شيء.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. التوثق بالرهن، وجواز الرهن عند تعذر الكتابة والإشهاد، والمعتاد عند عدم ذلك في السفر فلذلك خصه بالذكر، واختلفوا فقال مجاهد: لا يجوز الرهن إلا في السفر وعدم الكاتب، وأجمع الفقهاء على خلافه، وأن الرهن يجوز في الحضر، ورهن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم درعه عند يهودي.

ب. أن الرهن لا يصح إلا بالقبض؛ لأن الوثيقة لا تتم إلا به، ثم اختلفوا، فعند أبي حنيفة يشترط حقيقة القبض، ولم يُجَوِّزْ رهن المشاع، وعند الشافعي يشترط القبض حكمًا فيجوز رهن المشاع.

ج. يدل قوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أن لصاحب الحق ألا يكتب ولا يرتهن، ويترك الاحتياط، ويأَتمن من عليه:

وقيل: هذا ناسخ لوجوب الكتابة والإشهاد.

وقيل: بل تدل على أن ذلك ندب وإرشاد، قال القاضي: وكل ذلك يبعد، والصحيح أن الغرض بذلك بيان ضروب الاحتياط، وأنه لتحصين الأموال بين أن من يتكلف ذلك، وركن إلى أمانته، فليؤد أمانته.

د. أن كتمان الشهادة من الكبائر، ويروى في الخبر: (كاتم الشهادة كشاهد الزور)

7. قراءات وحجج:

أ. القراءة الظاهرة ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ على الواحد، وهو كذلك في المصحف، وعن ابن عباس ومجاهد وأبي العاَلية ﴿كِتَابًا﴾ قالوا: ربما يجد الكاتب ولا يجد آلات الكتابة، وعن الضحاك ﴿كِتَابًا﴾ على جمع الكاتب..

ب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فرُهُن) بضم الراء والهاء، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿فَرِهَانٌ﴾ وعن عكرمة: (فرهن) فأما الرُّهْن بضم الراء وجزم الهاء فجمع رهان، وهو جمع الجمع رَهْن ورِهَان ورُهُن، نحو: تَمْر وتمَار وتُمُر، عن الكسائي والفراء، وقيل: واحده رهن، نحو: سَقْفٌ وسُقُفٌ، عن أبي عبيد، وقيل: لا يعرف في الأسماء فَعْل وفُعُل غير هذين، وزاد بعضهم: قَلْبُ النخلة وقُلُب، فأما رِهَان جمع رَهْن فعلى القياس نحو حَبْل وحِبَال وبَغْل وبِغَال، وكبَشْ وكِبَاش، واختار أبو عمرو فرهنٌ) لغلبة الرهان في الخيل، ولموافقة المصحف، ومن اختار الرهان فلاطراده في باب الجمع، وكل جنس.

ج. القراءة الظاهرة ﴿وَلَا تَكْتُمُوا﴾ بالتاء وعن السلمي بالياء.

8. رفع (رهن) لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: فالوثيقة رهن، ويجوز فعليه رهن، ويجوز فرهنا بالنصب في العربية، على تقدير: فارتهنوا رهنًا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/154

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم ذكر سبحانه حكم الوثيقة بالرهن، عند عدم الوثيقة بالإشهاد، فقال ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أيها المتداينون المتبايعون ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ أي: مسافرين ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ للصك، ولا شهودا تشهدونهم ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ تقديره: فالوثيقة رهن، فيكون رهن خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون التقدير: فرهان مقبوضة يقوم مقام الوثيقة بالصك، والشهود، والقبض شرط في صحة الرهن، فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن بالإجماع.

2. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أي: فإن أمن صاحب الحق الذي عليه الحق، ووثق به، وائتمنه على حقه، ولم يستوثق منه بصك ولا رهن ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ أي: الذي عليه الحق ﴿أَمَانَتَهُ﴾ بأن لا يجحد حقه، ولا يبخس منه شيئا، ويؤديه إليه وافيا وقت محله، من غير مطل، ولا تسويف، وأراد بقوله ﴿أَمَانَتَهُ﴾ أي: ما اؤتمن فيه فهو مصدر بمعنى المفعول.

3. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ معناه: وليتق الذي عليه الحق عقوبة الله ربه، فيما ائتمن عليه بجحوده، أو النقصان منه ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ يعني بعد تحملها، وهو خطاب للشهود، ونهي لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا إليها.

4. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا﴾ أي: ومن يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به، وعدم ارتيابه فيه، وتمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى إقامتها ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أضاف الإثم إلى القلب، وإن كان الآثم هو الجملة، لأن اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب، لأن العزم على الكتمان إنما يقع بالقلب، ولأن إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم، كما أن إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح، قال تعالى ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: ما تسرونه، وتكتمونه ﴿عَلِيمٌ﴾، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا ينقضي كلام شاهد زور من بين يدي الحاكم، حتى يتبوأ مقعده من النار وكذلك من كتم الشهادة.

5. في قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ دلالة على أن الإشهاد والكتابة في المداينة، ليسا بواجبين، وإنما هو على، سبيل الاحتياط، وتضمنت هذه الآية وما قبلها من بدائع لطف الله تعالى، ونظره لعباده في أمر معاشهم، ومعادهم، وتعليمهم ما لا يسعهم جهله، ما فيه بصيرة لمن تبصر، وكفاية لمن تفكر.

6. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فرهن) على وزن فعل، والباقون ﴿فَرِهَانٌ﴾ على وزن فغال.. قال أبو علي: الرهن مصدر، ولما نقل فسمي به، كسر كما تكسر الأسماء، وجمع على بناءين من أبنية الجموع، وهو فعل وفعال، وكلاهما من أبنية الكثير، وقد يخفف العين من رهن كما خفف في (رسل، وكتب)، ومثل رهن ورهن: سقف وسقف، وقال الأعشى: آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا اللغة: يقال: رهنت عند الرجل رهنا، ورهنته رهنا، وأنا أرهنه: إذا وضعته عنده، ورهنته ضيعة، وقالوا: أرهنته أيضا، وفعلت فيه أكثر، قال:

çيراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بني بما أقولé

قال الأصمعي من روى بيت ابن همام:

çفلما خشيت أظافيرهم... نجوت وأرهنتهم مالكاé

فقد أخطأ، إنما الرواية وأرهنهم مالكا كما تقول وثبت إليه وأصك عينه، ونهضت إليه وآخذ بشعره، وتقول: أرهنت لهم الطعام أي: أدمته لهم، وأرهيته بمعناه، والطعام راهن ورآه، وقد أرهنت في ثمن السلعة: إذا أسلفت فيه، قال: (عيدية أرهنت فيها الدنانير)، وأما قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لا يغلق الرهن فمعناه أن يقول الراهن: إن جئتك بفكاكه إلى شهر، وإلا فهو لك بالدين، فهذا باطل بلا خلاف.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/690.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾، إنما خصّ السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه، ومقصود الكلام: إذا عدمتم التّوثّق بالكتاب والإشهاد، فخذوا الرّهن.

2. ﴿فَرِهَانٌ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث وجماعة، وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ‏ ﴿فَرِهَانٌ﴾ بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف، قال ابن قتيبة؛ من قرأ ﴿فَرِهَانٌ﴾ أراد: جمع رهن، ومن قرأ (رهن) أراد: جمع رهان، فكأنه جمع الجمع.

3. ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾، يدلّ على أن من شرط لزوم الرّهن القبض، وقبض الرّهن أخذه من راهنه منقولا، فإن كان مما لا ينقل، كالدّور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنة.

4. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، أي: فإن وثق ربّ الدّين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود، ولا رهن، ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وهو المدين‏ ﴿أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أن يخون من ائتمنه.

5. ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، قال السّدّيّ عن أشياخه: فإنه فاجر قلبه، قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلّق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة لترك أدائها.

__________

(1) زاد المسير: 1/253.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جعل الله تعالى البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع الأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد، واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد.

2. السفر: قال أهل اللغة: تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب، لأنه يبين الشيء ويوضحه، وسمي السفر سفراً، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي يكشف، أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس، أو لأنه لما خرج إلى الصحراء، فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية، وأسفر الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها، أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أسفر إذا كنست، والسفر الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح، ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه.

3. أصل الرهن من الدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة، وأصل الرهن مصدر، يقال: رهنت عند الرجل أرهنه رهنا إذا وضعت عنده، قال الشاعر:

çيراهنني فيرهنني بنيه‏...وأرهنه بني بما أقول‏é

والمصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل، فإذا قال: رهنت عند زيد رهنا لم يكن انتصابه انتصاب المصدر، لكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت عند زيد ثوبا، ولما جعل اسما بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان: رهن ورهان، ومما جاء على رهن قول الأعشى:

çآليت لا أعطيه من أبنائنا...رهنا فيفسدهم كمن قد أفسداé

وقال بعيث:

çبانت سعاد وأمسى دونها عدن‏...وغلقت عندها من قبلك الرهن‏é

ونظيره قولنا: رهن ورهن، سقف وسقف، ونشر ونشر، وخلق وخلق، قال الزجاج: فعل وفعلى قليل، وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان، ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر، ومن الناس من عكس هذا فقال: الرهن جمعه رهن، والرهن جمعه رهان، واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا، فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق، وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر، مثل نعل ونعال، وكبش وكباش وكعب وكعاب، وكلب وكلاب.

4. قرأ ابن كثير أبو عمرو فرهن بضم الراء والهاء، وروي عنهما أيضا فرهن برفع الراء وإسكان الهاء والباقون‏ ﴿فَرِهَانٌ﴾ قال أبو عمرو: لا أعرف الرهان إلا في الخليل، فقرأت فرهن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن، وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء، فقال الأخفش: إنها قبيحة لأن فعلا لا يجمع على فعل إلا قليلا شاذا كما يقال: سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها، وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد، وخيل ورد.

5. في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر، والتقدير: فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما، أو فعليه رهن مقبوضة، وإن شئنا جعلناه خبرا وأضمرنا المبتدأ، والتقدير: فالوثيقة رهن مقبوضة.

6. اتفق الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب‏ وعدمه، وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية، ولا يعمل بقوله اليوم، وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب، كقوله‏: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: 101] وليس الخوف من شرط جواز القصر.

7. مسائل الرهن كثيرة، واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلّت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضاً والعقل أيضاً يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود، وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضاً فوجب ألا يصح رهن المشاع.

8. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية، وهو بيع الأمانة، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن.

9. ﴿فَإِنْ أَمِنَ﴾ أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه، قال تعالى: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ﴾ [يوسف: 64]، فقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أي لم يخف خيانته وجحوده‏ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن، فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه، يقال: أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن.

10. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق، وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل، وفي الآية قول آخر، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده، والوجه هو الأول.

11. من الناس من قال هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن، والتزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط، وهذه الآية محمولة على الرخصة، وعن ابن عباس أنّه قال ليس في آية المداينة نسخ.

12. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ وجوه:

أ. الأول: قال القفال: إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن، وأن يخرج خائناً جاحداً للحق، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة، أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل، وهو قوله‏ (خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد)

ب. الثاني: في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 140] والمراد الجحود وإنكار العلم.

ج. الثالث: في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وقد تقدم ذلك في قوله‏: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة: 282] وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه، فهذا بالغ في الوعيد.

13. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ الآثم الفاجر، روي أن عمر كان يعلم أعرابياً ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ [الدخان: 43، 44] فكان يقول: طعام اليتيم، فقال له عمر: طعام الفاجر، فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور.

14. قال الزمخشري: آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرئ قلبه بالفتح كقوله‏: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130] وقرأ ابن أبي عبلة أثم قلبه أي جعله آثماً.

15. كثير من المتكلمين قالوا: إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193، 194] وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله‏: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: 97] وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون: إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً، وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو، فيقال: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي، ويقال: فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف، فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم هاهنا إلى القلب.

16. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان، لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى، فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال، ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشراً.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/100.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن، وقد رهن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي) فمات ودرعه مرهونة صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وهذا صحيح، وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى، إذا قد تترتب الأعذار في الحضر، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداوود متمسكين بالآية، ولا حجة فيها، لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال، وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد، وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله.

3. ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ قرأ الجمهور ﴿كَاتِبًا﴾ بمعنى رجل يكتب، وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية (ولم تجدوا كتابا)، قال أبو بكر الأنباري: فسره مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مدادا يعني في الأسفار، وروي عن ابن عباس ﴿كِتَابًا﴾، قال النحاس: هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها، وقلما يخرج شي عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن، ونسق الكلام على كاتب، قال الله تعالى قبل هذا: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ وكتاب يقتضي جماعة، قال ابن عطية: كتابا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة: ولم تجدوا كتابا، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ (كتبا) وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وأما قراءة أبي وابن عباس ﴿كِتَابًا﴾ فقال النحاس ومكي: وهو جمع كاتب كقائم وقيام، مكي: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة، ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق، ونفي الكاتب أيضا يقضى نفي الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف.

4. ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ معنى الرهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، وهكذا حده العلماء، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار، وقال ابن سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:

çالخبز واللحم لهم راهن... وقهوة راووقها ساكبé

قال الجوهري: ورهن الشيء رهنا أي دام، وأرهنت له لهم الطعام والشراب أدمته لهم، وهو طعام راهن، والراهن: الثابت، والراهن: المهزول من الإبل والناس، قال:

çإما تري جسمي خلا قد رهن... هزلا وما مجد الرجال في السمنé

قال ابن عطية: ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن: أرهنت إرهانا، حكاه بعضهم، وقال أبو علي: أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت، وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت بها، وهو في الغلاء خاصة، قال: عيدية أرهنت فيها الدنانير يصف ناقة، والعيد بطن من مهرة وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، وقال الزجاج: يقال في الرهن: رهنت وأرهنت.. وقال ابن عطية: ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول: رهنت رهنا، كما تقول رهنت ثوبا.

5. قال أبو علي(: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت، والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه، لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له)، وهذا هو المعتمد عندنا(2) في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن، وقاله أبو حنيفة، غير أنه قال: إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل، وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم، ودليلنا ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما، وهذا واضح.

6. إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك، حكما، لقوله تعالى: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم، وهذا ظاهر جدا، وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، لقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وهذا عقد، وقوله ﴿بِالْعَهْدِ﴾ وهذا عهد، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون عند شروطهم) وهذا شرط، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته، وعندهما شرط في لزومه وصحته.

7. ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله، واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض، وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم وعطاء: ليس بقبض، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن، ورأوا ذلك تعبدا، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى، لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة، لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل، وهذا ظاهر.

8. لو وضع الرهن على يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده، لأن المرتهن لم يكن في يده شي يضمنه، والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن.

9. لما قال تعالى: ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ قال علماؤنا: فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف، ثم قالوا: إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها، قال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع، لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار، قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه.

10. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالرهن، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

11. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل، يعني إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه ائتمن، وقوله ﴿فَلْيُؤَدِّ﴾ من الأداء مهموز، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين، لان الالف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، وهو أمر معناه الوجوب، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير.

12. ﴿أَمَانَتَهُ﴾ الأمانة مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي في ألا يكتم من الحق شيئا.

13. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ تفسير لقوله: (ولا يضارر) بكسر العين، نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد، وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، قال: ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي، وقرأ أبو عبد الرحمن ولا يكتموا بالياء، جعله نهيا للغائب، الموفية

14. إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات، وهذا يعلم بدعاء صاحبها، فإذا قال له: أحى حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه،

15. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم، فعبر بالبعض عن الجملة، وقال الكيا: لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا، فقوله: ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ مجاز، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني، يقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله منه.

16. ﴿قَلْبَهُ﴾ رفع بـ ﴿إِثْمٌ﴾ و﴿إِثْمٌ﴾ خبر ﴿أَنْ﴾، وإن شئت رفعت آثما بالابتداء، و﴿قَلْبَهُ﴾ فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن، وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير، وإن شئت كان ﴿قَلْبَهُ﴾ بدلا من ﴿إِثْمٌ﴾ بدل البعض من الكل، وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في ﴿إِثْمٌ﴾

17. الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين، فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية، فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ الآية.

18. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنها استدانت، فقيل: يا أم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه)، وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها) قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ قال: ﴿الدّينَ﴾، وروى البخاري عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في دعاء ذكره: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال)، قال العلماء: ضلع الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أي ثقيل، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل، قال صاحب العين، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (الدين شين الدين)، وروي عنه أنه قال: (الدين هم بالليل ومذلة بالنهار)، قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، ولهذا كان صلّى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين، فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم؟ فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه)، وكل هذه الأسباب مشاين في الدين تذهب جماله وتنقص كماله.

19. لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه، قال أبو الفرج الجوزي(3): ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل، فذكر المحاسبي في هذا كلاما كثيرا، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره، والحارث عندي أعذر من أبي حامد، لأن أبا حامد كان أفقه، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه، قال المحاسبي في كلام طويل له: ولقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك، فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا، فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا، فمر بلحى بعير فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألا بأس بما تركه عبد الرحمن! لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا)، قال المحاسبي: فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا، إلى غير ذلك من كلامه، ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة، قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله، فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى، قال الجوزي: وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم المراد بالمال، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف، فقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، ونهى تعالى أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، ونهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.. وقال لعمرو بن العاص: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه)، وقال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، قال الجوزي: هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح، وهى على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر، فلهذا خيف فتنته، فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لأبد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات، وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه وسألوا زيادته، ولما أقطع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه، فقال: (أعطوه حيث بلغ سوطه)، وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه: اللهم وسع علي، وقال إخوة يوسف: ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾، وقال شعيب لموسى: ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾، وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت؟ فقال: يا رب فقير يشبع من فضلك؟، وهذا أمر مركوز في الطباع، وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال، من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم، وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت، لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه، قال يحيى: لا يحتج بحديثه، والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين، ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبد الرحمن! أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شي ثم يعاقب عليه؟ هذا قلة فهم وفقه، ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن، وعبد الرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة، فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير، والبهار الحمل، وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف، وخلف ابن مسعود تسعين ألفا، وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد، وأما قوله: (إن عبد الرحمن يحبو حبوا يوم القيامة) فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أفترى من سبق وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو؟ ثم الحديث يرويه عمارة ابن زاذان، وقال البخاري: ربما اضطرب حديثه، وقال أحمد: يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وقال الدارقطني: ضعيف، وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه) ليس كذلك، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء، وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه، فإن مات تركه ميراثا لمن بعده، وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار، وخلف سفيان الثوري مائتين، وكان يقول: المال في هذا الزمان سلاح، وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء، وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات، وجمع الهم فقنعوا باليسير، فلو قال هذا القائل: إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.. ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/407.

(2) يقصد هنا المالكية خصوصا

(3) تركنا النص كما هو بطوله لم نقطعه لمسائل للضرورة

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب، ونص على حالة السفر، فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة، أي: فإن كنتم مسافرين‏.

2. ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ في سفركم‏ ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الصحيحين (أنه صلّى الله عليه وآله وسلم رهن درعا له من يهوديّ).. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض.

3. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أي: إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق، لحسن ظنه به، وأمانته لديه، واستغنى بأمانته عن الارتهان‏ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وهو المديون‏ ﴿أَمَانَتَهُ﴾ أي: الدين الذي عليه، والأمانة: مصدر سمى به الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في أن لا يكتم من الحق شيئا.

4. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة، وهو في حكم التفسير لقوله: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ أي: لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين.

5. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله، وارتفاع القلب: على أنه فاعل أو مبتدأ، وآثم: خبره على ما تقرر في علم النحو؛ ويجوز أن يكون قلبه: بدلا من آثم، بدل البعض من الكل، ويجوز أن يكون‏ أيضا: بدلا من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من، وقرئ (قلبه) بالنصب كما في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/349.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضورا يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى‏ ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ أي فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق، وثيقة لدينه، هذا إذا لم يأمن البعض البعض بلا وثيقة.

2. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان‏ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وهو المدين، وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام، ولحمله على الأداء ﴿أَمَانَتَهُ﴾ أي دينه، وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به.

3. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في رعاية حقوق الأمانة، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى‏ ﴿وَلَا تَكْتُمُوا﴾ أيها الشهود ﴿الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾

4. سؤال وإشكال: هلا اقتصر على قوله فإنه آثم، وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ والجواب: قال الزمخشريّ: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله‏، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب.

5. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم‏ ﴿عَلِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/237.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أكَّد الله المحافظة على المال لينفق منه في سبيل الله، ولئلَّا يفعل الحرام كالربا، وليتفرَّغ إلى الطاعة ويستغني عن الناس بتسعة: بقوله تعالى : ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾، ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، ﴿وَلَا يَابَ كَاتِبٌ اَن يَّكْتُبَ﴾، ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ﴾، ﴿وَلْيُمْلِلِ الذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، ﴿وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾، ﴿وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾، ﴿ولَا تَسْأَمُواْ﴾ ﴿ذَالِكُمُ أقْسَطُ عِندَ اللهِ﴾، وزاد خمسة فذلك أربعة عشر: الرهن، ﴿وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾، ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾، ﴿وَمَن يَّكْتُمْهَا﴾، ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾

2. ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ في سفر، فـ (عَلَى) استعارة تبعيَّة لِـ (في)، لشبه التمكُّن في السفر بالركوب على الدابَّة بالتمكُّن، ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا﴾ يَكتبُ لكم دَينا عُقِد في السفر، ﴿فَرِهَانٌ﴾ جمع رهن بمعنى مرهون.

3. ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ تستوثقون بها، أو فالمستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فلتعقد رهان، ومعنى مقبوضة أنَّها على القبض أوَّلاً حين عقدها، أو تعقد وإذا شئتم قبضتموها، وبهذا أقول، وبه قال مالك، ويجبر على تسليمه إلى المرتهن، وإن وصل يده فردَّه إلى الراهن ولو على وجه الحفظ والأمانة بطل، وقال الجمهور: إنَّه لا بدَّ من القبض وإلَّا لم يختصَّ به عن الغرماء، ولا يجد قبضه إن لم يقبضه عند العقد، ولنا أنَّها سمِّيت رهانا قبل القبض، فذكر أنَّها مقبوضة بعد، وذلك لتوثُّق السفر بالقبض، وقال: ﴿مَقْبُوضَةٌ﴾ ولم يقل: (تقبضونها)؛ لأنَّه أظهر في شمول القبضِ قبضَ المرتهن أو نائبه، والرهن جائز في الحضر أيضًا، خلافا لمجاهد إذ خصَّه بالسفر تبعا للآية، ولم يعتبر الكتابة لأنَّه تكون فيما صحَّ فالرهن صحَّ ولو لم يوجد كاتب، وهو قول مردود، وخلافا للضحَّاك إذ خصَّه بالسفر الذي لم يوجد فيه كاتب مجاراة وجمودا منه على لفظ الآية، وهو خطأ، ولا سيما حيث اشترط لصحَّته عدم وجود الكاتب، كما جاء في البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم رَهَنَ دِرْعَهُ في المدِينَة على عِشْرِينَ صاعًا من يهوديٍّ، وفي البخاري: (على ثلاثين صاعا)، وخصَّ السفر بالذكر لأنَّه مظنَّة فقد الكاتب وآلاته، والشهادة كالكتابة توثُّقا وإِعوازًا فاكتفى عن ذكرها وذِكْر الكتابة.

4. ﴿فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم﴾ وهو صاحب الحقِّ ﴿بَعْضًا﴾ وهو من عليه الحقُّ أن لا يخونه فلم يرتهن منه ﴿فَلْيُوَدِّ الَّذِي اِوتُمِنَ﴾ جُعل مأمونا، وهو من عليه الحقُّ ولم يعط رهنًا، ﴿أَمَانَتَهُ﴾ أي: الحقَّ الذي عليه، سمَّاه أمانة لعدم التوثُّق عليه بالرهن كأنَّه أمانة.

5. ﴿وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ لا ينكره ولا بعضه ولا يماطله، بل يجازيه بالوفاء الحسن على جعله أمينا، ولم يكلِّفه الرهن، وقيل: المعنى: إن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن الظنِّ في سفر أو حضر فلم يتوثَّق منه برهن ولا كتابة ولا شهادة، وجمع بين لفظ الألوهيَّة ولفظ الربوبيَّة لمزيد التأكيد في التحذير عن أموال الناس.

6. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ إذا دعيتم لأدائها، خطابٌ للشهود في أيِّ حقٍّ، مبايعة حضرٍ أو سفر أو غيرها، ويضعف أن يجعل الخطاب لهم ولمن عليهم الحقُّ أو لمن عليهم الحقُّ، وشهادة من عليهم الحقُّ إقرارهم على أنفسهم، وفي القرآن تسميةُ إقرار المرء على نفسه شهادة في مواضع، وهو حقيقة، وقيل: مجاز وإنَّما تكون مجازا في كلام الفقهاء عرفيًّا، ولا يتبادر هنا أنَّها بمعنى الإقرار بما عليه.

7. ﴿وَمَنْ يَّكْتُمْهَا فَإِنَّهُ﴾ أي: الكاتم ﴿ءَاثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أي: أثِمَ قَلبه وإن الشأن قلب الكاتم آثم، وقد علمت أنَّ الهاء للكاتم أو للشأن، وإذا كانت الهاء للكاتم فـ (ءَاثِمٌ) خبر (إِنَّ)، و(قَلْبُهُ) فاعل (ءَاثِمٌ)، أو في (ءَاثِمٌ) ضميره، و(قَلْبُ) بدلُ الضمير بَدَلَ بعضٍ، أو (ءَاثِمٌ) خبر مقدَّم و(قَلْبُهُ) مبتدأ والجملة خبر (إِنَّ)، وإذا جعل الهاء للشأن فـ (ءَاثِمٌ) خبر مقدَّم، و(قَلْبُ) مبتدأ، والجملة خبر خبر (إِنَّ)، والوصف ومرفوعه الظاهر على الفاعليَّة ليسا جملة فلا يفسَّر بهما ضمير الشأن ولو جعل مبتدأ مستغنيا عن الخبر بمرفوع، وقيل: هو جملة مع مرفوعه المغني عن خبره، وهو الحقُّ، إِلَّا أنَّه شُهر لهذا تقدُّم النفي أو الاستفهام، وأسند الإثم للقلب لأنَّه محلُّ الكتم، وإسناد الفعل إلى جارحته أبلغ، كما تقول في التأكيد: (هذا مِمَّا أبصرَتْهُ عيني، ومِمَّا سمعَتْهُ أذني، وعرفه قلبي)؛ ولأنَّ القلب إذا أثم تبعه غيره كما جاء في الحديث أنَّه: (إذا صلح صلح الجسد، وإذا فسد فسد الجسد)، وجاء أنَّه (إذا أذنب العبد حدث في قلبه نكتة سوداء، وكلَّما أذنب حدثت نكتة سوداء حتَّى يسودَّ كلُّه).

8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فيعاقب الشاهد الكاتم بذلك الحقِّ كلِّه كأنَّه في ذمَّته، كما يعاقب الذي هو في ذمَّته.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/183.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ ليس تعليق مشروعية أخذ الرهن بالسفر وعدم وجود كاتب يكتب وثيقة بالدين لاشتراطهما معا، وإنما المراد بيان الرخصة في ترك الكتابة لعذر، وكون الرهن يقوم مقام الكتابة في الاستيثاق عند تيسرها كما يكون في حال السفر، وإلا فقد رهن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم درعه في المدينة ليهودي، ورواه الشيخان وقد خالف الجمهور في هذا مجاهد والضحاك.

2. في جعل عدم وجدان الكاتب مقيدا بحال السفر إشارة إلى أنه ليس من شأن مواطن الإقامة أن تكون خلوا من الكتاب، والكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، وناهيك بالفريضة إذا أكدت كالكتابة حينئذ يقطع بأن المؤمنين لا بد أن يأتوها، بل لا يفرض أن يخالفوها وألا يوجد الكتاب عندهم إلا حيث يمكن أن يكونوا معذورين كما يكون في السفر، وهذا مفهوم من العبارة بالإشارة وهو من أدق أساليب البلاغة.

3. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ قيد الضحاك جواز الائتمان بالسفر ومنعه في الإقامة حيث يجب الاستيثاق بالكتاب والإشهاد وهو ضعيف، وزعم بعضهم أن هذا ناسخ لما ذكر في الآية السابقة من الأمر بهما وهو ضعيف أيضا، فإن الآيتين نزلتا معا في أحكام الأموال فلا يعقل نسخ حكم فيهما قد أكد بأشد المؤكدات بحكم آخر ذكر معلقا بأداة الشرط التي لا تقتضي الوقوع وهي (إن) وعندي أن المؤتمن عليه هاهنا عام يشمل الوديعة وغيرها، فالمعنى: إن اتفق أن أحدا منكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه، وليتق الله ربه فلا يتخون من الأمانة شيئا أنه لا حجة عليه بها ولا شهيد؛ فإن الله ربه خير الشاهدين فهو أولى بأن يتقى ويطاع.

4. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ النهي عن كتمان الشهادة بعد النهي عن إباء تحملها على أحد الوجوه في قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ تأكيد كتأكيد أمر الكاتب بأن يكتب بعد نهيه عن الإباء، فقد أمر الله الكتاب والشهود بأن يعينوا الناس على حفظ أموالهم، وحرم عليهم أن يقصروا في ذلك، كما حرم على أرباب الأموال أن يضاروهم، فلا بد من الجمع بين مصلحة الجميع.

5. لما كان الذي يدرك الوقائع التي شهد بها ويعيها هو القلب وهو لب الإنسان وآلة عقله وشعوره كان كتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه، ولذلك جعله هو الآثم أي هو موضع الإثم في هذا الكتمان وحده، وإلا فهو مصدر كل إثم، وهذا يدفع ما يزعمه الجاهلون من أن الإثم لا يكون إلا بعمل الجوارح وحركات الأعضاء الظاهرة، وما قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ إلا؛ لأن للفؤاد أي القلب، أو النفس أعمالا خاصة به وأعمالا يزعج الجوارح إليها، فأضيف إليه ما هو خاص به وأسند الباقي إلى مظهره من السمع والبصر في هذه الآية، ومن الأيدي والأرجل في نصوص أخرى، ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية وهي شر الذنوب والآثام.

6. دلت الآية على أن الإنسان يؤاخذ على ترك المعروف كما يؤاخذ على فعل المنكر؛ لأن الترك في الحقيقة فعل للنفس يعبر عنه بالكتم والكتمان في مثل الشهادة، وبالكف في غيرها، ولكل مقام مقال فكل ذلك يعد في الحقيقة فعلا وعملا، ولذلك قال: والله بما تعملون عليم وفي هذا من الوعيد ما مر بيان مثله.

7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالكتابة والإشهاد، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/129.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة، أولم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا، فاستوثقوا برهن تقبضونه.

2. ذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن في غير ذلك، فقد رهن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم درعه في المدينة ليهودي بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.

3. في الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر، لا في مواطن الإقامة، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة.

4. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، فليؤدّ المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به، وليتق الله ربه فلا يتخوّن من الأمانة شيئا، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى، وسمى الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به.

5. الآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هي الأصل، والعزيمة للاحتياط في الديون ـ وهذه الآية رخصة أباحها الله لنا حين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه في مثل هذه الحال، فالله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلّته إذا هو ائتمنه.

6. ثم أكد الله تعالى وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ بقوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أي ولا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب، وسرّ هذا التأكيد أن الكتّاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم، فعليهم ألا يقصروا في ذلك، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع.

7. نسب الله تعالى الإثم إلى القلب، لأنه هو الذي يعي الوقائع ويدركها ويشهد بها، فهو آلة الشعور والعقل، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ فأسند إلى الفؤاد: أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر، ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد.

8. الآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضرّ غيرها.

9. كل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين، والكتابة أقوى من الشهادة، والشهادة عون لها، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكّر واطمأن قلبه كما قال ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾

10. للكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هي فهي التي يرجع إليها ويعمل بها.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/78.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، أخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام.. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتبا، فتيسيرا للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾

2. وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله، فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه، والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي، وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء.

3. في بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الائتمان، ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر، والائتمان خاص بهذه الحالة، والدائن والمدين كلاهما ـ في هذه الحالة ـ مؤتمن.

4. في ظل هذه الاستجاشة إلى التقوي، يتم الحديث عن الشهادة ـ عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد ـ لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، ويتكئ التعبير هنا على القلب، فينسب إليه الإثم، تنسيقا بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة، فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب، ويعقب عليه بتهديد ملفوف، فليس هناك خاف على الله.

5. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب! ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/338.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تبين هذه الآية حكما من أحكام الدين، وذلك حين يكون المتداينين على سفر، وليس هناك من كاتب يكتب لهما، كما أمر الله في الآية السابقة، والحكم التعليمي هنا هو أن يقدّم المدين ليد الدائن رهنا يضمن دينه، وبذلك لا يكون هناك سبيل للمدين أن يماطل أو ينكر، فإن ماطل أو أنكر كان في يد الدائن ما يفي بدينه، وهو الرهن المقبوض.

2. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ وذلك حين لا يكون في يد طالب الدين ما يقدمه لمن يطلب الاستدانة منه كرهينة لما يستدينه.. ففي هذه الحال يترك الأمر لتقدير الدائن، فإن أمن المدين، واطمأن إلى سلامة دينه، واستشعر الوفاء بدينه، داينه، وجعل هذا الدين أمانة في ذمته، يؤديه إليه في الأجل المحدد له، على أن يشهد على هذا الدين.

3. ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أمر إلزامي للمدين الذي ائتمنه الدائن، ولم يكتب دينه، ولم يكن في يده رهن مقبوض في مقابله ـ أمر إلزامي له أن يؤدى ما ائتمن عليه، فإن خيان الأمانة هنا جرم غليظ، إذ حكم‏ الدائن على نفسه، أنه غير أهل للثقة ولا مستأهل للجميل، الأمر الذي يجور على انسانيته، ويذهب بمروءته.

﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ تذكير للمدين أن يفيء إلى تقوى الله إذا حدثته نفسه بجحد الدين أو المماطلة فيه، فإن الله له بالمرصاد، إن أحسن أحسن الله إليه، وإن أساء أخذه بذنبه، ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (102: هود)

4. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ تحذير للشهود ـ في جميع الأحوال ـ أن يكتموا ما استشهدوا عليه، فإن الشهادة أمانة، وجحودها، خيانة للأمانة.

5. ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ إشارة إلى أن الإثم قد استولى على قلبه الذي كان مستودع الشهادة، وإذ كتمها صاحبها في قلبه، وأبى أن يرسلها حين طلب إليه أداؤها إلى أهلها، فقد علقت بقلبه، ورانت عليه، وتغير وجهها، واصطبغ بصبغة الخيانة والإثم.

﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي مطلع على ما ضمّت عليه القلوب، وما أعلنته أو أخفته.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/386.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ هذا معطوف على قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [البقرة: 282] الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالبا، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة.

2. الرهان جمع رهن ـ ويجمع أيضا على رهن بضم الراء وضم الهاء ـ وقد قرأه جمهور العشرة: بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بضم الراء وضم الهاء، وجمعه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم، والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسمية للمفعول بالمصدر كالخلق، ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه، وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير:

çوفارقتك برهن لا فكاك له‏...يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقاé

والرهن شائع عند العرب: فقد كانوا يرهنون في الحمالات والديات إلى أن يقع دفعها، فربّما رهنوا أبناءهم، وربّما رهنوا واحدا من صناديدهم، قال الأعشى يذكر أنّ كسرى رام أخذ رهائن من أبنائهم:

çآليت لا أعطيه من أبنائنا...رهنا فنفسدهم كمن قد أفسداé

وقال عبد الله بن همّام السلولي‏:

çفلمّا خشيت أظافيرهم‏...نجوت وأرهنتهم مالكاé

ومن حديث كعب بن الأشرف أنّه قال لعبد الرحمن بن عوف: ارهنوني أبناءكم، ومعنى فرهان: أي فرهان تعوّض بها الكتابة.

3. وصفها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف، لأنّ الرهان لا تكون إلّا مقبوضة، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخذ من الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيب إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين.

4. الآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها، وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقا بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلّا إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب، ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضا؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه، وقد أخذ مجاهد، والضحّاك، وداوود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ومن أصحابه في الحضر.

5. الآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعا، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي: القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة: لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة: هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة: هو شرط في اللزوم قريبا من قول مالك، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبض من لوازمه، فلذلك يجبر الراهن على تحويز المرتهن إلّا أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوة الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفا للرهن، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض، وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزا، وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضا عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقا إلى ماهية البيع.

6. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين: أي إن أمن كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض ـ المرفوع ـ هو الدائن، والبعض ـ المنصوبـ هو المدين وهو الذي ائتمن.

7. الأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمنا، والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمّن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول، وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله، وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفة الأمين عند قوله تعالى: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ في سورة الأعراف [68]، وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة؛ لأنّها ضدّها، وفي الحديث: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)

8. الأداء: الدفع والتوفية، وردّ الشيء أو ردّ مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، والمعنى: إذا ظننتم أنّكم في غنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم، فأعطوا الأمانة حقّها.

9. علمت ممّا تقدم عند قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أنّ آية ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾:

أ. تعتبر تكميلا لطلب الكتابة والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور، ومعنى كونها تكميلا لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فنعمّا، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما، وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله،

ب. تقدم أيضا أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجبا ثم نسخ وجوبه، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري، ومحمل قولهم وقول أبي سعيد ـ إن صحّ ذلك عنه ـ أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة، وتسمية مثل ذلك نسخا تسمية قديمة.

ج. أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكما محكما، ومنهم الطبري، فقصروا آية ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية على كونها تكملة لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطواه، ولو أنّهم قالوا: إنّ هذه الآية تعني حالة تعذّر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلّا أن يأمن بعضكم فالتقدير: فإن لم تجدوا رهنا وأمن بعضكم بعضا إلى آخره لكان له وجه، ويفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طوى هذا ترغيبا للناس في المواساة والاتّسام بالأمانة، وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون.

د. وأظهر ممّا قالوه عندي: أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون: من إشهاد، ورهن، ووفاء بالدّين، والمتعلّقة بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة بعض ليشمل الائتمان من كلا الجانبين: الذي من قبل ربّ الدين، والذي من قبل المدين، فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر، والمدين يأتمن الدائن إذا سلّم له رهنا أغلى ثمنا بكثير من قيمة الدين المرتهن فيه، والغالب أنّ الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كلّ جانب مؤتمن أن يؤدّي أمانته، فأداء المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهنا متجاوز القيمة على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين؛ لأنّ الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئا من الرهن، ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين: معنى الصفة التي يتّصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمّن، فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلق الرهن: وهو أن يصير الشيء المرهون ملكا لربّ الدّين، إذا لم يدفع الدين عند الأجل، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن) وقد كان غلق‏ الرهن من أعمال أهل الجاهلية، قال زهير:

çوفارقتك برهن لا فكاك له‏...عند الوداع فأمسى الرهن قد غلقاé

10. ﴿أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضا، وذلك كيلا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر.

11. زيد في التحذير بقوله: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، وذكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله: (وليتّق ربّه) لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة.

12. ﴿الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وقع فيه ياء هي المدة في آخر (الذي) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال، والثانية قطعية أصلية، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال، وهو الهمزة الأولى، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال، وقرأه ورش عن نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر: الّذي تمن بياء بعد ذال الذي، ثم فوقية مضمومة: اعتبارا بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واوا بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واوا بعد كسرة ذال (الذي) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان، وقرأه أبو بكر عن عاصم: الذي اوتمن بقلب الهمزة واوا تبعا للضمة مشيرا بها إلى الهمزة، وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف.

13. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها، فكان هذا النهي ـ بعمومه ـ بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين.

14. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ نهي، ومقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول: أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عروض فعله، ولولا إفادته التكرار لما تحقّقت معصية، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهيّ عنه، فلذلك كان حقّا على من تحمّل شهادة بحقّ ألّا يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضي به، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طروّ نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظ للحقّ الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده.

15. إذ قد علمت ـ آنفا ـ أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله: ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ [البقرة: 282]، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة: 282] فعلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهارا للحق، ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بيانا: قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) رواه مالك في (الموطّأ)، ورواه عنه مسلم والأربعة، فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر، ولكن روى في (الصحيح) عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (خير أمّتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ـ قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ـ ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا) الحديث، وهو مسوق مساق ذمّ من وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يستشهدوا، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة، وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض: حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذبا، وإلّا فقد جاء في (الصحيح): (خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)، وروى مسلم عن عمران بن حصين: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ـ قالها مرتين أو ثلاثا ـ ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون) الحديث، والظاهر أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين حديث واحد، سمعه كلاهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّنا لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله: قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مشهد، أي أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله: وحملوا ما في الحديث ـ أي حديث أبي هريرة ـ على ما إذا شهد كاذبا، فهذا طريق للجمع بين‏ الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن، وقال النووي: تأوّله بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق الله قال النووي: (وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا) وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغى أحدهما.

16. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالشهادة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

17. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ زيادة في التحذير، والإثم: الذنب والفجور، والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا، وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلبـ أي حركات العقل ـ يسبّب ارتكاب الإثم: فإنّ كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى: [الأعراف: 116] وإنّما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات.

18. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلّا الجهل فإذا كان عليما أقام قسطاس الجزاء.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/584.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الكتابة، عند من يقول: إن الأمر للوجوب؛ أو وصى سبحانه وتعالى بالكتابة وأرشد إليها؛ وفى هذه الآية يبين سبحانه حال الترخص من الكتابة، وهى الحال التي لا تكون الكتابة فيها ممكنة، إذ يكون المتداينان على سفر، ولا يوجد كاتب؛ فإنه في هذه الحال يترخص في عدم الكتابة، ويعوض عن الكتابة والشهادة في الاستيثاق بالرهن، وإن لم يكن رهن فإنه يكون الاعتماد على الأمانة المطلقة حيث تعذر الاستيثاق بالأمور المادية، وهى: الكتابة والشهادة عليها، ثم الرهان المقبوضة، فيقوم مقام هذه الأمور الأمانة والذمة.

2. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ الرهان: جمع رهن بمعنى مرهون، فرهن ليس معناها المصدر، بل معناها العين المرهونة، وقرئ (فرهن مقبوضة)، وقد خرج بعضهم هذه القراءة على أن (رهن) جمع رهان بمعنى رهن، وخرجه بعضهم على أنه جمع رهن كسقف وسقف، وفرش وفرش، وحلق وحلق، وهكذا، وقرئ بدل‏ ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ (ولم تجدوا كتابا)، والمعنى فيما يظهر: إذا كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو قرطاسا يكتب فيه، أو لم تتيسر أسباب الكتابة لأى سبب من الأسباب، فإنه يقوم مقام الكتابة رهن يستوثق به في أداء الدين، وإنه لا يقوم مقام الكتابة فقط بل يقوم أيضا مقام الشهادة، وهنا إشارتان بيانيتان ويجب التنبيه عليهما:

أ. أولهما: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن المسافر في حال بيان الرخصة التي ترخص له بسبب السفر بقوله تعالى: ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ وقد عبر سبحانه بذلك في حال رخصة الإفطار، ورخصة ترك الكتابة، ورخصة التيمم عند عدم وجود الماء؛ وذلك لأن معنى‏ ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ يتضمن معنى الركوب، أي راكبين فوق سفر؛ وذلك يشير إلى اضطراب الحال والقلق والانزعاج، فليست الحال حال استقرار، إذ من كان مركبه سفرا وانتقالا مستمرا، فهو غير مستقر ولا مطمئن، وتلك الإشارة تتناسب مع الترخيص في الإفطار، والترخيص في ترك الكتابة، والترخيص في التيمم.

ب. ثانيهما: أن في الآية قراءتين متواترتين كما بينا؛ إحداهما: ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ والأخرى (ولم تجدوا كتابا) وإذا كانت القراءتان متواترتين فكلتاهما قرآن مقروء مفهوم بمعناها، ومجموع القراءتين يؤدى معنى تتضافران في أدائه، وهو أنه في حال السفر يقوم الرهن مقام الكتابة والشهادة إذا لم يوجد كاتب، أو وجد الكاتب ولم يوجد الكتاب، أو أي أداة من أدوات الكتابة.

3. الفقهاء في ظل هذا النص الكريم يتكلمون في مسائل فقهية، ويقتبسون معانيها من إشاراته وعباراته؛ وإنا نوجز المسائل التي يتكلمون فيها في ثلاث:

أ. أولها: إن الذين يقولون: إن الأمر في الكتابة والاستشهاد على الدين للوجوب يقول بعضهم: إن الترخص في الرهن بدل الكتابة والشهادة إنما يكون فى‏ حال السفر، وكل حال يتحقق فيها المعنى المسوغ للترخيص في السفر، وهو عدم وجود الكاتب الذي يكتب، أو الأداة التي يكتب بها، أو القرطاس الذي يكتب عليه، ولو كان في حضر لا في سفر؛ لأن المعنى وهو تعذر أو تعسر وجود الكاتب أو ما يكتب به يتحقق في هذه الحال كما يتحقق في السفر، ولكن ذكر السفر؛ لأنه مظنة لذلك التعذر، وهو فيه كثير عند العرب لغلبة الأمية عندهم، أما في الحضر فذلك نادر، وإن وجد فإنه يطبق عليه حكم السفر، وبعض هؤلاء الذين قالوا إن الكتابة واجبة والشهادة عليها مثلها قالوا: إن الترخص مقيد بالسفر، ولا ترخص بغير الكتابة في الحضر، وكأنهم بهذا يرون أن من الضروري أن يكون في كل قرية أو حي كاتب وأدوات كتابة، وأن على أهل هذه القرية أن يهيئوا الأسباب لذلك؛ لأنه فرض كفاية إن تركه الجميع أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن كلهم.

ب. الثانية: أن الرهن يقوم مقام الشهادة والكتابة في الاستيثاق من أداء الدين؛ ولذلك فإن المعقول أن يكون قريبا من الدين في قيمته، وقد استنبط مالك من هذا أنه إذا اختلف الدائن والمدين في مقدار دين موثق برهن ولم يكن للدائن بينة تثبت مقداره فإنه لا توجّه اليمين إلى المدين، بل يحكّم الرهن؛ فما يشهد له الرهن يكون القول قوله؛ فإن كان مثل ما يقول المدين أو أقل فالقول قول المدين، وإن كان مثل ما يقول الدائن أو أكثر فالقول قول الدائن، وقال أبو حنيفة والشافعي إن اليمين في كل الأحوال على المدين ما لم تكن بينة للمدعى، وحجة مالك أن الرهن قائم مقام الشهادة والكتابة فهو شهادة وكتابة معا؛ فما يشهد به يكون الحكم على مقتضاه.

ج. الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فقد أخذ بنص الآية الكريمة أبو حنيفة وأصحابه، وقرروا أن الرهن لا يتم إلا بالقبض فإن لم يكن قبض لا يتم، فإذا افترق العاقدان من غير قبض فالرهن غير صحيح، وقال مالك: إن الرهن يتم من غير القبض، ولكن القبض حكم من أحكامه، فمن حق المرتهن وهو الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة، فالقبض حكم للعقد، وليس ركنا من أركانه، ولا شرطا لتمامه، وقال الشافعي إن الرهن يتم من غير حاجة إلى القبض، وإنما الرهن للاستيثاق من الوفاء بالدين، ووصف (مقبوضة) جرى مجرى العرف، وليس وصفا له مفهوم يعطى تخلفه غير حكمه، بل يكون الرهن مقبوضا أو يكون غير مقبوض، وأثره في حال عدم القبض أن يتعلق حق الدائن بالعين بحيث يمنع صاحب العين من التصرف فيها حتى يستوفى الدين، وأنه إذا حل الأجل من غير أن يوفى المدين فإنه تباع العين في سبيل أداء الدين،، وكأنه في المذهب الشافعي كما هو في القانون المدنى المصري الرهن ينقسم إلى قسمين: رهن حيازة، وهو الذي يتم فيه القبض، ويكون أكثر ما يكون في المنقول؛ ورهن تأميني، وهو الذي يستمر تحت يد المدين، ولكن يؤمن به الدين ويوثق، وهو أكثر ما يكون في العقار، يوثق به الدين، وهما في سفر ولا كاتب ولا شهيد أيمتنع القرض ويكون الحرج على المدين، وقد يكون في ضرورة للاستدانة وهو مليء في دياره يستطيع الأداء عند عودته؟ إنه لم يبق إذن إلا الاعتماد على أمانته، وهذا هو الذي يتبين في ذلك النص الكريم؛ والمعنى: إذا أمن الدائن المدين، واعتمد على ذمته ومقدار أمانته، فليؤد الدين في ميعاده؛ لأنه أمانة في عنقه، ولأن الدائن اعتمد على حسن أدائه وعلى مقدار ما عنده من أمانة، فلا يضيع رجاء الخير فيه؛ ولأن الله سبحانه عليم بما في الصدور، فليتق الله ربه، وإذا كان النص الكريم قد جاء في مساق الدين وتوثيقه، فإن اللفظ عام يعم وجوب أداء الأمانات كلها سواء أكانت ديونا في الذمة، أم كانت ودائع مقبوضة، أم كانت أمانات مرسلة حمل المؤتمن أداءها.

4. فى النص الكريم عدة إشارات بيانية، تتضافر في مجموعها، وتؤكد وجوب أداء الأمانة:

أ. أولها: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ فإن التعبير بـ (أمن) بدل أعطى أو أودع، إشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه وهو خلق الأمانة في صاحبه، فهو لا يرى فيه إلا جانبا مأمونا لا يتوقع منه شرا من جحود أو خيانة.

ب. ثانيها: ذكر الظاهر بدل الضمير في قوله تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ فإن التعبير بالموصول هنا يشير إلى علة وجوب الأداء، أو إلى توثيق الأداء؛ لأنه ائتمنه، فحق عليه أن يؤدى الأمانة.

ج. ثالثها: في إضافة الأمانة في قوله تعالى: ﴿أَمَانَتَهُ﴾ فإن الأمانة هي في الواقع للدائن أو المعطى من حيث إنه مالك للدين وللوديعة ونحوها، ولكن أضيفت إلى المدين من حيث إنها عبء عليه يجب أن يؤدى، وبأدائه يزيل ما عليه من عبء فإن الأمانة عبء ثقيل لمن عرف حقها.

د. رابعها: قوله تعالى: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ فإذا كان صاحب الحق لم يوثق حقه بكتاب أو شهادة أو رهن، فإن التقوي هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدلها وثيقة.

5. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ فيه طلب للتقوى مؤكد بالأمر، وبالتعبير بلفظ الجلالة الذي يربى ذكره المهابة في النفس، إذ يحس القارئ بعظمة الخالق وجبروته وألوهيته، ومؤكد أيضا بالتعبير بربه؛ إذ فيه إشارة إلى أنه خالقه وبارئه ومربيه، والمهيمن الدائم عليه.

6. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ بيّن سبحانه في النص السابق وجوب أداء الأمانة عامة، ولأن الكلام في الديون وطرق توثيقها كانت دالة على وجوب أداء الأمانة في الديون خاصة، وفى هذا النص الكريم يبين نوعا من الأمانات يجب أداؤه، وأداؤه أشد وجوبا، وأغلظ تكليفا، وهو أمانة الشهادة؛ فإن العلم بصاحب الحق أمانة في عنق العالم به يجب عليه أداؤها عند طلب ذلك منه أمام القضاء أو أمام غير القضاء؛ وإن هذه الأمانة كانت أغلظ الأمانات لأنها تناط بها الحقوق، وانتظام المعاملات، وقيام المجتمع على أساس من الثقة وتبادل المنافع؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ وكتمان الشهادة ألا يقول ما عاين، بأن‏ يمتنع عن الذهاب إلى مجلس القضاء مطلقا، أو يذهب ويقول لا أعلم؛ فإن ذلك فوق أنه كتمان كذب، أو يقول بعض ما يعلم، والأداء أن يقول كل ما يعلم حيث طلب إليه أن يقول، ولا يترك شيئا مما يعلمه متصلا بموضوع الشهادة.

7. وصف الله سبحانه من يكتم الشهادة بالإثم، وأسند الإثم إلى القلب، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ وقد أسند الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، وهذا من قبيل المجاز، وهو تعبير عن الكل باسم الجزء؛ لأن لذلك الجزء مزيد اختصاص في موضع الحكم؛ لأن الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح؛ ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ولو كان الإثم من عمل الجوارح، فهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسم كله، وإذا فسدت فسد الجسم كله، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى: (كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ؛ ألا تراك إذا أردت التوكيد تقول: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبي؟ ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان، وليعلم أن القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهى لها كالأصول التي تشع منها؛ ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب؛ فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب)

8. سؤال وإشكال: إن ما يهم به القلب لا يحاسب عليه الشخص؛ ألا ترى أن من هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، فكيف يكون إثم في عدم أداء الشهادة، وهى ليست إلا عملا قلبيا لا أثر له في الجوارح؟ والجواب: أن‏ أعمال القلب ليست معفاة من الإثم دائما، إنما الذي يعفى من العقاب ما يجول بخاطره ويتمناه من غير أن يكون له أثر في الجوارح، أما ما يعتزمه ويصمم عليه، ويتجه إليه، ولكن يفوت التمام لأمر خارج عن إرادته وليس له قبل به، كمن يعتزم قتل شخص ويذهب إليه ليفترسه، وقد عقد النية، واستحصد العزيمة، ولكن أفلت من يده، أفلا يكون ثمة إثم؟ وأحيانا تكون عزيمة القلب وحدها هي موضع المؤاخذة، وذلك إذا كان عمل القلب كف الجوارح عن العمل في موضع يجب فيه العمل، فترك الواجبات كلها موضع مؤاخذة، ومن ذلك ترك الشهادة، وفى الشرع الإسلامي جرائم تسمى جرائم الترك، وهى الجرائم التي يكون الجزاء فيها ليس على الفعل، ولكن على ترك واجب، كمن يرى شخصا يموت جوعا ومعه مال ولا يسد غائلة جوعه، وكمن يرى أعمى يتردى في بئر ويتركه قاصدا بالترك أن يموت، وهكذا؛ ومن ذلك النوع كتمان الشهادة، فهو ترك الواجب، وهو إثم وجريمة بسبب ذلك الترك.

9. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ ختمت الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للوعد والوعيد، ببيان علم الله ذي الجلال والإكرام المنتقم الجبار علما دقيقا بما يعمله كل إنسان؛ يعلم الخير والشر، ويعلم ما تخفى الصدور، وما تكنه القلوب، وما يظهر على الجوارح، فيجازى على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، ومن يأكل أموال الناس بالباطل إنما يأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1077.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، بعد ان أمر الله بكتابة الدين صيانة له جعل الرهن وثيقة له بدلا عن الكتابة، حيث تتعذر في السفر، واتفق الفقهاء على ان عقد الرهن لا يتم إلا بالقبض، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، والتفصيل في كتب الفقه.

2. سؤال وإشكال: ان الرهن جائز في السفر والحضر، ومع وجود الكاتب وعدمه، فما هو القصد من التقييد بالسفر، وعدم وجود الكاتب؟ والجواب: تخطى بعض المفسرين هذا السؤال، وتجاهله بالمرة، مع انه يسبق الى ذهن كل عارف بالأحكام الشرعية:

أ. وأجاب أكثرهم عنه بأن الله أجراه على الأعم الأغلب، إذ الغالب في السفر عدم وجود الكاتب في ذاك العصر.. ويلاحظ بأن الغالب في السفر أيضا عدم وجود الرهن، ومن الذي يحمل في سفره أشياءه التي يمكن رهنها إلا ما ندر؟

ب. والجواب الصحيح ان الآية بظاهرها تدل على عدم جواز الرهن في الحضر، بناء على ان للشرط مفهوما، وهو هنا: ان لم تكونوا على سفر فلا رهان، ولكن هذا الظاهر لا يجوز الاعتماد عليه بعد أن ثبت ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذي نزل الوحي على قلبه لم يعمل به، فلقد رهن درعه عند يهودي، وهو حاضر في المدينة، وليست هذه هي الآية الوحيدة التي نترك ظاهرها بالسنة النبوية، ومن هنا أجمعت الأمة على عدم جواز العمل بظاهر آية من آيات الأحكام الشرعية إلا بعد البحث والتنقيب عن الأحاديث النبوية الواردة مورد الحكم المدلول للآية الكريمة.

3. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، أي ان الدائن إذا أحسن الظن بالمديون، وأعطاه بلا صك ولا رهن ولا إشهاد ثقة بصدقه ووفائه، ان كان كذلك فعلى المديون أن يكون عند حسن ظن الدائن، ويرد له الحق كاملا..

4. هذا الحكم عام لا يختص بالدين، بل يشمل الأمانات بكاملها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تنظروا الى صلاة الرجل وصومه، وكثرة حجه ومعروفه، وطنطنته بالليل، ولكن انظروا الى صدق حديثه وأدائه للأمانة)، وقال الإمام زين العابدين عليه السلام: (لو ان قاتل أبي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته اليه)

5. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ فرق بين تحمل الشهادة، وبين الأدلاء بها بعد تحملها، فمعنى تحمل الشهادة ان يدعوك داع لتشهد له‏ على حق أو دين، وتجب الاجابة هنا كفاية لا عينا كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، أما الأدلاء بها فهو أن يدعوك صاحب الحق بعد أن تتحمل الشهادة لتدلي بها أمام المحاكم، ولا يسعك أن تمتنع عن اجابته إذا توقف ثبوت الحق على الاستماع إلى شهادتك، وأمنت الضرر، فإذا امتنعت، والحال هذه، فأنت آثم، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، والمراد بآثم قلبه انه يعاقب عقاب من قصد وتعمد الإثم، لأن القصد والعمد من صفات القلب.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/451.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيتان تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين والرهن وغيرهما، والأخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه، ولذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/435.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ تجزي عن الكتاب فيدفع الذي عليه الحق رهناً يقبضه الذي له الحق وثيقة في حقه ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ فلم يأخذ منه رهناً ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أي ما أتُمن عليه من الحق الذي أتُمن عليه ولم يؤخذ منه رهن، أو من الرهن إذا رده إليه حتى يرجعا البلد مثلاً، فهي تعم.

2. ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ لأنه رقيب عليه وإن تمكن من الجحد في الدنيا فلن ينفعه الجحد يوم القيامة، وهذا الكلام خاص بالسفر لعدم الكاتب، وللسفر أحكام تخصه فلا يلحق به حال السعة في الحضر؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ فالكلام الأول على أصله من إيجاب الكتاب والشهود ونسبة الإثم إلى القلب لأنه الكاتم بالكف عن الشهادة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ من كتمان أو غيره فراقبوه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/411.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ فإن الرهن وثيقة للدّين، كما هي الكتابة والشهادة، فقد تمس الحاجة إليه في بعض الحالات‏ التي لا مجال فيها للكتابة أو الشهادة، كما في الغالب من حالات السفر في المجتمع الذي يقل فيه الأشخاص الذين يتقنون القراءة والكتابة، ومن ذلك نفهم أن الرهن ليس مخصوصا بهذه الحالة، بل هي نموذج للحالات التي يطلب فيها الوثيقة على الدين بالرهن، مما قد يمكن فيه الكتابة والإشهاد، ولكن الدائن لا يريد أن يدخل في الأوضاع التي تقتضيها الدعاوي في إقامة البينات، بل يحاول أن يستوثق لنفسه بالأشياء المادية التي تحت يده، فيمكنه استيفاء دينه منه عند امتناع المدين عن وفاء الدين.. وهناك أبحاث تفصيلية في أحكام الدين والرهن تطلب من كتب الفقه، فليراجعها من يشاء.

2. ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ الظاهر أنّها واردة في الدّين الذي لا يشعر الدائن فيه بالقلق على ماله، ولا يخاف عليه من الجحود والنكران لثقته بالمدين، وفي هذه الحال لا بأس بأن يترك الإنسان الكتابة والإشهاد إن شاء ذلك، فإن الله لا يريد أن يغلق على عباده باب الثقة الشخصية المتبادلة.. ثم يتوجّه إلى هذا الإنسان الذي حصل على الثقة من صاحبه واؤتمن على الدّين أن يحافظ على هذه الثقة ويردّ على صاحبه دينه، فيحفظ الأمانة ويصون العهد، لتبقى للعلاقات الإنسانية الحميمة حيويّتها وقوّتها وامتدادها العملي في العلاقات الإنسانية، فإن الأمانة تعطي ذلك بعدا واقعيا ملحوظا، بينما يكون العكس موجبا للانطباع بمثالية ذلك في هذا المجال، بعيدا عن الضوابط المادية للأشياء.

3. ربط الله ذلك بالتقوى، للتأكيد على أن التقوي تنطلق في خط الأوضاع المادية للإنسان، كما تنطلق في أجواء العلاقات الروحية، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، وفي ضوء هذا، لا بد من حركة التربية الإسلامية في هذا الاتجاه، كما لو كانت أمرا عباديّا محضا، ليتعلم الناس أن يراقبوا الله في تفاصيل العلاقات، كما يتعلمون أن يراقبوه في تفاصيل العبادات، فيكون ذلك مثارا للاهتمام الفردي والاجتماعي في جوانبه الفقهية الشرعية.

4. ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ فإن إظهار الحق مسئولية الإنسان لإقامة العدل بمعاونة الجهات القضائية لتقوية فرص حركة العدالة في قضايا الناس، فإنه إذا امتنع عن ذلك انطلاقا من أوضاع ذاتية معقدة، كانت الفرص أمام القضاء محدودة في الوصول إلى نتيجة جيّدة حاسمة، مما يجعل من هذه القضية شيئا مرتبطا بالإيمان القلبي الذي يفرض على الإنسان الاهتمام بالقضايا الحيوية للمجتمع، من موقع مسئوليته الإيمانية فيما تمثله من خط عملي في الحياة.

5. ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ لأنه يدل على الانحراف في اهتماماته وتصوراته التي تبعده عما يحبه الله ويرضاه في هذا المجال من اهتمام المؤمن بأمور المؤمنين فيما يرفع مستواهم الفردي والاجتماعي في خط العدالة.

6. سؤال وإشكال: هلا اقتصر على قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ﴾ وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ والجواب: جاء في تفسير الكشاف: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترانه، واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وربما أريد بذلك التأكيد على عقدة الإثم الكامنة في قلبه انطلاقا من خبث ذاته التي لا تفكّر بالخير للناس، لا سيما هؤلاء الذين ائتمنوه على الشهادة ووجدوا فيها عونا على إثبات حقوقهم، كما رأوا فيه الإنسان الذي يؤدي الأمانة إلى أصحابها وإلى الله، لأنها أمانة الله كما هي أمانة الناس عنده، فقد يكون التعبير واردا في الإشارة إلى دلالة الكتمان على إثم القلب الذي يلتقي مع خبث السريرة وفساد النية وإضمار الشر للناس؛ والله العالم.

7. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فلا يحاول أحد منكم أن يعتذر بما لا مجال فيه للعذر فيما يكتمه الإنسان من الشهادة التي يحملها، اعتمادا على إنكار معرفته بذلك الموضوع من جهة، أو على وجود ظروف شرعية تمنعه من إظهار شهادته، أو ادعاء عدم وضوح القضية بالمستوى الذي يستطيع تقرير النتائج بشكل حاسم، فإن الله عليم بكل ما يعمله الإنسان في السر والعلن.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/178.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام أخرى:

أ. عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئا عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئّن الدائن‏ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، وقد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أنّ تشريع (قانون الرهن) يختصّ بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي‏ ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ يتبيّن أنّ القصد هو بيان نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتّى في موطنهما، وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت عليهم السّلام، وفي المصادر الشيعية والسنّيّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم واقترض منه مبلغا من المال‏.

ب. يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتّى يطمئن‏ ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾، جاء في تفسير العيّاشي أنّ الإمام الصادق عليه السّلام قال: (لا رهن إلّا مقبوضة)

ج. جميع هذه الأحكام ـ من كتابة العقد، واستشهاد الشهود، وأخذ الرهن ـ تكون في حالة عدم وجود ثقة تامّة بين الجانبين، وإلّا فلا حاجة إلى كتابة عقد، وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دينه في الوقت المعيّن، وأن لا ينسى تقوى الله‏ ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾

د. على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها، لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، زطبيعيّ أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحقّ بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحقّ فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.

2. بما أنّ كتمان الشهادة والامتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب‏، فقال: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ ومرّة أخرى يؤكّد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/357.

143. علم الله ودقة الحساب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈143⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 284]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال في الآية قال كانت المحاسبة قبل أن تنزل: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها(1).

__________

(1) سعيد بن منصور في سننه.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ومن لم يختلف سرّه وعلانيّته، وفعله ومقالته، فقد أدّى الأمانة، وأخلص العبادة(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ الآية؛ أحزنتنا، قلنا: أيحدث أحدنا نفسه فيحاسب به!؟ لا ندري ما يغفر منه، ولا ما يغفر منه؟ فنزلت هذه الآية بعدها، فنسختها: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(2).

__________

(1) نهج البلاغة كتاب: 26/884.

(2) الترمذي: ٢٩٩٠.

عائشة:

روي عن يحيى قال: شهدت عمرو بن عبيد ويونس بن عبيد يتناظران في المسجد الحرام في قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، فقالا: قالت عائشة (ت 57 هـ): كل روعة تمر بقلب ابن آدم تخوف من شيء لا يحل به فهو كفارة لكل ذنب هم به فلم يعمله(1).

__________

(1) ابن عدي في الكامل: ٦/١٨٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ دخل في قلوبهم شيء منه لم يدخل من شيء، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: (قولوا: سمعنا، وأطعنا، وسلمنا)، فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فأنزل الله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال قد فعلت، ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال قد فعلت، ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ الآية قال قد فعلت(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ الآية؛ أتى أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وسعد بن زرارة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ما نزل علينا آية أشد من هذه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ فذلك سر أمرك وعلانيتك، ﴿يحاسبكم به لله﴾ فإنها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون [فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ﴿ولكن يؤاخذكم بما كسب قلوبكم﴾ [البقرة: ٢٢٥] [من الشك والنفاق(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فذلك سر عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن، والله يرضى سر المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان سوءا حدث به نفسه اطلع الله عليه وأخبره به يوم تبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه، كما قال ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ١٦] (4).

5. روي أنّه قال: إن الله يقول يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحسابكم به اليوم؛ فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إذا دعي الناس للحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم مما لم يعملوه، فيقول: إنه كان لا يعزب عني شيء، وإني مخبركم بما كنتم تسرون من السوء، ولم تكن حفظتكم عليكم يطلعون عليه، فهذه المحاسبة(5).

7. روي أنّه قال: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الذنب العظيم، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على الذنب الصغير(6).

8. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ نزلت في الشهادة(7).

9. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الآية، نزلت في كتمان الشهادة، وإقامتها(8).

10. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ نسخت، فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(9).

11. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ لما نزلت اشتد ذلك على المسلمين وشق عليهم، فنسخها الله؛ فأنزل: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(10).

__________

(1) مسلم: ١/١١٦.

(2) الطبراني في مسند الشاميين: ٣/٣٢٧.

(3) أبو عبيد في ناسخه: ص٢٧٨.

(4) ابن جرير: ٥/١٣٩.

(5) ابن جرير: ٥/١٤٠.

(6) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠٣.

(7) سعيد بن منصور في التفسير من سننه: ٣/١٠٠٤.

(8) القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ: ص٢٧٤.

(9) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.

(10) آدم ابن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد: ص٢٤٦ ـ، والطبراني في الكبير: ١٢٢٩٦.

ابن عمر:

روي عن نافع أنّه قال: لقلما أتى ابن عمر (ت 74 هـ) على هذه الآية إلا بكى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ إلى آخر الآية، ويقول: إن هذا لإحصاء شديد(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في المصنف: ١٣/٣٢٦.

ابن الحنفية:

روي عن محمد بن الحنفية (ت 80 هـ) أنّه قال: معنى الآية: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من الأعمال الظاهرة، ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من الأحوال الباطنة؛: ﴿يحاسبكم به لله﴾ العابد على أفعاله، والعارف على أحواله(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠٢.

ابن أبي حازم:

روي عن قيس بن أبي حازم (ت 98 هـ) أنّه قال: إذا كان يوم القيامة قال الله ـ تبارك وتعالى ـ يسمع الخلائق: إنما كان كتابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فأما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه، ولا يعلمونه، أنا الله أعلم بذلك كله منكم؛ فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٤٠.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إنها محكمة(1).

2. روي أنّه قال في هذه الآيات: فإن جبريل عليه السلام أقرأها نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فسألها نبي الله ربه، فأعطاه إياها، فكانت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم خاصة(2).

__________

(1) عَلَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٤.

(2) ابن جرير: ٥/١٦٨ ـ: ١٦٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من اليقين والشك(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٤٧.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، يعني: كتمان الشهادة، وإقامتها على وجهها(1).

__________

(1) أبو عبيد في ناسخه من طريق حميد: ص٢٧٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: هي محكمة، لم تنسخ(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٤١.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إنّ الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة(1).

2. روي أنّه قال: نيّة المؤمن أفضل من عمله، وذلك لأنه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونيّة الكافر شرّ من عمله، وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه(2).

3. روي أنّه قال: إذا علم الله تعالى من عبد حسن نيّة اكتنفه بالعصمة(3).

4. روي أنّه قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه(4).

__________

(1) أصول الكافي: 2/428.

(2) علل الشرائع: ص524.

(3) نزهة الناظر: ص97.

(4) من لا يحضره الفقيه: 4/289.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: هي محكمة، لم ينسخها شيء، يعرفه الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا، ولا يؤاخذه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٤٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني: الإسلام، ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ يعني: الإيمان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾: حقيق على الله أن لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من حبهما(2).

3. روي أنّه قال في قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89]: (القلب السليم الّذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه، قال وكلّ قلب فيه شكّ أو شرك فهو ساقط، وإنّما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة(3).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠١.

(2) تفسير العيّاشي: 1/156.

(3) أصول الكافي: 3/26.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يقول: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت، فنسخت هذه الآية قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم؛ ما لم يعملوه، أو يتكلموا به(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هو ظاهر، إذ ما في السموات والأرض كلهم عبيده وإماؤه، ردّا على قولهم: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30]، و﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30]، و(الملائكة بنات الله)، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم في غير موضع.

﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ من الناس من استدلّ على نسخها بقوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لكنه لا يحتمل؛ لأن الآية وعد وخبر بالمحاسبة، والوعد لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف وبداء، وذلك ممن يجهل بالعواقب، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علوا كبيرا، ثم اختلف فيه:

أ. قال الحسن: هو على ما عزم لا على ما خطر بالنفس، وكذا قوله: (من هم)

ب. ويحتمل: أن يكون على التقديم والتأخير: إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به الله.

ج. ويحتمل أيضا: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وعزمتم عليه وعقدتم، لا على الخطر فيه أو حديث النفس، على ما روى: (من هم بحسنة فله كذا، ومن هم بسيئة فكذا)، ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس، على ما روى، وتحدث النفس به، ولكن على العزم عليه والاعتقاد، وكذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24]، همت هي به هم عزم، وهو هم بها هم خطر، والمرء غير مؤاخذ بما يخطر في القلب وتحدث النفس به، إنما يؤاخذ على ما عزم واعتقد عليه.

2. قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيه دليل ما قلنا: إنه على العزم والاعتقاد عليه؛ لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/289.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض ومدبرهما ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قيل: لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على من كان بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقالوا: إن نؤاخذ بما نحدث به نفوسنا هلكنا إذاً فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وهذه نسخت حكم ما قبلها.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/131.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان:

أ. أحدهما: أنه إضافة تمليك تقديره: الله يملك ما في السموات وما في الأرض.

ب. الثاني: معناه تدبير ما في السموات وما في الأرض.

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ إبداء ما في النفس هو العمل بما أضمروه، وهو مؤاخذ به ومحاسب عليه، وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به، وفيما أراد به قولان:

أ. أحدهما: أن المراد به كتمان الشهادة خاصة، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي.

ب. الثاني: أنه عام في جميع ما حدّث به نفسه من سوء، أو أضمر من معصية، وهو قول الجمهور.

3. اختلف في هذه الآية، هل حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره وحدّث به نفسه؟ أو منسوخ؟ على قولين:

أ. أحدهما: أن حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره، واختلف فيه من قال بثبوته على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن حكمها ثابت على العموم فيما أضمره الإنسان فيؤاخذ به من يشاء، ويغفر لمن يشاء، قاله ابن عمر، والحسن.

الثاني: حكمها ثابت في مؤاخذة الإنسان بما أضمره وإن لم يفعله، إلا أنّ الله يغفره للمسلمين ويؤاخذ به الكافرين والمنافقين، قاله الضحاك، والربيع، ويكون‏ ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ محمولا على المسلمين، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ محمولا على الكافرين والمنافقين.

الثالث: أنها ثابتة الحكم على العموم في مؤاخذته المسلمين بما حدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون لها، ومؤاخذة الكافرين والمنافقين بعذاب الآخرة، وهذا قول عائشة.

ب. الثاني: أن حكم الآية في المؤاخذة بما أضمره الإنسان وحدث به نفسه وإن لم يفعله منسوخ، واختلف من قال بنسخها فيما نسخت به على قولين:

أحدهما: بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال أنزل الله‏ ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فاشتد ذلك على القوم فقالوا: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا، هلكنا، فأنزل الله تعالى‏: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وهو أيضا قول ابن مسعود.

الثاني: أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏: لما نزلت هذه الآية ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا)، قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم، قال فأنزل الله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية، فقرأ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، فقال تعالى: قد فعلت، ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، قال قد فعلت‏ ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، قال قد فعلت، ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، قال قد فعلت.

4. الذي أقوله فيما أضمره وحدّث به نفسه ولم يفعله إنه مؤاخذ بمأثم الاعتقاد دون الفعل، إلا أن يكون كفّه عن الفعل ندما، فالندم توبة تمحص عنه مأثم الاعتقاد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/360.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بالرفع عاصم، وابن عامر على الاستئناف في قول المبرد، ويجوز أن يكون محمولا على تأويل (يحاسبكم) لأنه لو دخلته الفاء كان رفعاً، فيكون فيه على هذا معنى الجواب، وقرأ الباقون على الجزم: عطفاً على (يحاسبكم) وهو جواب الشرط، وكان يجوز أن يقرأ فيغفر بالنصب على مصدر الفعل الأول وتقديره إن يكن محاسبة، فيغفر لمن يشاء، وروي ذلك عن ابن عباس.

2. اللام في قوله: (لله) لام الملك ومعناه ان لله تصريف السماوات والأرض وتدبيرهما لقدرته على ذلك وليس لأحد منعه منه.

3. إنما ذكر قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ لأن المعنى فيه كتمان الشهادة، ويحتمل أن يريد جميع الأحكام التي تقدمت في السورة، خوفهم الله من العمل بخلافها، وقال قوم هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ورووا في ذلك خبراً ضعيفاً، وهذا لا يجوز لأمرين:

أ. أحدهما: أن الاخبار التي لا تتضمن معنى الأمر والنهي والاباحة لا يجوز نسخها، وهذا خبر محض خال من ذلك.

ب. الثاني: لا يجوز تكليف نفس ما ليس في وسعها على وجه، فينسخ.

4. يجوز أن تكون الآية الثانية بينت الاولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه، فلم يضبط الرواية فيه، وظن أن ما يخطر للنفس أو تحدث نفسه به مما لا يتعلق بتكليفه فان الله يؤاخذه به، والأمر بخلاف ذلك، وإنما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا، فأما ما لا يدخل في التكليف فخارج عنه لدلالة العقل، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تجوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها)

5. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ معناه ممن يستحق العقاب بأنه إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، وذلك يقوّي جواز العفو عقلًا، وإنما يقطع على عقاب بعض العصاة لدليل، وهم الكفار ـ عندنا (2) ـ فأما من عداهم فلا دليل يقطع به على أنهم معاقبون لا محالة، والآيات التي يستدلون بها نبين الوجه فيها إذا انتهينا إليها إن شاء الله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/382.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإبداء: الإعلان والإظهار.

ب. الإخفاء: الكتمان.

ج. قدير وقادر بمعنىً إلا أن في ﴿قَدِيرٌ﴾ مبالغة؛ لأنه معدول.

2. اختلفوا في كيفية اتصال الآية بما قبلها:

أ. قيل: لما فرغ الله تعالى من بيان القرائض والشرائع المذكورة في السورة ختم بالموعظة والتوحيد والخضوع لله والإقرار بالجزاء ليحذروا خلاف أمره، عن الأصم.

ب. وقيل: لما قال: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أتبعه بقوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ فمن كان كذلك لا يخفى عليه شيء، ثم بين ذلك بقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: لما أمر تعالى بهذه الوثائق صيانة للأموال واحتياطًا بين أنه إنما تعبد بذلك لأمر يرجع إليهم، ولنفع يحصل لهم لا لأمر يرجع إليه، فإن له ما في السماوات وما في الأرض، عن القاضي.

د. وقيل: لما نهى عن كتمان الشهادة، وأوعد عليها بين أن له ملك السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ، فيجازي على الكتمان والإظهار، عن الشعبي وعكرمة ومجاهد.

3. ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني جميع ذلك مِلكه، ومُلكه يصرفهما حيث يشاء ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ تظهروا ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ تكتموه، واختلفوا:

أ. قيل: إنه خاص في الشهادة، عن ابن عامر وجماعة.

ب. وقيل: في جميع الأحكام المتقدمة في السورة خُوِّفُوا من العمل فيها على خلاف الصحة بإضمار خلاف العلانية.

ج. وقيل: إنها في موالاة الكفار يعني إن تخفوا أيها المؤمنون ما في أنفسكم من ولاية الكافر أو تظهروه، عن مقاتل والواقدي.

د. وقيل: إنها عامة في كل شيء.

4. ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ يعني ما تبدون وتكتمون يجازيكم بها، واختلفوا:

أ. قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وهذا لا يصح؛ لأن تكليف ما ليس في الوسع لا يجوز فكيف ينسخ؟ إنما في الآية أنه يؤاخذ بأفعال القلب، وقد ورد عليه آي من القرآن فيحمل أن ما روي في ذلك: أن قومًا ظنوا أنهم يؤاخذون بالخواطر التي لا تدخل تحت قدرتهم، والوساوس التي تخطر على قلوبهم، فأنزل اللَّه تعالى الآية الثانية بيانًا للأولى وإزالة لهذا التوهم الفاسد.

ب. وقيل: يحاسبكم على ما تظهرون من المعاصي، وما تخفون في أنفسكم من أفعال القلوب، عن الحسن والربيع وابن عباس، وهو قول أبي علي وجماعة.

ج. وقيل: ما تظهرون من المعاصي، وما تخفون منها، عن الأصم والقاضي وأبي مسلم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: يغفر للتائب وأصحاب الصغائر، ويعذب المُصِرِّينَ وأصحاب الكبائر.

ب. وقيل: يعذب الكافرين ويغفر للمؤمنين، والأول الوجه لقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ ولآي الوعيد ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على المجازاة كما وعد.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه تعالى يؤاخذ بما يلزم المرء إظهاره إذا كتم، وما يلزمه كتمانه إذا أظهر، وليس المراد الخواطر؛ لأنها ليست من فعله، فهي موضوعة عنه.

ب. أنه يحاسب عباده فتدل على بطلان الجبر؛ لأن جميع الأفعال لو كانت مخلوقة لله تعالى لم يكن للحساب مع العباد معنى.

ج. أن الثواب والعقاب يستحق في أفعال القلوب.

د. أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وليس فيه بيان من يشاء فهي مجملة في هذا، وقد بين ذلك في مواضع.

7. قرأ ﴿فَيَغْفِرُ﴾ ﴿وَيُعَذِّبُ﴾ برفع الراء والباء عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب، والباقون بالجزم، وروي عن ابن عباس بالنصب، أما الرفع فعلى الاستئناف عن أبي العباس والأخفش كأنه قيل: فهو يغفر، ويجوز أنْ يكون محمولاً على تأويل يحاسبكم؛ لأنه لو دخلت الفاء كان رفعًا فيكون فيه على هذا معنى الجواب، وأما الجزم فبالعطف على ﴿يُحَاسِبْكُمْ﴾، وأما النصب فعلى العطف على مصدر الفعل الأول تقديره: إن يكن محاسبة فيغفر لمن يشاء، وقيل: بإضمار ﴿أَنْ﴾ وأن يغفر لكم.

8. مسائل نحوية:

أ. اللام في قوله: ﴿لِلَّهِ﴾ لام الملك يعني له ملكهما، أي يملك تصريفهما وإفناءهما وإعادتهما.

ب. ﴿أَنْ﴾ حرف جزاء، و﴿تُبْدُوا﴾ جزم؛ لأنه مجازاة، و﴿تُخْفُوهُ﴾ جزم؛ لأنه معطوف على ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾، ﴿يُحَاسِبْكُمْ﴾ جزم لأنه جواب المجازاة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/155.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:

أ. أحدها: إنه لما فرغ من بيان الشرائع، ختم السورة بالتوحيد والموعظة والإقرار بالجزاء.

ب. الثاني: إنه لما قال: ﴿والله بكل شئ عليم﴾ أتبعه بأنه لا يخفى عليه شئ، لأن له ملك السماوات والأرض، عن أبي مسلم.

ج. الثالث: إنه لما أمر بهذه الوثائق، بين أنه إنما يعتد بها لأمر يرجع إلى المكلفين، لا لأمر يرجع إليه، فإن له ما في السماوات وما في الأرض.

2. ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ اللام لام الملك أي: له تصريف السماوات والأرض، وما فيهما، وتدبيرهما، لقدرته على ذلك، ولأنه الذي أبدعهما وأنشأهما، فجميع ذلك ملكه، وما ملكه يصرفه كما يشاء.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وتعلنوه أي: تظهروا ما في أنفسكم من الطاعة، والمعصية ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ أي: تكتموه ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ أي: يعلم الله ذلك، فيجازيكم عليه.

ب. وقيل: معناه إن تظهروا الشهادة أو تكتموها، فإن الله يعلم ذلك، ويجازيكم به، عن ابن عباس وجماعة.

ج. وقيل: إنها عامة في الأحكام التي تقدم ذكرها في السورة، خوفهم الله سبحانه من العمل بخلافها.

د. وقال قوم: إن هذه الآية منسوخة بقوله ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ورووا في ذلك خبرا ضعيفا، وهذا لا يصح لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز، فكيف ينسخ؟ وإنما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي، من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا، فأما ما لا يدخل في التكليف من الوساوس والهواجس، وما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر، فخارج عنه لدلالة العقل، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: تجوز لهذه الأمة عن نسيانها، وما حدثت به أنفسها، فعلى هذا يجوز أن تكون الآية الثانية بينت للأولى، وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه، وظن أن ما يخطر بالبال، أو تتحدث به النفس، مما لا يتعلق بالتكليف، فإن الله يؤاخذ به، والأمر بخلاف ذلك.

4. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي: يغفر لمن يشاء منهم، رحمة وفضلا، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ منهم ممن يستحق العقاب عدلا ﴿والله على كل شئ قدير﴾ من المغفرة والعذاب، عن ابن عباس، ولفظ الآية عام في جميع الأشياء.

5. القول فيما يخطر بالبال من المعاصي إن الله تعالى لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ بما يعزم الانسان ويعقد قلبه عليه، مع إمكان التحفظ عنه، فيصير من أفعال القلب، فيجازيه به كما يجازيه بأفعال الجوارح، وإنما يجازيه جزاء العزم، لا جزاء عين تلك المعصية، لأنه لم يباشرها، وهذا بخلاف العزم على الطاعة، فإن العازم على فعل الطاعة يجازى على عزمه ذلك، جزاء تلك الطاعة، كما جاء في الأخبار: إن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها، وهذا من لطائف نعم الله تعالى على عباده.

6. قرأ ابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب: (فيغفر، ويعذب) بالرفع، وقرأ الباقون بالجزم فيهما.. قال أبو علي: وجه قول من جزم أنه أتبعه ما قبله، ولم يقطعه منه، وهذا أشبه بما عليه كلامهم، ألا ترى أنهم يطلبون المشاكلة، ويلزمونها، فمن ذلك: إن ما كان معطوفا على جملة من فعل وفاعل، واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل، يختار فيه النصب ولو لم يكن قبله الفعل والفاعل لاختاروا الرفع، وعلى هذا ما جاء في التنزيل نحو قوله ﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ﴾، وقوله ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلا لما قبله في اللفظ، وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير، ومن لم يجزم قطعه من الأول، وقطعه منه على أحد وجهين: إما أن يجعل الفعل خبرا لمبتدأ محذوف، وإما أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/687.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ أما إبداء ما في النّفس، فإنه العمل بما أضمره العبد، أو النّطق، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، وأمّا ما يخفيه في نفسه، فاختلف العلماء في المراد بالمخفيّ في هذه الآية على قولين:

أ. أحدهما: أنه عامّ في جميع المخفيّات، وهو قول الأكثرين، واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين:

أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، هذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشّعبيّ، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراسانيّ، والسّدّيّ، وابن زيد، ومقاتل.

الثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم، فيؤاخذ به من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مرويّ عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ، والقاضي أبو يعلى، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنّه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم، ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، يقول: يخبركم به الله، وأمّا أهل الشّرك والرّيب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، قال ابن الأنباريّ: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدّث به نفسه في الدنيا، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء، قال والذي نختاره أن تكون الآية محكمة، لأنّ النّسخ إنما يدخل على الأمر والنّهي، وقد روي عن عائشة أنها قالت: أمّا ما أعلنت، فالله يحاسبك به، وأمّا ما أخفيت، فما عجّلت لك به العقوبة في الدّنيا.

ب. الثاني: أنه أمر خاصّ في نوع من المخفيّات، ولأرباب هذا القول فيه قولان:

أحدهما: أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في رواية، وعكرمة والشّعبيّ.

الثاني: أنه الشّكّ واليقين، قاله مجاهد، فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.

__________

(1) زاد المسير: 1/254.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في كيفية النظم وجوه:

أ. الأول: قال الأصم: إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول، وهو دليل التوحيد والنبوّة، وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف، وهي في الصلاة، والزكاة، والقصاص، والصوم، والحج، والجهاد، والحيض، والطلاق، والعدة، والصداق، والخلع، والإيلاء، والرضاع، والبيع، والربا، وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد.

ب. الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 283] ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلًا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكان الله تعالى احتج بخلقه السموات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطا بأجزائها وجزئياتها.

ج. الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن، فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال، والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السموات والأرض.

د. الرابع: قال الشعبي وعكرمة ومجاهد: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السموات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار.

2. لما ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم، فعبّر سبحانه عن كمال‏ القدرة بقوله‏: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا وملكاً، وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله‏: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ وإذا حصل كمال القدرة والعلم، فكان كل من في السموات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين، ونهاية الوعيد للمذنبين، فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية.

3. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بقوله‏: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأنه من جملة ما في السموات والأرض بدليل صحة الاستثناء، واللام في قوله‏: ﴿لله﴾ ليس لام الغرض، فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله، فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق.

4. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السموات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق، وتكوين تلك الماهيات، فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات، ومحققة للحقائق، فكان القول بأن المعدوم شيئاً باطلًا.

5. محل البحث في هذه الآية أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ يتناول‏ حديث النفس، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب، ولا يتمكن من دفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:

أ. الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول: يكون مؤاخذاً به، والثاني: لا يكون مؤاخذاً به، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: 225] وقال في آخر هذه السورة: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النور: 19] هذا هو الجواب المعتمد.

ب. الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل، فهو في محل العفو، وقوله‏: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب، وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه، وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.

ج. الثالث: أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي الغموم والهموم في الدنيا، روى الضحاك عن عائشة أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه، وروت أنها سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه، فإن قيل: المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: 17] فالجواب: هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام.

د. الرابع: أنه تعالى قال: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ ولم يقل: يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر، وروي عن ابن عباس أنّه قال إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.

هـ. الخامس: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله‏: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارها لورود تلك الخواطر، والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها.

و. السادس: قال بعضهم: المراد بهذه الآية كتمان الشهادة، وهو ضعيف، لأن اللفظ عام، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه.

ز. السابع: ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله‏: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] وهذا أيضاً ضعيف لوجوه:

أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة)

الثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك.

الثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي. (2)

6. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر، وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب، وقوله‏: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ رفع للقطع واحد من الأمرين، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله.

7. قرأ عاصم وابن عامر ﴿فَيَغْفِرُ﴾... ﴿يُعَذِّبُ﴾ برفع الراء والباء، وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف، والتقدير: فهو يغفر، وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله‏: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال الزمخشري: إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب، وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية.

8. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وقد بيّن بقوله‏: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله‏: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بيّن بقوله‏: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له، خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/103.

(2) قال بعد هذا: واعلم أن الناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا؟ وقد ذكرنا في أصول الفقه

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف الناس في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ على أقوال خمسة:

أ. الأول: أنها منسوخة، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم.

ب. الثاني: قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إنها محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.

ج. الثالث: أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين، وقال مجاهد أيضا.

د. الرابع: أنها محكمة عامة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ذكره الطبري عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا، روى عن على بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، فذلك قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وهو قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ من الشك والنفاق، وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه، وفي الخبر: إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء) فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب.. ولا يقال: فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)، فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة،

هـ. الخامس: قال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة، قال الطبري: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها، ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى.

2. رجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة: قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.

3. مما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لهم: (قولوا سمعنا وأطعنا) يجئ منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ بعد ذلك، وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، قال ابن عطية: وهذه الآية في البقرة أشبه شي بها، وقيل: في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء، وعلى هذا فلا نسخ، وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، واللفظ لمسلم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه تعالى حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله)

4. قد قيل: إنها نزلت في الذين يتولون الكافرين من المؤمنين، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله، قاله الواقدي ومقاتل، واستدلوا بقوله تعالى في آل عمران: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ ـ من ولاية الكفار ـ ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ يدل عليه ما قبله من قوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذا فيه بعد، لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بين في آل عمران.. وقد قال سفيان بن عيينة: بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾

﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (فيغفر ـ ويعذب) بالجزم عطف على الجواب، وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع، أي فهو يغفر ويعذب، وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار ﴿أَنْ﴾، وحقيقته أنه عطف على المعنى، كما في قوله تعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ وقد تقدم، والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة، كما قال الشاعر:

çومتى مائع منك كلاما... يتكلم فيجبك بعقلé

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/421.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، ظاهره: أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسرّ أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال:

أ. الأول: أنها وإن كانت عامة، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر، وقد روي هذا عن ابن عباس، وعكرمة، والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به.

ب. الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص.

ج. الثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين، حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص، فإن قوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا يختص ببعض معين إلا بدليل.

د. الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبي، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عبيدة، وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله غفر لهذه الأمّة ما حدّثت به أنفسها)

2. ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ مستأنفة: أي فهو يغفر، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم، وأما على قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي: بجزم الراء والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو جواب الشرط: أعني قوله: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: بنصب الراء والباء في قوله: ﴿فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ‏﴾ على إضمار أن عطفا على المعنى، وقرأ طلحة بن مصرف: يغفر بغير فاء على البدل، وبه قرأ الجعفي، وخلاد.

3. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: بمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنّه قال نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة، وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل به)، وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا، يخاف ويحزن، ويشتدّ همه، لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء، وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عنها نحوه، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال إن الله يقول يوم القيامة: إن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم، فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/351.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا﴾ أي تظهروا ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح‏ ﴿أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة: والله بما تعملون عليم، ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقليّ فقال: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ومعنى هذا الملك، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه‏ وإبداعه، ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالما بها، إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان، على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها، قال الشعبيّ: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه، بيّن أن له ملك السموات والأرض، فيجازي على الكتمان والإظهار، وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾، إلخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.

2. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: إنّ ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة فإنما جاءه من عمومها ومن قوله‏: ﴿يُحَاسِبْكُمْ﴾ إذ حمله على حساب المؤاخذة، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه، إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولا وبالذات، وغيرها ثانيا وبالعرض، وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفيا أو لغويا فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره، كنفاق وريب في الدين، ولا إشكال في الآية، وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده، ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر، لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما، وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيرا أو شرا وإراءته عاقبته الحسنى أو السوأى، وهو الذي يظهر، فلا إشكال أيضا، فما روي عن بعض الصحب منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن يخفق له فؤاد كل مؤمن، ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع، أن قولهم: نزلت في كذا قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره، وهكذا هنا، فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها، ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم، وقوله في الرواية: فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها، بل المراد، كما أسلفنا في سبب النزول، أن لفظ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها، فافهم فإنه نفيس جدا، وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات.

3. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي فهو يغفر إلخ، وبجزمهما عطفا على جواب الشرط، وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه‏ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، قال الرازيّ: قد بيّن بقوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أنه كامل الملك والملكوت، وبيّن بقوله‏: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ الآية، أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بيّن بقوله‏: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام، ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات، والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له، خاضعا لأوامره، ونواهيه، محترزا عن سخطه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/238.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ داخل فيهنَّ أو خارج، سعةُ ملكه دليل على سعة علمه، ﴿وَإِن تُبْدُواْ﴾ بقول أو فعل ﴿مَا فِي أَنفُسِكُم﴾ قلوبكم ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من سوء يُفعل بالقلب، كالكفر وبغض الإسلام وأهله، والحسد والكبر، وكتمان الشهادة، وسائر المعاصي، أو يعزم على اعتقاده بَعْدُ، أو على فعله بالجوارح، والمراد بالإخفاء إبقاؤه غير مظهر، وليس المراد مجرَّد ما يخطر في القلب؛ لقوله: ﴿يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ﴾ يخبركم الله بعدده وكيفيَّته يوم القيامة، وأنكرت المعتزلة والإمامية الحساب، ويردُّ عليهم القرآن والسنَّة، وتأويلهم تكلُّف.

2. ﴿فَيَغْفِرْ لِمَنْ يَّشَآءُ﴾ المغفرة له وهو مَن تاب، ﴿وَيُعَذِّبْ مَنْ يَّشَآءُ﴾ تعذيبه وهو المصِرُّ، بخلاف ما يخطر بالبال فإنَّه لا مغفرة معه ولا تعذيب به لأنَّه ضروريٌّ وغير ذنب لا تكلّف عليه؛ لأنَّه لا يطاق ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا﴾ بل لا عمل له فيه فكيف يحاسب على ما لم يعمل؟ وإنَّما ذلك كإنسان يتكلَّم وأنت تسمع بل تكره وتنهاه وأن تكره الميل إليه، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله عفا عن أمَّتي ما حدَّثت به نفُسُها ما لم تعمل به أو تتكلَّم)، وإنَّما ذلك على كبيرة القلب أو العزم على المعصية والتصميم عليها لا على مجرَّد الخطور، ولا على ميل الطبع، وقد قيل: يكتب الاهتمام سيِّئة لا كبيرة، وقيل: مجرَّد كبيرة لا نفس ما اهتمَّ به، فإنَّ هذا للأمم قبلنا يهتمُّ أحدهم بالزنى فيكتب عليه الزنى، وقال بعض الحنفيَّة: لا عقاب عليه ما لم يظهره بالعمل، وأمَّا ما هو كبيرة بالقلب تفعل فيه كما مرَّ فكفر في نفسه إذا فعلها في نفسه كالكفر في نفسه، وقدَّم المغفرة لسعة رحمته وسبقها على غضبه، ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ودخل في العموم المحاسبة والعذاب والمغفرة، قال ابن عبَّاس في الآية: (يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، ويعذِّب من يشاء على الذنب الحقير، لا يُسأل عمَّا يفعل).

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/186.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جعل بعض المفسرين قوله تعالى: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بمثابة الدليل على ما قبله، وقال محمد عبده:

أ. الآية متصلة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، ويصح أن تكون متممة لها؛ لأن مقتضى كونه عليما بكل شيء أن له كل شيء، فهذا كالدليل على كونه عالما بكل شيء أي أنه عليم به؛ لأنه له وهو خالقه فهو كقوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ وبهذا الاستدلال يتقرر النهي عن كتم الشهادة وكونه إثما يعاقب عليه، وأكده بقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ لدخول كتمان الشهادة في عموم ما في النفس.

ب. ويصح أن تكون الآية متصلة بآية الدين من أولها؛ لأنه شرع لنا أحكاما تتعلق بالدين كالكتابة والشهادة، فكأنه يقول: إن تساهلتم في هذه الأحكام وأضعتم الحقوق فتظاهرتم بالأمانة مع انطواء النفس على الخيانة وغالطتم الناس وأكلتم أموالهم بذلك أو أضعتموها بكتمان الشهادة ونحو ذلك فإن الله يحاسبكم ويعاقبكم على ذلك؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض، ومنها أنتم وأعمالكم النفسية أو البدنية.

ج. وجعلها بعضهم متعلقة بأحكام السورة كلها.

2. المراد بقوله: ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الأشياء الثابتة في أنفسكم وتصدر عنها أعمالكم كالحقد والحسد وألفة المنكرات التي يترتب عليها ترك النهي عن المنكر، فإن السكوت عن النهي أمر كبير يحل الله عقوبته في الأمة بسببه وليس هو مجرد اتفاق السكوت، وإنما هو باعتبار سببه في النفس وهو ألفة المنكر والأنس به وللإنسان عمل اختياري في نفسه هو الذي يحاسب عليه، نعم إن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون له فيها تعمد ولكنه إذا مضى معها واسترسل تحسب عليه عملا يجازى عليه؛ لأنه سايرها مختارا وكان يقدر على مطاردتها وجهادها، وسواء كانت هذه الخواطر والهواجس صادرة عن ملكة في النفس تثيرها أو عن شيء لا يدخل في حيز الملكة، مثال ذلك الحسود تبعث ملكة الحسد في نفسه خواطر الانتقام من المحسود والسعي في إزالة نعمته لتمكنها في نفسه وامتلاكها لمنازع فكره، وهذه الخواطر مما يحاسب عليها أبداها أو أخفاها إلا أن يجاهدها ويدافعها فذلك ما يكلفه، ومثال الثاني المظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به ومقابلة ظلمه بما هو شر منه فيكون مؤاخذا عليها، أبداها أو أخفاها وقد قال تعالى: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه﴾ [8 و79] وذلك أن فظاعة المنكر زالت من نفوسهم بالأنس بها من أول الأمر، وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشرع بمجاهدتها.

3. لا يدخل في هذا ما يمر في النفس من الخواطر والوساوس كما قيل، بنوا عليه أن الصحابة شق عليهم العمل بالآية وشكوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الوسوسة؛ فنزلت الآية التي بعدها دفعا للحرج، ولفظ الآية يدفع هذا؛ لأنها نص فيما هو ثابت في النفس ومتمكن منها كالأخلاق والملكات والعزائم القوية التي يترتب عليها العمل بأثرها فيها إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة، وكذلك يدفعه ما كان عليه الصحابة الكرام من علو الهمة والأخذ بالعزائم، وهم الذين كانوا يفهمون القرآن حق الفهم ويتأدبون به ويقيمونه كما يجب، وما أبعدهم عن الاسترسال مع الوساوس والأوهام.

4. هذا ما قاله محمد عبده مفصلا وهو المتبادر من لفظ الآية، لا شك أن ما يجازى عليه مما في النفس يعم الملكات الفاضلة والمقاصد الشريفة، وإنما مثل هو وغيره بالحقد والحسد لمناسبة السياق، ولهذا السياق خصه بعضهم بكتمان الشهادة، وهو مروي عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، ورد ذلك الأكثرون بأنه مخالف لعموم اللفظ، وخصه بعضهم بالكفار وهو تخصيص بلا مخصص أيضا، وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة بما بعدها.. وليس في هذه الروايات أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صرح بأن الآية منسوخة وإنما قصاراها أن بعض الصحابة فهم أنها نسخت، والروايات عنهم في ذلك مختلفة والقول بالنسخ ممنوع من وجوه:

أ. أحدها: أن قوله تعالى: يحاسبكم به الله خبر، والأخبار لا تنسخ كما هو معروف في علم الأصول.

ب. ثانيها: أن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس على ثبوته والجزاء عليه، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر، وهو ما دلت عليه الآية فالقول بنسخها إبطال للشريعة ونسخ للدين كله، أو إثبات لكونه دينا جثمانيا ماديا لا حظ للأرواح والقلوب منه، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وقال: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ والحب من أعمال القلب الثابتة في النفس، فقوله تعالى: ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ معناه ما ثبت واستقر في أنفسكم كما تقدم، ويدخل فيه الكفر والأخلاق الراسخة والصفات الثابتة من الحب والبغض في الجور وكتمان الشهادة وقصد السوء أو سوء القصد وفساد النية وخبث السريرة، وهذه الأعمال والصفات هي الأصل في الشقاوة وعليها مدار الحساب والجزاء، ولولا أن للأعمال البدنية آثارا في النفس تزكيها أو تدسيها، لما آخذ الله تعالى في الآخرة أحدا عليها؛ لأنه تعالى لا يعاقب الناس حبا في الانتقام ولا يظلم نفسا شيئا، ولكنه جعل سنته في الإنسان أن يرتقي أو يتسفل نفسا وعقلا بالعمل؛ فلهذا كان العمل مجزيا عليه في الآخرة، فإن أثره في النفس هو متعلق الجزاء.

ج. ثالثها: أن الخواطر السانحة والوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية كما قال المحققون واختاره محمد عبده كما تقدم؛ لأن ما ذكر غير ثابت ولا مستقر وقوله: ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يفيد الثبات والاستقرار وإنما كان هذا وجها لإبطال النسخ؛ لأنه إذا ثبت أن ما ذكر داخل في الآية فلقائل أن يقول: إن الآية خبر يفيد النهي عن هذه الخواطر والوساوس في المعنى، فهو من تكليف ما لا يطاق فيجب أن يكون قوله بعده: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ناسخا له؛ وبهذا تعلم أن حديث التجاوز عن حديث النفس لا ينافي الآية ولا يصح دعامة للقول بنسخها.

د. رابعها: أن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الربانية السابغة، فهو لم يقع فيقال: إن الآية منه، ونسخت بما بعده.

هـ. خامسها: المعقول في النسخ أن يشرع حكم يوافق مصلحة المكلفين، ثم يأتي زمن أو تطرأ حال يكون ذلك الحكم فيه مخالفا للمصلحة وكون ما في النفس يحاسب عليه من الحقائق التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.

5. سؤال وإشكال: إذا كان معنى الآية ما ذكرت، فلماذا قال الصحابة فيها ما قالوا؟ والجواب: إن الصحابة قد دخلوا في الإسلام وأكثرهم رجال قد تربوا في حجر الجاهلية، وانطبعت في نفوسهم قبله أخلاقها، وأثرت في قلوبهم عادتها فكانوا يتزكون منها، ويتطهرون من لوثها تدريجا بزيادة الإيمان، كلما نزل شيء من القرآن وباتباع الرسول، فيما يفعل ويقول، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان لا يزال باقيا في أنفسهم من أثر التربية الجاهلية الأولى، وناهيك بما كانوا عليه من الخوف من الله عز وجل واعتقاد النقص في أنفسهم حتى بعد كمال التزكية وتمام الطهارة حتى كان مثل عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان: هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق، فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها، فهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الاستطاعة والطاقة وطلب العفو عما لا طاقة لهم به، كما سيأتي تفصيله، ولا يبعد أن يكون بعضهم قد خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها في عموم الآية، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك، وأما تسمية بعضهم ذلك نسخا فقد أجاب عنه بعض المفسرين: بأنه عبر بالنسخ عن البيان والإيضاح تجوزا، وذلك أن تقول: إن المراد به النسخ اللغوي وهو الإزالة والتحويل لا الاصطلاحي؛ أي إن الآية الثانية كانت مزيلة لما أخافهم من الأولى أو محولة له إلى وجه آخر، ويحتمل أن يكون الصحابي لم ينطق بلفظ النسخ، وإنما فهمه الراوي من القصة فذكره، وكثيرا ما يروون الأحاديث المرفوعة بالمعنى على أنه ليس من النص المرفوع، ورأي الصحابي ليس بحجة عند الجماهير، لا سيما إذا خالف ظاهره الكتاب، وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله، وهو سيئ الباطن ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض، وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.

6. أما إبداء ما في النفس فهو إظهاره بالقول أو بالفعل، وأما إخفاؤه فهو ضده والإبداء والإخفاء سيان عند الله تعالى؛ لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالمدار في مرضاته على تزكية النفس وطهارة السريرة لا على لوك اللسان وحركات الأبدان، وأما المحاسبة فهي على ظاهرها وإن فسرها بعض بالعلم، وبعض بالجزاء الذي هو غبها ولازمها، ذلك أن للنفوس في اعتقاداتها وملكاتها وعزائمها وإرادتها موازين يعرف بها يوم الدين رجحان الحق والخير أو الباطل والشر هي أدق مما وضع البشر من موازين الأعيان وموازين الأعراض كالحر والبرد ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ وسيأتي قول محمد عبده في الحساب والجزاء.

7. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي فهو بما له من الملك المطلق يغفر لمن يشاء أن يغفر له ويعذب من شاء عذابه، وقرأ غير ابن عامر وعاصم ويعقوب بجزم: (يغفر ويعذب)، بالعطف على يحاسبكم وإنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل والحكمة، والأصل في العدل أن يكون الجزاء السيئ على قدر الإساءة وتأثيرها في تدسية نفوس المسيئين، والجزاء الحسن على قدر الإحسان وتأثيره في أرواح المحسنين، ولكنه تعالى برحمته وفضله يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعاف ويزيد من يشاء ولا يضاعف السيئة، والآيات المفصلة في هذا المعنى كثيرة وبها يفسر المجمل، وقد بينا معنى المغفرة غير مرة بإيضاح، وحسبك هنا أن تعلم أن الذنب المغفور: هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس، والجاهل بهدي الكتاب يحسب أن الأمر فوضى، والكيل جزاف ويمني نفسه بالمغفرة على إصراره وإقامته على أوزاره، ألم يقرأ في دعاء الملائكة للمؤمنين: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [4 ـ 9]

8. قال محمد عبده: شأن الله تعالى في المحاسبة أن يذكر الإنسان أو يسأله: لم فعلت؟ فبعد أن يرى العبد أعماله الظاهرة والباطنة يغفر أو يعذب، فمن الناس من لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله ـ سبحانه ـ يغفرها له، ومنهم من تكون ملكات له فهو يعاقبه عليها وهو يفعل ما يشاء ويختار، وقد يظن من لا يؤمن بالكتاب كله أن في هذا سبيلا للمروق من التكليف؛ لأن أمر المغفرة والتعذيب موكول للمشيئة، والرجاء فيه أكبر وهذا ضلال عن فهم الكتاب بالمرة، فالآية إنذار وتخويف ليس فيها موضع للقطع بمغفرة ذنب ما وإن كان صغيرا.

9. ذكرني قوله بكلمة لأبي الحسن الشاذلي قال: (وقد أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا) وهذا من أحسن الدعاء، وقد قرر ما ذكر من تعليق الأمر بالمشيئة واحتج عليه بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي فهو بقدرته ينفذ ما تعلقت به مشيئته، فنسأله العناية والتوفيق والهداية لأقوم طريق.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/138.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاءت هذه الآية متممة لقوله: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ودليل عليه، لأن كل شيء هوله، وهو خالقه فهو العليم به، ونحو الآية قوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾، وإذا كان كل شيء في السموات والأرض له، فهو يعاقب من كتم الشهادة، لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه، فإن شاء عفا عمن أجرم، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواه على ذلك.

2. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شيء منهما فلا يعبد فيهما سواه، ولا يعصى فيما يأمر وينهى، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف.

3. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان؛ لأنه‏ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان، وحركات الأبدان.

4. المراد بقوله‏: ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الأشياء التي لها قرار في أنفسكم، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما ـ ذاك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازى به، لأنه مشى معها قدما باختياره، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها، فالمظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه، وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعي في إزالة نعمته، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها ـ وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هي آثار لها، إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة.

5. قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها، وأثرت في قلوبهم عاداتها، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عزّ وجل، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به، وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.

6. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل، ومن العدل‏ أن يجازى المسيء بقدر إساءته، والمحسن على قدر إحسانه، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد، ولا يضاعف السيئة.

7. الذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة ـ اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين‏ ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

8. محاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة، ويسألهم لم فعلوها؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله يغفرها له، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها، وهو المختار يفعل ما يشاء.

9. لا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنّه قال: أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/80.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء، فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية.. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم.. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان، فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له، صنعة إلهية متكاملة متناسقة، تربية وتشريع، وتقوى وسلطان.. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان، فأنى تذهب شرائع الأرض، وقوانين الأرض، ومناهج الأرض؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها، ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟

2. ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه، الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر.. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها، ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله.. وكانت الشقوة وكان البلاء! فأما نحن ـ نحن الذين نزعم الإسلام ـ فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح!؟

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/339.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية استعراض لقدرة الله، وبسطة سلطانه، وعظمة قدرته، وسعة علمه.. وفى كل هذا يرى المؤمنون بالله؛ أنهم إنما يتحركون ويعملون في مجال القدرة الإلهية، وتحت سلطانها، لا يخفى على الله منهم شيء..

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ هو خطاب للشهود، وتحذير لهم من أن يكتموا الشهادة، فإن أبدوا ما في أنفسهم مما استشهدوا عليه، أو أخفوه وكتموه، فإن الله بهم عليم، وهو محاسبهم على خيانتهم الأمانة، وكتمانهم الشهادة.

3. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بسط من الله تعالى ليده، التي تنال برحمتها ومغفرتها أولئك العصاة، الذين كتموا الشهادة، فيغفر الله لمن شاء منهم، ويعذب من يشاء، يغفر لمن يشاء كرما وفضلا، ويعذب من يشاء حقا وعدلا.. وذلك ما يشهد له قوله تعالى: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (56: يوسف) فرحمة الله عامة شاملة، تنال المحسن والمسيء والبرّ والفاجر.. كما يقول سبحانه: ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (156: الأعراف..) أما إحسان المحسنين فهو في ضمان الله، لن يضيع أبدا!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/387.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله﴾ تعليل واستدلال على مضمون جملة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وعلى ما تقدم آنفا من نحو: ﴿اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 176] ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الممتحنة: 30]، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 234] فإذا كان ذلك تعريضا بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحا واستدلالا عليه، فجملة ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخرها هي محطّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ ـ إلى ـ ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 283] وجملة ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنّكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه، وعلى هذا الوجه تكون جملة ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ معطوفة على جملة ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ عطف‏ جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيده، وهو محاسبكم، ونظيرها في المعنى قوله تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ [الملك: 13، 14] ولا يخالف بينهما إلّا أسلوب نظم الكلام.

2. معنى الاستدلال هنا: إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لله، مخلوقا له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوما له لأنّه مكوّن ضمائرهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلا عن خالقه، ومالكية الله تعالى أتمّ أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوب الوجود من صفات الكمال، فقوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تمهيد لقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ الآية.

3. عطف قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ عطفا على قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 283] ويكون قوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ اعتراضا بينهما.

4. إبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف‏ ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات، وما في النفي يعمّ الخير والشر.

5. المحاسبة مشتقّة من الحسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعدّه عليكم، إلّا أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى: [الشعراء: 113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضّحه هنا قوله: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية، إلّا أنّه أثبت غفرانا وتعذيبا بوجه الإجمال على كلّ ممّا نبديه وما نخفيه.

6. للعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، وقوله: (إن الله‏ تجاوز لأمّتي عمّا حدثتها به أنفسها)، وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما (لصحيح مسلم): وهو ـ مع زيادة بيان ـ أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطر وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارا لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث‏ (من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان، أي إنّ قوله تعالى: ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ محمول على معنى يجازيكم وأنّه مجمل تبيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمّى ذلك نسخا من السلف فإنّما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس (أنّ هذه الآية نسخت بالتي بعدها) أي بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك، وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المبدي والمخفي، كما هو بيّن.

7. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تذييل لما دلّ على عموم العلم، بما يدلّ على عموم القدرة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/592.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى، وفى ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر، ومواضع التحريم، وطرق التعامل، وما يوجد الثقة ـ إشارة إلى معان عامة وخاصة:

أ. أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مستردّة، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يغتر ذو مال بماله، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال، فإن يده زائلة عنه لا محالة، وعليه أن يجمل في الطلب، وأن ينتهز فرصة وجود المال بين يديه ليكثر من البر وفعل الخير، فهو الباقي والدائم، وأنه سبحانه وتعالى المسيطر على كل شيء المعطى الوهاب، فهو الذي أعطى ذا المال وبسط له الرزق، وهو الذي قدر رزق الفقير، فليس لغنى أن يعتز بغناه، ولا ذي فقر أن يذل لفقره، فالعزة لله وحده، والخضوع له وحده؛ وإنه سبحانه إذا كان المالك لكل ما في السموات والأرض، فله وحده العقاب والثواب، وليس لأحد من عباده إلا ما ينعم به عليه من نعم.

ب. وأما الإشارة إلى المعنى الخاص، فهو أنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية السابقة أنه عليم بكل ما يعملون؛ وإن من أسباب هذا العلم الدقيق أنه مالك لكل ما في السموات والأرض؛ لأنه خالق ما في السموات والأرض‏ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك‏] وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل ما يعمله الناس، ومالكا لكل ما في السموات وما في الأرض فإنه سبحانه وتعالى يحاسب على كل ما يفعله الإنسان سواء أكان من حركات النفس أم كان من حركات الجوارح؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن، ما ظهر وما بطن، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل، سواء أعلنته أم لم تعلنه؛ وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص؛ وقد قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة] ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به)

3. ادعى بعضهم لهذا الحديث أن الآية منسوخة؛ لأن حديث النفس لا يمكن التخلص منه؛ وأنها نسخت بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة] ولكن ذلك القول غير مقبول؛ لأنه لا تعارض بين الآيتين، حتى تنسخ إحداهما الأخرى، كما أنه لا تعارض بين الآية والحديث الشريف؛ لأن حديث النفس ليس هو ما تكسبه النفس، ويعزمه القلب، وينويه الشخص ويصر عليه؛ وإنما هو تلك الخواطر النفسية التي تعرض للإنسان فتوجهه نحو الهوى والشهوة؛ فإن سار وراءها حتى اعتزمها وأرادها وأصر عليها، ولكن عاقه عائق عن تنفيذها، لا يكون حديث النفس، بل يكون كسب النفس، ولكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت؛ فالمرتبة الأولى وهى تلك الخواطر ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها موضع ثواب؛ لأنه جهاد النفس، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما ورد في الأثر (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ويقصد به جهاد النفس؛ إنما موضع المؤاخذة الإصرار بعد الخواطر، وعلى ذلك: نقول إن موضع التجاوز هو حديث النفس، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل.

4. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وإن هذه نتيجة الحساب، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام؛ وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لا قيد يقيدها، ولا شيء يحدها، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية، ولم تركس نفسه في المعاصي ولم تحط به خطاياه حتى تستغرق نفسه، وتستولى على حسه، ويغلب عليه حب الخير؛ وهذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.. [هود]، أما من استولت عليه الشهوات، وأحاطت به‏ الخطايا، وغلب عليه الشر والأذى، ولم يكن منه الخير إلا لماما، فإن الله محاسبه بما كان؛ لأنه لا حسنات تذهب بالسيئات؛ والله سبحانه وتعالى هو المالك للإنسان وما يصنع الإنسان، فلا قيد يقيد إرادته تبارك وتعالى.

5. ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا ختام الآية الكريمة، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه، فهو القادر على الثواب والعقاب، وهو القاهر فوق عباده، ولا سلطان فوق سلطانه، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ فالإنسان وما يملك، وخواطره وهواجسه، وأحاسيسه، ونياته واعتزاماته؛ كل ذلك تحت سلطان القادر، وقوة القاهر.. اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين الخاضعين، الراضين بقضائك وقدرك، إنك أنت العزيز الحكيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1083.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، قد ترد على قلب الإنسان خواطر سوداء لا يتمكن من دفعها، كما لو تمنى أن تهدم دار فلان، أو تدهسه سيارة، ولا حساب ولا عقاب على هذه ما دامت مجرد خواطر لا يظهر لها أثر في قول أو فعل، لأنها خارجة عن القدرة، فالتكليف بها سلبا أو إيجابا تكليف بما لا يطاق، وقد يعزم على المعصية عزما أكيدا، ويهم بها عن تصميم، حتى إذا أوشك أن يفعل أحجم وتراجع، إما خوفا من الله سبحانه، واما خوفا من الناس، والأول مأجور، لأن إحجامه خوفا منه تعالى يعد توبة وانابة يثاب عليها، والثاني غير مأجور ولا موزور، لا يثاب ولا يعاقب تفضلا من الله وكرما، فلقد جاء في الحديث: إذا همّ العبد بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، فان فعلها كتبت له عشرا، وان همّ بسيئة فعملها كتبت سيئة واحدة، فان لم يعملها لم تكتب شيئا، وقد يعزم على المعصية، ويباشرها بالفعل، وهذا العاصي على نوعين: نوع يعصي الله علنا غير مكترث بأقوال الناس وانتقادهم وتشهيرهم، وهذا هو المراد بقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، ونوع يستر معصيته بالنفاق والرياء، يفسد في الخفاء، ويعلن الصلاح، وكلا النوعين يعلم الله بهما.

2. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، ما دام الله سبحانه مالك السموات والأرض، قادرا على كل شيء فله أن يعفو عمن يشاء من العصاة، ويعذب من يشاء منهم حسبما تقتضيه حكمته.. قال محيي الدين ابن العربي في تفسيره ما معناه: ان الله يغفر للعاصي إذا كان قويا في إيمانه، ولكن صدرت منه المعصية عرضا، لا لرسوخ جذورها في نفسه، ويعذب العاصي الضعيف في إيمانه الذي رسخت جذور المعصية في نفسه.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/453.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السماوات والأرض، وهو توطئة لقوله بعده: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، أي إن له ما في السماوات والأرض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها، وربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لأعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو مما في السماوات، ولله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الأرض، ولله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدي أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، ومعنى ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقر في النفس إلا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالإيمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإنها هي التي تقبل الإظهار والإخفاء، أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانية من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشؤها، وأما إخفاؤها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.

3. بالجملة ظاهر قوله: ﴿مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ وقوله: ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ فإن الوصفين يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشأ للظهور أو غير منشإ له وهو الخفاء، وهذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، وأما الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان وكذلك التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، ولا منشأ لصدور الأفعال، فتحصل: أن الآية إنما تدل على الأحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر الأفعال من الطاعات والمعاصي، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالا وأوصافا يحاسب الإنسان بها، وكذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، فإنها ظاهرة في أن العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي، هذا.

4. هذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفى، وأما كون الجزاء في صورتي الإخفاء والإظهار على حد سواء، وبعبارة أخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

5. أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره وليس إلا تكليفا بما لا يطاق، فمن ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص:

أ. فمنهم من قال إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، وهو تكليف بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ الآية، وفيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر، على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب، على أنه تعالى يخبر بقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ الحج ـ 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

ب. ومنهم من قال إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال إنها مخصوصة بالكفار.

ج. ومنهم من قال إن المعنى أن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

د. ومنهم من قال إن المراد بالآية مطلق الخواطر إلا أن المراد بالمحاسبة الأخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإن الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى: ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويدفع هذا وما قبله؟ بمخالفة ظاهر الآية كما تقدم.

6. ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الإشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات والأحوال النفسانية السيئة، وإن كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مئونة القرائن الخاصة، وقوله: ﴿وَاللَّهُ﴾ تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

7. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: الروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدم أن ظاهر الآية هو: أن المحاسبة إنما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما من طريق الجوارح، وليس في الخطور النفساني كسب، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات والهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم، وأما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية:

أ. أولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.

ب. ثانيها: اشتماله على جواز تكليف ما لا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه، ولا سيما منه تعالى، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترأها القوم.. أن النسخ إنما وقع قبل العمل وهو محذور.

ج. ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أن قوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، لا يصلح لأن يكون ناسخا لشيء، وإنما يدل على أن كل نفس إنما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فإنما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن إلا نفسها فالجملة أعني قوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، كالمعترضة لدفع الدخل.

د. رابعها: أنه سيجيء أيضا: أن وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانية أصلا، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لا بد منه في باب النسخ، بل قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية على ما سيأتي إن شاء الله.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/436.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية إيحاء للإنسان بالتطلع الدائم إلى ما يشتمل عليه الكون من قوى كونية تفرض على القلب سيطرتها، أو فيما يتمثل فيه من ظواهر طبيعية تأخذ بالنفس والفكر فيما يشبه الرهبة والدهشة، أو ما تتحرك فيه من طاقات متنوعة تثير في روحه الكثير الكثير من المشاعر والأحاسيس التي تربطه بالأشياء، الأمر الذي يوحي له بالخضوع والعبادة.

2. إن هذه الآية وأمثالها، توحي للإنسان بدراسة القدرة الخلاقة التي تكمن خلف كل هذه القوى والظواهر، ليعرف بأن الله هو الذي يملك ما في السموات وما في الأرض من هذا كله، لأنه هو الذي أبدعها وخلقها، الأمر الذي يجعل كل مشاعر الدهشة والتعظيم والتقديس والضالة، موجهة إلى الله سبحانه في ذلك كله، فيشعر الإنسان أمامها بالحرية والثقة الكبيرة، لأنه يقف أمامها على قدم المساواة في عبوديته لله، بل ربما يشعر بالتفوّق عليها من خلال الفكرة الدينية التي تقول له بأنها مسخرة له في حياته، ولكن هذا الإيحاء لا يتجمد أمام هذه المشاعر، بل ينطلق ليجعل الإنسان وجها لوجه أمام حركة المسؤولية في حياته الداخلية والخارجية، باعتباره قوة من قوى الكون العاقلة المسؤولة التي يريدها الله أن تدخل في النظام الكوني الشامل على أساس الإرادة والاختيار المرتبط بعبودية الإنسان لله، فيمتد ذلك في إحساسه بالرقابة الدقيقة لخلفيات الأعمال في داخل النفس، فلا يكتفي بالنظر إلى ظواهرها، وينطلق الحساب في هذا الاتجاه، مما يجعل الإنسان منضبطا أمام تكاليفه الشرعية في أعماله التي يتحمل مسئوليتها أمام الله إذا عصى وتمرّد، فله تعالى الحكم الأول والأخير، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، من دون أن يتدخل أحد في إرادته، وهو القادر على كل شيء في ذلك وفي غيره، فليخضع الإنسان للقدرة المطلقة، وليطلب من الله العفو والمغفرة.

3. أثارت هذه الآية كثيرا من الجدل بين المفسرين، وذلك من خلال دلالتها على أن الله يحاسب الإنسان على ما في نفسه مما يبديه أو مما يخفيه، وهذا ما قد لا يرتضيه الكثيرون، على أساس أن الجزاء بالعقاب على الأعمال لا على النيات، فلذلك ذهب البعض إلى أنها منسوخة لأن ظاهرها المحاسبة، على كل ما يرد في القلب، وهو تكليف بما لا يطاق، مرفوع بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ومنهم من ذهب الى ارتباطها بآية كتمان الشهادة، أو اختصاصها بالكفار، ومنهم من فسر المحاسبة بمعنى الإخبار لا العقاب، وكل هذه الوجوه بعيدة، لأن النسخ يتوقف على إمكانية التكليف بما لا يطاق مما لا يقدر عليه الإنسان مطلقا، وهو مستحيل عقلا، فكيف يمكن أن يشرعه الله ثم ينسخه، ولأن ارتباطها بآية كتمان الشهادة أو اختصاصها بالكفار مما لا دليل عليه من اللفظ، أما تفسير المحاسبة بالإخبار لا بالعقاب، فهو خلاف الظاهر.

4. ذهب صاحب تفسير الميزان إلى القول: (إنّ الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفي، وأمّا كون الجزاء في صورتي‏ الإخفاء والإظهار على حد سواء، وبعبارة أخرى: كون الجزاء دائرا مدار العزم، سواء فعل أو لم يفعل، وسواء صادف الواقع المقصود أو لم يصادف، كما في صورة التجري مثلا، فالآية غير ناظرة إلى ذلك‏، وخلاصته أن الآية تتعرض للمحاسبة على ما في النفس كمبدإ من دون الدخول في شروط ذلك، فلا مانع من ورود دليل آخر يدل على اشتراط الحساب بالعمل، وهذا قريب إلى الصواب، ولكن الظاهر أن هذه الآيات واردة في سياق الحديث عن الحساب على العمل من خلال نوع النيّة الدافعة إليه، بعد أن قرر القرآن الكريم في أكثر من آية ورود الحساب عليه تماما كما هو الحديث المشهور: (فإنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، أو الحديث المعروف: (إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة)، والله العالم بحقائق آياته.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/182.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فله الحكم بما شاء، فما سبق من أحكام في السورة هو الحق وليس لأحد مخالفته وليس لغير الله حكم؛ لأن غير الله إذا حكم فهو عبد يحكم على عبد مثله.

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من حق أو باطل ﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ لأنه عالم به ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأنه المالك لا راد لأمره ولا يشاء إلا الحق، وما الله يريد ظلماً للعباد، ومن المغفور الخواطر التي ليست اختيارية تأتي مع الإيمان الصحيح، كما في الحديث الذي رواه الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) ولكن لعلها لا تدخل في الحساب، اللهم إلا أن يقع تقصير في دفعها فتدخل في الحساب؛ لتغفَر أو يعذب صاحبها إن تعمد التقصير ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من تعذيب أو غيره.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/412.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه في الحقيقة تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهريّة منها والباطنيّة.

2. ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أعمالكم الباطنيّة مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبيّة الأخرى سوف تخفى على الله تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شيء، فلا عجب إذا قيل أنّ الله تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبيّة ويجازيكم عليها ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، ويحتمل أيضا أنّ الآية الكريمة تشير إلى جميع الأحكام المذكورة في الآيات‏ السابقة من قبيل الإنفاق الخالص والإنفاق المشوب بالرياء أو المنّة والأذى وكذلك الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعيّة والعقائد القلبيّة.

3. في ختام الآية تقول: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو عالم بكل شيء يجري في هذا العالم، وقادر أيضا على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادر أيضا على مجازات المتخلّفين.

4. قد يتصوّر أنّ هذه الآية مخالفة للأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على النيّة المجرّدة، ولكنّ الجواب واضح، حيث إنّ تلك الأحاديث تتعلق بالذنوب التي لها تطبيقات خارجيّة وعمليّة بحيث تكون النيّة مقدّمة لها من قبيل الظلم والكذب وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك، لا من قبيل الذنوب التي لها جنبة نفسيّة ذاتا وتعتبر من الأعمال القلبيّة مثل (الشرك والرياء وكتمان الشهادة)، وهناك تفسير آخر لهذه الآية، وهو أنّه يمكن أن يكون لعمل واحد صور مختلفة، مثلا الإنفاق تارة يكون في سبيل الله، وأخرى يكون للرياء وطلب الشهرة، فالآية تقول: أنّكم إذا أعلنتم نيّتكم أو أخفيتموها فإنّ الله تعالى أعلم بها وسيجازيكم عليها، فهي في الحقيقة إشارة إلى مضمون‏ الحديث الشريف‏ (لا عمل إلّا بنيّة)

5. من الواضح أنّ قوله تعالى‏: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أنّ إرادته لا تكون بدون دليل، بل أنّ عفوه أيضا يرتكز على دليل ومبرّر، وهو لياقة الشخص للعفو الإلهي، وهكذا في عقابه وعدم عفوه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/362.

144. المؤمنون والتصديق والإذعان

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈144⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال المؤمنون: آمنا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: من استقبل قبلتنا، وشهد شهادتنا، ونسك نسكنا، ووالى ولينا، وعادى عدونا فهو مسلم، واسأل عن الإيمان فقال: الإيمان بالله، والتصديق بكتاب الله تعالى وأن لا يعصى الله(1).

__________

(1) الكافى: 2/38.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ما بعث الله من نبي، ولا أرسل من رسول أنزل عليهم الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها، ويقولون: نؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا!؟ فيكفرون، ويضلون، فلما نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم، فقالوا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا!؟ قال (نعم، واسمعوا وأطيعوا، واطلبوا إلى ربكم)، فذلك قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية، فوضع الله عنهم حديث النفس، إلا ما عملت الجوارح(1).

__________

(1) ابن المنذر: ١/٩٨ ـ: ٩٩ مرسلًا.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾: فهذا قول قاله الله، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقول المؤمنين، فأثنى الله عليهم لما علم من إيمانهم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾: لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ كما صنع القوم ـ يعني: بني إسرائيل ـ، قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٥٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: آمن بنفس المنزل‏ ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أنه من عند الله وكذلك‏ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أيضا آمنوا بما أنزل إليه أنه من عند الله تعالى.

ب. ويحتمل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي آمن الرسول بما في المنزل إليه، وكان فيه ما ذكر: ﴿آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وكذلك (المؤمنون) آمنوا بجميع ما في المنزل، وهو ما ذكرنا.

1. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الإيمان بالمنزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار.

ب. نقض قول من يشك في إيمانه ويستثنى؛ لأنه عزّ وجل شهد لهم بالإيمان، فلا يخلو الاستثناء: إما أن يكون لشكهم في إتيان‏ الذي شهد الله لهم بالإيمان به، وبالذي ذكر، وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر، وقد سماهم الله به مؤمنين، وشهد لهم به.

2. سؤال وإشكال: فقد ذكر الطاعة في آخرها، والجواب: ذكر الطاعة في الإجابة، وبتلك الإجابة شهد لهم؛ فيلزمهم ما شهد الله لهم جل وعلا بما أجابوا.

3. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ يحتمل: أن يكون هنا خبرا أخبر الله عزّ وجل عن المؤمنين أنهم قالوا: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ كما فرق اليهود والنصارى.

4. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك ودعاءك، و﴿أَطَعْنَا﴾ أي أطعناك في الإجابة.

ب. ويحتمل: ﴿سَمِعْنَا﴾ القرآن، و﴿وَأَطَعْنَا﴾ أي أطعنا ما فيه.

5. ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي اغفر لنا ربنا، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي المرجع.

6. هذه الآية جمع جميع شرائط الإيمان؛ لذلك قلنا: إن الإيمان بالقرآن إيمان بجميع الكتب والأنبياء والبعث وغيره، وبالله العصمة والنجاة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/290.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ أما إيمان الرسول فيكون بأمرين: تحمّل الرسالة، وإبلاغ الأمة، وأما إيمان المؤمنين فيكون بالتصديق والعمل.

2. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ والإيمان بالله يكون بأمرين: بتوحيده، وقبول ما أنزل على رسوله، وفي الإيمان بالملائكة وجهان:

أ. أحدهما: الإيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه.

ب. الثاني: الإيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد.

3. ﴿وَكُتُبِهِ﴾ قراءة الجمهور وقرأ حمزة: وكتابه فمن قرأ ﴿وَكُتُبِهِ﴾ فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه، ومن قرأ: وكتابه ففيه وجهان:

أ. أحدهما: أنه عنى القرآن خاصة.

ب. الثاني: أنه أراد الجنس، فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه، وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان.

4. فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين ـ وإن خرج مخرج الخبر ـ قولان:

أ. أحدهما: أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم.

ب. الثاني: أن المراد به أنه يقتدي بهم من سواهم.

5. ثم قال تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ يعني في أن يؤمن ببعضهم‏ دون بعض، كما فعل أهل الكتاب، فيلزم التسوية بينهم في التصديق، وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين، وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبرا عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل.

6. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أي سمعنا قوله وأطعنا أمره.

ب. ويحتمل: أن يراد بالسماع القبول، وبالطاعة العمل.

7. ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ معناه نسألك غفرانك، فلذلك جاء به منصوبا، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾:

أ. يحتمل: يعني إلى جزائك.

ب. ويحتمل: يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/363.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة والكسائي وخلف (وكتابه): الباقون (وكتبه) على الجمع فمن وحّد احتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون أراد به القرآن لا غير.

ب. الثاني: أن يكون أراد جنس الكتاب، فيوافق قراءة من قرأ على الجمع في المعنى، وقرأ يعقوب (لا يفرق) بالياء رداً على الرسول حسب، الباقون بالنون رداً على الرسول والمؤمنين وهذا أليق بسياق الآية.

2. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ معناه يقولون ذلك على الحكاية كما قال‏ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا﴾ أي يقولون اخرجوا، والمعنى إنا لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعض، كما فعل اليهود، والنصارى.

3. ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ تقديره سمعنا قوله وأطعنا أمره وقبلنا ما سمعنا، لأن من لا يقبل ما يسمع يقال له أصم كما قال تعالى‏: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ وإنما حذف لدلالة الكلام عليه لأنهم مدحوا به، وكان اعترافاً منهم بما يلزمهم مثل ما قبله.

4. ﴿غفرانك﴾ نصب على أنه نزل من الفعل المأخوذ منه كأنه قيل: اللهم اغفر لنا غفرانك فاستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء فصار بدلا منه معاقباً له، وقال بعضهم معناه نسألك غفرانك والاول أقوى، لأنه على الفعل الذي أخذ منه أولى من حيث كان يدل عليه بالتضمين نحو (حمداً وشكراً) أي أحمد حمداً، وأشكر شكراً، وأجاز الزجاج والفراء غفرانك بالرفع بمعنى غفرانك بغيتنا وأنشد الزجاج:

çومن يغترب عن قومه لا يزل يرى‏...مصارع مظلوم مجراً ومسحبا

وتدفن منه الصالحات وإن يسيء...يكن ما أساء النار في رأس كبكباé

5. ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ معناه وإلى جزائك المصير فجعل مصيرهم إلى جزائه مصيراً إليه كقول ابراهيم: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ومعناه إلى ثواب ربي أو إلى ما أمرني به ربي.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/383.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإيمان: التصديق في اللغة، وهو المراد بالآية، فأما في الشرع فهو: اسم لجميع الواجبات قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي بمصدق، وقد يذكر ولا يراد به المدح، يقال: آمن بمسيلمة، والإيمان مطلق اسم مدح يقال: فلان مؤمن.

ب. كتب: جمع كتاب.

ج. المصير: المرجع.

2. روي أنه لما نزل على أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه يحاسبهم بما أخفوا وما أعلنوا شق عليهم ذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلم لهم: أتقولون كما قال بنو إسرائيل: (سمعنا وعصينا)؟ فقالوا: بل نقول سمعنا وأطعنا، فنزلت الآية ثناء عليهم، وروي أنه لما نزل ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (وحق له أن يؤمن)

3. لما تقدم بيان الأحكام بين حال المؤمنين بها فقال تعالى: ﴿آمَنَ﴾:

أ. قيل: أي صدَّق، وهو الوجه.

ب. وقيل: فَعَلَ خصال الإيمان.

4. ﴿الرَّسُولَ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾:

أ. قيل: أراد أصحابه، عن أبي علي.

ب. وقيل: هو عام.

5. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ تأكيد من اللَّه تعالى يعني صدقوا بآياته وصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق به ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ يعني بأن الملائكة عبيد، وأنهم معصومون مطهرون ﴿وَكُتُبِهِ﴾ يؤمنون بأن القرآن وجميع ما أنزل من الكتب حق وصدق ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي ويؤمنون بجميع الأنبياء أنهم مبعوثون، وأنهم معصومون ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ أي يقولون.

6. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، وإنما قال: ﴿أَحَدٌ﴾ لأنه يكون الواحد والجمع، قال تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ وأراد أنا نصدق جميعهم، ولا نكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.

7. ﴿وَقَالُوا﴾ يعني الرسول والمؤمنون ﴿سَمِعْنَا﴾:

أ. قيل: سمعنا كتابك وأمرك.

ب. وقيل: تقبلنا، عن الأصم.

8. ﴿وَأَطَعْنَا﴾ يعني فيما أمرتنا به ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾:

أ. قيل: أي قالوا: اللَّهم اغفر لنا، عن الأصم.

ب. وقيل: نسألك غفرانك.

ج. وقيل: غفرانك لا بد منه.

د. وقيل: سمعنا سماع القابلين، وأطعنا طاعة العاملين، واغفر لنا فإليك المنقلب.

9. ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ إلى حكمك المرجع.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن المعارف مكتسبة لذلك مدح المؤمن به.

ب. جميع الإيمان بجميع الأنبياء والكتب.

ج. أن الإيمان لا يتكامل إلا بالسمع والطاعة.

د. وجوب الانقطاع إلى اللَّه تعالى في طلب المغفرة.

هـ. وجوب الإيمان بالبعث والجزاء؛ لأن قوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ المراد إلى الجزاء.

11. قراءات وحجج:

أ. قرأ حمزة والكسائي. وكتابه) على الواحد والباقون ﴿وَكُتُبِهِ﴾ على الجمع، فأما الأول ففيه وجهان: أنه بمعنى القرآن، الثاني: أنه على معنى الجنس، فيوافق معنى الجمع، والاختيار الجمع لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظة الجمع، ولأن أكثر القراء عليه والإجماع.

ب. ﴿وَرُسُلِهِ﴾ بضم السين، وعن الحسن بتسكينه لكثرة الحركات، وروي ذلك عن ابن عمر وعن نافع ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ مخففين، وأشبع الباقون، وقرأ سعيد بن جبير ويعقوب لا يفرق) بالياء، وفيه تقدير أي لا يفرق الرسول، ولا يفرق الكل، والباقون بالنون على معنى، وقالوا: لا نفرق، وكقوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُورُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا) أي ويقولون ربنا أبصرنا.

12. مسائل نحوية:

أ. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ ابتداء وخبره على حدة، ثم قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ﴾ ابتداء وخبره ﴿كُلٌّ آمَنَ﴾ والمحذوف من قوله: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يعني سمعنا قوله، وأطعنا أمره، وفي الكلام ما يدل عليه لأنه مدحهم به.

ب. نصب ﴿غُفْرَانَكَ﴾ لأنه بدل من الفعل المأخوذ منه، كأنه قيل: اللَّهم اغفر لنا غفرانك، إلا أنه استغنى بالمصدر عن الفعل، وقيل: تقديره: نسألك غفرانك، قال الفراء: ويجوز رفع غفرانك على تقدير: غفرانك تعبدنا ﴿رَبِّنَا﴾ نصب على يا ربنا)، فهو نداء مضاف ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فيه محذوف. قيل: وإلى جزائك أو إلى حكمك كقوله: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى) أي إلى أمره.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/158.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى فرض الصلاة والزكاة، وأحكام الشرع، وأخبار الأنبياء، ختم السورة بذكر تعظيمه وتصديق نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بجميع ذلك، فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ أي: صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ من الأحكام المذكورة في السورة، وغيرها.

2. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ﴾ أي: كل واحد منهم ﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي: صدق بإثباته وصفاته، ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عما لا يليق به ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ أي: وبملائكته، وبأنهم معصومون مطهرون ﴿وَكُتُبِهِ﴾ أي: وبأن القرآن، وجميع ما أنزل من الكتب حن وصدق ﴿وَرُسُلِهِ﴾ وبجميع أنبيائه ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي: ويقولون لا نفرق بين أحد من رسل الله في الإيمان، بأن نؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كما فعله أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾:

أ. قيل: معناه: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك إذا جعلته راجعا إلى الله، أو سمعنا قوله وأطعنا أمره، إذا جعلته راجعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. وقيل: معناه سمعنا قول الله، وقول الرسول، سماع القائلين المطيعين، وذلك خلاف ما أخبر الله تعالى عن الكفار، حيث قالوا: سمعنا وعصينا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾:

أ. قيل: أي: يقولون: يا ربنا اغفر لنا.

ب. وقيل: معناه يقولون: نسألك غفرانك.

5. ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ معناه: إلى جزائك المصير، فجعل مصيرهم إلى جزائه مصيرا إليه، كقول إبراهيم ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ومعناه: إلى ثواب ربي، أو إلى ما أمرني به ربي، وهذا هو إقرار بالبعث والنشور.

6. قراءات وحجج:

أ. قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (وكتابه)، والباقون ﴿وَكُتُبِهِ﴾ على الجمع.. من قرأ ﴿كِتَابَهُ﴾ على الواحد ففيه وجهان أحدهما: إنه بمعنى القرآن، والثاني: إنه بمعنى الجنس، فيوافق القراءة الأخرى على الجمع، وقد جاء المضاف من الأسماء بمعنى الكثرة نحو قوله ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، وفي الحديث: منعت العراق درهمها وقفيزها، فهذا يراد به الكثرة، كما يراد بما فيه لام التعريف والاختيار فيه الجمع، ليشاكل ما قبله وما بعده، ولأن أكثر القراء عليه.

ب. قرأ يعقوب: (لا يفرق) بالياء، والباقون بالنون.. من قرأ (لا يفرق): فعلى تقدير: لا يفرق الرسول، أو كل لا يفرق، والنون على تقدير: وقالوا لا نفرق، كقوله: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم) ربنا أبصرنا وسمعنا أي: ويقولون ربنا أبصرنا.

7. ﴿غُفْرَانَكَ﴾: نصب على أنه بدل من الفعل المأخوذ منه، فكأنه قيل: اللهم اغفر لنا غفرانك، واستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء، فصار بدلا عنه معاقبا له.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/689.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾، روى البخاريّ ومسلم في (صحيحيهما) من حديث أبي مسعود البدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه)، قال أبو بكر النّقّاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل.

2. قال الزجّاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيّه، والمؤمنين، وقرأ ابن عباس (وكتابه)، فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كتب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدّرهم في أيدي الناس، وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف، وكذلك في (التحريم) وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع، وفي (التحريم) بالتّوحيد، وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين.

3. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين، مثل (رسلنا) و(رسلكم) بإسكان السين، وثقّل ما عدا ذلك، وفي قوله تعالى: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾، روايتان، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل.

4. معنى قوله: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقرأ يعقوب (لا يفرق) بالياء وفتح الراء.

5. ﴿غُفْرَانَكَ﴾، أي: نسألك غفرانك، والمصير: المرجع.

__________

(1) زاد المسير: 1/255.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في كيفية النظم وجوه:

أ. الأول: وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك، وكمال العلم، وكمال القدرة لله تعالى، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية، وقد ظهر منا كمال العبودية، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللهم حقق هذا الأمل.

ب. الثاني: أنه تعالى لما قال ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284] بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا، فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك، فلا أظهر من أحوالك، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة، فأنا الكامل في الجود والرحمة، وفي إظهار الحسنات، وفي الستر على السيئات.

ج. الثالث: أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ وهذا هو المراد بقوله في أول السورة ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، ثم قال هاهنا ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وهو المراد بقوله في أول السورة ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]، ثم قال هاهنا ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وهو المراد بقوله في أول السورة ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4] ثم حكى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم‏ ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5] فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.

د. الرابع: وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله، وقال له: إن الله بعثك رسولًا إلى الخلق، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالًا مضلًا، وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير، وهذه المراتب معتبرة:

أولها: قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى.

ثانيها: قيام المعجزة عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان.

ثالثها: أن تقوم المعجزة على يد الرسول عند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولا من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك.

فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام، قال ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف، وليس بشيطان مضل، ثم ذكر إيمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك، وهو المرتبة المتقدمة، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة، فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾

2. من تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعل الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل:

çوالنجم تستصغر الأبصار رؤيته‏...والذنب للطرف لا للنجم في الصغرé

3. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة، وإنما عرف الرسول لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.

4. في قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ احتمالان:

أ. أحدهما: أن يتم الكلام عند قوله‏: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فيكون المعنى: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله‏: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ والمعنى: كل واحد من المذكورين فيما تقدم، وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله.

ب. الثاني: أن يتم الكلام عند قوله‏: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ ثم يبتدئ من قوله‏: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه، وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فالوجه الأول يشعر بأنه صلّى الله عليه وآله وسلم ما كان مؤمناً بربه، ثم صار مؤمناً بربه ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه، كما قال: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52]، وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال، فقد كان حاصلًا منذ خلقه الله من أول الأمر، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال إني عبد الله آتاني الكتاب، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولًا من عند الله حين كان طفلًا، فكيف يستبعد أن يقال: إن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلم كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل.

5. دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما خص الرسول بذلك، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه، فيكون هو صلّى الله عليه وآله وسلم مختصاً بالإيمان به، ولا يتمكن غيره من الإيمان به، فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.

6. قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ دلّ على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان:

أ. فالمرتبة الأولى: هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات، عالماً بجميع المعلومات، غنياً عن كل الحاجات، لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل، فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر.

ب. المرتبة الثانية: أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة، فقال: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل: 2] وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 51] وقال: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: 97] وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193، 194] وقال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 5] فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائكة فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر، فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا السر قال أيضاً: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]

ج. المرتبة الثالثة: الكتب، وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب، فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة، فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.

د. المرتبة الرابعة: الرسل، وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة، فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة.

7. ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة، وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف.

8. المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده، وبصفاته، وبأفعاله، وبأحكامه، وبأسمائه:

أ. أما الإيمان بوجوده، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها، فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات.

ب. أما الإيمان بصفاته، فالصفات إما سلبية، وإما ثبوتية:

فأما السلبية: فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب، فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فهو مركب، فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ما ليس ممكناً لذاته، بل كان واجباً لذاته امتنع أن يكون مركباً بوجه من الوجوه، بل كان فرداً مطلقاً، وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً، ولا جسماً، ولا جوهراً، ولا في مكان، ولا حالًا، ولا في محل، ولا متغيراً، ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة.

وأما الصفات الثبوتية: فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي، فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال، علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات، ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه، فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله‏ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]

ج. وأما الإيمان بأفعاله، فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث، وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته، بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم، وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات، فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها(2).

د. معرفة أحكامه، ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة:

أحدها: أنها غير معللة بعلة أصلًا، لأن كل ما كان معللًا بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته، كاملا بغيره، وذلك على الحق سبحانه محال.

ثانيها: أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق، فإنه منزّه عن جلب المنافع، ودفع المضار.

ثالثها: أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد.

رابعها: أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء، وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله، وأنه لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه شيء، لأن الكل ملكه وملكه، والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي، فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي.

هـ. معرفة أسمائه، كما قال في الأعراف‏ ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: 180]، وقال في بني إسرائيل:‏ ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، وقال في طه:‏ ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏﴾ [طه: 8] وقال في آخر الحشر: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحشر: 24] والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين، وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله.

9. الإيمان بالملائكة، هو من أربعة أوجه:

أ. أولها: الإيمان بوجودها، والبحث عن أنها روحانية محضة، أو جسمانية، أو مركبة من القسمين، وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة، فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية، أو هوائية، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى، فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية.

ب. المرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة: العلم بأنهم معصومون مطهرون‏ ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50] ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19] فإن لذتهم بذكر الله، وأنسهم بعبادة الله، وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء، فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته.

ج. المرتبة الثالثة: أنهم وسائط بين الله وبين البشر، فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم، كما قال سبحانه: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾ [الصافات: 1، 2] وقال: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات: 1، 2] وقال: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾ [المرسلات: 1، 2] وقال: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ [النازعات: 1، 2] ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية، إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها.

د. المرتبة الرابعة: أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: 19، 20، 21] فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم.

10. الإيمان بالكتب: لا بد فيه من أمور أربعة:

أ. أولها: أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله، وأنها ليست من باب الكهانة، ولا من باب السحر، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة.

ب. ثانيها: أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين، فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر، وعند هذا يعلم أن من قال إن الشيطان ألقى قوله: تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي، فقد قال قولًا عظيماً، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.

ج. المرتبة الثالثة: أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف، ودخل فيه فساد قول من قال إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان، فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة.

د. المرتبة الرابعة: أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه يكشف عن متشابهه.

11. الإيمان بالرسل: لا بد فيه من أمور أربعة:

أ. المرتبة الأولى: أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب، وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله‏: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: 36] وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى.

ب. المرتبة الثانية: من مراتب الإيمان بهم: أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب.

ج. المرتبة الثالثة: قال بعضهم: أنهم أفضل من الملائكة، وقال كثير من العلماء: إن الملائكة السماوية أفضل منهم، وهم أفضل من الملائكة الأرضية، وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله‏: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: 34] ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة.

د. المرتبة الرابعة: أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253] ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر، وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم، فإذا كان هذا هو الطريق، وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقا، وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته، فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض، والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى، ويكذبون بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

12. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فيه محذوف، والتقدير: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله‏: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا﴾ [الأنعام: 93] معناه يقولون: أخرجوا وقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ﴾ [الزمر: 3] أي قالوا هذا.

13. أحد في معنى الجمع، كقوله‏: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47] والتقدير: لا نفرق بين جميع رسله، هذا هو الذي قالوه، وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد هاهنا في معنى الجمع، لأنه يصير التقدير: لا نفرق بين جميع رسله، وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل، بل بين البعض وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل، بل معنى الآية: لا نفرق بين أحد من الرسل، وبين غيره في النبوّة، فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام.

14. في نظم قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وجوه:

أ. الأول: هو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، واستكمال القوة النظرية بالعلم، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم‏عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83] فالحكم كمال القوة النظرية ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ كمال القوة العملية، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب، والأمر في هذه الآية أيضا كذلك، فقوله‏: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله‏: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.

ب. الثاني: أن للإنسان أياما ثلاثة: الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود: 123] وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، لا جرم ذكرها في هذه الآية، وقوله‏: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إشارة إلى كمال العلم، وقوله‏: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ إشارة إلى كمال القدرة، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به، فله أيضا مرتبتان: البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب، وذلك هو المسمى بالتوكل، فذكر هذين المقامين، فقال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123] وأما علم المعاد فهو قوله‏: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132] أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180] وهو إشارة إلى‏ علم المبدأ، ثم قال ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181] وهو إشارة إلى علم الوسط، ثم قال ﴿وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 182] وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 100]، وتعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة:

فقوله‏: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى قوله‏: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ إشارة إلى معرفة المبدأ.

وقوله‏: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ إشارة إلى علم الوسط، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا.

وقوله‏: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ إشارة إلى علم المعاد، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك، وأنوار بهجة السموات.

ج. الثالث: أن المطالب قسمان: أحدهما: البحث عن حقائق الموجودات، والثاني: البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر، أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع:

أ. والقسم الأول هو المراد بقوله‏: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾

ب. والقسم الثاني هو المراد بقوله‏: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾

﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي سمعنا قوله وأطعنا أمره، إلا أنه حذف المفعول، لأن في الكلام دليلا عليه من حيث مدحوا به(3)، هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي أن حذف المفعول فيه ظاهرا وتقديرا أولى لأنك إذا جعلت التقدير: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فإذن هاهنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته: أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى.

15. لما وصف الله تعالى إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون: سمعنا وأطعنا، فقوله‏: ﴿سَمِعْنَا﴾ ليس المراد منه السماع الظاهر، لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا، أي عقلناه وعلمنا صحته، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] والمعنى: لمن سمع الذكرى بفهم حاضر، وعكسه قوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ [لقمان: 7] ثم قال بعد ذلك‏ ﴿وَأَطَعْنَا﴾ فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علما وعملا.

16. سؤال وإشكال: القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة، وقولهم: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾؟ والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم، فلما جوزوا ذلك قالوا ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون‏ من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون.

ب. الثاني: روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيرا، فكان يستغفر الله منه، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضا غير مستبعد.

ج. الثالث: أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جنايات، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل، ولذلك قال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية، وإن كان عالما جدا إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19] فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير، فكان يستغفر منها، وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال‏ ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [يونس: 10] فسبحانك اللهم إشارة إلى التنزيه، ثم إنه قال ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 10] يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا.

17. ﴿غُفْرَانَكَ﴾ تقديره: اغفر غفرانك، ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو سقيا ورعيا، قال الفرّاء: هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، ومثله الصلاة الصلاة، والأسد الأسد، وهذا أولى من قول من قال: نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه، ونظيره قولك: حمدا حمدا، وشكرا شكرا، أي أحمد حمدا، وأشكر شكر.

18. طلب هذا الغفران مقرون بأمرين:

أ. أحدهما: بالإضافة إليه، وهو قوله‏: ﴿غُفْرَانَكَ﴾

ب. الثاني: أردفه بقوله‏: ﴿رَبِّنَا﴾

19. هذان القيدان يتضمنان فوائد:

أ. إحداها: أنت الكامل في هذه الصفة، فأنت غافر الذنب، وأنت غفور ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ﴾ [الكهف: 58] ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 14] وأنت الغفار ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 10] يعنى أنه ليست غفاريته من هذا لوقت، بل كان قبل هذا الوقت غفار الذنوب، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله هاهنا ﴿غُفْرَانَكَ﴾ يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة، فقوله‏: ﴿غُفْرَانَكَ﴾ طلب لغفران كامل، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته، ويبدلها بالحسنات، كما قال ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70]

ب. ثانيها: روي في الحديث الصحيح‏ (إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءا واحدا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات، فيها يتراحمون، وادخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة)، فأظن أن المراد من قوله‏: ﴿غُفْرَانَكَ﴾ هو ذلك الغفران الكبير، كان العبد يقول: هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي.

ج. ثالثها: كأن العبد يقول: كل صفة من صفات جلالك وإلهيتك، فإنما يظهر أثرها في محل معين، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك، فكذا لولا جرم العبد وجنايته، وعجزه وحاجته، لما ظهرت آثار غفرانك، فقوله‏: ﴿غُفْرَانَكَ﴾ معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي، وفي حق أمثالي من المجرمين.

20. في القيد الثاني: وهو قوله‏: ﴿رَبِّنَا﴾ فوائد:

أ. أولها: ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك.

ب. ثانيها: ربيتني حين كنت معدوماً، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به، لأني كنت أبقى حينئذ في العدم، وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد، فأسألك أن لا تهملي.

ج. ثالثها: ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل.

د. رابعها: ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك.

21. في قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فائدتان:

أ. إحداهما: بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد، لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد، فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات، وقادر على كل الممكنات، لا بد وأن يقر بالمعاد.

ب. الثانية: بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله، كان إخلاصه في الطاعات أتم، واحترازه عن السيئات أكمل، وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/106.

(2) ذكر هنا بعض ما يرتبط بأفعال العباد، وقد ذكره في محال كثيرة، ولم نر مناسبة لوضعه هنا

(3) الكلام هنا للواحدي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ ووجه نظمه:

أ. روي عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج، وهكذا روي في بعض الروايات عن ابن عباس، وقال بعضهم: جميع القرآن نزل به جبريل صلّى الله عليه وآله وسلم على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلا هذه الآية فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: هو الذي سمع ليلة المعراج، وقال بعضهم: لم يكن ذلك في قصة المعراج، لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية، فأما من قال: إنها كانت ليلة المعراج قال(2): لما صعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبلغ في السماوات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل: إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحد هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله، فأشار إليه جبريل بأن سلم على ربك، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات، قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فأراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل واهل السماوات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد ه ورسوله، قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ على معنى الشكر أي صدق الرسول ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فأراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ يعني يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بأحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى، فقال له ربه: كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها؟ وهو قوله: ﴿إن تبدوا ما في أنفسكم﴾ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير يعني المرجع، فقال الله تعالى عند ذلك: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعني طاقتها ويقال: إلا دون طاقتها، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من الخير ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من الشر، فقال جبريل عند ذلك: سل تعطه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ يعني إن جهلنا ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ يعني إن تعمدنا، ويقال: إن عملنا بالنسيان والخطأ، فقال له جبريل: قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان، فسل شيئا آخر فقال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ يعني ثقلا ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم، وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على بابهم، وكانت الصلوات عليهم خمسين، فخفف الله عن هذه الأمة وحط عنهم بعد ما فرض خمسين صلاة، ثم قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ يقول: لا تثقلنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا، ويقال: ما تشق علينا، لأنهم لو أمروا بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة عليه ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ من ذلك كله ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ وتجاوز عنا، ويقال: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ من المسخ ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ من الخسف ﴿وَارْحَمْنَا﴾ من القذف، لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم أصابهم الخسف وبعضهم القذف ثم قال: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ يعني ولينا وحافظنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فاستجيبت دعوته، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ويقال إن الغزاة: إذا خرجوا من ديارهم بالنية الخالصة وضربوا بالطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر في شهر، علموا بخروجهم أو لم يعلموا، ثم إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رجع أوحى الله هذه الآيات، ليعلم أمته بذلك.

ب. ولهذه الآية تفسير آخر، قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ثم ذكر تصديق نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

ج. وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فإنه لما أنزل هذا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من، الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد [والصدقة]، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال: نعم ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قال: ﴿نِعْمَ﴾ ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال: نعم ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قال: نعم أخرجه مسلم عن أبي هريرة، قال علماؤنا: قوله في الرواية الأولى قد فعلت) وهنا قال: ﴿نِعْمَ﴾ دليل على نقل الحديث بالمعنى، وقد تقدم، ولما تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، ورفع المشقة في أمر الخواطر عنهم، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والانجلاء إذ قالوا: سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله تعالى، أعاذنا الله من نقمه بمنه وكرمه.

د. وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قيل له: إن بيت ثابت بن قيس بن شماس يزهر كل ليلة بمصابيح، قال: فلعله يقرأ سورة البقرة، فاسأل ثابت قال: قرأت من سورة البقر ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ نزلت حين شق على أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما توعدهم الله تعالى به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: فلعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو إسرائيل، قالوا: بل سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تعالى ثناء عليهم: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: وحق لهم أن يؤمنوا)

2. ﴿آمَنَ﴾ أي صدق، وقد تقدم، والذي أنزل هو القرآن(3).

3. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فيه حذف، أي سمعنا سماع قابلين، وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده، فلا يكون فيه حذف، وعلى الجملة فهذا القول يقتضي المدح لقائله، والطاعة قبول الأمر.

4. ﴿غُفْرَانَكَ﴾ مصدر كالكفران والخسران، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قال الزجاج، وغيره: نطلب أو أسأل غفرانك، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه) فسأل إلى آخر السورة.

5. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ التكليف هو الأمر بما يشق عليه، وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة والجدة، وهذا خبر جزم، نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحيي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرب وهو يقول:

çما كلف الله نفسا فوق طاقتها... ولا تجود يد إلا بما تجدé

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/425.

(2) هذا الحديث ظاهر الوضع

(3) ذكر هنا ما ورد من القراءات وحججها، وقد سبق ذكر ذلك

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: بجميع ما أنزل الله، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ عطف على الرسول، ﴿كُلّ﴾ أي من الرسول والمؤمنين‏ ﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ، ﴿كُلّ﴾ مبتدأ ثان، ﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل.

2. أفرد الضمير في قوله: ﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ مع رجوعه إلى كل المؤمنين، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم، من غير الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾، قال الزجاج لمّا ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة، والزكاة، وبين أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

3. ثم ذكر الله تعالى تصديق نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون، كلهم صدّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

4. قيل سبب نزولها: الآية التي قبلها، وقد تقدّم بيان ذلك، قوله: ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ أي: من حيث كونهم عباده المكرّمين، المتوسطين بينه وبين أنبيائه في إنزال كتبه، وقوله: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده، وقوله: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم(2).

5. ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾ ولم يقل بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد، والجمع، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ فوصفه بقوله: ﴿حَاجِزِينَ﴾ لكونه في معنى الجمع، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال، وأن تكون خبرا آخر لقوله: ﴿كُلِّ﴾، وقوله: ﴿مِنْ رُسُلِهِ﴾ أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم.

6. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ هو معطوف على قوله: ﴿أَمَّنْ﴾ وهو وإن كان للمفرد وهذا للجماعة فهو جائز نظرا إلى جانب المعنى، أي: أدركناه بأسماعنا، وفهمناه، وأطعنا ما فيه؛ وقيل: معنى سمعنا: أجبنا دعوتك.

7. ﴿غُفْرَانَكَ﴾ مصدر منصوب بفعل مقدّر، أي: اغفر غفرانك، قاله الزجاج وغيره، وقدّم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل إليه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/353.

(2) ذكر هنا ما ورد من القراءات وحججها، وقد سبق ذكر ذلك

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقق‏ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي كذلك آمنوا، قال الزجاج: لما ذكر الله عزّ وجلّ في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدّين، ختمها بقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ لتعظيمه وتصديق نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله، وغيره ليكون تأكيدا له وفذلكة.

2. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ إما مبتدأ والجملة بعده خبر، أعني كلّ آمن، والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في ﴿كُلِّ﴾، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير، وإما معطوف على الرسول فيكون التنوين راجعا إلى الرسول والمؤمنين، وقد اختار كثيرون الأول، ومنهم العلامة أبو السعود، وأطال في توجيهه، وعندي أن الوجه هو الثاني، لأن المقام لتعداد المؤمن به، وذلك يشترك فيه الرسول وأتباعه، وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره، فالمقام ليس مقام الخصوصية.

3. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ﴾ أي يقولون لا نفرق‏ ﴿بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي بردّ بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق‏ ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا﴾ أي قولك وفهمناه‏ ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أي امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه، ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك ذنوبنا، وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول‏ ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة، لما أن الرجوع للحساب والجزاء.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/241.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾ قرآنا أو وحيًا غيرُه في هذه السورة أو غيرها، ﴿وَالْمُومِنُونَ﴾ عطف على الرسول، فيكون المراد بقوله: ﴿كُلٌّ﴾ كلًّا من المؤمنين والرسول، فيدخل الرسول بالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل، ويدلُّ لذلك قراءة علي: (وآمن المؤمنون) ولكن شُهر أنَّ ﴿ءَامَنَ الرَّسُولُ﴾ آيتان، ولزم على ذلك أنَّه ثلاث، ويجاب بأنَّ الآيات توقيفيَّة، ويقوَّى أيضًا بأنَّ عطفه على الرسول أعظم له إذ تبعوه.

2. ذكر في صدر السورة الإيمان على طريق الخطاب بـ : (كاف) ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ [الآية: 5] بطريق الغيبة؛ لأنَّ حقَّ الشهادة الباقية على مرور الدهور في حياة المشهود له، وبعد حياته أن لا تكون بالخطاب، ولو جعلنا (الْمُومِنُونَ) مبتدأ لم يدخل الرسول في ذلك الإيمان المذكور في قوله: ﴿امَنَ بِاللهِ﴾ أنَّه لا شريك له، وأنَّه منزَّه عن صفات الخلق، ﴿وَمَلَآئِكَتِهِ﴾ بأنَّهم موجودون لا يعصون الله، وأنَّهُم وسائط بين الله وخلقه بالكتب وسائر الوحي، كما ذكرهم بين ذكر الله والكتب والرسل، كما قال: ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ ولم يذكر اليوم الآخر لذكره في قوله: ﴿وَلَكِنِ الْبِرُّ﴾ [الآية: 177]، والثواني يختصر فيها، وأيضا هو مذكور في قوله: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.

3. ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ قائلين: لا نفرِّق ﴿بَيْنَ أحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ في الإيمان، كما آمنت اليهود ببعض وكفرت ببعض، وكذا النصارى، كقوله: ﴿نُومِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: 150]، وأمَّا في الفضل فجائز، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 251].

4. وصحَّ إضافة (بَيْنَ) إلى (أَحَدٍ) بلا عطف على (أَحَدٍ)، مع أنَّها لا تضاف إِلَّا لمتعدِّد؛ لأنَّ معناه جماعة هنا، فإنَّه يستعمل لواحد فصاعدا، والمذكَّر والمؤنَّث، أي: لا نفرِّق بين جماعة من رسله، كقوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُم مِّنَ اَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقَّة: 47]، أي: من جماعة، وقوله: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ﴾ [الأحزاب: 32]، أي: كجماعة، وإنَّما لم أقل: عموم أحد لأنَّه نكرة في سياق النفي؛ لأنَّه لم يسمع الجمع في سائر النكرات في سياقه، فإنَّه لم يسمع: (لا نفرِّق بين رجل)، ولا (ما جاء رجل راكبون)، وأيضًا لم يتسلَّط النفي على أحد بالذات بل بتوسُّط الإضافة مع أنَّه لم يتسلَّط أيضًا على المضاف بالذات بل على متعلَّقه، وعدم التفريق بين الرسل عدم تفريق بين الكتب أيضًا، فكفى عن ذكره، والعكس يصحُّ أيضًا، إِلَّا أنَّه لم يعكس؛ لأنَّ الرسل أصل للكتب من حيث إنَّهم الجاؤون بها، والمدَّعون لها، ويجوز أن يقدَّر: (بين أحد وأحد).

5. ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا﴾ ما قلتَ سماعَ تدبُّر ترتَّبَ عليه القبول ﴿وَأَطَعْنَا﴾ امتثلنا، ويقال: الطاعة أخصُّ من السمع؛ لأنَّها القبول عن طوعٍ، وينظر فيه بأنَّ الطوع قد يكون إذعانا للقهر لا باختيار.

6. ﴿غُفْرَانَكَ﴾ أي: اِغفر لنا غفرانا، فناب (غُفْرَان) عن (اِغفر)، وأضيف لضمير (اِغفر)، أو نسألك غفرانك ﴿رَبَّنَا﴾ يتعلَّق بـ (غُفْرَانَكَ)، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ المرجع بالبعث للجزاء، وهذا إقرار بالبعث أغنى عن أن يقول هناك: ورسله واليوم الآخر، وأخَّره إلى هنا ليذكره عقب ما عليه الجزاء من السمع والطاعة وعقب الغفران الذي يظهر يوم الجزاء، والعلم عند الله.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/187.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: إن الآيتين متعلقتان بما قبلهما لما فيه من ذكر كمال الألوهية الذي يقابله من كمال الإيمان والدعاء ما يناسبه أو لما فيه من ذكر الحساب والعلم بالخفايا المقتضي للإيمان والدعاء.

ب. وقيل: إنه لما افتتحت هذه السورة ببيان كون القرآن لا ريب فيه وكونه هدى للمتقين، وذكر صفات هؤلاء المتقين وأصول الإيمان التي أخذوا بها وخبر سائر الناس من الكافرين والمرتابين، ثم ذكر فيها كثيرا من الأحكام ومحاجة من لم يهتد به من بعض الأمم، ناسب بعد هذا كله ختم السورة بالشهادة للمؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالإيمان وهم المهتدون تمام الاهتداء، ولقنهم من الدعاء ما ستعلم حكمته وهذا الوجه الذي اختاره محمد عبده قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي صدق الرسول بما أنزل إليه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدى تصديق إذعان واطمئنان وكذلك المؤمنون من أصحابه ـ عليهم الرضوان وقد شهد لهم بهذا الإيمان أثره في نفوسهم الزكية وهممهم العلية، وأعمالهم المرضية والله أكبر شهادة، وقد اعترف كثير من علماء الإفرنج الباحثين في شئون المسلمين وعلومهم وسائر شئون أمم الشرق بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان على اعتقاد جازم بأنه مرسل من الله وموحى إليه، وكانوا من قبل متفقين على أنه ادعى الوحي؛ لأنه رآه أقرب الطرق لنشر حكمته والإقناع بفلسفته أو لنيل السلطة وهو غير معتقد به كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وقرأ حمزة (وكتابه) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه وكمال صفاته وحكمته وسننه في خلقه، وبوجود الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين الرسل من البشر ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء.

2. قال المفسرون: ليس المراد بالإيمان بالملائكة الإيمان بذواتهم، بل الإيمان بسفارتهم في الوحي، كما يفهم من النظم والترتيب؛ ولذلك عطف عليهم الإيمان بحقية كتبه وصدق رسله، لكن ما يفيده الترتيب والنظم من إرادة الإيمان بالملائكة من حيث هم حملة الوحي إلى الرسل لا ينافي ملاحظة الإيمان بهم من حيث هم من عالم الغيب بل يستلزمه، وأما البحث عن ذواتهم ما هي وعن صفاتهم وأعمالهم كيف هي؟ فهو مما لم يأذن به الله في دينه.

3. المراد بالإيمان بالكتب والرسل جنسها؛ أي يؤمنون بذلك إيمانا إجماليا فيما أجمله القرآن وتفصيليا فيما فصله لا يزيدون على ذلك شيئا ويقولون: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾.. وذكر المقول مع حذف القول كثير في الكلام البليغ، وله مواضع في الكتاب لا يقف الفهم في شيء منها، قال محمد عبده: والمعنى أن من شأن المؤمنين أن يقولوا هذا معتقدين أنهم في الرسالة والتشريع سواء، كثر قوم الرسول منهم أم قلوا، وكثرت الأحكام المنزلة عليه أم قلت، وتقدمت البعثة أم تأخرت، وهذا لا ينافي قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ فإن التفضيل ليس في أصل الرسالة والوحي كما تقدم في تفسير الآية.. وفي هذا مزية للمؤمنين من هذه الأمة على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كأنهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها إذ لو عقلوها لما فرقوا بين من أوتوها، وقد رأيت غير واحد من أذكياء النصارى يدرك هذه المزية.

4. ﴿آمَنُوا﴾ بما ذكر قائلين بعدم التفريق: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي بلغنا فسمعنا القول سماع وعي وفهم، وأطعنا ما أمرنا به فيه، إطاعة إذعان وانقياد، قال محمد عبده في الدرس: وقد بينا لكم مرارا أن فرقا بين إيمان الإذعان وبين ما يسميه الإنسان إيمانا واعتقادا؛ لأنه نشأ عليه وقبله بالتقليد ولم يسمع له ناقضا، فمثل هذا ليس اعتقادا حقيقيا، وقلما ينشأ عنه عمل؛ لأنه تقليد، بقاؤه في الغفلة عن ناقضه، والإذعان ينبه النفس دائما إلى ما تذعن له، ويبعثها دائما إلى العمل به إلا إذا عرض ما لا يسلم منه المرء من الموانع؛ ولهذا عطف أطعنا على سمعنا.

5. ولما كان العامل المذعن المخلص يراقب قلبه ويحاسب نفسه على التقصير الذي تأتي به العوارض الطارئة ويلومها على ما دون الكمال من الأعمال كان من شأن المؤمنين أن يقولوا مع السمع والطاعة: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي يسألونه تعالى أن يغفر لهم ما عساه يطرأ على أنفسهم فيعوقها عن الرقي في معارج الكمال الذي دعاها إليه الإيمان بها، والغفران كالمغفرة: الستر، وستر الذنب يكون بعدم الفضيحة عليه في الدنيا وترك الجزاء عليه في الآخرة، وإنما يطلب هذا بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة مع الدعاء الذي يزيد في الإيمان وبذلك يمحى أثر الذنوب من النفس في الدنيا فيرجى أن تصير إليه تعالى في الآخرة نقية زكية؛ لأن هذا المصير إليه وحده هو الذي يكون وراءه الجزاء بحسب درجات النفوس في معارج الكمال.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/140.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه، وأنه هدى للمتقين، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، وحاجّ الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد ـ وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه وللمؤمنين، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم، وميزهم بالفطر السليمة والخلق الكامل، وطهر نفوسهم وزكاها من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة، وفازوا بخيرى الدارين، وهذا منتهى الكمال الإنساني، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر.

2. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي صدّق الرسول بما جاء به الوحى من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان، وتخلّق به كما قالت عائشة: كان خلقه القرآن، وكذلك المؤمنون من أصحابه، وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وعلت هممهم.

3. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته، وتمام حكمته في نظام خليقته، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله، وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله ـ بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الآية.

4. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة، وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

5. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي وقالوا بلّغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه، والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة، ويأبون إلا الكمال، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال، وإنما يكون ذلك بالتوبة واتباع السيئة الحسنة، وبهذا يمحى أثر الذنب من النفس في الدنيا، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/83.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا ختام السورة الكبيرة.. الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعا ضخما رحيبا من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود؛ وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها؛ ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى.. كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي.. إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.

1. هذا ختام السورة الكبيرة.. في آيتين اثنتين.. ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصا وافيا لأعظم قطاعات السورة، يصلح ختاما لها، ختاما متناسقا مع موضوعاتها وجوها وأهدافها.

2. لقد بدأت السورة بقوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.. وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعا.. وها هي ذي تختم بقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب!

3. وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شئون الحياة.. كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم.. وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله ـ سبحانه ـ لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها ـ كما زعمت يهود عن ربها ـ ولا يتركها سدى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾..

4. وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل؛ وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود؛ وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.. وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا ﴿إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾

5. وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال؛ وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين.. وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل..

6. وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها، ولها دورها، ولها دلالتها الضخمة، وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها ـ وهو كبير ـ من حقائق العقيدة.. من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه، ومن حال المؤمنين به مع ربهم، وتصورهم لما يريده ـ سبحانه ـ بهم، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم، ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه.. نعم.. كل كلمة لها دورها الضخم، بصورة عجيبة، عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن، وعرف شيئا من أسرار التعبير فيه؛ وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته! فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل:

7. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.. إنها صورة للمؤمنين، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلا، ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة.. ومن ثم كرمها الله ـ سبحانه ـ وهو يجمعها ـ في حقيقة الإيمان الرفيعة ـ مع الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلم وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته؛ لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة؛ وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده، وهو يجمع بينها وبين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في صفة واحدة، في آية واحدة، من كلامه الجليل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.. وإيمان الرسول بما أنزل من ربه هو إيمان التلقي المباشر، تلقي قلبه النقي للوحي العلي، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة، الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة؛ وبلا أداة أو واسطة، وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف ـ على حقيقتها ـ إلا من ذاقها كذلك!

8. هذا الإيمان ـ إيمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم، على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بطبيعة الحال وكيان أيّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه، فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده؟ ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.. إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين، الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة، الضاربة الجذور في أعماق الزمان، السائرة في موكب الدعوة وموكب‏ الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين: صف المؤمنين وصف الكافرين، حزب الله وحزب الشيطان، فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان.

9. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾.. والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور، وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة، وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد، وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك، الإيمان بالله معناه إفراده ـ سبحانه ـ بالألوهية والربوبية والعبادة، ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة، ليس هناك شركاء ـ إذن ـ في الألوهية أو الربوبية، فلا شريك له في الخلق، ولا شريك له في تصريف الأمور، ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد، ولا يرزق الناس معه أحد، ولا يضر أو ينفع غيره أحد، ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيرا كان أو كبيرا إلا ما يأذن به ويرضاه، وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس، لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة، فلا عبادة إلا لله، ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه، فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان، ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حرا إزاء كل من عدا الله، طليقا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزا على كل أحد إلا بسلطان من الله.

10. ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾، والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب.. وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن (إنسانيته) بخصائصها المميزة.. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته، فإذا لم تلبّ هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيبـ كما منحها الله له ـ اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب‏.

11. والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له.. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية، ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان ـ وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه ـ أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها ـ ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها ـ وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا حقائق الغيب‏ من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات! وفضلا على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة ـ شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله ـ يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه ـ وهو ضئيل ـ كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله؛ تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير ـ بإذن الله ـ وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك.. ثم هنالك المعرفة: المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته..

12. ﴿وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾.. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام، فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم.. ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم، فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين ـ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة.

13. وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض، وهي الوارثة له كله؛ ويشعر المسلمون ـ من ثم ـ بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة، فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل، وهم المختارون لحمل راية الله ـ وراية الله وحدها ـ في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية.. إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان.

14. إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض، ووراثة له منذ أقدم الرسالات، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية، إنه رصيد من الهدى والنور، ومن الثقة والطمأنينة، ومن الرضى والسعادة، ومن المعرفة واليقين.. وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام، وتعمره الوساوس والشكوك، ويستبد به الأسى والشقاء، ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب! وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد، وحرمت هذا الأنس، وحرمت هذا النور، صرخات موجعة في جميع العصور.. هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين، فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة.. ومن ثم تمضي‏ في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع، وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش، وتنشر الفساد في الأرض.. ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس! والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة ـ ولو غرقت في الرغد المادي ـ خاوية ـ ولو تراكم فيها الإنتاج ـ قلقة ـ ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي ـ وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان!

15. والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، ويعرفون أنهم صائرون إليه، فيطلبون مغفرته من التقصير: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، يتجلى في السمع والطاعة، السمع لكل ما جاءهم من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله، فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل، والتلقي منه في كل أمر، فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله، وإنفاذ لنهجه في الحياة، ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شئون حياتهم؛ أو حيث لا ينفذون شريعته، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.

16. ومع السمع والطاعة.. الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها؛ وفرائض الله حق أدائها، والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾.. ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران.. وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله، المصير إليه في الدنيا والآخرة، المصير إليه في كل أمر وكل‏ عمل، فلا ملجأ من الله إلا إليه؛ ولا عاصم من قدره، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾

17. ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ هذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر ـ كما رأينا ـ والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي، الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض؛ وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء.. فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي.. وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة، فهو يمضي في طريق الطاعة، وتحقيق الخير، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك ـ في الأرض ـ راحة لم أم تعبا، كسبا له أم خسارة، نصرا له أم هزيمة، وجدانا له أو حرمانا، حياة له أو استشهادا، لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء، واجتيازه للامتحان.. لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل.. فهو إنما يتعامل مع الله؛ وينفذ عهده وشرطه؛ وينتظر الجزاء هناك! إنها الوحدة الكبرى، طابع العقيدة الإسلامية، ترسمه هذه الآية القصيرة: الإيمان بالله وملائكته، والإيمان بجميع كتبه ورسله، بلا تفريق بين الرسل، والسمع والطاعة، والإنابة إلى الله، واليقين بيوم الحساب.

18. إنه الإسلام، العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد، وآخر الرسالات، العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدي الخليقة إلى منتهاها، وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعا، المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود، الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق: حتى يجيء الإسلام، فيعلن وحدة الناموس كاملة، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق.

19. ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا، لا حيوانا ولا حجرا، ولا ملكا ولا شيطانا، تعترف به كما هو، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/340.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يخبر الله سبحانه وتعالى بإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه، أي بالقرآن الذي أنزل عليه، وبما حمل هذا القرآن من أحكام وآداب، كما يخبر سبحانه بإيمان المؤمنين الذي اتبعوا النبي، على نحو الإيمان الذي آمن به النبيّ وليس الإخبار بإيمان النبيّ والمؤمنين لمجرد الإعلام بمضمون هذا الخبر، وإنما لما ينكشف وراء هذا الخبر من الصورة التي كان عليها إيمانهم، فهذا الإيمان قائم على دعائم، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، دون تفرقة بين أحد من رسله، فهم جميعا حملة رسالة الله إلى عباده، يعملون لغاية واحدة، هي هداية الناس إلى الله، وإقامتهم على صراط الله، ودين الله.. والتفرقة بينهم تفرقة للحق الذي جاؤوا به، والحق وجه واحد، وطريق واحد، لا تختلف مناهجه، ولا تتفرق سبله.

2. ومن تمام هذا الإيمان أيضا، السمع والطاعة لله ولرسوله، والإنابة إلى الله في العثرات والزلات.

3. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ هو مقول لقول محذوف يدل عليه القول في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي قائلين لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، وفى هذا كله تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين فرّقوا دين الله، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، وعزلوا رسل الله بعضهم عن بعض؛ كما عزلوا هم أنفسهم عن المجتمع الإنساني كله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/388.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الزجاج في علاقة الآية الكريمة بما قبلها: (لما ذكر الله في هذه السورة أحكاما كثيرة، وقصصا، ختمها بقوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ تعظيما لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل)، يعني: أنّ هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلّل ذلك، ممّا هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيمانا خالصا يتفرّع عليه العمل؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثال لما جاء به من عمل، فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر: هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض، وورد في أسباب النزول أنّ قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ يرتبط بقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: 284] كما تقدم آنفا.

2. (أل) في الرسول للعد، وهو علم بالغلبة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم في وقت النزول قال تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: 13]، و﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ معطوف على‏ ﴿الرَّسُولَ﴾، والوقف عليه، والمؤمنون ـ هنا ـ لقب للذين استجابوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فلذلك كان في جعله فاعلا لقوله: ﴿آمَنَ﴾ فائدة، مع أنّه لا فائدة في قولك: قام القائمون.

3. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن (كلّ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حكم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللهبي، بعد أبيات:

çكلّ له نيّة في بغض صاحبه‏...بنعمة الله نقليكم وتقلوناé

وإذ كانت (كلّ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوين عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في (التسهيل)، ولا يعكر عليه أنّ (كل) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه، فمن جوّز أن يكون عطف‏ ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ عطف جملة وجعل‏ ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ وجعل‏ ﴿كُلِّ﴾ مبتدأ ثانيا و﴿آمَنَ﴾ خبره، فقد شذّ عن الذوق العربي.

4. قرأ الجمهور ﴿وَكُتُبِهِ﴾ بصيغة جمع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي: وكتابه، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب، فيكون مساويا لقوله: ﴿وَكُتُبِهِ﴾، إذ المراد الجنس، والحقّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون: إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال: إذا دخلت أل الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنّه قال لما سئل عن هذه القراءة: (كتابه أكثر من كتبه ـ أو ـ الكتاب أكثر من الكتب)، فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب (المفتاح) (استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع)، والحقّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات، وأنّ كلام ابن عباس ـ إن صح نقله عنه ـ فتأويله أنّه أكثر لمساواته له معنى، مع كونه أخصر لفظا، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى.

5. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارك، وهو يحتمل الالتفات: بأن يكون من مقول قول محذوف دل عليه السياق وعطف‏ ﴿وَقَالُوا﴾ عليه، أو النون فيه للجلالة أي آمنوا في حال أنّنا أمرناهم بذلك، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة، وقيل: هو مقول لقول محذوف دل عليه آمن؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول، وقرأه يعقوب بالياء: على أنّ الضمير عائد على‏ ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق: بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

6. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]

7. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ عطف على‏ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ والسمع هنا كناية عن الرضا، والقبول، والامتثال، وعكسه لا يسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة: (تناذرها الرّاقون من سوء سمعها)، أي عدم امتثالها للرّقيا، والمعنى: إنّهم آمنوا، واطمأنّوا وامتثلوا، وإنّما جيء بلفظ الماضي، دون المضارع، ليدلوا على رسوخ ذلك؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعت، و﴿غُفْرَانَكَ﴾ نصب على المفعول المطلق: أي اغفر غفرانك، فهو بدل من فعله.

8. ﴿الْمَصِيرُ﴾ يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافا بالبعث، وجعل منتهيا إلى الله لأنّه منته إلى يوم، أو عالم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة، ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان، كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]، وجعل المصير إلى الله تمثيلا للمصير إلى أمره ونهيه: كقوله: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: 39] وتقديم المجرور لإفادة الحصر: أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنّهم عالمون بأنّهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/594.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بهاتين الآيتين الكريمتين ختمت هذه السورة، وهى أطول سورة في القرآن، وفيها لب الإسلام، ومغزاه ومرماه؛ فيها بيان أخلاق الناس، واختلاف تلقيهم للحق الذي يدعون إليه؛ فمن مؤمن يذعن للحق بقلبه وجوارحه، ومن منافق يظهر الإذعان ويبطن الكفر، ومن معاند مشرك بالله يعرض عن الحق، وقد لاحت بيناته، وأضاءت الوجود آياته، ثم بينت أصل الخليقة، وبها تبيين الطبائع الإنسانية والطبائع الإبليسية، والإخلاص الملائكي ثم ضرب سبحانه الأمثال وقص سبحانه قصص النبيين: موسى وإبراهيم وإسماعيل، وبنى إسرائيل، وفيهم يتمثل الإيمان أحيانا، والطبائع الإنسانية يتسلط عليها الشيطان في أكثر الأحيان، ويتمثل الطبع الإنساني في قوته وضعفه، ثم ذكر سبحانه أحكاما للجماعة في القتال، وفى السلام، في الأسرة وفى المجتمع، وفى التعاون بين الآحاد بالإنفاق في سبيل الخير وإعلاء كلمة الحق والفضيلة، ثم في الأسباب المفرقة بين الجماعات كالربا، ثم في المعاملات الفاضلة التي تحفظ فيها الثقة المتبادلة بين آحاد الجماعات الإسلامية.

2. بيّن سبحانه وتعالى ذلك، ثم ختم السورة ببيان أمرين:

أ. أحدهما: أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم هي امتداد للرسالات السابقة كلها، وأن لب الدين واحد في كل الرسالات الإلهية.

ب. ثانيهما: بيان أن كل التكليفات الدينية يسر لا عسر فيها، وأنها تهذيب روحي وتعاون اجتماعي.

3. وقد بينت الآية الأولى من الآيتين الكريمتين الأمر الأول وبينت الثانية الأمر الثاني.

4. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فى هذا الجزء من الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الأصل الأول من أصول الإيمان، وهو الإيمان بما جاء به وما نزل عليه؛ فهو صلّى الله عليه وآله وسلم ومعه المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه من ربه صلّى الله عليه وآله وسلم، الذي أنشأه ونماه وكمله، وخصه بالخصال التي تؤهله للرسالة، وتعده للنبوة: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام‏]

5. الإيمان بما أنزل الله يشمل الإيمان بالتوحيد المطلق للذات العلية وبكل ما اشتمل عليه القرآن من غيبيات، والإيمان بكل ما اشتمل عليه القرآن من تكليفات على أنها من عند الله اللطيف الخبير، سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بالمعاملات؛ فيؤمن النبيّ ومعه كل المؤمنين الصادقي الإيمان بأن الله حرم الربا كما حرم الشرك وكما حرم الاعتداء على النفس والمال، وحرم الزنا كما حرم الخمر والخنزير وأكل الميتة؛ وأمر بالزكاة كما أمر بالصلاة، وأمر بإقامة الحدود كما أمر بالحج؛ فالإيمان بما أنزل الله إيمان بكل ما اشتمل عليه الوحى المحمدي، ومن قال إن منه ما يناسب عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ولا يناسب عصرنا فهو لم يؤمن بما أنزل إليه من ربه، ولم يكن من المؤمنين الذين اقترن إيمانهم بإيمانه صلّى الله عليه وآله وسلم.

6. نشير هنا إلى معنى سام تفضل به الله على المؤمنين، وهو أنه قرن إيمان المؤمنين بإيمان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وجمعهما في نسبة واحدة، وفى ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يصدقون في إيمانهم بما أنزل الله يقاربون في منزلتهم منزلة النبيين، وفى تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع، وإشارة إلى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أول من يؤمن بما أوحى إليه، وأنه أقوى الناس إيمانا بوجوب طاعة الله، وأنه أول من أطاع الله؛ فكانت نبوته صلّى الله عليه وآله وسلم تصديقا منه وطاعة.

7. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ بهذا النص الكريم يبين سبحانه معنى الإيمان الجامع من حيث الاعتقاد، وذلك الإيمان يتضمن الإيمان بالله تعالى أولا، ثم بملائكته، وهم وسائط التبليغ لمن يختارهم لرسالته من خلقه، ثم بكتبه، وهى سجل شرائعه التي تنزل من السماء، ورسله، وهم المصطفون الأخيار من البشر الذين اختيروا لتبليغ ما اشتملت عليه الكتب، فهذا تدرج قويم؛ فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود؛ ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لا يرى ولا نعرف شيئا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه، وكذلك الكتب والرسل.

8. سؤال وإشكال: لماذا ذكر الإيمان بهؤلاء بجوار الإيمان بالله تعالى؟ والجواب: عن ذلك أن بعض المنحرفين من أهل الأديان السابقين كانوا يذكرون بغير الخير وبالعداوة بعض الملائكة كجبريل الأمين، فبين سبحانه أن الملائكة جميعا من غير استثناء يجب الإيمان بهم، والإذعان لكل ما ينزلون به من رسالات ربهم، وكذلك الكتب السابقة، والنبيون السابقون؛ فمن بنى إسرائيل من قتلوا بعض النبيين، وكفروا ببعضهم وحرضوا على قتله، فبين سبحانه وجوب الإيمان بكل الرسل من غير استثناء؛ لأنهم المبلغون للناس رسالات الله، وفوق ذلك فإن هذا الذكر المفصل يفيد اشتراك المؤمنين جميعا في عناصر الإيمان، وأن الإسلام امتداد لسائر الأديان المنزلة؛ وهو الخطوة الأخيرة في شرائع السماء إلى الأرض، وأن من يؤمن بالإسلام يؤمن بكل الأديان والشرائع التي أنزلت على الرسل غير محرفة ولا مبدلة؛ فهو دين الوحدة الإنسانية، كما هو دين التوحيد الإلهي والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوحدانيته تعالى في الذات؛ فليس لله سبحانه وتعالى مشابه له من الحوادث لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى‏] وبوحدانية الله في الخلق والتكوين، فهو سبحانه الخالق لكل شيء، وليس لأحد مهما يكن شركة لله سبحانه في الخلق والتكوين؛ ووحدانية العبودية؛ فلا يعبد مع الله أحدا؛ لأنه المنعم بهذا الوجود، وليس أحد يستحق معه العبادة؛ إذ لا يماثله أحد؛ تعالى الله عما يقوله المشركون علوا كبيرا.

9. هنا ملاحظة لفظية يجب أن نشير إليها، وهى لفظ (كل) وعدم إضافته، إذ قال سبحانه: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ و(كل) سواء أضيفت باللفظ أم لم تضف، على نية الإضافة؛ فالمعنى: كل فريق من هذين الفريقين، وهما الرسول والمؤمنون وذكر كل على هذا فيه إشارة إلى مرتبة النبيين، وأنها أعلى من مرتبة المؤمنين ولو كانوا صادقين، وإن جمعهما المولى القدير في نسبة واحدة، تعالت كلمات الله سبحانه.

10. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ هذا التفات في القول، وهو منهاج بلاغي، فبعد أن كان الكلام بصيغة الحكاية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، صار بصيغة المتحدثين عن أنفسهم هم، وهى أن حالهم في هذا الإيمان أنهم لا يفرقون بين رسول ورسول، فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، وهناك قراءة أخرى، وهى: (لا يفرق بين أحد من رسله) والضمير في الفعل (يفرق) يعود في هذه القراءة على (كل) ولفظ (كل) مفرد، فيعود الضمير عليه مفردا وإن كان معناه جمعا، وقد يعود الضمير جمعا ملاحظا في ذلك المعنى لا اللفظ، ومعنى هذه الجملة السامية هو تصريح بما تضمنه ما قبلها؛ لأن ما قبلها تضمن أنهم يؤمنون بكل الرسل، ومقتضى ذلك أنهم لا يفرقون في الإيمان بهم وكونهم مبعوثين من عند الله بين رسول ورسول، وعدم التفرقة لا صلة لها بالتفضيل في الدرجات؛ لأن ذلك من فضل الله إذ يقول: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة]، ولأن موضوع التفرقة وعدم التفرقة هو في الإيمان.

11. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ في هذه الجمل السامية يبين سبحانه وتعالى خواص الإيمان التي لا تفارقه إلا إذا اعتراه نقص، وبمقدار نقصها يتخلف المؤمن عن مراتب الكمال، ودرجات الفوز:

أ. أول خاصة من خواص الإيمان، ومظهر من مظاهره ـ الاستماع لما يدعو إليه استماع متعرف طالب لحقيقته متقص لغاياته، متجرد من الأهواء والشهوات، حتى إذا عرف الحق في الشرع سائغا أطاعه غير متململ، وصبر على تكليفه غير متضجر؛ فمن طلب الدين مؤولا نصوصه على غير وجهها خضوعا لأهواء زمانه، أو خضوعا لهواه، فهو غير مستمع ولا طائع، نعوذ بالله العزيز الكريم.

ب. الخاصة الثانية أن يحس المؤمن بالتقصير مهما يكن مؤديا لواجب الطاعة، فإن ذلك الإحساس يرهف الوجدان، ويجعله على مخافة من الزلل، فيتجنب الشطط، ويلتزم الاعتدال؛ ولذلك قال في هذه الخاصة رب النفوس ومقلب القلوب: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي أنهم لفرط إحساسهم وخشية التقصير، لأن هذا الدين متين، يضرعون إلى الله دائما طالبين المغفرة، ويقولون: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما، وأنت ربنا الذي خلقنا وربانا ونمانا، والعليم بأحوالنا، وإن هذا هو مقام الخوف الذي يجب أن يغلّبه المؤمن؛ ولذا كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إني أخشاكم لله) ومقام الخوف من قوة الإيمان، والغرور من ضعف الإيمان، فلا يليق بمؤمن أن يغتر بعبادته، فإن هذا ينقصها أو دليل على نقصها، ويقول الصوفية: إن معصية أورثت ذلا واستخذاء خير من طاعة أورثت عزا وافتخارا.

ج. الخاصة الثالثة: التفويض إلى الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر؛ ولذا قال تعالى عنهم: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ وإن هذا مقام التفويض والإيمان بالقدر خيره وشره، وهو مع ذلك يتضمن الإيمان باليوم الآخر؛ فالمؤمن الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويذعن للحق ويعمل به غير مغتر بعمله؛ بل يرجو عفو ربه وغفرانه، ثم يفوض أموره إلى ربه، عالما بأن المآل إليه ومصيره عنده سبحانه وتعالى.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1086.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾، هنا سؤال يفرض نفسه، وهو ان كل رسول يؤمن بالله وبالوحي الذي انزل اليه، والا لا يكون رسولا، فالاخبار عن ذلك يشبه توضيح الواضح، وتحصيل الحاصل، وهذا غير جائز في كلامه تعالى الذي يجب أن يحمل على أحسن المحامل، فلا بد أن يكون للاخبار عن ذلك هدف يرمي اليه، فما هو هذا الهدف؟، والجواب: ليس الغرض من الآية مجرد الإخبار بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد آمن بالله.. كلا، فان كل نبي يولد مؤمنا بالله ووحدانيته، ولكن ليس كل نبي يولد نبيا، أو يعلم انه سيكون نبيا ـ إلا عيسى عليه السلام الذي قال حين انفصل عن امه ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم لم ينزل عليه الوحي إلا بعد أن أتم أربعين عاما من عمره الشريف، وحين قال له جبريل أول ما قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ شك في أمره وحار، وخشي أن يكون الصوت من الوساوس والهواجس، حتى انه شكا إلى زوجته الحانية خديجة، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، ثم اقتنع بالحس والوجدان ان الذي‏ أتاه ملك، وليس بشيطان، وقد خاطبه الله بقوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فاسأل الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ‏﴾، وفي الحديث ان النبي عقّب على ذلك قائلا: لا أشك ولا أسأل.

2. بهذا يتبين ان الغرض في قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ ان ما جاء في هذه السورة وغيرها من أصول الايمان والعقيدة، والعظات والأحكام وكل ما أخبر به الرسول هو من وحي الله سبحانه، وهذا الوحي لم يؤمن به الرسول إلا بعد أن مر بمرحلة الشك والبحث والملاحظة الدقيقة، والا بعد ان تكشفت له الحقيقة بالحس والعيان، اذن، كل ما أخبر به الرسول فهو من عند الله لا ريب فيه.

3. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، ليس الايمان بالله بمعناه الكامل الشامل ان نعتقد بأنه خالق الكون وكفى.. كلا، ان المؤمن حقا هو الذي يؤمن بالله، وبما بعث من الرسل، وأنزل من الكتب بما فيها من اصول ومبادئ واحكام وملائكة، وما اليها من المغيبات دون استثناء، فمن آمن بالله دون كتبه ورسله، أو آمن به وببعض كتبه ورسله كان حكمه عند الله غدا حكم من لم يؤمن به إطلاقا، ولو ان اهل الأديان أخذوا بمبدإ الايمان بالله، وبكل ما جاء من عنده لما كانت هذه الطوائف وتناحرها وتخاصمها، ولكنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض فكان بينهم هذا العداء المستمر.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/454.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبينة لغرضها، وقد مر فيما مر أن غرض السورة بيان أن من حق عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، وهذا هو الذي تشتمل عليه الآية الأولى من قوله‏: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ رُسُلِهِ﴾، وفي السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر، وهذا هو الذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الأولى وتمام الآية الثانية، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله وختمه إلى بدئه، ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه:

أ. أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب أن يتصف به أهل التقوي، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر أن المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة، فلا جرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين.

ب. ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية، وأكرمهم بأنواع النعم، وعظائم الحباء، فلم يقابلوه إلا بالعتو وعصيان الأمر وكفر النعمة، والرد على الله وعلى رسله، ومعاداة ملائكته، والتفريق بين رسل الله وكتبه، فقابلهم الله بحمل الإصر الشاق من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.

ج. ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والإرشاد إلا بأنعم القبول والسمع والطاعة، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرقين بين أحد من رسله، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة الربوبية، فإنهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الإجابة، لأن وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطأ أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجئوا إلى جناب العزة ومنبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا، ولا يحمل عليهم إصرا، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين.

2. هذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: ﴿إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ‏﴾ الآية الدال على التكليف بما لا يطاق، وأن الآية الأولى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، والآية الثانية ناسخة لذلك، وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروا في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فإن هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الأنصار للدين الإلهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالأموال والأنفس، وترك المؤمنين من المهاجرين الأهلين والبنين والأموال والأوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيه بالسمع والقبول، وشكر منه لهم، هذا، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الآية: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فإن الجملة يومئ إلى أن سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.

3. في الآية من الإجمال والتفصيل، والإيجاز ثم الإطناب، وأدب العبودية وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب.

4. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، تصديق لإيمان الرسول والمؤمنين، وإنما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾

5. ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾، تفصيل للإجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة، فإن ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله ص فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به.

6. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، وقد مر في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية، وأنه من أجمل السياقات القرآنية، والنكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، وإن كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده وفي نفسه، وأما تكلمهم به لسانا واحدا فليس إلا بلسان الحال.

7. من عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ الآية، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه، وهما جميعا من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي، والوجه في هذه التفرقة أن قولهم: ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾ الآية مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾

8. بدأ تعالى بالإخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الأفراد فقال: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ثم عدل إلى الجمع فقال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ﴾ إلى آخر الآيتين، لأن الذي جرى من هذه الأمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين عيسى ومحمد، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى، وبين محمد فانشعبوا شعبا وتحزبوا أحزابا وقد كان الله تعالى خلقهم أمة واحدة على الفطرة، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان‏ فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.

9. ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، قولهم‏ ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، إنشاء وليس بإخبار وهو كناية عن الإجابة إيمانا بالقلب وعملا بالجوارح، فإن السمع يكنى به لغة عن القبول والإذعان، والإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والإطاعة يتم به أمر الإيمان.

10. ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها، وهذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، وهو العبادة كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾

11. جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبودية كما ذكره أول ما شرع الشريعة لآدم وولده فقال: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وليس إلا المغفرة.

12. القوم لما قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وهو الإجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم‏ ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، والمغفرة والغفران‏: الستر، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية، ويظهر عند مصير العبد إلى ربه، ولذلك عقبوا قولهم: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ بقولهم: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/440.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ والذي أنزل إليه هو هذا القرآن، وما أوحي إليه سواه آمن به كله لأنه الحق من ربه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ آمنوا بما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. ﴿كُلِّ﴾ من الرسول والمؤمنين ﴿آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ لأن ما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قد دلهم على ذلك وهداهم للإيمان به، وللتلازم بين الإيمانين تم الاتصال لأنهما صارا إيماناً واحداً بما أنزل وما دل عليه، والمراد: الإيمان بالله كما يجب لا كتصديق الكفار بالله مع شكهم في البعث واستبعادهم القدرة عليه ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ لا كما تفعل اليهود والنصارى من التصديق ببعض والكفر ببعض.

3. ﴿وَقَالُوا﴾ أي الرسول والمؤمنون ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ لما أمر الله به وما حكم فيما أنزل إلى الرسول ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي اغفر لنا غفراناً ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فأمنوا باليوم الآخر والمرد إلى الله للحساب والجزاء.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/412.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية تصوير حيّ رائع للمجتمع المؤمن في المدينة، مجتمع الرسول وأصحابه، بما يحمله من أفكار وإيمان، وما يواجه من مسئولية ويعيشه من تطلعات بين يدي الله في مشاعره وأحاسيسه المنسابة في روحية العبادة وصفاء الروح وخشوع الدعاء، هناك عندما يعيش الإنسان العبودية الخالصة أمام الألوهية الخالقة العظيمة في الشعور بالحاجة التي تفتش عن الغنى، والذنب الذي يبحث عن المغفرة والعفو والرحمة، وفي الإحساس بالضعف من الله وحده لا من أحد غيره، وهو ما يستدعي القوة والنصرة في كل معارك الصراع في سبيل الله تعالى، وفي هذا التصوير إيحاء بالقضايا الأساسية في العقيدة وفي الشعور والعمل، ودعوة خفية لكل إنسان أو مجتمع مؤمن بالبحث عن مقوّماته وخصائصه، فيما تشمل عليه هذه الآية من خصائص ومقوّمات، وبالانطلاق في روحياته وتطلعاته في أجواء هذه التطلعات الروحية في الآية.

2. إن الله يحدثنا عن إيمان الرسول بما أنزله عليه من وحي، وعن المؤمنين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، من دون فرق بين رسول ورسول، فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، لأنهم يمثلون خطا واحدا وفريقا واحدا يكمّل أحدهم الآخر ويؤيد كل واحد منهم صاحبه، فيبشر به إذا كان لاحقا له في الزمن، ويدعو أتباعه إلى الإيمان به واحترام رسالته إذا كان سابقا له، فإن الرسالات لا تتناقض ولا تتنافى في نفسها وفي مفاهيمها للحياة وللآخرة، بل تختلف ـ إذا اختلفت ـ في مراحلها، وفي حدود التخطيط الزمني للأشياء عندما تكون المصلحة محدودة بحدود زمنية تقف عندها لتفسح المجال لمصلحة جديدة لحكم جديد، وهذه هي عظمة الإسلام في تربيته للإنسان المسلم على احترام كل الرسالات وكل الرسل، ولذا، فإنه يحتضن التاريخ الديني كله بفكره وقلبه ووعيه، ليستفيد منه في مجالات الحياة وتجاربها الكبيرة والصغيرة، وذلك هو وحي القرآن فيما يقص من أنباء الرسل وما يثبّت به القلوب والأقدام..

3. وتنطلق الصورة من جو الإيمان إلى جوّ الممارسة.. فها هم المؤمنون يشعرون بأن الإيمان موقف طاعة، فإذا سمعوا شيئا من وحي الله في آيات القرآن، أو في شريعة الرسول في سنته، قالوا سمعنا، فلا ينكرون الحقيقة التي سمعوها، وقالوا أطعنا، فلا يكتفون بالإيمان كفكر يعيش في عقولهم، بل يعتبرونه خطا للحياة العملية تتحرك فيه كل مشاريعهم، ليكون الإيمان موقفا، لا مجرد حالة نفسية تكمن في أعماق الشعور.. إنه موقف العبودية الخالصة والخشوع الكامل أمام عظمة الله.. سبحانك ربنا.. وانطلاق مع فكرة البعث الذي يرجع فيه الإنسان إلى الله في خط النهاية، ليقف أمامه وقفة العبد الذي يواجه نتائج المسؤولية..

4. وتتألق الصورة أكثر وتشرق في تصوير جوّ الابتهال الخاشع أمام الله فيما يثقل ضمير الإنسان وقلبه، وفي ما يحمل من تمنيات يقدمها إلى ربه، فهو غير معصوم عن الخطأ، فقد يخطئ مع الله تحت تأثير نزوة أو شهوة أو غفلة، فيحس بعد ذلك بثقل الخطأ على نفسه، وهو غير معصوم من النسيان، فقد ينسى مسئوليته أمام الله في كثير مما يفعل أو يترك، فيقع في الانحراف عن الخط العملي للشريعة، فيثقله ذلك ويتعبه ويبعث اللوعة في نفسه، فيتجه إلى الله بالدعاء أن لا يؤاخذه على ما خالف به ربّه تحت تأثير الخطأ والنسيان..

5. ويتمثل الإنسان المسلم ـ من جديد ـ تاريخ النبوّات السابقة وكيف كان الله يحمل على عباده ثقلا فيما يكلفهم به، وهذا هو معنى الإصر، وذلك من خلال ذنب ارتكبوه، أو عمل انحرفوا به، فيتجه إلى الله ليجنبه الوقوع في هذه التجربة الصعبة لئلا تتحول الصعوبة إلى حافز للمعصية تحت وطأة ضعف إرادة الإنسان.

6. وكان التكليف آنذاك يتحرك بشكل تدريجي، واستجاب الله لهم‏ دعاءهم، فرفع عنهم الخطأ والنسيان فيما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث الرفع المعروف، كما رفع عنهم ما لا يطيقون مما يثقل عليهم تحمله من خلال الوضع العادي للطاقة ولم يجعل عليهم في الدّين من حرج..

7. وينتهي الدعاء بالطلب الخاشع للعفو والمغفرة عن كل ذنب، وتستيقظ في قلوبهم الحقيقة الحاسمة المشرقة.. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ فالله هو مولى المؤمنين الذي ينصرهم ويؤيّدهم ليشفي صدورهم ويرعاهم برعايته، فيلتفتون إلى جنود الكفر من حولهم، في معركة الكفر والإيمان، فيشعرون بالحاجة إلى القوة التي تحميهم من نقاط الضعف، فيلجئون إليه ليطلبوا منه النصرة على القوم الكافرين، في حربهم المقدسة التي يخوضونها ضدهم دفاعا عن دينه، وجهادا في سبيله..

8. ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فهو المؤمن الأوّل الذي انطلق برسالته التي تلقّاها من ربه من خلال قناعته العميقة بأنه هو الحق الذي لا يقترب إليه الشك، لأن الله لا يريد للرسول أن يدعو الناس إلى الإيمان الأعمى قبل الانفتاح على الدين في وضوح الرؤية، وسعة الأفق، وصدق الفكر والشعور، والتزام الموقف الحق، فلا معنى لرسالة يشكّ رسولها في صدقها، وكيف يمكن لمن لا يملك القناعة أن يقنع الآخرين بقناعاته، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

9. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين تلقّوا الدعوة فأصغوا إليها بمسامع قلوبهم وفكروا بالرسالة فآمنوا بها، ولذلك انطلق كل واحد منهم ليعيش إيمانه التفصيلي بكل مفردات الإيمان الرسالي، ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ لأن الله حدّثهم عن ذلك كله من خلال الوحي الذي أنزله على رسوله ليبلغهم إياه، ولأن الرسول قد حدثهم عن كل حركة الأنبياء، ولهذا اعتبروا الإيمان بالرسل السابقين جزءا من الإيمان برسالة الرسول، لأن الرسالات تتتابع في المسيرة الإيمانية، فكل رسالة تكمل الرسالة التي قبلها، كما أن كل رسول يصدّق النبي الذي يأتي من بعده، وهكذا أعلنوا جميعا.

10. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فهم الذين اصطفاهم الله لإبلاغ رسالاته مع اختلاف مواقعهم ورسالاتهم‏ ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا﴾ ما جاء به الرسول مما بلّغه عن الله‏ ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أوامره، لأن الإيمان يفرض على المؤمنين الاستماع الواعي والطاعة العميقة الواسعة، ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ اغفر لنا ذنوبنا فإننا راجعون إليك، منفتحون عليك في رجاء شديد أن تتقبلنا في ساحة رضوانك‏ ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فأنت الذي تملك أمر عبادك لتجزيهم جزاء ما عملوا أو لتغفر لهم ما أسلفوا، فيكون مصيرهم بيدك عندما تدفع بهم إلى الجنة أو إلى النار.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/186.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

3. لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضا كما في الآية الكريمة والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة، وقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية أنّه حين نزلت الآية السابقة وأنّ الله تعالى يعلم ما في أنفسكم ويحاسبكم بما أظهرتم وأخفيتم في قلوبكم، خاف بعض الصحابة وقالوا: ليس أحد منّا إلّا وفي قلبه خطرات ووساوس شيطانيّة، فعرضوا الأمر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية الكريمة، وبيّنت طريق الحقّ والإيمان، ومنهج التضرّع والمناجاة والتسليم لأوامر الله تعالى‏.

1. في البداية تقول‏ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من امتيازات الأنبياء الإلهيين جميعا بأنّهم مؤمنون بما جاؤوا به إيمانا قاطعا، فلا شكّ ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين، ونقرأ في الآية 158 من سورة الأعراف أنّ هذه الخصيصة تعتبر من صفات الرسول الأكرم ومن امتيازاته حيث تقول: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾

2. ثمّ تضيف الآية الكريمة: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم بخلاف البعض من الناس الذين تقول عنهم الآية 150 من سورة النساء ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾، المؤمنون لا يرون تفاوتا بين رسل الله من جهة أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى، ويحترمونهم ويقدّسونهم جميعا، ومعلوم أنّ هذا الموضوع لا ينافي مقولة نسخ الشرائع السابقة بواسطة الشريعة البعديّة، لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ تعليمات الأنبياء وشرائعهم من قبيل المراحل الدراسيّة المختلفة من الابتدائية والمتوسطة والاعدادية والجامعة، فبالرغم من أنّها تشترك جميعا في الأصول والمبادئ الأساسيّة، إلّا أنّها تختلف في السطوح والتطبيقات المختلفة، فعند ما يرتقي الإنسان إلى مرحلة أسمى فإنّه يترك البرامج المعدّة للمرحلة السابقة ويأخذ بالبرامج المعدّة لهذه المرحلة، ومع ذلك يبقى احترامه وتقديسه للمرحلة السابقة في محلّه.

3. ثمّ تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافا إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضا كذلك‏ ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، (سمعنا) وردت في بعض الموارد بمعنى فهمنا وصدّقنا من قبيل هذه الآية، أي أنّنا قبلنا دعوة أنبيائك بجميع وجودنا وعلى استعداد تام للإطاعة والإتّباع، ولكن يا إلهنا وربّنا نحن بشر وقد تتسلط علينا الغرائز والأهواء وتجرّنا إلى المعصية أحيانا، ولهذا ننتظر عفوك ونتوقع منك المغفرة لأنّ مصيرنا إليك‏، وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الالتزام العملي بجميع الأحكام الشرعيّة والدساتير الإلهيّة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/364.

145. الإصر والتكليف والدعاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈145⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ما كسبت من خير، وما اكتسبت من شر(1).

__________

(1) أبو عبيد في ناسخه: ص٢٧٦.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، يعني: إن جهلنا، أو تعمدنا له(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ قال قد غفرت لكم، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ قال وإليك المرجع والمآب يوم الحساب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] (2).

3. روي أنّه قال: لما نزلت ضج المؤمنون منها ضجة، وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان، كيف نتوب من الوسوسة!؟ كيف نمتنع منها!؟ فجاء جبريل بهذه الآية: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة(2).

4. روي أنّه قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من العمل(3).

5. روي أنّه قال: ﴿إِصْرًا﴾ قال عهدا(4).

6. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قال عهدا، كما حملته على اليهود فمسختهم قردة وخنازير قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت أبا طالب وهو يقول(5):

çأفي كل عام وافد وصحيفة... يشد بها أمر وثيق وأيصرهé

7. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، يعني: الوسوسة(6).

8. روي عن ابن سيرين أنّه قال: قال أبو هريرة لابن عباس أنّه قال: ما علينا من حرج أن نزني أو أن نسرق؟ قال: بلى، ولكن الإصر الذي على بني إسرائيل وضع عنكم(7).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٦٨.

(2) ابن جرير: ٥/١٥٣.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٨ ـ: ٥٧٩.

(4) ابن جرير: ٥/١٥٩.

(5) الدرّ المنثور: الطَّستيِّ.

(6) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٧٢.

(7) ابن أبي حاتم: ٢/٥٨٠.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ الحب(1).

__________

(1) الثعلبي: ٢/٣٠٨، تفسير البغوي: ١/٣٥٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ لا تحمّلنا من الأعمال ما لا نطيق(1).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٦١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن همام: سأل رجل الحسن وأنا أسمع، فقال: رجل جعل على نفسه شيئا في نذر وهو لا يجده؟ فقال الحسن: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تجوز الله لهذه الأمة عن الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه)(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٧.

(2) عبد الرزاق في مصنفه: ٦/٤٠٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ يقول: كما غلظ على من قبلنا(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١١٢.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فلم يكلفوا من العمل ما لم يطيقوا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٨.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ معناه إلا طاقتها(1).

2. روي أنّه قال: (﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ معناه تركنا ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ معناه جهلنا(1).

3. روي أنّه قال: (﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ أي ثقلا، والإصر أيضا العهد(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 106.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، أي: لا يكتب على أحد إلا ما فعل وما عمل(1).

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للزهري: ص٢١ ـ: ٢٢.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾: ووسعها: طاقتها، فكان حديث النفس مما لا يطيقون(1).

2. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ والإصر: العهود التي كانت على من قبلنا من اليهود(2).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٥٤.

(2) ابن جرير: ٥/١٥٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ التشديد الذي شدد به على من كان قبلنا من أهل الكتاب(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٨٠.

الكلبي:

روي عن الكلبي (ت ١٤٦ هـ) أنّه قال: كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به وأخطأوا عجلت لهم العقوبة، فيحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠٧.

الصادق:

روي عن عبد الصمد بن بشير، قال: ذُكر عند الإمام الصادق (ت 148 هـ) بدء الأذان، فقال(1): إن رجلا من الأنصار رأى في منامه الأذان، فقصه على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يعلمه بلالا، فقال الإمام الصادق أنّه قال: كذبوا، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان نائما في ظل الكعبة، فأتاه جبريل ومعه طاس فيه ماء من الجنة، فأيقظه وأمره أن يغتسل، ثم وضع في محمل له ألف ألف لون من نور، ثم صعد به حتى انتهى إلى أبواب السماء، فلما رأته الملائكة نفرت عن أبواب السماء، وقالت: إلهين: إله في الأرض، وإله في السماء!؟ فأمر الله جبريل، فقال: الله أكبر، الله أكبر، فتراجعت الملائكة نحو أبواب السماء وعلمت أنه مخلوق، ففتحت الباب، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى السماء الثانية، فنفرت الملائكة عن أبواب السماء، فقالت: إلهين: إله في الأرض، وإله في السماء!؟ فقال جبريل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، فتراجعت الملائكة وعلمت أنه مخلوق، ثم فتح الباب، فدخل صلّى الله عليه وآله وسلم، ومر حتى انتهى إلى السماء الثالثة، فنفرت الملائكة عن أبواب السماء، فقال جبريل: أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، فتراجعت الملائكة، وفتح الباب، ومر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى السماء الرابعة، فإذا هو بملك متكى وهو على سرير، تحت يده ثلاث مائة ألف ملك، تحت كل ملك ثلاث مائة ألف ملك، فهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: بالسجود، وظن أنه هو، فنودي: أن قم ـ قال ـ فقام الملك على رجليه ـ قال ـ فعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه عبد مخلوق ـ قال ـ فلا يزال قائما إلى يوم القيامة)، قال (وفتح الباب، ومر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى السماء السابعة ـ قال ـ وانتهى إلى سدرة المنتهى ـ قال ـ فقالت السدرة: ما جاوزني مخلوق قبلك ثم مضى فتدانى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ـ قال ـ فدفع إليه كتابين: كتاب أصحاب اليمين بيمينه، وكتاب أصحاب الشمال بشماله، فأخذ كتاب أصحاب اليمين بيمينه، وفتحه ونظر فيه، فإذا فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم ـ قال ـ فقال الله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾، فقال الله: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾،قال الله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾،قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، ـ قال ـ فقال الله: قد فعلت، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، قال قد فعلت، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، كل ذلك يقول الله: قد فعلت، ثم طوى الصحيفة فأمسكها بيمينه، وفتح الاخرى، صحيفة أصحاب الشمال، فإذا فيها أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ـ قال ـ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فقال الله: يا محمد، فـ﴿اصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾)، قال (فلما فرغ من مناجاة ربه، رد إلى البيت المعمور، وهو في السماء السابعة بحذاء الكعبة ـ قال ـ فجمع له النبيين والمرسلين والملائكة، ثم أمر جبريل فأتم الأذان، وأقام الصلاة، وتقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فصلى بهم، فلما فرغ التفت إليهم، فقال الله له: ﴿فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ فسألهم يومئذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم نزل ومعه صحيفتان، فدفعهما إلى الإمام علي)، فقال الإمام الصادق أنّه قال: (فهذا كان بدء الأذان)(2)

__________

(1) الحديث غير صحيح، لعدم اعتبار المصدر، ولمعارضته القرآن الكريم في أمور كثيرة، وهو ظاهر الكذب

(2) تفسير العيّاشي: 1/157.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا﴾ للقرآن الذي جاء من الله، ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أقروا أن يطيعوه في أمره ونهيه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾: تعليم من الله، فهذا دعاء دعا به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فاستجاب له(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٦.

(2) ابن المنذر، وابن أبي حاتم: ٢/٥٧٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قلت لعطاء: أيكره أن يقوم الرجل وحده وراء الصف؟ قال نعم، والرجلان والثلاثة، إلا في الصف، فإن فيها فرجا، قلت لعطاء: أرأيت إن وجدت الصف مدحوسا، لا أرى فرجة، أقوم وراءهم؟ قال ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وأحب إلي ـ والله ـ أن أدخل فيه(1).

2. روي أنّه قال: لها ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر لنفسها(2).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه: ٢/٥٨ ـ: ٥٩.

(2) ابن المنذر.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم قال لهم بعدما أقروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم والكتب أن: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ يقول: قولوا: وأعطنا مغفرة منك، يا ربنا، ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ يقول: المرجع إليك في الآخرة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ يعني: عهدا، ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل، وشحوم الغنم، ولحوم كل ذي ظفر يقول: لا تفعل ذلك بأمتي بذنوبها كما فعلته ببني إسرائيل، فجعلتهم قردة وخنازير، قال الله تعالى: ذلك لك(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣٢.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٣١.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أداء الفرائض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ في شأن النفقة، إلا ما استطاعت(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٥٧٧.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ الإصر: الأمر الغليظ(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/١٣٤.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ [آل عمران: ٨١] قال عهدي(1).

2. روي أنّه قال في الآية: لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ إن قصرنا عن شيء مما أمرتنا به، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا ترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك، ولم ينج أحد إلا برحمته(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾: لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به، فنعجز عنه(4).

__________

(1) ابن جرير: ٥/١٦١.

(2) ابن جرير: ٥/١٦٠.

(3) ابن جرير: ٥/١٦٤ ـ: ١٦٥.

(4) ابن جرير: ٥/١٦٢.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، فقال: إلا يسرها، لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها(1).

__________

(1) الثعلبي: ٢/٣٠٦.

الهادي إلى الحق:

قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يريد تبارك وتعالى بقوله ﴿وُسْعَهَا﴾: طاقتها، وما تستطيعه من أمورها(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/138.

الناصر للحق:

ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. والمجبرة تسأل عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾: أنه سبحانه إذا أطاعه عبده خفف عليه المحنة، وسهل عليه العمل بطاعته؛ بلطف منه وتأييده له؛ جزاء منه لمن أطاعه، والعبادة عليه خفة، وازداد نشاطا في العمل لله، وهانت عليه الدنيا وشدائدها؛ لأنه وعد الشاكرين الزيادة، فقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، ووصف عن نوح أنّه قال لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾، إلى قوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾؛ ويكثر مثل هذا في القرآن، وإذا عصاه عاقبه فخلاه، وتركه من توفيقه في بلواه، فاشتد عليه اليسير من المحنة، وعظم عليه قليل المصائب، وثقل عليه فوات الضيف من أمر الدنيا، وصار ما خف على المؤمنين بحسن اليقين عليه ثقيلا، من الطاعة والعمل لرب العالمين؛ فكلما ازدادوا معصية لله ازدادوا لطاعة الله بغضا، ومن أوامره بعدا، ولها رفضا؛ وذلك فعقوبة من الله لهم بكفرهم، وتماديهم في غيهم، وقد بين الله جل ذكره ذلك في كتابه بقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، إلى قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، وقد يمتحن الله المؤمن في بعض الأحوال بالشدائد، والزلازل وعظيم البلاء؛ ليمحصهم من صغائر ذنوبهم، وليختبر طاعتهم وصبرهم؛ نظرا منه جل ذكره؛ ﴿ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين﴾، فإذا صبروا ورضوا بامتحان الله إياهم، وسلواه لهم ـ زادهم ثوابا وكرامة، وضاعف لهم الحسنات، وأوجب لهم رفيع الدرجات، وقد يمد الله أهل معصيته في بعض الأحوال بالأموال والبنين والنعم، ويدافع عنهم المصائب، ويمهلهم، ويصحح أجسادهم؛ ليستدعي بذلك طاعتهم، ويستشكرهم على نعمه عليهم، وليعلمهم أن معاصيهم إياه لا تضره؛ فإن آمنوا وتابوا قبلهم وتاب عليهم، وإن أصروا ولجوا في طغيانهم لم يخف فواتهم، وأخذهم بذنوبهم، وبسوء اكتسابهم، فخلدهم في النار، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، فعلى هذا سأل المؤمنون ربهم، فقالوا: ربنا ولا تحمل علينا ثقلا من المحنة، فلعلنا نعجز عن حمل ذلك، يميل منا إلى الدنيا، ورغبوا إليه جل ذكره أن يسهل عليهم المحن، ويخفف عليهم الثقل من البلوى؛ وهذا في كلام العرب معروف، يقول الرجل للرجل: (لست أطيق كلامك، ولا أحتمل حكمك)، ليس يريد: أنه لا يقوى على ذلك، ويعجز عنه؛ لمرض به، أو ضعف بدن وجوارح، وعدم استطاعة؛ ولكن يريد: أنه يكرهه ولا يحبه، فعلى هذا تأويل الآية، وما شاكلها من القول، والله معبود محمود.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/139.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إلى آخر السورة، مولانا عز وجل لا يؤاخذ أحداً بالنسيان، ولا يحمل أحداً ما لا يطيق، وإنما حكى تذلل أوليائه الأولين، وأخبرنا يا معاشر هؤلاء الآخرين، بما كان من تضرع سادتنا الصالحين، لنقتدي بفعلهم نحن يا معاشر الباقين، فنسأل الله أن يرحم ضعفنا، ويغفر لنا ذنوبنا، ويتجاوز عن سيئاتنا.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 256.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ يحتمل أن يكون بمعنى تركنا أمرك ويحتمل أن يكون تناسينا والنسيان بمعنى الترك كقولك: نسوا الله فنسيهم ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي ما فعلوه من المعاصي والشبهات وقد فرق أهل اللسان بين أخطأ وخطأ يقال أخطأ ويحتمل أن يكون على جهة الإثم وغير الإثم وخطأ أن لا يكون إلا على جهة الإثم.

2. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ والإصر الثقل والذين من قبلنا هم بنو إسرائيل كانت العبادات عليهم شاقة صعبة لأنهم كلفوا قتل أنفسهم والخروج من أوطانهم ﴿وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي الجاحدين لنعمتك المنكرين لفضلك.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/132.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ قال الحسن: قوله تعالى: ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ إلا ما يحل ويسع، لكن بعض الناس يقولون: هذا بعيد، لا يحتمل الآية، إذا كلف حل ووسع، فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى، قيل له: هو كقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ إذا أحل طيّب وإذا طيب أحل، فكذا الأول، وكذا ذكرنا بتقدم الفعل.

2. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالتكليف بما لا يطاق، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

3. قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ فيه دلالة: أن الله تعالى إنما يأمر عبيده وينهى، وإنما يأمر وينهى؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك، فيكون الأمر جارّا منفعة، وفى النهى دافعا مضرة، كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة تتأمل فيه، وينهى عن شيء لدفع ضرر يخافه، وتعالى الله عن ذلك.

4. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قيل فيه بوجهين:

أ. قيل: ﴿إِنْ نَسِينَا﴾ يعنى: تركنا، كقوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ وكقوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115]، أي ترك، وقوله: ﴿أَخْطَأْنَا﴾ يعنى: ارتكبنا ما نهيتنا.

ب. وقيل‏: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قولوا ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ الآية.

5. ثم اختلف بعد هذا:

أ. قال المعتزلة، ومن وافقهم: أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربا إليه، وكذلك قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 194]، وكذلك قوله: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: 112]، ونحوه، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19] وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه على ما ذكرنا، وإلى هذا يذهب المعتزلة.

ب. أما الأصل عند أهل السنة، ومن وافقهم في هذا: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ، ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا،:

ألا ترى أن الله تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 92]، فلو لم يجز أن يعاقب على النسيان والخطأ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى؛ دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به.

الثاني: قوله عزّ وجل: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾ [الكهف: 63]، وفعل الشيطان‏ مما يتقى ويحذر؛ لذلك كان ما ذكرنا لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان سلم عنه، فجائز أن يسأل السلامة عنهما، إذ بالجهد يسلم عنه، وبالغفلة يقع فيه.

الثالث: ما ذكرنا: أن النسيان هو الترك، والخطأ هو ارتكاب المنهى، والتارك لأمر الله، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه، والله أعلم، فيصبح الدعاء على ذلك؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى.

في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: 194]، وجهان: أحدهما: أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة، فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة.. الثاني: يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود.

أما قوله عزّ وجل: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ قيل: الحق هاهنا هو العذاب، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم، وقيل: ﴿احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ أي احكم بحكمك الذي هو الحق، فإذا كان ما ذكر محتملا، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أولئك.

6. الأمر بالاستغفار يخرج على وجهين:

أ. أحدهما: ما روى: (المؤذن يغفر له مد صوته)، فهو على استيجاب أولئك المغفرة به؛ فعلى ذلك استغفاره، ليغفر به بعض أمته.

ب. الثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه.

7. الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة، فلو كان لا يجوز له التعذيب، فيكون التعذيب جورا، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجور، وذلك مما لا يسع المحنة، وكذلك لو كان مغفورا له، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه، وفى ذلك كتمان النعمة، والمحنة بكتمان نعم الله وكفرانها محال؛ لذلك لا بد أن يكون في الآيات ما يتمكن معه المحنة من المعنى.

8. سؤال وإشكال: ما معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)؟ والجواب: إنما جاء هذا في الكفر خاصة، لا في غيره؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، يجرى على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل، فأخبرهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أن ذلك مرفوعا عنهم.. في الخبر العفو، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء؛ فلذلك يدعون، وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دعا بهذا، فأجيب إلا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء.

9. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قيل‏: (الإصر)، هو العهد، ويقول: لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا، وكان من قبلهم إذا خطّئوا خطيئة حرم الله عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات، كقوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]، وكأصحاب الأخدود، وغيرهم، فخاف المسلمون ذلك فقالوا: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات، وأصل‏ (الإصر)، الثقل والتشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا، كقوله تعالى: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54]

10. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أن‏ ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من القتل والهلاك، إذ في ذلك إفناؤهم، وفى الفناء ذهاب طاقتهم، أي مما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة.

ب. ويحتمل: أن يراد به طاقة الفعل، وهى لا تتقدم عندنا الفعل.

11. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي استر لنا، و(الغفر)، هو الستر؛ ولذلك يسمى المغفر (مغفرا)؛ لأنه يستر، وستر الذنب هو أعظم النعم.

12. ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أي تغمدنا برحمتك، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك، ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾:

أ. قيل: أنت أولى بنا.

ب. وقيل: أنت حافظنا.

ج. وقيل: أنت ولينا وناصرنا.

13. قوله تعالى: ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾‏ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: الشياطين، أي انصرنا عليهم.

ب. يحتمل: الكفار المعروفين.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/292.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعني طاقتها، وفيه وجهان:

أ. أحدهما: وعد من الله لرسوله وللمؤمنين بالتفضل على عباده ألّا يكلف نفسا إلا وسعها.

ب. الثاني: أنه إخبار من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء عليه، بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يعني لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت يعني من المعاصي، وفي كسبت واكتسبت وجهان:

أ. أحدهما: أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد.

ب. الثاني: أن كسبت مستعمل في الخير خاصة، واكتسبت مستعمل في الشر خاصّة.

3. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ قال الحسن: معناه: قولوا ربنا لا تؤاخذنا.

4. في قوله تعالى: ﴿إِنْ نَسِينَا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعني إن تناسينا أمرك.

ب. الثاني: تركنا، والنسيان: بمعنى الترك كقوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، قاله قطرب.

5. في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: ما تأولوه من المعاصي بالشبهات.

ب. الثاني: ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.

6. فرّق أهل اللسان بين (أخطأ) وخطئ، فقالوا: (أخطأ) يكون على جهة الإثم وغير الإثم، وخطئ: لا يكون إلا على جهة الإثم، وخطئ: لا يكون إلا على جهة الإثم، ومنه قول الشاعر:

çوالناس يلحون الأمير إذا هم‏...خطئوا الصواب ولا يلام المرشدé

7. في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: إصرا أي عهدا نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء.

ج. الثالث: أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد.

د. الرابع: الإصر: الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة:

çيا مانع الضيم أن يغشى سراتهم‏...والحامل الإصر عنهم بعد ما عرضواé

8. ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم.

9. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ما لا طاقة لنا به مما كلّفه بنو إسرائيل.

ب. الثاني: ما لا طاقة لنا به من العذاب.

10. في قوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: مالكنا.

ب. الثاني: وليّنا وناصرنا.

11. ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ روى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ فلما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ قال الله تعالى: قد غفرت لكم، فلما قرأ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال الله تعالى: لا أؤاخذكم، فلما قرأ: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ قال الله تعالى: لا أحمل عليكم، فلما قرأ: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قال الله تعالى: لا أحملكم، فلما قرأ: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ قال الله تعالى: قد عفوت عنكم، فلما قرأ: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ قال الله تعالى: قد غفرت لكم، فلما قرأ: ﴿وَارْحَمْنَا﴾ قال الله تعالى: قد رحمتكم، فلما قرأ: ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قال الله تعالى: قد نصرتكم.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في تجويزهم تكليف الله العبد ما لا يطيقه لأنه صريح بأنه لا يكلفهم إلا ما يطيقونه لأن الوسع هو ما يتسع به قدرة الإنسان وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة، يقول القائل: ليس هذا في وسعي، أي لا أقدر عليه وإن قدرتي لا تتسع لذلك، ومن قال: معناه لا يكلف الله نفساً إلا ما يحل لها من قولهم لا يسعك هذا أي لا يحل لك أن تفعله كان ذلك خطأ، لأن رجلا لو قال لعبده: أنا لا آمرك إلا بما أطلقت لك أن تفعله كان ذلك خطأ وعياً، لأن نفس أمره اطلاق، وكأنه قال أنا لا أطلق لك إلا ما أطلق، ولا آمرك إلا بما آمرك.

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ معناه لها ثواب ما كسبت من الطاعات وعليها جزاء ما كسبت من المعاصي والقبائح، ويجوز أيضاً أن يسمى الثواب والعقاب كسباً من حيث حصلا بكسبه.

3. ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إنما جاز الرغبة إليه تعالى في ذلك وإن علمنا أنه لا يؤاخذ بذلك، ولم يجز أن يقول: لا تجر علينا لأمرين:

أ. أحدهما: أن قوله: لا تجر علينا يدل على تسخط الداعي، وليس كذلك‏ ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ لأن الإنسان قد يتعرض للنسيان، فيقع منه الفعل الذي فيه جناية على النفس، ويحسن الاعتذار بالنسيان، فيجري الدعاء مجرى الاعتذار إذا قال العبد لسيده لا تؤاخذني بكذا فاني نسيت، فلحسن الاعتذار حسن الدعاء به.

ب. الثاني: ﴿إِنْ نَسِينَا﴾، بمعنى تركنا لشبهة دخلت علينا، والنسيان بمعنى الترك معروف، نحو قوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي تركوا عبادته، فترك ثوابهم، وقال الجبائي معناه ما تركناه لخطأ في التأويل واعتقدنا صحته لشبهة وهو فاسد، فأما لا تجر علينا، فلا يقال إلا لمن اعتيد منه الجور، ولا يجوز أن يؤاخذ أحد أحداً بما نسيه عند أكثر أهل العدل إلا ما يحكى عن جعفر بن ميسر من أن الله تعالى يؤاخذ الأنبياء بما يفعلونه من الصغائر على وجه السهو والنسيان لعظم أقدارهم، وقال كان يجوز أن يؤاخذ الله العبد بما يفعله ناسياً أو ساهياً، ولكن تفضل بالعفو في قوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ذكر ذلك البلخي، وهذا غلط، لأنه كما لم يجز تكليف فعله ولا تركه لم‏ يجز أن يؤاخذ به، ولا يشبه ذلك المتولد الذي لا يصح تكليفه بعد وجود سببه، لأنه يجوز أن يتعمده بأن يتعمد سببه، وليس كذلك ما يفعله على جهة السهو والنسيان.

4. ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ قيل في معنى الإصر قولان:

أ. أحدهما: لا تحمل علينا عهداً فنعجز عن القيام به، ذهب إليه ابن عباس، وقتادة، ومجاهد.

ب. الثاني: قال الربيع، ومالك: معناه لا تحمل علينا ثقلا.

5. الإصر في اللغة الثقل، قال النابغة:

çيا مانع الضيم إن يغشى سراتهم‏...والحامل الإصر منهم بعد ما غرقواé

أي عهدك، والايصر: حبيل قصير يشد به أسفل الخباء إلى وتد لأنه يعطف به، والاصرة: صلة الرحم للعطف بها والماصر حبل على طريق أو نهر تحبس به السفن أو السابلة لتؤخذ منهم العشور وكلأ آصر أي يحبس من ينتهي إليه لكثرته، والاصار: كساء يحتش فيه الحشيش، وأصل الباب العطف، فالإصر: الثقل لأنه يعطف حامله بثقله عليه.

6. في قوله تعالى: ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ما يثقل علينا من نحو ما كلف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وبتيه أربعين سنة وغير ذلك كما يقول القائل لا أطيق أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه.

ب. الثاني: ما لا طاقة لنا به من العذاب في دار الدنيا، وقوله: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ معناه أنت ولينا أي أولى بالتصرف فينا، وقال الحسن هذا على وجه التعليم للدعاء، ومعناه قولوا ربنا لا تؤاخذنا، والثاني: أنه على وجه الحكاية أي يقولون ربنا.

7. الفرق بين أخطأ وخطئ أن أخطأ قد يكون على وجه الإثم، وغير الإثم فأما خطئ فاثم لا غير قال الشاعر:

çوالناس يلحون الأمير إذا هم‏...خطئوا الصواب ولا يلام المرشد

والناس يلحون الأمير إذا غوي‏...خطب الصواب ولا يلام المرشدé

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/385.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. يقال: أخطأ في الإثم وغير الإثم، وخَطِئ في الإثم لا غير.

ب. الإصر: الثقل، والإصر: العهد.

ج. الطاقة: القوة.

د. النصرة: المعونة.

2. ثم بَيَّنَ تعالى أنه فيما أمر ونهى لم يكلفهم إلا ما وسعهم، وأنه أزاح علتهم، فقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾:

أ. قيل: يحتمل أنه من كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عطفًا على ما تقدم، وحكاية عنهم، وتقديره: قالوا سمعنا وأطعنا، فإنك ما كلفتنا إلا ما في وسعنا، وعطف عليه ﴿رَبِّنَا﴾ حكى ذلك عنهم ثناء عليهم، وتأديبًا لعباده.

ب. ويحتمل أن يكون ابتداء خبر من اللَّه تعالى لرسوله والمؤمنين حيث تقدم من الأوامر والنواهي ما تقدم، فبين أنه لم يكلف إلا ما في الوسع، عن أبي مسلم.

3. ﴿لَا يُكَلِّفُ﴾ أي لا يأمر ولا ينهى ﴿نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَما﴾ إلا ما هم به مستطيعون، واليسير: السهل دون العسير ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أي لكل نفس جزاء ما كسبت، أي لكل نفس جزاء ما عملت من الخير والعمل الصالح ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يعني وزر ما عملت من المعاصي.

4. ﴿رَبِّنَا﴾ بينا كيفية الحذف، والتقدير: قولوا ربنا، ويقولون: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ أي لا تعاقبنا.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾:

أ. قيل: هو النسيان الذي هو السهو، عن الأصم، وهذا لا يصح؛ لأنه لا يكلفهم مع السهو، ولا يجوز أن يؤاخذ به.

ب. وقيل ﴿نَسِينَا﴾ تركنا لشبهة أو سوء تأويل كقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾

ج. وقيل: إن تعرضنا للنسيان ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي عملنا خطيئة بشبهة.

د. وقيل: إن أخطأنا: فعلنا من غير عمد، عن الأصم.

هـ. وقيل: إن هذا لا يصح؛ لأنه موضوع عنه، ويصح أن يدعو وإن وضع عنه.

و. وقيل ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إن جهلنا أو تعمدنا، عن عطاء.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾:

أ. قيل: عهدًا نعجز عن القيام به، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع والسدي.

ب. وقيل: ثقلا يعني لا تشدد الأمر علينا، عن عطاء وعمر ومالك.

7. ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ من الشدائد يعني اليهود.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَه لَنَا بِهِ﴾:

أ. قيل: ما يثقل علينا مثل ما كلف بنو إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، كقولهم: ما أطيق كلام فلان، أي يثقل عن قتادة والضحاك والسدي وابن زيد.

ب. وقيل: ما لا طاقة لنا به من العذاب.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾:

أ. قيل: اعف عن ذنوبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ استرها.

ب. وقيل: اعف عن الصغائر، واغفر لنا الكبائر.

10. ﴿وَارْحَمْنَا﴾ في الدنيا بالرزق، وفي إلآخرة بالجنة ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ أي أنت ولينا وحافظنا وأولى بنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي أَعِنَّا عليهم:

أ. قيل: بالقهر.

ب. وقيل: بالحجة والغلبة.

11. عن معاذ أنه كان إذا ختم سورة البقرة قال: آمين، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (في آخر سورة البقرة آيات إنهن قرآن وإنهن دعاء وإنهن يرضين الرحمن)

12. تدل الآية الكريمة على:

أ. بطلان مذهب الجبر في المخلوق؛ لأن قوله: ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ لا يصح إلا ولهم فعل.

ب. بطلان قولهم في الاستطاعة بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

ج. وجوب الاقتداء بالمؤمنين فيما حكى عنهم من الإيمان.

د. يدل قوله تعالى: ﴿فَانْصُرْنَا﴾ على أن لهم فعلا؛ لذلك سألوا النصرة.

13. أجمعت القراء على ﴿وُسْعَهَا﴾ بضم الواو وسكون السين، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ﴿وُسْعَهَا﴾ بفتح الواو وكسر السين على الفعل، يعني لا تكلف نفسا إلا وسعها أمره، والأول على المصدر.

14. في قوله: ﴿رَبِّنَا﴾ محذوف، واختلفوا فيه، فقيل: تقديره: وقولوا ربنا، عن الحسن، وقيل: تقديره على الحكاية، أي: يقولون ربنا، و﴿رَبِّنَا﴾ منصوب على النداء، وتقديره: يا ربنا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/160.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الوسع: ما دون الطاقة، ويسمى ذلك وسعا بمعنى أنه يسع الانسان، ولا يضيق عنه.

ب. أخطأنا أي: كسبنا خطيئة، وقال أبو عبيدة: أخطأ وخطئ لغتان، والفرق بين أخطأ وخطئ أن أخطأ قد يكون على وجه الإثم وغير الإثم، فأما خطئ فالإثم لا غير، قال الشاعر:

çوالناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصواب، ولا يلام المرشدé

ج. الإصر في اللغة: الثقل، قال النابغة:

çيا مانع الضيم أن يغشى سراتهم... والحامل الإصر عنهم بعدما غرقواé

وكل ما عطفك على شئ من عهد أو رحم، فهو إصر وجمعه آصار، ويقال أصره يأصره أصرا، والاسم الأصر، قال النابغة:

çيا ابن الحواضن، والحاضنات... أتنقض إصرك حالا فحالاé

أي: عهدك، والآصرة: صلة الرحم للعطف لها، قال الكميت:

çنضحت أديم الود بيني وبينهم... بآصرة الأرحام لو تتبللé

2. ثم بين سبحانه أنه فيما أمر ونهى لا يكلف إلا دون الطاقة، فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، واختلفوا:

أ. قيل: أي: لا يأمر ولا ينهى أحدا إلا ما هو له مستطيع.

ب. وقيل: إن معنى قوله ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ إلا يسرها دون عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها، عن سفيان بن عيينة، وهذا قول حسن، وفي هذا دلالة علن بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لا يطيقه، لأن الوسع هو ما يتسع له قدرة الانسان، وهو فوق المجهود واستفراغ القدرة.

ج. وقال بعضهم: إن معناه إلا ما يسعها، ويحل لها، وهذا خطأ، لأن من قال لعبده: لا آمرك إلا بما أطلق لك أن تفعله، لكان ذلك غيا منه، وخطأ لأن نفس أمره إطلاق، فكأنه قال: لا أطلق لك، ولا آمرك إلا بما آمرك.

3. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ معناه: لها ثواب ما كسبت من الطاعات ﴿وَعَلَيْهَا﴾ جزاء ﴿مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من السيئات، ويجوز أيضا أن يسمى الثواب والعقاب كسبا من حيث حصلا بكسبه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾:

أ. قيل: تقديره قولوا ربنا على جهة التعليم للدعاء، عن الحسن.

ب. وقيل: تقديره يقولون ربنا على جهة الحكاية والثناء.

5. في قوله تعالى: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ وجوه:

أ. أحدها: إن المراد بنسينا: تركنا، كقوله تعالى ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أي: تركوا طاعته فتركهم من ثوابه، وقوله: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ومنه قول الشاعر:

çولم أك عند الجود للجود قاليا... ولا كنت يوم الروع للطعن ناسياé

أي: تاركا، والمراد بأخطانا: أذنبنا، لأن المعاصي توصف بالخطأ من حيث إنها ضد الصواب، وإن كان فاعلها متعمدا، فكأنه تعالى أمرهم أن يستغفروا مما تركوه من الواجبات، ومما فعلوه من المقبحات.

ب. الثاني: معنى قوله ﴿إِنْ نَسِينَا﴾: إن تعرضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر، والغفلة عن الواجب، أو أخطأنا أي: تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ، ويحسن الدعاء بذلك كما يحسن الاعتذار منه.

ج. الثالث: إن معناه: لا تؤاخذنا إن نسينا أي: إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو والغفلة، أو أخطأنا أي: فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد، ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، وإظهار الفقر إلى مسألته، والاستعانة به، وإن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله، ويجري ذلك مجرى قوله فيما بعد ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ على أحد الأجوبة، وقوله ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾، وقد تقدم ذكر أمثاله.

د. الرابع: ما روي عن ابن عباس وعطاء أن معناه لا تعاقبنا إن عصينا جاهلين، أو متعمدين.

6. في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: إن معناه لا تحمل علينا عملا نعجز عن القيام به، ولا تعذبنا بتركه ونقضه، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع والسدي.

ب. الثاني: إن معناه لا تحمل علينا ثقلا، عن الربيع ومالك وعطاء، يعني لا تشدد الأمر علينا.

7. ﴿كما حملته على الذين هن قبلنا﴾ أي: على الأمم الماضية، والقرون الخالية، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وأخذ عليهم من العهود والمواثيق، وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفا عنها.

8. في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: إن معناه ما يثقل علينا تحمله من أنواع التكاليف والامتحان، مثل قتل النفس عند التوبة، وقد يقول الرجل لأمر يصعب عليه: إني لا أطيقه.

ب. الثاني: إن معناه ما لا طاقة لنا به من العذاب عاجلا وآجلا.

ج. الثالث: إنه على سبيل التعبد، وإن كان تعالى لا يكلف، ولا يحمل أحدا ما لا يطيقه، كما ذكرنا قبل.

9. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ ذنوبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ خطايانا أي: استرها ﴿وَارْحَمْنَا﴾ بانعامك علينا في الدنيا، والعفو في الآخرة، وإدخال الجنة ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ أي: ولينا وأولى بالتصرف فينا، وناصرنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي: أعنا عليهم بالقهر لهم، والغلبة بالحجة عليهم.

10. روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله سبحانه قال عند كل فصل من هذا الدعاء: فعلت واستجبت، ولهذا استحب الإكثار من هذا الدعاء، ففي الحديث المشهور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه أي: كفتا قيام ليلته، وعن عبد الله بن مسعود قال: (لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وأعطي ثلاثا: الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته إلا المقحمات)، وعن ابن المنكدر رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (في آخر سورة البقرة آيات، إنهن قرآن، وإنهن دعاء، وإنهن يرضين الرحمن)، وفي تفسير الكلبي بإسناده ذكره، عن ابن عباس قال: (بينا رسول الله إذ سمع نقيضا ـ يعني صوتا ـ فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح، فنزل عليه ملك، وقال: إن الله يبشرك بنورين لم يعطهما نبيا قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لا يقرأهما أحد إلا أعطيته حاجته)، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: كان الرجل إذا تعلم سورة البقرة، جد فينا أي: عظم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/690.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾:

أ. قيل: الوسع: الطّاقة، قاله ابن عباس، وقتادة، ومعناه: لا يكلّفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزّمن السّعي، والأعمى النظر، فأما تكليف ما يستحيل من المكلّف، لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأوّل، ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا، كان السؤال عبثا، وقد أمر الله تعالى نبيّه بدعاء قوم قال فيهم: ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾

ب. وقال ابن الأنباريّ: المعنى: لا تحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له على تجشّم، وتحمّل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النّظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾، قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من معصية، قال أبو بكر النّقّاش: فقوله: (لها) دليل على الخير، و(عليها) دليل على الشّرّ، وقد ذهب قوم إلى أن (كسبت) لمرة ومرات‏ و(اكتسبت) لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد؛ كقوله عزّ وجلّ: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾

3. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾، هذا تعليم من الله تعالى للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباريّ: والمراد بالنّسيان هاهنا: التّرك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته، والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد، لا من جهة السّهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمّد، كما يقال: أخطأ إذا أغفل.

4. في (الإصر) قولان:

أ. أحدهما؛ أنه العهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحّاك، والسّدّيّ.

ب. الثاني: الثّقل، أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقّلته على بني إسرائيل، قاله ابن قتيبة.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنه ما يصعب ويشقّ من الأعمال، قاله الضحّاك، والسّدّيّ، وابن زيد، والجمهور.

ب. الثاني: أنه المحبّة، رواه الثّوريّ عن منصور عن إبراهيم.

ج. الثالث: الغلمة، قاله مكحول.

د. الرابع: حديث النّفس ووساوسها.

هـ. الخامس: عذاب النّار.

6. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾، أي أنت وليّنا ﴿فَانْصُرْنَا﴾ أي: أعنّا.

__________

(1) زاد المسير: 1/256.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله.. ووجه النظم أنهم لما قالوا ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالى بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين.

ب. ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله‏: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، وقالوا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله‏: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.. ووجه النظم أنهم لما قالوا ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ثم قالوا بعده‏ ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ دل ذلك على أن قولهم‏ ﴿غُفْرَانَكَ﴾ طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم: ﴿غُفْرَانَكَ﴾ طلباً للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم‏ ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾

2. يقال: كلفته الشيء فتكلف، والكلف اسم منه، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفرّاء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.

3. المعتزلة، ومن وافقهم عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] وقوله‏: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28] وقوله‏: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ [البقرة: 185] وقالوا: هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق.

4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالتكليف بما لا يطاق، والخلاف الوارد فيها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

5. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب، قال الواحدي: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال ذو الرمة: (ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب‏)، والقرآن أيضاً ناطق بذلك، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38] وقال: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164] وقال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: 81] وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب: 58] فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر، ومن الناس من سلم الفرق، ثم فيه قولان:

أ. أحدهما: أن الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله، ولا يقال مكتسب لأهله.

ب. الثاني: قال الزمخشري: إنما خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب، لأن الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم.

6. المعتزلة، ومن وافقهم احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه، قالوا: لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق، قال القاضي: لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف، وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب.

7. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا: لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر، قال الجبائي من المعتزلة: ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير: لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة، وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة، والجمع بينهما محال في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالًا.

8. احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم، ووجه الاستدلال ظاهر فيه، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]

9. الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار، لأن‏ اللام في قوله‏: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ يدل على ثبوت هذا الاختصاص، وتأكد ذلك‏ بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل امرئ أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين)، وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه:

أ. منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ والعارض الموجود، إما الغضب، وإما الضمان، وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة.

ب. ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه، أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله‏: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾

ج. ومنها أنه لا شفعة للجار، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله‏: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك، وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار.

د. ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله‏: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً، فإنه يجب رده على المالك، ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه.

هـ. ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به، وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص، والخاص مقدم على العام، وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم.

10. ثم حكى الله تعالى عن المؤمنين دعاءهم، وذلك‏ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال (الدعاء مخ العبادة)، لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذالة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186]، فقال: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾

11. حكى الله تعالى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله‏: ﴿رَبِّنَا﴾ إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله‏: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾

12. النوع الأول هو قوله‏: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن الناسي قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة.

13. في النسيان وجهان:

أ. الأول: أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.

ب. الثاني: أن يحمل على الترك، قال الله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]، وقال تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67] أي تركوا العمل لله فتركهم، ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد، والمراد بالخطإ، أن يفعل لتأويل فاسد.

14. سؤال وإشكال: أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء)، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان هاهنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأما إذا واظب على القراءة، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً، فثبت أن النسيان على قسمين، منه ما يكون معذوراً، ومنه ما لا يكون معذوراً، وروي‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في إصبعه‏ فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.

ب. الثاني: أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.

ج. الثالث: أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا طلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع، قال الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: 112] وقال: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 194] وقالت الملائكة في دعائهم‏ ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: 7] فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.

د. الرابع: أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلًا، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس، فلما كان ذلك جائزاً في العقول، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.

هـ. الخامس: أن أهل السنة، ومن وافقهم الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز عقلًا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.

15. علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلًا في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم‏ ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي، ولما أمرهم بطلب ذلك، دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.

16. سؤال وإشكال: الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة، والجواب: هو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.

17. النوع الثاني من الدعاء هو قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ الإصر في اللغة: الثقل والشدة، قال النابغة:

çيا مانع الضيم أن يغشى سراتهم‏...والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفواé

ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل، قال الله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ [آل عمران: 81] أي عهدي وميثاقي والإصر العطف، يقال: ما يأصرني عليه آصرة، أي رحم وقرابة، وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره.

18. ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ وجهين:

أ. الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالًا لهم، قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 160] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلًا في الدنيا، كما قال ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ [النساء: 47] وكانوا يمسخون قردة وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157] وقال عليه السلام: (رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق)، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة) والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير، والتقصير موجب للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.

ب. الثاني: لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ، فيكون القول الأول أولى.

19. سؤال وإشكال: دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد؟ والجواب:

أ. قالت المعتزلة، ومن وافقهم: من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان، مفسدة في حق غيره، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.

ب. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول: ولما ذا خص اليهود بغلظة الطبع، وقسوة القلب ودناءة الهمة، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولما ذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم، ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]

20. النوع الثالث من دعاء المؤمنين هو قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ الطاقة اسم من الإطاقة، كالطاعة من الإطاعة، والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر، ومن أهل السنة، ومن وافقهم من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة، ومن وافقهم عنه من وجوه:

أ. الأول: أن قوله‏: ﴿مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلًا له، قال الشاعر:

çإنك إن كلفتني ما لم أطق‏...ساءك ما سرك مني من خلق‏é

وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال في المملوك: (له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) أي ما يشق عليه، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (المريض يصلي جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب) فقوله: فإن لم يستطع‏، ليس معناه عدم القوة على الجلوس، بل كل الفقهاء يقولون: المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة، وقال الله تعالى في وصف الكفار ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ [هود: 20] أي كان يشق عليهم.

ب. الثاني: أنه تعالى لم يقل: لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به، بل قال لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله لا تُحَمِّلْنا حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله لا تُحَمِّلْنا مجازاً فيه، فكان الأول أولى.

ج. الثالث: هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بباطل، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: 87] على جواز أن يخزي الأنبياء، وقال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 48] ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] هذا جملة أجوبة المعتزلة.

21. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم على ما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم، فقالوا:

أ. أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين:

الأول: أنه لو كان قوله ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا﴾ ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ محمولًا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز.

الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.

ب. أما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الأحزاب: 72] إلى قوله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.

ج. أما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم، إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل.

22. سؤال وإشكال: لم قال في الآية الأولى ﴿لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً﴾ وقال في هذه الآية ﴿لا تُحَمِّلْنا﴾ خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل، والجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.

23. سؤال وإشكال: لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله ﴿لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً﴾ كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى، والجواب: الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين:

أ. أحدهما: قيامه بظاهر الشريعة.

ب. الثاني: شروعه في بدء المكاشفات، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد، وفي المقام الثاني قال لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك، ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك، ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ مقدماً في الذكر على قوله ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾

24. سؤال وإشكال: حكى الله تعالى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا: ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.. ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾.. ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء؟ والجواب: المقصود منه بيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل، وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل.

25. الدعاء الرابع هو قوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، وتلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ رَبَّنا وأما هذا، فقد حذف منه لفظ ﴿رَبِّنَا﴾ وظاهره يدل على طلب الفعل، ولم يذكر هاهنا لفظ ﴿رَبِّنَا﴾ لأن النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أخر.

26. سؤال وإشكال: ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة؟، والجواب: أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة:

أ. الأول: هو العذاب الجسماني.

ب. الثاني: هو العذاب الروحاني.

27. فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب، وهو أيضاً قسمان:

أ. ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها.

ب. وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى، مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى.

28. قوله تعالى: ﴿وَارْحَمْنَا﴾ طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ طلب للثواب الروحاني، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ خطاب الحاضرين، ولعلّ كثيراً من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات، ويقولون: إنها من باب الطاعات، ولقد صدقوا فيما يقولون، فذلك مبلغهم من العلم ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾‏ [النجم: 30]

29. في قوله تعالى: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ فائدة أخرى، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السموات والأرض، والقائم بإصلاح مهمات الكل، وهو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 257] أي ناصرهم، وقوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ [التحريم: 4] أي ناصره، وقوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11]، ثم قال ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33] ومن المحققين من قال ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/116.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع، وأن هذه الآية أذنت بعدمه، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة، واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أولا؟

أ. فقالت فرقة: وقع في نازلة أبي لهب، لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة، ومن جملتها أنه لا يؤمن، لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن.

ب. وقالت فرقة: لم يقع قط، وقد حكي الإجماع على ذلك، وقوله تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا﴾ معناه إن وافى، حكاه ابن عطية.

2. ﴿يُكَلِّفُ﴾ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف، تقديره عبادة أو شيئا، فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المولمة، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا، فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة.

3. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يريد من الحسنات والسيئات، قاله السدي، وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك، قال ابن عطية: وهو مثل قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾، والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان.

4. جاءت العبارة في الحسنات بـ ﴿لَهَا﴾ من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ ﴿عَلَيْهَا﴾ من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة، وهذا كما تقول: لي مال وعلي دين، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾، قال ابن عطية: ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذا كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا، لهذا المعنى.

5. في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا(2) على أفعال العباد كسبا واكتسابا، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة، ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد، وأنه فاعل فبالمجاز المحض، وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، قال ابن عطية: وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية.

6. قال الكيا الطبري: قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه، ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل، وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة)

7. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ المعنى: اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أي إثم ذلك، وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شي أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع.

8. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ أي ثقلا:

أ. قال مالك والربيع: الإصر الأمر الغليظ الصعب.

ب. وقال سعيد بن جبير: الإصر شدة العمل، وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه، قال الضحاك: كانوا يحملون أمورا شدادا، وهذا نحو قول مالك والربيع، ومنه قول النابغة:

çيا مانع الضيم أن يغشى سراتهم... والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفواé

ج. وقال عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير، وقاله ابن زيد أيضا، وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة.

د. والإصر في اللغة العهد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، والإصر: الضيق والذنب والثقل، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر أصرا حبسه، والإصر (بكسر الهمزة) من ذلك قال الجوهري: والموضع مأصر ومأصر والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر.

9. قال ابن خويز منداد: ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها، فهو نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وكقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (الدين يسر فيسروا ولا تعسروا، اللهم شق على من شق على أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم)، ونحوه قال الكيا الطبري: يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة، وهذا بين.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾:

أ. قتادة: معناه لا تشدد علينا كما شددت على الذين من قبلنا.

ب. الضحاك: لا تحملنا من الأعمال مالا نطيق، وقال نحوه ابن زيد.

ج. ابن جريج: لا تمسخنا قردة ولا خنازير.

د. سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به: الغلمة، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء، وروى أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة.

هـ. السدي: هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل.

11. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أي عن ذنوبنا، عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي استر على ذنوبنا، والغفر: الستر، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أي تفضل برحمة مبتدئا.

12. مما روي في هذه الآيات:

أ. روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين، قال اين عطية: هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء فحسن.

ب. وقال على ابن أبى طالب: ما أظن أن أحد عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما.

ج. وروى مسلم في هذا المعنى عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، قيل: من قيام الليل، كما روي عن اين عمر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: أنزل الله علي آيتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألف عام من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى آخر البقرة، وقيل: كفتاه من شر الشيطان فلا يكون له سلطان.

د. وأسند أبو عمرو الداني عن حذيفة بت اليمان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جل وعز كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه هذه الثلاث آيات التي ختم بهن البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال)

هـ. وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العشر لم يؤتهن نبى قبلي)، وهذا صحيح، قد تقدم في الفاتحة نزول الملك بها مع الفاتحة، والحمد لله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/431.

(2) يقصد هنا الأشاعرة خصوصا

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ التكليف: هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة، والوسع: الطاقة، والوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الآية، لكشف كربة المسلمين، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس، وهي كقوله: سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ فيه ترغيب وترهيب، أي: لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها وزر ما اكتسبت من الشرّ، وتقدّم (لها وعليها) على الفعلين ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وهذا مبنيّ على أن: كسب، للخير فقط، واكتسب: للشرّ فقط، كما قاله صاحب الكشاف وغيره؛ وقيل: كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرّر الفعل وخالف بين التصريفين تحسينا للنظم كما في قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾

3. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي: لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين، وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين: إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك، فإنه من تحصيل الحاصل، وأجيب عن ذلك:

أ. بأن المراد: طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة، لا من نفس النسيان والخطأ، فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)

ب. وقيل: إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته.

ج. وقيل: إنه وإن ثبت شرعا أنه لا مؤاخذة بهما، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا.

د. وقيل: لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمدا، وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسيانا، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان.

هـ. قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح: أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والدّيات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه: كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا، وما كان مثله مما يقع‏ خطأ ونسيانا، ويعرف ذلك في الفروع.

4. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ عطف على الجملة التي قبله، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع واللجأ إلى الله سبحانه، والإصر: العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، والمراد به هنا التكليف الشاق، والأمر الغليظ الصعب؛ وقيل الإصر: شدّة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة.. وقيل: الإصر: المسخ قردة وخنازير؛ وقيل: العهد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب، فإنه ما تقدّم ذكره بلا نزاع، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر إصرا: حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك، قال الجوهري: والموضع: مأصر، والجمع: مأصر، والعامة تقول معاصر، ومعنى الآية: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم، وقوله: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ﴾ صفة مصدر محذوف: أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو صفة لإصرا، أي: إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا.

5. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ هو أيضا عطف على ما قبله، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا، والمعنى: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق؛ وقيل: عبارة عن إنزال العقوبات، كأنه قال لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا؛ وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف، قال في الكشاف: وهذا تقرير لقوله: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾

6. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أي: عن ذنوبنا، يقال: عفوت عن ذنبه: إذا تركته ولم تعاقبه عليه ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي: استر على ذنوبنا، والغفر: الستر ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أي: تفضل برحمة منك علينا ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ أي: ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون؛ وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فإن من حق المولى أن ينصر عبيده، والمراد: عامة الكفرة، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/354.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه، قال الرازيّ: يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله، ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، على نسق الكلام في قوله: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، وقالوا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾، فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح، وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ثم قال الرازيّ: في كيفية النظم: إن قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين، فوجه النظم أنهم لما قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالى، بحكم الرحمة الإلهية، لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهيّن، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين، وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى، فوجه النظم أنهم لما قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ثم قالوا بعده: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾، دلّ ذلك على أن قولهم: ﴿غُفْرَانَكَ﴾، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم (غفرانك) طلبا للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم، وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ﴿وُسْعَهَا﴾، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم: غفرانك ربنا.

2. قال زين العابدين بير محمد دره في (المدحة الكبرى): وعلى احتمال أن يكون قوله‏: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ الآية حكاية، فهو من قبيل العطف بلا عاطف، أو الكلام على تقدير قالوا، قال بعضهم: ولك أن تجعل‏ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾ الآية في حيز القول، وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين، يكون مدحا لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه، حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم، وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير، بل هو لهم، ولا يتضرر بعملهم الشرّ، بل هو عليهم.

3. وقال البقاعيّ: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلبا للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عنه سبحانه من ذلك، خوفا من أن يكلفوا بما لله تعالى أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.

4. لعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم، ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفّه عنهم، ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، الآية، فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس، فانتفى ما شق عليهم من قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، الآية، بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم: سمعنا وعصينا، من الآصار في الدنيا والآخرة، فيكون حينئذ استئنافا جوابا لمن كأنه قال هل أجاب دعاءهم، ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾

5. قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الآية، للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها، ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها، فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته، أي لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله، لا لغيرها، وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه، وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه، قال الحراليّ: وصيغة (فعل) مجردة، تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.

6. قال الجاربرديّ في (شرح الشافية): معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان، والاكتساب المبالغة والاعتمال فيه، ومن ذلك قوله تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وفيه تنبيه على لطف الله تعالى بخلقه، إذ أثبت لهم ثواب الفعل على أي وجه كان، ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.

7. قال الزمخشريّ: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله، وصفت بما لا دلالة له على الاعتمال والتصرف.

8. قال العلّامة ابن جماعة في (حواشيه): تفرقته بين الكسب والاكتساب هو ما قاله الزمخشريّ وغيره ونص عليه سيبويه، قال الحلبيّ: وهو الأظهر، وقال قوم: لا فرق، قالوا: وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164]، ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: 81]، وقال تعالى: ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب: 58]، فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر.

9. وقال الواحديّ: الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد، وفي القاموس: كسب يكسبه كسبا، وتكسب واكتسب: طلب الرزق، أو كسب أصاب، واكتسب تصرف واجتهد، ثم قال ابن جماعة: ما ذكره من تنبيه الآية على لطف الله بخلقه إلى آخره، قاله ابن الحاجب في شرح (المفصل) وبمعناه قول بعضهم: في الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده، بخلاف العقوبة فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدّ فيها واجتهد، وقريب منه قول آخر: للنفس ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله سواء كان بإصابة مجردة أو بتحصيل، وعليها ما حصلته وسعت فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي، نبه تعالى أن الثواب حاصل لها سواء كان بسعيها واختيارها أو لم يكن كذلك، وأما العقاب فلا يكون عليها إلا بقصدها وتحصيلها، وما قالوه من الفرق يحتاج إلى ثبت، وقد قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]، أي يرى جزاءه، وقال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، على أن ترتب الثواب على ما حصل من غير سعي واختيار، إن كان لمباشرة سببه مع الغفلة عنه، فالعقاب أيضا كذلك، فمن عمل سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها، وإن صوّر بالإصابة عند أول الالتفات فلا مانع أن يكون العقاب مثله، ومدعي خلافه عليه البيان، نعم الإصرار شرط، لأن الرجوع يمحوه لكنه قدر زائد على الفعل، وبالجملة فما قاله جار الله حسن، وقد ذكره البيضاوي أيضا، وفي الإعراب الحلبيّ: الذي يظهر في هذا، أن الحسنات مما تكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب بتكلف، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها، فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى والله أعلم، ثم قال ابن جماعة: والمبالغة من بالغ مبالغة اجتهد ولم يقصر، والاعتمال من اعتمل أي عمل بنفسه وأعمل رأيه وآلته.

10. قال البقاعي ولما بشرهم بذلك، عرفهم مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلّي، إعلاما بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاء، ولا حملهم فوق طاقتهم، مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلّهم محل القرب فجعلهم أهلا للخلافة، فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر، ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولا على الإصابة ومشمولا بالإجابة فقال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ أي لا تعاقبنا ﴿إِنْ نَسِينَا﴾ أمرك ونهيك‏ ﴿أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي ففعلنا خلاف الصواب، تفريطا ونحوه.

11. ولع كثير من المفسرين هاهنا بالبحث في أن النسيان والخطأ معفوّ عنهما، فما فائدة طلب العفو عنهما؟ وأجابوا عن ذلك بوجوه، وأرق جواب رأيته قول العلامة بير محمد في (المدحة الكبرى): لما كان طالب العفو الرسول والأنصار والمهاجرون ومن كان على شاكلتهم، فكأنهم يعدون النسيان من العصيان والخطأ من الخطيئة، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، وقيل في معنى الآية: لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة، على أن يكون النسيان بمعنى الترك، والخطأ من الخطيئة، وعليه فلا إيراد.

12. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ أي عهدا يثقل علينا، قال الحراليّ: الإصر العهد الثقيل الذي في تحمله أشد المشقة ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ وهو ما كلّفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، ولا بأس بالإشارة إلى جمل مما حملوه من الآصار، ننقله عن أسفارهم تأكيدا لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وتعظيما لمنته تعالى، فلله الحمد فنقول:

أ. في سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر: (سبعة أيام تأكلون فطيرا، اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم، فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل)، وكل هذا الإصحاح آصار شاقة.

ب. وفي السفر المذكور ـ في الإصحاح الحادي والعشرين: (ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا، ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلا، وإن أسقط سن عبده أو سن أمته يطلقه حرّا عوضا عن سنه وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئا ولكن إن كان ثورا نطّاحا من قبل وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل، وفي السفر المذكور)

ج. وفي الإصحاح الثالث والعشرين: (وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك، وفضلتهم تأكلها وحوش البرية كذلك تفعل بكرمك وزيتونك، ستة أيام تعمل عملك، وأما اليوم السابع ففيه تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب، أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب إلهك)

د. وفي سفر العدد، في الإصحاح الخامس عشر: (وكلم الرب موسى قائلا كلّم بني إسرائيل وقل لهم: أن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم في أجيالهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من أسمانجونيّ فتكون لكم هدبا فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها)

هـ. وفي السفر المذكور، في الإصحاح: (من مس ميتا ميتة إنسان ما يكون نجسا سبعة أيام، يتطهر به في اليوم الثالث، وفي السابع يكون طاهرا، وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرا، كل من مس ميتا ميتة إنسان قد مات ولم يتطهر ينجّس مسكن الرب، فتقطع تلك النفس من إسرائيل، لأن ماء النجاسة لم يرش عليها تكون نجسة، نجاستها لم تزل فيها، هذه هي الشريعة، إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسا سبعة أيام وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس، وكل من مس على وجه الصحراء قتيلا بالسيف أو ميتا أو عظم إنسان أو قبرا يكون نجسا سبعة أيام)، وتمام الفصل المذكور كيفية الطهارة من هذه النجاسة الشاقة جدا.

و. وفي السفر المذكور في الإصحاح الخامس والثلاثين: (ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل)

ز. وفي سفر التثنية، في الإصحاح الخامس عشر: (كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدسه للرب إلهك، لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجزّ بكر غنمك)

ح. وفي سفر الخروج ـ في الإصحاح الرابع والثلاثين: (وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه، كل بكر من بنيك تفديه)

ط. وفي سفر اللاويين، في الإصحاح الرابع: (وكلم الرب موسى قائلا كلم بني إسرائيل قائلا: إذا أخطأت نفس سهوا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب يقرّب عن خطيئته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحا للرب، ذبيحة خطيّة)، وكيفية ذلك حرجة جدا، انظرها.

ي. وفيه، في الإصحاح الخامس: (أو إذا مسّ أحد شيئا نجسا جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة ديب نجس وأخفى عنه فهو نجس ومذنب، فإن كان يذنب في شيء من هذه يقرّ بما قد أخطأ به ويأتي إلى‏ الرب بذبيحة لإثمه عن خطيئته التي أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزا من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيته)، والإصحاح المذكور كله آصار، وكذا الإصحاح السادس بعده كله آصار.

ك. وفي الإصحاح الحادي عشر تحريم بعض الطيور وفيه آصار كثيرة، منها: (وكل متاع خزف وقع فيه منها فكل ما فيه يتنجس، وأما هو فتكسرونه)

ل. وفي الإصحاح الثاني عشر أحكام النفساء عندهم والفرق بين ولادتها ذكرا وأنثى، وإنها في الأول تكون نجسة أسبوعا ثم ثلاثا وثلاثين يوما، وفي الثاني أسبوعين ثم ستة وستين يوما، وعن تمام أيام طهرها تأتي بكيس كفارة عنها.

م. وفي الإصحاح الخامس عشر تشريعات لذوي الجراحات، وفي ذلك آصار كبرى، انظرها، وفيه أيضا أحكام الحائض والآصار في شأنها، ومنها: (وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا وكل ما تجلس عليه يكون نجسا وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحمّ بماء ويكون نجسا إلى المساء)

ن. وفي الإصحاح السابع عشر: (وكل إنسان يأكل ميتة أو فريسة وطنيا كان أو غريبا يغسل ثيابه ويستحمّ بماء ويبقى نجسا إلى المساء)

س. وفي الإصحاح التاسع عشر: (ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها ثلاث سنين تكون لكم غلفاء، لا يؤكل منها، وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب، وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها، لتزيد بكم غلّتها، أنا الرب إلهكم، لا تقصروا رؤوسكم مستديرا ولا تفسد عارضيك)

ع. وفي الإصحاح الخامس والعشرين: (ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما، وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتا للرب، لا تزرع حقلك‏ ولا تقضب كرمك، زرّيع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف، سنة عطلة تكون للأرض، ويكون سبت الأرض لكم طعاما، لك ولعبدك ولأمتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك، ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاما)

ف. وفي سفر التثنية، في الإصحاح الحادي والعشرين: (وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما، يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه، ويقولون لشيوخ مدينته، ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكّير فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت)

ص. وفيه، في الإصحاح الثاني والعشرين: (لا تحرث على ثور وحمار معا، لا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا)

ق. وفيه، في الإصحاح الرابع والعشرين: إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود بأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست، لأن ذلك رجس لدى الرب.

13. هذه نبذة يسيرة من الآصار التي كانت على الإسرائيليين ولم يشرعها لنا مولانا بفضله وكرمه له الحمد، إنه أرحم الراحمين.

14. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف، وهذا في رفع شدائد البليات، ويقال: هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أي: تجاوز عن ذنوبنا ولا تعاقبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أي غطّ على ذنوبنا واعف عنها ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أي: تفضّل علينا بالرحمة مع كوننا مقصّرين مذنبين‏ ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ أي: وليّنا وناصرنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فإنّ من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولّى أمره على الأعداء، وفيه إشارة إلى أنّ إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله تعالى، حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة، غاية مطلبهم، قال البقاعيّ: فتضمّن ذلك وجوب قتال الكافرين، وأنهم أعدى الأعداء، وأنّ قوله‏: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ليس ناهيا عن ذلك، وإنّما هو إشارة إلى أنّ الدين صار في الوضوح إلى حدّ لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكلّ عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلا عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دلّ عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهرا بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/242.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. َلَمَّا نزل: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُم﴾ [البقرة: 283] شكَا المؤمنون المؤاخذة بالوسوسة، وشقَّ عليهم المحاسبة، فنزل قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا﴾ ونزل قبلها ﴿ءاَمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى ﴿الْمَصِيرُ﴾ وهو آية، ليدفعوا الوسوسة بمضمونها والعمل به، أي: إِلَّا ما تسعه قدرته بالغة غايتها أو دون غايتها، بمعنى أن المكلَّف به تارة يبلغ غاية الطاقة وتارة دونها وهو الأكثر، فإنَّا نَقْدِر على أكثر من خمس الصلوات، ومن شهر رمضان، ومن الحجِّ مرَّة، ومن قَدْرِ الزكاة.. وهكذا، كقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 184] رحمةً منه تعالى، ولا تطيق النفس دفع الهاجس ولا الخاطر بعده ولا حديث النفس بعد الخاطر ولا الهمَّ بالشيء بعد حديثها.

2. ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُم﴾ يشملهنَّ لفظه، ولو أنَّ المراد فيه العزم بعد الهمِّ، فأخبرهم الله بأنَّ المحاسبة على العزم؛ لأنَّه هو الذي للنفس طاقة على تركه، والأربعة قبله ضروريَّة، وذلك دليل على أن لا تكليف بالمحال، وهو ولو كان غير واقع لكنَّه جائز، وقيل: واقع، وفائدته القبول والتهيُّؤ، ثمَّ يظهر أنَّه لا يكلّف به بعد أن تهيَّأ وقَبِلَ، كما جاء في قصَّة نبيء أنَّه أُمر بأكل أوَّل ما يظهر وظهر له جبل، فعزم على أكله فلمَّا قرب ازداد صغرا حتَّى وصله فوجده لقمة عسل، وإمَّا أن يقع ويبقى فلا، ولا خلاف في جواز التكليف بالممتنع لغيره، كتعلُّق علم الله بخلافه، كتكليف من علم الله أنَّه لا يؤمن بالإيمان، وذلك أولى من أن يقال: المعنى: لا يكلِّف الله نفسا إِلَّا غاية طاقتها ثمَّ نسخ بقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ على أنَّه نزل بعد هذا وتلي قبله، ولا دليل على ثبوت هذا، وأولى من أن يقال: قوله: ﴿مَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ على عمومه ثمَّ نسخ بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا﴾ فـ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا﴾ بيان لـ ﴿مَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾، لا نسخٌ.

3. روي لَمَّا نزل ﴿وَإِن تُبْدُواْ﴾ جاءوا فقالوا: كلِّفنا الصلاة والصوم والزكاة والجهاد وأطعنا، ولا طاقة لنا بما في النفس، وجثوا على ركبهم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أتقولون كأهل الكتاب: سمعنا وعصينا!؟ قولوا: سمعنا وأطعنا) فنزل: ﴿ءَامَنَ الرَّسُولُ﴾ ناسخة، قلت: ولعلَّ معنى النسخ في ذلك بيان أنَّ ذلك غير مراد بالتكليف، ثمَّ والله رأيته لبعض المحقِّقين مِمَّن تقدَّم، والتكليف إلزام ما فيه كلفة، أي: مشقَّة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور، وهو ما دون مدى طاقته.

4. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من خير وتثاب عليه، وما كُسب لها ميِّتة أو حيَّة في هذه الأمَّة، ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من الشرِّ تُعاقَبُ عليه وهكذا، اللَّام للخير، و(عَلَى) للضرِّ عند الإطلاق، ويعكس لدليل، كقوله تعالى: ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 26]، فهي للاستحقاق، و﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: 156] أو يستعملان كذلك عند التقارن كالآية، وكقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنَ اَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ [الجاثية: 15]، والاكتساب (افتعال)، ومن معانيه المبالغة، فإن النفس تنجبذ إلى الشرِّ اللائق بها أكثر مِمَّا تنجبذ إلى الخير لثقله عليها، أو أصل الشرِّ أن يكون صعبا للعقاب عليه ولخسَّته بالنهي عنه، فكأنَّه لا يُرتَكب إِلَّا بعلاج، وليس عليها وزر غيرها إِلَّا ما يلحقها بسَنِّها سنَّة سيِّئة.

5. ﴿رَبَّنَا لَا تُوَاخِذْنَـآ﴾ هذا إلى آخر السورة من جملة ما يحكى بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾، وقولُه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ﴾ إلى ﴿مَا اكْتَسَبَتْ﴾ معترض، لا كما قيل: إنَّ قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ﴾ من مقولهم أيضًا، وما ذكرته من دخول قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُوَاخِذْنَآ﴾ في جملة مقولهم أولى من تقدير: (يقولون رَبَّنَا لَا تُوَاخِذْنَا)، وأولى من قول الحسن: (قولوا ربَّنا لا تؤاخذنا..) إلخ، والمعنى: لا تؤاخذنا بما يورث النسيان أو الخطأ من قلَّة المبالاة وترك التحفُّظ وغيرهما، مِمَّا يدخل تحت وسعنا وقدرتنا، وأمَّا نفس النسيان والخطإ فمرفوعان كما في الحديث، أعني رفع العقاب عليهما فذلك مجاز بطريق ذكر المسبَّب في قوله: ﴿إِن نَّسِينَآ أَوَ اَخْطَأْنَا﴾ وهو النسيان والخطأ، وإرادة السبب وهو قلَّة المبالاة وما ذكر معها، ومثل ذلك أن ترى نجسا في ثوبك أو بدنك قبل وقت الصلاة فتتركه لوقت فتنسى، فلا يحسن ذلك إذ لولا التأخير لم يقع ذلك، وقيل: المراد بالنسيان الترك، وقيل: الخطأ المعصية.

6. ويجوز إبقاء الكلام على ظاهره بأن يكون الأصل المؤاخذة على النسيان والخطإ كالسمِّ يهلك من لم يتعمَّده كمن تعمَّده، فتجاوز الله عنهما، دعوا فأجاب الله لهم من لدن آدم فكرَّروا الدعاء، أو أمرهم الله أن يدعوا تذكيرا للنعمة واعترافا، والمؤاخذة عليهما غير ممتنعة عقلا مع أنَّا لا نعتبر التحسين والتقبيح العقليَّين في التكليف، ويضعف أن يقال: هذا الدعاء أوَّل الإسلام إذ لا دليل عليه، ويضعف أن يقال: المراد الدعاء بدوام عدم المؤاخذة على النسيان والخطإ حتَّى مات صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم تنزل عليه المؤاخذة بهما فانقطع الدعاء بدوام عدمها، أو يُدام تعبُّدًا، والمفاعلة في (تُؤَاخِذْنَا) ليست على بابها، بل كالمسافرة، أو على بابها بأن يعتبر أنَّ المعصية كالمحاربة لله.

7. ﴿رَبَّنَا﴾ تأكيد للأوَّل، أو (ربَّنا استجب لنا)، ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ عطف على (تُوَاخِذْنَا)، أو على (استجبْ) المقدَّر، والإصر: الأمر الثقيل يأصرُ حاملَه، أي: يحبسه في مكانه لثقله.

والذين من قبلنا: بنو إسرائيل، كانت عليهم تكاليف شاقَّة كالتكليف بقرض موضع النجس غير العورة في بعض، وفي بعض الأزمنة من أجسادهم وثيابهم، وقتل النفس في التوبة في عبادة العجل، وفي غيرهم في بعض الأشخاص: يكتب الله على باب أحدهم: توبتك من ذنب كذا أن تقتل نفسك وخمسين صلاة في اليوم واللَّيلة، وكربع المال زكاة، وقال بعض محشِّي الكشَّاف: يقطعون الموضع النجس من ثيابهم، ومن الجلود التي يلبسونها كالخفِّ والقرق لا من أجسادهم؛ لأنَّه يؤدِّي إلى نجس آخر وهو الدم، وليس المراد في الآية ما أصابهم من مسخ وقذف كما قيل، لأنَّه لا تكليف فيه والكلام في التكليف.

8. ﴿رَبَّنَا﴾ تأكيد، أو يقدَّر: (ربَّنا ارحمنا)، ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من التكاليف، فهو تأكيد، أو البلاء والعقوبات، فلا تأكيد، ويستدلُّ بهذا على جواز التكليف بما لا يطاق لكنَّه غير واقع كما دلَّ عليه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا﴾، ومرَّ كلام فيه، والمعتزلة لم يقولوا بجوازه فضلا عن وقوعه.

9. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أي: امحُ ذنوبنا لا تؤاخذنا بها، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ عيوبنا، أي: استرها فلا نفتضح بها أو بذنوبنا دنيا ولا أخرى، فبعد عدم المؤاخذة يمكن الافتضاح فسألوا عدمه، ﴿وَارْحَمْنَآ﴾ عند سكرات الموت وفي القبر والبعث والمحشر وبإعطاء كتبنا في أيماننا وبالجنَّة، وقيل: اعف عن أفعالنا واغفر أقوالنا وارحمنا بثقل الميزان.

10. ﴿أَنتَ مَوْلَانَا﴾ سيِّدنا ونحن عبيدك، ومتولِّي أمورنا دنيا وأخرى، ﴿فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي: لأنَّ من حقِّ السيِّد أن ينصر عبيده ورعيَّته؛ ولذلك كان بالفاء السببيَّة، والنصر على كلِّ كافر محارب أو غير محارب؛ لأنَّ من شأنهم حبَّ المضرَّة لأهل الإسلام والذلَّ، ولا بُعدَ في شمول كفرة الجنِّ، لأنَّهم يضرُّون الأبدان ويحبُّون المضرَّة والذلَّ للمسلمين، كما يحبُّونها لغير المسلمين.

11. روى مسلم: لَمَّا نزلت هذه الآية، أي: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا﴾ إلى آخر السورة والآية قبلها وقرأها صلّى الله عليه وآله وسلّم قيل له عقب كلِّ كلمة: (قد فعلت) ، وكذا رواه ابن جرير الطبريُّ لكن مرسلا، وهنَّ سبع، فبَعْدَ ﴿غُفْرَانَكَ﴾: (قد غفرت لكم) وبعدَ ﴿لَا تُوَاخِذْنَآ﴾: (لا أؤاخذكم)، وهكذا كما جاء عن ابن عبَّاس بالتصريح بمعنى: (فعلت)، وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه عن قيام اللَّيل) وكذا عن ابن عمر: سمعت النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أنزل الله عليَّ آيتين من كنوز الجنَّة ختم بهما سورة البقرة، من قرأهما العشاء مرَّتين أجزتاه عن قيام اللَّيل: ﴿ءَامَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى آخر السورة)، وعن حذيفة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله تعالى كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فأنزل منه هذه الآيات الثلاث التي ختم بهنَّ سورة البقرة، من قرأهنَّ في نفسه لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال).

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/189.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ التكليف: هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته، والمعنى أن شأنه تعالى وسنته في شرع الدين ألا يكلف عباده ما لا يطيقون، قال المفسرون: إن الآية تدل على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه، ولكن هذا لا يلتئم مع قولهم إن الكلام في شأنه وسنته تعالى في التكليف، وستأتي تتمة هذا البحث قريبا، وإذا كان هذا التكليف لم يقع كما قالوا، امتنع أن تكون الآية ناسخة لما قبلها؛ لأنه لا يتضمن تكليف ما ليس في الوسع كما تقدم، ولا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ كما قيل.

2. في قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وجهان:

أ. قيل: هي ابتداء خبر من الله تعالى كأنه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير وتيسير ما قد يشم من الآية السابقة من التعسير.

ب. وقيل: إنها داخلة في قول المؤمنين، فهم بعد سؤال الغفران قد أذنوا بأن يصغوا لله تعالى بهذا النوع من الرأفة بعباده، والحكمة في سياستهم.

3. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ قيل: إن الكسب والاكتساب واحد في اللغة نقل عن الواحدي، وقيل: إن الاكتساب أخص، واختلفوا في توجيهه، واختار محمد عبده في الدرس ما قاله الزمخشري، وقال: إنه الصواب، وهو أن الفرق بينهما كالفرق بين عمل واعتمل، فكل من اكتسب واعتمل يفيد الاختراع والتكلف، فالآية تشير أو تدل على أن فطرة الإنسان مجبولة على الخير، وأنه يتعود الشر بالتكلف والتأسي، والمعنى: أن لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها عقاب ما اكتسبت من الشر.

4. اختلف الناس في الإنسان هل هو خير بالطبع أو شرير بالطبع؟ وإلى أي الأمرين أميل بفطرته مع صرف النظر عما يتفق له في تربيته، المسألة مشهورة، وقد قال محمد عبده: لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان، والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس، وجماع ذلك كله أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث والإنسان يفعل الخير بطبعه، وتكون فيه لذته، ويميل إلى عبادة الله تعالى؛ لأن شكر المنعم مغروس في الطبع، ويظهر أثره في كل إنسان، وأقله البشاشة والارتياح للمنعم ولا يحتاج الإنسان إلى تكلف في فعل الخير؛ لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا، وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا مقتضى فطرتها، ومهما كان الإنسان شريرا فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت في نظر الناس وصاحبه مهين عندهم، فإن الطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه، وإذا رأى إعجاب الناس بكلام من يصف شيئا يزيد فيه ويبالغ كاذبا استحب الكذب وافتراه لينال الحظوة عند الناس، ويحظى بإعجابهم وهو مع ذلك لا ينفك يشعر بقبحه حتى إذا نبز أمامه أحد بلقب الكاذب أو الكذاب أحس بمهانة نفسه وخزيها، وهكذا شأن الإنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ويجد من أعماق سريرته هاتفا يقول له: لا تفعل ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر، ومن النادر أن يصير الإنسان شرا محضا ـ يريد أنه قلما يألف أحد الشر وينطبع به حتى يكون طبعا له لا تشعر نفسه بقبحه عند الشروع فيه ولا في أثنائه ولا بعد الفراغ منه، حتى إنه قال: إنه لا يوجد في المليون من الناس شرير واحد يفعل الشر وهو لا يشعر بأنه شر قبيح في نفسه، والذين ذهبوا إلى أن الإنسان شرير بالطبع أرادوا من الطبع ما يرون عليه غالب الناس ولم يلاحظوا فيه معنى الغريزة ومناشئ العمل من الفطرة، ذلك أن الإنسان ينشأ بين منازعات الكون وفواعل الطبيعة وأحيائها ومغالبة أبناء جنسه على المنافع والمرافق، وقد يدفعه هذا الجهاد إلى الأثرة وتوفير الخير لنفسه خاصة ويلجئه الظلم إلى الظلم فيأتيه متعلما إياه تعلما متكلفا له تكلفا، وفي نفسه ذلك الهاتف الفطري يقول له: لا تفعل، وهو النبراس الإلهي الذي لا ينطفئ، فإذا رجع الإنسان إلى أصل فطرته لا يرى إلا الخير، ولا يميل إلا إليه، وإذا تأمل في الشر الذي يعرض له لم يخف عليه أنه ليس من أصل الفطرة، وإنما هو من الطوارئ التي تعرض عليها لا سيما من ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم، وأشد ما يضر الإنسان في ذلك نظره إلى حال غيره؛ ولذلك أمرنا في الحديث أن ننظر في شئون الدنيا إلى من هو دوننا وهذا الأمر خاص بالأفراد بعضهم مع بعض، فإن نظر الواحد إلى من دونه يجعله راضيا بما أوتيه من النعم بعيدا عن الحسد الذي هو منبع الشرور، وأما الأمم فينبغي أن ننظر في حال من فوقنا منها لأجل مباراتها ومساماتها.

5. هذا ما قاله الإمام في هذه المسألة بإيضاح، ومنه يعلم قوله تعالى في الخير: كسبت وفي الشر اكتسبت، وكان يرى أن أحق ما يتعجب له من حال الإنسان كثرة عمل الشر وقلة عمل الخير، ويعلل ذلك بأن عمل الخير سهل وعاقبته حميدة، وعمل الشر عسر ومغبته ذميمة، ولا عجب في تعجبه، فقد كان مجبولا من طينة الخير، سليم الفطرة من عوارض الشر، حتى لم تؤثر في نفسه الزكية الشرور التي كانت تحيط به من أول نشأته إلى يوم وفاته.

6. المسألة تحتاج إلى زيادة في البسط لكثرة اشتباه الناس فيها، ولشدة ما عارضنا في تقريرها الطلاب في الدرس، والباحثون في المحاضرات، ولئن سألتهم ما هو الشر الفطري في البشر؟ ليقولن: حب الشهوات والغضب وما ينشأ عنهما من الأعمال والأخلاق، ولولا هاتان الغريزتان لما جلب أحد لنفسه ولا لغيره نفعا، ولما دفع ضرا، ولما ظهر من أعمال الإنسان ما نرى من أسرار الطبيعة ومحاسن الخليقة، بل لولاهما لبادت الأفراد وانقرض النوع من الأرض، وفي الفطرة والدين والمرشد إلى كمالها ما يكفي لإقامة الميزان القسط فيهما غالبا، حتى لا يغلب في الأمة تفريط ولا إفراط، ويكون الخير أصلا عاما، والشر عرضا مفارقا، والأصل الذي لا ينازع فيه أحد أن الإنسان قد جبل على ألا يعمل عملا إلا إذا اعتقد أنه نافع، وأن فعله خير له من تركه، وذلك شأنه في الترك أيضا، وأن هداياته الأربع: الحس والوجدان والعقل والدين كافية لأن يعتقد أن كل خير نافع، وكل شر ضار، فإذا قصر في الاهتداء بهذه الهدايات فوقع في الشر كان وقوعه فيه أثرا لتنكب طريق الفطرة لا للسير على جادتها، وأكثر أعمال الناس نافعة لهم غير ضارة بغيرهم.

7. ومن التفصيل في المسألة ما تقدم في كذب الأطفال، ومنه ما سئلنا عنه في الدرس ومجالس البحث من الميل إلى الزنا مثلا، وأجبنا بأن الإنسان لا يميل بفطرته إلى الزنا، وإنما يميل إلى الوقاع، وهذا من الخير وأصول الكمال في الفطرة، وإنما الزنا وضع له في غير موضعه، وذلك من العوارض الطارئة التي تكثر بترك مقومات الفطرة وحوافظها من نذر الدين وقضايا العقل وآداب الاجتماع، ولقد كنت قبل الوقوف على أحوال الناس ـ لا سيما في بلاد مصر ـ أظن أن الزنا لا يكاد يقع إلا نادرا من بعض أفراد الجاهلين، وهذا ما يعتقده كل من ينشأ في بيئة تغلب فيها العفة، ولم يعرف حال غيرها ولا أخبار الشاذين فيها، ولو كان فطريا لشعر كل أحد من نفسه بالحاجة إليه، كما يشعر بأنه في حاجة إلى زوج يتحد به، ولعل ما أوردناه كاف للمتدبر، ولا يتسع التفسير لأكثر منه.

8. بيّن الله تعالى لنا شأن المؤمن في السمع والطاعة ثم طلب المغفرة لما يلم به أو يتهم به نفسه من التقصير، وفضله ومنته في عدم تكليف النفس ما ليس في وسعها، ثم علمنا هذا الدعاء لندعوه به وهو ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما يجب تركه، أو جئنا بالشيء على غير وجهه، وهذا يدل على أن من شأن النسيان والخطأ أن يؤاخذ عليهما، وسيأتي بيان الوجه فيه.

9. المؤاخذة: المعاقبة، وهي من الأخذ؛ لأن من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر، قال محمد عبده: ومن الناس من قال: إن الخطأ والنسيان لا مؤاخذة عليهما؛ لأن الناسي والمخطئ لا إرادة لهما فيما فعلاه نسيانا أو خطأ، ومثل هذا الكلام يوجد في كتب الأصول والكلام، ويتبعه من المناقشات ما يبعد به عن حدود الأفهام، وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وتأمل الأمر في ذاته علم أن الناسي يصح أن يؤاخذ فيقال له: لم نسيت؟ فإن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء وترك إجالة الفكر فيه وترديده في النفس ليستقر في الذاكرة، فتبرزه عند الحاجة إليه؛ ولذلك ينسى الإنسان ما لا يهمه ويحفظ ما يهمه، فإذا كان النسيان غير اختياري فسببه الذي بيناه آنفا اختياري، ولذلك يؤاخذ الناس بعضهم بعضا بالنسيان لا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإذا عهدت إلى من عليه سلطان أو فضل بأن يفعل كذا أو يجيئك في يوم كذا فنسي ولم يمتثل فإنك تسأله وتؤاخذه بما ترميه به من الإهمال وعدم العناية بأمرك، وقد آخذ الله آدم على ذنبه ثم تاب عليه مع قوله فيه: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ وقال في جواب من يسأل يوم القيامة ربه لم حشره أعمى؟ من هذه السورة: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ وقال في أهل الكتاب: ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ وفي الآية: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ وهناك آية أخرى، وقد فسر النسيان فيها بالترك الذي هو لازمه، وذلك لا يمنع الاستدلال بها؛ لأن المراد بالنسيان هنا أيضا لازمه، وهو ترك الامتثال، وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروي، ولذلك أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الخطأ والدية في جنايته، فإن أراد امرؤ أن يرمي صيدا فأصاب إنسانا فقتله كان مؤاخذا في الشريعة، وكذا في القوانين الوضعية، فثبت أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة وجرى عليه عرف الناس في معاملاتهم وقوانينهم، ولو لم يكن كل من الناسي والمخطئ مقصرا لما كان هذا.

10. كما جاز ذلك وحسن يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بكل ما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ، ولكنه تعالى علمنا أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وذلك من فضله علينا وإحسانه في هدايتنا، فإن هذا الدعاء يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكر والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان أو يقل وقوعهما منا فيكون ذنبا جديرا بالعفو والمغفرة، فهذا الدعاء لا يدل على أن حكم الله في النسيان والخطأ ألا يؤاخذ عليهما، بل قصارى ما يؤخذ منه أنهما مما يرجى العفو عنهما إذا وقع العبد بعد بذل جهده والاحتياط والتحري والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة وشعر بتقصيره فلجأ إلى الدعاء الذي يقوي في النفس خشية الله تعالى والرجاء بفضله، فيكون هذا الإقبال على الله تعالى نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير، ولعل إيراد الشرط بأن للإيذان بأن هذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وأنه لا يقع إلا قليلا، وهذا وما قبله مما زدته على كلام محمد عبده في هذا المقام.

11. قد يرد على هذا التفسير حديث ابن عباس المرفوع عند ابن ماجه وابن المنذر وابن حبان والدارقطني والبيهقي في السنن وهو: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وهو ضعيف لا يسلم له إسناد، ولكنه لكثرة طرقه يعد عندهم من الحسن لغيره (قاله في فتح البيان) وقد يقال: إن مخالفته لظاهر الآية تدل على وضعه لا ضعفه إلا أن يؤوّل بأن هذه الأمور أنفسها مما يتجاوز عنها في الآخرة ولما يترتب عليها حكمه، فإن كان صلاة أعيدت وإن كان ذنبا وجبت التوبة منه والتضرع إلى الله بالدعاء، وإلا أوخذ الناسي والمخطئ على ما يترتب على النسيان والخطأ دونهما، وقد أخطأ القرافي في فروقه بما كتب في هذا المقام خطأ ندعو الله أن يغفره له.

12. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ الإصر: العبء الثقيل، يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، وحمله أكثر المفسرين على التكاليف الشاقة؛ لأن الآية نزلت في زمن التشريع ونزول الوحي؛ ولذلك قال: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ أي من الأمم التي بعث فيها الرسل كبني إسرائيل، فقد كانت التكاليف شاقة عليهم جدا، وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه تعالى لا يكلفنا ما يشق علينا، كما صرح بذلك بعد في قوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾، وهو يتضمن الامتنان علينا وإعلامنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر، وأنه يجب علينا شكره لذلك، وحكمة الدعاء بذلك الآن استشعار النعمة والشكر عليها، وقال بعضهم: إن الإصر هو العقوبة على ترك الامتثال وعدم حمل الشريعة على وجهها، فطلب منا أن ندعوه بألا تكون عقوبتنا على ذلك كعقوبة الأمم السابقة الذين نزلت بهم ألوان من العذاب ودمرتهم تدميرا حتى هلكوا هلاكا حسيا، فلم يبق منهم أحد أو هلاكا معنويا بأن ضاعت أو تضعضعت شريعتهم ونسوا ما ذكروا به حتى عادوا إلى الوثنية والهمجية.

13. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من العقوبة أو من البلايا والفتن والمحن، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد به الشرائع والأحكام، وجعلوه دليلا على جواز تكليف ما لا يطاق ـ كما تقدم ـ فهو عندهم بمعنى ما قبله، قال محمد عبده: مسألة تكليف ما لا يطاق من الكلام الذي نعوذ بالله منه والخلاف فيها لا يترتب عليه أثر ما في الشريعة، وأصل المسألة: هل يجوز على الله عقلا أن يكلف الناس ما لا يطيقون أم لا؟ والمتقدمون على أن ذلك لم يقع، وما لا يطاق هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه، وما يطاق: هو ما يمكن أن يأتيه ولو مع المشقة، وقد جعلوا ما لا يطاق بمعنى المتعذر الذي يعلو القدرة كالذي يستحيل فعله عقلا أو عادة، والواجب علينا أن نفهم القرآن بلغته التي أنزل بها، لا بعرف أفلاطون وفلسفة أرسطو، وقد رأينا العرب تعبر مما يطاق عما فيه مشقة شديدة كقول الشاعر:

çوليس يبين فضل المرء إلا... إذا كلفته ما لا يطيقé

14. أي أننا إذا فسرنا ما لا طاقة لنا به بالأحكام والتكاليف كان معناه ما فيه مشقة شديدة، ولا يصح ذلك إلا إذا فسرنا الإصر بالعقوبة تفاديا من التكرار، والأولى أن يفسر الإصر: بالتكاليف الشاقة، وما لا طاقة به: بالعقوبة على التقصير فيها، وهو يتضمن الدعاء بنفي سبب العقوبة فيكون المعنى: ربنا لا تحمل علينا ما يشق علينا من الأحكام، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله، ربنا ووفقنا لحمل ما حملتنا والنهوض به كما تحب وترضى، لكيلا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في دينهم، المسرفين في أهوائهم، واعف عنا بمحو أثر ما عسانا نلم به من أنفسنا وعدم العقوبة عليه واغفر لنا، أي لا تفضحنا بإظهاره بذاته ولا بالمؤاخذة عليه وارحمنا في كل حال بما توفقنا له من إقامة دينك والسير على سننك التي جعلتها بحكمتك طرقا للسعادة، أنت مولانا الذي منحتنا أنواع الهداية، وأيدتنا بالتوفيق والعناية، فلا نعبد إلا إياك، ولا نستعين بسواك فانصرنا على القوم الكافرين الذين اتخذوا من دونك أولياء، وجهلوا سننك في أنفسهم وفي سائر الأشياء، فأعرضوا عما مددت لهم من الأسباب، وجعلوا الملائكة والنبيين ومن دونهم من الأرباب، والذين حجبتهم سننك الكونية، عن الإيمان بالألوهية والربوبية، انصرنا على الجاحدين والمرتابين منهم بالحجة والبرهان، وعلى المعتدين بالسيف والسنان، وغير ذلك من أسباب حماية الحق التي تختلف باختلاف الزمان.

15. استحسن محمد عبده تفسير الجلال (النصر) بالغلبة بالحجة وبالسيف، وقال: إن النصر بالحجة هو أعلى النصر وأفضله؛ لأنه نصر على الروح والعقل، والنصر بالسيف إنما هو نصر على الجسد ولا نؤثر عنه في تفسير هذه الجمل الأخيرة من الآية شيئا إلا هذه العبارة، ولكنه قال في شأن هذا الدعاء كله ما مثاله: إن الله تعالى ما علمنا هذا الدعاء لأجل أن نلوكه بألسنتنا ونحرك به شفاهنا فقط، كما يفعل أهل الأوراد والأحزاب، بل علمنا إياه لأجل أن ندعوه به مخلصين له لاجئين إليه بعد أخذ ما أنزله بقوة والعمل به على قدر الطاقة واستعمال ما يصل إليه كسبنا من الوسائل والذرائع التي هي وسائل الاستجابة في الحقيقة، فمن دعاه بلسان مقاله ولسان حاله معا فإنه يستجيب له بلا شك، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان مع مخالفة الأحكام وتنكب السنن فهو بدعائه كالساخر من ربه الذي لا يستحق إلا مقته وخذلانه، فإذا كان ـ سبحانه ـ قد بين لنا سبب المغفرة والعفو، وهدانا إلى طرق الغلبة والنصر، فأعرضنا عن هدايته، وتنكبنا سننه في خليقته، ثم طلبنا منه ذلك بألسنتنا دون قلوبنا وجوارحنا، أفلا نكون نحن الجانين على أنفسنا؟ وتوقف الدعاء على العمل يستلزم توقفه على العلم، فلا يكون الداعي داعيا حقيقة كما يحب الله ويرضى إلا إذا كان قد عرف ما يجب عليه من الشريعة وسنن الاجتماع واتبعه بقدر استطاعته، فإذا اتخذت الأمة الوسائل التي أمرت بها ودعت الله تعالى أن يثبتها ويتم لها ما ليس في وسعها من أسباب النصر فإن الله تعالى يستجيب لها حتما كما ورد في الحديث أن هذه الأمة لا تغلب من قلة، فنسأله تعالى التوفيق وهداية أقوم طريق.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/141.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة، وهو كقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله، ولا يصعب عليهم عمله، وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ من المشقة والتعسير.

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل، وعليها ضرّ ما جدّت فيه من شر، وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير، وتفعل الشر بالتكلف والتأسي، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان، ولا يحتاج إلى مشقة في فعله بل يجد لذة في عمله، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله، لأن شكر المنعم مغروس في طبعه، وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها، ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها ممقوتة في نظر الناس، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم، فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر، فتراه يشعر بقبحه، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له: لا تفعل، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه، والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي‏ (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

3. والخلاصة ـ إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر، وفي هذا ترغيب في عمل الخير، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته.

4. بعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة، وطلبهم المغفرة مما يتّهمون به نفوسهم من التقصير، وذكر فضله على عباده في عدم تكليفهم ما لا يطيقون ـ علمهم ما يدعون به ربهم فقال: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه، وإحسانا علينا، إذ كان ينبغي العناية والاحتياط والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، أو يقل وقوعها منا، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة، ذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء، وترك إجالة الفكر فيه، ليستقر في النفس، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمه، ويؤاخذ الناس‏ بعضهم بعضا بالنسيان، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك، وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروّي، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية.

5. بهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ.

6. والخلاصة ـ أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله ورجاء فضله، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير.

7. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبنى إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو من ذلك.

8. وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشقّ علينا كما صرح بذلك في قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر، فيجب علينا أن نشكره لذلك، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها.

9. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من العقوبات أو من البلايا والمحن، ولا ما يشق علينا من الأحكام، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرّطين في دينهم.

10. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين، وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ ﴿رَبِّنَا﴾ فاعف عنا مقابل لقوله ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ واغفر لنا مقابل لقوله ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ وارحمنا مقابل لقوله ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة.

11. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ أي أنت مالكنا ومتولى أمورنا، فأنت الذي منحتنا الهداية، وأيدتنا بالتوفيق والعناية، ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا، فإنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب.

12. ما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هي طريق الاستجابة، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان، مع مخالفة أحكام الشريعة، وتجافى السنن التي سنها الله، فهو بدعائه كالساخر من ربه، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان، ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته، وتنكبنا سنته في خليقته، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء، وكنا نحن الجانين على أنفسنا، المستحقين لهذا الخذلان، فإذا اتخذ المسلمون العدّة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم، فقد ورد في الأثر: إن هذه الأمة لا تغلب من قلة.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/86.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف، ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدرا، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه، ومن شأن هذا التصور ـ فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس ـ أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهمّ همة جديدة للوفاء، ما دام داخلا في مقدوره! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته‏ وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه.

2. ثم الشطر الثاني من هذا التصور: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت.. فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه، فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.. ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها ـ حين يستيقنها القلبـ أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق، وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد، فهو مسئول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها ـ وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا ـ فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان ـ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ـ فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر.. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا! ولا خوف من هذه الفردية ـ في هذا المقام ـ فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه، فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر.. وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه!

3. وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها.. فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه.. كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح..

4. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه، وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح، وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد.. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته.. إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب.. وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)

5. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾.. وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم ـ كما علمهم ربهم في هذا القرآن ـ بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم، فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم، وفي آية الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾.. وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة، وحرم عليهم‏ السبت أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا.. وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة: ﴿إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.. فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة، هينة لينة، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة، وقيل للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾

6. على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه.. هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر، عبودية العبد للعبد، ممثلة في تشريع العبد للعبد، وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه.. فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده، وتلقي الشريعة منه وحده، وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد! إن العبودية لله وحده ـ متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده ـ هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري، الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة، ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار، ودعاء المؤمنين: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾: يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق.

7. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.. وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام، فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان، ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون، كيلا يعجزوا عنه ويقصروا فيه.. وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم.. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير، ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف، وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير.

8. ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾، فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان، فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء، ومن‏ رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران.. عن عائشة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله).. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن: عمل بكل ما في الوسع، وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز.. ورجاء ـ بعد ذلك ـ في الله لا ينقطع، وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح.

9. وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله﴾.. يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده، إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. إنه الختام الذي يلخص السورة، ويلخص العقيدة، ويلخص تضور المؤمنين، وحالهم مع ربهم في كل حين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/345.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. التكاليف التي حملها رسل الله إلى الناس، إنما هي لإصلاح معاشهم ومعادهم، وإقامتهم على طريق مستقيم، تطيب لهم فيه الحياة، حيث تجمعهم الأخوة والمودة، ويؤلف بينهم العدل والإحسان، وهذه التكاليف ليس فيها إعنات ولا تحدّ لقدرة الإنسان وقوة احتماله، وإلا كانت ضربا من النكال، ولونا من العقاب، الأمر الذي جاءت رسالات السماء على خلافه.. فما هي إلا رحمة من رحمات الله، وفضل من أفضاله على عباده، تفتح لهم مغالق الخير، والحق، والهدى.

2. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ هو البيان المبين لحقيقة الشرائع السماوية، وأنها المنهج التربوي السليم، لإصلاح أمر الفرد والمجتمع، وهى الغذاء الروحي والنفسي والعقلي للإنسان.. وإذ كان هذا شأنها فإنها لم تجيء إلا بما تتقبله النفوس السليمة، وتستجيب له، وتتفاعل معه، وتسعد به.

3. وإذ كانت أحكام الشريعة عامة للناس كلهم، عامتهم وخاصتهم على السواء، وإذ كان الناس على درجات متفاوتة، في القوة والضعف، وفى الصحة والمرض ـ فإن مما قضت به الحكمة في ذلك أن جاءت الشرائع السماوية ـ وخاصة شريعة الإسلام ـ على مستوى الوسط للقدرة الإنسانية، بمعنى أن من فوق هذا المستوي تتسع قدراتهم لأكثر من تكاليف الشريعة، على حين أن من دون هذا المستوي لا تضيق نفوسهم به، وإن وجدوا فيه شيئا من العناء والجهد.

4. هذا في مجال الإنسانية كلها.. أما في خاصة حياة الفرد من الناس، فإن الشريعة قد راعت الظروف الخاصة التي تعرض للإنسان، والضرورات التي تتحدّى قدرته، فوضعت لتلك الظروف وهذه الضرورات أحكاما خاصة، موقوتة بوقتها، ومقدورة بقدرها، فأباحت المحظورات عند الضرورات، ودفعت الحرج عن الضعفاء، والمرضى، والمسافرين، فرفعت عنهم بعض الأحكام، رفعا جزئيا أو كليا، بصفة مؤقتة أو دائمة، وبهذه الأحكام الاستثنائية الواردة على الأحكام العامة، يرفع الحرج عن المؤمنين بالله، الحريصين على الوفاء بأحكام شريعته.. وهذا من رحمة الله بالناس، ولطفه بعباده: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

5. ثم إن في قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ما يجعل إلى الإنسان نفسه عند التطبيق العمليّ لأحكام الشريعة، أن يردّها إلى قدرته واحتماله، فما خرج منها عن قدرته، وجاوز احتماله، فقد تجاوز الله عنه، ورفع عنه الحرج فيه، شريطة أن يكون ذلك عن نية صادقة في الامتثال لأمر الله، ورغبة خالصة في مرضاته، بمعنى أن يحاول الإنسان أداء المطلوب صادقا مخلصا، فإن عجز أو قصّر فرحمة الله لن تضيق به، ولن تقيمه على الضر والأذى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

6. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ الكسب هنا غير الاكتساب.. فالكسب للحسنات والأعمال الصّالحة، والاكتساب للسيئات والأعمال السيئة.. وفى لفظ الكسب خفة، ولطف، واستقامة على اللسان، على خلاف لفظ الاكتساب وما فيه من ثقل، وقلق واضطراب.. (كسبت) و(اكتسبت)! ولفظ (لها ما كسبت) يفيد الملكية، التي تقضى للمالك بالانتفاع بما ملك، والتصرف فيه بما ينفعه، وذلك واقع فيما يكسبه الإنسان من حسنات، وما يعمله من صالحات.. إنها له، وملك يمينه، أما لفظ ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ فهو يدل على إلقاء أعمال وأعباء على كاهل المكتسب، تنقض ظهره، وتقيد خطوه، فلا يبلغ غاية، ولا يحقق أملا.

7. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، من رحمة الله بنا وألطافه علينا ـ أتباع هذه الملة السمحاء ـ أن دعانا إلى أن ندعوه بهذا الدعاء، الذي صاغه سبحانه من كلماته، وجعله سبحا لملائكته ولعباده الصالحين، يسبّحون له، ويدعون لنا به.. بل إنه سبحانه وتعالى يأتمّنا بهذا الدّعاء، ويصلى علينا به، ونحن نقول بما يقول، ونصلّى بما يصلّى.. فما أكثر رحمة الله بنا، وما أوسع فضله علينا.. إذ تقبّل دعاءنا قبل أن ندعو، واستجاب لنا قبل أن نكون! فقد رفع الله عنا الخطأ والنسيان، كما أخبر الرسول الكريم في قوله: (رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) كذلك عافانا مما ابتلى به أمما قبلنا.. كأمة اليهود، الذين ابتلاهم الله بضروب شتى من البلوى، وحمّلهم من التكاليف ما أعنتهم وأرهقهم، عقابا لهم، ونكالا، جزاء كفرهم بآيات الله، ومكرهم بنعمه، وفى هذا يقول سبحانه: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾.. لقد عافانا الله من هذا الامتحان‏ القاسي، فلم يأخذنا بذنوبنا، ولم يحملنا من التكاليف ما لا نطيق، وجعل لنا باب التوبة مدخلا نثوب به إليه، ونقترب منه، بعد أن بعدنا بذنوبنا عنه، إذ نضرع إليه قائلين: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

8. إني لأحبّ أن أفهم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، على أنه ـ مع كونه دعاء مطلقا يدعو به المسلم في كل وقت ـ هو تعويذة يلوذ بها المذنبون الذي تغلبهم أنفسهم، وتقهرهم أهواؤهم فيقترفون ما اقترفوا وهم في هذا الضعف النفسي المستولى عليهم، فهم ـ والحال كذلك ـ قد وجدوا أمام أمر لا طاقة لهم به، وهم لذلك في استخزاء، وفى حسرة وندم، لا يجدون إلا وجه الله يبسطون أيديهم إليه أن يعينهم على أنفسهم، فيقوّى من إيمانهم، ويشد من عزائمهم، في هذا الصراع الدائر في كيانهم، بين الإقدام على المعصية والإحجام عن مواقعتها، حتى ينتصروا على أنفسهم وينتهوا عمّا نهوا عنه..

9. فى ختم هذا الدعاء العظيم الشامل بقوله تعالى: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ إلفات للمسلمين بأن غايتهم من هذا التضرع إلى الله، بإصلاح أمرهم واستقامة طريقهم ـ هو أن يكونوا آخر الأمر أهلا لهداية الناس إلى الله، وأن يصبحوا جبهة عاملة لنصرة الحق، وجندا مقاتلا في سبيل الله، وبهذا تقوى جبهة الإيمان، وتضمر أو تزول دولة الكفر.. وإذ كان المؤمنون أولياء الله، ونصراء كلمته، فإن الله وليهم وناصرهم على عدوهم.. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/389.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾:

أ. الأظهر أنّه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضا ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها: وهي‏ ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قبل أن يحكي دعواتهم تلك.

ب. ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنّه تعليل لقولهم ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي علمنا تأويل قول ربنا: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: 284] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، ممّا أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختيارا، أو يعقد عليه القلب، ويطمئنّ به، إلّا أنّ قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الآية يبعد هذا؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك.

2. على أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ وهذا مروي في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة وابن عباس‏ أنّه قال لما نزلت‏ ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا: لا نطيقها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: قولوا: (سمعنا وأطعنا وسلمنا) فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين، والمراد البيان والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس: أنّ هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة، فحدث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجا.

3. الوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع، وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم (نفسا) في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلّا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها.

4. امتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ولذلك كان من قواعد الفقه العامة (المشقّة تجلب التيسير)، وكانت المشقة مظنّة الرخصة، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى (مقاصد الشريعة) وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلّة المسلمين.

5. هذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحال، والتكليف بما لا يطاق، وهي مسألة أرنّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة، واختلفوا فيها اختلافا شهيرا، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم:

أ. فقالت الأشاعرة: يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة، وانتفائه علامة على الشقاوة، وترتّب الإثم لأنّ الله تعالى إثابة العاصي، وتعذيب المطيع، فبالأولى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل، أو متعذّر، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروح في الصورة وما هو بنافخ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل، ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة، ولأنّهما خبرا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين.

ب. وقال المعتزلة، ومن وافقهم: يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلّا لصار عبثا وهو مستحيل على الله، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي، واستدلّوا بهذه الآية، وبالآيات الدالة على أصولها: مثل‏ ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28] إلخ.

6. التحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد؛ فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد، وقال بالكسب، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدور دون أن تكون قدرته مؤثّرة فيه، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم، وذلك تكليف بما لا يطاق، فالتزم الأشعري ذلك، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك.

7. اختلف المجوّزون: هل هو واقع، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية، وقال إمام الحرمين ـ في (البرهان) ـ: (والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها، وإنّما يقدره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات) وما ألزمه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة، المعبّر عنها بالكسب، للفرق البيّن بين الأحوال الظاهرة، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر، وكذلك لا معنى لإدخال ما علم الله عدم وقوعه، كأمر أبي جهل بالإيمان مع علم الله بأنّه لا يؤمن، في مسألة التكليف بما لا يطاق، أو بالمحال؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد، وأورد عليه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إلى قوله‏: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 1، 3] فقد يقال: إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك، وبذلك نسلم من أن نقول: إنّه خارج عن الدعوة، ومن أن نقول: إنّه مخاطب بعد نزول الآية.

8. هذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقدرهم، دون ما هو بحسب سرّ القدر، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية.

9. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ حال من (نفسا) لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس: وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضرّه عليها، وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة (اللّام) مرة وبواسطة (على) أخرى، وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنّما عبّر هنا مرة بكسبت وأخرى باكتسبت تفنّنا وكراهية إعادة الكلمة بعينها، كما فعل ذو الرمة في قوله:

çومطعم الصيد هبّال لبغيته‏...ألفى أباه بذاك الكسب مكتسباé

وقول النابغة: (فحملت برّة واحتملت فجار)، وابتدئ أولا بالمشهور الكثير، ثم أعيد بمطاوعه، وقد تكون، في اختيار الفعل الذي أصله دال على المطاوعة، إشارة إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبغيض من الله للناس في الذنوب، واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة، ووقع في (الكشاف) أن فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال، وكان الشرّ مشتهى للنفس، فهي تجدّ تحصيله، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب.

10. المراد بما اكتسبت الشرور، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير، والاكتساب هو اجتناء الشر، وهو خلاف التحقيق؛ ففي القرآن‏ ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 164] ـ ثم قيل للذين ظلموا ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [يونس: 52] ـ وقد قيل: إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خصّ‏ بالعمل الذي فيه تكلّف، لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير.

11. في هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتسابا؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة، ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قدر وإنّما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد، وقد قيل: إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار، رأس الفرقة النجارية من الجبرية، كان معاصرا للنظام في القرن الثالث، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي: (أدقّ من كسب الأشعريّ)، وتعريف الكسب، عند الأشعري: هو حالة للعبد يقارنها خلق الله فعلا متعلّقا بها، وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله، وللكسب تعاريف أخر، وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته: هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلّا تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات، إعمالا للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّه خالق كلّ شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه، فوجب إعمال هذا العموم، ثم إنّه لما لم يجز أن يدّعى كون العبد مجبورا على أفعاله، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية، كحركة المرتعش، والأفعال الاختيارية، كحركة الماشي والقاتل، ورعيا لحقّية التكاليف الشرعية للعباد لئلّا يكون التكليف عبثا، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلّا يكون باطلا، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكّنه من فعل ما يريد فعله، وترك ما يريد تركه، وهي ميله إلى الفعل أو الترك، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة، وسمّاها كسبا، وقال: إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها.

12. تقديم المجرورين في الآية: لقصد الاختصاص، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية: من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله.

13. تمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب، إلّا إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره؛ ففي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من‏ ثلاث: صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له)، وفي الحديث: (ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل)، وفي الحديث: (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)

14. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّا من قول المؤمنين: الذين قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: 285]، بأن اتّبعوا القبول والرضا، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى، واختيار حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها، ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم: بأن يقولوا هذا الدعاء، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير، قولوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ إلى آخر السورة؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفسا إلّا وسعها، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع، والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا ينسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]

15. المؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة، كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ [هود: 102] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ، والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى، فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وفي رواية: (وضع) رواه ابن ماجه‏، وتكلم العلماء في صحته، وقد حسّنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع، فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعل: نسيان أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما علم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في (الكشاف)

16. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ الآية فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنّه مستغنى عنه: لأنّ مخاطبة المنادى مغنية عن إعادة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل، والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب لاستعارة الإصر، وأصل معنى الإصر ما يؤصر به أي يربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له: الإصار ـ بكسر الهمزة ـ ثم استعمل مجازا في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران: ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ وأطلق أيضا على ما يثقل عمله، والامتثال فيه، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف [157]: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحمل للتكليف، لأنّ الحمل يناسب الثقل فيكون قوله: ﴿وَلَا تَحْمِلْ﴾ ترشيحا مستعارا لملائم المشبّه به وعن ابن عباس: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ عهدا لا نفي به، ونعذّب بتركه ونقضه)

17. ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ صفة ل ﴿إِصْرًا﴾ أي عهدا من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: (ويضع عنهم إصرهم)

18. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات، والتضعيف فيه للتعدية، وقيل: هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم، والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا: جابة وإجابة وطاعة وإطاعة.

19. القول في هذين الدعاءين كالقول في قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾، وقوله: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلّا في مقام التهويل، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله: ﴿رَبِّنَا﴾ فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأولى؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرة أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلمّا كان تعميما بعد تخصيص، كان كأنّه‏ دعاء واحد.

20. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك، وليكون هذا أيضا كالمقدمة للدعوة الآتية، ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي:

çرأيت مواليّ الألى يخذلونني‏...على حدثان الدّهر إذ يتقلّب‏é

وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر، لأنّهم جعلوه مرتّبا على وصف محقّق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 257] وفي حديث‏ يوم أحد لمّا قال أبو سفيان: (لنا العزّى ولا عزّى لكم) قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أجيبوه (الله مولانا ولا مولى لكم)، ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجا، وفي (الصحيح)، عن أبي مسعود الأنصاري البدري: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، في ليلة، كفتاه)، وهما من قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ إلى آخر السورة، قيل معناه كفتاه عن قيام الليل، فيكون معنى من قرأ من صلّى بهما، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/597.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ قال الزمخشري في تفسيره: (الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود، وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة] لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة)، وهذا الكلام يستفاد منه أن الوسع غير الطاقة، فالطاقة هي غاية المجهود وأقصاه، وما يفعله الإنسان قادرا عليه ولكن في تعب وجهد، والوسع ما يكون في الإمكان، ولكن تكون بعد الأداء سعة من قدرة على أداء غيره، ولكن لا يؤدى الزيادة إلا بجهد، ولا يفهم من هذا أن تكليف الوسع لا تكون فيه مشقة قط، بل إن كل تكليف هو أمر بما فيه كلفة، وهى المشقة؛ وعلى ذلك تكون التكليفات الشرعية لها ثلاث خواص ملازمة: وهى أن فيها مشقة محتملة، وأنها تكون في الوسع والقدرة من غير حرج ولا ضيق، وأنها تكون من غير مجهود شديد يكون‏ أقصى الطاقة، تلك هي خواص تكليف الله تعالى لكل نفس كما تدل عليه الجملة السامية.

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ هذه الجملة السامية تبين أن كل تكليف قد اقترن بجزائه، وأن كل امرئ سيجزى على الخير خيرا، وعلى الشر شرا، وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق؛ لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء؛ والنص السابق أيضا أفاد أن الله لا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق، بل بإرادة حرة ويسر لا عسر فيه، وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة، ومقدرة غير مرهقة؛ وذلك يوجب الجزاء العادل.

3. اتفق العلماء على أن قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ المراد بها الحسنات التي يثيب الله عليها؛ وقوله تعالى: ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ المراد به السيئات التي التي يعاقب الله تعالى عليها، وقد أخذوا هذا من النص باللام في الجملة الأولى، والنص بعلى في الجملة الثانية؛ فإن التعبير باللام التي تفيد الملكية المفيدة في مقابل على التي تفيد التحميل، ووضع الشيء على الشخص، يجعل الأولى مفيدة للجزاء ثوابا، والثانية مفيدة للجزاء عقابا؛ وإذا لم يكن ذلك التقابل، فإنه يعبر باللام في موضع الثواب والعقاب؛ فيقول سبحانه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة]، و﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة] إذ لا قرينة تدل على الملكية المفيدة؛ فتكون اللام لمطلق الاختصاص.

4. سؤال وإشكال: لماذا عبر سبحانه عن هذا الخير بقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ وعن الشر بـ ﴿اكْتَسَبَتْ﴾ مع أن الكسب يكون للخير وللشر كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [يونس‏]؟ والجواب:

أ. أجاب عن ذلك الزمخشري بقوله: (في الاكتساب اعتمال؛ فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهى منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد؛ فجعلت لذلك مكتسبة فيه) وهذا التعليل قد يشير إلى أن الشر الكبير الذي تعتمله النفس وتجد فيه، وتلح وتستمر عليه، هو موضع المؤاخذة، والضئيل قد يكون موضع العفو؛ أي ما تفعله النفس من خير فكله موضع ثواب، قل أو جل؛ وذلك معنى صحيح.

ب. لكن هناك تعليلا آخر نراه، وهو أن التعبير باكتسب يفيد معنى الاعتمال، وهو ما يفعله الإنسان غير منساق إليه، والطبيعة الإنسانية تنحو نحو الخير، والشر ضد الفطرة وضد الوجدان والضمير، ومن يفعله يغالب فطرته ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يذوق شجرة الشر فينساق، وإن الإنسان ليرى ذلك في كل من يرتكب الجرائم، فهو يبتدئ بالجريمة مغالبا نفسه ثم تطاوعه ثم ينساق؛ فالقاتل كذلك، والسارق، والزاني؛ أول جريمة يرتكبها بتعمل، ثم يألف الارتكاب فيكون سهلا؛ لذلك عبر عن الشر بالاكتساب؛ لأنه ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وضد الضمير، وعبر عن الخير هنا بالكسب لأنه الفطرة.

5. بعد بيان سنة الله في التكليف وجزائه ذكر سبحانه حال المؤمن المخلص في ضراعته، وضراعته بالالتجاء إلى ربه ودعائه، وقد ذكر سبحانه ستة أدعية تفيد هذه الضراعة وتشير إلى رحمة الله تعالى وخواص شرعه الشريف.

6. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ هذا هو الدعاء الأول، وقد ابتدأ بنداء الله سبحانه ب ﴿رَبِّنَا﴾ لكمال الضراعة والشعور بالربوبية، وكمال إنعام الله تعالى، وضعف المخلوق أمام الخالق، ووفاء المنعم عليه أمام المنعم، وللإشعار بأن ما تضمنه الدعاء من النعم التي أنعم بها، وكمال الربوبية التي ربّ الناس بها، والمؤاخذة معناها المجازاة، وأصلها من الأخذ، وفى التعبير عن المجازاة بالمؤاخذة إشارة إلى أن ما يستحقون من عقاب هو في نظير ما أخذوا من نعم لم يعرفوا حقها، فهم أخذوها وجحدوها، فأخذهم الله تعالى بحقها.

7. سؤال وإشكال: لماذا ذكر الله سبحانه عن أحوالهم هذا الدعاء مع أنه مرفوع عن أمة محمد بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)؟ والجواب:

أ. أجاب عن ذلك الزمخشري فقال: (إنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب المؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه)

ب. وهذه إجابة قيمة، وأزيد عليها أن المتقين أرهفت ضمائرهم وقويت نفوسهم، واشتدت خشيتهم من الله، حتى لقد أحسوا من فرط حساسيتهم أنهم محاسبون على ما لا حساب عليه؛ وإن المؤمن التقى يستكثر هفواته، ويستقل حسناته، وإن النسيان والخطأ قد توهموا فيهما أن يكون سببهما الإهمال وعدم العناية، وهما كذلك أحيانا، فكان فرط إحساسهم مرجحا لجانب المؤاخذة على جانب العفو، وجانب الخوف على جانب الرجاء، فكان الدعاء.

8. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ الإصر: هو العبء الكبير، مأخوذ من أصر بمعنى حبس، فكأنه لثقله يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة، وحمل عليه بمعنى وضع عليه وألقى عليه، وهذا هو الدعاء الثاني، ومعناه أن أولئك المتقين حالهم حال ضراعة لربهم بألا يلقى عليهم آصارا شدادا من التكليفات تثقل عليهم حتى يعجزوا عن أدائها أو لا يؤدوها إلا في حال من الشدة، كما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم، ولكن ما هذه الآصار، وتلك الأعباء؟

أ. أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلى الذين من قبلهم في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة]؟

ب. أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه، ويزكى ذلك قوله تعالى في ختام السورة ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

9. سؤال وإشكال: هل معنى ذلك أنهم لا يريدون أن يختبروا كما اختبر أقوياء الإيمان ممن سبقوهم؟ والجواب: إن طالب الحق المؤمن به يستكثر فعل الخير من غيره، ويستقل حال نفسه وفعله، وكأنهم يعترفون بفضل من سبقوهم، ويحسبون أنهم دونهم، فيطلبون عون الله تعالى، وذلك دليل قوة الإيمان، وأنهم ليسوا أقل منهم، بل يزيدون بذلك الاعتراف الكريم.

10. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ الطاقة: قال فيها الراغب الأصفهاني ما نصه: (الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة؛ وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء؛ فقوله تعالى: ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ‏﴾ أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به) فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة، وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة (ربنا) لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائما يتجدد فيها الشعور بالربوبية، وحق الخالق المنعم عليهم، وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق، لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي ألقى على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم، وغاية قوتهم؛ فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا، فمعنى الجملة السامية: لا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة، وهذه حال من الإيمان سامية، وعبر هنا بالفعل المضعف ﴿تُحَمِّلْنَا﴾ وفى الأول من غير تضعيف؛ لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل؛ أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة.

11. ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ هذه هي الأدعية الثلاثة الأخيرة وكلها في باب واحد، وهو باب الإحساس بالمصير في القيام بالواجب، وهى مرتبة من الإيمان سامية؛ لأن المؤمن يفرض التقصير في نفسه ليسعى إلى الكمال، وليرجو رحمة الكبير المتعال، لا يفرض في نفسه الكمال حتى لا يدلى بغرور، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا، وحال الرسول مع المتقين حال الشاعرين بالتقصير مهما يكن مقدار ما قاموا به؛ وإذا ضرعوا بهذا الدعاء؛ طالبوا بالعفو بألا يحاسبهم على ما عساه يكون منهم من هفوات، أو ما تتحدث به نفوسهم من إصرار على شر ولا نية له، وما يكون موضع الحساب يضرعون إلى ربهم أن يكون موضع غفرانه، فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم، ثم يضرعون إلى الله بعد ذلك أن يمنّ عليهم برحمته في الدنيا والآخرة، وإنهم لفرط إحساسهم بالتقصير لا يعتبرون الثواب جزاء، بل يعتبرونه رحمة ومنة وفضلا من رب العالمين.

12. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ هذه هي الوثيقة الربانية، يستمسكون بها، وهى إحساسهم بأن الله مولاهم، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين، وإن هذا الدعاء الأخير يقوى المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويرحمنا، إنه الغفور الرحيم، والعفو القدير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/1091.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، لأن التكليف بغير المقدور ظلم: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ـ آل عمران 182)، ولكن الاشعرية أجازوا التكليف بغير المقدور، ونفاه الإمامية والمعتزلة.

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من الخيرات والحسنات، ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من الشرور والسيئات، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.. ومن رحمة الله بعباده ان العبد إذا صدرت منه حسنة كتبها الله له في الحال، وبمجرد صدورها منه، وإذا صدرت منه سيئة أمهله حينا، فان استغفر وندم لم تكتب، وان أصر كتبت عليه.. وقال جماعة من العارفين ان الإنسان يفعل الخير بدافع من نفسه، لأنه مفطور عليه، ولا يفعل الشر إلا ببواعث خارجية من البيئة والتربية الفاسدة، ولهذا جعل تعالى الخير من الكسب، لا من الاكتساب، حيث قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ ولم يقل ما اكتسبت، وجعل الشر من الاكتساب، فقال: ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ولم يقل ما كسبت.

3. سؤال وإشكال: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، هنا اشكال مشهور كثر حوله الكلام، وحول جوابه في كتب الأصول وعلم الكلام، وملخص الإشكال ان الخطأ والنسيان لا يدخلان تحت ارادة الإنسان وقدرته، فالمؤاخذة عليهما مرفوعة بذاتها، فمن نسي الصلاة، أو أخطأ في فهم الحكم الشرعي واستخراجه من مصدره يحكم بمعذوريته وقبح مؤاخذته.. اذن، فلا معنى لطلب رفع المؤاخذة عنه، والجواب: غريب ما أجاب به الشيخ محمد عبده ـ كما نقل صاحب المنار في تفسيره ـ من ان الناسي والمخطئ تصح مؤاخذتهما بدليل ان الشريعة الاسلامية والشرائع الوضعية قد أوجبت الضمان على من أتلف مال غيره خطأ، كما أوجبت الدية على من قتل إنسانا من غير قصد.. وأخذ هذا الجواب وتبناه في تفسيره الشيخ مصطفى المراغي، ووجه الغرابة ان المقصود من المؤاخذة في الآية هو العقاب والمسئولية الأدبية، لا الغرامة المادية، فمن قتل إنسانا، أو أتلف ماله خطأ لا يعاقب، ولا يسأل عن شيء من الوجهة الأدبية، وإنما يحكم عليه بغرامة مالية، تماما كالمديون، والصحيح في الجواب: ان الخطأ والنسيان يصدران تارة من الإنسان بعد تحفظه واحتياطه، وهذا النوع من النسيان والخطأ يعذر فيه صاحبه، ولا تجوز مؤاخذته أدبيا، وهو المقصود من الآية الكريمة.. وتارة يصدر الخطأ والنسيان عن التهاون وترك التحفظ، بحيث لو تيقظ واحترز لم يصدرا منه، وهذا النوع لا يعذر فيه صاحبه، وتجوز المؤاخذة عليه، وهو المطلوب رفعه في الدعاء.. وعليه يسقط الاشكال من أساسه.

4. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، الإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه مكانه، والمراد به هنا التكليف الشاق.. وقد وضعه الله سبحانه على بني إسرائيل، حيث فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، وغير ذلك من التكاليف الشاقة التي ذكرها أهل التفاسير مفسرين بها قوله تعالى: ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، وعليه يكون معنى: لا تحمل علينا إصرا، لا تكلفنا بما يثقل علينا حمله.

5. سؤال وإشكال: ان قوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ يفيد هذا المعنى بالذات، مع العلم بأن هذه الجملة معطوفة على ولا تحمل علينا إصرا، والعطف يقتضي المغايرة، حيث لا يجوز عطف الشيء على نفسه؟ والجواب: لو نظرنا إلى قوله: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ مستقلا عن السياق لكان الأمر كما قلت، لأن المعنى الظاهر هو ان لا تكلفنا بما يشق علينا.. أما إذا نظرنا اليه مع ملاحظة السياق فيتعين أن يكون المراد لا تعاقبنا عقوبة لا نطيقها.. فعبّر عن العقوبة بما تؤدي اليه من عدم إطاقتها والصبر عليها، قال الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل، باب البراءة: (لا يبعد أن يراد بما لا يطاق في الآية العذاب والعقوبة، فمعنى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة)

6. ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾، العفو والمغفرة والرحمة ألفاظ متقاربة، والفرق بينها بسيط، هو ان العفو مجرد ترك العقاب على الذنب، والمغفرة ترك العقاب، مع الستر على الذنب، والرحمة طلب التفضل والانعام بالثواب، ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ الذين يستخفون بدين الله، ويعتزون بغير الله.. وجاء في مجمع البيان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ان الله سبحانه قال عند كل فصل من هذا الدعاء: فعلت واستجبت)، ولهذا استحب الإكثار من هذا الدعاء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/456.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، الوسع‏ هو الجدة والطاقة، والأصل في‏ الوسع‏ هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الإنسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الأفعال الاختيارية، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنه تسعه قدرته، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل: وسع الإنسان أي طاقته وظرفية قدرته.

2. عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: أن يسمع ويطيع، ومن البين‏ أن الإنسان إنما يقول: (سمعا) فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، وأما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع والقبول، ومن البين أيضا أن الإنسان إنما يقول: (طاعة) فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل، فإن‏ الإطاعة هي مطاوعة الإنسان وتأثر قواه وأعضائه عن تأثير الأمر المؤثر مثلا، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مرة ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فأجابه داعي الحق بالسمع والطاعة لا تتحقق إلا فيما هو اختياري للإنسان تتعلق به قدرته، وهو الذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الإنسان إنما وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة.

3. ظهر مما ذكرنا أن قوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ﴾، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم والإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، وهي أيضا السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ من غير زيادة ولا نقيصة.

4. الجملة أعني قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا﴾، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين:

أ. أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم أن يأتوا به.

ب. وأما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سأله النبي والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان، وعدم حمل الإصر عليهم، وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، كل ذلك وإن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرد والمعصية، وأما المؤاخذة على الخطإ والنسيان فإنهما وإن كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما، فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بإيجاب التحفظ عنهما، وخاصة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، ومثله الكلام في حمل الإصر فإنه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزاء لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه ويتحرج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل، لأنها مما اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

5. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم وقد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم وسألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لأنهم علموا بما علمهم الله أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن لا عاصم من الله إلا رحمته، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وإن كان معصوما من الخطإ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

6. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، الإصر هو الثقل على ما قيل، وقيل هو حبس الشيء بقهره، وهو قريب من المعنى الأول فإن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه ويثقل عليه، والمراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ الأعراف ـ 157.

7. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت أن العقل لا يجوزه أبدا، وأن كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه.

8. ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾، العفو محو أثر الشيء، والمغفرة ستره، والرحمة معروفة، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، وبعبارة أخرى من الأخص‏ فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب وإمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه، والرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته.

9. عطف هذه الثلاثة أعني قوله: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ على قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ على ما للجميع من السياق والنظم يشعر: بأن المراد من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطإ والنسيان ونحوها، ومنه يظهر أن المراد بهذه المغفرة المسئولة هاهنا غير الغفران المذكور في قوله: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدم، وهذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطأ فسؤال المغفرة غير مكرر.

10. كرر لفظ الرب في هذه الأدعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالإيماء والتلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.

11. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، استيناف ودعاء مستقل، والمولى‏ هو الناصر لكن لا كل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولي الأمر، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾

12. هذا الدعاء منهم يدل على أنهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لأصل الدين هم إلا في إقامته ونشره والجهاد لإعلان كلمة الحق، وتحصيل اتفاق كلمة الأمم عليه، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي يتعقب الجهاد والقتال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والإنذار، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، ويشير إلى ما به من الأهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/444.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ لأنه حكيم رحيم، وهذه الآية ترد على المجبرة؛ لأنهم إن قالوا: الكافر مكلف بالإيمان لكنه لا يستطيع الإيمان؛ خالفوا هذه الآية، وإن قالوا: إنه غير مكلف؛ لزمهم أن تعذيبه ظلم وخالفوا المعلوم من الدين، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: 62]

2. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من خير ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من شر من المعاصي والظلم ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا﴾ حكاية لدعاء الرسول والمؤمنين بعد إيمانهم بالمصير إلى الله وإيمانهم بأنه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، أو قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ من كلامه تعالى معترض بين كلام الرسول والمؤمنين؛ للتنبيه على أن قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ليس التزاماً بما ليس في وسعهم، وأنهم لم يلتزموا إلا بما في وسعهم، ونظيره قوله تعالى في (سورة الأعراف): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آية: 42]

3. ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ فقولهم: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ليس مانعاً من النسيان والخطأ؛ لأنهم بشر ينسون ويخطئون فهم يدعون الله أن لا يؤاخذهم به.

4. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ حملاً ثقيلاً يشق تحمله، كالحمل الذي يأصر حامله مكانه ولا يستطيع المشي به لثقله ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ بسبب عصيانهم واستحقاقهم للتشديد كأصحاب العجل وأصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر.

5. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ إما حقيقة لا طاقة لنا به فهو تعبد بالدعاء، كقولهم: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: 194] وإما مجاز والمقصود به صرف التكاليف الشاقة كوجوب القصاص والديون الغالبة التي يحتاج معها إلى الخروج من ماله كله لا يبقى له إلا قوت يومه وستر عورته ومسكنه الضروري، وكما لو كلفهم في وقت نزول القرآن بأمر أعظم من هذا وهم في الواقع يطيقونه، ولكنه يقال له في مجاز الكلام لا يطاق لصعوبته وثقله على النفس.

6. ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ ما صدر منا بالتوفيق للتوبة والاستغفار إن كان المراد ما يصدر في المستقبل، وإن كان المراد ما قد صدر في الماضي فهذا نفسه استغفار منه ﴿وَارْحَمْنَا﴾ طلب الرحمة يعم خير الدارين أعني يصلح له وأهم الرحمة الرحمة بصرف عذاب الآخرة، كما قال تعالى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ [الأنعام: 16] فهي الرحمة العظمى التي تتم بها السعادة.

7. في الجمع بين طلب العفو وطلب الغفران وطلب الرحمة عناية كاملة لإسقاط العقاب على ما قد صدر، وترك المعاجلة بالعقوبة على ما يصدر من الزلات حتى نتوب؛ لأن الغفران والرحمة قد يستعمل بهذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ [الكهف: 58] وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الرعد: 6]

8. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ وهذا يدل على أنهم في كمال إيمانهم المذكور مستعدون لجهاد الكفار، فليس الجهاد مما يطلبون أن لا يكلفوا به، وقولهم: ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ بمعنى: أنت المتولي لأمورنا، كما وعدتنا في قولك: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11] وقولك: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الأنعام: 40] ولكونك مولانا ومتولي حسن رعايتنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ لتنصر دينك، ويكون الدين لك وحدك، وقولهم: ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ولم يقولوا على أعدائنا؛ يشعر بأن المهم في النصر عندهم إعلاء كلمة الله وإبطال الكفر.. قال إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد عليه السلام: (دلت على وجوب جهاد الكفار والدعاء إلى الله بنصر المؤمنين على الكافرين)

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/413.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ لأنه الرحمن الرحيم، فلا يأمر عباده إلا بما يستطيعون الإتيان به، ولا ينهاهم عن شيء إلا إذا استطاعوا تركه، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من الطاعات التي قامت بها بجهدها الواعي‏ ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ من السيئات التي اندفعت فيها من خلال ضغط الغرائز في خط الانحراف مما يجعلها تواقع معصية الله من دون وعي للنتائج القاسية التي‏ تقودها إليها، وهكذا يواجه المؤمنون المشكلة في حجم العواقب الخطيرة، فيلجئون إلى الله في ابتهال وخشوع ودعاء.

2. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ من خلال أجواء اللامبالاة التي تمنعنا من الاهتمام بأوامرك ونواهيك وتسلمنا إلى السلوك العبثي الذي لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا ولا يحمل همّ المستقبل الذي يقبل عليه، فتوقعنا في الغفلة التي تنسينا ذكرك وتبعدنا عن وعي مقامك، وفي الخطأ الذي نتخبط في وحوله، وفي دروب الانحراف التي تضلّنا عن سبيل هداك.

3. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا﴾ ثقلا من التكاليف القاسية ﴿كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ من الأمم الماضية والقرون الخالية، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها وحرم عليهم بسببها ما أحلّ لهم من الطعام، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]

4. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ من التكاليف التي تمثل العقوبة على ما فعلناه من المعاصي كقتل النفس عند التوبة، الظاهر أن المراد مما لا طاقة لنا به هو الأمر الذي يصعب احتماله لأنه يكلف صاحبه جهدا عظيما، حتى يقول ـ في معرض التعبير عن ثقله الشديد عليه ـ إنه قد حمّل ما لا يطيق، وليس المقصود به ـ على الظاهر ـ ما لا يقدر عليه، لأنه لا يقبل التكليف مطلقا.

5. ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ ذنوبنا ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ خطايانا ﴿وَارْحَمْنَا﴾ برحمتك الواسعة التي لا تضيق عن أحد، بالنعم التي تغدقها علينا، والرضوان الذي تمنحنا إياه‏ ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا﴾ وولينا الذي نعيش في رعاية ولايته التي كانت أساس وجودنا وحياتنا وناصرنا في كل أمورنا ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ بالقهر والغلبة بالحجة والفتح المبين.

6. سؤال وإشكال: لماذا هذا الإعلان عن إيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه، بعد أن كانت هذه حقيقة واضحة، من موقع المعنى الذي تفرضه رساليته أو رسوليته؟ والجواب: أن من الممكن أن يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء بانطلاق الرسالة من قاعدة الإيمان العميق بها من قبل داعية الرسالة، الأمر الذي يعني تحرّك الرسول من خلال وضوح الرؤية لكل ما يدعو إليه من أفكار وما يبشر به من مفاهيم للحياة، مما يجعل للقضية بعدا روحيا ينطلق من فكره وشعوره، بالإضافة إلى مسئوليته الملقاة عليه من الله، فإن ذلك يعطي للدعوة حرارة في الكلمة والأسلوب والفكرة، ويبعث في الموقف والحركة روحا جديدة وحيوية نابضة بالإخلاص، وبذلك يختلف الوضع عما إذا كانت الدعوة منطلقة من التكليف والمسؤولية بعيدا عن الجانب الذاتي، كما يحدث في بعض الدعاة الذين ينطلقون في الدعوة من قاعدة المهنة والوظيفة من دون إيمان أو إحساس ذاتي بالحقيقة التي تفرض نفسها على الفكر والشعور، أو الذين يثيرون الناس بالأفكار والشعارات التي لا يؤمنون بها من ناحية فكرية، فهم يتحركون في الحالة الأولى من دون روح، تماما كأيّة عملية جامدة، لأن المسؤولية تقضي بذلك، فلا يستطيعون في غالب الحالات التأثير الروحي على الآخرين، لأنهم يفقدون الشعلة المقدّسة التي‏ تشرق من خلالهم في قلوب الآخرين، أما الحالة الثانية، فتتمثل بالجوانب الاستغلالية أو التجارية التي تدفع الإنسان إلى البحث عن عناصر الإثارة التي لا يقتنع بها من أجل إثارة الناس بعيدا عن جانب المصلحة الحقيقية في أمورهم العامة، إن الله سبحانه يريد أن يوحي بأنّ الرسول كان أوّل مؤمن برسالته، ليقول لنا، إنّ على الداعية أن يعمّق الإيمان في نفسه قبل أن ينطلق في رسالته، لتكون بداية خط الإيمان منطلقة من نقطة الإيمان في روحه وفكره وحياته، لأن ذلك هو سبيل الصدق الذي ينبغي للإنسان أن يعيشه في القول والعمل، وقد جاء في بعض الآيات الكريمة التأكيد على هذا الجانب في الرسول، وذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33]، وقد درج القرآن الكريم في أسلوبه التربوي على أن يقدّم للمؤمنين شخصية الرسول في صفاته وخطواته العملية كنموذج حي في التأكيد على عظمة بعض الأشياء وخطورتها، فكان يخاطب الأمة من خلال خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

7. سؤال وإشكال: لقد تحدث الله عن دعاء المؤمنين بأن لا يؤاخذهم بما أخطئوا أو عصوا فيه عن نسيان، مما يعني أن النسيان قد يقتضي المؤاخذة، مع أن الناسي غافل لا يمكن توجيه التكليف إليه، فكيف يمكن أن يعاقب على ذلك!؟ والجواب: أن النسيان قد يصدر من حالة غير طبيعية أو اختيارية، فتلك لا يؤاخذ عليها الإنسان، بل يؤاخذ على اللامبالاة في‏ تكاليفه الشرعية الذي أدى إليها ترك التحفظ عن النسيان، ففي مثل ذلك، قد يكون الترك اختياريا باختيارية مقدماته، وذلك إذا أوجب الله عليه التحفظ عن النسيان بالتحفظ عما يوجبه، فيكون رفع المؤاخذة عنه برفع وجوب التحفظ عليه.. وقد تحدّث الأصوليون عن هذا الموضوع تفصيليا في مناقشتهم لحديث الرفع المشهور.

8. سؤال وإشكال: كيف يطلب المؤمنون من الله أن لا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به، في الوقت الذي نعرف فيه قبح التكليف بغير المقدور، ولا يمكن صدور القبيح من الله، فلا يمكن أن يحمّلهم الله إيّاه ليطلبوا رفعه عنه؟ والجواب: أن من الممكن أن يكون المراد به ما لا يطاق بحسب العادة لا بحسب الحقيقة، وهو الذي يقترب من مفهوم الحرج الشديد، ويمكن أن يكون إشارة إلى العذاب الذي لا يطاق، لا إلى التكليف؛ والله العالم.

9. إن الله قد قرّر في هذه الآية ـ بأسلوب الجملة الاعتراضية ـ الحقيقة الإلهية المستمدة من عدل الله تعالى، وهي أن الله لا يكلف الإنسان إلا بمقدار طاقته ووسعه.. وفي هذا النطاق الذي تتحرك من خلاله القدرة، يواجه الإنسان المسؤولية، فله الثواب من الله بما كسبه من طاعة وخير، وعليه العقاب مما اكتسبه من معصية وشر، وفي ضوء ذلك، كان الدعاء يتحرك في أجواء الحالات التي يشعر فيها الإنسان بالحاجة إلى المغفرة، أو التي يشعر فيها بالحاجة إلى أن يبقى التكليف في نطاق القدرة.

10. ربما نستوحي من هذه الآية أنها تمثل التلخيص للأجواء العقيدية والعملية والروحية التي أثارتها سورة البقرة في آياتها العقيدية والقصصية والتشريعية والإيمانية، في هدفها الكبير من صنع الشخصية المسلمة المؤمنة على أساس هذه الصورة، وبذلك يلتقي آخر السورة بأوّلها في الحديث عن المؤمنين في صفاتهم وتطلعاتهم وأعمالهم، وفي الإيحاء بأن الحديث عن الإيمان والمؤمنين ليس مجرّد حديث يعيش في الخيال الروحي والفكري، بل هو حديث عن حقيقة حيّة تحركت مفاهيمها في الواقع، فاستطاعت أن تجسد الصورة في الفرد وفي المجتمع، في النموذج الأمثل الأعلى المتمثل بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وفي النماذج المتنوعة الجيّدة المتجسدة في شخصيات المؤمنين الذين رافقوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أو الذين جاؤوا من بعده، وربما كان في الحديث عن الموضوع، كواقع حيّ متحرك، إيحاء للعاملين بالتحرّك في دعوتهم إلى الله على الأساس الواقعي الذي يحوّل المفاهيم إلى مواقف ونماذج وأوضاع حيّة، ولا يتركها مجرد مفاهيم تتحرك فيها الكلمات وتلتهب من خلالها المشاعر، فإن قيمة الدعوة تتمثل بمقدار ما تتجسد في الحياة عقيدة وشعورا وخططا عملية لهذه الحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/191.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كما تقدّم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلّقان بالأشخاص الّذين استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ الله تعالى مطّلع على نيّاتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منّا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبيّة، فالآية الكريمة تقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، (الوسع) لغة تعني القدرة والاستيعاب، وعليه فإنّ الآية تؤيّد الحقيقة المنطقيّة القائلة أنّ التكاليف والفرائض الإلهيّة لا تتجاوز طاقة الأفراد وميزان تحملّهم‏ إطلاقا، لذلك يمكن القول بأنّ كلّ الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان، ومن البديهي أنّ المشرّع الحكيم والعادل لا يمكن أن يضع قانونا على نحو آخر، كما أنّ الآية تؤكّد أنّ الأحكام الشرعيّة لا تنفصل أبدا عن أحكام العقل والحكمة، بل هي متواكبة معها في كلّ المراحل.

2. ثمّ تضيف الآية ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، أجل فإنّ كلّ شخص يحصد ما جنته يداه حسنا كان أم سيئا، وسيواجه في هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج وعواقب هذه الأعمال، فالآية تنبّه الناس إلى مسئولياتهم وعواقب أعمالهم، أو تفنّد الأساطير التي تبرئ بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسئولين عن أعمال الآخرين دون دليل.

3. تجدر الإشارة إلى أنّ الآية تطلق على الأعمال الصالحة اسم (الكسب) وعلى الأعمال السيّئة اسم (الاكتساب)، ولعلّ السبب هو أنّ (الكسب) يستعمل بالنسبة إلى الأمور التي يحقّقها المرء برغبة داخلية وبلا تكليف وهي تناسب فطرته، بينما (الاكتساب) هو النقطة المقابلة للكسب، أي الأعمال التي تنافي الفطرة وطبيعة الإنسان، يفهم من هذا أنّ الأعمال الصالحة مطابقة لمسيرة الفطرة وطبيعة الإنسان، بينما أعمال الشرّ تخالف الفطرة والطبيعة، أمّا الراغب الأصفهاني في (مفرداته) فيرى رأيا غير هذا وجدير بالملاحظة يقول: الكسب ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال، ويقال فيما أخذه لنفسه ولغيره (كأعمال الخير التي لا تقتصر فائدتها على الفاعل وحده، بل قد تعمّ الأقارب وغيرهم) في حين أنّ الاكتساب لا يقال إلّا فيما تعود نتائجه على الفاعل نفسه، وهو الذنب، هذه الاختلافات في المعنى تصلح طبعا عندما تستعمل الواحدة في قبال الأخرى.

4. ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، لمّا كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال صالحة أو سيئة بموجب قانون (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) لذلك يتضرّعون ويخاطبون الله بلفظ (الرب) الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين: إذا كنّا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.

5. سؤال وإشكال: لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسيانا أو خطأ؟ فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب؟ والجواب: لا بدّ من القول بأنّ النسيان يكون أحيانا من باب التماهل والتساهل من جانب الإنسان نفسه، بديهيّ أنّ هذا النوع من النسيان لا يضع المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وعليه فإنّ النسيان الناشئ عن التساهل يوجب العقاب، ثمّ لا بدّ من ملاحظة أنّ هناك فرقا بين النسيان والخطأ، فالخطأ يقال عادة في الأمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيدا فتصيب رصاصته إنسانا فتجرحه، أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنّه ينسى كيف يقوم بذلك، كأن يعاقب المرء إنسانا برئيا ظنّا منه أنّه المذنب، لنسيانه مميّزات المذنب الحقيقي.

6. ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، (الإصر) عقد الشيء وحبسه، وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة، وكذلك العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان، ولهذا تطلق هذه الكلمة على العقاب أيضا، وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله، وهذا هو ما ورد على لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم‏ بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال (بعثت بالشريعة السهلة السمحة)

7. سؤال وإشكال: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلما ذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها؟ والجواب: تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر.

8. في الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الامتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق‏ ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، ونرى في الفقرة السابقة صيغة ﴿لَا تَحْمِلُ﴾، وهنا نرى عبارة ﴿لَا تَحْمِلُ﴾، فالأولى تستعمل عادة في الأمور الصعبة، والثانية فيما لا يطاق.

﴿فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا﴾ (عفا) بمعنى أزال آثار الشيء، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار الإثم، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات، أمّا (الغفران) فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسّه العذاب عقوبة على ذنبه، وعليه، فإنّ استعمال الكلمتين يفيد أنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم، لكي لا تصيبهم عواقبها السيّئة، كما أنّهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها، وفي المرحلة الثالثة يطلبون (رحمته الواسعة) التي تشمل كلّ شيء.

9. ﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.

10. في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلّها، وهما تهدياننا إلى روح التسليم أمام ربّ العالمين، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلّاتهم وأن ينصرهم على الأعداء كافّة، فلا بدّ لهم أن ينفذوا برنامج (سمعنا وأطعنا) أن يقولوا: إنّنا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكلّ جوارحنا وإنّنا متّبعوها، ولن ندخّر وسعا في حثّ السير على هذا السبيل، وعندئذ لهم أن يطلبوا الانتصار على الموانع والأعداء.

11. إنّ تكرار كلمة (ربّ) أي الذي يلطف بعباده ويربّيهم يكمل هذه الحقيقة.

12. ولهذا حثّنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين، وبيّنوا ما فيهما من أبواب الثواب، فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرّد ألفاظ تجري على اللسان، تغدو حينئذ برنامجا حياتيا، فإنّ تلاوتهما تربط بين القلب وخالق الكون، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملا على التحرّك والنشاط.

13. يستفاد جيّدا من هذه الآية أنّ (التكليف بما لا يطاق) لا يوجد في الشريعة المقدّسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الأخرى، والأصل هو حريّة الإنسان‏ وإرادته لأنّ الآية تقول: أنّ كلّ إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة، فما عمله من حسنات فسيعود إليه، وما ارتكبه من سيئات فعليه، ومن هذا المنطلق يكون طلب العفو والمغفرة والصفح، وهذا المعنى يتطابق تماما مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح، لأنّ الله تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلّف العباد بما لا طاقة لهم به، وهذا بنفسه دليل على نفي مسألة الجبر، فكيف يحتمل أنّ الله تعالى يجبر العباد على ارتكاب الذنب والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه!؟ ولكنّ التكاليف الشاقّة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف بني إسرائيل الشاقّة، وهذه التكاليف أيضا ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما ارتكبوه من آثام.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/367.