...
63. نعمة الرسول وشكرها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈42⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 151 ـ 152] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن سلام:
روي عن عبد الله بن سلام (ت 43 هـ) أنّه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، ما الشكر الذي نبغي لك ؟ قال لا يزال لسانك رطبا من ذكري: فإنا نكون من الحال إلى حال نجلك أن نذكرك عليها، قال ما هي ؟ قال الغائط، وإهراقة الماء من الجنابة، وعلى غير وضوء، قال كلا، قال يا رب، كيف أقول ؟ قال تقول: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت؛ فجنبني الأذى، سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت؛ فقني الأذى(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٣/٢١٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ يقول الله: ذكري لكم خير من ذكركم لي(1)..
2. روي أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ ذكر الله إياكم أكثر من ذكركم إياه(2)..
3. روي أنه قال: أوحى الله إلى داوود عليه السلام: قل للظلمة لا يذكروني؛ فإن حقا علي أذكر من ذكرني، إن ذكري إياهم أن ألعنهم(3)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٠.
(3) ابن أبي شيبة في المصنف: ١١/١٣.
ابن عمر:
روي عن مكحول الأزدي: قلت لابن عمر (ت 74 هـ): أرأيت قاتل النفس، وشارب الخمر، والزاني، يذكر الله، وقد قال الله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ قال إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُم﴾، يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(1)..
2. روي أنه قال: إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره، يعني: قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٥.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء(1)..
__________
(1) تفسير البغوي: ١/١٦٧.
النهدي:
روي عن أبي عثمان النهدي (ت 95 هـ) أنّه قال: إني لأعلم حين يذكرني ربي، قالوا: وكيف ذاك ؟ قال إن الله يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾؛ فإذا ذكرت الله ذكرني(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٩/٤١٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنه قال: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُم﴾ كما فعلت فاذكروني(1)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ اذكروني فيما افترضت عليكم؛ أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الملك ينزل الصحيفة أول النهار وأول الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم، فاعملوا في أولها خيرا وفي آخرها خيرا، يغفر لكم ما بين ذلك ـ إن شاء الله ـ فإن الله قال ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/67.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: (﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾: معناه اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السدي:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله؛ لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٩٦.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ إن الله ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٩٥.
ابن قيس:
[عمرو بن قيس] عمرو بن قيس (ت 146 هـ): أوحى الله إلى داوود: إنك إن ذكرتني ذكرتك، وإن نسيتني تركتك، واحذر أن أجدك على حال لا أنظر إليك فيه(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: أحمد في الزهد.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه سئل: أيكون الرجل مؤمنا قد ثبت له الايمان ثم ينقله الله بعد الايمان إلى الكفر ؟ قال: إن الله هو العدل، وإنما بعث الرسل ليدعوا الناس إلى الايمان بالله، ولا يدعو أحدا إلى الكفر، قيل: فيكون الرجل كافرا قد ثبت له الكفر عند الله فينقله الله بعد ذلك من الكفر إلى الايمان ؟.. قال: الله عزوجل خلق الناس على الفطرة التي فطرهم الله عليها، لا يعرفون إيمانا بشريعة، ولا كفرا بجحود، ثم ابتعث الله الرسل إليهم يدعونهم إلى الايمان بالله حجة لله عليهم، فمنهم من هداه الله ومنهم من لم يهده(1)..
2. روي أنه قال: بعث الله مائة ألف نبي وأربعة وأربعين ألف نبي ومثلهم أوصياء بصدق الحديث وأداء الامانة والزهد في الدنيا، وما بعث الله نبيا خيرا من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا وصيا خيرا من وصيه(2)..
__________
(1) علل الشرائع: 51.
(2) بحار الأنوار: 11/60.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال (﴿وَيُزَكِّيكُم﴾ ويطهركم من الذنوب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ القرآن، ﴿وَيُزَكِّيكُم﴾ يعني: ويطهركم من الشرك والكفر(1)..
2. روي أنه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ يقول: فاذكروني بالطاعة؛ ﴿أَذْكُرْكُم﴾ بخير(1).
3. روي أنه قال: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ اشكروا الله تعالى في هذه النعم، لا تكفروا بها؛ لقوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُم﴾ إلى آخر الآية(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٠.
أبو الجلد:
روي عن أبي الجلد أنّه قال: قرأت في مساءلة موسى عليه السلام أنه قال يا رب، كيف لي أن أشكرك، وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله ؟ فأتاه الوحي: أن يا موسى، الآن شكرتني(1).
__________
(1) أحمد في الزهد: ص٧٢.
أبو حازم:
روي عن أبي حازم، أن رجلا قال له: ما شكر العينين ؟ قال إن رأيت بهما خيرا أعلنته، وإن رأيت بهما شرا سترته، قال فما شكر الأذنين ؟ قال إن سمعت خيرا وعيته، وإن سمعت بهما شرا أخفيته، قال فما شكر اليدين ؟ قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقا لله تعالى هو فيهما، قال فما شكر البطن ؟ قال أن يكون أسفله طعاما، وأعلاه علما، قال فما شكر الفرج ؟ قال كما قال الله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم﴾ إلى قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: ٦ ـ ٧، والمعارج: ٣٠ ـ ٣١]، قال فما شكر الرجلين ؟ قال إن رأيت حيا غبطته؛ استعملت عمله بهما، وإن رأيت ميتا مقته؛ كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله تعالى، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه؛ فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر(1)..
__________
(1) ابن أبي الدنيا، والبيهقي: ٤٥٦٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنه قال: الشكر يأخذ بجرم الحمد وأصله وفرعه، فلينظر في نعم من الله في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله، حق على العبد أن يعمل بالنعم اللاتي هي في يديه لله تعالى في طاعته، ونعم أخرى في الرزق، وحق عليه أن يعمل لله فيما أنعم به عليه من الرزق في طاعته، فمن عمل بهذا كان أخذ بجرم الشكر وأصله وفرعه(1).
__________
(1) ابن أبي الدنيا.
الفضيل:
روي عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ اذكروني بطاعتي؛ أذكركم بمغفرتي لكم(1).
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان: ٢/٥٨٠.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بلغنا: أن الله تعالى قال أعطيت عبادي ما لو أعطيته جبرئيل وميكائيل كنت قد أجزلت لهما؛ قلت: اذكروني أذكركم، وقلت لموسى: قل للظلمة لا يذكروني؛ فإني أذكر من ذكرني، فإن ذكري إياهم أن ألعنهم(1)..
2. روي أنّه سئل: ما حد الزهد ؟ قال أن تكون شاكرا في الرخاء، صابرا في البلاء، فإذا كان كذلك فهو زاهد، قيل لسفيان: ما الشكر ؟ قال أن تجتنب ما نهى الله عنه(2)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢١.
(2) البيهقي في الشعب: ٤٤٣٨.
الداراني:
روي عن سليمان الداراني (ت 212 هـ) أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ معناه: اذكروني بطاعتي؛ أذكركم برحمتي وثوابي(1)..
__________
(1) البيهقي في الزهد الكبير: ص٧٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا﴾ حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام؛ إذ هو حرف عطف ونسق، وهو:
أ. كما أرسلنا إليكم رسولا، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.
ب. ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير: كأنه قال فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وذلك في القرآن كثير.
ج. قال الفراء: يحتمل: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم، فيكون فيه جوابه؛ لذلك جزم، وهذا كقول الرجل: كما أحسنت فأحسن.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾:
أ. قال ابن عباس: يأخذ زكاة أموالكم.
ب. وقيل: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها، وهو التوحيد.
3. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ هو القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾، قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: (الحكمة): الفقه.
ب. وقيل: (الحكمة): الحلال والحرام.
ج. وقيل: (الحكمة): السنة.
د. وقيل: (الحكمة) المواعظ.
هـ. وقيل: (الحكمة): هي الإصابة؛ ومنه سمى الحكيم حكيما؛ لأنه مصيب.
و. وقال الحسن: ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾: واحد، وهو على التكرار؛ كقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 1]، وهما واحد.
4. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من التوحيد والشرائع، والمحاجة مع الكفرة، وما أكرمهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما أنعم عليهم من أنواع النعم.
5. ﴿رَسُولًا مِنْكُمْ﴾: خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك، كقوله: ﴿لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: 157]، فمنّ عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، وكفى بهم فضلا، وقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [فاطر: 42].
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾:
أ. قيل: فَاذْكُرُونِي بالطاعة في الدنيا، أَذْكُرْكُمْ في الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.
ب. وقيل: اذكروني في الرخاء والسعة، أذكركم في الضيق والشدة.
ج. وقيل: اذكروني في الخلوات، أذكركم في ملأ الناس وأذكركم في ملأ من الملائكة.
د. ويحتمل: اذكروني بالشكر بما أنعمت عليكم، أذكركم بالزيادة عليها.
7. ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أي وجهوا شكر نعمتي إلىّ، ولا تشكروا غيرى.
ب. ويحتمل: واشْكُرُوا لِي: أي وجهوا العبادة إلىّ، ولا تَكْفُرُونِ: ولا تعبدوا غيرى.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/595.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ يعني من العرب ﴿رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ يعني القرآن، ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: يعني يطهركم من الشرك.
ب. الثاني: أن يأمركم بما تصيرون به عند الله أزكياء.
2. قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: القرآن.
ب. الثاني: الإخبار بما في الكتب السالفة من أخبار القرون الخالية.
3. في قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: السنّة.
ب. الثاني: مواعظ القرآن.
4. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ يعني من أحكام الدين وأمور الدنيا.
5. في قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: اذكروني بالشكر أذكركم بالنعمة.
ب. الثاني: اذكروني بالقبول أذكركم بالجزاء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/209.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. التشبيه بقوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ان النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة، لان الله لطف بعباده بها على ما يعلم من المصلحة، ومحمود العاقبة.
ب. الثاني ـ الذكر الذي أمر الله به كالنعمة بالرسالة فيما ينبغي ان يكون عليه من المنزلة في العظم والإخلاص لله، كعظم النعمة، وهو على نحو قوله: ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ والعرب تقول: الجزاء بالجزاء، فسمي الاول باسم الثاني للمقابلة، والتشبيه لكل واحد منهما بالآخر.
2. ما: في قوله: ﴿كَمَا﴾ مصدرية. كأنه قال كإرسالنا فيكم ويحتمل أن تكون كافة قال الشاعر:
çأعلاقة أم الوُليد بعد ما...أفنان رأسك كالثغام المخلسé
لأنه لا يجوز كما زيد يحسن اليك، فأحسن الى أبنائه، والعامل في قوله ﴿كَمَا﴾ يجوز أن يكون أحد أمرين:
أ. أحدهما ـ الفعل الذي قبله: وهو قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ﴾، وهو أحد قولي الفراء، والزجاج واختاره الجبائي.. وابن أبي يحتج بأحد قولي الفراء، والزجاج، واختيار الزجاج، وقال الفراء: لاذكروني جوابان: أحدهما ـ (كما)، والآخر ـ أذكركم، لأنه لما كان يجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، أشبه ـ من هذا الوجه ـ الجواب، لأنه يجب للثاني فيه بوجوب الأول.
ب. الثاني ـ الفعل الذي بعده: وهو فاذكروني ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾، وهو قول مجاهد والحسن.
3. قوله تعالى: ﴿يُزَكِّيكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: معناه يعرّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله واتباع مرضاته.
ب. ويحتمل أن يكون المراد: ينسبكم إلى أنكم أزكياء شهادة لكم بذلك، ليعرفكم الناس به.
4. قوله تعالى: ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: لاختلاف الفائدة في الصفتين وإن كانتا لموصوف واحد. كقولك: هو العالم بالأمور القادر عليها.
ب. ويحتمل أن يكون أراد بالكتاب: القرآن، وبالحكمة: الوحي من السنة.
5. الكاف في قوله: (فيكم) خطاب للعرب ـ على قول جميع أهل التأويل.
6. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ﴾ معناه ما لا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع، فذكرهم الله بالنعمة فيه، ويكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل تابعاً للنعمة فيه، ولا سيما إذا أوقع موقع اللطف.
7. معنى الإرسال: هو التوجه بالرسالة والتحميل لها ليؤدي الى من قصد، فالدّلالة والرّسالة جملة مضمنة بمن يصل اليه ممن قصد بالمخاطبة.
8. التلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق في الرتبة.
9. التزكية: النسبة الى الازدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة، ويقال أيضاً على معنى التعريض لذلك بالاستدعاء اليه واللطف فيه.
10. الحكمة: هي العلم الذي يمكن به الافعال المستقيمة.
11. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ الذّكر المأمور به في الآية، والموعد به، قيل فيه أربعة أقوال:
أ. أحدها ـ قال سعيد بن جبير (اذكروني) بطاعتي (أذكركم) برحمتي.
ب. الثاني ـ (اذكروني) بالشكر (أذكركم) بالثواب.
ج. الثالث ـ (اذكروني) بالدعاء (أذكركم) بالإجابة.
د. الرابع ـ (اذكروني) بالثناء بالنعمة (أذكركم) بالثناء بالطاعة.
12. الذّكر: حضور المعنى للنفس، فقد يكون بالقلب، وقد يكون بالقول، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس، وفي اكثر الاستعمال يقال: الذكر بعد النسيان، وليس ذلك بموجب إلا ان يكون إلا بعد نسيان، لان كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الحضور بالبال: ذاكر له، وأصله التنبيه على الشيء. فمن ذكّر ناسياً، فقد نبّهه عليه، وإذا ذكّرناه نحن فقد نبهّنا عليه، والذكر نقيض الأنثى ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ﴾ أي شرف لك من النباهة والجلالة، والفرق بين الذكر، والخاطر. أن الخاطر: مرور المعنى بالقلب، والذكر قد يكون ثابتاً في القلب، وقد يكون بالقول.
13. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ معناه اشكروا لي نعمتي فحذف، لان حقيقة الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ فيه حذف، وتقديره: ولا تكفروا نعمتي، لان الكفر هو ستر النعمة وجحدها. لا ستر المنعم، وقولهم حمدت زيداً، وذممت عمراً، فلا حذف فيه وإن كنت انما تحمد من اجل الفعل الحسن، وتذم من اجل الفعل القبيح. كما أنه ليس في قولك: زيد متحرك حذف، وإن كان إنما تحرك من أجل الحركة، وليس كل كلام دال على معني غير مذكور يكون فيه حذف، لأن قولك زيد ضارب دالّ على مضروب، وليس بمحذوف، وكذلك زيد قاتل دال على مقتول، وليس بمحذوف، فالحمد للشيء دلالة على انه محسن، والذم له دلالة على انه مسيء كقولك: نعم الرجل زيد، وبئس الرجل عمرو، وكذلك قولك: زيد المحسن، وعمرو المسيء ليس فيه محذوف ويقال: شكرتك، وشكرت لك، وإنما قيل شكرتك، لأنه أوقع اسم المنعم موقع النعمة، فعدى الفعل بغير واسطة والأجود: شكرت لك النعمة، لأنه الأصل في الكلام، والأكثر في الاستعمال. قال الشاعر:
çهمُ جمعوا بؤسى ونعمى عليكم...فهلّا شكرت القوم إذ لم تقاتلé
ومثل ذلك نصحتك، ونصحت لك.
14. إنما حذف (الياء) في الفواصل، لأنها في نية الوقف، فلذلك قال ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ بغير (ياء) وهي في ذلك كالقوافي التي يوقف عليها بغير ياء كقول الأعشى:
çومن شانئٍ كاشف وجهه...إذا ما انتسبت له أنكرنé
يعني أنكرني فحذف الياء.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/29.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإرسال: التوجيه بالرسالة، أرسله إرسالاً.
ب. التلاوة: القراءة، وهي ذكر الكلمة على نظام متسق، وأصله من الاتباع ومنه تلاه: تبعه.
ج. التزكية تكون بمعنى البركة والنماء، وتكون الطهارة والقُدُس يقال: زكا زرعُه أي نما وزاد، وفلان زكَّى فلانًا: مدحه وأطراه ووصفه بالطهارة، وزكَّاهُ: حملَهُ على ما له فيه التزكية.
د. الذكر: حضور المعنى للنفس، وهو على وجهين: أحدهما بالقلب، والآخر بالقول، والأول نقيض النسيان، وأصله التنبيه على الشيء، فمن ذكَّر ناسيًا فقد نبهه عليه، والذكر: الشرف أيضًا ومنه: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾.
هـ. الكفر: ستر النعمة بالجحد لها، وأصله التستر في اللغة، ثم صار في الشرع اسم ذم لمن يستحق أعظم العقاب.
و. الشكر: إظهار النعمة بالاعتراف، يقال: شكرتك وشكرت لك، كما يقال: نصحتك ونصحت لك.
2. لما ذكر الله تعالى إتمام نعمه بالقبلة والهداية عقبه بذكر الرسول؛ إذ هو من أعظم النعم، فقال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ هو خطاب للعرب ﴿رَسُولًا﴾ يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنْكُمْ﴾ نسبًا؛ لأنه من العرب، ووجه النعم عليهم بكونه من العرب ما لهم به من الشرف والذكر، ولأنه لو كان من العجم لكان العرب لا تتبعه، ففي ذلك لطف لهم في باب الدين، ولأنه أقرب إلى الأفهام.
3. اختلف في العامل في﴿كَمَا﴾ على أربعة أقوال:
أ. الأول: الفعل الذي قبله وهو قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾، ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا﴾ عن الزجاج والفراء وأبي علي.
ب. الثاني: أن إبراهيم عليه السلام دعا الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم يبين لهم الشرائع ويهديهم، فأجاب تعالى دعاءه فقال: لأنعم نعمتي ببيان الشرائع وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوته: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا﴾، عن ابن جرير.
ج. الثالث: الفعل الذي بعده وهو ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ تقديره: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً أذكركم، عن الحسن وابن نجيح ومجاهد.
د. الرابع: أنه يرجع إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ تقديره: كما أرسلنا فيكم رسولاً جعلناكم أمة وسطًا، أو كما جعلناكم أمة وسطًا أرسلنا فيكم، قال القاضي: والأول أولى؛ لأنه إذا وجد ما يتم به الكلام قبله من غير فصل فتعلقه به أولى.
4. الكاف في قوله تعالى: ﴿كَمَا﴾ كاف التشبيه، وفي وجه التشبيه قولان:
أ. أحدهما: أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة؛ لأنه تعالى يفعل الأصلح.
ب. الثاني: أن الذكر المأمور به كالنعمة بالرسالة فيما ينبغي أن يكون عليه من المنزلة في العظم، والإخلاص لله يعظم النعم.
5. ﴿ يَتْلُوعَلَيكُمْ ﴾ يقرأ عليكم معاشِرَ العرب ﴿آيَاتُنَا﴾ قيل: الحجج، وقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والزواجر، وهو من أعظَم النعم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾:
أ. قيل: يدعوكم إلى ما إذا تمسكتم به صرتم أزكياء.
ب. وقيل: يزكيكم بالثناء والمدح أي يعلم ما أنتم فينسبكم إلى ذلك.
7. اختلف في معنى يزكيكم:
أ. قيل: يطهركم.
ب. وقيل: يكثركم الله به ويؤلف بين قلوبكم ويقربكم من الزكاة التي هي النماء، عن أبي مسلم.
8. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل: هو القرآن، وجمع بين هذه الأوصاف لاختلاف المعنى، والآية: الحجة، والكتاب: المكتوب، والحكمة: ما فيه من إعلام الدين وشعائره فليس بتكرار، وقيل: يتلو مضاف إلى الرسول والمراد به الأداء.
9. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ معاني الكتاب وما يشتمل عليه، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ السنة وما لا يُعْلَمُ إلا من جهته من الأحكام، وقيل: يتلو ما ليس فيه كتاب من أصول التوحيد والعدل ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي الشرائع.
10. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من أخبار الأمم: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ قيل: لم يكن لهم كتاب ولا عِلم فعلمهم ذلك، وذلك من أعظم النعم وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك فيما يتصل بالدين، وقيل: يعلمكم الشرائع، وقيل: أخبار الأمم، وقيل جميع ذلك.
11. لما عد تعالى نعمه عقبه بالأمر بالشكر والذكر، فجعل سبحانه جميع ما عده كالعلة والسبب في وجوب شكره وذكره، والذكر يتضمن سائر العبادات بالقول والاعتقاد والأفعال، فبين أن علة وجوب شكره وأداء عباداته ما عد منْ أصول النعم، وأنه متى قاموا به ذكَرَهم، ويجب أن يكون لقوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ تعلق بما مضى، فالمراد به الثواب والإكرام، فأوجب الثواب على أداء العبادات، فقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ فيه أقوال:
أ. الأول: اذكروني بجميع ما تعبدتكم به من العبادات أذكركم بالثناء وإيجاب الثواب، عن أبي علي، وقال بعضهم: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي.
ب. الثاني: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة والإحسان في العاجل والآجل، عن أبي مسلم.
ج. الثالث: اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالطاعة.
د. الرابع: اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب والزيادة، عن الأصم.
هـ. الخامس: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي، عن ابن عباس.
و. السادس: قيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة.
ز. السابع: اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء.
ح. الثامن: قيل: اذكروني بمدارسة الكتاب والسنة وتعليمها وتعلمها أذكركم بالمدح والثناء، فيكون أمرًا بذكر الله والدعاء إلى معرفته ومعرفة رسوله وشرائعه، عن القاضي.
12. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ أي اشكروا نعمتي بالطاعة: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ بالعصيان.
13. سؤال وإشكال: إنه تعالى ذَكَرَنَا ابتداء بِخَلْقِهِ إيانا ونعمه علينا، فكيف علق ذلك بذكرنا؟ والجواب: المراد ذكره إيانا على وجه التعظيم والمدح وذلك يتعلق بالشرط.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. كمال نعمته بالرسول حيث أرسله من أشرف بيت، ومن حيث يتلو الكتاب حالاً بعد حال، ومن حيث يعلم الأحكام والسنن.
ب. فضيلة العلم.
ج. دلالة قوله: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ على بطلان قول أصحاب المعارف، إذ هو نص في الباب.
د. صحة نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم كأنه قيل: إذا كنتم قومًا لا تعرفون كتابًا، ولا تعلمون علمًا فَمُحَمَّد منكم ليس بصاحب كتاب، أتاكم بالآيات يتلو عليكم بلسانكم وعجزتم عن الإتيان بمثله، وفيه أنباء الأمم والتنبيه على صحة الأحكام والشرائع، فذلك حجة على نبوته ونعمة عليكم، ذكره الأصم.
هـ. أن مَنْ ذَكَرَ الله تعالى فالله تعالى يذكره، وعن ابن عباس: من ذكر الله تعالى من أهل طاعته ذكره الله بخير، ومن ذكره من أهل معصيته ذكره الله تعالى باللعنة.
و. أن جميع العبادات تدخل في الذكر لذلك أوجب ذكره، ولأنه متى نظر لمعرفة أو لحل شبهة أو عزم على طاعة أو استغفر لذنب أو أقر بالربوبية أو أثنى عليه بأنواع التسبيح أو صلى وصام وأتى سائر الشرائع فهو ذاكر له تعالى، فأما ذكره إيانا فالمراد الثواب والرحمة والجزاء.
15. مسائل نحوية:
أ. سؤال وإشكال: ﴿كَمَا﴾، هل يجوز أن يكون جوابًا؟ والجواب: نعم عند الفراء، وجعل لـ ﴿ اذكروني ﴾ جوابين: أحدهما: كما، والثاني: أذكركم، ووجه ذلك أنه وجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، أَشْبَهَ من هذا الوجه الجوابَ؛ لأنه يجب الثاني فيه بوجوب الأول.
ب. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿كَمَا﴾ ﴿مَا﴾ المصدر، كأنه قيل: كإرسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة.
ج. في قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ محذوف، وكذلك في قوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ وتقديره: اشكروا نعمتي ولا تكفروا نعمتي؛ لأن أصل الشكر إظهار النعمة لا إظهار المنعم، وأصل الكفر ستر النعمة لا ستر المنعم.
د. حذفت الياء في التواصل على نية الوقف فلذلك قيل: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ بغير ياء فهي في ذلك بمنزلة القوافي التي يوقف عليها بغير ياء، قال الأعشى:
çوَمِنْ شَانِئٍ كَاسِفٍ وَجْهُهُ... إِذا مَا اِنتَسَبْتُ لَهُ أَنكَرَنْé
والمعنى: أنكرني.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/647.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإرسال: التوجيه بالرسالة والتحميل لها ليؤدي إلى من قصد.
ب. التلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق، وأصله من الاتباع، ومنه تلاه أي: تبعه.
ج. التزكية: النسبة إلى الازدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة، ويقال أيضا على معنى التعويض لذلك بالاستدعاء إليه واللطف فيه يقال: زكى فلان فلانا: إذا أطراه ومدحه، وزكاه: حمله على ما له فيه الزكاء والنماء والطهارة والقدس.
د. الحكمة: هي العلم الذي يمكن به الأفعال المستقيمة.
هـ. الذكر: حضور المعنى للنفس، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالقول، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس، وفي أكثر الاستعمال يقال الذكر بعد النسيان، وليس ذلك بموجب أن لا يكون إلا بعد نسيان لأن كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال ذاكر له، وأصله التنبيه على الشيء، فمن ذكرته شيئا: فقد نبهته عليه، وإذا ذكر بنفسه: فقد تنبه عليه، والذكر: الشرف والنباهة، والفرق بين الذكر والخاطر أن الخاطر ما يمر بالقلب، والذكر قد يكون القول أيضا.
2. العامل في الكاف من قوله: ﴿كَمَا﴾:
أ. يجوز أن يكون الفعل الذي قبله، وهو قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ فعلى هذا لا يوقف عند قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ويكون الوقف عند قوله: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، وهو: أحد قولي الزجاج، واختيار الجبائي.
ب. ويجوز أن يكون الفعل الذي بعده، وهو قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ وعلى هذا يوقف عند قوله: ﴿تَهْتَدُونَ﴾، ويبتدأ بقوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ ولا يوقف عند قوله: ﴿تَعْلَمُونَ﴾ والثاني: قول مجاهد والحسن، وأحد قولي الزجاج.
3. اختلف في معنى التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾:
أ. على القول الأول معناه، إن النعمة في أمر القبلة، كالنعمة بالرسالة، لأن الله تعالى لطف لعباده بها على ما يعلم من المصلحة ومحمود العاقبة.
ب. على القول الثاني فمعناه: إن في بعثة الرسول منكم إليكم نعمة عليكم لأنه يحصل لكم به عز الرسالة، فكما أنعمت عليكم بهذه النعمة العظيمة، فاذكروني واشكروا لي واعبدوني أنعم عليكم بالجزاء والثواب.
4. الخطاب للعرب على قول جميع المفسرين، وقوله: ﴿رَسُولًا﴾ يعني محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿مِنْكُمْ﴾ بالنسب لأنه من العرب، ووجه النعمة عليهم بكونه من العرب، ما حصل لهم به من الشرف والذكر، وإن العرب لم تكن لتتبع رسولا يبعث إليهم من غيرهم، مع نخوتهم وعزتهم في نفوسهم، فكون الرسول منهم يكون أدعى لهم إلى الإيمان به واتباعه.
5. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أراد بها القرآن: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾:
أ. يعرضكم لما تكونون به أزكياء من الأمر بطاعة الله، واتباع مرضاته.
ب. ويحتمل أن يكون معناه ينسبكم إلى أنكم أزكياء بشهادته لكم بذلك ليعرفكم الناس به.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: الكتاب القرآن، والحكمة هي القرآن أيضا، جمع بين الصفتين لاختلاف فائدتهما، كما يقال الله العالم بالأمور كلها، القادر عليها.
ب. وقيل: أراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة الوحي من السنة، وما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام.
7. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي: ما لا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع، فذكرهم الله بالنعمة فيه، ويكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل، تابعا للنعمة فيه، ولا سيما إذا وقع موقع اللطف.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾:
أ. قيل: معناه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، عن سعيد بن جبير، بيانه قوله سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
ب. وقيل: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي، عن ابن عباس، وبيانه قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
ج. وقيل: اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، عن ابن كيسان بيانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
د. وقيل: اذكروني على ظهر الأرض، أذكركم في بطنها، وقد جاء في الدعاء: (اذكروني عند البلاء إذا نسيني الناسون من الورى)
هـ. وقيل: اذكروني في الدنيا، أذكركم في العقبى.
و. وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء، وبيانه قوله سبحانه: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وفي الخبر: (تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة)
ز. وقيل: اذكروني بالدعاء، أذكركم بالإجابة، بيانه قوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الملك ينزل الصحيفة من أول النهار وأول الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم فأملوا في أولها خيرا وفي آخرها خيرا، فإن الله يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله، فإن الله يقول: اذكروني أذكركم) وقال الربيع في هذه الآية: إن الله عز وجل ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره.
9. قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ أي: اشكروا نعمتي وأظهروها واعترفوا بها، ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ولا تستروا نعمتي بالجحود يعني بالنعمة.
10. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ مصدرية، فكأنه قال كارسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة، كما قال الشاعر:
çأعلاقة أم الوليد بعد ما... أفنان رأسك كالثغام المخلسé
فإنه يجوز كما زيد محسن إليك فأحسن إلى أسبابه.
ب. ﴿مِنْكُمْ﴾ في موضع نصب، لأنه صفة لقوله: ﴿رَسُولًا﴾ وكذلك قوله: ﴿يَتْلُو﴾ وما بعده في موضع الصفة.
ج. في قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ محذوف أي: اشكروا لي نعمتي، لأن حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة، وفي قوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أيضا محذوف، لأن الكفر: هو ستر النعمة وجحدها، لا ستر المنعم، وقولهم: حمدت زيدا وذممته لا حذف فيه، وإن كنت إنما تحمد أو تذم، من أجل الفعل، كما أنه ليس في قولك: زيد متحرك حذف، وإن كان إنما تحرك لأجل الحركة، فليس كل كلام دل على معنى غير مذكور، يكون فيه حذف، الا ترى أن قولك زيد ضارب، دل على مضرب، وليس بمحذوف.
د. الحمد للشيء دلالة على أنه محسن، والذم للشيء دلالة على أنه مسيء، كقولهم نعم الرجل زيد، وبئس الرجل عمرو، وقالوا: شكرتك، وشكرت لك، وإنما قيل: شكرتك لإيقاع اسم المنعم موقع النعمة، فعدى الفعل بغير واسطة، والأجود شكرت لك النعمة، لأنه الأصل في الكلام، قال الشاعر:
çهم جمعوا بؤس، ونعمى، عليكم... فهلا شكرت القوم إذ لم تقابلé
ومثل ذلك: نصحتك، ونصحت لك.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/429.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾، قال الزّجّاج: ﴿كَمَا﴾ لا تصلح أن تكون جوابا لما قبلها، والأجود أن تكون معلّقة بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾، وقد روي معناه عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، والآية خطاب لمشركي العرب.
2. ﴿فَاذْكُرُونِي﴾. قال ابن عباس، وابن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، وقال إبراهيم بن السّرّي: كما أنعمت عليكم بالرّسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي.
3. سؤال وإشكال: كيف يكون جواب: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ فَاذْكُرُونِي﴾، فإنّ قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ أمر، وقوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ جزاؤه؛ والجواب: أنّ المعنى: إن تذكروني أذكركم.
4. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾، الشّكر: الاعتراف بحقّ المنعم، مع الثّناء عليه.
__________
(1) زاد المسير: 1/124.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. استدلّ الله تعالى على صحة دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بوجوه، بعضها إلزامية، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله، وهو المراد بقوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130] وبعضها برهانية وهو قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ [البقرة: 136] ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الاستدلال بحكاية شبهتين لهم:
أ. إحداهما: قوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135]
ب. الثانية: استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة، وهو قول: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] وأطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وبالحق فعل ذلك، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إنكار النسخ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة، وختم ذلك الجواب بقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب.
2. الكاف في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده:
أ. فإن تعلق بما قبله ففيه وجوه:
• الأول: أنه راجع إلى قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 150] أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول.
• الثاني: أن إبراهيم عليه السلام قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾.. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129] وقال أيضاً: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128] فكأنه تعالى قال: (ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولًا إجابة لدعوة) عن ابن جرير.
• الثالث: قول أبي مسلم الأصفهاني، وهو أن التقدير: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولًا، أي كما أرسلنا فيكم رسولًا من شأنه وصفته كذا وكذا، فكذلك جعلناكم أمة وسطاً)
ب. إن تعلق بما بعده، فالتقدير: (كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يعلمكم الدين والشرع، فاذكروني أذكركم)، وهو اختيار الأصم، وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً، ولا تعلمون رسولًا، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل منكم ليس بصاحب كتاب، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء، وفيه الخبر عن أحوالهم، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة، والنهي عن أخلاق السفهاء، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال: كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلًا، فاذكروني بالشكر عليها، أذكركم برحمتي وثوابي، والذي يؤكده قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164] فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر.
3. سؤال وإشكال: هل يجوز أن يكون ﴿كَمَا﴾ جواباً ؟ والجواب: جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين: أحدهما: ﴿كَمَا﴾، الثاني: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾، ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، قال القاضي: والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى.
4. في وجه التشبيه قولان:
أ. إن قلنا لكاف متعلق بقوله ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح.
ب. إن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.
5. (ما) في قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ مصدرية كأنه قيل: كإرسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة.
6. ﴿فِيكُمْ﴾ المراد به العرب، وكذلك قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ وفي إرساله فيهم ومنهم، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.
7. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ وهو من أعظم النعم لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
8. في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أقوال:
أ. أحدها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن.
ب. ثانيها: يزكيهم بالثناء والمدح، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به، كما يقال: إن المزكي زكي الشاهد، أي وصفه بالزكاء.
ج. ثالثها: أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال ﴿إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: 86] وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم.
د. قال القاضي: وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
9. قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ ليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.
10. ﴿الْحِكْمَةَ﴾ هي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي ﴿الْحِكْمَةَ﴾ هي سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ هذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
12. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ كلفنا الله تعالى في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح:
أ. فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤوا كتابه.
ب. وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع:
• أحدها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل.
• ثانيها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده، ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم.
• ثالثها: أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له.
ج. ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، هو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمي الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله﴾ فصار الأمر بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ متضمناً جميع الطاعات، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه.
13. ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ لا بد من حمله على ما يليق بالموضع، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح، وإظهار الرضا والإكرام، وإيجاب المنزلة، وكل ذلك داخل تحت قوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ ثم للناس في هذه الآية عبارات:
أ. الأولى: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي.
ب. الثانية: اذكروني بالإجابة والإحسان، وهو بمنزلة قوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] وهو قول أبي مسلم، قال: أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين، وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء، فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة.
ج. الثالثة: اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة.
د. الرابعة: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة.
هـ. الخامسة: اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات.
و. السادسة: اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء.
ز. السابعة: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي.
ح. الثامنة: اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي.
ط. التاسعة: اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص.
ي. العاشرة: اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/123.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾:
أ. قيل: الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، المعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء، قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، أي ولأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام مثل ما أرسلنا، وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا.
ب. وقيل: هي في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم النعمة.
ج. وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني كما أرسلنا روي عن علي، واختاره الزجاج، أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به، والوقف على ﴿تَهْتَدُونَ﴾ على هذا القول جائز، وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا من المنن التي عددتها عليكم فاذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لان في ذكركم ذلك شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، فالكاف في قوله ﴿كَمَا﴾ هنا، وفي الأنفال ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ وفي آخر الحجر ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ متعلقة بما بعده .
2. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم، واصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له، وسمي الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم، ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير، وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن:
أ. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير)، ذكره أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في (أحكام القرآن) له.
ب. وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها ؟ قال يقول الله عز وجل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
ج. وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب.
د. وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته.
هـ. وقال ذو النون المصري: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شي، وحفظ الله عليه كل شي، وكان له عوضا من كل شي.
و. وقال معاذ بن جبل: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.
ز. والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة، روى ابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل)
ح. وخرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه)
3. ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، والفصيح الأول، والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات.
4. ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ نهي، ولذلك حذفت منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياء لأنها رأس آية، وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي، فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب، وقد مضى القول في الكفر لغة، مضى القول في معنى الاستعانة بالصبر والصلاة، فلا معنى للإعادة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/171.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿فِيكُمْ﴾ المراد به العرب، وكذلك قوله ﴿مِنْكُمْ﴾، وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير، فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القول أقرب.
2. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم، لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم، ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
3. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ وهو القرآن، وهذا ليس بتكرار، لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعيّ: الحكمة هي سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم، فبعث الله تعالى النبيّ بالحق، حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم، فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة، وذلك من أعظم أنواع النعم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران: 164] الآية، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [إبراهيم: 28]، قال ابن عباس يعني، بنعمة الله، محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره.
5. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ قال ابن جرير: أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم، وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح، وقال القاشانيّ: اذكروني بالإجابة والطاعة، أذكركم بالمزيد والتوالي، وهي بمعنى ما قبله، وقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ قال ابن جرير: أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته، وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، قال السمرقنديّ: أي اشكروا نعمتي: أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ولا تجحدوا هذه النعمة.
6. يقال: النعمة، في الحقيقة، هي العلم، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة، وليس بنعمة، والعلم لا يملّ منه صاحبه، بل يطلب منه الزيادة، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة، كما قصه الحراليّ، ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم، جعل، تعالى ذكره، لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم، وهزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم، وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة: أنهما شهدا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده.. والآثار في فضل الذكر متوافرة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة.
7. فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما(2).، بل كل عامل لله تعالى بطاعة، فهو ذاكر لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جبير وغيره من العلماء، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلى وتصوم، وتنكح وتطلّق، وأشباه هذا، وقال النوويّ: إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، لا عارض، وقد صنف، في عمل اليوم والليلة، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة، ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب الأذكار للنوويّ) وممن جمع زبدة ما روى فيها ابن القيم في (زاد المعاد)، وقال في طليعة ذلك: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له، وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه، فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله، وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره، ونزوله وظعنه وإقامته.
8. الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة، سماع الكف والدف، لم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر الأكابر من أئمة الدين، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعيّ: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغيير) يصدّون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله، كان نصيب الشيطان فيه أكثر، فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35]، قال ابن عباس وابن عمرم، وغيرهما من السلف: التصدية، التصفيق باليد، والمكاء مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه على استماع غناء قط، لا بكف ولا بدف ولا تواجد وكان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذا اجتمعوا، أمروا واحدا منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون.. ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58]، وقال تعالى في أهل المعرفة: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 83]، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله﴾ [الزمر: 23]، وقال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2]، فخلاف هذا السماع، من الباطل الذي نهى عنه.
9. ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته، فيتولد منه الهيبة والإجلال، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر، ولذلك قيل: ذكر النعمة شكرها، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر، فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه.
10. ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها، فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب، وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7] قال ابن عطية: اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، و(لي) أفصح وأشهر مع الشكر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/432.
(2) الكلام هنا للنوويّ.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ﴾ معشر العرب، شرفًا لكم إذ لم يكن من غيركم، ولا تقدرون أنْ تأخذوا الأحكام والوحي عن الملَك، يعني محمَّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولأتمَّ نعمتي عليكم إتمامًا شبيهًا بإرساله في الإتمام به للنِّعمة، ويجوز أنْ يعود إلى قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ [الآية: 152]، أي: اُذكروني ذكرًا مثل ذكري لكم بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولاً، فالكاف للمقابلة، وذكرُ الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبَّب.
2. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمُ ءَايَاتِنَا﴾ أي: القرآن الذي هو معجزة دائمًا لا يملُّ، ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ يطهِّركم من الشِّرك والمعاصي، أو يعلِّمكم ما تكونون به أزكياء، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن، ذكره أوَّلاً بلفظ الآيات باعتبار معانيه التي هي مدلولها، وثانيًا بالكتاب باعتبار ألفاظه، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ ما فيه من الأحكام، تخصيص بعد تعميم، أو السُّنَّة.
3. ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ من أخبار الأمم وأنبائهم والحوادث، ولم يقل: (ويعلِّمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون) بل أعاد ذكر (يُعلِّمُكُمْ) ليدلَّ على أنَّ هذا التعليم نوع آخر، ولو قلنا: ﴿مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ هو الكتاب والحكمة وعطف؛ لأنَّ تغاير الصفة كتغاير الذات، فإنَّ مفهوم ﴿مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ غير مفهوم الكتاب والحكمة، ولو اتَّحدت مأصدقًا.
4. وقدَّم التَّزكية لأنَّها تخلية عن التعليم لأنَّه تحلية ولأنَّها غاية التعليم، متقدِّمة في القصد، كما قالوا في الغاية المقصودة من الفعل: (هي أوَّل الفكر وآخر العمل)، كالماء غاية يقصد بالحفر ويحصل بعده، وقد قصد قبل الحفر.
5. وقدَّم التعليم في دعاء إبراهيم ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ [البقرة: 129] باعتبار أنَّ التزكية تحصل بعد العلم، وهو بعد التعليم، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بالقوَّة العمليَّة وتهذيبها، المتفرِّع عن تكميلها بالقوَّة النَّظريَّة، الحاصل بالتعليم المترتِّب على التِّلاوة، ووسِّطت بين التِّلاوة والتعليم إيذانًا بأنَّ كلًّا من الأمور المرتَّبة نعمة على حدة، توجب الشكر، ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم لتُوهِم أنَّ كلًّا نعمة واحدة.
6. ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ بالطَّاعة باللِّسان، وبالتَّفكر في الدَّلائل والوحدانيَّة، وبالجوارح في أنواع العبادات، ولكون الصَّلاة جامعة لذلك سمَّاها ذكرًا في قوله تعالى : ﴿فَاسْعَوِا اِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]، وحقيقة ذكر الله أنْ يُنسِيَ كلَّ شيء سواه، ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالثواب أو بالثَّناء عند ملأٍ خير من ملأ ذكرتموني عنده، وهم الملائكة كما في الحديث، عطف إنشاء على إخبار، أو مهما يك من شيء فاذكروني أذكركم، أو إنْ لم تذكروني بالطَّاعةِ لنعمتي عمومًا فاذكروني لنعمة الإرسال، أحوجَ ما أنتم إليه في وقت الفترة، وهذا أنسب لفظًا، والذي قبله أبلغ، وأساغهما حضور النِّعمِ في الحسِّ خارِجًا وفي لفظ الآي، ويجوز أنْ يُراد: فاذكروني أُثِبْكُم؛ وسمَّى الإثابة ذكرًا للجوارِ، ﴿وَاشْكُرُواْ لِي﴾ نعمتي بعبادة قلوبكم ومع ألسنتكم وجوارحكم، وذكرُ النعم جلبًا للعبادة ونفع خلق الله بها، وقدَّم الذكر لأنَّه اشتغال بالذَّات، والشُّكر اشتغال بالنِّعمة، ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ولا تستروا شأني بترك الشُّكر كأنِّي لم أنعم عليكم، وبالمعصية، والاِشتغال بحظوظ النَّفس وما لا يعني.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/261.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ أي يتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلة لكم، وتطهيركم إياه من عبادة الاصنام والاوثان، وهو البيت الذي في قلب بلادكم، وموضع شرفكم وفخركم، كما أتمها عليكم بارساله رسولا منكم، فالقبلة في بلادكم، والرسول من امتكم، والخطاب للعرب كما هو ظاهر، ثم وصف هذا الرسول بالأوصاف التي كان بها نعمة تامة، ورحمة شاملة، فقال ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ الدالة على ان ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله وهذه الآيات اعم من ان تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على اصول الدين.
2. بعد أن علمهم ما يحفظ النعم أرشدهم الى ما يوجب المزيد بمقتضى الجود والكرم، قال: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها الى ما وجدت لاجله ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أي لا تكفروا نعمي باهمالها أو صرفها الى غير ما وجدت لاجله بحسب الشرع والسنن الالهية، وهذا تحذير لهذه الامة مما وقعت فيه الامم السالفة اذ كفرت بنعم الله تعالى فحولت الدين عن قطبه الذي يدور عليه وهو الاخلاص وإسلام الوجه لله وحده والعمل الصالح المصلح للأفراد والاجتماع، وعطلت ما أعطاها الله من مواهب المشاعر والعقل والملك فلم تستعملها فيما خلقت له، وهكذا انحرفوا بكل شيء عن أصله، فسلبهم الله ما كان وهبهم تأديبا لهم ولغيرهم، ثم رحمهم بأن أرسل اليهم خاتم النبيين بهداية عامة تعرفهم وجه تلك العقوبات الالهية وتحذرهم العود الى أسبابها، وقد امتثل المسلمون هذه الاوامر زمنا قصيرا فسعدوا، ثم تركوها بالتدريج فحل بهم ما نرى كما قال ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ فاذا عادوا عاد الله عليهم بما كان أعطى سلفهم والا كانوا من الهالكين
__________
(1) تفسير المنار: 2/33.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أي ولأتمّ نعمتي عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم، وتطهيركم له من عبادة الأصنام، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالقبلة في بلادكم، والرسول من أمتكم، وهو يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق، وتهديكم إلى سبيل الرشاد، وهى تشمل آيات الكتاب الكريم وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته، وبديع تصرفه في السموات والأرض، ووجه المنة في ذلك، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم، وبذا يكون العقل مستقلا، والدين له مرشدا وهاديا.
2. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب، وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى، وكانوا أئمة الأمم التي كانت تحتقر هذا الجنس، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم، فدانوا لحكمه خاضعين، واهتدوا بهديه راشدين.
3. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره.
4. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ وهى العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها، الباعث على العمل بها، ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيته، ومع أصحابه في السلم والحرب، والسفر والإقامة، في القلة والكثرة، جاءت مفصلة لمجمل القرآن، مبيّنة لمبهمه، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع، ولولا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد، والتآخي والعلم، وسياسة الأمم.
5. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر، بل طريق معرفته الوحى كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.
6. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح، وقراءة كتابي الذي أنزلته على عبدى، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتي، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به، واجتنابكم ما نهيتكم عنه، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان، وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل: (أنا عند ظن عبدى وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرّب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا) الحديث، وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
7. بعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أي واشكروا لي هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله، والثناء علىّ بالقلب واللسان، والاعتراف بإحساني إليكم، ولا تكفروا هذه المنن التي أوليتكموها بصرفها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها، وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 2/19.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. استطرادا مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم، بإرسال هذا النبي منهم إليهم، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين؛ ويربطهم ـ سبحانه ـ به مباشرة في نهاية الحديث: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾..
2. الذي يلفت النظر هنا، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل، دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت، رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم، وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثا إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد.
3. إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾.. فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم، وأن يختار الرسول الأخير منكم، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم!
4. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾.. فما يتلو عليكم هو الحق.. والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله، وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته، فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته، ويتحدث إليهم بقوله، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه ـ سبحانه ـ منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام، وما يستقبل هذا الإفضال؟
5. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾.. ولولا الله ما زكي منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع، ولكنه أرسل رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يطهرهم، يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة، والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب.. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة، ويطهر حياتهم من الظلم والبغي، وينشر العدل النظيف الصريح، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام، ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور..
6. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.. وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه، وهي الحكمة، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وزكاهم بآيات الله.
7. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.. وكان ذلك حقا في واقع الجماعة المسلمة، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء، فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن ـ مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن ـ هو مادة التوجيه والتعليم، وكان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن ـ هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.
8. ما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين، ولو آمنت حقا بهذا القرآن، ولو جعلته منهجا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!
9. في آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلا آخر، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره، يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.. يا للتفضل الجليل الودود! الله، جل جلاله، يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئا لذكرهم له في عالمهم الصغير.. إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة.. وهم أصغر من أرضهم الصغيرة! والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير.. وهو الله.. العلي الكبير.. أي تفضل! وأي كرم! وأي فيض في السماحة والجود!
10. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه، الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء، وفي الصحيح: يقول الله تعالى: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، وفي الصحيح أيضا: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال الله عزّ وجل: (يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ـ أو قال في ملأ خير منه ـ وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة)، إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب..
11. ذكر الله ليس لفظا باللسان، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثرا ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء..
12. ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.. والشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان، والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس! والعياذ بالله!
13. مناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة، وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله، والتميز بالانتساب إليه، والاختصاص بهذا الانتساب.. وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها؛ وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفارا، وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم.. نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس، وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجودا، وجعلت لهم دورا في التاريخ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية، وكانوا بدونها ضائعين، ولولاها لظلوا ضائعين، وهم بدونها أبدا ضائعون، فما لهم من فكرة يؤدون بها دورا في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها؛ وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها، وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة.
14. تذكّر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكرها الله فلا ينساها، ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض، ولا ذكر له في الملأ الأعلى، ومن ذكر الله ذكره، ورفع من وجوده وذكره في هذا الكون العريض.
15. لقد ذكر المسلمون الله فذكرهم، ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة، ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه ذليل.. والوسيلة قائمة، والله يدعوهم في قرآنه الكريم: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/139.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. من تمام النعمة على المسلمين، أن الله سبحانه أرسل فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله، ويطهرهم بالإيمان من أرجاس الوثنية والشرك، ويعلمهم ما في كتاب الله من شرائع وآداب، وما في سنة الرسول من أدب وحكمة، ويفتح لهم بذلك آفاق العلم والمعرفة.
2. حقّ على المسلمين من أجل هذا أن يذكروا فضل الله عليهم، وأن يحمدوه ويمجدوه، ليزيدهم الله من فضله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أي اذكروني بالحمد والشكران، أذكركم بالمزيد من الفضل والإحسان.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/174.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تشبيهين للعلتين من قوله: ﴿لِأُتِمَ﴾، وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجعل الإرسال مشبها به لأنه أسبق وأظهر تحقيقا للمشبه أي إن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث (كما صليت على إبراهيم)
2. نكر (رسول) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة، فالخطاب في قوله: ﴿فِيكُمْ﴾ وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيرا لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولا بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيرا لهدايتهم، وهذا على نحو دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 129]
3. امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى: ولذلك علق بفعل ﴿أَرْسَلْنَا﴾ حرف في ولم يعلّق به حرف إلى كما في قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: 15]، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم، والمسلمون يومئذ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وعبد الله بن سلام الإسرائيلي، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزية ينالها كل من تعلّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواترا، ويسهل انتشاره سريعا.
4. الرسول: المرسل فهو فعول بمعنى المفعول مثل ذلول، ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولا آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانيا كتابا باعتبار كونه كتاب شريعة، وقد تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 129]، عبر بيتلوا لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين.
5. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التين: 4 ـ 6]، وفي الحديث: (بعثت لأتمم حسن الأخلاق)، ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة.
6. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا ويعلمكم أصول الفضائل، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم، وسيأتي أيضا عند قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 269] في هذه السورة.
7. قدمت جملة: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ على جملة: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129]، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين، فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها وبعثا لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها، فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن.
8. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك.
9. إنما أعاد قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ﴾ مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصا على المغايرة لئلا يظن أن: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ هو الكتاب والحكمة، وتنصيصا على أن ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا﴾ مفعولا لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبرا له فيضل فهمه في ذلك الترقب، واعلم أن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملا على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل.
10. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكري، وقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه ـ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 135]، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك، وفي الحديث القدسي: (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)
11. الذكر في قوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ يجيء على المعنيين، ولا بد من تقدير في قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي، أو اذكروا نعمي ومحامدي، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء، وأما ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ فهو مجاز، أي أعاملكم معاملة من ليس بمغفول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم، نحو قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110]، وحسن مصيركم في الآخرة، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى، ثم إن تعديته للمفعول أيضا على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم.
12. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقا، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ [محمد: 8] وقول النابغة:
çشكرت لك النّعمى وأثنيت جاهدا...وعطّلت أعراض العبيد بن عامرé
13. ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ نهي عن الكفران للنعمة، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير، قال ابن عرقة: (ليس عطف قوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق (أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له) فيصدق بشكره يوما واحدا فلما قال ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أفاد النهي عن الكفر دائما) اه، يريد لأن الفعل في سياق النهي يعم، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهي أخو النفي.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/48.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ولى الله تعالى نبيه إلى الكعبة، تكريما للبيت وتشريفا له ولبانيه، وأتم نعمته عليهم بالإيذان بإزالة الأصنام عنه، فعل الله تعالى ذلك لتتم الهداية كما أرسل رسولا منهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾، وفى هذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، إذ قال تعالى في ذكر دعائه: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة] فكما أجاب دعاءه عليه السلام بجعله بلدا آمنا وأن يكون مثابة للناس وأمنا أجاب دعاءه بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته.
2. يمن الله تعالى على العرب بأن جعل فيهم رسولا منهم ليقول مانا عليهم بذلك كما منّ عليهم بجعل القبلة إلى الحرم الآمن الذي قدسوه وكرموه، فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسل فيهم وهو منهم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ﴾ [التوبة]، فهو فيهم ومنهم، وهو أكثر تأليفا لقلوبهم، ورعاية لنفوسهم وهو الحق من ربهم كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [آل عمران]
3. تلاوة الآيات التي جاءت في قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ﴾، تلاوة الآيات هنا أي القرآن بقراءته في ترتيل وفهم، وإدراك لمعانيه، وإجابة لأمره، واعتبار بقصصه، وذلك عبادة.
4. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي تعليمهم علم القرآن من بيان للصلاة والزكاة والحج والصوم وأحكام الأسرة، وأحكام الحرب وما يحل فيها وما يحرم، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وآداب وأخلاق المسلم فهو مأدبة الله تعالى، وهو سجل المعجزات التي جاء بها الرسل من عهد نوح إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام.
5. الحكمة هي الشريعة، وما فيها من إصلاح بين الناس، وإقامة للعلاقة الإنسانية، وفسرها الشافعي بأنها السنة وقد بيناها عند ذكر قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ [البقرة]
6. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهركم من أرجاس الجاهلية ومآثمها كوأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر بله عبادة الأوثان والأنصاب، وينمى فيهم قوة الخلق والشكيمة ويوجهها نحو مكارم الأخلاق.
7. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ علمهم الله علما لم يكونوا يعلمونه من قبل؛ علمهم علم النبوة، وعلمهم علم البعث والنشور والقيامة والحساب، وعلمهم علوما تنفعهم في الحياة الدنيا، وتزودهم بالخير في الآخرة، وعلمهم مكارم الأخلاق وعلمهم تنظيم الدولة، وقيام حكم صالح يستظل في ظله البر والفاجر، وعلمهم العدالة والامتناع عن الظلم.. وأخيرا علمهم علم الإسلام، وقد جمعه تعالى في قوله جلت حكمته: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل] وجعل منهم دولة الإسلام الفاضلة التي لم تر الإنسانية لها نظيرا من يوم أن خلق السموات والأرض.
8. بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب، وفى الإنسانية كلها، وإن ذلك يقتضى أن يشكر صاحب هذه النعم ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم]؛ ولذلك قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية، وهى ما يكون قبلها سببا لما بعدها، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط، ولا بترطيب القول بذكر جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت، كما قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف] و﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف]
9. إن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم؛ اذكروني في كل حياتكم وفى قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم] روى أحمد في مسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الله تعالى: (أنا مع عبدى حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إلىّ شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلىّ ذراعا، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشى أتيت إليه هرولة)
10. ذكر الله تعالى يكون في القلب، ويبدو في العمل، فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله، وكل أعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله، وكل عمل لا يعمل إلا لحب الله تعالى، فالصانع في مصنعه، والزارع في مزرعته، والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع الناس يكون ذاكرا لله تعالى، وإن المؤمن لا يفرغ قلبه من ذكره، إذا قام بحق الله تعالى، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقى الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال].
11. ذكر الله تعالى هو الخير كله، روى ابن ماجه أن أعرابيا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علىّ فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عزّ وجل).
12. أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى؛ ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ وهنا نجد الشكر تعدى باللام، وقد قال الفراء: إن ذلك هو الأفصح، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني.. وشكر العبد لله تعالى؛ الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدى على حق غيره، وألا يؤذى، وأن يحمى الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني.. وشكر نعمة الرّجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم.
13. شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها، ولقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم].
14. إذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر، وهو الطاعات، والأخذ بالهدى المحمدي، فقد نهى عن الكفر فقال: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ والنهى عن الكفر معطوف على قوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة] ويكون معنى كفر الله تعالى عدم ذكره، وعدم معرفة حقيقة نعمه، ولكن الظاهر أن المراد النهى عن الكفر المطلق، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى، وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/463.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. المعنى العام لهذه الآية ان الله سبحانه قد أنعم بالقبلة على العرب، كما أنعم عليهم من قبل بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو منهم وفيهم، وقد أنشأهم خلقا جديدا، فطهرهم من أرجاس الشرك، ومساوئ الأخلاق، وأصبحوا بفضله أصحاب دين سماوي، وشريعة إلهية، أساسها العدل والمساواة، كما أصبحت لهم دولة بسطت جناحيها على نصف المعمورة، حتى لغتهم عظمت وارتفع شأنها بالقرآن وبلاغته.
2. ليس من شك انه لولا محمد وآل محمد لم يكن للعرب تاريخ، ولا تراث، ولا شيء سوى الوثنية وقذارتها، والجاهلية وحميتها، ووأد البنات تخلصا من نفقتها، بل ان محمدا العربي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو النعمة الكبرى على البشرية كلها، فلقد تقدمت بفضله تقدما هائلا وسريعا في ميدان العلم والحضارة، واعترف بهذه الحقيقة، وسجلها المنصفون من علماء الغرب.
3. من أجل النعم الجلى التي أنعم الله بها على العرب دعاهم الى ذكره وشكره، وحذرهم من كفران النعم والإحسان بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، أي اذكروني بالطاعة أذكركم بالأجر والثواب، واشكروني على نعمة الإسلام، وبعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو منكم وفيكم، ولا تكفروا بمخالفة الله ورسوله.. وفي الآية 7 من سورة ابراهيم: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، وقال أمير المؤمنين (ع): ما كان الله ليفتح باب الشكر، ويغلق عنكم باب الاجابة، وقال: أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقين فان وعده أصدق الوعد.
4. من بديهيات العقل الأولية ان الشكر لله واجب على كل بالغ عاقل، حتى ولو لم تنزل آية أو ترد رواية بوجوب شكره، لأنه جل وعز هو الخالق الرازق، ومعنى شكره تعالى بعد الاعتقاد بأنه المبدئ والمعيد، وانه على كل شيء قدير ان نطيع أمره ونهيه، ونفوض الأمور اليه وحده.
5. هذا، بالنسبة اليه سبحانه، أما إذا أحسن انسان لإنسان مثله بشيء مادي أو أدبي فهل على من أحسن اليه ان يشكر صاحب الإحسان، بحيث إذا لم يشكره بنحو من الانحاء يكون عاصيا مستحقا للعقاب؟.
6. ليس من شك ان شكر الإنسان المحسن على إحسانه راجح في نفسه، بل هو من شعار الطيبين الصالحين، أما الوجوب وعدم جواز الترك فلا دليل عليه، وكل ما ورد في شكر المنعم ـ غير الله والنبي وأهل بيته ـ فمحمول على الاستحباب تماما كقول الإمام أمير المؤمنين: (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه)، فان العفو عمن أساء اليك غير واجب قطعا، ولكنه مستحب اجماعا.. أما الكلمة التي تتردد كثيرا على الألسن، وهي: (من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) فإنها حكم أخلاقي لا الزامي.. والا فأية ملازمة بين شكر الخالق، وشكر المخلوق؟ أجل، ان انكار النعمة، وقولك لمن أحسن اليك: لم تحسن، محرم ـ لأنه كذب، وب الأولى تحريم الاساءة اليه، لأنها حرام بذاتها، حتى لغير المحسن.. ولكن وجوب الشكر شيء، وحرمة الكذب والاساءة شيء آخر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/239.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحة على منحة ـ وهو ذكر منه لهم ـ إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، وسوقهم إلى أقصى الكمال، وزيادة على ذلك، وهو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، وتوحيد عبادتهم، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته وطاعته، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم، وقد قال تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾، وقال تعالى ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾: إبراهيم ـ 7، والآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.
2. الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾، وهي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ الآية، وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواص تتفرع عليه، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك ـ وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، والحال أنك تذكره، وكذلك الذكر، والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى ﴿قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾، ونظائره كثيرة.
3. لو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى ﴿أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وقال: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، وقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾، وذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيئول المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، وهو النسيان، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، وبذلك يتبين صحة قول القائل: إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب.
4. لو كان لقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ ـ وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾
5. تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامة والخاصة(2)... وعن خالد بن أبي عمران، قال قال رسول الله: (من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)، وفي الحديث إشارة إلى أن المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان فإن الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتى أن من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، ولا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه وعلو كبريائه وكيفية إحاطته، وإلى ذلك تشير أيضا رواية أخرى.
6. عن أبي هند الداري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال الله: (اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ـ ومن ذكرني ـ وهو مطيع ـ فحق علي أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني ـ وهو عاص ـ فحق علي أن أذكره بمقت)، الحديث، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية وسائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/340.
(2) ذكر أحاديث سبق ذكرها، ولم يعلق عليها، ولذلك اقتصرنا على ما علق عليه.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ أي جعلنا قبلتكم التي ترضونها ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ إلى آخرها، أو جعلنا قبلتكم قبلة أبيكم إبراهيم التي رفع قواعدها ودعا عند ذلك هو وأبوكم إسماعيل أن نجعل من ذريتهما أمة مسلمة، ونبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتنا ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فكما أجبنا الدعوة في الرسول جعلنا القبلة ذلك البناء الكريم.
2. ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ في صلاتكم وغيرها ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالثواب والتكريم ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ من أجل نعمة القبلة ونعمة الرسول وإتمام النعمة والشكر بالقلب واللسان والأركان العبادة والطاعة شكراً على النعم.
3. ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ كما كفرني الجاحدون بالحياة بعد الموت من العرب الذين يزعمون أنهم على دين إبراهيم وهم كافرون بقدرة الله على إحيائهم بعد الموت وبعلمه بما ضاع في الأرض من أجسادهم، فلم تنفعهم دعواهم أنهم حنفاء ولا تعظيمهم للكعبة المشرفة، ولعلها ستكون جاهلية ينتمون فيها إلى دين محمد كما انتمى بعض أهل الجاهلية الأولى إلى دين إبراهيم ويكفرون بالله تعالى كما كفروا، فيكون هذا النهي حجة عليهم من علام الغيوب كما أنطق عيسى عليه السلام في أول كلامه للناس وهو في المهد بقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم:30]، لم يكن يخطر ببال السامعين أن بعض النصارى سيقولون أن الله هو المسيح بن مريم، ومثل هذا التجويز يعتبر لإبقاء الكلام على ظاهره، فأما لصرف الكلام عن ظاهره فلا يلتفت إليه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/213.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم يعطي الله تعالى للمسلمين الصورة الكاملة المتجسدة للنعمة التامة الشاملة في هذا الرسول العظيم الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الإنسانية في ما يتلوه من آيات الله، ويزكي ضمائر الناس وحياتهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدنيا والآخرة.. وينتهي الفصل بأمرهم لأن يذكروا الله في وجدانهم وفي ألسنتهم، وفي وعيهم لمسؤوليتهم أمامه في الحياة ليذكرهم بنعمه وعفوه وغفرانه، ودعاهم إلى أن يشكروا نعمته عليهم ولا يكفروا بها ويجحدوها لئلا يعاقبهم الله بإزالتها عنهم.
2. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ فهذه هي النعمة الكبرى التي تتفرع عنها كل النعم الصغيرة في تفاصيل التشريع، لأنه يفتح لكم الأفق الكبير الذي يطل بكم على كلّ جمالات الحقّ وروائع الإيمان.
3. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ التي توحي إليكم بكل الحقيقة الصافية، وترتفع بكم إلى الدرجات العليا من المعرفة، وتمهّد لكم سبل الحياة القويمة، وتعرّفكم ما يصلح أمركم أو يفسده، وتقربكم إلى الله وإلى الخط المستقيم للسعادة في الدنيا والآخرة.
4. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ وينمّي أرواحكم بالخير، ويربي نفوسكم على الطهر والنقاء، ويبتعد بكم عن كل الرذائل والنقائص الأخلاقية.
5. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾ الذي أنزله الله على رسوله ليكون المنهج الذي تأخذون به في كل خطواتكم في الحياة، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ التي تعرّفكم كيف تركزون أقدامكم على الصراط المستقيم وتضعون كل شيء في موضعه، فلا تخطئون في موقع، ولا تنحرفون في طريق.
6. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من فنون المعرفة في عالم الغيب والشهادة، مما لم يسبق لكم معرفته في تجاربكم الماضية.
7. ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ في كل ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهية والربوبية في ذات الله، ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشامل لله في كل حياتكم العقلية في معنى الفكر، وفي حياتكم العملية في خط الواقع، لتذكروا كل صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، ونعمه الوافرة، وآياته الكثيرة، ولتتحركوا في اتجاهه في كل موقع وموقف، فهو الذكر الذي يخرجكم من الغفلة ويفتح لكم أبواب المعرفة، لتعيشوا معه في عالم الشهود من خلال الوعي الروحي المنطلق من عالم الغيب، وهو الذكر الذي يجعل الإنسان قريبا إلى الله بروحه وجسده، ليكون الله معه في كل حال وليراه مع كل شيء وخلف كل شيء.
8. ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالرحمة والنعمة والمغفرة والرضوان، مما يجعلكم تحت رعايتي بشكل مباشر أو غير مباشر.
9. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ نعمتي التي أنعمت عليكم بالكلمة والفعل والموقف، ليكون الشكر باللسان في الكلمة المعبّرة، وبالفعل في الطاعة لله وامتثال أوامره ونواهيه، وبالموقف في موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وإعزاز الحق وإذلال الباطل، وفي غير ذلك مما يكون موقعا لرضوان الله.
10. ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ولا تجحدوا النعمة بأساليب التمرد والطغيان والمعصية، فإن ذلك يعرّضكم للغضب الإلهي والعذاب الشديد، بينما يؤهّلكم الشكر للزيادة في أعماركم وأرزاقكم وكل أوضاعكم المتصلة بكل شؤونكم في الحياة.
11. جاء كثير من الأحاديث المأثورة ـ إلى جانب المدلول الحيّ للآية في الموقف القوي أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع لله ـ لتخرج الذكر لله والشكر له من مدلوله اللفظي إلى موقف عملي يتمثل فيه ذكره بالانضباط العملي في حالات الاهتزاز النفسي التي يتعرض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الروحية والعملية، فيكون الشعور العميق بحضور الله في نفسه، من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كله، دافعا للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه، ومانعا له عن الانسياق وراء تيارات الضلال والانحراف، وهذا ما عبّر عنه الحديث المروي ـ في عدة الداعي ـ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه خرج على أصحابه، فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان)، وعن الحسن البزّاز قال (قال لي أبو عبد الله عليه السّلام: ألا أخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه (ثلاث)؟ قلت: بلى، قال إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو على معصية)
12. ليس معنى التأكيد للجانب العملي للذكر، هو التهوين من الجانب الآخر الذي يتمثل في الذكر باللسان في كلمات التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، بل قد يكون هذا مقدّمة لذاك، لأن الاستمرار في ذكر آلاء الله ونعمائه وعظمته يخلق لدى الإنسان حالة رائعة منفتحة على الله حتى ليحس به في كل شؤون حياته، مما يؤدي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كل شيء.
13. في ضوء ذلك كله، نفهم أن المقابلة بين ذكر الله لعبده وبين ذكر العبد لله تعطينا الفكرة الإسلامية التي توحي للعبد بأن استحقاقه لرعاية الله له بنعمه وألطافه، مشروط بانضباطه العملي أمام أوامره ونواهيه كما هي الحال في ميثاق الله لعباده، وعهد العباد أمام ربهم في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40].
14. نشعر في هذا التأكيد على ذكر الله في الكلمة والموقف، بأن حركة الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته، تحتاج إلى الارتباط العميق بالله، ليكون للإيمان أصالته في نفسه، فتتركز القاعدة على أساسه، وتنطلق الأعماق من خلاله بعفوية وبساطة ووعي.
15. قد نحتاج، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، إلى إفساح المجال للأساليب التربوية التي تريد صنع الشخصية الإسلامية لدى الأطفال والشباب والشيوخ، لنؤكد ذكر الله من خلال الكلمة في إطار من الوعي لمعانيها، وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التجارب اليومية لأوضاع حياته في هذا الجو المنفتح على ذكر الله، وذلك بإعطاء الدروس الفكرية والعملية من خلال موجهين واعين يعرفون كيف يحركون الكلمة في اتجاه الموقف، ويدفعون الموقف نحو الإحساس بالله..
16. الشكر، هو الدعوة الثانية التي يختم بها الله هذه الآيات، ليوجه الناس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به، وليست الدعوة لكلمة الشكر، بل هي دعوة إلى موقف الشكر، وذلك بأن يقوم بالطاعة ويجتنب المعصية، ويعبد الله كما ينبغي له، وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا؟ قال وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، وقد روي عن أبي عبد الله عليه السّلام قال (شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين)، وروي عنه، في ما رواه أبو بصير، قال قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: (هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال نعم، قلت: ما هو؟ قال يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان في ما أنعم الله عليه في ماله حقّ أدّاه)
17. هكذا يلتقي الشكر في الكلمة بالشكر في الممارسة، لتأكيد الأسلوب الإسلامي التربوي الذي لا يحوّل العلاقة بالله إلى كلمات تقليدية ربما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود، بل يبعث فيها الروح الذي يجعل منها تجسيدا حيّا للمبادئ الروحية في خطوات الإنسان العملية في كلماته وأفعاله.
18. قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن شكر الله يمتد حتى يتمثل في شكر الإنسان للناس على ما قدّموه له من خدمات في حياته الخاصة والعامة، حتى أنّ الإنسان الذي لا يشكر الناس لا يشكر الله، فقد جاء في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام أنه قال (إن الله يحب كل قلب حزين، ويحب كل عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا رب، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثم قال أشكركم لله أشكركم للناس)
19. لعلّ من المعروف لدينا أن هذا الاتجاه التربوي في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكرا لله، يتحرك في الخط الإسلامي الذي يدعو الناس إلى تشجيع المحسنين على إحسانهم، لأن من طبيعة الإنسان العامل في الخير أنه يحب أن يجد صدى عمله في مواقف الآخرين منه، وإن لم يكن ذلك عن عقدة ذاتية، فإذا لم يحصلوا على ذلك، بل وجدوا إهمالا وجحودا، كان هذا موجبا لتثبيطهم عن السير بعيدا في هذا الاتجاه، وقد ورد في وصية الإمام علي عليه السّلام لمالك الأشتر: (ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان)
20. لا يتنافى ذلك مع الروح الإسلامية التي تدعو الإنسان إلى أن يعتبر الله هو السبب الأعمق في الأشياء، فلا يملك العبد من أمره إلا ما ملّكه، لأن الله يريد ـ في الوقت نفسه ـ أن لا يغفل الإنسان دور الواسطة التي جعلها الله أداة لإيصال نعمه إليه، ولهذا أمر الإنسان بأن يشكر والدية كما يشكر ربّه في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14]..
21. قد يكون من أسباب التركيز على هذا الجانب، أنّ الإنسان عادة يحسّ بتأثير الأشياء المحسوسة لديه أو القريبة من إحساسه، فإذا لم يتأثر أو ينفعل بالخدمات المباشرة المحسوسة لديه ممن يعيش معهم، فإن ذلك يكشف عن فقدان حسّ الشكر لديه، الأمر الذي يؤدي إلى أن يفقد روح الشكر لله سبحانه في نهاية المطاف.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/95.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على النّاس وهدايتهم، وهذه الآية الكريمة ابتدأت بكلمة ﴿كَمَا﴾ إشارة إلى أن تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل منّ عليكم بنعم كثيرة ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾.
2. كلمة ﴿مِنْكُمْ﴾ قد تعني أن الرّسول بشر مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربّي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرّسول بشرا ﴿مِنْكُمْ﴾، وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال سبحانه في سورة الشعراء: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾.
3. كان هذا طبعا المرحلة الاولى من الدعوة، وفي المراحل التالية ألغيت مسائل القومية والوطن (الجغرافي)، وربّى الإسلام أبناءه على أساس مبادئ (العالميّة) كوطن، و(الإنسانية) كقومية.
4. بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نعم عادت على المسلمين ببركة هذه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشيء متواليا، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة، النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.
ب. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾، و(التّزكية) هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النّبي بفضل آيات الله يزيدكم كمالا ماديا ومعنويا، وينمّي أرواحكم، ويربّي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
ج. ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، التعليم طبعا مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن ـ كما ذكرنا ـ يقدم التربية في مواضع تأكيدا على أنها هي الهدف النهائي، والفرق بين (الكتاب) و(الحكمة) قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحي الإلهي النازل على النّبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعاليمه المسمّاة بالسنة، وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإسلامية، والحكمة إشارة إلى أسرارها وعللها ونتائجها، ومن المفسرين من احتمل أن (الحكمة) إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة من تعاليم الكتاب، وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأمور في نصابها، وصاحب (المنار) يرفض أن يكون معنى الحكمة (السنة)، ويستدل على رفضه بالآية الكريمة ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾، ونعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معا، أمّا استعمالها القرآني مقابل (الكتاب) (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها (السنة) لا غير.
د. ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة، لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيها على أن الأنبياء هم الذين بيّنوا لكم المعارف والعلوم، ولولا هم لخفي كثير من ذلك عليكم، فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإنسانية.
5. بعد استعراض جانب من النعم الإلهية في الآية، تذكر الآية التالية أن هذه النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حقّ شكر الباري تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.
6. واضح أن عبارة ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله وعباده كما يقول النّاس لبعضهم ذلك، بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني.. اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية، ذكركم لهذه الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصا ومضاء وقوّة واتحادا.
7. كذلك المقصود من (الشكر وعدم الكفران) ليس تحريك اللسان بعبارات الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدي ذلك الى زيادة الرحمة الإلهية.
8. من المؤكد أن ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، الهدف هو التوجه بكل الوجود إلى ذات الباري سبحانه، ذلك التوجّه الذي يصون الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة، ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان فحسب، ومن ذلك حديث عن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوصي به عليا قائلا: (ثلاث لا تطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف النّاس من نفسه، وذكر الله على حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله تعالى عنده وتركه)
9. لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الاقتران.. الله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/429.
64. الصبر والابتلاء والجزاء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈64⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 153 ـ 157] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
كعب:
روي عن كعب الأحبار (ت 32 هـ) أنّه قال: جنة المأوى فيها طير خضر، ترتقي فيها أرواح الشهداء، تسرح في الجنة(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٣/١٥٠.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، ترعى في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش(1)..
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٨٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته؛ لتطيب أنفسهم، فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾، وأخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشرهم، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (1).
2. روي أنّه قال: ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم﴾ مغفرة، ﴿وَرَحْمَةً﴾ ونعمة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ هم قتلى بدر وأحد، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، وذلك أنهم يقولون لقتلى بدر: مات فلان، فنزلت: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ يعني: في طاعة الله ﴿أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ عند ربهم في الجنة ﴿يُرْزَقُونَ﴾ (3).
4. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله، ورجع، واسترجع عند المصيبة؛ كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبل الهدى، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه)(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٠٤.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٢٣.
(3) أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة: ٤/٢٣١٦.
(4) الطبراني في الكبير: ١٢/٢٥٥.
ابن عمرو:
روي عن عبد الله بن عمرو (ت 65 هـ) أنّه قال: أربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة: من كان عصمة أمره لا إله إلا الله، وإذا أصابته مصيبة قال إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أعطي شيئا قال الحمد لله، وإذا أذنب ذنبا قال أستغفر الله(1)..
__________
(1) ابن أبي الدنيا في الشكر، والبيهقي: ٩٦٩٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ قد ابتلاهم الله بذلك كله، وسيبتليهم بما هو أشد من ذلك(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ فالصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾، هم أحياء في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا، ويأكلون من حيث شاءوا(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٩٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٤.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٦.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٣.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال ورفعه: (من استرجع بعد أربعين سنة؛ أعطاه الله ثواب مصيبته يوم أصيبها)(1)..
2. عن سوار بن داوود: أن سعيد بن المسيب جاء وقد فاتته الصلاة في الجماعة، فاسترجع، حتى سمع صوته خارجا من المسجد(2)..
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن أبي الدنيا في العزاء مرسلًا.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
السجاد:
روي عن الإمام السجّاد (ت 94 هـ) أنّه قال: إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون؟؛ ليدخلوا الجنة قبل الحساب: فيقوم عنق من الناس، فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلي أين، يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: وقبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا على معصية الله، حتى توفانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ في طاعة الله، في قتال المشركين، ﴿أَمْوَاتٌ﴾ يقول الله: لا تحسبهم أمواتا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ على أمر الله في المصائب، يعني: بشرهم بالجنة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِم﴾ يعني: على من صبر على أمر الله عند المصيبة ﴿صَلَوَاتٌ﴾ يعني: مغفرة من ربهم، ﴿وَرَحْمَةً﴾ يعني: رحمة لهم، وأمنة من العذاب، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ يعني: من المهتدين بالاسترجاع عند المصيبة(3)..
4. روي أنّه قال: الصبر: اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر(1)..
5. روي أنّه قال: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء قبلها: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، ولو أعطيته الأنبياء لأعطيها يعقوب، إذ قال ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٤] (4)... ولا نرى صحة هذا، لأنه معارض لعصمة الأنبياء عليهم السلام.
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٤.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٥.
(4) ابن جرير: ٢/٧٠٨ .
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ يرزقون من ثمر الجنة، ويجدون ريحها، وليسوا فيها(1)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: طفئ سراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فقيل: يا رسول الله، أمصيبة هي؟ قال: (نعم، وكل ما يؤذي المؤمن فهو له مصيبة وأجر)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ الآية، قال أرواح الشهداء طير بيض فقاقيع في الجنة(2)..
__________
(1) أورده الثعلبي: ٢/٢٣.
(2) ابن أبي شيبة في المصنف: ٥/٣٣٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إذا فاتتك صلاة في جماعة فاسترجع؛ فإنها مصيبة(1)..
2. روي أنّه قال: إن الله ـ وله الحمد لا شريك له ـ رفع عن هذه الأمة الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وأحل لهم في حال الضرورة كثيرا مما حرم عليهم، وأعطاهم خمسا: أعطاهم الدنيا قرضا، وسألهم إياها قرضا، فما أعطوه عن طيب نفس منهم فلهم به الأضعاف الكثيرة، من العشرة إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يعلم علمه إلا الله تبارك وتعالى، وذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥]، وما أخذ منهم كرها، فصبروا، واحتسبوا؛ فلهم به الصلاة، والرحمة، وتحقيق الهدى، وذلك لقوله جل وعز: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، و الثالثة: إن شكروا أن يزيدهم؛ وذلك لقوله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم﴾ [إبراهيم: ٧]، و الرابعة: أن أحدهم لو عمل من الخطايا والذنوب حتى يبلغ الكفر، ثم تاب؛ أن يتوب عليه، ويوجب له محبته؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، و الخامسة: لو أعطيها جبريل وميكائيل وجميع النبيين لكان قد أجزل لهم العطاء، حيث يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ [غافر: ٦٠] (2).
3. روي أنّه قال: إن الشهداء أحياء عند الله تعالى، تعرض أرزاقهم على أرواحهم؛ فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية؛ فيصل إليهم الوجع(3)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر، عن موسوعة ابن أبي الدنيا: ٤/٣٢.
(3) تفسير الثعلبي: ٢/٢٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ من استطاع أن يستوجب لله في مصيبته ثلاثا: الصلاة، والرحمة، والهدى؛ فليفعل، ولا قوة إلا بالله؛ فإنه من استوجب على الله حقا بحق أحقه الله له، ووجد الله وفيا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، ذكر لنا: أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض، تأكل من ثمار الجنة، وإن مساكنهم السدرة، وأن الله أعطى المجاهد ثلاث خصال من الخير: من قتل في سبيل الله حيا مرزوقا، ومن غلب آتاه الله أجره عظيما، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا(2)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن جرير: ٢/٦٩٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾: فالصّلاة من الله تعالى: رحمة، ومن الملائكة والنّاس: الدعاء.. والصّلوات: الكنائس.. وهو قوله تعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السدي:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾، يعني: القتال(1)..
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٨٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ قد كان ذلك، وسيكون ما هو أشد من ذلك(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٠٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هذا إن أخذ الله منه شيئا فصبر واسترجع(1)..
2. روي أنّه قيل له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، لكن في أبدان كأبدانهم(2)..
3. روي أنّه قال: إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون: ربنا أقم لنا الساعة، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا(2)..
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/69.
(2) الكافي، 1/64.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ معشر المؤمنين ﴿لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ مرزوقون في الجنة عند الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ بأنهم أحياء مرزوقون، ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى، في جنة المأوى(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ على هذه البلية بالجنة(2)..
4. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم﴾ يعني: مغفرة، كقوله سبحانه: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِم﴾ يعني: استغفر لهم؛ ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾ يعني: استغفارك ﴿سَكَنٌ لَهُم﴾ [التوبة: ١٠٣]، ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ للاسترجاع(2)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٠.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٥١.
مطرف:
روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه مات ابنه عبد الله، فخرج وهو مترجل، في ثياب حسنة، فقيل له في ذلك؟ فقال: قد وعدني الله على مصيبتي ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؛ قال الله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ إلى قوله: ﴿الْمُهْتَدُونَ﴾، أفأستكين لها بعد هذا!؟(1).
__________
(1) ابن سعد: ٧/٢٤٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: الصبر في بابين؛ الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ وجوه:
أ. قيل: إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره، إذا لم يبق له أحد يذكر به من نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هؤلاء: إن ذكرهم قد انقطع، فأخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم مذكورون في ملأ الملائكة.
ب. وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم..أخبر عزّ وجل: أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه.
ج. وقيل: إن الشهيد حي عند ربه، كما عرف في اللغة: أن الشهيد هو الحاضر، أخبر عزّ وجل أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.
د. وقيل: إن الحياة والموت على ضروب، فمنها: الحياة الطبيعية، والحياة العرضية، والموت الطبيعي والموت العرضي.
• فالحياة العرضية هي اليقظة، وهى الحياة بالدين، كقوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ [الأنعام: 122]، وكقوله في الحياة بالعلم، إنه ميت بالجهل.
• والحياة الطبيعية: هي التي بها قوام النفس.
• والموت الطبيعي هو الذي به فوات النفس.
• والشهادة: هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة، سمى به (حياة)
هـ. ويحتمل قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾، أي لا تقولوا ﴿أَمُوتُ﴾، لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا ﴿أَحْيَاءً﴾ لترغب أنفسكم في الجهاد، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين، مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون، فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا.
2. قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾، وقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾، قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ وما ذكر فيه تذكير من الله عزّ وجل للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب.
3. فى كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار (شيء)، من نحو ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ و﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾؛ لأن الله عزّ وجل أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ﴾ [الكهف]، أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله] دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنها في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.
4. يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين:
أ. على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.
ب. ويحتمل لا على جهة العبادة.
5. الجوع يحتمل وجوها:
أ. يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم.
ب. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين.
6. قوله تعالى: ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: و﴿نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ﴾ يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة.
ب. ويحتمل الهلاك بنفسها.
7. كذلك ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ يحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما، وكذلك ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾، ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم.
8. ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عزّ وجل، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، فيه الإقرار بوحدانيته عزّ وجل، وبالبعث بعد الموت.
9. قيل: إن هذا الحرف ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة؛ ألا ترى أن يعقوب عليه السلام على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: 84] ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة.. ولا نرى صحة هذا، لعدم كفاية الدليل.
10. الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عزّ وجل مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عزّ وجل: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23].. نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا.
11. ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾، هو على إضمار (الشيء) في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع.
12. يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين:
أ. أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.
ب. الثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه.
13. أمثلة عن ذلك:
أ. الجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلّة الإتراب وغلاء الأسعار.
ب. نقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.
ج. الأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض.
د. الثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.
14. أخبر الله تعالى أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل، دل أنه ـ عز وجل ـ لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكا وإن كان في ذلك نقصا وضررا، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم، ولا قوة إلا بالله.
15. ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ثم وصف الصابرين فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلا في ذلك الحرف، وفيه التبري من أن يكون له في حكم الله تدبيرا ورأى، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء:
أ. ﴿إِنَّا لله﴾، كأنه قال ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبدا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه، وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.
ب. ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل، وفى ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئا مما به قوامه إلى مكان قراره، وقد انتهى الخبر بالبلوغ، فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه.
16. جملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلا فانيا لينال به الدائم الباقي، فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشئ وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه، فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها.
17. سؤال وإشكال: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: 84] الآية، والجواب: والله أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن قولوا ذلك، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه، بل حققه بقوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83] وقوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]، ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87] وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت، ولا قوة إلا بالله.
18. الصلاة من الله عزّ وجل في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، تحتمل وجوها:
أ. تحتمل: الرحمة والمغفرة.
ب. وتحتمل: الصلاة منه ـ مباهاته الملائكة؛ جوابا لهم لما قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.
ج. وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم، وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم.
قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَةً﴾ يحتمل وجوها:
أ. قيل: الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار.
ب. وقيل: الرحمة: النعمة وهى الجنة.
19. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ شهد الله عزّ وجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
20. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ يبلوهم بالذي كان به عالما ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهى بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهى، فاستعملت في الأمر والنهى، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: 73]، ثم له جعل الغيب شاهدا، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائبا شاهدا، إذ هو موصوف بذلك في الأزل، ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله في الحقيقة، لكنه بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، وقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم الله في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ [الحديد: 22]، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.
21. الأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من الله وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان الله عزّ وجل ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عزّ وجل، ولا قوة إلا بالله.
22. ثم بين الله عزّ وجل ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضا بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ الآية [الأحزاب: 36]، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرا، ومعلوم أن كان ذلك حقّا لله عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرا له، مع ما كان العبد يعمل لنفسه، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لولا الإنعام منه جل ثناؤه، ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة:
أ. إحداها: أن عليه صلاته، وصلاته:
• تحتمل مباهاته الملائكة تعظيما لما بذل عبده له، وخضع لحكمه عليه، وهو أن قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ الآية [البقرة: 30]، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع.
• ويحتمل: مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [آل عمران: 157] ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171] وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: 10] إلى ما ذكر من الإفضال، والله الموفق.
• ويحتمل ثناؤه ذكرهم في أخبار عباده، كقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، وقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا﴾ الآية [آل عمران: 169]، مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].
ب. الثانية: الرحمة، قد يرجع إلى ما ذكرنا:
• وجائز أن تكون رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع.
• ويحتمل: النعمة، أو رحمة يلقيها في قلوب العباد حتى يحبونه بها، أو خلف يعطيه في الدنيا.
ج. الثالثة: ثم شهد الله لهم بالهداية، وذلك:
• يحتمل: أن يكونوا اهتدوا لدينه، ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله.
• ويحتمل: الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء، ولا قوة إلا بالله.
• وقوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11] للاسترجاع، وقد روى عن نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم)
23. في الآية وجوه من المعتبر:
أ. أحدها: ما يلزم العبد من المصائب، وما يستوجبه إذا وفى بما عليه.
ب. الثاني: في ذلك بيان أن الصحة، والأمن، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة، لكنها إنعام من الله، وله الابتلاء بأخذه؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك، والله الموفق.
ج. الثالث: أن الله تعالى ذكر أنه بلا العباد بالذي ذكر، ومعلوم أن ذلك يجرى على أيدى العباد بهم، فأضاف ذلك إلى نفسه، ثبت أن له في ذلك تدبيرا حتى يبلوهم به، والله أعلم.
د. وفيه أن الله تعالى قال: ونبلوكم بكذا، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك، وكذلك قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الآية [البقرة: 214]، ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علم ذلك بالله، وتبين أيضا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضى القرار في الطبع، لم يحتمل أن يجيزهم به لولا الأمر به وطاعة الله في ذلك.
هـ. وأيضا أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد، وكذلك قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: 101] فعلى ذلك الرجاء والطمع وجملته أن أمر الدنيا محمول كله على أسباب، لا أنها توجب ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا، والله الموفق.
و. وأيضا: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضا لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بلى بها، وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين:
• أحدهما: أن يكون الله تعالى يريد أن يحمى وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة.
• الثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك، ولا قوة إلا بالله، وإنما كذلك جعلت لمحنة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/596.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في الصبر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: الثبات على أوامر الله تعالى.
ب. الثاني: الصيام المقصود به وجه الله تعالى.
2. الاستعانة بالصلاة تحتمل وجهين:
أ. أحدهما: الاستعانة بثوابها.
ب. الثاني: الاستعانة بما يتلى في الصلاة ليعرف به فضل الطاعة فيكون عونا على امتثال الأوامر.
3. سبب قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأحد: مات فلان، ومات فلان، فنزلت الآية وفيها تأويلان:
أ. أحدهما: أنهم ليسوا أمواتا وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى، بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام.
ب. الثاني: أنهم ليسوا بالضلال أمواتا بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122] فجعل الضالّ ميتا، والمهتدي حيا.
ج. ويحتمل تأويلا ثالثا: أنهم ليسوا أمواتا بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.
4. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ يعني أهل مكة، لما تقدم من دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعلها عليهم سنين كسني يوسف حين قحطوا سبع سنين، فقال الله تعالى مجيبا لدعاء نبيه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ الخوف يعني الفزع في القتال، والجوع يعني المجاعة بالجدب.
5. قوله تعالى: ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: نقصها بالجوائح المتلفة.
ب. الثاني: زيادة النفقة في الجدب.
6. ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ يعني ونقص الأنفس بالقتل والموت، ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ قلة النبات وارتفاع البركات.
7. قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر.
ب. الثاني: وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء.
ج. الثالث: وبشر الصابرين على المصائب بالثواب، وهو أشبه لقوله من بعد:
8. ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يعني: إذا أصابتهم مصيبة في نفس أو أهل أو مال قالوا: إنا لله: أي نفوسنا وأهلونا وأموالنا لله، لا يظلمنا فيما يصنعه بنا ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يعني بالبعث في ثواب المحسن ومعاقبة المسيء.
9. ثم قال تعالى في هؤلاء: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الصلاة اسم مشترك المعنى فهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقال الشاعر:
çصلّى على يحيى وأشياعه...ربّ كريم وشفيع مطاعé
10. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي رحمة، وذكر ذلك بلفظ الجمع لأن بعضها يتلو بعضا، ثم قال ﴿وَرَحْمَةً﴾ فأعادها مع اختلافها للفظين لأنه أوكد وأبلغ كما قال ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾
11. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ وجهان محتملان:
أ. أحدهما: المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
ب. الثاني: المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/209.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصبر هو حبس النفس عما تدعو اليه من الأمور، والصابر هو الحابس نفسه عما تدعو اليه مما لا يجوز له، وهو صفة مدح.
2. وجه الاستعانة بالصبر والصلاة:
أ. وجه الاستعانة بالصبر أن في توطين النفس على الأمور تسهيلا لها، واستشعار الصبر إنما هو توطين النفس.
ب. وجه الاستعانة بالصلاة ما فيها من الذكر لله، واستشعار الخشوع له، وتلاوة القرآن وما فيه من الوعظ، والتخويف، والوعد، والوعيد، والجنة، والنار، وما فيه من البيان الذي يوجب الهدى ويكشف العمى وكل ذلك داع الى طاعة الله، وزاجر عن معاصيه، فمن هاهنا كان فيه المعونة على ما فيه المشقة من الطاعة.
3. الاستعانة هي الازدياد في القوة مثل من يريد أن يحمل مائة رطل فلا يتهيأ له ذلك، فإذا استعان بزيادة قوة تأتي ذلك، وكذلك إن عاونه عليه غيره وعلى ذلك السبب والآلة، لأنه بمنزلة الزيادة في القوة.
4. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ أي معهم بالمعونة، والنصرة، كما تقول: إذا كان السلطان معك، فلا تنال من لقيت، وقد تكون (مع) في الكلام على معنى الاجتماع في المكان، وذلك لا يجوز عليه تعالى.
5. في الآية دلالة على أن الصلاة فيها لطف، لان الله تعالى أمرنا بالاستعانة بها، وتوضيحه قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ولولا هذا النص، لجوزنا أن يكون في غير ذلك.
6. الذي يستعان عليه بالصبر والصلاة، قيل فيه قولان:
أ. أحدهما ـ طاعة الله، كأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره فيها.
ب. و الثاني ـ على الجهاد في سبيل الله، لأعدائه.
7. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ رفع لا يجوز غير ذلك عند جميع النحويين إلا المازني، فإنه أجاز يا أيها الرجل اقبل، والعامل فيه ما يعمل في صفة المنادي ـ عند جميع النحويين ـ إلّا الأخفش، فإنه يجعله صلة لأي ويرفعه بأنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل: يا من هم الذين آمنوا، إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي، وإنما حمله على ذلك لزوم البيان له، فقال: الصلة تلزم، والصفة لا تلزم، قال الرماني والوجه عندي أن تكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم، وإنما لزمت أي هاهنا في النداء، لان العرض بحرف التنبيه وقع في موضع التنبيه، فلزم، فلا يجوز أن تقول: نعم الذين في الدار، لان نعم إنما تعمل في الجنس الذي يكره إذا أضمر فسر بها.
8. سؤال وإشكال: هل الشهداء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أحياء على الحقيقة، أم معناه أنهم سيحيون وليسوا أحياء؟ والجواب:
أ. الصحيح أنهم أحياء الى أن تقوم الساعة، ثم يحييهم الله في الجنة، لا خلاف بين أهل العلم فيه إلا قولا شاذاً من بعض المتأخرين، و الأول قول الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجبائي، وابن الأخشاد، والرماني، وجميع المفسرين، واستدل ابو علي الجبائي على أنهم أحياء في الحقيقة بقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ فقال: لو كان المعنى سيحيون في الآخرة، لم يقل للمؤمنين المقرين بالبعث، والنشور ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لأنهم يعلمون ذلك، ويشعرون به.
ب. والقول الثاني حكاه البلخي، يقال: ان المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقتلون نفوسهم في الحرب لا لمعنى، فأنزل الله تعالى الآية، وأعلمهم أنه ليس الأمر على ما قالوه، وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون، ولم يذكر ذلك غيره.
ج. وقيل: ليس هم أمواتاً بالضلالة بل هم أحياء بالطاعة، والهدى، كما قال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾، فجعل الضلالة موتاً، والهداية حياة.
د. وقيل: معناه ليس هم أمواتاً بانقطاع الذكر، بل هم احياء ببقاء الذكر عند الله، وثبوت الأجر عنده.
9. سؤال وإشكال: لم خصّ الشهداء بأنهم احياء، والمؤمنون كلهم في البرزخ أحياء؟ والجواب: يجوز أن يكونوا ذكروا اختصاصاً، تشريفاً لهم، وقد يكون على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم في البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون، كما قال تعالى ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وإنما قيل للجهاد سبيل الله، لأنه طريق الى ثواب الله تعالى.
10. الموت: نقص بنية الحياة، والموت ـ عند من قال إنه معنى عرضي ـ ينافي الحياة منافاة التعاقب، ومن قال ليس بمعنى قال هو عبارة عن فساد بنية الحياة، فأما الحياة، فهي معنى بلا خلاف.
11. ﴿أَمْوَاتٌ﴾ رفع بانه خبر ابتداء محذوف، كأنه قال لا تقولوا هم أموات، ولا يجوز فيه النصب على قولك: قلت خيراً، لأن الخير في موضع المصدر كأنه قال قلت قولا حسناً، فأما قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ فيجوز فيه الرفع والنصب في العربية: الرفع على منا طاعة: والنصب على نطيع طاعة والفرق بين (بل) و(لكن) ان (لكن) نفي لأحد الشيئين، وإثبات للآخر، كقولك: ما قام زيد لكن عمرو، وليس كذلك (بل)، لأنها للأضراب عن الأول، والإثبات للثاني، ولذلك وقعت في الإيجاب كقولك: قام زيد بل عمرو، فأما إذا قصد المتكلم، فإنما هو ليدل على أن الثاني أحق بالأخبار عنه من الاول، كقولك: قام زيد بل عمرو، كأنه لم يعتد بقيام الأول.
12. الشعور: هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر، وهي الحواس، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر، ولا أنه يشعر، وإنما يوصف بأنه عالم ويعلم، وقد قيل: إن الشعور إدراك ما دقّ للطف الحسن مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه شاعر، لأنه يفطن من إقامة الوزن وحسن النظم بالطبع لما لا يفطن له غيره.
13. سؤال وإشكال: هل كون عقولهم إذا كانوا أحياء، وكيف يجوز أن يصل اليهم ثوابهم مع نقصان عقولهم؟ والجواب: الثواب لم يصل اليهم على كنهه وإنما يصل اليهم طرف منه، ومثلهم في ذلك مثل النائم على حال جميلة في روضة طيبة يصل اليهم طيب ريحها ولذيذ نسيمها على نحو ما جاء في الحديث من انه يفسح له مد بصره، ويقال له نم نومة العروس، وأما الذين قتلوا في سبيل الله، فعلى ما ذكرناه من الاختصاص بالفضيلة.
14. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يكونوا أحياء ـ ونحن نرى جثتهم على خلاف ما كانت عليه في الدنيا؟ والجواب: إن النعيم انما يصل الى الروح وهي الحية، وهي الإنسان، دون الجثة ـ والجثة كالجُنة واللباس لصيانة الأرواح، ومن زعم ان الإنسان هذه الجملة المعروفة وجعل الجثة جزء منها فإنه يقول: يلطف أجزاء من الإنسان توصل اليه النعيم، وإن لم يكن الإنسان بكماله على نحو ما ذكرنا أن النعيم لا يصل اليه نفسه.
15. اختلف في الخطاب بقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾:
أ. قيل: الخطاب متوجه الى اصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على قول عطاء، والربيع وأبي علي، والرماني.
ب. ولو قيل: أنه خطاب لجميع الخلق، لكان أيضاً صحيحاً، لأن ذلك جاز في جميعهم.
16. الابتلاء في الأصل: الطلب لظهور ما عند القادر على الأمر من خير أو شر، والابتلاء، والاختبار، والامتحان، بمعنى واحد، والابتلاء بهذه الأمور المذكورة في الآية بأمور مختلفة:
أ. فالخوف هو انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر، وكان ذلك لقصد المشركين لهم بالعداوة.
ب. والجوع كان لفقرهم وتشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش.
ج. ونقص الأموال للانقطاع بالجهاد عن العمارة.
د. والأنفس بالقتل في الحرب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
17. الجوع ضد الشبع، يقال جاع يجوع جوعاً، وأجاعه إجاعة، وجوّعه تجويعاً، وتجوّع تجوّعاً، قال صاحب العين: الجوع اسم جامع للمخمصة، والمجاعة: عام فيه جوع.
18. النقص نقيض الزيادة، قال صاحب العين: النقص الخسران في الحظ، تقول نقص نقصاً، وانتقص انتقاصاً، وتناقص تناقصاً، ونقصه تنقيصاً، واستنقص استنقاصاً، وتنقصه تنقصاً، والنقصان يكون مصدراً أو اسماً، كقولك: نقصانه كذا: أي قدر الذاهب، ونقص الشيء، ونقصته، ودخل عليه نقص: في عقله ودينه، ولا يقال: نقصان، والنقيصة: الوقيعة في الناس، والنقيصة انتقاص حق ذي الرحم، وتنقصه تنقصاً: إذا تناول عرضه، وأصل الباب النقص الحط من التمام.
19. المال معروف، وأموال العرب أنعامهم، ورجل مال: أي ذو مال، ونال: أي ذو نوال، وتقول: تمول الرجل، ومول غيره، وأصل الباب المال المعروف، والثمرة: أفضل ما تحمله الشجرة.
20. وجه المصلحة في ذلك هو ما في ذلك من الأمور المزعجة الى الاستدلال والنظر في الادلة الدالة على النبوة، وليعلم ايضاً انه ليس فيما يصيب الإنسان من شدة في الدنيا ما يوجب نقصان منزلته، ففي ذلك ضروب العبرة.
21. سؤال وإشكال: إذا كان الله قد فعل الابتلاء بهذه الأشياء، والمشركون أوقعوها بالمؤمنين ففي ذلك إيجاب فعل من فاعلين، والجواب: لا يجب ذلك، لان الذي يفعله الله تعالى غير الذي يفعله المشركون، لأن علينا ان نرضى بما فعله الله ونسخط مما فعله المشركون، وليس يقدرون على شيء مما ذكر في الآية، ولكنهم يقدرون على التعريض له بما هو محرم عليهم، وقبيح منهم.
22. فتحت الواو في لنبلونكم لأمرين:
أ. أحدهما ـ للعلة التي فتحت الراء في ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ وهو أنه بني على الفتحة، لانها أخف إذ استحق البناء على الحركة كما استحق (يا) في النداء حكم البناء على الحركة.
ب. الثاني ـ أنه فتح لالتقاء الساكنين إذ كان قبل معتلا لا يدخله الرفع.
23. انما قال: ﴿بِشَيْءٍ﴾ من الخوف ولم يقل: بأشياء لامرين:
أ. أحدهما ـ لئلا توهم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف، ويكون الجمع كجمع الاجناس للاختلاف، فقدر: شئ من كذا، وشئ من كذا، وأغني المذكور عن المحذوف.
ب. الثاني ـ أنه وضع الواحد في موضع الجمع للابهام الذي فيه كـ (من)
24. الابتلاء بما ذكر لابد ان يكون فيه لطف في الدين، وعوض في مقابلته، ولا يحسن فعل ذلك لمجرد العوض على ما ذهب اليه قوم.
25. سؤال وإشكال: الابتلاء بأمر القبلة وغيره من عبادات الشرع هل يجري مجرى الألم عند المصيبة؟ والجواب: لا، بلا خلاف هاهنا، فانه لابد ان يكون فيه لطف في الدين فإن كان فيه خلاف في الألم، لأن هذه طاعات يستحق بها الثواب، وبالإخلال بها ـ إذا كانت واجبة ـ يستحق العقاب، فلا يجري مجرى الألم المحض.
26. الصبر واجب كوجوب العدل الذي لا يجوز عليه الانقلاب ـ في الشرع ـ إذ الصبر حبس النفس عن القبيح من الأمر، وقد بينا فيما مضى ابتلاء الله تعالى العالم بالعواقب، فان المراد بذلك انه يعامل معاملة المبتلي، لأن العدل لا يصح إلا على ذلك، لأنه لو أخذهم بما يعلم أنه يكون منهم، قبل ان يفعلوه، لكان ظلماً وجوراً، فبين الله بعد، أنه يعاملهم بالحق دون الظلم.
27. الوقوف على قوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ حسن، وقال بعضهم: لا يحسن، وذلك غلط، من حيث كانت صفة مدح، وعامل الصفة في المدح غير عامل الموصوف، وإنما وجب ذلك، لأن صفة صابر صفة كصفة تقي، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
28. الجوع: الحاجة الى الغذاء، وتختلف مراتبه في القوة والضعف، وقد يقال: جوع كاذب، لأنه يتخيل به الحاجة الى الغذاء لبعض الأمور العارضة من غير حقيقة.
29. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ التبشير في الأصل هو الاخبار بما يسرّ، أو نعمة، يتغير له الشره، غير انه كثر استعماله فيما يسرّ، والصبر المحمود هو حبس النفس عما قبح من الأمر.
30. في قوله تعالى: ﴿إِنَّا لله﴾ إقرار لله بالعبودية ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فيه إقرار بالبعث والنشور، وان مآل الامر يصير إليه، وإنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة، لما فيها من الدلالة على أن الله يجزها ان كانت عدلا، وينصف من فاعلها إن كانت ظلماً، وتقديره ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾ تسليماً لأمره ورضاً بتدبيره، ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ثقة بأنا إلى العدل نصير.
31. المصيبة هي المشقة الداخلة على النفس، لما يلحقها من مضرة، وهي من الاصابة، لأنها يصيبها بالبلية.
32. معنى الرجوع الى الله: الرجوع الى انفراده بالحكم كما كان أول مرة لأنه قد ملّك قوماً في الدنيا شيئاً من الضر، والنفع لم يكونوا يملكونه، ثم يرجع الأمر الى ما كان إذا زال تمليك العباد، وأصل الرجوع هو مصير الشيء الى ما كان، ولذلك يقال: رجعت الدار الى فلان إذا اشتراها مرة ثانية، والرجوع والعود، والمصير نظائر.
33. في الآية معنى الامر لأنها مدح عام، لكل من كان على تلك الصفة بتلك الخصلة.
34. أجاز الكسائي والفراء في (إنا لله) الامالة، ولا يجوز ذلك في غير اسم الله، مثل قولك: إنا لزيد، لا يجوز إمالته، وإنما جاز الامالة مع اسم الله لكثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، وإنما لم يجز الامالة في غير ذلك، لأن الحروف كلها وما جرى مجراها لا يجوز فيها الامالة مثل (حتى) ولكن و(مما) وما أشبه ذلك، لأن الحروف بمنزلة بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي يكون في الأسماء والأفعال.
35. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إشارة إلى الصابرين الذين وصفهم الله في الآية الأولى، وقيل في معنى الصلاة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها ـ انها الدعاء، كما قال الأعشى: وصلّى على دّنها وارتسم.. أي دعا لها.
ب. الثاني ـ انها مشتقة من الصلوى مكتنفا ذنب الفرس أو الناقة، فسميت الصلاة ـ في الشرع ـ بذلك، لرفع الصلاة في الركوع والسجود.
ج. الثالث ـ قال الزجاج: إن أصلها اللزوم من قوله ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ أي تلزمها، والصلاة من أعظم ما يلزم من العبادة.
36. اختلف في معنى معنى الصلاة هاهنا:
أ. قال قوم: معنى الصلاة هاهنا: الثناء الجميل.
ب. وقيل: بركات الدعاء، والثناء يستحق دائماً، ففيه معنى اللزوم، وكذلك الدعاء يدعا به مرة بعد مرة، فقيه معنى اللزوم، والمصلي من الخيل الذي يلزم أثر السابق.
37. معنى ﴿الْمُهْتَدُونَ ﴾ يعني الى الحق الذي به ينال الثواب، والسلامة من العقاب، والرحمة: الانعام على المحتاج، وكل واحد يحتاج الى نعمة الله، والاهتداء: الاصابة لطريق الحق وهو الاصابة للطريق المؤدي الى النعمة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/34.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستعانة: طلب المعونة، وحقيقته: الازدياد في القوة، وقد يستعان بالآلات ليتهيأ الفعل فيكون كزيادة قوة.
ب. الصبر: حبس النفس عما تدعو إليه من الأمر، والصبر صفة مدح.
ج. الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: اسم لأفعال مخصوصة معلومة أولها التكبير وآخرها التسليم، فبالتكبير تدخل فيها، وبالتسليم تخرج منها.
د. السبيل: الطريق، وسبيل الله: طريق مرضاته، وعند الإطلاق يفهم منه الجهاد، سمي بذلك؛ لأنه طريق ثوابه ورحمته.
هـ. القتل نقيض الموت الذي تنتفي بوجوده الحياة، والحياة عرض يصير الجسد كالشيء الواحد حتى يصير قادرا واحدًا عالمًا واحدًا ومريدًا واحدًا، ولا خلاف بين مثبتي الأعراض أن الحياة معنى مقدور لله تعالى لا يقدر عليه غيره، واختلفوا في الموت، فقيل: هو معنى يضاد الحياة، وهو قول أكثر المشايخ، وقيل: هو بطلان الحياة، عن أبي هاشم، والأوجه الأول لقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾.
و. الشعور: ابتداء العلم، وقيل: هو إدراك صادق ولطف، ومنه يسمى الشاعر؛ ولذلك لا يقال لله تعالى شاعر، وإن قيل: عالم.
ز. الابتلاء: الاختبار والامتحان، وإذا استعمل في صفة الله تعالى فالمراد به أنه يعامل معاملة المختبر؛ لأنه عالم بالأشياء، ولا يجوز عليه أن يختبر ليعلم.
ح. البلوى مثل الابتلاء، يقال: بلوته وابتليته: اختبرته، والبلاء الاختبار أيضًا، ويكون بالخير والشر.
ط. الجوع: المخمصة وهو الحاجة إلى الغذاء، جاع يجوع، والمجاعة عام فيه جوع، ونقيض الجوع الشبع، وحقيقة الجوع: شهوة غالبة للطعام، والشبع زوال الشهوة، ولا خلاف أن الشهوة معنى في القلب لا يقدر عليه إلا الله تعالى، والجوع منه، فأما الشبع فمنهم من قال: هو معنى وهو يفعله تعالى، ومنهم من قال: زوال الشهوة فقط، والأول قول أبي علي، والثاني قول أبي هاشم، وعلى هذا العطش والري.
ي. الخوف: الفزع، ونقيضه الأمن.
ك. النقص: نقيض الزيادة وهو الحط على التمام، نقص نقصًا ونقصَّه تنقيصًا.
ل. الثمرات: جمع ثمرة.
م. المصيبة: المضرة الشديدة على النفس، وأصلها من الإصابة، كأنه يصيبها بالنكبة.
ن. الرجوع: مصير الشيء إلى ما كان، رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها ثانيًا، ومنه: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
س. الصلاة: قيل أصلها الدعاء، وقيل: اللزوم.
ع. الرحمة: النعمة على المحتاج.
ف. الاهتداء: إصابة طريق الحق.
2. لما أوجب الله تعالى العبادات بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ والشكر على النعم بقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ عقبه بذكر المعونة عليهما فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب للمسلمين ﴿اسْتَعِينُوا﴾ اطلبوا المعونة.
3. ﴿بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ إنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات:
أ. أما الصبر فهو قَصْرُ النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن ذلل نفسه وقلبه هذا التذليل يسهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاقّ العبادات وتجنب المحظورات.
ب. وأما الصلاة فَلِمَا فيها من الخشوع والتذلل للمعبود وقراءة القرآن وما فيها من المواعظ والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فعند ذلك يسهل عليه فعل الطاعة، وقيل: أراد بالصبر الصوم، عن مجاهد.
4. سؤال وإشكال: استعينوا بهما على ماذا؟ والجواب: على سائر الطاعات، وقيل: على الجهاد.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾:
أ. قيل: بالمعونة والنصرة، عن أبي علي، كما يقال: السلطان معك.
ب. وقيل: معهم بالتوفيق والتسديد أي يزيدكم تسديدًا، وتوفيقًا، فيسهل عليكم أداء العبادات، عن أبي القاسم، ونظيره: ﴿وَيَزِيدُ الله الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾
ولا يجوز أن يكون بمعنى الاجتماع في مكان أو بقعة؛ لأنه من صفات الأجسام، تعالى الله عن ذلك.
6. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾:
أ. عن ابن عباس أنها نزلت في قتلى بدر، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، فكانوا يقولون: مات فلان، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كانوا يقولون: مات فلان، وانقطع عنه نعيم الدنيا، فنزلت الآية.
ب. قال الأصم: يحتمل أن المشركين قالوا هم أموات في الدين، وقال أبو القاسم: كان الكفار يقولون: إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم في الحرب بغير سبب، ثم يموتون فيذهبون، فنزلت الآية.
7. لما أمر تعالى بالعبادات، وفيها الجهاد وأمرنا بالصبر عليه بين ما فيه، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ وهذا كالدليل على تَقَدُّمِ قول منهم غير مرضي؛ فلذلك منعهم منه، ثم يحتمل أن يكون ذلك قولاً من المشركين، حيث قالوا على جهة الذم: تكلفوا ما أداهم إلى الهلاك ولا عاقبة لذلك، ويحتمل أن يكون ذلك من المؤمنين قالوا: لا على جهة الذم: إنهم ماتوا فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي في الجهاد: ﴿أَمْوَاتٌ﴾ يعني: هم أموات.
8. ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءً﴾ قيل فيه عدة أقوال:
أ. الأول: أنهم في الوقت أحياء لا في المستقبل كأنهم نشروا في قبورهم وأثيبوا، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وأبي علي وأبي بكر والقاضي، وهو الأوجه: لأن الظاهر يقتضي ذلك، ولأن عليه إجماع المفسرين، ولأن الخطاب للمؤمنين، وكانوا يعلمون أنهم على حق، ويقرون بالنشأة الثانية، فكان لا يقال لهم: لا تشعرون، ولأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر.
ب. الثاني: لا تقولوا: هم أموات في الدين، بل هم أحياء، خلاف ما يقوله المشركون: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أيها المشركون أن مَن قُتل على دين محمد فهو على هدى من ربه، عن الأصم، ومثله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾.
ج. الثالث: ولا تقولوا: إنهم لا ينشرون ولا ينتفعون بما لقوا، بل اعلموا أنهم أحياء أو يستحيون ويثابون، عن أبي القاسم وأبي مسلم، ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ يعني الكفار لا يعلمون ذلك.
د. الرابع: قال بعضهم: إن أرواحهم أحياء، ورووا في ذلك أخبارًا، وذكروا أن الروح هو الإنسان وهو جزء واحد في القلب أو مشابه للجثة حسب اختلافهم، ومنهم من قال: الروح غير الإنسان إلا أنه يجعله حيًّا وهذا فاسد؛ لأن الروح لا يكون حيًّا، والإنسان الحي هو الجثة وعليه الثواب والعقاب، والروح هو النفس المتردد في مخارق الإنسان وهو أجزاء الجوهر المسمى روحًا.
9. ما رووا مرفوعًا (أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وأنها جنود مجندة تأتلف وتختلف) ونحوها غير صحيح؛ لأنها أخبار آحاد، وكل ذلك صفة الأحياء القادرين، وقد بينا أن الحي هو هذا الشخص، وقد تأوله بعض مشايخنا أنهم يصيرون أحياء في حواصلهم بحيث يرى من باطنه ظاهر الجنة، فيرون نعيم الجنة متى طاروا، فيزداد سرورهم، وهذا تعسف، والأقرب أن مثل هذه المذاهب والروايات تكون من دسيس الملحدة وأهل التناسخ، والصحيح أنهم أحياء بأبدانهم كما كانوا.
10. اختلف من قال: إنهم أحياء في الحال:
أ. فقال بعضهم: أحياء في قبورهم، وهو الأقرب؛ ولذلك تزار قبورهم، ويعتقد أنهم فيها.
ب. وقيل: في الجنة.
ج. وقيل: عند السدرة في السماء.
11. إنما خص الشهداء بذلك إكرامًا لهم، فإنه أطال حياتهم ترغيبًا في الجهاد، وإن كان من الجائز أن يكون غيرهم من المؤمنين كذلك، ولا يصح الاستدلال بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أنهم في الجنة، على ما ذكره أبو مسلم؛ لأنه يحتمل أن يريد به في المكان الذي عظم الله تعالى قدرهم، كما يوصف الملك أنه مقرب وإن كان في الأرض.
12. ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي لا تعلمون أنهم أحياء، وقد بينا اختلافهم في المخاطبين به.
13. لما بَيَّنَ تعالى ما كلفهم من العبادات بين ما يكلفهم به عند أمور يفعلها لطفًا ومصلحة، فقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أي لنختبرنكم، ومعناه نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم منكم ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ في الكلام حذف، تقديره: نكلفكم بضروب من التكاليف، وأنتم على هذه الأحوال، أو نكلفكم بتكاليف تؤدي إلى هذه الأحوال، والخطاب للمؤمنين، ومعلوم أن من كلِّف تكليفًا يحصل معه الخوف أو يؤدي إلى الخوف فقد عظمت عليه البلوى، وكما كانت المحنة أشد كانت العاقبة أحمد، والثواب أكبر، وإنما عرفهم بذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في حضرة الرسول لما لهم فيه من المصلحة.
14. سؤال وإشكال: ما سبب الخوف والابتلاء بهذه الأشياء؟ والجواب: أما الخوف فلقصد المشركين لهم بالعداوة ﴿وَالْجُوعِ﴾ بالفقر للشُّغْل عن المعاش بالجهاد وأمور الدين، وقيل: للقحط الذي لحقهم: ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ هلاك المواشي ونقصان الأموال، وقيل: الانقطاع بالجهاد عن العمارة: ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ قيل: بالقتل في الحرب، وقيل: بالموت، وقيل: بالمرض، وقيل: بالشيب، ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ يعني ذهابها بالجوائح، أو لا تخرج كما كانت تخرج من قبل، وروي عن الشافعي: الخوف خوف الله تعالى، والجوع صيام رمضان، ونقص من الأموال الزكوات، والأنفس الأمراض، والثمرات الأولاد.
15. سؤال وإشكال: الابتلاء بهذه الأشياء لكونها لطفًا ومصلحة أم للعوض؟ والجواب: للأمرين، فالغرض كونه لطفًا به يخرج عن حد العبث، والعوض يجب تبعًا، وبه يخرج عن حد الظلم.
16. وجه اللطف في ذلك فأشياء:
أ. أولها: أنه تعالى إذا أخبرهم بذلك، ووطنوا أنفسهم عليها سهل عليهم تحمل تلك المشاق في نصرة الرسول، ويكون أسرع إلى الجهاد واحتمال العوارض.
ب. ومنها: أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول وموافقته، وتنالهم هذه الأحوال، وهم لا يتغيرون في قوة البصيرة وبذل النفس، يعلمون أنهم إنما فعلوا ذلك وآثروا؛ لعلمهم بصحة هذا الدين، وما يرجون من العاقبة الجميلة، فلذلك سهل عليهم كل عسير، فيكون داعية لهم إلى دخول دينهم.
ج. ومنها: أنه تعالى أخبر بذلك فَوُجِدَ مَخْبَرٌ على وفاق خبره، ولحق المسلمين في بُدُوِّ الإسلام ذلك فكان معجزة له صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أي أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق من الثواب وحسن العاقبة.
17. لما تقدم ذكر الصابرين عقب ذلك بوصفهم، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ في النفس والمال: ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ يعني عبيده وملكه وخلقه: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يعني راجعون، يعني إلى حكمه بالبعث والنشور، وقيل: إلى حيث لا يملك الحكم سواه.
18. هذه المصيبة من جهته تعالى ومن جهة العباد؛ لأن في الموضعين تكليفًا:
أ. فما كان من قِبَله، فالرضا به والاعتقاد لحسنه، وكونه حكمة ومصلحة.
ب. وما كان من غيره فيرجع إليه في الانتصاف له والرضا بالتخلية لما فيه من المصلحة.
19. جميع ذلك يدخل في قوله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، كأنه يقول في الأول: إنا لله يدبر فينا كيف شاء، وفي الثاني إنا له فينتصف لنا كما يشاء.
20. سؤال وإشكال: فما فيه مما يدل على الرضا؟ والجواب: من وجهين:
أ. أحدهما: أنه إذا أقر بأنه ربه وهو عدل حُكْمُهُ، وأن ما يفعله فلا راد له، فلا فائدة في الجزع صار رضا.
ب. ثانيهما: أنه مبالغة في الرضا كما يقول لغيره إذا أصابه شيء: أنا لك.
21. سؤال وإشكال: إذا كان هو الخالق المنعم فلم يكره العبد الرجوع إليه؟ والجواب: لأنه لا يأمن العقاب، فينبغي أنْ يهتم بأمر آخرته، ويأتي بما كلف، ويهون أمر الدنيا؛ ليحب الرجوع إلى خالقه.
22. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني على الصابرين القائلين هذه المقالة: ﴿صَلَوَاتٌ﴾ قيل: ثناء ومدح وتعظيم: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ نعمة عاجلاً وآجلاً، وهذا غاية ما وعد المكلف: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ قيل: بهذه الطريقة، وقيل: إلى الجنة والثواب، وقيل: لسائر ما لزمهم.
23. سؤال وإشكال: هذه البشارة تتعلق بهذا القول؟ والجواب: لا؛ لأنه لو قال بلسانه، واعتقد خلافه، أو أتى من الأفعال بما يخالفه لم يستحق البشارة، ولكن يقول بلسانه، ويعتقد بقلبه، ويفعل بجوارحه ما يدل على الرضا والتسليم من ترك الجزع، واعتقاد أن ذلك مصلحة وحكمة.
24. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن فعل العبد حادث من جهته؛ لأن الاستعانة لا تصح إلا والعبد فاعل مختار، وإذا كان جميع ما يظهر عليه خلقًا لله تعالى لم يكن للاستعانة معنى.
ب. أن الصبر والصلاة لطف للعبد كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾،واللطف في شرعها وفعلها، فالشرع من فعله تعالى، ومنا اعتقاد وجوبه وإقامة حدوده، وجميع ذلك لطف للمكلفين.
ج. أن الواجب على المكلف الصبر على أداء الطاعات، وعَنْ فعل المعاصي وتحمل المشقة فيهما لينال الفوز بالدرجات، وتدل على أنه متى فعل ذلك فالله تعالى يوفقه ويسدده ويثيبه وينصره.
د. أن كون الشهداء أحياء ولا ضرورة إلى ترك الظاهر فقلنا: هم أحياء في الحال.
هـ. صحة ما نقوله في سؤال القبر، وثواب المؤمنين فيه، وعقاب العصاة على ما ورد به الخبر، وإنما حمله أبو القاسم على حياة الحشر؛ لأنه ينكر عذاب القبر، ومتى قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟ قلنا: يصح أن يعيد الله تعالى إليهم الحياة ويحيي من الأجزاء ما لا بد منه في كونه حيًّا على ما نقوله في ماهية الحي، ولا معتبر بالأطراف، ويحتمل أن يحييهم إذا لم يشاهدوا، فيدل على أن هذه الصفة لقوم تقدموا ثم مشاركة غيرهم إياهم في تلك الصفة تعلم بدليل.
و. الترغيب في الجهاد رغبة فيما وعد الله المجاهدين.
ز. أن هذه المحن ليست بعقوبة؛ لأنه تعالى وعد بها المؤمنين، بل تكون مصلحة.
ح. أن هذه الأشياء تكون نعمة لذلك أمر بالصبر عليها.
ط. أن الصبر عليها يؤدي إلى درجة عظيمة؛ لذلك بشر بها.
ي. أن هذه الأشياء إما أن تكون من جهته، أو بسبب من جهته حتى يجب الصبر عليها.
ك. أن الصبر يجب على جميع ما يلحقه من جهته؛ لكونها عدلاً ومصلحة، وما يكون من جهة الظَّلَمة لا يجب الصبر عليه؛ ولذلك يجب الدفع والجهاد والأمر بالمعروف، ولكن يجب الصبر على التخلية التي هي من جهته تعالى، ويعتقد أنها لضرب من المصلحة..
• ما يكون من جهته فالأمراض ونحوها التي هي فعله تعالى، وما يكون بسبب من جهته فكالخوف من الأعداء بسبب نصرة الرسول المأمور بها.
• الصبر في ذلك بالرضا بما ينزل به من جهته وبجميع قضاياه وترك الجزع، والاعتقادُ لحسنه، وكونه مصلحة.
ل. أن العبد مكلف بهذا القول عند المصيبة؛ لأنه وإن كان خبرًا فالمراد به الأمر، وهو مندوب إليه، وقد يجب عند تهمة الجزع؛ لأن إظهاره كالدلالة على الصبر والرضا.
م. وجوب الرضا بقضائه، والتسليم له فيما ينزل به.
ن. أن هذا القول فيه تعزية عن المصيبة لما فيه من الدلالة على أنه تعالى يجبرها بالعوض والخلف إن كان من جهته، وينتصف من فاعلها إن كانت ظلمًا.
25. أمال الكسائي في: ﴿مُصِيبَةٍ﴾ في بعض الروايات النون من ﴿أَنَا﴾ ولام: ﴿لِلَّهِ﴾، والباقون بالتفخيم، وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، قال الفراء والكسائي: لا يجوز إمالة: ﴿أَنَا﴾ مع غير اسم الله تعالى، وإنما وجب ذلك؛ لأن الأصل في الحروف وما يجري مجراها امتناع الإمالة؛ ولذلك لا يجوز إمالة: ﴿حَتَّى﴾ و﴿لَكِنِ﴾.
26. مسائل نحوية:
أ. ﴿الَّذِينَ﴾ موضعه رفع لا يجوز غير ذلك عند النحويين إلا المازني، فإنه أجاز يا أيها الرجل، قيل: بالنصب، والعامل فيه ما يعمل في صفة المنادى عند سائر النحويين إلا الأخفش، فإنه يجعله صلة لـ: ﴿أَيِّ﴾ ولرفعه؛ لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: يأمرهم الَّذِينَ آمنوا، إلا أنه لا يظهر المحذوف مع: ﴿أَيِّ﴾ وإنما حمله على ذلك لزوم البيان له فقال: الصلة تلزم والصفة لا تلزم، قال علي بن عيسى: والأوجه عندي أن يكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم.
ب. لزمت: ﴿أَيِّ﴾ هاءٌ في النداء لأن الغرض بحرف التنبيه وقع في موضع التنبيه، فلزم.
ج. ﴿أَمْوَاتٌ﴾ رفع؛ لأنه خبر ابتداء محذوف، تقديره: لا تقولوا: هم أموات، ولا يجوز فيه النصب، كما يجوز في قولهم: قلت حسنًا؛ لأنه في موضع المصدر كأنه قال: قلت قولاً حسنًا، فأما قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ فيجوز فيه الرفع والنصب، فأما الرفع فعلى: منا طاعة، والنصب على: نطيع طاعة.
د. الفرق بين: ﴿بَلْ﴾ و﴿لَكِنِ﴾: ﴿لَكِنِ﴾: نفي لأحد الشيئين وإثبات الآخر، نقول: ما قام زيد لكن عمرو، و﴿بَلْ﴾: إضراب عن الأول، وإثبات للثاني؛ ولذلك وقعت في الإيجاب كقولك: قام زيد بل عمرو.
هـ. في فتح الواو من ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ قولان:
• أحدهما: العلة التي تفتح في ﴿ لينصرنكم ﴾ وهو أنه مبني على الفتحة؛ لأنها أخف إذا استحق البناء على الحركة.
• الثاني: أنه بني على الحركة لالتقاء الساكنين، وكان معنى لا يدخله الرفع.
و. في قوله تعالى: ﴿بِشَيْءٍ﴾ على الوحدان، ولم يقل ﴿ بأشياء ﴾ على الجمع قولان:
• الأول: لئلا يوهم ﴿ بأشياء ﴾ من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف، ويكون الجمع كجمع الأجناس للاختلاف، فَقُدِّرَ بشيءٍ من كذا أو شيء من كذا، وأغنى المذكور عن المحذوف.
• الثاني: أن يقع الواحد في موضع الجميع للإيهام الذي فيه مثل: ﴿مِنَ﴾.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/652.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السبيل: الطريق، وسبيل الله: طريق مرضاته، وإنما قيل للجهاد سبيل الله، لأنه طريق إلى ثواب الله عز وجل.
ب. القتل: هو نقيض بنية الحياة.
ج. الموت عند من قال إنه معنى عرض ينافي الحياة منافاة التعاقب، ومن قال: إنه ليس بمعنى، قال: هو عبارة عن بطلان الحياة وهو الأصح، فأما الحياة فلا خلاف في أنها معنى، وهي عرض يصير الجملة كالشئ الواحد حتى يصير قادرا واحدا، عالما واحدا، مريدا واحدا، ولا يقدر على فعل الحياة إلا الله سبحانه.
د. الشعور هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر، وهي الحواس، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر، ولا بأنه يشعر، وإنما يوصف بأنه عالم ويعلم، وقيل: إن الشعور هو إدراك ما دق للطف الحس، مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه الشاعر لأنه يفطن من إقامة الوزن، وحسن النظم، لما لا يفطن له غيره.
هـ. البلاء: الاختبار، ويكون بالخير والشر.
و. الخوف: انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر.
ز. الجوع: ضد الشبع، وهو المخمصة، والمجاعة عام فيه جوع، وحقيقة الجوع الشهوة الغالبة إلى الطعام، والشبع: زوال الشهوة، ولا خلاف أن الشهوة معنى في القلب، لا يقدر عليه غير الله تعالى، والجوع منه، وأما الشبع فهو معنى عند أبي علي الجبائي، وهو فعله تعالى، وعند أبي هاشم ليس بمعنى، وهكذا القول في العطش والري.
ح. النقص: نقيض الزيادة، والنقصان: يكون مصدرا واسما، ونقص الشيء ونقصته لازم ومتعد، ودخل عليه نقص في عقله ودينه، ولا يقال نقصان، والنقيصة: الوقيعة في الناس، والنقيصة: انتقاص الحق، وتنقصه: تناول فعلها عرضه، وأصل النقص: الحط من التمام.
ط. المال معروف، وأموال العرب: أنعامهم، ورجل مال أي: ذو مال.
ي. الثمرة: أفضل ما تحمله الشجرة.
ك. المصيبة: المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من المضرة، وهو من الإصابة، كأنها تصيبها بالنكبة.
ل. الرجوع: مصير الشيء إلى ما كان، يقال رجعت الدار إلى فلان: إذا ملكها مرة ثانية، وهو نظير العود والمصير.
م. الاهتداء: الإصابة لطريق الحق.
2. يخاطب الله تعالى المؤمنين فيقول: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ أي: بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات، وحملها على ما تنفر منه من الطاعات، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب)، وبالصلاة لما فيها من الذكر والخشوع لله، وتلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد والوعيد والهدى والبيان وما هذه صفته، يدعو إلى الحسنات، ويزجر عن السيئات.
3. اختلف في أن الاستعانة بهما على ماذا:
أ. قيل: على جميع الطاعات، فكأنه قال: استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره من الطاعات.
ب. وقيل: على الجهاد في سبيل الله.
4. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: إن معناه أنه معهم بالمعونة والنصرة، كما يقال السلطان معك، فلا تبال من لقيت.
ب. والآخر: إن المراد هو معهم بالتوفيق والتسديد، أي: يسهل عليهم أداء العبادات، والاجتناب من المقبحات، ونظيره قوله سبحانه: ﴿وَيَزِيدُ الله الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾.
ولا يجوز أن يكون مع هنا بمعنى الاجتماع في المكان لأن ذلك من صفات الأجسام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
5. في الآية دلالة على أن في الصلاة لطفا للعبد، لأنه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها، ويؤيده قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
6. لما أمر الله سبحانه بالصبر والصلاة للازدياد في القوة بهما على الجهاد قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا.
7. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ أي: بل هم أحياء، وقيل فيه أقوال:
أ. أحدها وهو الصحيح إنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة، وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد، وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، واختاره الجبائي والرماني وجميع المفسرين.
ب. الثاني: إن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب، ثم يموتون فيذهبون، فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه، وأنهم سيحيون يوم القيامة، ويثابون، عن البلخي، ولم يذكر ذلك غيره.
ج. الثالث: معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى، ومثله قوله سبحانه ﴿أو من كان ميتا فأحييناه﴾ فجعل الضلال موتا، والهداية حياة، عن الأصم.
د. الرابع: إن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام، من قوله: (هلك خزان الأموال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة)
8. المعتمد هو القول الأول، لأن عليه إجماع المفسرين، ولأن الخطاب للمؤمنين، وكانوا يعلمون أن الشهداء على الحق والهدى، وأنهم ينشرون ويحيون يوم القيامة، فلا يجوز أن يقال لهم ولكن لا تشعرون من حيث إنهم كانوا يشعرون ذلك ويقرون به، ولأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر، ولو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء، لما قيل أيضا: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لأنهم كانوا يشعرون ذلك.
9. وجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء، وإن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ، أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم، ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الأخرى يرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله.
10. سؤال وإشكال: نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض، لا تنصرف ولا يرى فيها شيء من علامات الإحياء؟ والجواب:
أ. على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا(2). أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها، دون أجسامهم التي في القبور، فإن النعيم والعذاب، إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الانسان المكلف عنده، دون الجثة، ويؤيد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار، عن القاسم بن محمد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا، فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون في حواصل طير خضر، في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله: سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر، يا يونس! المؤمن إذا قبضه الله تعالى، صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا، وعنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجنة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان.
ب. أما على مذهب من قال من أصحابنا(2). أن الانسان هذه الجملة المشاهدة، وإن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان، وهو أجزاء الجو، فالقول إنه يلطف أجزاء من الانسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها، يوصل إليها النعيم، وإن لم تكن تلك الجملة بكمالها، لأنه لا معتبر بالأطراف، وأجزاء السمن في كون الحي حيا، فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا، وربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة، ولا تكون ميتة، فتصل إليها اللذات، كما أن النائم حي، وتصل إليه اللذات، مع أنه لا يحس، ولا يشعر بشيء من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السرور والالتذاذ حتى إنه يود أن يطول نومه، فلا ينتبه، وقد جاء في الحديث: إنه يفسح له مد بصره، ويقال له: نم نومة العروس.
11. ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي: لا تعلمون أنهم أحياء.
12. في هذه الآية دلالة على صحة مذهب الإمامية في سؤال القبر، وإثابة المؤمن فيه، وعقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار، وإنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر.
13. لما بين سبحانه ما كلف عباده من العبادات، عقبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات، فقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أي: ولنختبرنكم، ومعناه نعاملكم معاملة المختبر، ليظهر المعلوم، والخطاب لأصحاب النبي، صلع، عن عطاء والربيع، ولو قيل إنه خطاب لجميع الخلق، لكان أيضا صحيحا.
14. ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ أي: بشيء من الخوف، وشئ من الجوع، وشئ من نقص الأموال، فأوجز.
15. إنما قال: ﴿مِنَ الْخَوْفِ﴾ على وجه التبعيض، لأنه لم يكن مؤبدا، وإنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما لهم فيها من المصلحة.
16. سبب الخوف قصد المشركين لهم بالعداوة، وسبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش واحتياجهم إلى الانفاق فيه، وقيل للقحط الذي لحقهم، والجدب الذي أصابهم، وسبب نقص الأموال الانقطاع بالجهاد عن العمارة، ونقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل نقص الأموال بهلاك المواشي، ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ بالموت.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾:
أ. قيل: أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوائح، وقلة النبات، وارتفاع البركات.
ب. وقيل: أراد به الأولاد، لأن الولد ثمرة القلب.
18. إنما قال ذلك لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان، وعن مناكحة النسوان، فيقل نزل البساتين، وحمل البنات والبنين.
19. وجه الابتلاء بهذه الأشياء ما تقتضيه الحكمة من الألطاف، ودقائق المصالح والأغراض، ويدخره سبحانه لهم ما يرضيهم به من جلائل الأعواض.
20. قيل في وجه اللطف في ذلك قولان:
أ. أحدهما: إن من جاء من بعدهم إذا أصابهم مثل هذه الأمور، علموا أنه لا يصيبهم ذلك لنقصان درجة وحط مرتبة، فإنه قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم، وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. والآخر: إن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول، وموافقتهم له، وتنالهم هذه المكاره، فلا يتغيرون في قوة البصيرة ونقاء السريرة، علموا أنهم إنما فعلوا ذلك لعلمهم بصحة هذا الدين، وكونهم من معرفة صدقه على اليقين، فيكون ذلك داعيا لهم إلى قبول الاسلام، والدخول في جملة المسلمين.
21. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أي: أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق والمكاره، من المثوبة الجزيلة والعاقبة الجميلة.
22. ثم وصف عز اسمه الصابرين، فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ أي: نالتهم نكبة في النفس أو المال، فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر، ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ هذا إقرار بالعبودية أي: نحن عبيد الله وملكه.، ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ هذا إقرار بالبعث والنشور أي: نحن إلى حكمه نصير، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إن قولنا: ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾ إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار على أنفسنا بالهلك)
23. إنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة، لما فيها من الدلالة على أن الله تعالى يجبرها إن كانت عدلا، وينصف من فاعلها إن كانت ظلما، وتقديره: إنا لله تسليما لأمره، ورضاء بتدبيره، وإنا إليه راجعون، ثقة بأنا نصير إلى عدله وانفراده بالحكم في أموره، وفي الحديث: من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا، وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب)، وروى الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنة: من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله، ومن إذا أنعم الله عليه النعمة قال: الحمد لله، ومن إذا أصاب ذنبا قال: أستغفر الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون)
24. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾:
أ. أي: ثناء جميل من ربهم وتزكية، وهو بمعنى الدعاء، لأن الثناء يستحق دائما، ففيه معنى اللزوم، كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد مرة، ففيه معنى اللزوم.
ب. وقيل: بركات من ربهم، عن ابن عباس.
ج. وقيل: مغفرة من ربهم.
25. ﴿وَرَحْمَةً﴾ أي: نعمة عاجلا وآجلا، فالرحمة: النعمة على المحتاج، وكل أحد يحتاج إلى نعمة الله في دنياه، وعقباه.
26. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أي: المصيبون طريق الحق في الاسترجاع، وقيل: إلى الجنة والثواب.
27. أمال الكسائي في بعض الروايات النون من ﴿أَنَا﴾، واللام من ﴿لِلَّهِ﴾، والباقون بالتفخيم، وإنما جازت الإمالة في هذه الألف مع اسم الله، للكسرة مع كثرة الاستعمال، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، قال الفراء: لا يجوز إمالة: ﴿أَنَا﴾ مع غير اسم الله تعالى، في مثل قولك: إنا لزيد، وإنما لم يجز ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها، امتناع الإمالة فيها، فلا يجوز إمالة حتى، ولكن ما أشبه ذلك، لأن الحروف بمنزلة بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي يكون في الأسماء والأفعال.
28. مسائل نحوية:
أ. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ موضعه رفع بأنه صفة لأي، كما أن الناس كذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وقد ذكرناه فيما مضى، وهو قول جميع النحويين إلا الأخفش، فإنه لا يجعله صفة لأي، ويرفعه بأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: يا من هم الذين آمنوا، إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي، وإنما حمله على ذلك لزوم البيان لأي، فقال: الصفة لا تلزم، وإنما تلزم الصلة، قال علي بن عيسى: والوجه عندي أن يكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم، وقد ذكرنا الوجه في لزومها أيضا عند قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، وقال أبو علي: لا يجوز أن يكون أي في النداء موصولة، لأنها لو كانت موصولة لوصلت بكل واحدة من الجمل الأربع، ولم يقتصر بها على ضرب واحد منها، لأن ذلك لم يفعل بشيء من الأسماء الموصولة في موضع، ولجاز أيضا أن يقال: يا أيها رجل، لأن المبتدأ لا يجوز أن يكون مقصورا على المعرفة بالألف واللام، ولا يغير عنه، وفي امتناع جميع النحويين من إجازة ذلك، ما يدل على فساد هذا القول،وأيضا فلو كانت موصولة، للزم جواز إظهار المبتدأ المحذوف من الصلة، وكان يجوز: يا أيها هو الرجل، ويا أيتها هي المرأة، لا خلاف في أنه لا يجوز ذلك.
ب. ﴿أَمْوَاتٌ﴾: مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات، ولا يجوز فيه النصب، كما يجوز (قلت حسنا) لأن حسنا في موضع المصدر، كأنه قال: قلت قولا حسنا، فأما قوله: ويقولون طاعة، فيجوز فيه النصب في العربية على تقدير نطيع طاعة.
ج. الفرق بين بل ولكن أن لكن نفي لأحد الشيئين وإثبات للآخر، كقولك ما قام زيد لكن عمرو، وليس كذلك بل، لأنها إضراب عن الأول وإثبات للثاني، ولذلك وقعت في الإيجاب كقولك قام زيد بل عمرو.
د. فتحت الواو في (لنبلونكم) كما فتحت الراء في: ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ وهو أنه بني على الفتحة، لأنها أخف إذا استحق البناء على الحركة، كما استحق يا في النداء حكم البناء على الحركة.
هـ. من الخوف والجوع الجار والمجرور صفة شيء.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/432.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾:
أ. قيل: أنّ المشركين قالوا: سيرجع محمّد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
ب. وقال ابن عباس: استعينوا على طلب الآخرة بالصّبر على أداء الفرائض، وبالصّلاة.
2. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأحد: مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
3. رفع الأموات بإضمار مكنيّ من أسمائهم، أي: لا تقولوا: هم أموات، ذكر نحوه الفرّاء.
4. سؤال وإشكال: نحن نراهم موتى، فما وجه النّهي؟ والجواب: أنّ المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنّات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الأرواح؛ ذكره ابن الأنباريّ.
5. سؤال وإشكال: أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ والجواب: أنّ الشهداء فضّلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنّة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك، ذكره ابن جرير الطّبريّ.
6. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾، قال الفرّاء: ﴿مِنَ﴾ تدلّ على أنّ لكلّ صنف منها شيئا مضمرا، فتقديره: بشيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال، وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصّة، قاله عطاء .
ب. الثاني: أنهم أهل مكّة.
ج. الثالث: أنّ هذا يكون في آخر الزّمان، قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النّخلة إلّا تمرة.
د. الرابع: أنّ الآية على عمومها.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾:
أ. أمّا الخوف؛ فقال ابن عباس: وهو الفزع في القتال، والجوع: المجاعة التي أصابت أهل مكّة سبع سنين، ونقص من الأموال: ذهاب أموالهم، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم، والثّمرات لم تخرج كما كانت تخرج.
ب. وحكى أبو سليمان الدّمشقيّ عن بعض أهل العلم: أنّ الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصّوم، ونقص الأموال: ما فرض فيها من الزّكاة والحجّ ونحو ذلك، والأنفس: ما يستشهد منها في القتال، والثّمرات: ما فرض فيها من الصّدقات.
8. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ على هذه البلاوي بالجنّة، واعلم أنه إنّما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطّنوا أنفسهم على الصّبر، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع.
9. ﴿قَالُوا إِنَّا لله﴾، يريدون: نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، يريدون: نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثّواب على صبرنا، قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إذ يقول: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾
10. قال الفرّاء: وللعرب في المصيبة ثلاث لغات: مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائيّ أنه سمع أعرابيا يقول: جبر الله مصوبتك.
11. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، قال سعيد بن جبير: الصّلوات من الله: المغفرة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ بالاسترجاع، وقال عمر: نعم العدلان، ونعمت العلاوة: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/125.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما أوجب الله تعالى بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ جميع العبادات، وبقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات:
أ. الصبر هو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات، وتجنب المحظورات، واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾:
• من الناس من حمل الصبر على الصوم.
• ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: 154] وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: 45] وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147]،
إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقيده.
ب. الاستعانة بالصلاة لأنه يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات، ولذلك قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
2. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني في النصر لهم كما قال: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137] فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقاً وتسديداً وألطافاً كما قال: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76]
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169] ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل: استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي.
4. ﴿أَمْوَاتٌ﴾ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: لا تقولوا هم أموات، وفي الآية أقوال:
أ. الأول: أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور.
ب. الثاني: قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا: هم أموات في الدين كما قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122] فقال: ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون، ولكن قولوا: هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون، يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حي في الدين، وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلًا قال لرجل: ما مات رجل خلف مثلك، وحكي عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته: موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح.
ج. الثالث: أن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء، وهؤلاء الذين قالوا ذلك، يحتمل أنهم كانوا دهرية، ينكرون المعاد، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلذلك قالوا هذا الكلام، فقال الله تعالى: ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا، ولكن اعلموا أنهم أحياء، أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله: ﴿أَحْيَاءً﴾ بأنهم سيحيون غير بعيد، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13، 14] وقال: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [الكهف: 29] وقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145] وقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الحج: 56] على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني، واحتج على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [آل عمران: 169] وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة.. ولا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر.
د. في الآية قول آخر وهو: أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، وهذا القول بناء على معرفة الروح، ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول: إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس، أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين:
• الوجه الأول: أن أجزاء هذا الهيكل أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره، والباقي غير ما هو غير باق، والمشار إليه عند كل أحد بقوله: (أنا) وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل.
• الوجه الثاني: أني أكون عالماً بأني أنا حال ما أكون غافلًا عن جميع أجزائي وأبعاضي، والمعلوم غير ما هو غير معلوم، فالذي أشير إليه بقولي (أنا) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض، وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو السطح واللون، ولا شك أن الإنسان ليس هو مجرد اللون والسطح.
5. أكثر العلماء على ترجيح أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم ويدل عليه وجوه: .
أ. أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر، كقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: 11] والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر، وقال الله تعالى: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25] والفاء للتعقيب، وقال: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى، فاسقط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر، كان ذلك في الثواب أولى.
ب. ثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في خلاف ذلك لم يكن لقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ معنى لأن الخطاب للمؤمنين، وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة، وأنهم ماتوا على هدى ونور، فعلم أن الأمر على أن الله تعالى أحياهم في قبورهم.
ج. ثالثها: أن قوله: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [آل عمران: 170] دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث.
د. رابعها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)، والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في آخر صلاته: (وأعوذ بك من عذاب القبر)
هـ. خامسها: أنه لو كان المراد من قوله: أنهم أحياء أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69] فأرادهم بالذكر تعظيماً، وهذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر.
و. سادسها: أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه.
6. سؤال وإشكال: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح مأنهم أحياء؟ والجواب:
أ. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: البنية ليست شرطاً في الحياة ولا امتناع في أن يعبد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف.
ب. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: لا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف، ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.
7. الذين ذهبوا إلى أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب اختلفوا في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله (أنا) أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلا أن أشدها تلخيصاً وتحصيلًا وجهان:
أ. أحدهما: أن أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد والقائلون بهذا القول فريقان:
• أحدهما: الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا: إن تلك الأجسام مماثلة لسائر الأجزاء التي منها يتألف هذا الهيكل إلا أن القادر المختار سبحانه يبقى بعض الأجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بقوله (أنا) ثم أن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله تعالى فيها فإذا زالت الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين.
• ثانيهما: الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام وزعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخر العمر أجسام مخالفة بالماهية والحقيقة للأجسام التي يتألف منها هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها مدركة لذاتها، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل، سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل مستطيراً بنور ذلك الروح متحركاً بتحركه، ثم إن هذا الهيكل أبداً في الذوبان والتحلل والتبدل، إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها، وإنما لا يعرض لها التحلل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام البالية، فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والقدس والطهارة إن كانت من جملة السعداء، وإلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء.
ب. الثاني: أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز، وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية، واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقاً فوجب أن يكون العلم به فرداً حقاً، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فرداً حقاً، وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقاً، فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات، وجب أن لا يكون جسماً ولا جسمانياً أما أن في المعلومات ما هو فرد حقاً فلأنه لا شك في وجود شيء، فهذا الموجود إن كان فرداً حقاً فهو المطلوب، وإن كان مركباً فالمركب مركب على الفرد، فلا بد من الفرد على كل الأحوال، وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسماً فكل واحد من أجزائه أو بعض أجزائه إما أن يكون علماً بذلك المعلوم وهو محال، لأنه يلزم أن يكون الجزء مساوياً للكل وهو محال، وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علماً بذلك المعلوم، فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم بذلك المعلوم الفرد، فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب، وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضاً كذلك، فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة، لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفاً به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالًا في أشياء كثيرة وهو محال، أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل، فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال، فحينئذ يكون ذلك المحل خالياً عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفاً به هذا خلف، وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد، قالوا: فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول: هذا الموجود لا بد أن يكون مدركاً للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس، والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضاً هو النفس، فكل من كان مدركاً للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم، قالوا: إذا ثبت هذا فنقول: هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان يوم القيامة، فهناك يحصل الالتذاذ والتألم للأبدان.. هذا قول قال به عالم من الناس قالوا: وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده، فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول، والله هو العالم بحقائق الأمور.. قالوا: ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها، و الأول مكابرة لأنا نجد هذه البينة متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها؟ فلم يبق إلا أن يقال: إن الله تعالى يحيى بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال: الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى، حتى تنظم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية.
8. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف.
9. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152] والشكر يوجب المزيد على ما قال ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ فكيف أردفه بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة، فكان ذلك موجباً للشكر، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن، فلا جرم أمر فيها بالصبر.
ب. الثاني: أنه تعالى أنعم أولًا فأمر بالشكر، ثم ابتلى وأمر بالصبر، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً، فيكمل إيمانه على ما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر)
10. المراد بهذه المخاطبة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ روي عن عطاء والربيع بن أنس أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد الهجرة.
11. في الحكمة في تقدّم تعريف هذا الابتلاء وجوه: .
أ. أحدها: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع، وأسهل عليهم بعد الورود.
ب. ثانيها: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن، اشتد خرقهم، فيصير ذلك الخوف تعجيلًا للابتلاء، فيستحقون به مزيد الثواب.
ج. ثالثها: أن الكفار إذا شاهدوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع، يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله، ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب.
د. رابعها: أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
هـ. خامسها: أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الاختبار هذه الفائدة.
و. سادسها: أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه، فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك.
12. إنما قال ﴿بِشَيْءٍ﴾ على الوحدان، ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين:
أ. الأول: لئلا يوهم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشيء من كذا.
ب. الثاني: معناه بشيء قليل من هذه الأشياء.
13. كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب، ينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجوداً في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل:
أ. فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً.
ب. وإن كان موجوداً في الحال: يسمى ذوقاً ووجداً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك.
ج. وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قبلك، سمي انتظاراً وتوقعاً:
• فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمي خوفاً وإشفاقاً.
• وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً، والارتياح رجاء.
14. الخوف هو تألم القلب لانتظار ما هو مكروه عنده، والرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت(2).:
أ. أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان، قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 11]
ب. أما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة لقلة أموالهم، حتى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يشد الحجر على بطنه، وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج التقى مع أبي بكر قال ما أخرجك؟ قال الجوع، قال: أخرجني ما أخرجك.
ج. أما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل، فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 41]
د. وقد يحصل الجوع في السفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله﴾ [التوبة: 120]
هـ. وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]
و. أما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بجهاد الأعداء، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوفود.
15. قال الشافعي: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد.
16. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]، و الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة، فأما من لم يكن محققاً في الإيمان كان كمن قال فيه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: 11] فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه مثاله: أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب، ولو فعله به غيره، لكان له أن يمانع بل يحارب، وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ليس ذلك إلا حكمة وصواباً بخلاف ما يفعل العباد من الظلم.
17. الخطاب في ﴿وَبَشِّرِ﴾ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لكل من يتأتى منه البشارة.
18. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالصبر، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
19. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه.
ب. أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين.
ج. أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر، وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها.
د. أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع، وشرب الماء لا يفيد الري، بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب، لأن قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذا القول ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة.
20. ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ لما قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابراً، وأن تلك البشارة كيف هي.
21. المصائب قد تكون من فعل الله تعالى، وقد تكون من فعل العبد:
أ. أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحريق والصاعقة وغيرها، والذي من فعل العبد، فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. أما الجوع فلأجل الفقر، وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم، وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه.
ج. ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوانح التي تصيب الأموال والثمرات، ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لا يتفرغون لعمارة الأراضي.
د. ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل.
22. لم يضف الله تعالى هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم(3).، وقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى، وينالها من قبل العباد، لأن في الوجهين جميعاً عليه تكليفاً، وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركاً للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله: ﴿إِنَّا لله﴾ لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ [غافر: 20] أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاب منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه، ويدخل أيضاً تحت قوله: ﴿إِنَّا لله﴾ لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء، وفي الثاني يقول: إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء.
23. أمال الكسائي في بعض الروايات من ﴿أَنَا﴾ ولام ﴿لله﴾ والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، قال الفراء والكسائي: لا يجوز إمالة (إنا) مع غير اسم الله تعالى، وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة (حتى) و(لكن).
24. ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ قال أبو بكر الوراق ﴿إِنَّا لله﴾ إقرار منا له بالملك ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار على أنفسنا بالهلاك.
25. الرجوع إلى الله تعالى ليس عبارة عن الانتقال إلى مكان أو جهة، فإن ذلك على الله محال، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواء، وذلك هو الدار الآخرة، لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضرًا، وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر، فجعل الله تعالى هذا رجوعاً إليه تعالى، كما يقال: إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة، وهذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور، والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم، ولا يضيع عنده أجر المحسنين.
26. قوله تعالى: ﴿إِنَّا لله﴾ يدل على كونه راضياً بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يدل على كونه في الحال راضياً بكل ما سينزل به بعد ذلك، من إثابته على ما كان منه، ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به، ومن الانتصاب ممن ظلمه، فيكون مذللًا نفسه، راضياً بما وعده الله به من الأجر في الآخرة، والأخبار في هذا الباب كثيرة:
أ. أحدها: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من استرجع عند المصيبة: جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه).
ب. ثانيها: روي أنه طفئ سراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فقيل أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة.
ج. ثالثها: قالت أم سلمة: حدثني أبو سلمة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيراً منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيراً منها) قالت: فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول: فعوضني الله تعالى محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. رابعها: قال ابن عباس: أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال: الصلاة من الله، والرحمة وتحقيق سبيل الهدى.
هـ. خامسها: عن عمر قال نعم العدلان وهما: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ ونعمت العلاوة وهي قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ وقال ابن مسعود: لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى: ليته لم يكن.
27. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾:
أ. الصلاة من الله هي: الثناء والمدح والتعظيم.
ب. رحمته هي: النعم التي أنزلها به عاجلًا ثم آجلًا.
28. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ وجوه: .
أ. أحدها: أنهم المهتدون لهذه الطريقة الموصلة بصاحبها إلى كل خير.
ب. ثانيها: المهتدون إلى الجنة، الفائزون بالثواب.
ج. ثالثها: المهتدون لسائر ما لزمهم، والأقرب فيه ما يصير داخلًا في الوعد حتى يكون عطفه على ما ذكره من الصلوات والرحمة صحيحاً، ولا يكون كذلك إلا والمراد به أنهم الفائزون بالثواب والجنة، والطريق إليها لأن كل ذلك داخل في الاهتداء، وإن كان لا يمتنع أن يراد بذلك أنهم المتأدبون بآدابه المتمسكون بما ألزم وأمر.
29. اشتملت الآية على حكمين، فرض ونفل(4).:
أ. أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى، والرضا بقضائه، والصبر على أداء فرائضه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.
ب. وأما النفل فإظهاراً لقوله: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته، وحكي عن داوود الطائي قال: الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثواباً.
30. العبد إنما يصبر راضياً بقضاء الله تعالى بطريقين: إما بطريق التصرف، أو بطريق الجذب:
أ. أما طريق التصرف فمن وجوه:
• أحدها: أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم عليه السلام لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة، فبقي آدم مع ذكر الله، ولما استأنس يعقوب بيوسف عليهما السلام أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق، ولما طمع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت).
• ثانيها: أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى، وثالثها: أن العبد متى توقع من جانب شيئاً أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيراً من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله.
ب. أما طريق الجذب، فهو كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين)، ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب لا مغلوب، وصفة الرب الربوبية، وصفة العبد العبودية، والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد، وصفة الحق حقيقة، وصفة العبد مجاز، والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد، والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به، والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلًا عليه ومشتغلًا به وغافلًا عن غيره، فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه، فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضياً بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/125.
(2) الكلام هنا للقفال.
(3) الكلام هنا للقاضي.
(4) الكلام هنا لأبي بكر الرازي.
ابن حمزة:
ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، الجوع: من أنواع الجدب، والخوف على وجهين: خوف من الله تعالى، وخوف من أعدائه، وهما جميعا في الحكم من جهته؛ لأنه لولا تعبدنا بعداوة أعدائه لم نخفهم، ولولا تعبدنا بطاعته لم نخف مخالفة أمره.
2. ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ﴾، أنواع المال معروفة، ونقصها ظاهر بالموت من حيوانها، وبتلف من جمادها، ونقص الأنفس: الموت والأمراض على أنواعها، والثمرات نقصانها بما يحدث من الآفات فيها، وكل هذا بغير حاجة منه سبحانه إليه، وإنما أراد بلوانا بالصبر لنفع يعود علينا، كما ابتلانا بالشكر لأمن يرجع إلينا؛ فتدبر ذلك تصب رشدك، موفقا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/72.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وهناك يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى، وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم ـ على ما يأتي ـ فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر، والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا، ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون.
2. ارتفع ﴿أَمْوَاتٌ﴾ على إضمار مبتدأ، وكذلك ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة.
3. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين، وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر.
4. البلاء يكون حسنا ويكون سيئا، وأصله المحنة، والمعنى:
أ. قيل: لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء.
ب. وقيل: إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق.
ج. وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفية تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.
5. ﴿بِشَيْءٍ﴾ لفظ مفرد ومعناه الجمع، وقرا الضحاك ﴿بأشياء﴾ على الجمع وقرا الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشيء من هذا، فاكتفى بالأول إيجازا.
6. ﴿مِنَ الْخَوْفِ﴾ أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس، وقال الشافعي: هو خوف الله عز وجل.
7. ﴿وَالْجُوعِ﴾ يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس، وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان.
8. ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ بسبب الاشتغال بقتال الكفار، وقيل: الجوائح المتلفة، وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة.
9. ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ قال ابن عباس: بالقتل ولموت في الجهاد، وقال الشافعي: يعني بالأمراض.
10. ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ قال الشافعي: المراد موت الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، وقال ابن عباس: المراد قلة النبات وانقطاع البركات.
11. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أي بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر، لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الاولى، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنما الصبر عند الصدمة الاولى)، وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث، وقال سهل بن عبد الله التستري: لما قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ صار الصبر عيشا، والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد، فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات، وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة، وقال رويم: الصبر ترك الشكوى، وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى، وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ مع ما أخبر عنه أنّه قال ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾.
12. ﴿مُصِيبَةٍ﴾ المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا، والمصيبة واحدة المصائب، والمصوبة (بضم الصاد) مثل المصيبة، وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل، والمصاب الإصابة، قال الشاعر:
çأسليم إن مصابكم رجلا...أهدى السلام تحية ظلمé
وصاب السهم القرطاس يصيب صبيا، لغة في أصابه، والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انطفأ ذات ليلة فقال: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال (نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة)، وهذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته)
13. خرج ابن ماجة في سننه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب)
14. من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب)، قال أبو عمر: وصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لان المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه، قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أنكرنا قلوبنا، ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:
çاصبر لكل مصيبة وتجلد...واعلم بأن المرء غير مخلد
أوما ترى أن المصائب جمة...وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟...هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكرت محمدا ومصابه...فاذكر مصابك بالنبي محمدé
15. ﴿قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: ﴿إِنَّا لله﴾ توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الامر كله إليه كما هو له، قال سعيد ابن جبير: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفي على يوسف:
أ. قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد .
ب. وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها)، وهذا تنبيه على قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ إما بالخلف كما أخلف الله لام سلمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها، وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما.
16. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين، وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن، ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال: ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، وقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾، وقال الشاعر:
çصلى على يحيى وأشياعه...رب كريم وشفيع مطاعé
وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة، وفي البخاري وقال عمر: نعم العدلان ونعم العلاوة: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء، قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/173.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإنّ من جمع بين ذكر الله وشكره، واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير.
2. هذه المعية التي أوضحها الله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال.
3. أموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين، أي: لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب أرواحهم، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر، بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع، بل هم أحياء في البرزخ.
4. في الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
5. البلاء أصله: المحنة، ومعنى نبلوكم: نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟
6. تنكير شيء: للتقليل، أي: بشيء قليل من هذه الأمور، وقرأ الضحّاك بأشياء.
7. المراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره، وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجذب والقحط، وبنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها، وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد، وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات، وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها ـ وقيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد.
8. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لكل من يقدر على التبشير، والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة، لأن ذلك تسليم ورضا.
9. المصيبة: واحدة المصائب، وهي: النكبة التي يتأذّى بها الإنسان وإن صغرت.
10. ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور، ومعنى الصلوات هنا: المغفرة والثناء الحسن، قاله الزجّاج، وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد.. وقال في الكشاف: الصلاة: الرحمة والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله: رأفة ورحمة ﴿لرَؤُوف رَحِيمٌ﴾ والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة، انتهى، وقيل المراد بالرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة.
11. ﴿الْمُهْتَدُونَ﴾ إنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/184.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أرشد تعالى المؤمنين، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل، بالاستعانة بالصبر والصلاة، لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصير عليها، كما جاء في الحديث: (عجبا للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له)، وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله، الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، وفي الحديث: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حزبه أمر صلّى، ثم إن الصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثوابا، لأنه المقصود، وأما الصبر الثالث، وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضا واجب، كالاستغفار من المعائب.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ ينهى تعالى عبادة المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا، بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عمران ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171]، فقوله في هذه الآية ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يفسر المراد من حياتهم، أي إنها لأرواحهم عنده تعالى، وقوله ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي بحياتهم الروحية بعد موتهم، إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم، وإن حفظ بعضها عن التلف، كما ترون النيام همودا لا يتحركون، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا، ولا عيش أرغد منه في الآخرة، قال الحراليّ: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه، حتى في أن يقال عنه: ميت، فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر، ولذا قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى، وقولوا لهم الشهداء الأحياء.
3. عن الراغب الأصفهانيّ أن الحياة على أوجه، وكل واحد منها يقابله موت:
أ. الأولى: هو القوة النامية التي بها الغذاء، والشهوة إليه، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان، ولذلك يقال: نبات حيّ.
ب. الثانية: في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية، وهي في الحيوان دون النبات.
ج. الثالثة: القوة العاملة العاقلة، وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات، وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح: حياة، وعلى ذلك قوله تعالى ﴿اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]، وقيل: المحسن حيّ وإن كان في دار الأموات، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء.
4. بناء على هذا ذكر الراغب الأصفهانيّ في معنى الآية: أنهم أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء، ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان، وقال: إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس، والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة، التي هي الروح، البدن، فمتى كان الإنسان محسنا كان منعّما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئا كان به معذبا، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة، وهو مذهب أصحاب الحديث، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها، ومما دل على صحته خبرا: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، وما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام)، وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش ـ يوم بدر ـ وجمعوا في قليب، أقبل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فخاطبهم بقوله: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا) قيل: يا رسول الله! أتخاطب جيفا؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم، ولو قدروا لأجابوا) إلى غير ذلك من الأخبار، وقال تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ وهذا يعني به قبل يوم القيامة، لأنه قال في آخر الآية ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]
5. في البيضاويّ وحواشيه: إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد، وفساد البنية، ونفي الشعور بها ـ دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد، ولا من جنس حياة الحيوان، لأنها بصحة البنية، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل.
6. وقد جاء الوحي ببيان حياتهم، قال ابن القيم في كتاب (الروح): وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواحهم، ورزقها دارّ، وإلّا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسّر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الحياة: بأنّ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربّهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا..! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ـ قالوا: يا ربّ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى..! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا، وصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم (إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة)، (وتعلق بضم اللام ـ أي: تأكل العلقة)، وهذا صريح في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامها.
7. قال الطيبيّ في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أرواحهم في جوف طير خضر): أي يخلق لأرواحهم، بعد ما فارقت أبدانهم، هياكل تلك الهيئة، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية.
8. قال ابن القيم في كتاب (الروح): (إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس.. وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح، فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا، كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا، فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي، يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج، وقد أرانا الله سبحانه، بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك، أنموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به، أو يعذب في نومه، يجري على روحه أصلا، والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم أنه في نومه ضرب، فيصبح وآثار الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل وشرب، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ، وأعجب من ذلك أنك ترى النائم، ثم يقوم من نومه، ويضرب ويبطش ويدافع، كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، لأن الحكم، لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ، فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها، لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا، ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبيّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة ـ مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك، فمن سوء فهمه، وقلة علمه.
9. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ﴾ خطاب لمن آمن مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، خصّوا به، وإن شمل من ماثلهم، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد، ومكافحة الفجّار، وكل قائم بحق، وداع إليه، معرّض للابتلاء بما ذكر، كله أو بعضه.
10. التنوين في ﴿بِشَيْءٍ﴾ للتقليل، أي: بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه، وإنما قلّل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان، وإن جل، ففوقه ما يقل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم.
11. إنما أخبر به قبل الوقوع، ليوطّنوا عليه نفوسهم، ويزداد يقينهم، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير، له عاقبة حميدة.
12. ﴿مِنَ الْخَوْفُ﴾ أي خوف العدو والإرجاف به ﴿وَالْجُوعِ﴾ أي الفقر، للشغل بالجهاد، أو فقد الزاد، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله، وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ أي لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ بقتلها شهيدة في سبيل الله، أو ذهاب أطرافها فيه ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ أي بأن لا نغلّ الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر، لا سيما في وقت نزول هذه الآيات، وهو أول زمان الهجرة، فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: 31]، قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها: أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها، بما يدل عليه سابقه.
13. ثم بيّن تعالى ما للصابرين عنده بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ مكروه، اسم فاعل من أصابته شدة: لحقته، أي كهذه البلايا ﴿قَالُوا إِنَّا لله﴾ أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره، لأنه غالب على الكل، أو نبالي بالجوع، لأن رزق العبد على سيده، فإن منع وقتا، فلا بد أن يعود إليه، وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له، فله أن يتصرف فيها بما يشاء ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ في الدار الآخرة، فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا، لأنه لا يضيع أجر المحسنين، فالمصاب يهون عليه خطبه، إذا تسلّى بقوله هذا، وتصور ما خلق له، وأنه رجع إلى ربه، وتذكر نعم الله عليه، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما أسترده منه، قال الراغب: وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.
14. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ قال الراغب: الصلاة، وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه، وقال الرازيّ: الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم، قال الراغب: وإنما قال ﴿صَلَوَاتٌ﴾ على الجمع، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة ﴿وَرَحْمَةً﴾ عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته.
15. ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند المصائب، وفي أجر الصابرين، أحاديث كثيرة:
أ. منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها، قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وروى أحمد عن الحسين بن عليّ عليهما السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.
ج. وروى أحمد بسنده عن أبي سنان قال دفنت ابنا لي، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولانيّ) فأخرجني وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت: بلى، قال حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال الله تعالى: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم، قال فما قال قال حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.. ورواه الترمذيّ وقال: حسن غريب.
د. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من يرد الله به خيرا يصب منه.
هـ. وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.
و. ورويا أيضا عن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها.
16. الأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة، ولعز الدين محمد بن عبد السلام كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا، قال: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس:
أ. أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.
ب. الثاني: معرفة ذلة العبودية وكسرها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.
ج. الثالثة: الإخلاص لله تعالى إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه، ولا معتمد في كشفها إلا عليه ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 17]، ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: 65].
د. الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ [الزمر: 8].
هـ. الخامسة: التضرع والدعاء ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا﴾ [يونس: 12]، ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 67]، ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 41]، ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 63].
و. السادسة: الحلم ممن صدرت عنه المصيبة ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]، ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: 53]، إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة، وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم.
ز. السابعة: العفو عن جانيها ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134]، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ [الشورى: 40] والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.
ح. الثامنة: الصبر عليها، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر.
ط. التاسعة: الفرح بها لأجل فوائدها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء، وقال ابن مسعود: حبذا المكروهان الموت والفقر، وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها، مع تجرعه لمرارتها.
ي. العاشرة: الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها، كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه، المانع من شهواته، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء.
ك. الحادية عشرة: تمحيصها للذنوب والخطايا ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلّا كفر به من سيئاته.
ل. الثانية عشرة: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، فالناس معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية، وإنما يرحم العشاق من عشق.
م. الثالثة عشرة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها، فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
ن. الرابعة عشرة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
س. الخامسة عشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ جاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11]، ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر، فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين، فأعظم بذلك من خير كان في طيّ تلك البلية، وقد قيل: (كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب) وقال آخر: (رب مبغوض كريه فيه لله لطائف)
ع. السادسة عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر، فإن نمرود، لو كان فقيرا سقيما، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك، وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: 74]، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6 ـ 7]، ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 27]، ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ [هود: 116]، ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [الجن: 16]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34]، والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء، ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، نسبوا إلى الجنون ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6] والسحر ﴿قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: 52]، والكهانة ﴿فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: 29]، واستهزئ بهم ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الحجر: 11]، وسخر منهم ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنعام: 10]، ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ [الأنعام: 34]، وقيل لنا ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]، ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران: 186]، كالّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم، وكثر عناهم، واشتدّ بلاهم، وتكاثر أعداهم، فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأحد وبئر معونة من قتل، وشجّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وقتل أعزاؤه ومثّل بهم، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه، وابتلوا يوم الخندق، وزلزلوا زلزالا شديدا، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا في خوف دائم وعرى لازم، وفقر مدقع، حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز برّ في يوم مرتين، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه، ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطليحة والعنسي، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه، ومات ودرعه عند يهوديّ على آصع من شعير، ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه، ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم، (مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج)، فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يونس: 12]، فلأجل ذلك تقللوا في المآكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك، ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه.
ف. السابعة عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى، فإن المصائب تنزل بالبرّ والفاجر، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا، ولرضا أفضل من الجنة وما فيها، لقوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]، أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/437.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا﴾ على الشُّكر والذِّكر وسائر العبادات، وترك المبالاة بعناد المعاندين، أو على نيل درجات الآخرة، والنقص من هول الموت وما بعده من القبر والحشر، وهول الدُّنيا، ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على البلاء ومشقَّة العبادة، وعن المعاصي وحظوظ النَّفس، ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ خصَّها من سائر الطَّاعات لعظم شأنها؛ لأنَّها أفضل العبادات بعد التوحيد وأُمُّها، ومعراج المؤمنين، ومناجاة الرَّبِّ، ولتكرُّرها، وهي الأصل الموجب لكمال التقرُّب، ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالعون والنَّصر، وذلك تعليل جمليٌّ متعلِّقٌ بالاِستعانة بالصَّبرِ لأنَّه المحتاج للتَّعليل.
2. وَأَمَّا الصَّلاة فحيث كانت أجلَّ المطالب، لم يفتقر الأمر بالاِستعانة بها إلى التعليل، كذا قيل، مستأنسًا له بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (جعلت قرَّة عيني في الصَّلاة)، ويجوز أنْ يكون تعليلاً للاستعانة بهما على الحذف، أي: إنَّ اللهَ مع الصَّابرين والمصلِّين، قيل: أو للاستعانة بالصَّلاة فهمًا، وبالصَّبرِ تصريحًا، فإنَّه إذا كان مع الصَّابرين فأولى أنْ يكون مع المصلِّين لاشتمالها على الصَّبر، وفيه أنَّ الصبر أشدُّ وشاملٌ للصَّبر على الصَّلاة وغيرها.
3. ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ يُّقْتَلُ﴾ أي: في شأن من يقتل، ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ في الجهاد؛ ﴿أَمْوَاتٌ﴾ أي: هم أموات البتَّة كالجماد؛ ﴿بَلَ اَحْيَآءٌ﴾ وهذا قطع عن القول وردٌّ له، ولكن لا مانع من الوصل به، إلَّا أنَّ المراد بالذات الردُّ له وتقديره: بل قولوا: (هم أحياء وأرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنَّة حيث شاءت)، وَأَمَّا السعداء غير الشهداء فيجاء لأرواحهم بنعيم الجنَّة إلى باب الجنَّة، وقيل: ينعم غير الشَّهيد في قبره بروائح وغيرها، ممَّا ليس طعامًا، ولا شرابًا؛ كما أنَّ الشقيَّ يصل روحَهُ في قبره أو في النَّار عذابٌ، وتارة يرجع الروح للجسد، فيجيء الجسدَ مسلمًا أو كافرًا، وذلك كما تُعرض النار على أرواح آل فرعون قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تَرِدُ أنهار الجنَّة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل ـ أي: صُوَر قناديل ـ معلَّقة تحت العرش)، وعن ابن مسعود: (أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيًّا إلى يوم القيامة)، فنقول: الأرواح أجسام لطيفة، وأجساد تلك الطير على صور الموتى، لو رآهم أحد لقال رأيت فلانًا؛ وقيل: أجسادٌ أُخَر على صور الطَّير، ويدلُّ له رواية عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (في صور طير خضر)، ولا ينافي ذلك رواية: (في أجواف طير)، ورواية: (في حواصل طير).
4. ﴿وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾ ما هم فيه من أنَّه تنعم أرواحهم في أجواف طير خضر على حدِّ ما مرَّ، تكون الطَّير لها كالهوادج، وأرواح أهل النار تعذَّب في أجواف طير سود، تكون لها كالتَّابوت في النَّار، وقد تحيى أجسام هؤلاء وهؤلاء.
5. نزلت الآية لَمَّا قيل في شهداء بدر، وهم ستَّة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، أو سبعة عشر أو ستَّة عشر ـ بيَّنتُ أسماءهم في شرح نونيَّة المديح ـ : إنَّهم ماتوا وذهبت عنهم النِّعم واللَّذَّات، ولقول المشركين والمنافقين: قتلوا في مرضاة محمَّد بلا فائدة.
6. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم﴾ عطف على (اسْتَعِينُوا)، أو على ما عطف على (اسْتَعِينُوا)، والمعنى: لنصيبنَّكم إصابة كإصابة من تختبر حاله لتعلم أيصبر ويثبت على الطَّاعة أوْ لَا؟ والله لا يخفي عليه شيء، فذلك استعارة تمثيليَّة، والخطاب للمؤمنين عمومًا؛ وقيل: للصَّحابة؛ وقيل: لأهل مكَّة، ﴿بِشَيْءٍ﴾ قليل، كما يفيده التَّنكير مع (مِن) التَّبعيضية، مع العرف في لفظ شيء، فإنَّ كلَّ ما أصابهم قليل بالنِّسبة إلى المصايب العظام، وهم عالمون بأنَّ ما لم يصبهم أعظم، فيعلمون أنَّ رحمة الله لم تفارقهم، إذ هم معافون من المصايب التي فوق ذلك، وأيضًا يفرج الله عنهم ويعوِّضهم، وبالنِّسبة إلى ما يصيب الكُفَّار في الآخرة، وذلك داع للشُّكر، ومن نعمته أنَّه أخبرهم بما يصيبهم قبل وقوعه ليوطِّنوا أنفسهم، مع معرفتهم أنَّ لهم عليه أجر، فيخفُّ بما بعد ذلك، ولو أصيبوا بمثله قبل الإخبار.
7. ﴿مِّنَ الْخَوْفِ﴾ خوف العدوِّ، وقيل: خوف اللهِ، وفيه أنَّ خوف الله لا يسمِّيه الله بلاء واختبارًا، وهو أمر محمودٌ لا يسمَّى باسم ينفِّر ويثقل، وَأَمَّا أنْ يعترض أنَّه للحال فلا؛ لأنَّ المضارع مع لام القسم للاستقبال، وإنْ صحَّ الحال فالمراد ما يستقبلُ من ذلك.
8. ﴿وَالجُوعِ﴾ للقحط والغلاء والفقر، وفسَّره بعض بنفس القحط إقامة للمسبَّب مقام السَّبب؛ وقيل: للصَّومِ، وفيه ما مرَّ من خوف الله بل دونه؛ لأنَّه يقال: يبتليكم الله بما يشقُّ عليكم فتفعلونه، لكنَّ التفسير بغير الظَّاهر بلا داع بدعة ولا تجوز.
9. ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الَامْوَالِ﴾ بالهلاك للحيوان والنبات والشجر، أو بالسَّرقة والكساد، وقيل: بالإنفاق نفلاً أو زكاةً، وفيه ما مرَّ في خوف اللهِ، وأيضًا في تسميتها نقصًا من الأموال تنفيرٌ، ولو صحَّ أنَّ ما يُعطى من المال نقص من عدده، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما نقص مال من صدقةٍ)، أي: لها، أي: يخلفه الله عددًا أو كمالاً بالبركة، فيقوم الباقي مقام نفسه ومقام ما خرج وأكثر، مع ثواب الآخرة.
10. ﴿وَالَانفُسِ﴾ أنفس الأحبَّة، ومن يعزُّ على الرَّجل هلاكه، وذلك بالقتل والموت والأمراض، وذهاب منافع البدن بذهاب قواه كالصَّمم، والعمى والعرج، فذلك نقص من صحَّة الأنفس.
11. ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ من الشَّجر والنبات والحرث بالجوائح، من ريح وحرٍّ وبردٍ ونقص ماءٍ ونحو ذلك، وخصَّت مع أنَّها من الأموال لأنَّها قد لا تُملَك، كثمار الأرض التي لا يملكها أحد، وقيل: الأولاد؛ لأنَّها ثمرة آبائهم وأُمَّهاتِهم، بأنْ يموتوا أو يصابوا في أبدانهم، ومن الثَّمرات بمعنى الأولاد الحديث: (إذا ماتَ ولدُ العَبدِ قال الله للملائكة: أَقَبَضْتُم وَلَدَ عَبْدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أَقَبَضْتُم ثَمَرَة فؤادِه؟ فيقولون: نعم، فيقولُ الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدَكَ واسترجعَ، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّة وسمُّوهُ بيتَ الحمدِ)، أي: لأنَّ سببهُ الحمد، لكن ليس كلُّ ما جاء في الحديث يفسَّر القرآن بهِ.
12. ﴿وَبَشِّرِ﴾ بالصَّلوات من الله والرَّحمة، والخلف والثَّواب العظيم، ولا حاجة إلى تقدير بعضهم: (أنذرِ الجازعين)؛ لأنَّه معلوم بلا تقدير، ولا داعي إلى تقديرِهِ.
13. ﴿الصَّابِرِينَ﴾ من المؤمنين لأنَّ صبر الكافرين لا ينفعُهُم في الآخرةِ، والخطاب للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لكلِّ من يصلح للتَّبشير، وهكذا في مثل الآية بحسب الإمكان، ولو لم أذكُرهُ.
14. ﴿الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ﴾ مَّا، في بدنٍ أو عرضٍ أو مال أو أهلٍ أو من يعزُّ عليه، ولو شوكة أو بعوضة أو ذبابة، طفئَ مصباح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال: (إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ)، فقيل: أمصيبةٌ هي؟ قال: (نَعم، كلُّ شيءٍ يُؤْذِي المؤمنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبةٌ).
15. ﴿قَالُواْ﴾ إذعانًا واستسلامًا ورضًا وتفويضًا بالقلب واللِّسان، أو بالقلب لا باللِّسان وحده، ﴿إِنَّا لِلهِ﴾ خلقًا وعبوديَّةً ومُلكًا، يفعل بنا ما يشاء إذ لا نملك شيئًا من أنفسنا مع الله، كيف نملك ذلك وقد أوجدنا من العدم!؟ ولا نملك في العدم شيئًا.
16. ﴿وَإنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ في الآخرة فيثيبنا، ولا نملك وجودا ولا عدمًا، وما أخذ فعارية مردودة لمالكها، وما أبقى أكثر قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (مَن اسْتَرْجَعَ عِندَ المُصِيبةِ آجَرَهُ اللهُ فِيهَا وَأَخْلَفَ عليهِ خيرًا)، وقد يسترجع الإنسان بلسانِه فقط، إلَّا أنَّه غير ساخط، فوالله إن شاء الله لا يخلو من خير، ألا تراه رجع إلى ذكر اللهِ؟ لا إلى قول سوء، بل لا يكون ذلك إلَّا وفي قلبه حضور مَّا، ولو لم يعلم به، وفي الحديث: (ما أعطي الاِسترجاع لأحدٍ قبل أمَّتي)، ألا ترى إلى قول يعقوب: ﴿يَآ أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 84]، ويُسنُّ أنْ يقال بعد الاِسترجاع: (اللهمَّ أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها)، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يقولُ أحدٌ ذلك إلَّا آجرهُ فيها وأخلَفه خيرًا منها)، قالته أمُّ سلمة: لَمَّا مات أبو سلمة زوجها، فأخلفها الله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .
17. ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ﴾ مغفرة أو تزكية أو ثناء أو تعظيم، والجمع مناف لأن يراد بالصَّلوات الثَّناء أو التعظيم، إلَّا أنْ يقال: بمعنى ثناء بعد ثناء، وتعظيم بعد تعظيم، ولم يقل: صلاة لكثرة المغفرة والتَّزكية والثَّناء وأنواعهنَّ، أو أراد صلاة بعد صلاة، لكنَّ المعروفَ بالتكرير المفرداتُ، نحو: زيد يأكل مرَّة مرَّة، والتَّثنية كقوله: كرَّتين، وقولنا: لبَّيك.
18. ﴿مِّنْ رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ نعمة عظيمة أفرادًا وأنواعًا، روي: (نِعْمَ العِدلانِ للصَّابرين: الصَّلواتُ والرَّحمةُ)، ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى الصَّواب والحقِّ إذ استرجعوا رضًا بقضاء الله تعالى ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (مَن اِسترجَعَ عند المصيبةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَهُ، وأَحسنَ عُقباهُ وجعلَ لهُ خلفًا صَالحًا يَرضاهُ)، وذلك أولى من تقدير: المهتدون إلى الفوز بالمطالب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/263.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذهب الذين ينظرون من القرآن في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض التماسا لسبب النزول في كل آية أو جملة أو كلمة ولا ينظرون اليه في سياق جمله وكمال نظمه إلى ان الأمر بالاستعانة في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ هو للاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها، وان المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس، واعتمده البيضاوي وغيره، أو على الطاعات وبهذا صرح الجلال، وقد أورد قوله محمد عبده وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام، والتحقيق انه عام في كل عمل نفسي أو بدني أو ترك يشق على النفس، كما يدل عليه حذف متعلقه، والمعنى استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ولا سيما الاعمال العامة النفع كالجهاد المشار اليه في الآية التالية.
2. ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة(2).، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة، وازالة شبه الفاتنين والمفتونين، وإقامة الحجج على المشاغبين، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين، ومنها إتمام النعمة، والبشارة بالاستيلاء على مكة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق، من المسلم المنافق، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به وتفضح المنافق المرائي فيه، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه، أو انقلابه ناكصا على عقبيه، ثم شبه هذه النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة، وتأكيد أمر القبلة، ما يليق بتلك الحالة وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم للإيذان بان تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة، هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة.
3. لا جرم ان تلك النعم التي يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء وأنواع من المصائب، أكبرها ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه، واصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه، أليس من النسب القريب بين الكلام، ومن كمال الارشاد في هذا المقام، أن يرد بعد الأمر بالشكر، أمر آخر بالصبر، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذاك؟ بلى ان هذه الآيات متصلة بما قبلها، متممة للإرشاد فيها، وقد هدى سبحانه بلطفه الى علاج الداء قبل بيانه، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة، ووعد على ذلك بمعونته الالهية، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة الى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم، فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله، لا ان الآية في الانقطاع الى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله، أو السعي لعياله ـ اعتكافا في مسجد أو انزواء في خلوة ـ عاملا بها كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، وكانت الامم كلها مناوئة لهم، فالمشركون اخرجوهم من ديارهم واموالهم وما فتئوا يغيرون عليهم، ويصدون الناس عنهم، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم، ومن راوغة المنافقين وكيدهم، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة.
4. ذكر الصبر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار، وهذا يدل على عظم امره، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق، اذ لا بد للداعي الى الحق منه والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكه الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، التي هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة الا وهي محتاجة اليها، وإنما يظهر الصبر في ثبات الانسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة الى عقيدة، أو تأييد فضيلة، أو إيجاد وسيلة الى عمل عظيم، لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره، ومصارعة الشدائد، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الامر متكلفا، ومتي رسخت الملكة يسمى صاحبها صبورا وصبارا، وليس كل متحمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية انه معهم وبشرهم في الآية الاتية، وأثنى عليهم في آيات كثيرة، بل لا بد من العمل للحق والثبات فيه، لأن الفضائل لا تتحقق الا بما يصدر عنها من الاعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ولذلك امر الله تعالى به، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق، وعلى ذلك جرى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عليهم الرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الامم مع قوتها وكثرتها، وإنما كان ذلك بالصبر، لان الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر، كما جاء في سورة العصر.
5. المتحمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الاعضاء في الصلاة، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى وهو جل ثناؤه يبرئ المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ الخ وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في قرآن إذ قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الامرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد ولو كان هؤلاء الادعياء مصلين لكانوا من الصابرين، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها، أو يقصدون بها قلوب الناس يبتغون عندها المكانة الرفيعة بالدين، لما يترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها، فيجب على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له اسبابه، فمن لم يستعن على عمله بالصبر، لا يتم له أمر، ولا يثبت على عمل، ولا سيما الاعمال العظيمة كتربية الامم والانتقال بها من حال الى حال، لذلك ترى كثيرين يشرعون في الاعمال العظيمة فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية.
6. من يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه، وهو بهذا الاحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على تأييد الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي.
7. أما الحاجة الى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون، تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه إلى الله تعالى ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وجلاله وكمال سلطانه، تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ وقال فيها: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها، والتي نشاهد من المعتادين لها الاصرار على الفواحش والمنكرات، واجتراح الآثام والسيئات، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين؟ انما جعلت تلك الحركات والاقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكير الغافلين، وتنبيه الذاهلين، ودافعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويسهل عليه عند ذلك احتمال كل بلاء، ومقاومة كل عناء، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه، فهو لا يزال يقول: الله أكبر، حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير، الذي يلجأ اليه في الحوادث، ويفزع اليه عند الكوارث.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولم يقل معكم ليفيد أن معونته انما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم، وقالوا ان المعية هنا معية المعونة، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء، وقال محمد عبده: ان من سنة الله تعالى ان الاعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار، وهذا إنما يكون بالصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر، لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب سنته، ولن يثبت فيبلغ غايته علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم، وما يقوله لهم الناس في ذلك وما يقول الضعفاء في أنفسهم: كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الامم كلها؟ وما الغاية من قتل الانسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعونه من المنافقين والكافرين، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطؤوا النصر، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس، ومقاومة الشبهات والوساوس، فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة.
9. ثم ذكر الله تعالى أعظم شيء يستعان عليه بذلك وهو القتل في سبيل دعوة الحق وحمايته، ذكره مدرجا في سياق تقرير حقيقة ودفع شبهة فقال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ أي لا تقولوا في شأنهم: هم أموات، وقالوا ان اللام في (لمن) للتعليل لا للتبليغ والمعنى ظاهر والتركيب مألوف ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْيَاءً﴾ في عالم غير عالمكم ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ بحياتهم إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، ثم لا بد أن تكون هذه الحياة حياة خاصة غير التي يعتقدها جميع المليين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم:
أ. ولذلك ذهب بعض الناس إلى أن حياة الشهداء تتعلق بهذه الاجساد وإن فنيت أو احترقت أو أكلتها السباع أو الحيتان وقالوا: انها حياة لا نعرفها، ونحن نقول مثلهم اننا لا نعرفها ونزيد اننا لا نثبت ما لا نعرف.
ب. وقال بعضهم: انها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتع به ويرزق، ورووا في هذا روايات منها الحديث الذي أشار اليه المفسر (الجلال) وهو (ان أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة)
ج. وقيل: إنها حياة الذكر الحسن والثناء بعد الموت.
د. وقيل ان المراد بالموت والحياة الضلال والهدى، روي هذا عن الاصم أي لا تقولوا ان باذل روحه في سبيل الله ضال بل هو مهتد.
هـ. وقيل: إنها حياة روحانية محضة.
و. وقيل ان المراد أنهم سيحيون في الآخرة وان الموت ليس عدما محضا كما يزعم بعض المشركين، فالآية عند هؤلاء على حد ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ أي ان مصيرهم الى ذلك.
ز. قال محمد عبده بعد ذكر الخلاف: وقال بعض العلماء الباحثين في الروح ان الروح إنما تقوم بجسم لطيف (أثيري) في صورة هذا الجسم المركب الذي يكون عليه الانسان في الدنيا وبواسطة ذلك الجسم الاثيري تجول الروح في هذا الجسم المادي، فاذا مات المرء وخرجت روحه فإنما تخرج بالجسم الاثيري وتبقى معه وهو جسم لا يتغير ولا يتبدل ولا يتحلل، وأما هذا الجسم المحسوس فإنه يتحلل ويتبدل في كل بضع سنين، ويقرب هذا القول من مذهب المالكية فقد روي عن مالك انه قال: ان الروح صورة كالجسد، أي لها صورة وما الصورة إلا عرض، وجوهر هذا العرض هو الذي سماه العلماء بالأثير وإذا كان من خواص الاثير النفوذ في الاجسام اللطيفة والكثيفة كما يقولون حتى انه هو الذي ينقل النور من الشمس إلى طبقة الهواء فلا مانع أن تتعلق به الروح المطلقة في الآخرة ثم هو يحل بها جسما آخر تنعم به وترزق سواء كان جسم طير أو غيره، وقد قال تعالى في آية أخرى ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وهذا القول يقرب معنى الآية من العلم، والمعتمد عند محمد عبده في هذه الحياة هو انها حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس، بها يرزقون وينعمون، ولكننا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوض الامر فيه إلى الله تعالى.
10. ذكر الله تعالى فضل الشهادة التي استهدف لها المؤمنون في سبيل الدعوة إلى الحق والدفاع عنه، ثم ذكر مجموع المصائب التي يبلوهم ويمتحنهم بها وهذه لا تنافي ما وعدهم به من نعم الدنيا فقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ اي ولنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الاعداء وغيره من المصائب البشرية المعتادة في المعايش، وأكد هذا بصيغة القسم لتوطين الانفس عليه فعلمهم به أن مجرد الانتساب إلى الايمان، لا يقتضي سعة الرزق وقوة السلطان، وانتفاء المخاوف والاحزان، بل يجري ذلك بسنن الله تعالى في الخلق كما أن من سنن الخلق وقوع المصائب بأسبابها.
11. إنما المؤمن الموفق من يستفيد من مجاري الاقدار، إذ يتربى ويتأدب بمقاومة الشدائد والاخطار، ومن لم تعلمه الحوادث، وتهذبه الكوارث، فهو جاهل بهدي الدين، متبع غير سبيل المؤمنين، غير معتبر بقوله تعالى بعد ذكر هذا البلاء المبين: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ فإنه تعالى أراد أن ينبهنا بهذا إلى أن هذه العقيدة هي التي تكتسب بها ملكة الصبر التي يقرن بها الظفر ويكون صاحبها أهلا لأن يبشر باحتمال البلاء والاستفادة بحسن العاقبة في الامور كلها.
12. البشارة في الآية عامة ولم يذكر المبشر به إيذانا بذلك وهو إيجاز لا يعهد مثله في غير القرآن الحكيم، فانت ترى انه لو أريد ذكر ما يبشرون به لخرج الكلام إلى تطويل لا حاجة اليه كبيان عاقبة من يقع في كل نوع من أنواع المخاوف فيصابرها وينجح في أعقابها وهي كثيرة، وهكذا الخوف المشار اليه في الآية ـ وأعداء الاسلام على ما كانوا عليه من الكثرة والقوة ـ ظاهر لا يخفى، على أن بعضهم فسره بالخوف من الله تعالى وهو باطل لان هذا من أعظم ثمرات الايمان، لا من مصائب الامتحان، فهو نعمة تعين على الصبر لا مصيبة يطلب الصبر عليها أو فيها لأجل تهوين خطبها، وأما الجوع فقد قالوا انه ما يكون من الجدب والقحط، قال محمد عبده: وليس هذا هو المراد في الآية المسوقة لبيان ما يلاقي المؤمنون في سبيل الايمان ولا وقع للصحابة في ذلك العهد ـ وإنما هو أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج في الغالب صفر اليدين، ولذلك كان الفقر عاما في المسلمين من أول عهدهم إلى ما بعد فتح مكة، ومن هذا التفسير يفهم المراد من نقص الاموال وهي الانعام التي كانت معظم ما يتموله العرب، وأما الثمرات فهي على أصلها، وكان معظمها ثمرات النخيل، وقيل هي الولد ثمر القلب كما يقولون في المجاز المشهور، وقد بلغ من جوع المسلمين أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرة ولا سيما في غزوتي الاحزاب وتبوك، وأما نقص الأنفس فهو ما كان من القتل والموتان من اجتواء المدينة، فقد كانت عند هجرتهم اليها بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.
13. ثم وصف الله تعالى الصابرين المستحقين للبشارة بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي قالوا هذا القول معبرين به عن حالهم ومقتضى ايمانهم، وليس المراد بالقول مجرد النطق بهذه الكلمة على أن يحفظوها حفظا، ويلفظوها لفظا، وإن كانوا لا يعقلون لها معنى، وإنما المراد التلبس بمعناها والتحقق في الايمان بأنهم من خلق الله وملك الله وإلى الله يرجعون، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يفعل إلا ما سبقت به الحكمة، وارتضاه النظام الالهي المعبر عنه بالسنة، بحيث ينطلق اللسان بالكلمة بدافع الشعور بهذا المعنى وتمكنه من النفس، فأصحاب هذا الاعتقاد والشعورهم الجديرون بالصبر إيمانا وتسليما بحيث لا يملك الجزع نفوسهم ولا تقعد المصائب هممهم، بل تزيدهم ثباتا ومثابرة فيكونون هم الفائزين ولا ينافي الصبر والتثبت ما يكون من حزن الانسان عند نزول المصيبة بل ذلك من الرحمة ورقة القلب، ولو فقد الانسان هذه الرحمة لكان قاسيا لا يرجى خيره ولا يؤمن شره، وإنما الجزع المذموم هو الذي يحمل صاحبه على ترك الاعمال المشروعة لأجل المصيبة، والأخذ بعادات وأعمال مذمومة ضارة ينهى عنها الشرع، ويستقبحها العقل، كما نشاهد من جماهير الناس في المصائب والنوائب وقد ورد في الصحيحين ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكى عندما حضر ولده ابراهيم عليه السّلام الموت وقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ فاخبر أنها الرحمة وقال (ان العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه الشيخان من حديث أنس.
14. فائدة الاخبار بالبلاء قبل وقوعه توطين النفس عليه واستعدادها لتحمله والاستفادة منه (ما من دهي بالأمر كالمعتد) هذا إن لم يقترن بالخبر إرشاد وتعليم، فكيف إذا اقترنت به هداية العزيز العليم؟
15. ذكر البلاء وبشر الصابرين عليه وذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة وختم القول ببيان الجزاء المبشر به بالإجمال فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي اولئك الصابرون المحتسبون عليهم من ربهم الرَؤُوف الرحيم ما يحول دون تبريح المصائب بهم من أنواع صلواته العامة ورحمته الخاصة، فأما الصلوات فالمراد بها انواع التكريم والنجاح، وإعلاء المنزلة عند الله والناس، وعن ابن عباس انها المغفرة لذنوبهم، وأما الرحمة فهي ما يكون لهم في نفس المصيبة من حسن العزاء، ويرد الرضى والتسليم للقضاء، فهي رحمة خاصة يحسد الملحدون عليها المؤمنين، فان الكافر المحروم من هذه الرحمة في المصيبة تضيق عليه الدنيا بما رحبت، حتى انه ليبخع نفسه إذا لم يعدله رجاء في الاسباب التي يعرفها وينتحر بيده ويكون من الهالكين.
16. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أي إلى ما ينبغي عمله في أوقات المصائب والشدائد إذ لا يستحوذ الجزع على نفوسهم، ولا يذهب البلاء بالامل من قلوبهم، فيكونون هم الفائزين بخير الدنيا والراحة فيها، المستعدين لسعادة الآخرة بعلو النفس وتزكيتها بمكام الاخلاق وصالح الاعمال، دون اهل الجزع وضعف الايمان، كما يدل عليه الجملة الاسمية المعرفة الطرفين المؤكدة بضمير الفصل.
__________
(1) تفسير المنار: 2/34.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتخويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبيّن فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى، بيّن في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصائب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعوّد تحمل المشاقّ، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزّرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
2. في الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلى للهيبة والجلال وهو واقف بين يدى ربه كما جاء في الحديث (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخفّ بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء، فلا تتوق نفسه إلا لما يرضى ربه الذي يلجأ إليه في الملمّات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
3. ليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾، ومن ثمّ نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرومون، وما كان للمصلى أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾.
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ.
5. إنما خصّ الصبر والصلاة بالذكر، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه، إذ فيها خضوع واستسلام لله، وتوجه بالقلب إليه، واستشعار لعظمة الخالق، وقد روى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حزبه أمر (اشتدّ عليه) فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية.
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم، ومن كان الله ناصره فلا غالب له، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله، والقلب اللاهي ممتلئ بهموم الدنيا وأكدارها، وإن حاز الدنيا بحذافيرها، وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها، ومدار ذلك كله الصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، فيسهّل له العسير من أمره، ويجعل له فرجا من ضيقه، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكّب عن سنته، فلن يبلغ قصده وغايته.
7. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا: إنهم أموات، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، بل هي حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب، فنفوض أمره إلى الله، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.
8. أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصدّ الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم، والرزق المتواصل، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة، والجهر بالحق، والصدع بأمر ربه، فكان له ما كان مما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر.
9. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصائب المعتادة في المعاش، كالجوع ونقص الثمار، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرات، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.
10. في الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف، بل كل ذلك يجرى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه، فتقع المصائب متى وجدت أسبابها، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد، ويتهذّب بوقوع الكوارث.
11. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر ـ بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون، والصبر لا ينافى ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكى عندما حضر ولده إبراهيم الموت، فقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال إنها الرحمة، ثم قال: إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.. والجزع المذموم هو الذي يدعو صاحبه إلى فعل ما يمجّه العقل وينهى عنه الشرع، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلّت بهم المصائب، ونزلت بهم الكوارث.
12. في قوله: ﴿إِنَّا لله﴾ إقرار بالعبودية والملك، وفي قوله: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار بالفناء والبعث من القبور، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى.
13. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة، وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت، حتى لقد يقضى على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حلّ به ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى الحق والصواب، ومن ثم استسلموا للقضاء، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها، وسعادة الآخرة بتزكية النفس، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/22.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد تقرير القبلة، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس.. كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم، والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس، وربط قلوب هذه الأمة بالله، وتجردها له، ورد الأمور كلها إليه.. كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء..
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولا بد من الصبر في هذا كله.. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض.
3. حين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد، ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد، المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع، ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.
4. إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.. هنا تبدو قيمة الصلاة.. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية، إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض، إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض، إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.. ومن هنا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان في الشدة قال (أرحنا بها يا بلال).. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله.
5. إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة، والعبادة فيه ذات أسرار، ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر.. إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾.. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان.
6. من ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام.. إلى الصبر وإلى الصلاة.. ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق.. وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
7. الأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها: عن خباب بن الأرتّ قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
8. الآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل.. الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع، ومن تضحيات وآلام، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديرا صحيحا: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.. إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق، شهداء في سبيل الله، قتلى أعزاء أحباء، قتلى كراما أزكياء ـ فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس ـ هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا، إنهم أحياء، فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات، لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان.
9. إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه، فهم لا بد أحياء.. إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين، ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقرر هما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد، وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد، فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى، فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.. ثم هم أحياء عند ربهم ـ إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه، وحسبنا إخبار الله تعالى به: ﴿أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.. لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود، ولكنهم أحياء.. أحياء، ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها، فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة، وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.. أحياء، فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء، أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء.. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنا عظم الفداء.
10. ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه، في صحيح مسلم: (إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة، فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا، وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى ـ لما يرون من ثواب الشهادة ـ فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون).. وعن أنس، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة.
11. لكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾.. في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله، في سبيل هذا الحق الذي أنزله، في سبيل هذا المنهج الذي شرعه، في سبيل هذا الدين الذي اختاره.. في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار، وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر.. غير الله:
أ. سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)
ب. وروي أن رجلا قال يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له)، فأعاد عليه ثلاثا، كل ذلك يقول: (لا أجر له)
ج. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي.. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عزّ وجل أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)
12. هؤلاء هم الشهداء، هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله.. ولقد كره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه (وكان مولى من أهل فارس) قال (شهدت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحدا، فضربت رجلا من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إليّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)، فقد كره له صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين.. وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء.
13. ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.. ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى، فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين، وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا..
14. لا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.
15. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده، لا يجد سندا إلا سنده، وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا شيء إلا الله.. لا قوة إلا قوته.. لا حول إلا حوله.. لا إرادة إلا إرادته.. لا ملجأ إلا إليه.. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح..
16. النص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾.. إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله.. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق.. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح.. هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل.
17. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.. صلوات من ربهم.. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه.. وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون.. وكل أمر من هذه هائل عظيم.
18. لا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي، التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.. إن الله يضع هذا كله في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته.. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها، فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية ـ حتى الرغبة في انتصار العقيدة ـ كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها.
19. إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء، جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات، وجزاء على الخوف والجوع والشدة، وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء، أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور..
20. هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/142.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. الطاعات والاستقامة عليها، لها أعباؤها التي تحتاج إلى قوة احتمال ومجاهدة، ولكى يقوى الإنسان على حمل هذه الأعباء، كان لا بد له من زاد يعينه، ويمسك عليه عزمه ومضاءه.. والصبر والصلاة هما خير ما يتزود الإنسان به، لكى يجد من نفسه القدرة على الوفاء ببعض حق الله عليه.
2. الصبر قوة معنوية لا يحصل عليها الإنسان إلا بعد رياضة ومعاناة، وتلك الرياضة وهذه المعاناة يحتاجان إلى الصبر، والصبر يحتاج إليهما.. وإذن فالدعوة إلى الصبر دعوة إلى التمرس بالطاعات أولا، والتعود على أداء الواجبات، فذلك هو الذي يخلق في الإنسان خلق الصبر.. وفى هذا يقول الله سبحانه للنبي الكريم: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾.. فأداء الصلاة والمداومة عليها يحتاج إلى الصبر والمصابرة، وبذلك توضع الخمائر الأولى للصبر في كيان الإنسان، ومع الزمن ينمو الصبر، ويصبح قوة عاملة في الإنسان.
3. يذهب بعض المفسّرين إلى أن معنى الصّبر في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ هو (الصوم) إذ كان الصوم في صميمه تجربة حية مباشرة لغرس بذرة الصبر وإرواء نبتته، ولهذا سمّى رمضان شهر الصبر، ونحن نأخذ بهذا المعنى للصبر، ونرى في التعبير القرآني عن الصوم بالصبر إعجازا من إعجاز القرآن، حيث كان الصبر والصوم متلازمين، لا وجود لأحدهما بغير الآخر، فلا صوم إلا مع الصبر، ولا صبر إلا ومعه صوم وحرمان.. صوم عن مكروه، وحرمان من محبوب!. ولأن الصوم لا يكون إلا ومن ورائه الصبر، كان التعبير عنه بالصبر أولى من التعبير عن الصبر بالصوم، إذ قد يكون الصبر ولا صوم، ولكن لا يكون الصوم بغير الصبر!.
4. الجهاد في سبيل الله، والانتظام في صفوف المجاهدين، والإقدام على ملاقاة الأعداء، والتعرض لمواجهة الموت ـ ذلك كله يحتاج إلى رصيد عظيم من الصبر والإيمان.. ولهذا جاءت دعوة الله إلى الجهاد في سبيل الله، بعد دعوته إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، على المحن والشدائد.
5. الجهاد في سبيل الله، محفوف دائما بالبذل والتضحية.. بذل المال، وتضحية النفس، والأهل والولد، والابتلاء بفقد الأحباب ـ ولو كان في سبيل الله ـ شاق على النفس، أليم وقعه على الأحياء، ولهذا لم يكن الفيء إلى الصبر والصلاة ـ مهما كان شأنهما ـ بالذي يقهر نوازع الحزن، ويذهب بلواعج الأسى في هذا المقام..
6. لهذا جاءت تلك المواساة الكريمة الرحيمة من رب العالمين، لتمسح بيد الرحمة على ما بقلوب المبتلين بفقد أحبابهم، والمصابين باستشهاد أهليهم، من آلام وأحزان، فهؤلاء الشهداء ـ كما يخبر رب العالمين ـ ليسوا بالأموات، وإنما هم أحياء، في أطيب منزل، وعند أرحب جناب: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إن لهؤلاء الشهداء شأنا آخر عند الله غير شأن غيرهم ممن ينقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة.. فهم أحياء عند ربّهم وإن كنا لا نشعر بحياتهم، هم في عالم ونحن في عالم، وبين العالمين حجاز.. وحسب المؤمن أن يتلقّى هذا الخبر عن الله تعالى فيعلم، عن يقين أن الشهداء أحياء، يلبسون صورة للحياة أكرم وأبقى من الحياة التي كانوا عليها.. وهم في نعيم لا يقاس به أي نعيم ينعم به المنعمون في هذه الدنيا.
7. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ الناس جميعا مبتلون في هذه الحياة ـ سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو أمما ـ بشيء من الخوف والجوع ـ يختلف قلة وكثرة ـ وبنقص في الأموال والأنفس والثمرات.. فليس أحد في هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل، متفرقة أو مجتمعة.. والجزع في هذه المواطن هو الذي يثقّل المصيبة، ويولّد منها مصائب، فيضاعف معها البلاء، ويعظم الألم، ويطبق اليأس، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!. أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر، ويواجهها بالتسليم والرضا، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء الله وقدره ـ فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال، ويفتح له بابا واسعا من الأمل والرجاء فيما هو خير عند الله وأبقى.
8. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فحين يذكر المؤمن أنه ـ ذاتا ومالا وأهلا وولدا ـ ملك لله، لا يملك مثقال ذرة مما في ملك الله، وأن مصائر الأمور كلها إلى الله، ومردّها جميعا إليه ـ حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت، ولا يحزن على مفقود.
9. تلك هي أولى بشريات المؤمنين في هذه الدنيا، لا ينزل الحزن ساحتهم، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/174.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ هذه جمل معترضة بين قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 150] وما اتصل به من تعليله بقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ [البقرة: 150] وما عطف عليه من قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 150] إلى قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152] وبين قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ المتصل بقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 150]
2. وهو اعتراض مطنب ابتدئ به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكرا له على خولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطا وشهداء على الناس، وتفضيلهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك، وأمرهم بالاستخفاف بالظالمين وأن لا يخشوهم، وتبشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولا منهم، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال، من أجل ذلك كله أمرهم هنا بالصبر والصلاة، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال، فناسب تعقيبها بها.
3. وأيضا فإن ما ذكر من قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ مشعر بأن أناسا متصدّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم، فأمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة، وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ إلى قوله: ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158] فسيأتي تبييننا لموقعها.
4. افتتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعارا بخبر مهم عظيم، فإن شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدّم قبلها ما يهيئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.
5. في افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيعقب بالنّدب إلى عمل عظيم وبلوى شديدة، وذلك تهيئة للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بواط والعشيرة وبدر الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناسا قتلوا قبل تحويل القبلة، أنه توهم من أحد الرواة عن البراء، فإن أوّل قتل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال: (لما وجّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس) الحديث فلم يقل: (الذين قتلوا)، فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب، وتحبيب للشهادة إليهم، ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله: ﴿لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله﴾ المشعر بأنه أمر مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بعيد نزول هذه الآية.
6. تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ [البقرة: 45] الآية إلّا أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: ﴿إِنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ علما منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك: ﴿إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين.
7. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين.
8. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكرا عندما يرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعند ما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ نهي عن القول الناشئ عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلّا ما يعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143] كما تقدّم من حديث البراء فإنه قال: (قتل أناس قبل تحويل القبلة)، فأعقب قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة.
9. ارتفع ﴿أَمْوَاتٌ﴾ على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي لا تقولوا هم أموات، و﴿بَلْ﴾ للإضراب الإبطالي إبطالا لمضمون المنهي عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبر العظيم، فقوله: ﴿أَحْيَاءً﴾ هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد ﴿بَلْ﴾ الإضرابية.
10. إنما قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ للإشارة إلى أنها حياة غير جسمية ولا مادّيّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحشر مع إحساس ما بكونها آئلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث: (إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها)، والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عوّضت جسدا مناسبا للجنة ليكون وسيلة لنعيمها.
11. عطف: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ على قوله: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153] عطف المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ﴾ عطفا على قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 150] الآيات ليعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقينا بأن اتّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وجعل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة:153] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبرا بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
12. جيء بكلمة (شيء) تهوينا للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112] ولذلك جاء هنا بكلمة (شيء) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس الملازم للّابس، لأن كلمة (شيء) من أسماء الأجناس العالية العامّة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة (شيء) قبل اسم ذلك الجنس إلّا لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها، فما ذكر كلمة شيء إلّا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطبا لأبي إسحاق الصابي:
çفشيئا من دم العنقو...د أجعله مكان دميé
13. قول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ عدول عن أن يقول بخوف وجوع، أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسم جنس كما إذا أتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذ يدل على مطلق التنويع نحو قول قحيط العجلي:
çفلا تطمع أبيت اللعن فيها...ومنعكها بشيء يستطاعé
فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمعنى من المعاني من غلبة أو معازّة أو فداء أو نحو ذلك.. وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفا لدلالة المقام، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: 178] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة:
çومن مالئ عينيه من شيء غيره...إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمىé
أي من محاسن امرأة غير امرأته، وقول أبي حيّة النّميري:
çإذا ما تقاضى المرء يوم وليلة...تقاضاه شيء لا يملّ التقاضياé
أي شيء من الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا﴾ [آل عمران: 10] أي من الغناء، وكأنّ مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعا الشيخ عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيت أبي حية النميري، وبقلّتها وتضاؤلها في قول أبي الطيب:
çلو الفلك الدوّار أبغضت سعيه...لعوّقه شيء عن الدّورانé
لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوّق الفلك لا بد أن يكون شيئا.
14. المراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة:
çشعب العلافيات بين فروجهم...والمحصنات عوازب الأطهارé
وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة بكثرة غزواته:
çأفي كل عام أنت جاشم غزوة...تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي المجد رفعة...لما ضاع فيها من قروء نسائكé
وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور، والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] في هذه السورة وعند قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ [آل عمران: 10]
15. جملة: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ معطوفة على ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمناسبة أنه ممن شمله قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه، وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريما لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسناد البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسناد البشارة بالخير الآتي من قبل الله إلى الرسول.
16. وصف الصابرين بأنهم: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا﴾ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عند المصيبة أنهم ملك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك، فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبرا إذا كان تعبيرا عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علّمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحسّ، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد وتعليما له للناس، والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ﴾ [النساء: 72]
17. التوكيد بإنّ في قولهم: ﴿إِنَّا لله﴾ لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه ملكا لله تعالى وعبدا له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هولها بينه وبين رشده، واللام فيه للملك.
18. الإتيان باسم الإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] وهذا بيان لجزاء صبرهم.
19. الصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازا في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56]، وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 3] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يطلب الخير إلّا منه متعينا للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالة على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية.
20. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لما هو حقّ كل عبد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجبا عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سببا في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيّ لله لما لحقنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذّرنا الله أمرهم بقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ [الأعراف: 131]، وقال في المنافقين: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾ [النساء: 78]، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلّا الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/51.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اتجه المسلمون بأمر الله تعالى إلى البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وقد اتجهوا إليه في الصلاة إيذانا بإبعاده عن الشرك، وأن تحيط به الأوثان، وقد أشار سبحانه وتعالى بأنه سيكون الفتح، وأنه سيكون في حوزة أهل التوحيد، وأنه من بعد سيكون يأس الشيطان من أن يعبد في الأرض المباركة، وقد كان البيت الحرام في أيدى المشركين ولا يخرجون منه إلا بجهاد لإخراج أعداء الله من بيت الله، أو لجعل كلمة الله تعالى العليا في بيته، وإنه بالتحقيق ثبت بالتقريب أن تحويل القبلة كان في الليلة الخامسة عشرة من شعبان، وكان ابتداء يوم الفرقان لغزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان، فكان بين التحويل ويوم الفرقان شهر واحد، ولذلك جاءت الدعوة إلى الجهاد، عقب تحويل القبلة، وأول الجهاد جهاد النفس، فجهاد النفس قبل امتشاق الحسام في الميدان، وجهاد النفس بتعويدها الصبر وقمع الأهواء والشهوات والاتجاه إلى الله تعالى؛ ولذا ابتدأ به فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ استعينوا في أموركم، وفى استجابة أوامر ربكم والأخذ بأحكام دينكم وإعداد العدة للقاء عدوكم، فمجاهدة النفس مقدمة على جهاد العدو، بل هي عدته وقوته.
2. الصبر ضبط النفس والاستيلاء عليها، وهو يتنوع بتنوع موضوعه، فهناك صبر على منازعة الأهواء والشهوات لتعميمها والاستيلاء عليها بجعل الشهوة أمة للعقل ليست مسيطرة عليه، ولا مسيرة للنفس، وهناك صبر لأداء الطاعات والقيام بالواجبات فإن ذلك يحتاج إلى عزم قوى لا يكل ولا يمل، وهناك صبر على لغو القول من الناس، واستهزاء السفهاء، وتهكم ذوى الأهواء، وهناك صبر بالإقامة مع الضعفاء وقد قال الله تعالى فيه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف]، وهناك صبر عند المصائب في الدنيا فلا يفزع ولا يجزع ويعلم أن الصبر فيه أجر وأن الجزع فيه وزر، وهناك صبر عند لقاء الأعداء ولعله نتيجة لصفة الصبر وتشعبها في كل النواحي التي ذكرناها.
3. الصبر خير كله، وهو أول صفات المؤمنين، ومن الصبر ألا يكفر عند النعمة وألا ييئس عند النقمة، ولقد قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود]، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه مسلم بسنده عن صهيب، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) فالصبر كله خير، وهو عدة الإيمان والأخلاق، وبناء المجتمع الصالح، وهو أقوى عدة للجهاد.
4. هذا أمر الصبر، والاستعانة به مناجاة العبد لربه، وصرف القلب إليه، والاتجاه إليه، وهى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فينسى ما بينه وبين الناس، وهى استحضار العزة من الله، وامتلاء الإنسان بجبروت الله، وأنه فوق قوى البشر، والاستعانة هي سلوك المؤمن، روى (أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حزبه أمر صلى)، ولقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر والصلاة إذا اشتدت عليه شديدة الناس بالقول والعمل، فقال تعالت كلماته: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه] فعبر عن الصلاة هنا بالتسبيح فسبيل الرضا بالنوازل والشدائد من الناس ـ كما تدل الآية ـ الصبر على ما يقولون، والصلاة إذ هي اطمئنان القلوب، وسرور النفوس وبها تستبدل النعمة بالنقمة، والسراء بالضراء.
5. ختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بمعاونته لهم، فينصرهم، بسيطرتهم على نفوسهم، ثم ينصرهم على أعدائهم، ثم يغلبهم على كل شر في الحياة، ثم تقوية عزمهم، وضبطهم لنفوسهم، فالله معهم في كل أعمالهم، وهو وليهم ونعم المولى ونعم النصير.
6. هذا ما يعدّ الله به تعالى نفوس المجتهدين، صبر وذكر لله تعالى، وإنه من بعد ذلك يكون القتال، ويكون الشهداء، وفى ذلك إشارة إلى أنه ليس القتال شهوة، ولا نزهة، ولكنه فداء وبلاء، واستشهاد، وإن الشهداء لا يموتون ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون، والحياة ليست للأشباح فقط، بل هي للأرواح، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
7. النهى عن القول، والقول دليل الاعتقاد فهو نهي عن الاعتقاد، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن الاعتقاد في آية أخرى في معنى هذه الآية الكريمة وفى موضوعها فقال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران] وفى الآية التي نتكلم في معناها قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، أي ولكن لا تحسونهم بمرأى العين، وذلك لا يقتضى أنهم ماتوا، بل هم عند ربهم يرزقون، ولقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران].
8. إن حياتهم روحية يستبشرون بها بأنهم فدوا إخوانهم، وأنهم قدموا أنفسهم، وآثروا إخوانهم، ولقد صور النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حياتهم فيما روى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى، فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون)، هذا حديث مصور لحياتهم الروحية، وأنهم في جنات النعيم، وأنهم ما ندموا على أن قتلوا شهداء بل إنهم فرحون بذلك، وأنهم يتمنون أن يعودوا ليقتلوا في سبيل الله تعالى؛ لأنهم راضون بما فعلوا، فهم يطلبون الشهادة بأرواحهم كما طلبوها بأبدانهم.
9. ذكر الشهداء بعد الأمر بالصبر والصلاة تأكيد لضرورة الصبر، ولا يكون من غير صلاة، وإن الجهاد بلاء، ولا بد أن يستعدوا له، فهو اختبار؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وهذا النص جاء توطئة للجهاد، وليتحملوا كل ما فيه من شدائد، وكله شدائد إلا على المؤمنين الصابرين، وإنه يجب أن يتوقعوا ذلك ويتحملوه، فإن الأمر المتوقع إذا وقع سهل حمله، وإذا جاء على غير توقع صعب وقعه، وهلعت النفوس، وهذا النص كقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [البقرة] ومثل قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران]، فهذه من أخوات هذه الآية التي نتكلم في معناها، فهي بيان لما يتوقعه المجاهدون، وخصوصا إن هذه الآية كما يبدو من سياقها مع الآيات كانت في السنة الثانية من الهجرة، وقد فتح باب الجهاد الأكبر ويوم الفرقان قريب الوقوع وهو بدر الكبرى الذي فرق بين عهد النصر المؤزر، وعهد الاستضعاف.
10. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ البلاء الاختبار لا ليعلم الله تعالى، بل ليظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه المكنون، ولقد أكد الله تعالى البلاء ليؤكد موضوعه بالقسم الذي دلت عليه لام القسم، ونون التوكيد الثقيلة.
11. ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ قال بعض العلماء: التنكير فيه للتقليل، وإني أرى أن المقام موجب أن يكون التنكير فيه للتكثير لكى يتحقق معنى الابتلاء فيقدمون على حرب لقوم شداد غلاظ من شأنهم أن يخوّفوا ويفزّعوا.
12. قد قيل إن ذلك الخوف يتنافى مع الشجاعة التي عرف بها النبيّ وصحبه الكرام أمثال حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وعلى بن أبى طالب فارس الإسلام وغيرهم من الصناديد الذين يتقدمون في الميدان لا يهابون إلا الله، ونقول في ذلك إن الشجاعة لا تنافى الخوف؛ لأن الخوف يحمل على تدبير الأمور، وبعد تدبيرها يفترق الشجاع عن الجبان، فالجبان لا يقدم والشجاع مقدم مقدرا النواحي المخوفة، والنواحي التي فيها جانب الله تعالى فيقدم على بينة، وقد حقق الذين درسوا النفوس فقرروا أن الشجاعة لا تكون شجاعة إلا إذا أحس بخطورة الأمر وأقدم غير هياب، وإن المؤمنين قد أصيبوا بما من شأنه أن يخيف ولكن لم يجبنوا عن اللقاء، بل أقدموا عليه في غير تلكؤ ولا اضطراب.
13. هذا شأن الخوف، ثم قال تعالى: ﴿وَالْجُوعِ﴾ فقد أصيبوا بشيء غير قليل من الجوع، وقد كانوا يربطون الأحجار على بطونهم، كما كانوا يفعلون في حفر الخندق، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾، فإنه في الحروب يتوقف اشتغال المؤمنين بالتجارة وغيرها.. ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾؛ فإن ملحمة الحرب يكون فيها الشهداء، وقتل الأبطال، ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ وقد أصيب الأنصار في المعارك وقد خرجوا للجهاد فلم يسقوا زرعهم ولم يرعوا ثمرات نخيلهم فنقصت ثمارها.
14. ذكر الله تعالى ذلك الابتلاء قبل وقوعه، وكانوا على مقربة منه؛ لأن ذلك كان قبيل غزوة بدر الكبرى، فذكر الله تعالى ذلك ليتوقعوه قبل أن يقع فيعدوا له الأنفس بالصبر، وضبط النفس، والاستعانة بقوى النفس في الجهاد وتحمل الأذى من الحرب، فقد كتب عليكم القتال، وهو كره لكم، ولكنه خير في نتيجته ما دام ردا للاعتداء ومنعا للفتنة وفتحا لطريق الدعوة، ولذا قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ والبشارة هي النصر الكامل، وذكر أن المبشّرين هم الصابرون، فالوصف علة للحكم فكانت البشارة بالنصر بسبب الصبر؛ لأن الصبر عدة النصر، كما قال على رضى الله عنه بطل الحرب الإسلامية: كنا ننصر بالصبر والتأييد، وإن الصابرين هم الذين يضبطون أنفسهم فلا تنخلع قلوبهم بفزع، ولا يصيبهم عندما يفاجئون بما لا يحبون؛ ولذا عرفهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
15. الصبر يكون بمعنى ضبط النفس عن الأهواء والشهوات، وعما يكون فيه معصية الله تعالى، ويكون بعزمة المؤمن القوى في طاعة الله، وبتحمل ما ينزل مما يفزع القلب، واطمئنان من غير أنين، ومن هذا النوع الصبر على ما يصيب من نوائب الدهر ومصائبه.
16. المصائب جمع مصيبة، وهى كل ما يصيب الإنسان بالأذى في نفسه من مرض، أو ماله من خسارة فادحة، أو فقد حبيب، أو مفاجأة بما لا يسر بل يضر كهزيمة في حرب، أو غدر غادر، أو غير ذلك مما يكرث الإنسان من كوارث، والصبر المحمود في هذه الأحوال وغيرها هو الصبر الجميل الذي يكون من غير أنين وشكوى كصبر يعقوب عندما غاب ابنه يوسف إذ قال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف].
17. مما يجعل الصبر جميلا لا أنين فيه ولا شكوى، ولا تململ مما أنزل الله تعالى أن يفوض أمره إلى الله تعالى، وأن يحيل المرجع والمآب إليه، وأن يعتقد أن كل شيء من الله تعالى، وأن إليه مرجع الأمور وعنده المستقر والمعاد؛ ولذا قال تعالى في حال الصابرين وقولهم عندما تصيبهم المصيبة وتنزل بهم النازلة لا قبل لهم بها: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وإن هذه الجملة فيها من كمال التفويض والاعتزاز بجلال الله تعالى والاطمئنان إلى قدرته ما يعلو بالنفس على الأنين والشكوى لغير الله تعالى العلى القدير.
18. معنى ﴿إِنَّا لله﴾ أي أننا ملك له تعالى يتصرف فينا كيف يشاء، وأمورنا بين يديه يصرفها كما يشاء، وهو نعم المعتمد في كشف الضر وإزالة الكرب، وإنه ملكنا بخلقه وتقديره وتصريفه فينا وله الأمر والتدبير، وإليه مرجعنا فنحن راجعون إليه وحده؛ ولذا قدم الجار والمجرور ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فنحن هنا في الحياة مملوكون له، ومن بعد ذلك نرجع إليه وعسى أن يكون ذلك خيرا لنا، روى مسلم بسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفّر به من سيئاته).
19. ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار بالتوحيد واستشعار للعبودية، وإيمان بالبعث والنشور، وفى ذلك عزاء أي عزاء وسلوى عن البلاء.
20. إن الصالحين لا يفرون من المصائب تنزل بهم، ولا يرونها من جانبها الشديد، بل يرونها من جانبها الصالح المفيد، فهي تربى في المؤمن الإحساس بالربوبية والضعف أمام القدرة الإلهية والإخلاص لله تعالى، فالإخلاص حيث الضعف أمام الله، وأنه لا كاشف للضر سواه، وإن ذلك يجعله يرجع إلى الله تعالى ويكون ممن أناب إليه سبحانه كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان] وحيث يحس بشدة المصيبة يتضرع إليه، فيدعو إليه متضرعا ليكشف عنه الضر، وإن المصائب تجعل النفوس بعيدة عن الاستكبار فتطمئن إلى الضعفاء، ويتربى فيها الحلم، والعفو وكثرة الثواب بكثرة الصبر، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر] وإن الصالحين لهذه المصائب وثمراتها من طهارة القلب وتنزيه النفس يفرحون ولا يكربون، وإن كانت تجعل غيرهم في كرب، وإنه إذا فرح شكره وإنها تمحص القلوب وتطهرها من الغطرسة والعتو.
21. إن الصالحين بتفويضهم أمورهم لله تعالى، وثقتهم بالله تعالى يعلمون أن وراء ما نزل من مصيبة ضرا لهم ولخيرهم ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء] وإن المصائب تفطم النفس عن الأشر، وتبعد عن الترف، ووراء الترف الظلم فيكون الاستماع للبشير النذير قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ].
22. إن الرضا بقدر الله تعالى فيما ينزل من نوازل يجعل النفس في اطمئنان من الجزع والهلع، وبعد عن السخط والغضب.
23. إن المصائب تصقل النفوس، وتربى فيها قوة الاحتمال إن صبرت وفوضت، ورجت الثواب والفرج من الله تعالى، وفيها يكثر الدعاء لله تعالى، والدعاء مخ العبادة، ولقد قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر] وكان بعض الصالحين إذا ألم به مرض أو وصب دعا ربه أن يجعله يحس بنعمة المرض والسقم، إذ إنه يقربه من ربه فلا يطغى ولا يستغنى بنفسه عن ربه، ولقد قال تعالى في جزاء الصابرين عند النازلة التي تكرثهم، والرضا بما يأتي به الله تعالى.
24. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الإشارة هنا إلى الصابرين الذين يتحملون الخوف مهما يكن مقداره، ونقص الأموال والأنفس والثمرات في سبيل الله تعالى، وإذا نزلت بهم نازلة أصابت نفوسهم من فقد حبيب أو حرمان من مطلب من مطالب الدنيا، هؤلاء الذين تلك أحوالهم، هم من الصديقين والشهداء.
25. ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ الصلوات جمع صلاة، وجمعها الله تعالى لكثرتها، وتنوع آحادها، والصلاة معناها الدعاء ولكنها من الله تعالى استجابة الدعاء، وذلك بالعفو والمغفرة، وعفو الله ومغفرته دليل رضوانه، ورضوان الله تعالى أكبر الجزاء، كما قال تعالى فى ختام جزاء الآخرة: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة] وإن الله تعالى لم يمن على عباده الصابرين بالمغفرة والرضوان فقط، وحسبهما جزاء للصبر ولكن منّ بالرحمة، رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق لفعل الخير، ورحمهم في الآخرة بالنعيم المقيم.
26. وصفهم سبحانه بأنهم المهتدون، فقال تعالت كلماته: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أي المتصفون بالصبر على الشدائد من الخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، هم الذين كتب الله تعالى لهم الهداية، وفى النص السامى ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ إشارة إلى قصر الهداية عليهم وأنهم المهتدون حقا، وذلك بتعريف المسند والمسند إليه وبالضمير (هم) وذلك أشرف بيان أنهم المختصون وحدهم بالهداية الكاملة وهبنا الله تعالى عفوه ومغفرته ورحمته وهدايته.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/467.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، جاء في تفسير المنار: (ان الصبر ذكر في القرآن سبعين مرة.. وهذا يدل على عظم أمره، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق، إذ لا بد للداعي الى الحق منه)، واشتط صاحب البحر المحيط، حيث قال ان الصبر والصلاة ركنا الإسلام، وذهل عن حديث: بني الإسلام على خمس.. وليس الصبر منها، كما ذهل عن ان التكاليف الاسلامية منها مولوية الزامية يلحظ فيها الصدور من الأعلى الى الأدنى، ويحاسب المكلف ويعاقب غدا على مخالفتها، كالأمر بالصلاة ووفاء الدين، وما اليهما.. ومنها تكاليف ارشادية وردت لمجرد النصيحة أشبه بالأمر من المساوي، لا يعاقب المكلف على تركها، كالأمر بالنظافة، وغسل اليد قبل الأكل، والنهي عن إدخال الطعام على الطعام، ونحو ذلك.. والأمر بالصبر من هذا النوع يراد به مجرد الإرشاد والنصيحة، وأين هذا من أركان الدين التي يستوجب تركها الخروج عن الدين؟
2. ثم ان الصبر لا يحمد لذاته، ومن حيث هو، وإنما يحمد ويحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة، كالصبر في الجهاد المقدس، والصبر على الفقر والعوز من أجل العلم وتحصيله، والصبر على المكاره من أجل العيال، وتربية الأطفال، أو لإغاثة ملهوف، والصبر على كلمة من سفيه دفعا للشر، أو على فقد عزيز لا يرده الجزع والهلع، بل يزداد المصاب تفاقما، قال أمير المؤمنين: من عظّم صغار المصائب ابتلاه الله بكبارها، اي ان تفاقم الجزع يوقع الرجل المصاب في ما هو أشد وأعظم.. وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟.. فقال: ان الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة.. وقال آخر: لا أقول لشيء كان ليته لم يكن، ولا لشيء لم يكن ليته كان..
3. وقد يكون الصبر قبيحا مذموما، كالصبر على الجوع مع القدرة على العمل، وعلى الاضطهاد.. ففي هذه الحال يحسن الصبر في كفاح الظالم ونضاله.
4. سؤال وإشكال: ما هي المناسبة بين الصلاة والصبر، حتى قرنا معا في آية واحدة؟ والجواب: ان معنى الصبر توطين النفس على احتمال المكاره، ويحتاج هذا الى الثقة بالله، والايمان بأنه ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.. وليس من شك ان الصلاة تؤكد هذه الثقة، وتثبت هذا الايمان.. بالإضافة الى ان مناجاة الله سبحانه تخفف من وطأة المصاب.
5. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، ومعلوم ان كل من يفارق هذه الحياة يرجع الى ربه لا محالة صالحا كان أو طالحا، شهيدا أو غير شهيد، سوى ان الصالح ينتقل من حياة أدنى الى حياة أعلى، والطالح بالعكس.. وخص الشهيد بالذكر اما للتنبيه على مكانته عند الله ترغيبا في الاستشهاد، واما لما نقل عن ابن عباس من ان الآية نزلت فيمن قتلوا يوم بدر، وهم 14 من المهاجرين، و8 من الأنصار، فقيل مات فلان وفلان، فنزلت الآية: ولا تقولوا.. وهذا غير بعيد، لأنّ لا تقولوا أموات، تشعر بذلك.
6. مهما يكن، فان الذي يجب أن نؤمن به هو ان من استشهد دفاعا عن الإسلام، أو عن أي شيء ينطبق عليه الحق والعدل والانسانية فإنه ينتقل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ويحيا هناك حياة طيبة، وانه يمتاز عند الله عمن مات حتف امه، قال أمير المؤمنين: والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش.
7. أما حقيقة حياة الشهيد بعد الموت، وما هو الرزق الذي يتنعم به فأمر لا نعرفه، ولا نبحث عنه، لأننا غير مكلفين بمعرفته.
8. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ما اتبع الحق واحد الا دفع ثمنه من نفسه، أو أهله، أو ماله، وكلما عظم الحق عظم الثمن المرير، ولولا هذا لم يكن لأنصار الحق من فضل، ولاتّبع الناس، كل الناس الحق.. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف: (البلاء موكل بالمؤمن.. وان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل).. وأيضا بلاء الأنبياء يأتي على قدر منزلتهم، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما اوذي نبي بمثل ما أوذيت، وقال أمير المؤمنين: ان الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف ووبيء.. وكفى شاهدا قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾
9. تدل هذه الآية على ان الجنة محرمة إلا على من ضحى في سبيل الله، ولا تنحصر التضحية في ميدان القتال، وجهاد أهل الشرك والكفر، بل إن أيّ مكروه يتحمله الإنسان من أجل الدفاع عن الحق والعدل لهو تضحية في سبيل الله، وثمن لدخول الجنة، حتى ولو كان الدفاع بكلمة يجابه بها مبطلا، ويناصر محقا.
10. بعد أن باشرت بكتابة التفسير تكوّن عندي يقين لا يشوبه ريب بأن الجنة محرمة إلا على من أوذي، وتحمل صابرا، ولو شيئا من الضغط والبلاء في سبيل الحق والعدل، وعلى الأقل أن يكبح نفسه عما تميل اليه من المحرمات، أو يحملها على بذل ما لا تجود به طوعا، أو يجهد نفسه من أجل غيره، ولو كان الغير والدا، أو ولدا، والمعيار أن يتحمل المشاق بصبر في سبيل مرضاة الله سبحانه، اما ان يدخل الجنة على (البارد المستريح) كما يقول أهل جبل عامل فبعيد كل البعد.
11. ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، ومعنى أنا لله الاعتراف له بالملك والعبودية، ومعنى أنا اليه راجعون الإقرار بالبعث بعد الموت.
12. ثم ان التمحيص بالبلاء هو المحك الذي يظهر الإنسان على حقيقته، فالمؤمن العاقل لا يخرج عن دينه عند نزول المصيبة، ولا يتفوه بكلمة الكفر والسفه والجهل، بل يصبر ولا يذهب البلاء بعقله وإيمانه، أما ضعيف العقل والايمان فيستولي عليه الشيطان، ويذهب به كل مذهب من الكفر والشتم والبذاءة، وينحدر الى هوة الرذالة والسفالة، وخير ما قيل في ذلك قول سيد الشهداء الحسين بن علي يوم الطفّ: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون.
13. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، الصلاة من الله التكريم وعلو المنزلة، ورحمته تعالى لعبيده الرفق بهم، والهداية الى خيرهم، والانعام عليهم، وفي الحديث: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع الى أمر الله بقوله: إنا لله وانا اليه راجعون، اللهم عندك احتسب مصيبتي، فأجرني فيها وعوضني خيرا منها، إلا آجره الله عليها وعوضه خيرا منها.
14. ذكر بعض المفسرين ان الله سبحانه أعطى للصابرين ثمانية أنواع من الأجر والكرامة.
أ. المحبة، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
ب. النصر، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
ج. غرفات الجنة: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾
د. الأجر الجزيل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
هـ. البشارة: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
و. الصلاة والرحمة: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾
ز. الهداية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/240.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.
2. البلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيأة المجتمعة، ويختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات.
3. لا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، واستئصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق.
4. هذا من جانب الكفر، والأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة والقوة.
5. بالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنه ليس بموت بل حياة، وأي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلاة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، وانقطاع إلى من بيده الأمر، وأن القوة لله جميعا.
6. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
أ. الصبر من أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، وقيل: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾، وقيل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
ب. والصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها وأولها.
7. ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ الآية، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقاة الأهوال، ومقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾، فإنها معية الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.
8. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وأذعنوا بالحياة الآخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين، ويرده:
أ. أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى، الحق ويقول: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾، وأما الذي سأله إبراهيم في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب، نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيا ويعيش آخرون، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان (وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الإعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، والحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف والعلاء، وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي، وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحياة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة وهذا الشرف؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟
ب. ثانيا: أن ذيل الآية ـ وهو قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.
ج. ثالثا: أن نظيرة هذه الآية ـ وهي تفسرها ـ وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.
د. رابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، وأما ما بين الموت إلى الحشر ـ وهي الحياة البرزخية ـ فهي وإن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وأن الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وإن علم به آخرون.
9. بالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، والإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، وإنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، وأما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فناء، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال في هذه الآية: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، أي باليقين كما قال تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾
10. معنى الآية ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾، ولا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به.
11. إلقاء هذا القول على المؤمنين ـ مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته ـ إنما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحياة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله أكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الآية، مع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.
12. الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها وهي قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، والآيات في ذلك كثيرة.
13. من أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحققين من المفسرين في تفسير قوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ الآية، إذ سأل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل، وليت شعري ماذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ وعلى أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه؟ أهو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين و الأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتعات ـ وهم غائبون عن الحس ـ وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، ولو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والإشكال ـ وهو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا والواقع ليس بواقع، وكيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ وهل هو إلا سفسطة؟.
14. سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وسائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، ولها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.
15. هذا القول منهم مبني على إنكار العلية والمعلولية بين الأشياء، ولو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر.
16. قد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة، ومن الآيات الدالة عليه وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة:
أ. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، والتنعم بعد الموت.
ب. ومن الآيات قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث، وسيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.
ج. ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرً﴾، ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر، ودلالتها ظاهرة، وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.
د. ومن الآيات قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾، فهنا إلى يوم البعث ـ وهو يوم قولهم هذا ـ إماتتان وإحياءان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة، ولو كان أحد الإحيائين في الدنيا والآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾
هـ. ومن الآيات قوله تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه ولا عشي فهو يوم غير اليوم.
و. والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومئ إليها كثيرة، كقوله تعالى: ﴿تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾، إلى غير ذلك.
17. الصفات الإدراكية، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى (تجرد النفس)، فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم، ونعيم مقيم، أو في شقاء لازم، وعذاب أليم، وأن سعادته في هذه العيشة، وشقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته وأعماله، لا بالجهات الجسمانية والأحكام الاجتماعية.. فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.
18. مما يدل عليه من القرآن الكريم:
أ. قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى﴾، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الآية: من الأخذ والإمساك والإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.
ب. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، وهو أنا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، وتبدد أجزاؤنا، وتتبدل صورنا فنضل في الأرض، ويفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ الآية، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ؛ كم؛ فإنه يتوفاكم.
ج. قوله تعالى: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: ﴿يسألونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، فأفاد أن الروح من الملكوت، وأنها كلمة ﴿كُنَّ﴾؛ ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾، والتعبير بقوله: ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ يعطي أن الأمر الذي هو كلمة؛ كن؛ موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبين أن الأمر ـ ومنه الروح شيء غير جسماني ولا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان والمكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، وإن كان لها تعلق بها.
د. هناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾، وقال: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾، وقال: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والإرادة والفكر والتصرف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها، فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها ـ وهو البدن الذي تنشأ منه النفس ـ بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية.. هذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها، وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي.
19. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم ـ وإن قتلهم عدوهم فهم على الحياة ـ ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.
20. عامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس ذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالأموال غيرها وهي الدواب من الإبل والغنم.
21. ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر ـ وهو ملكه تعالى للإنسان ـ ثالثا، ويبين جزاءه العام ـ وهو الصلاة والرحمة والاهتداء ـ رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة.
22. ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة، وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة، وبيانه:
أ. أن وجود الإنسان وجميع ما يتبع وجوده، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للإنسان من الأمر شيء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة.
ب. ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للإنسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع والبصر، ويقال: للإنسان أفعال كالمشي والنطق، والأكل والشرب، ولولا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.
ج. وقد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن ولا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، وفيه رجوع الإنسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.
د. فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان ولا غيره، وملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه وولده وماله وغير ذلك وهو لله سبحانه حقيقة، وللإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، وتذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟
23. ذكر هنا بحثا مفصلا حول منهج القرآن الكريم في إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة، نقلناه إلى محله من السلسلة.
24. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة، وقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾، والآية تفيد كون قوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، في موقع العلة لقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾، والمعنى أنه إنما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر، والتي بين الإلقاء في النار والإحراق مثلا، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلاة: إنها الانعطاف والميل، فالصلاة من الله سبحانه انعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة انعطاف إلى الإنسان بالتوسط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلاة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾، فالإذهاب لغناه والاستخلاف والإنشاء لرحمته، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، ومن عطيته الصلاة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة وإفراد الرحمة في الآية.
25. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، ولذلك جدد اهتداءهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، ولم يقل: صلوات من ربهم ورحمة وهداية، ولم يقل: وأولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتداءهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلاة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر.
26. مثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسأل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزلة من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص، والهداية غير الإكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد، وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع إكرام، فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.
27. الإتيان بالجملة الاسمية في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، والابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: ﴿الْمُهْتَدُونَ﴾ كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه.
28. ذكر هنا بحثا روائيا حول البرزخ وحياة الروح بعد الموت، وذكر بعده بحثا فلسفيا حول تجرد النفس، وذكر بعده بحثا فلسفيا حول الأخلاق، وقد نقلناها جميعا إلى محالها من السلسلة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/343.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الذي يظهر من تتبع الآيات المبدوءة بهذا النداء أنها ابتداء كلام بحيث لا يجب ربطها بالآية التي قبلها، وكأنه قد انتهى الكلام مع بني إسرائيل وفي شأن القبلة.
2. جاء ابتداء أبحاث جديدة في الجهاد، والحج، والصوم، والزكاة، والطلاق، والإنفاق في سبيل الله، والربا.. وغير ذلك، ولا إشكال في حسن ارتباط الحث على الصبر وفضل الشهادة والصلاة باعتبارها تعين على تحمل مشاق التكليف، وهذا البحث مرتبط بما سبق من ذكر تمرد الكفار والمنافقين والكفار من بني إسرائيل من حيث أن مقاومتهم للإسلام أدّت إلى وجوب الجهاد والإنفاق في سبيل الله من أجل الجهاد والاستعانة بالصبر والصلاة من أجل الجهاد وغيره من المشاق التي تكون بسبب أعداء الإسلام وغيرها.
3. الاستعانة بالصبر تفيد القوة من جهتين:
أ. الأولى: إن الصبر على مقاومة الأعداء يؤدي إلى ضعفهم وهزيمتهم من حيث أن صبر أهل الإيمان أقوى، ومن حيث أن النصر مع الصبر.
ب. الثانية: إن النفس تتعود ما عودت حتى يصير سهلاً أو تخف مشقته، فإذا عوّدت الصبر هان عليها الصبر والاستمرار على الصبر.
4. القوة الحاصلة بالصلاة من حيث أن الصلاة الكاملة في إخلاصها لله وخشوعها لله تزيد الإيمان في القلب والرغبة في التقرب إلى الله، وذلك قوة في الجهاد، والدليل على أنها تزيد الإيمان قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45] والنهي إنما هو من طريق الإيمان الباعث على كراهة الفحشاء والمنكر، وإذا كانت ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ فلا بد أنها ترغب في الجهاد؛ لأنه نهي عن الفحشاء والمنكر.
5. ثم حسْبُنا دليلاً على أن الصلاة تعين على الجهاد وغيره من التكاليف الشاقة، هذه الآية الكريمة ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ والآية التي سبقت خطاباً لبني إسرائيل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ وعلى هذا فمن الغلط اعتقاد أن الرغبة في الصلاة تصرف الناس عن الجهاد؛ لأنها من أسباب الصلاح، وأهل الصلاح يرغبون في الجهاد، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ [النساء:76] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15].
6. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ أي لا تقولوا فيهم هم أموات ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ أي بل هم أحياء ولكن أنتم لا تحسون بحياتهم، فلا تجعلوا عدم شعوركم بحياتهم دليلاً على موتهم، وقد زاد هذا تحقيقاً الآيات في سورة آل عمران، فهي حياة حقيقة لا شك فيها، والشهيد إنما يخرج من هذه الحياة إلى حياة أفضل، وعلى المكلف أن يؤمن بما أنزل الله ولا يعارضه بجهله، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85] وكفى بهذه ترغيباً في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المجاهد يكره الجهاد لحب الحياة، فإذا علم أنه إذا قتل في سبيل الله صار إلى حياة أفضل؛ حياة كرامة وشرف ورزق وفرح صار إليها بعد حياة العناء والمنغصات المحدودة جاهد بقوة، فالحث على الصبر من أجل الجهاد ومن أجل سائر التكاليف كالحج والصيام، فما أحسن هذه الآية فاتحة لما بعدها من الآيات الكريمة في سورة البقرة؛ لأن الطاعة لا تتم ولا تستمر إلاَّ بالصبر.
7. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ لنختبرنكم، أي نفعل ما هو مثل الاختبار الذي يتبين به من يصبر ومن لا يصبر، فأنتم تحتاجون معه إلى الصبر الذي سبق الحث عليه.
8. قوله تعالى: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ إلى آخره، يفيد: تقليل ما يبتلى به، ليوطنوا أنفسهم على الصبر ولا يهابوه، ويظنوا أنه لا يطاق، والابتلاء بالخوف يميّز بين المؤمن الصادق في إيمانه والمؤمن بلسانه دون قلبه وينجم عنده النفاق، فقال المنافقون: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:12] وقالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال:49] والابتلاء بالجوع يتبين به من يُؤْثِرُ على نفسه كأهل البيت عليهم السلام، ومن لا يصبر على الجوع فيطلب الأكل ولو من الحرام، ومثله نقص من الأموال يتبين به من يرضى بحكم الله ويصبر؛ ولا يحمله النقص على البخل، ومن تمحقه البلوى، ومثله نقص الأنفس والثمرات، فبان بذلك حاجة المؤمن إلى الصبر للثبات على دينه ولنيل فضيلة الصبر العظمى التي أفادها قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وإنها لبشارة عظمى؛ لأنها من ملك الملوك أكرم الأكرمين الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
9. ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ هذا بيان للصابرين؛ لأنه لا يتم الصبر ولا يستمر إلاَّ بالإيمان أنا لله مملوكون وعباد مربوبون، فله الحق أن يبلونا بما شاء وعلينا الرضى بقضائه والصبر على بلائه؛ لأنا عباده، والإيمان بأنا ﴿إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ليجزينا بما قدمنا من إحسان أو إساءة، فنصبر لنفوز بالثواب وننجو من العقاب، فإذا آمنا بهذا بقلوبنا، وعبّرنا عن هذا الإيمان بألسنتنا تسجيلاً على أنفسنا أنا عباد لله نرجوه ونخافه استطعنا أن نصبر ونثبت على الصبر ما دمنا كذلك.
10. ﴿أُولَئِكَ﴾ أهل هذه الصفة ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ قيل في تفسير الصلوات هنا: ثناء جميل، قال الشرفي في (المصابيح): (اعلم أن الصلاة من الله هي: الثناء والمدح والتعظيم) وقال (صاحب الكشاف): (الصلاة: الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة)، ولم أقتنع بهذا ولا ذاك بسبب جمع الصلوات؛ لأنه يكون معناه على الأول: ثناءات وتعظيمات.. وعلى الثاني: رأفات، وقد روي عن ابن عباس أنه فسرها: بالبرَكات، وهذا قريب من حيث أن بعض أهل اللغة قال أصل الصلاة: اللزوم، ومن حيث أن بعض أهل اللغة قال في البَرَكة: إن أصلها الثبات، وهذا وإن كان يستلزم ترادف الصلاة والبركة في هذا الموضع لا ينافيه اختلافهما في موضع آخر إذ يجوز أن يكون للصلاة معانٍ متعددةٌ، فتارة ترادف البركة وتارة تخالفها.
11. هذا المعنى يستحسن في هذا الموضع من حيث أن الوعد بالبركات يناسب الصبر على النقص ليفيد تعويض ما فات بطريق البركة في غيره، ومن حيث أن البركات قد جمعت وقرنت بالرحمة في قوله تعالى: ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود:73]، وقال الراغب الأصفهاني في (مفرداته): (والصلاة قال كثير من أهل اللغة: هي الدعاء والتبريك والتمجيد)، والتبريك: طلب البركة، فلا يبعد استعماله في تحصيل البركة كالتعليم أصله التسبيب لحصول العلم ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي﴾ [الكهف:66] واستعمل في إيجاد العلم ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ [البقرة:31]، وبعد هذا وجدت في تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام لـ (غريب القرآن): (﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ﴾ معناه: هو الذي يرحمكم وتدعو لكم ملائكته، وقال: معنى يصلي: يبارك عليكم)
12. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ أي الصابرون المؤمنون بأنهم لله وأنهم إليه راجعون، فالاهتداء لا يتم إلاَّ بالصبر ولا يدوم إلاَّ بالصبر، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والصبر كما تراه في هذه الآيات: صبر على طاعة الله، وصبر على بلائه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/214.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ربما يوحي جوّ هذه الآيات وأسلوبها، بالتفاتة قرآنية توجّه الإنسان المسلم إلى استثارة إيمانه الكامن في أعماقه في حركة معاناة عميقة تتصل بالواقع الذي يضج بالتحديات والمشاكل والمآسي المتنوّعة التي تقتحم حياته فتهزها في دائرة القلق والاهتزاز، فيقف أمام ذلك كله وقفة إيمان واع يعرف قصة الحياة على أساس السنن التي أودعها الله فيها، فليست هي عسرا كلها وليست يسرا كلها، بل هي العسر في طريق اليسر، واليسر في نهايات العسر ونتائجه، فإذا واجه الإنسان بعضا من العسر في طريقه إلى الله، أو ثقلت عليه الأعباء في دروب الأهداف، فلا بدّ له من الاستعانة بالصبر ليدعم إرادته ويقوّيها ويبعث فيها روح التماسك والصلابة من أجل الحصول على الموقف الصلب والشخصية المتماسكة.
2. ولا بدّ له ـ في نطاق ذلك ـ من الاستعانة بالصلاة، لأنها تفتح للقلب النوافذ الواسعة المضيئة على الله القادر الحكيم الرحيم، الذي تنطلق حكمته لتخطط للإنسان حياته على أساس من المصلحة والحكمة، وتتحرك رحمته لترفرف على روحه بالرضى واللطف والحنان، فلا يثقله البلاء بالمستوى الذي لا يستطيع احتماله، بل يظل الإنسان معه في جوّ رحيب يستريح فيه إلى التجربة ويعيش آفاق الأمل، وتحتضن قدرته الحياة بكل ما فيها من طاقات وقوى لتذلل كل صعب، وتقهر كل قدرة، فيخرج الإنسان من ذلك كله إلى الأجواء الرحبة التي لا تضيق معها الروح بالمشاكل، ولا تنهزم أمام التحديات، ولا تضعف أمام العقبات، بل تظلّ في أمل حيّ متفجر بالتفاؤل، يملأ الإرادة بالحياة، والحركة بالقوّة والإيمان.
3. بذلك تتحول القيم الروحية، كالصبر، والأعمال العبادية، كالصلاة، إلى قوى فاعلة يستعين بها الإنسان على تقوية نقاط ضعفه، تماما كما يستعين بالقوى الخارجية عندما تهجم عليه قوى الأعداء، بدلا من أن تكون عناصر ضعف وتخدير، كما يحاول البعض من الناس أن يفسرّها، أو عناصر تجميد وتأخّر، كما يحلو للبعض أن يعالجها، باعتبار أن الصبر يمنع الإنسان من الحركة ويجمّده في نطاق الإذعان للأمر الواقع، وأن الصلاة تغرق الإنسان في غيبوبة صوفية حالمة يدخل معها الإنسان في غياهب الغيب، فينسى دوره ومسئوليته في حركة الواقع، فتتخدر أحاسيسه وتضعف تطلعاته المندفعة نحو الحياة.
4. نستوحي ذلك كله من إثارة الخطاب في جوّ صفة الإيمان، للإيحاء بأن المضمون الحيّ العميق للإيمان يحمل للإنسان كل عوامل الوعي والامتداد، ومن الدعوة إلى الاستعانة بالصبر والصلاة لتأكيد الطبيعة المتحركة للقيم الخلقية وللتعاليم الإلهية العملية في صنع القوّة لحياة الإنسان، فإن الكثيرين من الناس قد يغفلون عن الطاقات الروحية الكامنة في القيم التي يؤمنون بها وفي الأعمال التي يمارسونها، فيستسلمون إلى حالات الضعف في الوقت الذي تضج فيه الحياة من حولهم بالقوة، لو أرادوا أن يستثيروها بذكاء..
5. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ الذي هو من عزم الأمور من خلال ما يؤكده في الذات من القوة في الموقف والموقع أمام التحديات والزلازل، انطلاقا من التحمّل القاسي الذي يفرضه الإنسان على نفسه أمام كل حالات الحرمان الروحي والجسدي، لذلك كانت له الأهمية الكبرى في القرآن حتى تكرر فيه إلى ما يقارب السبعين موضعا، وقد أطلق الله ثوابه، فلم يجعل له حدّا معينا فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، والاستعانة به، هي اللجوء إلى القوة الأخلاقية الكامنة في أعماق الذات من أجل استنفارها للسيطرة على كل المشاعر السلبية التي يمكن أن تثير الاهتزاز في الموقف أو الموقع، للحصول على الأرض الصلبة في ساحات الصراع حيث الأهوال الشديدة والمعارك الحاسمة.
6. ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ التي هي معراج روح المؤمن إلى الله، فهي التي تفتح قلبه على ربه وتشده إليه وتربطه به، حتى يحسّ أن الله معه في كل مواقفه، فلا يخاف، ولا يحزن، ولا يضعف، ولا يتزلزل، ولا يعيش الاهتزاز النفسي، والقلق الروحي في وجدانه الإنساني، وهكذا يعطي الصبر للصلاة قوّة الإرادة، وتعطيه الصلاة قوّة الروح، فيتكاملان في حماية إنسانية الإنسان من السقوط، في آفاق الصبر الممزوج بالصلاة في حركة عروج الإرادة إلى الله لتلتقي به في الثبات على رسالته.
7. ختم الله الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ليؤكد لهم أن الله لا يترك الصابرين وحدهم في مواجهة التحديات والأهوال والعقبات، بل يقف معهم ليمنحهم من روحه الروح الطيبة، ومن قوته القوّة الكبيرة، ومن رحمته اللطف والرضوان والحب والسلام.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الذين يحركون الإيمان في عقولهم في خط الوعي والإرادة وفي كيانهم في خط القوة، والثبات في أقدامهم في خط التوازن، وروي أن عليا عليه السّلام كان إذا هاله أمر، قام إلى الصلاة ثم تلا هذه الآية: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
9. ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ من خلال الصورة الظاهرية التي تتطلع إلى الجانب المادي في الجسد من حيث دوران الحياة مدار حركته وحيويته، فإذا فقدهما فقد الحياة، فإن ذلك شأن الماديين الذين لا يتصورون وجود حياة خارج نطاق هذا العالم في غيب الله، الذي أكد في كتابه أن الإنسان لا يموت موتا أبديا عندما تنطفئ الحياة في الجسد، ولكنه يحيى بعد ذلك ليعيش حياة جديدة في عالم الآخرة الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شرّ، أمّا المؤمنون الذي يؤمنون بالغيب وبالآخرة، فإنهم يواجهون الموت وفي وجدانهم التطلع إلى ما بعده من الحياة، ولذلك فلا ينبغي لهم أن يطلقوا كلمة (الأموات) على الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، بما يوحي بالفناء المطلق ويؤدي إلى الإحساس بالمرارة في شعور المجاهدين أو أهلهم وإخوانهم.
10. ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ تضج الحياة في وجودهم الجديد في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لأنه غريب عن عالم الشعور، ولذلك فإنكم لا تملكون القدرة على إثباته من ناحية التجربة الذاتية لافتقادكم وسائل الإحساس بهذا النوع من الحياة ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ من خلال هذا العالم الذي ينطلق فيه الشعور من موقع الحس لا من موقع الغيب في علم الله.
11. قد تكون هذه الآية واردة في نطاق تفريغ النفس من المشاعر الإنسانية الساذجة بالوحشة القاسية أمام حالة الموت التي تمثل فقدان الحياة، مما يؤدي إلى الموقف السلبي إزاء الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله في مجالات الصراع مع الكفر والطغيان والانحراف، لأن النفوس مجبولة على حب الحياة والامتداد فيها والرغبة في كل ما يتصل بها، والبعد عن كل ما يسبّب فقدانها.
12. هكذا كانت هذه الآية للإيحاء بامتداد الحياة للشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، ولكنها تتحرك في أجواء غير الأجواء التي يعيشها الناس في هذه الحياة، ولذلك فإنهم لا يشعرون بها ولا يتحسسونها، لأن الإنسان لا يملك الوسائل الحسية التي يمكنه من خلالها أن يدرك طبيعة الحياة الأخرى، وتلتقي هذه الآية بسياق آيات أخرى واردة في موردها، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171].
13. نلاحظ أن الاتجاه في هذه الآيات هو إثارة الرغبة في الجهاد في سبيل الله، وذلك من خلال إثارة الإحساس بامتداد الحياة في السير في هذا الطريق بشكل أفضل وأوسع مما في هذه الحياة الدنيا.. وقد يلاحظ الاختلاف بين آية سورة البقرة وبين آية سورة آل عمران من حيث التركيز هناك على أصل المبدأ وهو الحياة هنا، بينما كان التركيز هناك على طبيعة الحياة عند الله وما فيها من نعيم وفرح وفضل واستبشار، وربما كان السبب في ذلك، ن الآية هنا واردة في سياق الآيات التي تدعو إلى التماسك والصبر، مما يقتضي مواجهة الحالة النفسية التي يثقلها الشعور بالموت، بالحالة التي تنفتح أمامها نوافذ الحياة، تماما كما هي القضية في تبديل صورة قاتمة بصورة مضيئة من دون حاجة إلى الدخول في التفاصيل، لأن الموضوع الذي يلحّ على النفس هو قضية الظلمة والضياء.. أما الآية الأخرى، فقد انطلقت في سياق آيات الجهاد التي كانت تواجه المنافقين الذين كانوا يثيرون نوازع القلق والحيرة والخوف في نفوس المؤمنين المندفعين إلى الجهاد، ويحشدون أمامهم صورة القاعدين الذين يستمتعون بالحياة في مواجهة صورة المجاهدين الذين استسلموا لظلام العدم ووحشته عندما اندفعوا للموت والقتال، فكانت المناسبة أن يفيض القرآن الحديث حول تفاصيل الحياة التي تنتظر المجاهدين لدى الله..
14. حاول بعض المفسرين أن يدخل في تفاصيل هذه الحياة، وقد برز في هذا المجال اتجاهان:
أ. الاتجاه الأول: الذكر الجميل: باعتبار أنه يمثل امتداد الحياة في الدنيا في وعي الناس وتفكيرهم على الطريقة التي يفكر بها بعض الشعراء، حيث يقول:
çدقات قلب المرء قائلة له...إن الحياة دقائق وثواني
فاحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمر ثانيé
ويفلسفون هذا الرأي بأن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين يعتقدون بالحياة الآخرة، فلا معنى لإثارة ذلك في وجدانهم في أسلوب الرد على فكرة انتهاء الحياة بالموت، لأن ذلك لا يتناسب مع حقيقة الإيمان.. ويضيفون إلى ذلك أن الآية مختصة بالشهداء مع أن الحياة في الآخرة حقيقة شاملة للجميع، فلا بد من أن تكون الحياة متناسبة مع طبيعة الإيمان وموضوع الاختصاص، وليس هناك إلا الذكر الجميل الخالد على مرّ العصور والأزمان.
ب. الاتجاه الثاني: الحياة البرزخية: وهناك فريق آخر يراها إشارة إلى الحياة البرزخية، وهي ما بين الموت والحشر، لأنها مما يمكن أن يغفل عنها المسلمون، لأنها ليست من ضروريات الدين، كأصل عقيدة البعث في الحياة الأخرى، فهناك من ينكرها من المسلمين حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وأن الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة.
15. نرى أن الآية ليست في سياق التركيز على طبيعة الحياة لننطلق في الاتجاه الذي ذهب إليه هؤلاء المفسرون، بل هي واردة في سياق تفريغ النفس من الشعور بالوحشة القاتلة أمام ظلام الموت، ليملأها الشعور بالحياة الذي يحشد الوجدان بالفرح والرضى والاطمئنان، في أسلوب قرآني يجدد للإنسان طاقته على الصبر والامتداد.
16. نجد من المناسب أن نناقش التفسير الأول للحياة، بأن:
أ. اعتبار الذكر حياة لا يتناسب مع طبيعة معنى الحياة الذي يقهر الشعور بالموت في نفس الإنسان، بل هو نوع من أنواع الخيال الروحي الذي يتخذ صفة الإيحاء للنفس بامتداد الاسم الذي يحمله الإنسان في قافلة الأسماء التي يتداولها الناس، مما قد يدفع الإنسان إلى بعض الأعمال التي تشارك في ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يزيل مرارة الموت من النفس ووحشة الإحساس بالعدم، بل كل ما هناك أنه يمثل أسلوبا من أساليب الهروب من قسوة هذه الحقيقة لدى الغافلين عن الإيمان بالله واليوم الآخر في عملية تعويضية:
ب. وإننا لا نجد في التراث التشريعي الإسلامي مثل هذا التأكيد على الاهتمام بامتداد الذكر للإنسان في ما بعد الموت، إلا بالمقدار الذي يكون العمل الذي يمتد به الإنسان مفيدا ونافعا للبشرية بالمستوى الذي يعتبر امتدادا لحياته العملية بعد الموت، فيستحق عليه الثواب الكبير من الله، كما في الحديث المأثور عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: (لا يتبع الرجل بعد موته إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها لله في حياته فهي تجري له بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد وفاته، وولد صالح يدعو له)، فليست القضية قضية ذكر صالح خالد، بل القضية هي العمل الصالح الذي لا يمتد في حياة الناس كامتداد عملي لحياتهم.
ج. إذا كان البعض يرتكز في قيمة الذكر الخالد على بعض الآيات القرآنية، فإننا لا نجد فيها دلالة على ذلك، فقد أشير إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84]، ويذكر في تفسيرها أن إبراهيم يدعو الله أن يخلد له ذكره من ناحية الطموح الذاتي للخلود في الحياة، ولكننا نلاحظ أنه كان يتحدث عن لسان الصدق الذي يتضمن رسالته ودعوته الشاملة إلى الإسلام لله، فليست القضية ـ لديه ـ قضية رغبة في خلود الذكر، بل في خلود الرسالة التي تمثل كل اهتماماته حتى بعد الموت مما يجعله يوصي أولاده بذلك.
د. ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الانشراح: 4] فقد يستدل بها على الاهتمام بالذكر الخالد بعد الموت، ولكن الظاهر أنها واردة في الحديث عن نعمة الله على نبيّه في رفع ذكره وانتشار رسالته، وعلوّ موقعه في الحياة، بعد أن كان إنسانا عاديا في مجتمعة، فلا تعرّض فيها لما بعد الموت.
هـ. ومنها: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 79]، أو ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: 109]، وهما لا يدلان إلا على أن الله ترك السلام عليهما في الحياة لتبقى الروح الإيمانية الرائعة والصبر العظيم عنوانين كبيرين لكل من أراد الاقتداء بهما والسير على منهاجهما.
و. وقد لا يتناسب هذا التفسير مع كلمة ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لأن قضية الذكر الجميل هي مما يلتفت إليه الناس ويعرفونه ويحسبون حسابه في كثير من أعمالهم كما أشرنا إليه، كما أنه لا يتناسب مع آية سورة آل عمران، التي تتحدث عن الحياة الحقيقية في ما بعد الموت.
17. أمّا التفسير الآخر الذي يربط الحياة بالحياة البرزخية، فقد لا نجده منسجما مع سياق الآية التي في سورة آل عمران، لأنها تتحدث عن نوع الحياة التي وعد الله بها عباده المؤمنين في الجنة في الدار الآخرة، في مقابل الحياة الدنيا التي يعيشون فيها الآن، وإذا فرضنا أن القضية ليست بهذه المثابة، فلا نتصور ظهورا للآية في ما ذكره، لأنه انطلق في ذلك من استبعاد إرادة الحياة الآخرة من كلمة (الحياة)، لأن الخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون بها ولا يتصور فيهم غفلتهم عنها.. وقد ذكرنا أن القضية ليست قضية عقيدة مضادة، بل القضية هي الشعور الداخلي المضاد الذي يراد تحويله إلى شعور آخر منفتح، والله العالم، وقد ذكر صاحب تفسير الميزان، أن الآية تدل على (تجرّد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والإرادة وسائر الصفات الإدراكية)، لكننا لا نتفق معه في هذا الاستدلال، لأن الآية لا تزيد على تقرير مبدأ الحياة للشهداء في ما بعد الموت، ولكنها لا تدل على أن الحياة هل تبقى للنفس فلا تموت بموت البدن، أم أنها تبعث من جديد في بدن مماثل أو مغاير للبدن السابق في ما بعد الموت، بل ليس هناك إلا الإشارة البعيدة التي لا تثبت حقيقة العقيدة وأصالتها، فلا بد لنا من البحث عن ذلك في آيات أخرى أو براهين عقلية في ما ليس مجال بحثه الآن، فليطلب في مظانه من التفسير في مواضع أخرى من القرآن أو من كتب علم الكلام والفلسفة، لأننا لسنا في مقام البحث في تجرد النفس من الناحية الفكرية، بل في مقام بيان عدم دلالة الآية على ذلك من خلال المفردات التعبيرية الخاصة.
18. يتصاعد الجوّ وتتحدّد الأوضاع القلقة التي تحكم حياة الإنسان ومسيرته، فتبعث فيها الاهتزاز في المشاعر والمواقف، والارتباك في الخطى والخطط العملية، ويطرح القرآن للإنسان المشكلة التي تتحداه في قوّة إنسانيته وصلابتها، ويشير إلى الموقف الذي يخلق الجو الملائم للحلّ في نطاق من الروح الإيمانية التي لا تنسى الله في المواقف الحرجة والتحديات الصعبة، بل تعيش حضوره المهيمن العميق في فكرها ووجدانها وتطلعاتها للحياة، لتلتقي به ـ من خلال هذا الجو الروحي ـ فتجد لديه الصلوات الإلهية التي تغدق الرحمة والمغفرة والرضوان على الإنسان الذي يعرف الهدى في طريقه ويسير عليه.
19. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها وصلابتها أمام المخاوف والأهوال لتعيشوا التجربة الصعبة التي ينجح فيها الأقوياء في عزيمتهم وإرادتهم وإيمانهم، ويفشل فيها الضعفاء الذين لا يملكون عناصر الوعي للواقع، والتوازن للحركة، والإرادة للقرار.
20. ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ الذي يتحدى عنصر الأمن الداخلي في نفوسكم فلا تملكون الطمأنينة الروحية والأمن الخارجي في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسدي في كيانكم والخطر السياسي والاقتصادي والعسكري في نظامكم، حيث تفقدون أمامه التوازن في المواقف، والانسجام في الخطى، والثبات في المواقع، الأمر الذي قد يدفعكم ـ بفعل ضغط الذين يصنعون الخوف في الواقع ـ إلى تقديم التنازلات من إيمانكم والتزامكم وحريتكم واستقلالكم وإنسانيتكم.
21. ﴿وَالْجُوعِ﴾ الذي يمثل الحرمان من الغذاء الضروري في الحاجات الطبيعية للإنسان كشرط لاستمرار حياته مما يؤدّي إلى إضعاف قوته وضراوة الآلام في جسده، ووصوله إلى مرحلة الخطر على حياته.
22. ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ في الخسائر المتنوعة التي تؤدّي إلى ذهاب الأموال ونقصها بفعل الحوادث الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، والحروب الشديدة، ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الذين تقتضي عليهم الحروب والأمراض والزلازل والبراكين والفيضانات ونحوها، ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ قيل: إن المراد بها ذهاب حمل الأشجار وقلة النبات وارتفاع البركات، وقيل: أراد به الأولاد لأن الولد ثمرة القلب، وعلله بعضهم بأن تأثير الحروب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، ولكن الظاهر من الآية أنها غير مختصة بحالات الحرب، بل هي عامة لكل واقع البلاء في حياة الإنسان.
23. إذا كان الهدف من الآية هو توجيه المؤمنين إلى أن يتحملوا نتائج الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بما يؤدي إلى النتائج السلبية على حياتهم العامة والخاصة، فإن ذلك لا يعني الاختصاص بهذا الجو الخاص، بل المقصود هو الصبر في الخط العام للوصول إلى النتائج الإيجابية في الصبر في المورد الخاص، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمل، والتمرّد على الحرمان والثبات في مواقع الزلازل، حيث تبقى إنسانيتهم في صمود عزيمتهم، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجع أو انهيار أو انحراف.
24. إن الله يمتحن إيمان الإنسان في ما يمرّ عليه من الخسائر والمصائب والمحن، ليرى كيف يواجه ذلك كله، أبالصبر أم بالجزع، أبالرضى أم بالاحتجاج؟.. وكيف يفهم البلاء الذي ينزل به في مختلف صوره وجهاته، هل هو عذاب وانتقام، أم رحمة إلهية في نطاق النظام الكوني الذي يربط المواقف بأضدادها من خلال التحديات الصعبة التي تواجه العاملين السائرين على الخط المستقيم في الحياة؟ فإن للاستقامة ضرائبها الثقيلة في مختلف جوانب الحياة حيث تتحرك قوى الانحراف وعوامله لتقف حاجزا بين الخط المستقيم وبين الامتداد في اتجاه السليم.. وهنا يأتي دور الصبر الذي يمنح الإنسان قوّة الثبات والصمود والتماسك أمام العقبات التي تقف في مجالات التحدي، فلا ينهار ولا يتخاذل ولا يضيع ولا تتبعثر خطاه في الرمال المتحركة للبلاء، بل يمتص ذلك كله بروحه الرسالية الإيمانية التي تنفتح على الواقع لتعرف أن الطريق ليس مفروشا بالورود، فتتعلم كيف تتعامل مع الأشواك الحادّة في لغة الجراح النازفة، وفي أسلوب الآلام العميقة، فلا تسمح للجراح بأن تبكي ولا ترضى للآلام بأن تصرخ، بل تحاول أن تعلمها كيف تبتسم في فرح الرسالة وهي تتقدم على الرغم من كل الأشواك والآلام.
25. هكذا أراد الله للمؤمنين الذين ينطلقون في رسالتهم أن يقفوا أمام قوى الكفر والشر والطغيان في العالم من أجل أن يغيّروا العالم على أساس شريعة الله وتعاليمه، فدعاهم إلى أن لا يواجهوا البلاء الذي يصيبهم بنقص ﴿مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ مواجهة الأشياء المفصولة المعزولة عن جذورها وأسبابها، بل يواجهونها من خلال طبيعة حركة التغيير التي تنطلق في حياة الناس لتكون اختبارا لقوتهم الذاتية ولمبادئهم ولمواقفهم العملية عندما تتعرض للتحدي من القوى المضادة، فإن من الطبيعي أن يتحرك الآخرون ليدمروا وليقتلوا وليضغطوا ويحرقوا الأخضر واليابس انتقاما وثأرا وحقدا، ولكن خطوات الحقد والثأر والانتقام ليست طويلة، بل هي قصيرة جدا، لأنها تعبّر عن ردّات انفعالية حماسية لا تلبث أن تتبخّر في الهواء، فلا بدّ من الصبر الذي يدفع المؤمنين إلى المقاومة والتحمّل والثبات من أجل أن يصلوا إلى نهاية المطاف، ليصعدوا إلى القمة عندما تتهاوى دعوات الباطل على أقدام السفوح.
26. سؤال وإشكال: هل البلاء الذي يتحدث الله عنه في هذه الآية وغيرها فينسبه إلى نفسه ويعتبره اختبارا وامتحانا لإيمانهم وثباتهم على الخط، هو من صنع الله بشكل مباشر بحيث إن الله يوجهه إلينا من دون أن تكون هناك ظروف موضوعية تقتضيه، أم القضية هي أن يكون امتحانا تماما كما هي الأعمال التي يكلف بها الناس في فترات التدريب والامتحان؟ والجواب: قد نستطيع الجواب عنه، بالقول إنّ الحياة في كل ما يحدث فيها، من أرباح وخسائر وأفراح وآلام، مشدودة إلى إرادة الله وقضائه وقدره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، فلكل عمل من الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذه الحياة نتائج سلبية أو إيجابية على مستوى حياته الفردية أو الاجتماعية، سواء في ذلك جانب الممارسات الذاتية أو العلاقات الخاصة والعامة، فلا بد للإنسان من أن يتألم إذا عاش في الظروف التي تفرز مثل هذه الآلام، ولا بد له من أن يجوع إذا تحركت الأسباب التي تنشر المجاعة في الكون، ولا بدّ له من أن يخاف إذا عاشت الحياة أجواء الخوف.. فليست النتائج معزولة عن مقدماتها، بل هي وليدة تلك المقدمات.
27. سؤال وإشكال: ما معنى أن يكون مثل ذلك ابتلاء بعد أن كان أمرا طبيعيا تماما كما هي مظاهر الطبيعة الكونية الموجودة في الحياة؟ والجواب: إن القضية، كل القضية، هي في موقف الإنسان أمام هذه الظروف الطبيعية التي تفرزها حركة المبادئ والرسالات في الحياة، فذلك هو سرّ البلاء في حياته، فهل يتجاوز المرحلة التي تتحرك فيها الآلام والخسائر والمخاوف بأعصاب هادئة ومواقف ثابتة بعيدا عن كل اهتزاز وانحراف، أم يسقط صريعا أمام ذلك كله لتسقط معه رسالته ومبادئه كنتيجة لاهتزاز نقاط الضعف في كيانه وانسجامها مع قوى الانحراف والتحدي المضاد؟ إن الواقع بأسبابه الطبيعية يعتبر امتحانا واقعيا للإنسان، تمتحن به إرادته ورسالته، وقد نستوحي من كلمة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ ـ في ما تعطيه كلمة البلاء من معنى ـ أنّ الموقف يحمل للإنسان قيمة التجربة في تركيز شخصيته وتقوية إرادته، في ما يثيره لديه من مشاعر القوّة في داخله من خلال الإيحاء له بما يحمله الامتحان له من نتائج على مستوى الدنيا والآخرة، ولا سيّما إذا لاحظنا أن طبيعة هذا الامتحان ليست شكلية يمكن للإنسان أن يقوم فيها بدور تقليدي ساذج من دون وعي أو روح، بل هي طبيعة حقيقية أساسية تقتحم كل حياته الداخلية والخارجية لتحوّلها إلى ما يشبه حالة الطوارئ في ما تثيره من نقاط الضعف والقوة، وفي ما تخلقه من عوامل الإثارة والتحدي، وبذلك تتحول نتائج الامتحان من عملية اكتشاف للقدرات الذاتية إلى عملية تنمية هذه القدرات وتقويتها في خطة عملية لصنع الإنسان.
28. تنطلق الآيات لتثير أمام الصابرين الذين لا تهتز مواقفهم أمام التحديات، البشارة من الله من دون أن تدخل في تفاصيل البشارة في البداية، إمعانا في الإبهام الذي يثير المشاعر في عملية انفتاح على ألوان متنوعة من ألطاف الله ورضوانه، ثم تحدّد لنا بعض ملامح الصابرين لتربط الصبر بالوعي للعقيدة والإيمان بالله، فلا يخضع لضغط الأمر الواقع في عملية استسلام للمصائب من دون رضى واقتناع، بل يرتفع في إيمانه ليثير في نفسه الحقيقة الإيمانية الكونية التي تربط الخلق كله بالله، فالخلق كله ملك الله، والإنسان هو بعض من هذا الخلق الذي يملكه الله، مما يجعلنا نحس أننا لا نملك من أمرنا شيئا، لأن الملك كله لله، فله الحقّ كل الحق في أن يبتلي خلقه بما يشاء، وعليهم أن يشعروا أن في ذلك كله المصلحة كل المصلحة والخير كل الخير، لأنه الحكيم الرحيم الذي يدبّر أمر عباده بالحكمة والرحمة..
29. ثم يثير في نفوس هؤلاء الصابرين بعد ذلك الحقيقة الكونية الإيمانية الأخرى، وهي أن العباد سيرجعون إلى الله وستنتهي الحياة كلها ليعود الملك إليه ـ تعالى ـ من دون أن يملك الإنسان أي نوع من أنواع القدرة على مواجهة هذا المصير.. فإذا كان الإنسان ملكا لله فما معنى الاعتراض؟ وإذا كانت الحياة ستنتهي بكل آلامها إلى الله ليلتقي الإنسان برضوانه وثوابه، فما معنى السقوط والجزع؟ لا بد من الصبر والرضى والقناعة بقضاء الله ليلتقي الإنسان بالله عند رجوعه إليه ليلقى عنده الرحمة والمغفرة والثواب الجزيل، حيث الصلوات التي تمثل الحنوّ والعطف والرأفة، وحيث الرحمة المنسابة في مشاعر الإنسان وحياته انسياب الضوء في قلب الكون، وحيث تنطلق الشهادة التي تعبر عن حقيقة إنسانية هي أن الصبر الواعي الذي يعرف قيمة الرسالة والإيمان وما تتطلبه من تضحيات وآلام وما تنتجه من خير وبركات على صاحبها في الدنيا والآخرة، هو السبيل الحي للهدى كل الهدى الذي يمنح أتباعه ذلك الوسام الرائع ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الذين عرفوا الطريق من خلال الرسالة، وذلك هو سبيل الذين يسيرون وعيونهم تحدّق بالشمس المتدفقة بالدفء والحياة والضياء.
30. ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ من مصائب الحياة في أنفسهم وأموالهم وأوضاعهم، ﴿قَالُوا إِنَّا لله﴾ فنحن ملك الله من موقع أننا خلقه، فله أن يتصرف بنا كما يشاء وعلينا أن نتقبل ذلك بكل رضى من دون اعتراض، وأن نؤمن بأنه ـ في موقع رحمته ـ لا يريد بنا إلا خيرا مما يقربنا إلى المصلحة ويبعدنا عن المفسدة، ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فسنصير إلى الله في نهاية المطاف ونتخفف من كل هذه الآلام، فنجد عنده الخير الكثير الذي نحصل فيه على كل السعادة التي يذوب معها كل حزن وألم مما عشناه في الحياة، وبذلك لا يبقى لآلام الحياة قيمة في إحساسنا الذاتي، لأن انتظار لقاء الله في روح رضوانه ونعيم جنته يطرد كل المشاعر الذاتية الخائفة والحزينة والقلقة في أجواء المصائب، وقد جاء عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة: (إن قولنا: ﴿إِنَّا لله﴾ إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ إقرار على أنفسنا بالهلك)
31. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ والصلاة من الله لعباده ـ على ما قيل ـ الانعطاف إلى العبد بالرأفة وذلك بالمغفرة والرعاية له، والتفريج لكربته وقضاء حاجاته، وشفاء مرضه، مما يدخل في الحنو والتعطف الصادر من الله الذي يوحي بالشمول الرعائي للعبد بكل ما يخفف عنه قلقه وحزنه ليمنحه الطمأنينة الروحية في الدنيا والآخرة، وقد ورد الحديث عن صلاة الله وملائكته على عباده في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43] وفي هذا دلالة على أن الصلاة تفتح حياة الإنسان المؤمن على النور بعد أن تحاصره الظلمات لينقذه منها برأفته وعطفه وحنانه ورحمته، وهي العطية الإلهية المطلقة، والموهبة العامة الربانية التي انطلقت من ذات الله وصفاته العليا، فأعطت الإنسان ـ كما أعطت الكون ـ وجوده، وأفاضت عليه بالنعم، وفتحت له أبواب الهداية، ووجهته إلى الأخذ بأسباب السعادة للحصول على رضوان الله ونعيمه في جنته.
32. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الذين اكتشفوا طريق الحق وساروا فيه، وتحمّلوا كل مصاعبه وآلامه، وتقرّبوا إلى الله في ذلك كله ليصلوا إلى مواقع القرب عنده، ومواطن الرضى لديه، وذلك هو الهدى كل الهدى الذي لا يضل سالكه ولا يخيب المنطلق إليه.
33. مما نستوحيه من هذه الآيات:
أ. إن القرآن يعتبر القيم التي يؤمن بها الإنسان، لونا من ألوان القوة الروحية التي يمكن للإنسان أن يستثيرها ويستعين بها عندما تثور أمامه نوازع الضعف.. وبذلك يوجّه الإنسان إلى أن يدرس كل خصائصه الروحية والفكرية في عملية إحصاء دقيقة، ليعرف مقدار القوّة التي يملكها في مواجهة القوى الشريرة الأخرى، سواء في ذلك القوى المضادة الكامنة في داخل نفسه كالشهوات والأطماع، أو القوى البارزة على ساحة الصراع في الحياة، ثم يمتد الموقف في إثارة إيحائية ليعرف من خلال ذلك أنّ القوّة لا تنحصر في ما تعارف عليه الناس من القوّة المادية المتمثلة بالسلاح والرجال والمال والمراكز وغيرها، بل هناك القوّة الروحية التي تتمثل بالقيم والتعاليم الكبيرة التي يؤمن بها الإنسان في داخل ذاته، فهي التي تحميه من نقاط الضعف في نفسه، كما تحميه من وسائل القوة التي يثيرها الآخرون ضده لتجتاح إيمانه ورسالته وموقفه، حيث تتحفز تلك القيم لتوحي له بالثبات مع الخط مهما كانت السلبيات والخسائر الصعبة.
ب. من الأساليب القرآنية المرتكزة على أساس من العقيدة الإسلامية الحقة في ما بعد الموت، محاولة إثارة الشعور بالحياة الآخرة كحالة وجدانية في نفس المؤمن، من أجل تفريغ الفكر والقلب والوجدان من الإحساس بالخوف والوحشة من ظلام الموت وهوله الذي يمنع الإنسان من الحركة في ما يعرّض الحياة للخطر، وذلك في حالات الجهاد في سبيل الله، ولا بد لنا من التركيز على هذا الأسلوب لتحقيق هدفين:
• الأوّل: تنمية العقيدة في داخل المؤمن بتعميق الإحساس بتفاصيلها، بالأسلوب الذي يجعلها حالة وجدانية كما لو كان الإنسان يواجه الموقف بالإحساس البصري المباشر، فيحوّلها ـ أي القرآن الكريم ـ عن الحالة الفكرية المجرّدة التي قد لا تثير المواقف الحاسمة في أغلب الحالات.
• الثاني: التغلب على نقاط الضعف التي تثور في داخل الإنسان من خلال النوازع النفسية الذاتية المتصلة بحب الحياة، ومن خلال الأجواء الخارجية التي يثيرها الآخرون في مجالات الصراع من حالات الخوف والفزع..
وفي ضوء ذلك، يتحرك الأسلوب القرآني في إحساس عميق بالحياة كأفضل ما تكون الحياة في كل ما تجسّده من المتع واللذات الحسية والمعنويّة، فيتحوّل الموقف من حالة الهروب من الموت إلى شوق كبير له ولما يحمله من فرصة الحياة الأفضل والأنقى والأصفى.
ج. التركيز على إثارة روح التحدي للبلاء والمصائب في نفس المؤمن من خلال اعتباره تجربة حيّة من تجارب الحياة الطبيعية بعيدا عن كل إحساس سلبي بالألم والعذاب، والنظر إليها كمظهر من مظاهر العقوبة الإلهية كما هي في عقيدة بعض المؤمنين الساذجين، وبذلك يبتعد الإنسان عن الشعور بالانسحاق أمام البلاء ليكون، بدلا من ذلك، عامل تنمية واختبار للقوّة من أجل الحصول على النتائج الكبيرة في مجال تربية الشخصية الإسلاميّة، وارتفاعها في منازل القرب من الله سبحانه، وهذا ما نحتاجه في الصراعات التي يخوضها العاملون في سبيل الله ضد قوى الكفر والانحراف في كل المجالات، حيث يتعرض هؤلاء لما كان يتعرض له المسلمون الأولون في بدايات الدعوة الإسلامية من النقص في الأموال والأنفس والثمرات ليصبروا على ذلك كما صبر أولئك، وليحصلوا على نتائج النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة، لأن ذلك هو سبيل الوصول إلى الأهداف الكبيرة التي يستهدفها أصحاب الرسالات السماوية.
د. إن الدعوة إلى الصبر في الشدائد والأهوال لا تشبه الدعوات التي يوجهها الآخرون في أساليبهم المتنوعة حيث تؤكد المعاني الإنسانية الذاتية في الحديث عن النتائج السلبية والإيجابية، بينما نجد القرآن يربط الموضوع بالعقيدة ودلالتها وإيحاءاتها وعلاقة ذلك كله بالجو الروحي الذي يتطلع إلى رضى الله ومحبته ورحمته، لئلا يتجمد الإنسان في مواقفه على النوازع المادية التي تربطه بالحياة الدنيا، فيخلد إليها في استسلام مهين، ويبتعد بذلك عن أخلاقية الإسلام المتصلة بالحياة من خلال اتصالها بالله، المرتكزة على الأسلوب الإسلامي التربوي الذي يجعل الهدف الإنساني مرتبطا بالعلاقة الحميمة بالله، في سير الإنسان الأخلاقي، الأمر الذي يدفعه إلى التغلب على كل النتائج السلبية على مستوى الحياة الدنيا إذا كانت النتائج إيجابية على مستوى الحياة الأخرى في رضوان الله وعفوه وغفرانه، لتبقى الحوافز الدافعة إلى الالتزام والانضباط حيّة قوية في مختلف الظروف والأوضاع من دون الاستسلام لأيّة نقطة من نقاط الضعف الإنساني.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/106.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية إنها نزلت في قتلى بدر، وعددهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وبعد انتهاء الغزوة قال بعض المسلمين عن هؤلاء الشهداء إنّهم (أموات) فنهت الآية عن ذلك.
2. الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جدا، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاولى دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.
3. تقول الآية أوّلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ خلافا لما يتصور بعض النّاس (الصّبر) لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والاستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث، لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
أ. الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.
ب. الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.
ج. الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع.
4. قلّما كرر القرآن موضوعا وأكد عليه كموضوع (الصبر)، ففي سبعين موضعا قرآنيا تقريبا دار الحديث عن الصبر، بينها عشرة تختص بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمها ـ صبرهم واستقامتهم، والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون، ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها، من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أمير المؤمنين علي عليه السّلام: (وعليكم بالصّبر فإنّ الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه ولا في إيمان لا صبر معه)، والروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الإنسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.
6. الآية الكريمة تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية والاعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله، وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الانتصارات.
7. الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية الكريمة باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو (الصلاة)، وروي أن عليّا عليه السّلام: (كان إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصّلاة ثمّ تلا هذه الآية: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ ولا عجب في ذلك، فالإنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه، والصلاة تحقق الارتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.
8. الآية الكريمة تطرح مبدأين هامّين: الأوّل ـ الاعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.
9. بعد ذكر الصبر والاستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله، تقول الآية: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالاستدراك ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
10. في كل حركة ـ أساسا ـ تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الامّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع، وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.
11. القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كرارا ويؤنّبهم بشدّة، ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس، والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات.. هؤلاء أحياء.. ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.
12. للمفسرين آراء مختلفة في معنى حياة الشّهداء وخلودهم:
أ. ظاهر الآية يشير دون شك إلى أنّهم يتمتعون بنوع من الحياة البرزخية الروحية، لأن أجسامهم قد تلاشت، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي كما يقول الإمام الصادق عليه السّلام.
ب. من المفسرين من قال إنها (حياة غيبية) خاصة بالشّهداء لا تتوفر لدينا تفاصيلها وخصائصها.
ج. وقيل إن الحياة المذكورة في الآية تعني الهداية، والموت يعني الضلال، فتكون الآية قد نهت عن وصف الشهداء بالضلالة، بل هم مهتدون.
د. وقيل إن الشهداء أحياء لأن هدفهم حي ورسالتهم حية.
13. مع الأخذ بنظر الاعتبار التّفسير الأول للحياة يتضح أن المعاني في الأخرى غير مقبولة، فلا حاجة لأن نتكلف التّفسيرين التاليين، ولا أن الحياة البرزخية مختصة بالشهداء فهم يحيون حياة برزخية روحانية، ويتنعمون كذلك بالقرب من رحمة الله وبأنواع نعمه.
14. قرر الإسلام مسألة الشهادة وبيّن منزلتها العظيمة في الآية القرآن الكريم لتكون عاملا فعّالا هامّا على ساحة المواجهة بين الحق والباطل، وهذا العامل أمضى من أي سلاح وأقوى من كل المؤثرات، وهو قادر على أن يجابه أخطر الأسلحة وأفتكها في عصرنا الراهن، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران أثبتت ذلك بوضوح، وقد شاهدنا بأم أعيننا انتصار المندفعين نحو الشهادة ـ بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية ـ على أعتى القوى المتجبّرة.
15. لو ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام، والملاحم التي سطرها المسلمون في جهادهم الدّامي، والتضحيات التي قدمها المجاهدون على طريق الرسالة، لألفينا أن الدافع الأساس لكل هذه التضيحات هو درس الشهادة الذي لقنه الإسلام لأبنائه، وبموجبه آمنوا أن الشهادة على طريق الله وطريق الحق والعدالة لا تعني الفناء، بل السعادة والحياة الخالدة.
16. المقاتلون الذين تلقوا مثل هذا الدرس في مثل هذه المدرسة الكبرى، لا يقاسون بالمقاتلين العاديين الذين يفكّرون في صيانة أرواحهم، أولئك يحاربون من أجل الرسالة ويندفعون بشوق عظيم نحو كسب وسام الشهادة.
17. هذه الآية الكريمة تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث)، وتردّ بصراحة على أولئك الذين ينكرون تعرض القرآن للحياة البرزخية وبقاء الروح.
18. بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر.. وكلّها من مظاهر الاختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للاختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾
19. لمّا كان الانتصار في هذه الاختبارات، لا يتحقق إلّا في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات، لا غيرهم.
20. الآية التالية تعرّف الصابرين، وتقول: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.
21. الالتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لارتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.
22. واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والالتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.
23. آخر آية تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهية: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾، هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.
24. سؤال وإشكال: ما سبب هذا الاختبار، فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم، فهل أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار!؟ وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الامتحان!؟ والجواب:
أ. أن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري، اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهي قصده (التربية)، في أكثر من عشرين موضعا تحدث القرآن عن الاختبار الإلهي، باعتباره سنّة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوّة إلى الفعل، وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد.
ب. كما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.
ج. الاختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثمّ تصارع هذه البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهره أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب، ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.. وهذا هو سرّ الاختبارات الإلهية.
د. يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، ويقول أمير المؤمنين علي عليه السّلام في بيان سبب الاختبارات الإلهية: (وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثّواب والعقاب)، أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معيارا للثواب والعقاب، فلا بدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب، ولو لم يكن الاختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهي في منطق الإسلام.
25. نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبّر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإن كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.
26. الامتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها وبالتالي تختلف نتائجها أيضا، يقول سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، والقرآن يعرض نماذج لاختبارات الأنبياء إذ يقول: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾، ويقول في موضع آخر بشأن اختبار سليمان: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾.
27. ذكرت الآية الكريمة نماذج ممّا يختبر به الإنسان، كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت.. لكن سبل الاختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها في مواضع أخرى: البنين، والأنبياء، وأحكام الله، بل حتى بعض ألوان الرؤيا: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾.
28. النّاس إزاء الاختبارات الإلهية على نوعين: متفوّق في الامتحان، وخاسر، فحيثما تسود حالة (الخوف) مثلا:
أ. ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم سوء، فينفضون أيديهم من المسؤولية، أو يلجؤون إلى المداهنة أو التماس الأعذار، كقولهم الذي يحكيه القرآن: ﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾.
ب. وثمة جماعة تقف كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، تزداد توكلا وإيمانا، وهؤلاء الذين يقول عنهم القرآن: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
وهكذا موقف النّاس من ألوان الامتحانات الأخرى، يعرض القرآن نماذج لموقف النّاجحين والفاشلين في الاختبار الإلهي، سنتناولها في مواضعها.
29. سؤال وإشكال: إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لأحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ والجواب: القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من الآية الكريمة وفي آيات أخرى:
أ. أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، فالآية تبشّر بالنجاح أولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الانتصار.
ب. الالتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضا عابرا وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، و(كلمة الاسترجاع) هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والانقطاع إلى الله، والاعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان، وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي يجتازوا مرحلة الاختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه، قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام في تفسير الاسترجاع: (إنّ قولنا: إنّا لله إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: إنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك).
ج. الاستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز الاختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن، فالسائرون على طريق الله يتقدّمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم، وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح، يقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
د. التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهية، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهي بنجاح، فلو عرف الإنسان بأن ما أصيب به ليس حالة شاذّة، وإنما هو قانون عام شامل لكل الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهم الحالة بوعي، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات، ولذلك يثبّت الله سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾.
هـ. الالتفات الى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأمور، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة، فالمتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالارتياح حينما يعلمون أنهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمل الصعاب، فإذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما يجري على الإنسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة!؟ ما أعظم القوّة التي يمنحها هذا الاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاقّ المحنة! حين واجه نوح عليه السّلام أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾، وعبارة (بأعيننا) كان لها ـ دون شك ـ وقع عظيم في نفس هذا النّبي الكريم، فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الأعداء واستهزائهم، ورد عن سيّد الشهداء الحسين بن علي عليه السّلام أنّه قال بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: (هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله)
30. الامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة، كما يقول سبحانه: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾.
31. ليس من الضروري أن يختبر جميع النّاس بجميع وسائل الاختبار، بل من الممكن أن يكون اختبار كل فئة بلون من الامتحان يتناسب مع الوضع الفردي والاجتماعي لتلك الفئة.
32. من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الامتحانات، بينما يفشل في امتحانات أخرى، وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر، كأن يكون موت ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه، ليرى مدى اتخاذهم موقف المواساة من صاحبهم.
33. الاختبار الإلهي شامل عام يدخل في نطاقه حتى الأنبياء عليهم السّلام، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسئوليتهم أشدّ بكثير من اختبار الآخرين، والقرآن الكريم يعرض صورا لاختبارات شديدة مرّ بها الأنبياء عليهم السّلام وبعضهم مرّ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتمّ الاستعداد لتحمل أعباء قيادة أمّته.
34. وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين، كل واحد منهم قدوة على ساحة الامتحان الإلهي، فقد روي (أنّ أمّ عقيل كانت امرأة في البادية فنزل عليها ضيفان وكان ولدها عقيل مع الإبل فأخبرت بأنّه ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فهلك فقالت المرأة للنّاعي انزل واقض ذمام القوم ودفعت إليه كبشا فذبحه وأصلحه وقرّب إلى القوم الطّعام فجعلوا يأكلون ويتعجّبون من صبرها (قال الرّاوي) فلمّا فرغنا خرجت إلينا وقالت يا قوم هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئا؟ فقلت: نعم، قالت: فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن ولدي فقرأت: ﴿وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون إلى قوله المهتدون﴾، فقالت: السّلام عليكم، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعات ثمّ قالت: اللهمّ إنّي فعلت ما أمرتني فانجز لي ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد ـ قال فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه ـ فقالت لبقي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمّته، فخرجت.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/435.
65. الصفا والمروة وشعائر الله
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈65⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عائشة:
روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّها قالت: إنه كان على الصفا والمروة صنمان في الجاهلية يطوفون بينهما، فلما هدمهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما هدم الأصنام تحرج أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وقالوا: إنا كنا نطوف من أجل الصنمين، فقد هدمهما الله، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، أي: من مناسك الحج، فلا تحرجوا أن يطوف بينهما(1)..
2. روي أنّها قالت: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ أي: من مناسك الحج(1)..
3. روي أن أن عروة قال لها: أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، فما أرى على أحد جناحا أن يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت، يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ الآية، قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما(2)..
4. روي أنّها قالت: نزلت هذه الآية في الأنصار؛ كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ (3)..
5. روي أنّها قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ـ ومناة صنم بين مكة والمدينة ـ قالوا: يا نبي الله، إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ الآية، قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة؛ قال الله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، فقالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: هذا العلم، قال أبو بكر: ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطواف بالبيت، ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة؛ قيل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما؛ فيمن طاف، وفيمن لم يطف(4)..
6. روي أنّها قالت: لعمري، ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة، ولا عمرته؛ لأن الله قال ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ (5)..
__________
(1) الطبراني في الأوسط: ٤٦٣٨.
(2) البخاري: ٣/٦.
(3) الحاكم: ٢/٢٩٧.
(4) البخاري: ٢/١٥٧.
(5) مسلم: ١٢٧٧وابن ماجه: ٢٩٨٦وابن جرير: ٢/٧٢١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كانت الشياطين في الجاهلية تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت فيها آلهة لهم أصنام، فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، ألا نطوف بين الصفا والمروة؛ فإنه شرك كنا نصنعه في الجاهلية، فأنزل الله: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر(1)..
2. روي أنّه قال: قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ الآية(2).
3. روي عن عمرو بن حبشي: سألت ابن عمر عن قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ الآية، فقال: انطلق إلى ابن عباس فاسأله؛ فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد، فأتيته، فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنام، فلما أسلموا أمسكوا عن الطواف بينهما؛ حتى أنزلت: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ الآية(3)..
4. روي أنّه قال: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، فأتى الصفا، فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة، فقام عليها، وطاف وسعى(4)..
5. روي أنّه أتاه رجل، فقال: أبدأ بالصفا قبل المروة، أو أبدأ بالمروة قبل الصفا؟ وأصلي قبل أن أطوف، أو أطوف قبل؟ وأحلق قبل أن أذبح، أو أذبح قبل أن أحلق؟ فقال ابن عباس أنّه قال: خذوا ذلك من كتاب الله، فإنه أجدر أن يحفظ، قال الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾؛ فالصفا قبل المروة، وقال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦]؛ فالذبح قبل الحلق، وقال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: ٢٦]؛ فالطواف قبل الصلاة(5)..
6. روي أنّه رآهم يطوفون بين الصفا والمروة، فقال: هذا مما أورثتكم أم إسماعيل(6)..
__________
(1) الحاكم: ٢/٢٩٨.
(2) الطبراني في الأوسط: ٨/١٧٧.
(3) ابن جرير: ٢/٧١٥.
(4) ابن جرير: ٢/٧٢٤.
(5) الحاكم: ٢/٢٧٠.
(6) الحاكم: ٢/٢٧١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾، يعني: فلا حرج(1)..
2. روي أنّه سئل: لم بدئ بالصفا قبل المروة؟ قال: لأن الله قال ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ (2)..
3. روي أنّه قال: أقبل إبراهيم ومعه هاجر وإسماعيل، فوضعهم عند البيت، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال نعم، قال فعطش الصبي، فنظرت فإذا أقرب الجبال إليها الصفا، فسعت، فرقت عليه، فنظرت فلم تر شيئا، ثم نظرت فإذا أقرب الجبال إليها المروة، فنظرت فلم تر شيئا، قال فهي أول من سعى بين الصفا والمروة، ثم أقبلت، فسمعت حفيفا أمامها، قال قد أسمع، فإن يكن عندك غياث فهلم، فإذا جبريل أمامها يركض زمزم بعقبه، فنبع الماء، فجاءت بشن لها تقرش فيه الماء فقال لها: تخافين العطش؟ هذا بلد ضيفان الله، لا يخافون العطش(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٧.
(2) الدرّ المنثور: وكيع.
(3) الدرّ المنثور: الخطيب في تالي التلخيص.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ الآية، فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا(1)..
2. روي أنّه قال: جعله الله تطوع خير(2)..
__________
(1) سعيد بن منصور: ٢٣٤.
(2) ابن جرير: ٢/٧١٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ من الخير الذي أخبرتكم عنه(1)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا شيء أشكر من الله، ولا أجزى لخير من الله تعالى(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ إن الله لا يعذب شاكرا، ولا مؤمنا(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ فالصّفا والمروة جميعا: الحجر.. ويثنى الصّفا؛ فيقال صفوان، ويجمع.. فيقال أصفاء وصفيّ وصفا وصفيّ.. وتثنى المروة؛ فيقال مروتان وتجمع؛ فيقال ثلاث مروات، والكثير المرو،(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ فالشّعائر: ما أشعر لموقف.. أي ما أعلم لذلك.. واحدتها شعيرة،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ ليس عليه إثم، ولكن له أجر(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧١٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾، أي: زاد في الطواف بعد الواجب(1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سمي الصفا صفا، لأن المصطفى آدم هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم آدم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33] وهبطت حواء على المروة، وإنما سميت المروة، لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة(1)..
2. روي أنّه قال: إن إبراهيم لما خلف إسماعيل بمكة عطش الصبي، وكان فيما بين الصفا والمروة شجر، فخرجت أمه حتى قامت على الصفا، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلى الصفا، فقالت كذلك حتى صنعت ذلك سبعا، فأجرى الله ذلك سنة، فأتاها جبريل، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا أم ولد إبراهيم، فقال لها: إلى من وكلكم؟ فقالت: أما إذا قلت ذلك، فقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ فقال: إلى الله عز وجل، فقال جبريل: لقد وكلكم إلى كاف.. وكان الناس يتجنبون الممر بمكة لمكان الماء، ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم، ورجعت من المروة إلى الصبي وقد نبع الماء، فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء، ولو تركته لكان سيحا، فلما رأته الطير حلقت عليه، فمر ركب من اليمن، فلما رأوا الطير حلقت عليه، قالوا: ما حلقت إلا على الماء، فأتوهم ليستقوهم فسقوهم من الماء، وأطعمهم الركب من الطعام، وأجرى الله عز وجل لهم بذلك رزقا، فكان الركب يمر بمكة فيطعمونهم من الطعام، ويسقونهم من الماء(2)..
3. روي أنّه سئل عن السعي بين الصفا والمروة، فريضة أم سنة؟ فقال: فريضة، قيل: أوليس قال الله عز وجل: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل وترك السعي حتى انقضت الأيام، وأعيدت الأصنام، فجاءوا إليه، فقالوا: يا رسول الله، إن فلانا لم يسع بين الصفا والمروة، وقد أعيدت الأصنام؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي وعليهما الأصنام(3)..
4. روي أنّه قال ـ في حديث حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: أنه بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتيه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، فابدأ بما بدأ الله عز وجل به، وإن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾(4)..
5. روي أنّه سئل عن المرأة تطوف بين الصفا والمروة وهي حائض؟ قال: لا، لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله(5)..
__________
(1) علل الشرائع: 431/1.
(2) علل الشرائع: 432/1.
(3) الكافي: 4/435.
(4) الكافي: 4/245.
(5) التهذيب: 5/394.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ هما من أمر المناسك التي أمر الله بها(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ لا حرج عليه أن يطوف بينهما؛ لقولهم: إن علينا حرجا في الطواف بينهما(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ بعد الفريضة، فزاد في الطواف؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ لأعمالكم، عليم بها، وقد طاف إبراهيم الخليل عليه السلام بين الصفا والمروة(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، أنّه قال ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فاعتمر ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ فالحج فريضة، والعمرة تطوع، ليست العمرة واجبة على أحد من الناس(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٢٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. دل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أن صعودهما من اللازم في نسكه، وكذلك صعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الصفا وقال: (نبدأ بما بدأ الله)، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ الآية، ولم يقل: بينهما، فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما، مع ما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله﴾ [المائدة: 2]، وفى ترك صعودهما إحلال شعائر الله، إذ قد بين الله أنهما (من شعائر الله)، وما روى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طاف بينهما على ناقته، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما، فهو عندنا للعذر فعل ذلك، وإلا فإنه قد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه صعدهما واستقبل البيت وقال: نبدأ بما بدأ الله، دليل ذلك ما روى عن ابن عباس، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعذر به، ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعي؛ لما فيه من فعل السعي، والراكب لا يسعى، وقال الشافعي: روى عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة على ناقته ليرى الناس، وقال: خبر جابر أولى من خبر ابن جبير؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير، وذلك عن ابن جبير عن ابن عباس، وهو أولى؛ لأن العذر كامن لا يعرف بالنظر من بعد، وإنما يعرف بالتأمل، أو بالخبر من عند ذي العذر، وعلى هذا خرج خبر ابن عباس، على أن خبر جابر لو صح على ما يروى فهو لما ذكر أنه (يرى الناس) فكأنه أراد أن يعلمهم، وذلك كالتعليم منه، والتعليم عليه لازم، فهو بتركه يلام عليه، فذلك عذر.. الثاني: أنه يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه، أنه كيف كان يفعله؟ فكان ذلك لمكان الدلالة للخلق بذلك هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة، أن الأولى يفعلون ما يفعل الحاج، لا على فعل الحج، ولكن على التعليم؛ فعلى ذلك أمر المروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. اختلف في الطواف بينهما بعد ما قيل: إن الجناح فيه لوجهين:
أ. أحدهما: ما قيل: كان بالصفا صنم وبالمروة صنم فيخرجوا لمكانهما.
ب. وقيل: كان بينهما أصنام، لذلك كان يخرجهم.
3. اختلف في حكم السعي بينهما:
أ. قال الشافعي: إن السعي بينهما مفروض، حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى أقصى بلاد المسلمين أمر بالعود ليضع قدمه موضعها ويخطو تلك الخطوة، واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فقال: (إن الله كتب عليكم السعي بين الصفا والمروة فاسعوا)، وهو يأتي مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط، ومرة يحتج بامرأة لا يعرف ولا يذكر اسمها، والوجه فيه إن ثبت وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله، وهو أن يقال: (كتب) أي حكم، كقوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ [الأحزاب: 6]، وقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24]، قيل: به حكم الله عليكم.
ب. قال الحنفية: هو لازم؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به، والأصل عندهم: أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم؛ كالطواف، وسجدة التلاوة، وكالوتر، والأضحية وغيره، وقد روى عن عائشة، أنها قالت: (ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي)، فهو وصف بالنقصان لا وصف بالفساد، وفرق بين التمام من النقص وبين الجواز من الفساد.
ب. وقال آخرون: ليس بفرض ولا لازم، واحتجوا على ذلك:
• بما ذكر في حرف أبىّ: (لا جناح عليه أن لا يطوف بينهما)، ولا يذكر ذلك في شيء واجب.
• إن هذه اللفظة لفظة رخصة، ولا يرخص بترك ما هو فرض أو لازم.
4. الجواب على من ذكر أن السعي ليس بفرض ولا لازم:
أ. الأول: عن الحرف الأول أن اللاءات ربما تزاد وتنقص، ولا يوجب زيادتها ونقصانها تغير حكمها، كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176] أي لا تضلوا، ومثل هذا كثير في القرآن.
ب. الثاني: ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام، فبين عزّ وجل أن لا حرج عليهم في ذلك، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج في تركه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، وهو واحد:
أ. قيل: ﴿شَاكِرٌ﴾، أي يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير.
ب. وقيل: يقبل القليل ويعطى الجزيل.
6. عامل الله عزّ وجل بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل، وإعطاء الجزيل من الثواب؛ وحيث طلب منهم الإقراض، ووعد لهم العظيم من الجزاء، كمن لا حق له فيها، بقوله: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20]، وحيث خرج القول منه في الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيه، بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ [البقرة: 155]، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه، وذلك من غاية اللطف والكرم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/605.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ﴾: أي من معالم دين الله(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ أي من مناسكه ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أي لا حرج عليه ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ قيل: فزاد في الطواف حول البيت بعد الواجب.. ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يؤخرون بالتعذيب بل عذابهم حاضر(1)..
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/93.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ أما الصفا والمروة فهما مبتدأ السعي ومنتهاه، وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن الصفا: الحجارة البيض، والمروة الحجارة السود، واشتقاق الصفا من قولهم صفا يصفو إذا خلص، وهو جمع واحده صفاة.
ب. الثاني: أن الصفا: الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئا، والمروة الحجارة الرخوة، وهذا أظهر القولين في اللغة، يدل على الصفا قول الطرماح:
çأبت لي قوتي والطول إلّا...يؤيس حافرا أبدا صفاتيé
ويدل على المروة قول الكميت:
çويولّي الأرض خفا ذابلا...فإذا ما صادف المرو رضخé
2. اختلف في سبب تسميتهما بذلك:
أ. حكي عن جعفر بن محمد قال: نزل آدم على الصفا، وحواء على المروة، فسمّي الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة.
ب. وقيل إن اسم الصفا ذكّر بإساف وهو صنم كان عليه مذكر الاسم، وانثت المروة بنائلة وهو صنم كان عليه مؤنث الاسم.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ وجهان:
أ. أحدهما: يعني من معالم الله التي جعلها لعباده معلما، ومنه قول الكميت:
çنقتّلهم جيلا فجيلا تراهم...شعائر قربان بها يتقرّبé
ب. الثاني: إن الشعائر جمع شعيرة وهو الخبر الذي أخبر الله تعالى عنه، وهي من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة وما عليهم من الطواف بهما، وهذا قول مجاهد.
4. الحج في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾ هو القصد ـ على وجه التكرار والترددـ قال الشاعر:
çوأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفراé
يعني بقوله يحجون أي يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته، فسمي الحج حجاً لأن الحاج يأتي قِبَلَ البيت ثم يعود إليه لطواف الإفاضة، ثم ينصرف إلى منى ويعود إليه لطواف الصدر، فلتكرر العَوْد إليه مرة بعد أخرى قيل له: حاجّ.
5. في العمرة في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾ قولان:
6. أحدهما: أنها القصد أيضاً، وكل قاصد لشيء فهو معتمر، قال العجاج:
çلقد غزا ابن معمر حين اعتمر ... مَغْزىً بعيداً من بعيد وصَبَرé
يعني بقوله حين اعتمر أي حين قصد.
7. الثاني: أنها الزيارة ومنه قول الشاعر:
çوجاشت النفسُ لمَّا جاءَ فَلُّهم ... وراكب جاءَ من (تثليث) معتمراé
أي زائراً.
8. ثم قال تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ورفع الجناح من أحكام المباحات دون الواجبات:
أ. فذهب أبو حنيفة إلى أنّ السعي بين الصفا والمروة غير واجب في الحج والعمرة منسكا بأمرين:
• أحدهما: قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ورفع الجناح من أحكام المباحات دون الواجبات.
• الثاني: أن ابن عباس وابن مسعود قرء: فلا جناح عليه أن لا يطّوّف بهما.
ب. وذهب الشافعي، ومالك، وفقهاء الحرمين، إلى وجوب السعي في النسكين تمسكا بفحوى الخطاب ونص السنة.
9. ليس في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ دليل على إباحته دون وجوبه، لخروجه على سبب، وهو أن الصفا كان عليه في الجاهلية صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، فكانت الجاهلية إذا سعت بين الصفا والمروة طافوا حول الصفا والمروة تعظيما لإساف ونائلة، فلما جاء الإسلام وألغيت الأصنام تكرّه المسلمون أن يوافقوا الجاهلية في الطواف حول الصفا والمروة، مجانبة لما كانوا عليه من تعظيم إساف ونائلة، فأباح الله تعالى ذلك لهم في الإسلام لاختلاف القصد فقال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، وأما قراءة ابن مسعود، وابن عباس: فلا جناح عليه أن لا يطّوّف بهما، فلا حجة فيها على سقوط فرض السعي بينهما لأن (لا) صلة في الكلام إذا تقدمها جحد، كقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12] بمعنى ما منعك أن تسجد.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: ومن تطوع بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول من أسقط وجوب السعي.
ب. الثاني: ومن تطوع بالزيادة على الواجب، وهذا قول من أوجب السعي.
ج. الثالث: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد أداء فرضهما.
11. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ يحتمل تأويلين:
أ. أحدهما: شاكر للعمل عليم بالقصد.
ب. الثاني: شاكر للقليل عليم بالثواب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/212.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصفا ـ في الأصل ـ الحجر الأملس مأخوذ من الصفوّ، قال المبرد: الصفا: كل حجر لا يخلط غيره، من طين أو تراب يتصل به حتى يصير منه، وإنما اشتقاقه من صفا يصفو ـ إذا خلص ـ وهو الصافي الذي لا يكدّره شيء يشوبه، وقيل واحد الصفا: صفاء، وقيل بل هو واحد يجمع اصفاء أو صفى ـ وأصله من الواو ـ، ولأنك تقول ـ في تثنيته: صفوان، ولأنه لا يجوز فيه الامالة.
2. المروة في الأصل: هي الحجارة الصلبة اللينة، وقيل: الصفا: الصغير، والمروة: لغة في المرو، وقيل انه جمع مثل تمرة وتمر، قال ابو ذؤيب: (حتى كأني للحوادث مروة)، والمرو: نبت، والأصل الصلابة، والنبت سمي بذلك لصلابة نوره، والصفا والمروة: هما الجبلان المعروفان بالحرم، وهما من الشعائر، كما قال الله تعالى.
3. الشعائر: المعالم للأعمال، فشعائر الله: معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة، وهي أعلام متعبداته من موقف، أو مسعى، أو منحر، وهو مأخوذ من شعرت به: أي علمت، وكل معلم لعبادة من دعاء، أو صلاة، أو أداء فريضة، فهو مشعر لتلك العبادة، وواحد الشعائر شعيرة، فشعائر الله أعلام متعبداته قال الكميت بن زيد:
çنقتلهم جيلا فجيلا نراهم...شعائر قربان بهم نتقربé
4. الحج: قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام، والطواف، والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة، واشتقاقه من الحج الذي هو القصد ـ على وجه التكرار والتردد قال الشاعر:
çوأشهد من عوف حلولا كثيرة...يحجون سب الزبرقان المزعفراé
يعني يكثرون التردد اليه بسؤدد، وقال آخر: (يحجّ مأمومة في قعرها لجف)
5. العمرة: في الأصل هي الزيارة وهي هاهنا زيارة البيت بالعمل المشروع: من طواف الزيارة والأحرام، وأخذت العمرة من العمارة لان الزائر للمكان يعمره بزيارته له.
6. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾، فالجناح هو الميل عن الحق، وأصله من جنح إليه جنوحاً إذا مال اليه، قال صاحب العين: الإجناح: الميل، اجنحت هذا فاجتنح أي أملته فمال، وقوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ أي مالوا إليك لصلح فمل إليهم، وجناحا الطائر: يداه، ويدا الإنسان: جناحاه، وجناحا العسكر جانباه، وجناحا الوادي: مجريان عن يمينه وشماله، وجنحت الإبل في السير إذا أسرعت، وإنما قيل للاضلاع جوانح، لاعوجاجها، وجنحت السفينة إذا مالت في أحد شقيها، وكل مائل إلى شيء فقد جنح إليه ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي ميل إلى مأثم، وكل ناحية: جناح، ومرّ جنح من الليل أي قطعة نحو نصفه، وأصل الباب الميل.
7. الطواف: الدور حول البيت، ومنه الطائف: الدائر بالليل، والطائفة الجماعة كالحلقة الدائرة، ويطّوف أصله يتطوف، فأدغمت التاء في الطاء، لأنها من مخرجها، والطاء أقوى بالجهر منها، والفرق بين الطاعة والتطوع: ان الطاعة موافقة الارادة في الفريضة والنافلة، والتطوع التبرز بالنافلة خاصة، وأصلها الطوع الذي هو الانقياد.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾:
أ. قيل: إنما قال تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ وهو طاعة، من حيث أنه جواب لمن توهم أن فيه جناحاً، لصنمين كانا عليه: أحدهما إساف، والآخر نائلة، في قول الشعبي، وكثير من أهل العلم، وروى ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام، وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة.
ب. وقال قوم: سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما، فكره المسلمون ذلك خوفاً أن يكون من أفعال الجاهلية، فانزل الله تعالى الآية.
ج. وقال قوم: عكس ذلك: أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون السعي بينهما، فظن قوم أن في الإسلام مثل ذلك، فأنزل الله تعالى الآية.
9. في الآية الكريمة ردّ على جميع من كرهه، لاختلاف أسبابه، والطواف بينهما:
أ. فرض عندنا(2). في الحج والعمرة، وبه قال الحسن وعائشة وغيرهما، وهو مذهب الشافعي، وأصحابه، وعندنا ان من ترك الطواف بينهما متعمداً، فلا حج له حتى يعود فيسعى، وبه قالت عائشة، والشافعي، وقال ابو حنيفة، وأصحابه، والنوري: إن عاد، فحسن، وإلا جبره بدم، وقال عطا، ومجاهد يجزيه ولا شيء عليه.
ب. وقال أنس بن مالك، وروى عن ابن عباس: أنه تطوع وبه قال ابو حنيفة، وأصحابه، واختاره الجبائي.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ قيل فيه ثلاثة أقوال:
أ. أولها: ﴿مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ اي بالحج أو العمرة بعد الفريضة.
ب. الثاني: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أي بالطواف بهما عند من قال إنه نفل.
ج. الثالث: ﴿مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ بعد الفرائض، وهذا هو الأولى، لأنه أعم.
11. اختلف في التقدير في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾:
أ. في الناس من قال وهو الجبائي، وغيره: إن التقدير فلا جناح عليه ألا يطوف بهما كما قال ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ ومعناه ألّا تضلوا وكما قال ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ومعناه الا تقولوا.
ب. وقال آخرون: إن ذلك لا يجوز وهو اختيار الرماني، وهو الصحيح، لأن الحذف يحتاج الى دليل، ومعنى القراءتين واحد لا يختلف.
12. وصف الله تعالى بأنه شاكر مجاز، لأن الشاكر في الأصل هو المظهر للانعام، والله لا يلحقه المنافع، والمضار ـ تعالى عن ذلك ـ ومعناه هاهنا المجازي على الطاعة بالثواب، وخروج اللفظ مخرج التلفظ حثّاً على الإحسان اليهم، كما قال ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ والله لا يستقرض من عوز، لكن تلطف في الاستدعاء كأنه قال من ذا الذي يعمل عمل المقرض، بأن قدم فيأخذ أضعاف ما قدم في وقت فقره وحاجته الى ذلك فكذلك، كأنه قال ﴿مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ﴾ يعامله معاملة الشاكر، يحسن المجازاة، وإيجاب المكافاة.
13. الفرق بين التطوع والفرض أن الفرض يستحق بتركه الذّم والعقاب، والتطوع لا يستحق بتركه الذَّم، ولا العقاب.
14. روي عن جعفر بن محمد: أن آدم نزل على الصفا، وحواء على المروة، فسمى المرو باسم المرأة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/42.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصفا في الأصل: هو الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واشتقاقه من صفا يصفو، وهو الصافي الخالص الذي لا يشوبه شيء، وكل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين فهو الصفا، والدليل أنه من الواو الاشتقاق وامتناع الإمالة، وقيل: الصفا جمع واحدها صفاة، وقيل: هو واحد وجمعه أصفاء وصَفًا.
ب. المروة في الأصل الحجر الصلب، وقيل: الحصاة الصغيرة، وجمعها مَرْوٌ، وقد صار اسمين لجبلين معروفين في الحرم يجب السعي بينهما، والألف واللام للتعريف لا للجنس.
ج. الشعائر جمع شعيرة؛ وهي المعالم للأعمال، وأصله من العلم، وشعائر الله تعالى: معالمه التي جعلها مواطن للعبادة، وكل معلم لعباده من دعاء أو صلاة أو غيرها فهو مشعر لتلك العبادة، وقيل: شعائر الله إعلام متعبدٍ به، والإشعار الإعلام، ومنه: الشعر: العلم بما دق، وشعرت به: علمت.
د. الحج في الأصل القصد، وصار في الشرع اسمًا لقصد البيت بأعمال مخصوصة مشروعة كالإحرام والطواف والوقوف ونحوه، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة.
هـ. العمرة: الزيارة، أخذ من العمارة وكأن الزائر للمكان عمره بزيارته، وهو في الشرع اسم لعبادة مخصوصة، وهو زيارة البيت بعمل مشروع وهو الإحرام والطواف والسعي.
و. الجناح: أصله الميل، ومنه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ أي مالوا، وجنحت السفينة إذا مالت في أحد شقيها، ومنه أخذ جناح الطائر وجناح العسكر وجَنَحَ الظلام، ومال للذهاب.
ز. الطواف أصله الدوران حول الشيء، ومنه الطايف، قال الشاعر:
çلَقَدْ طَوَّفْتُ في الآفاقِ حَتَّى... رَضيت مِنَ الْغَنِيِمَةِ بالإِيَابِé
وفي عرف الشرع: الدور حول البيت.
ح. التطوع: تفعل من الطاعة، وأصله من الطوع، قال أبو مسلم: سواء قولك طاعة أو تطوع كحال وتحول وضاف وتضيف، والطوع الانقياد، والتطوع ما تبرعت به من ذات مما لا يجب عليك.
ط. الشاكر: فاعل من الشكر، وهو في صفة الله تعالى توسع ومجاز؛ لأن أصله هو المظهر للإنعام عليه والله يتعالى عن ذلك، ومعناه في صفته أنه يجازي على الطاعة بالثواب شبها بالشاكر.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس والشعبي أنه كان على الصفا والمروة صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوهما، فكره المسلمون الطواف بينهما لذلك، وكان على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر أبو علي مثل ذلك غير أنه قال: كان على الصفا والمروة أصنام منصوبة للكفار يعبدونها، فكره المسلمون الطواف لذلك، وذكر أن الآية نزلت في عمرته بعد الحديبية بسنة قبل فتح مكة.
ب. وعن الحسن أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: لا تَطَوُّف بين هذين الحجرين، وكانوا لا يطوفون بينهما، ويقولون: ليسا من الدين، والدين هو الشعائر، وروي نحوه عن قتادة.
ج. وعن مجاهد أن الأنصار قالت: السعي بين هذين من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي نحوه عن أنس قال: كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية فتركناه في الإسلام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
د. وروى عروة عن عائشة أنها نزلت في الأنصار، وأنهم كانوا قبل الإسلام يهلون لمناة، وهي صنم كانت بين مكة والمدينة، وكانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، وقالوا: كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا حرج في أن نطوف بهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما بَيَّنَ تعالى أنه يبتلي عباده بالأوامر والنواهي مرة، والمصائب أخرى على حسب مصالحهم، بَيَّنَ أنَّ من جملة ذلك أمر الحج والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وقيل: لا حذف فيه، والمراد: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ من أعلامه وآياته يعني مواضع نسكه وعبادته.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾:
أ. قيل: من المناسك عن ابن عباس.
ب. وقيل: من دين الله، عن الحسن.
ج. وقيل: من أعلامه التي عرّف عباده بأنه موضع عبادة، عن أبي علي.
د. وقيل: متعبدًا به.
5. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ أي قصده بالأفعال المشروعة: ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ أي أتى بالعمرة، وهي الزيادة بالمناسك المشروعة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أي لا حرج عليه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾:
أ. قيل: حذف ﴿لَا﴾ كقوله: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وكقوله: ﴿تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ عن أبي علي وجماعة.
ب. قال القاضي: وهذا لا يصح؛ لأنه يستغنى عن هذه الزيادة، فلا وجه له، وقال علي بن عيسى: إنما يجوز الحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليه.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾:
أ. قيل: معناه لا إثم عليه في الطواف بينهما، ورفع الإثم يدل على أن ذلك الفعل حسن، وهذه اللفظة تفيد معنى الإباحة، لكن العلماء اتفقوا أن الطواف بينهما عبادة، وإن اختلفوا أنه واجب أو ندب؛ ولذلك طلبوا المعنى لأنه وَجَّهَهَا وذكروا الأسباب في ذلك على ما قدمنا، فوجب حمله على بعض تلك الأسباب ليستقيم وجه الكلام.
ب. قال الحسن: هو جواب لقولهم، إنه لا يحل، وإلا فهو واجب.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾:
أ. قيل: فزاد في الطواف حول البيت بعد الواجب، عن ابن عباس ومقاتل والكلبي.
ب. وقيل: من تطوع بالطواف بالصفا والمروة وعنده أنه سنة وليس بواجب، عن مجاهد وأبي علي.
ج. وقيل: تطوع بمعنى اعتمر فالحج فريضة والعمرة تطوع، عن ابن زيد.
د. وقيل: فمن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب، عن الأصم، وقال: الحج والعمرة قد يُفْعلان فرضًا، ويفعلان تطوعًا.
هـ. وقيل: تطوع خيرًا يعني الدين كله وأنواع الطاعات، عن الحسن.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: يعني يجازي من أحسن بالحسنى والثواب، وهو عليم بقدر ما استحق.
ب. وقيل: شاكر يقبله منه، عليم بما نوى، عن ابن عباس.
ج. وقيل: عليم بقدر الجزاء فلا يبخس حقه.
د. وقيل: عليم بجميع أحوال العباد يجازيهم بأعمالهم.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الحج والعمرة عبادتان، ولا خلاف في ذلك، ثم اختلفوا في العمرة، فقال بعضهم: سنة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وجماعة من الفقهاء؟ وقال بعضهم: فرض، وهو قول الشافعي، ووقت الحج في ذي الحجة، ووقت العمرة جميع السنة، وأفعال الحج: الإحرام والوقوف بعرفة والمزدلفة والرمي والطواف والسعي، وأفعال العمرة: الإحرام والطواف والسعي.
ب. أن الطواف بين الصفا والمروة وهو السعي عبادة، واتفقوا على ذلك، ويدل عليه أنه علق ذلك بفعل الحج والعمرة، ولا يتعلق بهما إلا نسك، ويدل عليه قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾؛ لأنه يستعمل في العبادات، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: إنه فرض لا يتم الحج دونه، وإن تركه لزمه العود، وهو ركن كالوقوف، وهو قول مالك والشافعي، وروي نحوه عن عائشة والحسن، ومنهم من قال: هو تطوع عن عطاء وأنس، وروي نحوه عن ابن عباس، ومنهم من قال: إنه واجب وليس بركن إن تركه فقام بقضائه يحسن، وإن لم يُعِدْ وأراق دمًا تم حجه، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، وليس في الظاهر ما يدل على واحد، فوجب الرجوع إلى دليل آخر.
ج. استدل بعضهم بالآية أن البداية بالصفا واجب، وظاهرها لا يدل عليه لوجهين: أحدهما أن الواو لا يوجب الترتيب، والثاني أنه جمع بينهما فقال: ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.
د. أن مشاهدة المنكر لا تمنع من فعل الواجبات والقرب؛ لأنه تعالى جعل الطواف بينهما قربة وإن كان هناك أصنام منصوبة.
11. قرأ حمزة والكسائي ﴿ ومن يطّوعْ خيرا ﴾ بالياء وتشديد الطاء وجزم العين، وكذلك ما بعده ﴿ فمَن يطّوع خيرًا ﴾، وقرأ يعقوب في الحرف الأول مثل حمزة وفي الثاني مثل قراءة الباقين، وقرأ الباقون: ﴿تَطَوَّعَ﴾ بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء في الحرفين، فالأول بمعنى يتطوع فأدغم الياء في الطاء، والثاني على تطوع على الماضي، وقيل في مصحف عبد الله ﴿ أن لا يطوف بهما ﴾، وروي أنه قرأ به ابن عباس وأنس وابن سيرين، وهذا محمول على أنهم حملوا الآية عليه، وفسروا به، لا أنه قراءة؛ لأنه يخالف الظاهر من القراءة ومصاحف أهل الإسلام، ومثل ذلك فسره شيخنا أبو علي.
12. أصل يطوف يتطوف؛ لأنه من ﴿ اطّوّف يتطوف ﴾، فأدغمت التاء في الطاء؛ لأنها من مخرجها والطاء أقوى بالجهر منها.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/664.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصفا: في الأصل الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واحده صفاة، قال امرؤ القيس:
çلها كفل كصفاة المسيل... أبرز عنها جحاف مضرé
فهو مثل حصاة وحصى، ونواة ونوى، وقيل: إن الصفا واحد، قال المبرد: الصفا كل حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب، وإنما اشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص، وأصله من الواو، لأنك تقول في تثنيته: صفوان، ولا يجوز إمالته.
ب. المروة في الأصل: الحجارة الصلبة اللينة، وقيل: الحصاة الصغيرة، والمرو: لغة في المروة، وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر، قال أبو ذويب:
çحتى كأني للحوادث مروة... بصفا المشرق كل يوم تقرعé
والمرو: نبت، وأصله الصلابة، فالنبت إنما سمي بذلك لصلابة بزره، وقد صارا اسمين لجبلين معروفين بمكة، والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس.
ج. الشعائر: المعالم للأعمال، وشعائر الله: معالمه التي جعلها مواطن للعبادة، وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة، وواحد الشعائر: شعيرة، فشعائر الله: أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر من شعرت به أي: علمت، قال الكميت:
çنقتلهم جيلا فجيلا نراهم... شعائر قربان بهم يتقربé
د. الحج في اللغة: هو القصد على وجه التكرار، وفي الشريعة: عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بالموقفين وغير ذلك، قال الشاعر:
çوأشهد من عوف حلولا كثيرة... يحجون بيت الزبرقان المزعفراé
يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده.
هـ. العمرة: هي الزيارة أخذ من العمارة، لأن الزائر يعمر المكان بزيارته، وهي في الشرع: زيارة البيت بالعمل المشروع.
و. الجناح: الميل عن الحق، يقال: جنح إليه جنوحا: إذا مال، وأجنحته فاجتنح أي أملته وجناحا الطائر: يداه، ويدا الانسان: جناحاه، وجناحا العسكر: جانباه.
ز. الطواف: الدوران حول الشيء، ومنه الطائف، وفي عرف الشرع: الدور حول البيت، والطائفة: الجماعة كالحلقة الدائرة، ويطوف: أصله يتطوف، ومثله يطوع.
ح. الفرق بين الطاعة والتطوع أن الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة والنافلة، والتطوع: التبرع بالنافلة خاصة، وأصلهما من الطوع الذي هو الانقياد.
ط. الشاكر: فاعل الشكر، وإنما يوصف سبحانه بأنه شاكر مجازا وتوسعا، لأنه في الأصل هو المظهر للإنعام عليه، والله يتعالى عن أن يكون عليه نعمة لأحد.
2. لما ذكر سبحانه امتحانه العباد بالتكليف والإلزام مرة، وبالمصائب والآلام أخرى، ذكر سبحانه أن من جملة ذلك أمر الحج، فقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾
أ. قيل: إنهما من أعلام متعبداته.
ب. وقيل: من مواضع نسكه وطاعاته، عن ابن عباس.
ج. وقيل: من دين الله، عن الحسن.
د. وقيل: فيه حذف، وتقديره الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله.
3. روي عن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: نزل آدم على الصفا، ونزلت حواء على المروة، فسمي الصفا باسم آدم المصطفى، وسميت المروة باسم المرأة.
4. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ أي: قصده بالأفعال المشروعة ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ أي: أتى بالعمرة بالمناسك المشروعة، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ اي: لا حرج عليه ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، قال الصادق عليه السلام: كان المسلمون يرون أن الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية، فأنزل الله هذه الآية.
5. إنما قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ وهو واجب أو طاعة على الخلاف فيه:
أ. لأنه كان على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة، وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما، فتحرج المسلمون عن الطواف بهما، لأجل الصنمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الشعبي وكثير من العلماء، فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين، لا إلى عين الطواف، كما لو كان الانسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلا بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج وغيره، فيقال له: لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة، لأن عين الصلاة واجبة، إنما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان.
ب. ورويت رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام، فجاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقيل له: إن فلانا لم يطف، وقد أعيدت الأصنام، فنزلت هذه الآية: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي: والأصنام عليهما، قال: فكان الناس يسعون والأصنام على حالها، فلما حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رمى بها.
6. في قوله تعالى: ﴿من تطوع خيرا﴾ أقوال:
أ. أولها: إن معناه من تبرع بالطواف والسعي بين الصفا والمروة، بعد ما أدى الواجب من ذلك، عن ابن عباس وغيره.
ب. ثانيها: إن معناه من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحج والعمرة المفروضين، عن الأصم.
ج. ثالثها: إن معناه من تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات، عن الحسن.
د. ومن قال: إن السعي ليس بواجب قال معناه: من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة.
7. ﴿فإن الله شكر عليم﴾ أي: مجازيه على ذلك، وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفا بعباده، ومظاهرة في الإحسان والإنعام إليهم، كما قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ والله سبحانه لا يستقرض عن عوز، ولكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي: يعامل عباده معاملة المستقرض من حيث إن العبد ينفق في حال غناه، فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته، وكذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين، من حيث إنه يوجب الثناء له والثواب، سمى نفسه شاكرا.
8. ﴿عَلِيمٌ﴾ أي: بما تفعلونه من الأفعال، فيجازيكم عليها وقيل: عليم بقدر الجزاء، فلا يبخس أحدا حقه.
9. في هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا والمروة عبادة، ولا خلاف في ذلك، وهو عند الإمامية فرض واجب في الحج وفي العمرة، وبه قال الحسن وعائشة، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وقال: إن السنة لوجبت السعي، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كتب عليكم السعي فاسعوا)، فأما ظاهر الآية فإنما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه هو تطوع وهو اختيار الجبائي، وروي ذلك عن أنس وابن عباس وعندنا(2). وعند الشافعي من تركه متعمدا فلا حج له.
10. قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (من يطوع) بالياء وتشديد الطاء والواو، وكذلك ما بعده، ووافقهم زيد ورويس، عن يعقوب في الأول، والباقون: ﴿تَطَوَّعَ﴾ على أنه فعل ماض روي في الشواذ عن علي عليه السلام وابن عباس وأنس وسعيد بن جبير وأبي بن كعب وابن مسعود (ألا يطوف بهما)، ويمكن أن يكون لا على هذه القراءة زائدة، كما في قوله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي: ليعلم، وكقوله (من غير لا عصف ولا اصطراف) أي: من غير عصف، ويطوع: تقديره يتطوع إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما.
11. مسائل نحوية:
أ. قوله تعالى: ﴿من حج﴾ و﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ يحتمل أمرين أحدهما:
• أن يكون: ﴿مِنَ﴾ موصولا بمنزلة الذي، ولا موضع للفعل الذي بعده هو مع صلته في موضع رفع بالابتداء، والفاء على هذا مع ما بعده في قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ﴾: في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الموصول.
• والآخر: أن يكون للجزاء، وكان الفعل الذي بعده في موضع الجزم، وكانت الفاء مع ما بعدها أيضا في موضع جزم، لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء، والفعل الذي هو حج أو تطوع على لفظ الماضي، والتقدير به المستقبل، كما أن ذلك في قولك: إن أكرمتني أكرمتك كذلك.
ب. ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾: إنما يصح أن يقع موقع الجزاء، أو موقع خبر المبتدأ، وإن لم يكن فيه ضمير عائد، لأن تقديره يعامله معاملة الشاكر بحسن المجازاة، وإيجاب المكافأة، وإنما دخلت الفاء في خبر المبتدأ الموصول، لما فيه من معنى الجزاء، وإن لم يكن في موضع الجزم، ألا ترى أن هذه الفاء تؤذن بأن الثاني وجب لوجوب الأول.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/439.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ رجالا من الأنصار ممّن كان يهلّ لمناة في الجاهلية ـ ومناة: صنم كان بين مكّة والمدينة ـ قالوا: يا رسول الله! إنّا كنّا لا نطوّف بين الصّفا والمروة تعظيما لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوّف بهما؟ فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن عائشة.
ب. الثاني: أنّ المسلمين كانوا لا يطّوفون بين الصّفا والمروة، لأنه كان على الصّفا تماثيل وأصنام؛ فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس، وقال الشّعبيّ: كان وثن على الصّفا يدعى: إساف، ووثن على المروة يدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفّوا عن السّعي بينهما، فنزلت هذه الآية.
ج. الثالث: أنّ الصحابة قالت للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّا كنّا نطّوف في الجاهليّة بين الصّفا والمروة، وإنّ الله تعالى ذكر الطّواف بالبيت، ولم يذكره بين الصّفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطّوّف بهما، فنزلت هذه الآية، رواه الزّهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرّحمن عن جماعة من أهل العلم.
2. الصّفا في اللغة: الحجارة الصّلبة الصّلدة التي لا تنبت شيئا، وهو جمع، واحده صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى، والمروة: الحجارة الليّنة، وهذان الموضعان من شعائر الله، أي: من أعلام متعبّداته، وواحد الشّعائر: شعيرة، والشّعائر: كلّ ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح.
3. الشّعائر: من شعرت بالشّيء: إذا علمت به، فسمّيت الأعلام التي هي متعبّدات الله: شعائر.
4. الحجّ في اللغة: القصد، وكذلك كلّ قاصد شيئا فقد اعتمره.
5. الجناح: الإثم، أخذ من جنح: إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطّائر.
6. إنما اجتنب المسلمون الطّواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم: إنّ نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا جناح في التّطوّف بهما، وأنّ من تطوّع بذلك فإنّ الله شاكر عليم، والشّكر من الله، المجازاة والثّناء الجميل.
7. الجمهور قرؤوا ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ بالتاء ونصب العين، منهم: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة، والكسائيّ (يطوع) بالياء وجزم العين، وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات.
8. اختلفت الرّواية عن إمامنا أحمد في السّعي بين الصّفا والمروة، فنقل الأثرم أنّ من ترك السّعي لم يجزه حجه، ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمدا أو سهوا، ولا ينبغي أن يتركه، ونقل الميمونيّ أنه تطوّع.
__________
(1) زاد المسير: 1/126.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تعلق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ بما قبله من وجوه:
أ. أحدها: أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 150] وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعي هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية.
ب. ثانيها: أنه تعالى لما قال ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155] إلى قوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ قال ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات.
ج. ثالثها: أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة:
• أحدها: ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولًا وهو قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152] فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول.
• ثانيها: ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه، وهي الابتلاء والامتحان على ما قال ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155] فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً.
• ثالثها: الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء.
2. الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما:
أ. قال القفال: قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي، ورحا وأرحاء قال الزاجر:
çكأن متنيه من النفي...مواقع الطير من الصفيé
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير:
çإنا إذا قرع العدو صفاتنا...لاقوا لنا حجراً أصم صلوداé
وفي كتاب الخليل: الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس، وإذا نعتوا الصخرة قالوا: صفاة صفواء، وإذا ذكروا قالوا: صفا صفوان: فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد.
ب. وقال المبرد: الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل: من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة، وقال غيره: هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب:
çحتى كأني للحوادث مروة...بصفا المشاعر كل يوم يقرعé
3. ﴿شَعَائِرِ الله﴾ هي أعلام طاعته، وكل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله، قال الله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ [الحج: 36] أي علامة للقربة، وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ [الحج: 32]
4. شعائر الحج: معالم نسكه ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام: وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله، ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك: شعرت بكذا، أي علمت.
5. الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك:
أ. فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى.
ب. وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك.
6. السعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنّه قال ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128]
7. السعي ليس عبادة تامة في نفسه، بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج، فلهذا السر بيّن الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
8. الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب ممن دعاه فإنه غياث المستغيثين، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
9. اختلف في معنى لفظ الحج على أقوال(2).:
أ. الأول: الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولًا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الزيارة، ثم يعود إليه لطواف الصدر.. ، قال القفال: وهذا القول أشبه بالصواب لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى، وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه.
ب. الثاني: قال قطرب: الحج الحلق يقال: احجج شجتك، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة، فيكون المعنى: حج فلان أي خلق، قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: 27] أي حجاجاً وعماراً، فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق.
ج. الثالث: قال قوم الحج القصد، يقال: رجل محجوج، ومكان محجوج إذا كان مقصوداً، ومن ذلك محجة الطريق، فكان البيت لما كان مقصوداً بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجاً.
10. اختلف في معنى لفظ العمرة على أقوال:
أ. قيل: العمرة في اللغة: الاعتمار هو القصد والزيارة، قال الأعشى:
çوجاشت النفس لما جاء جمعهم...وراكب جاء من تثليث معتمرé
قال القفال: ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة، لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم ينصرف كالزائر.
ب. وقال قطرب: العمرة في كلام عبد القيس: المسجد، والبيعة، والكنيسة.
11. الجناح: هو من قولهم: جنح إلى كذا أي مال إليه، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61] وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع: جوانح لاعوجاجها، وجناح الطائر من هذا، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل:
أ. ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى: لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن: لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء.
ب. ومنهم من قال بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به.
12. ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1] أي المتدثر والمتزمل، ويقال: طاف وأطاف بمعنى واحد.
13. ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أنه لا إثم عليه، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر.
14. اختلف في حكم السعي بين ﴿الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾:
أ. مذهب الشافعي أن هذا السعي ركن، ولا يقوم الدم مقامه.
ب. عند أبي حنيفة أنه ليس بركن، ويقوم الدم مقامه.
ج. وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه.
15. حجة من ذهب إلى أن هذا السعي ركن، ولا يقوم الدم مقامه من وجوه:
أ. أحدها: ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وهذا الحديث وإن قيل بأنه متروك الظاهر، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو، إلا أننا لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: 9] والعدو فيه غير واجب، وقال الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] وليس المراد منه العدو، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية، سلمنا أنه يدل على العدو، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة، فيبقى أصل المشي واجباً.
ب. ثانيها: ما ثبت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم سعى لما دنا من الصفا في حجته، وقال: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤوا بما بدأ الله به) فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأي البيت، وإذا ثبت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر، أما القرآن: فقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران: 31]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، وأما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عني مناسككم)، والأمر للوجوب.
ج. ثالثها: أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة.
16. حجة من ذهب إلى أن هذا السعي ليس بركن، ويقوم الدم مقامه من وجهين:
أ. أحدهما: هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، وهذا لا يقال في الواجبات، ثم أنه تعالى أكد ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فبين أنه تطوع وليس بواجب.
ب. ثانيهما: قوله: (الحج عرفة)، ومن أدرك عرفة فقد تم حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، ترك العمل به في بعض الأشياء، فيبقى معمولًا به في السعي.
17. التمسك بقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ على عدم الوجوب غير صحيح ، من وجوه:
أ. الأول: ما بينا أن قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: 101] والقصر عند أبي حنيفة واجب، مع أنّه قال فيه: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ فكذا هاهنا.
ب. الثاني: أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب، وإنما الثاني هو الواجب.
ج. الثالث: قال ابن عباس: كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثواب نجاسة يسيرة عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جناح عليك أن تصلي فيه، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة.
د. الرابع: روي عن عروة أنّه قال لعائشة: إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما، فقالت: بئس ما قلت لو كان كذلك لقال: أن لا يطوف بهما، ثم حكى ما تقدم من الصنمين، وتفسير عائشة راجع على تفسير التابعين، فإن قالوا: قرأ ابن مسعود: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، وكقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 172] معناه: أن لا تقولوا، قلنا: القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً.
هـ. الخامس: كما أن قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب، ولا شك في أن السعي مندوب، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.
18. التمسك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ على عدم الوجوب ضعيف، لأن هذا لا يقتضى أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولًا، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، ثم قال ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: 184]، فأوجب عليهم الطعام، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى: فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً، فكذا هاهنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر، وهو من وجهين:
أ. أحدهما: أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.
ب. الثاني: أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً.
19. الحديث الذي تمسكوا به على عدم الوجوب عام، وحديثنا خاص، والخاص مقدم على العام.
20. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ قراءة حمزة وعاصم والكسائي (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع، إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما، وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال، وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن، وأما الباقون من القراء فقرؤوا ﴿تَطَوَّعَ﴾ على وزن تفعل ماضياً وهذه القراءة تحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون موضع ﴿تَطَوَّعَ﴾ جزماً.
ب. الثاني: أن لا يجعل (من) للجزاء، ولكن يكون بمنزلة (الذي) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر، إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة، أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ [النحل: 53] فما مبتدأ موصول، والفاء مع ما بعدها خبر له، ونظيره قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 38] إلى قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [البقرة: 274] وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [البروج: 10] إلى قوله: ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ وقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ وقوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [البقرة: 274].
21. ﴿تَطَوَّعَ﴾ تفعل من الطاعة وسواء قول القائل: طاع وتطوع، كما يقال: حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيراً، والطوع هو الانقياد، والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك(3)..
22. الذين قالوا: السعي واجب، فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن: المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ.
23. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه، وذلك في حق الله تعالى محال، فالشاكر في حقه تعالى مجاز، ومعناه المجازي على الطاعة: وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه:
أ. الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم، كما قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245] وهو تعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم.
ب. الثاني: أن الشكر لما كان مقابلًا للإنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه.
ج. الثالث: كأنه يقول: أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
24. قوله تعالى: ﴿عَلِيمٌ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى: ﴿عَلِيمٌ﴾ تعلق بشاكر.
ب. ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/135.
(2) الكلام هنا للقفال.
(3) الكلام هنا لأبي مسلم.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، ولم يعقب عليها، فلذلك لم نذكرها.
2. هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
3. أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف، وذكر الصفا لان آدم المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى (إسافا) وعلى المروة صنم يدعى (نائلة) فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لان الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى، وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك، وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله.
4. الصفا (مقصور): جمع صفاة، وهى الحجارة الملس، وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفى (بضم الصاد) وأصفاء على مثل أرحاء، قال الراجز:
çكأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصفيé
وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين.
5. المروة (واحدة المرو) وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقد قيل إنها الصلاب، والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر:
çوتولى الأرض خفا ذابلا ... فإذا ما صادف المرو رضخé
وقال أبو ذؤيب:
çحتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر كل يوم تقرعé
وقد قيل: إنها الحجارة السود، وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار.
6. ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ أي من معالمه ومواضع عباداته، وهى جمع شعيرة، والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعي والنحر، والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت:
çنقتلهم جيلا فجيلا تراهم...شعائر قربان بهم يتقربé
7. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ أي قصد، واصل الحج القصد، قال الشاعر:
çفأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفراé
وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر: (يحج مأمومة في قعرها لجف)، واللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة.
﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ أي زار، والعمرة: الزيارة، قال الشاعر:
çلقد سما ابن معمر حين اعتمر ... مغزى بعيدا من بعيد وضبرé
8. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ أي لا إثم، وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها، وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية، قال ابن العربي وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل، وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ قال هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين، فقالت له عائشة: ليس قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا، فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وهى قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبى كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا، والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع، والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون لا زائدة للتوكيد، كما قال:
ç وما ألوم البيض ألا تسخرا...لما رأين الشمط القفندراé
9. روى الترمذي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: (نبدأ بما بدأ الله به) فبدأ بالصفا وقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، قال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا.
10. اختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة:
أ. قال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، خرجه الدارقطني، وكتب بمعنى أوجب، لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد)، وخرج ابن ماجة عن أم ولد لشيبة قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: (لا يقطع الأبطح إلا شدا)، فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لان السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف، وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه، وقال الشافعي: عليه هدى، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعي.
ب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج، وهو قول مالك في العتبية.
ج. وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره، وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة.
11. الصحيح ما ذهب إليه الشافعي لما ذكرنا، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عني مناسككم) فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع، وقال طليب: رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل، وهذا ثابت في صحيح البخاري.
12. لا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى، إنما قلنا ذلك لان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم طاف بنفسه وقال: (خذوا عني مناسككم)، وإنما جوزنا ذلك من العذر، لان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة :وقد قالت له: إني أشتكى، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)، وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا، وإنما الطائف الحامل، وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف، قال ابن خويز منداد: وهذه تفرقة اختيار، وأما الاجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/178.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أصل ﴿الصَّفَا﴾ في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك ﴿الْمَرْوَةَ﴾ علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقيل: التي فيها صلابة، وقيل: تعم الجميع، قال أبو ذؤيب:
çحتّى كأنّي للحوادث مروة...بصفا المشقّر كلّ يوم تقرعé
وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة، وقيل: إنها الحجارة السود.
2. الشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، أي: من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاما للناس من الموقف والسعي والمنحر، ومنه: إشعار الهدي، أي: إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت:
çنقتّلهم جيلا فجيلا تراهم...شعائر قربان بهم يتقرّبé
3. حجّ البيت في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر:
çفأشهد من عوف حلولا كثيرة...يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفراé
والسب: العمامة، وفي الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه.
4. العمرة في اللغة: الزيارة، وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة.
5. الجناح: أصله من الجنوح، وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها.
6. ﴿يَطُوفُ﴾: أصله يتطوف؛ فأدغم، وقرئ: ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ﴾
7. رفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم، وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين، ومما يقوّي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة.
8. ذكر بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، ولم يعقب عليها، فلذلك لم نذكرها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/186.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾: علمان لجبلين بمكة، ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبّداته، قال الرازيّ: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله، قال الله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ [الحج: 36]، أي: علامة للقربة، وقال ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ [الحج: 32]، وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام ـ وهو أن يعلم بالمدية ـ فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله، و(الشعائر) جمع شعيرة وهي العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي علمت.
2. (الحجّ) في اللغة: القصد، و(الاعتمار): الزيارة، غلبا في الشريعة على قصد البيت وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك، و(الجناح) بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة، وأصل (الطواف): المشي حول الشيء، والمراد: السعي بينهما.
3. ذكر بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعقب عليها بقوله: وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكلّ، وجواب عائشة، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ، لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه.
4. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، أي: من فعل خيرا فإنّ الله يشكره عليه ويثيبه به، ومعنى (تطوّع) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهيّ لا لغويّ.
5. (الشكر) من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل، قال الراغب: الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13]؛ قال وليس شكر الرفيع للوضيع إلّا الإفضال عليه وقبول حمد منه.
6. تمسّك بعضهم بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ على أنّ السعي سنّة، وأن من تركه لا شيء عليه، فإن كان مأخذه منها: إنّ التطوع التبرّع بما لا يلزم فقد قدّمنا أنه عرف فقهيّ لا لغويّ، فلا حجّة فيه، وإن كان نفي الجناح، فقد علمت المراد منه، وممن ذهب إلى أنه سنّة، لا يجبر بتركه شيء، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء، نقله ابن حجر في (الفتح)، وقال الرازيّ: روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أنّ من تركه فلا شيء عليه، وأما حديث: اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي رواه أحمد وغيره، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف، ومن ثمّ قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجّة في الوجوب، ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح)
7. ذكر بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، ولم يعقب عليها، فلذلك لم نذكرها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/450.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ عَلَمَانِ بالغلبة على جبلين بمكَّة، فإنَّ الصفا جمع صفاة في الأصل وهي الصَّخرة الصَّلبة الملساء، أو الحجر الذي لا يخالطه طين، أو تراب متحجِّرًا، وضعِّف، مأخوذ من الصَّفوة وهي الخلوص، والمروة في الأصل: الحجر الليِّن أو الأبيض البرَّاق، أو الأسود البرَّاق، أو المحدَّدة الأطراف، أو الصَّلبة.
2. قيل: سمِّي الصَّفا لوقوف صفيِّ الله آدم عليه السلام عليه، وذُكِّر لذلك، وسمِّيت المروة لوقوف المرأة عليه وهي حوَّاء، وأنِّث لذلك، ولا يقال فيه: إنَّ مادَّة (المروة) غير مادَّة (المرأة)؛ لأنَّ المراد بتأنيثه أنَّه قُرن بالتَّاء، كما أنَّ المراد بتذكير الصَّفا أنَّه لم يقرن بها.
3. ﴿مِن شَعَآئِرِ اللهِ﴾ أي: علاماته، أي: علامات دينه، أو المواضع التي يقام فيها دينه، وهي مواضع الحجِّ، كالمطاف وعرفة والمزدلفة ومنًى، أو من علاماته التي تَعَبَّد خلقه بها، فهُمَا يُسْعَى بينهما، ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ قصده ليقف بعرفة، ويبيت بالمزدلفة، ويرمي ويحلق ويطوف ويسعى.
4. ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ زار البيت ليطوف ويسعى، وأصل الحجِّ القصد مطلقًا أو إلى معظَّمٍ، والعمرة: الزِّيارة أخذًا من العمارة، والزَّائر يعمر المكان بزيارته.
5. ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ لا إثْم وأصلُه: الميل مطلقًا، سمِّي به الذنب لأنَّه ميل عن الحقِّ، ﴿عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ﴾ في أنْ يتطوَّف، ﴿بِهِمَا﴾ بينهُما، كما زعم المسلمون قبل نزول الآية أنَّه لا يجوز السَّعي بينهما لأنَّه كان فوق كلٍّ منهما صنم، يمسُّهما المشركون بأيديهم ويمسحون بهما وجوههم ويعظِّمونهما، فكرهوا أن يشبه سعيُهم ـ ولو كانوا لا يمسحونهما ولا يعظِّمونهما ـ سعيَ المشركين المعظِّمين لهما الماسحين، أحدهما (إِساف) بكسر الهمزة، والآخر (نائلة)، صنمين من أوَّل، ورجِّح هذا، وقيل: كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخهما الله، وجعلهما الناس على الجبلين ليعتبر بهما، فطالت المدَّة فعُبدا من دون الله، ونُسب هذا القول لأهل الكتاب، وقيل: واضعهما على الجبلين عمرو بن لُحَي، وهو أوَّل من سنَّ عبادة الأصنامِ من عربِ مكَّة، والباء للإلصاق المجازي.
6. والطواف بهما واجب لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ اللهَ كتبَ عليكمُ السَّعيَ فاسْعَوْا)، وَأَمَّا قول عائشة : (لعمري ما أتمَّ الله تعالى حجَّ من لم يسع) فمعناه حجٌّ ناقصٌ لا باطل، فالطَّواف بهما واجب لا يَبطل الحجُّ أو العمرة بتركه، كما روي أنَّ عروة بن مضرس أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمزدلفة فقال: يا رسول الله، جئت من جبل طيِّئ ما تركت جبلا إلَّا وقفت عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال: (مَن صلَّى معنا هذه الصَّلاة ووقفَ معنا هذا الموقفَ، وقد أدركَ عرفةَ قبل ذلك ليلاً أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه وقَضى تَفَثَه) فأخبره صلّى الله عليه وآله وسلّم بإدراك الحجِّ بلا ذكر للسَّعي بينهما، ولو كان واجبًا يبطل الحجُّ بتركه لبيَّنه له؛ لأنَّه سائل جاهل، ولا حجَّة فيه لمن قال بأنَّه غير واجب لأحاديث الوجوب، وهذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وإن لم يسع لزمته شاة، وقيل: بدنة، وقال مالك والشافعي: يبطل الحجُّ بتركه، للحديث، وقال أحمد: سنَّة غير واجبة، ويردُّهُ الحديث؛ وأُجيب بأنَّه يجوز كون (كَتَب) بمعنى استحبَّ، كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا اِلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180]، قلت: الوصيَّة للوالدين كانت واجبة ثمَّ نسخت بالميراث، وكذا القرابة الوارثون، فلا يصحُّ تأويل (كُتِبَ) بـ (استُحِبَّ)، ولا حجَّة أيضًا له في قراءة ابن مسعود: (أنْ لا يطوَّف) لأنَّها شاذَّة مخالفةٌ للجمهور لفظًا وعملاً، بل لم نر مَن عمِل بها فيقرب تأويلها بزيادة (لا)، ولنا الحديث دليل للوجوب، ولا دليل للشافعيِّ ومالك على أنَّه ركن يبطل الحجُّ بتركه، ولا يقال: تمَّ الكلامُ في ﴿جُنَاحَ﴾، واستأنف أن عليه التطوُّف؛ لأنَّه لا يتوهَّم أحد أنَّ في الحجِّ والعمرةِ جُناحًا، إلَّا أن يقال: إنَّهم توهَّموا الجناح في الحجِّ والعمرة؛ لأنَّ فيهما الطَّواف بين محلَّيْ الصَّنمين.
7. ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ عالج الطَّاعة بفعل فرض أو سنَّة أو نفل من حجٍّ أو عمرة أو طواف أو صلاة أو صوم أو غير ذلك، وذلك أصل التطوُّعِ في اللُّغة، وَأَمَّا تخصيصه بالنَّفل فهو في عرف الاِصطلاح، قيل: والشرع، وكأنَّه قيل: ومن فعل خيرًا أو زاد خيرًا أو تطوَّع بخير، وليس المراد: مَن تَطَوَّعَ بالطواف بينهما كما قيل، لأحاديث وجوبه.
8. ﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ﴾ أي: يثيبه ثوابًا عظيمًا، أو مُثْنٍ عليه عند الملائكة؛ لأنَّ الله شاكر، أو هذه علَّة وبرهان عظيمٌ، أو من تطوَّع خيرًا فإنَّ الله شاكره، أي: مثيبه، أو مُثنٍ عليه في ملأٍ خير من ملئِه، وفي التعبير بشكره تعالى له من الإثابة أو الإثناء مبالغةٌ، ﴿عَلِيمٌ﴾ بتطوُّعه وبكلِّ شيء، أو بكلِّ شيءٍ، فيكون برهانًا للعلم بتطوُّعِهِ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/269.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. علم مما تقدم ان مسألة تحويل القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان التحويل شبهة من شبهاتهم، وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام، توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه ـ كما يوجهون اليه وجوههم ـ لأجل تطهيره من الشرك والآثام، كما عهد الله إلى أبويهم ابراهيم واسماعيل عليهما السّلام، والا كانوا راضين باستقبال الاصنام، وأن في طي ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ بشارة بهذا الاستيلاء، مفيدة للأمل والرجا، وقد علم الله المؤمنين بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول اليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة وأشعرهم بملا يلاقون في سبيل الحق من المصائب والشدائد، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك البشارة ويقوي ذلك الامل، فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة، فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك ابراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية، وهو قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
2. هذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم، بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط، من حيث هي تاكيد للبشارة، ومن حيث ان الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها ابراهيم الذي أحيا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته، كأنه قال: لا تلوينكم قوة المشركين في مكة، وكثرة الاصنام على الكعبة، والصفا والمروة، عن القصد إلى تطهير البيت الحرام، وإحياء تلك الشعائر العظام، كما لا يلوينكم عن استقبال البيت تقوّل أهل الكتاب والمشركين، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين، بل ثقوا بوعد الله، واستعينوا بالصبر والصلاة
3. الصفا والمروة جبلان أو علما جبلين بمكة والمسافة بينهما 760 ذراعا ونصف، والصفا تجاه البيت الحرام، وقد علتهما المباني وصار ما بينهما سوقا.
4. والشعيرة والشعار والشعارة تطلق على المكان أو الشيء الذي يشعر بأمر له شأن، وأطلق على معالم الحج ومواضع النسك وتسمى مشاعر (جمع مشعر) وعلى العمل الاجتماعي المخصوص الذي هو عبادة ونسك، ففي آية أخرى ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله﴾ وهي مناسك الحج ومعالمه، ومنه إشعار الهدي وهو جرح ما يهدى الى الحرم من الابل في صفحة سنامه ليعلم انه نسك، ويشعر البقر ايضا دون الغنم، ومن شواهده في اللغة شعار لحرب وهو ما يتعارف به الجيش.
5. كون المواضع كالصفا والمروة من علامات دين الله أو أعلام دينه ظاهر، وأما كون المناسك والاعمال شعائر وعلامات فوجهه أن القيام بها علامة على الخضوع لله تعالى وعبادته إيمانا وتسليما، فالشعائر إذن لا تطلق إلا على الاعمال المشروعة التي فيها تعبد لله تعالى، ولذلك غلب استعمال الشعائر في أعمال الحج لأنها تعبدية، قال في الصحاح: الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله عز وجل، وقال الزجاج في قوله تعالى ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله﴾ أي جميع متعبداته التي أشعرها الله أي جعلها إعلاما لنا: الخ فهو يريد أن الشعائر من أشعره بالشيء أعلمه به وقد صرح بذلك ولكنه لا يدل بهذا على معنى التعبد إذ قد أعلمنا الله تعالى بالاحكام التي لا تعبد فيها أيضا والشعائر لم تطلق في القرآن إلا على مناسك الحج الاجتماعية، وألحق بها بعضهم ما في معناها من عبادات الاسلام الاجتماعية كالآذان وصلاة الجمعة والعيدين.
6. في الاحكام التي شرعها الله تعالى(2).:
أ. نوع يسمى بالشعائر، وهو ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، وكالتوجه فيها إلى مكان مخصوص سماه الله بيته مع أنه من خلقه كسائر العالم، فهذا شيء شرعه الله وتعبدنا به لعلمه بان فيه مصلحة لنا ولكننا نحن لا نفهم سر ذلك تمام الفهم من كل وجه.. وهذا النوع يوقف فيه عند نص ما شرعه الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يقاس عليه، ولا يؤخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح للناس الزيادة في شعائر الدين باجتهادهم في عموم لفظ أو قياس لأمكن أن تصير شعائر الاسلام أضعاف ما كانت عليه في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لا يفرق أكثر الناس بين الاصل المشترع، والدخيل المبتدع، فيكون المسلمون كالنصارى، فكل من ابتدع شعيرة أو عبادة في الاسلام فهو ممن يصدق عليهم قوله تعالى ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ وإنما الاجتهاد في مثل تحري القبلة من العمل التعبدي وفي القضاء، ومن العبث أن يعمل الانسان ما لا يعرف له فائدة لقول من هو مثله وهو مستعد لأن يفهم كل ما يفهمه؟
ب. ومنها ما لا يسمى بذلك كأحكام المعاملات كافة لأنها شرعت لمصالح البشر فلها علل وأسباب يسهل على كل إنسان أن يفهمها، فهذا احد أقسام الشرائع.
7. ليس من العبث امتثال أمر الله تعالى لأنا نعتقد أنه برحمته وحكمته لا يشرع لنا إلا ما فيه خيرنا ومصلحتنا، وأنه بعلمه المحيط بكل شيء يعلم من ذلك ما لا نعلم، والتجربة تؤيد هذا الاعتقاد فان الطائعين القائمين بحقوق الدين تصلح أحوالهم في الدنيا، ويرجى لهم في الآخرة ما يرجى، وإن لم يفهموا فهما كاملا فائدة كل جزئية من جزئيات العمل، فمثلهم كما قال الغزالي مثل من وثق بالطبيب وجرب دواءه فوجده نافعا ولكنه لا يعرف أية فائدة لكل جزء من أجزائه ونسبته إلى الاجزاء الأخرى، وحسبه أن يعلم أن هذا الدواء المركب نافع يشفي باذن الله من المرض.
8. السعي بين الصفا والمروة من هذا النوع التعبدي، فهو مطلوب بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ حج البيت قصده للنسك والاتيان بالمناسك المعروفة هنالك.
9. الاعتمار: مناسك العمرة وهي دون مناسك الحج فليس في العمرة وقوف بعرفة ولا مبيت بمزدلفة ولا رمي جمار في منى.
10. الجناح بالضم الميل الى الاثم كجنوح السفينة الى وحل ترتطم فيه، والاثم نفسه، وأصله من جناح الطائر، ويطوف بتشديد الواو من التطوف وهو تكرار الطواف أو تكلفه، والمعنى فليس عليه شيء من جنس الجناح ـ وهو الميل والانحراف عن جادة النسك ـ في التطوف بهما.
11. هذا التطوف هو الذي عرف في الاصطلاح بالسعي بين الصفا والمروة وفسرته السنة بالعمل، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر، وإذ كان مشروعا فسواء كان ركنا كما يقول مالك والشافعي وغيرهما أو واجبا كما يقول الحنفية، أو مندوبا كما روي عن أحمد.
12. قالوا في حكمة التعبير عنه بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح: انه للإشارة الى تخطئة المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وان السعي بينها من مناسك ابراهيم، فهو لا ينافي الطلب جزما، وكذلك قوله تعالى ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ في هذا التطوف وغيره أو كرر الحج أو العمرة فزاد على الفريضة أي تحمله طوعا ـ كما قال الراغب ـ فان التطوع في اللغة الاتيان بما في الطوع أو بالطاعة أو تكلفها أو الاكثار منها، وأطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره ولا إكراه فيه، وعلى الاكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الاعرابي: (الا أن تطوّع) أي تزيد على الفريضة.
13. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي فان الله يثيبه لأنه شاكر يجزي على الاحسان، عليم بمن يستحق الجزاء من ذكرى نشأة الدين الاولى بمكة في عهد ابراهيم واسماعيل كغيره من شعائر الله، وخلاصته انه لما كان بين ابراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم وامرأته (سارة) ما كان من حملها إياه على طرد سريته هاجر مع طفلها اسماعيل وهو مذكور في الفصل 21 من سفر التكوين خرج بهما إلى برية فاران (أي مكة) فوضعهما في مكان زمزم تحت دوحة ولم يكن هنالك سكان ولا ماء ووضع عندها جرابا فيه تمر ـ وفي سفر التكوين انه زودها بخبز ـ وسقاء فيه ماء ثم رجع فقالت له: إلى من تتركنا؟ قال (الى الله) قالت رضيت بالله، وهنالك دعا ابراهيم بما حكاه الله عنه في سورته ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ إلى قوله ﴿يَشْكُرُونَ﴾، فلما نفد الماء عطشت وجف لبنها وعطش ولدها فجعل يتلوى وينشغ (يشهق) للموت فكانت تذهب فتصعد الصفا تنظر هل ترى أحدا فلم تحس أحدا، ثم تذهب فتصعد المروة فلم تر أحدا، ثم ترجع إلى ولدها فتراه ينشغ ـ فعلت ذلك سبعة اشواط، وبعد الاخيرة وجدت عنده صوتا فقالت أغث إن كان عندك غواث، فاذا هي بالملك جبريل عند زمزم فعمز بعقبه الارض فانبثق الماء فجعلت تشرب ويدر لبنها على صبيها، ومر ناس من جرهم بالوادي فاذا هم بطير عائفة اي تحوم على الماء فاهتدوا اليه وأقاموا عنده ونشأ اسماعيل معهم، قال ابن عباس لما ذكر سعيها بين الصفا والمروة: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فذلك سعي الناس بينهما)
14. وصف الباري تعالى بالشاكر لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز(2).، فالشكر في اللغة مقابلة النعمة والاحسان، بالثناء والعرفان، وشكر الناس لله في اصطلاح الشرع عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لاجله، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى، فالمعنى إذا أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا.
15. وعد الله تعالى الشاكرين لنعمه بالمزيد منها، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة، والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الادب فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا دبا من اكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا فيكون إنعاما عليه ويدا عنده، وإنما منفعته لهم فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم اليه، وأقدرهم عليه، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الاعلى، أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى، وهو لا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لاجله؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي اليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة؟ كيف وقد سمى الله تعالى جده وجل ثناؤه إنعامه على من يحسنون الى أنفسهم وإلى الناس شكرا، والله الخالق وهم المخلوقون، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون؟
16. شكر النعمة والمكافأة على المعروف من أركان العمران وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة، إذ هي مدعاة ترك المعروف كما أن الشكر مدعاة المزيد، ولذلك أوجب الله تعالى علينا شكره، وجعل في ذلك مصلحتنا ومنفعتنا، لان كفران نعمه باهمالها أو بعدم استعمالها فيما خلقت لاجله أو بعدم ملاحظة أنها من فضله وكرمه تعالى ـ كل ذلك من أسباب الشقاء والبلاء، وأما تركنا شكر الناس وتقدير أعمالهم قدرها سواء كان عملهم النافع موجها الينا أو الى غيرنا من الخلق، فهو جناية منا على الناس وعلى أنفسنا، لان صانع المعروف إذا لم يلق إلا الكفران فان الناس يتركون عمل المعروف في الغالب، فنحرم منه ونقع مع الاكثرين في ضده فنكون من الخاسرين.
17. إنما قلنا (في الغالب) لان في الناس من يصنع المعروف ويسعى في الخير رغبة في الخير والمعروف وطلبا للكمال، ولكن أصحاب هذه النفوس الكبيرة والاخلاق العالية التي لا ينظر ذووها إلى مقابلة الناس لأعمالهم بالشكر، ولا يصدهم عن الصنيعة جهل الناس بقيمة صنيعتهم، قلما تلد القرون واحدا منهم.
18. ثم ان كفران النعم لا بد أن يؤثر في نفس من عساه يوجد منهم فان لم يكن أثره ترك السعي والعمل، كان الفتور والونى فيه، وإذا لم يدع المعروف فاعله لكفران الناس لسعيه تركه لليأس من فائدته، أو للحذر من سوء مغبته، إذ الحاسدون من الاشرار، يسعون دائما في ايذاء الاخيار، كذلك الشكر يؤثر في إنهاض همة أعلياء الهمة من المخلصين في أعمالهم الذين لا يريدون عليها جزاء ولا شكورا ذلك انهم يرون عملهم الخير نافعا فيزيدون منه كما انهم إذا رأوه ضائعا يكفون عنه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/43.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. علمت مما سلف أن في تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام، وأن في قوله: ولأتمّ نعمتي عليكم بشارة بهذا الاستيلاء، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصائب والكوارث، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنه شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرّب بها إلى الله، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ملته، وجعلت الصلاة إلى قبلته.
2. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعي بينهما هي أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما.
3. الأحكام الشرعية قسمان:
أ. نوع يسمى بالشعائر وهى ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾.
ب. ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.
4. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفنّ من الطواف بهما، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمرى.
5. السرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعي بينهما إما فرض كما هو رأى مالك والشافعي أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعي بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.
6. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجبـ فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.
7. في التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر ـ تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه، أفبعد هذا ينبغي للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟
8. شكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع، كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/26.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها.. ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة، وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة.
2. ومن ثم نجد بيانا في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية، وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت، لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب، فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم، ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة، وتنديد بمن يتخذون من دون الله أندادا، وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين، يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب، وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة.. تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء، تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون، ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا، وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار.
3. وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليبا للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.. وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة، وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة.. المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين، والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين..
4. هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار.. الرواية التي تقول: إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة، فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية.
5. لم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية، والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة، ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفرادا من الحج ومن العمرة، وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة.. وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية، إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجس أن يكون منهيا عنه في الإسلام، الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة.. كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزا وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلابا نفسيا وشعوريا كاملا، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية؛ ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالا كاملا، فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه؛ وعاد دنسا ورجسا يتحرزون من الإلمام به! وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس.
6. يُحس التغير الكامل في تصور هم للحياة، حتى لكأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد؛ كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان! وهذا هو الإسلام.. هذا هو: انسلاخا كاملا عن كل ما في الجاهلية، وتحرجا بالغا من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذرا دائما من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية، حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه.. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى، مما لا يرى فيه بأسا، ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي، فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية؛ ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام.
7. هنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق، إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾.. فإذا أطوف بهما مطوف، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله، ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث؛ وتعلق الأمر بالله ـ سبحانه ـ لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية! ومن ثم فلا حرج ولا تأثم، فالأمر غير الأمر، والاتجاه غير الاتجاه.
8. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.. وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها، وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة.. فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج، وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما.
9. ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقا: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.. فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيرا، ويجازي عليها بالخير، وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور.
10. لا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ﴾.. إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه، ولكن كلمة ﴿شَاكِرٌ﴾ تلقي ظلالا ندية وراء هذا المعنى المجرد، تلقي ظلال الرضى الكامل، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد، ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب، فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد؟ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/148.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصفا والمروة جبلان صغيران قرب مكة، وهما منسكان من مناسك الحج، والسعي فيهما واجب في الحج والعمرة عند بعض المذاهب، ونافلة عند البعض الآخر.
2. فى قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ما يشعر بأن الأصل في الطواف بهما هو الحظر، وأن رفع الحظر والجناح وارد استثناء على هذا الحظر، وهذا يعنى أن هذا الطواف تركه أبرّ من فعله.. ولكن كيف يكونان ـ الصفا والمروة ـ من شعائر الله، ثم يكون الطواف بهما أو السعي بينهما داخلا في باب الحرج؟ هذا ما دعا أكثر المفسرين إلى البحث عن وجه يوفّقون به بين هذين الأمرين! وقد كثرت في هذا المقولات واختلفت المرويات، كما هو الشأن دائما في مثل هذا الموقف!
3. مما قيل هنا: إنه كان هناك صنمان في الجاهلية، أحدهما اسمه أساف، على الصّفا، والآخر اسمه نائلة، على المروة، وأن العرب في الجاهلية كانوا يترددون عليهما، ويطوفون بهما، فلما جاء الإسلام، ودخل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة معتمرا وأراد أن يسعى بين الصفا والمروة، وقع في بعض نفوس المسلمين شيء من الكراهية، فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي حيث أن الصفا والمروة من شعائر الله ومناسك عبادته، ولأن السعي بينهما منسك من مناسك الحج، يجب أو أن يندب أداؤه عند الحج أو العمرة، فليسع الحاجّ أو المعتمر بينهما، ولا عليه من بأس أو جناح من وجود هذين الوثنين! فرفع الحرج هو عن السعي مع وجود الصنمين، لا عن ذات السعي.. لكن هذا التعليل إن ساغ في تلك الحال العارضة يوم نزول الآية ـ كما يقال ـ فإنه بعد ذلك يجعل الآية معلقة بوقت نزولها، منقطعة عن الحياة بعد هذا الوقت، فإن نظر إليها ناظر اليوم على أنها حكم من أحكام الحج، وجد فيها هذا الحرج قائما، يجده في قلبه من يطوف أو يسعى بين الصفا والمروة!.. إن كلمات الله فوق هذا النظر المتهافت الكليل، وإن آيات الله لا يقطعها الحادث العارض لنزولها، عن أن تظل عاملة في الحياة، ومصدر هدى ونور للناس إلى يوم الدين، بنظرة أكثر عمقا وأبعد مدى، نرى في تلك الآية ـ بما أرانا الله ـ ما يطمئن إليه القلب، وتستريح له النفس، وينشرح به الصدر.. والحمد لله رب العالمين.
4. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ حكم قاطع بأن هذين المكانين من أماكن الله، التي اختصها بأن يتعبّد له فيها العابدون، ويتقرب إليه عندها المتقربون! وقد جعل الله السعي بينهما منسكا من مناسك الحج، وفعلا من الأفعال التي تتم بها هذه الفريضة! وليس يعقل بحال أن يلمّ بمن يؤدى هذا المنسك ـ حاجّا أو معتمرا ـ غير نفحات الرحمة والرضوان.
5. إذن فينبغي أن يكون معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ كاشفا عن هذه الحقيقة، وعن نفحات الرضا والرحمة التي تحفّ بمن يطّوّف بهما! وننظر فنرى أن كلمة (يطّوف) بالتشديد غير كلمة (يطوف) بالتخفيف، ومعنى هذا أنها تعنى كثرة الطواف، لا مجرد الطواف! ومن جهة أخرى، فإن الطواف معناه الدوران، ومنه الطواف حول الكعبة، ومنه الطائفة وهى الجماعة المتحلّقة، وعلى هذا يكون المراد بالتطوف بالصفا والمروة: الدوران حولهما لا السعي بينهما.. والطواف بهما أمكن وأشق من السعي، وعلى هذا يكون معنى التطوف: إما الإكثار مع السعي بين الصفا والمروة، أو التطوف حولهما مع السعي بينهما.
6. على هذا أيضا، يكون رفع الحرج والجناح لا عن السعي، بل عن الاستزادة من السعي، أو الجمع بين الطواف والسعي، حيث يظن أن أداء الشعيرة موقوف به عند السعي بعدد من المرات، لا يتجاوزه الحاج أو المعتمر، أو أن الجمع بين الطواف والسعي غير مستحب، فكان رفع الحرج بإطلاق قيد العدد في السعي، إلى ما يمكن أن يحتمله الجهد والطاقة، أو بالجمع بين السعي والطواف ـ كان الرفع للحرج إغراء بالإكثار من السعي، أو بالسعي الذي يجعل الطواف بالصفا والمروة جزءا منه.. فذلك زيادة في العمل في باب الخير، يزداد به الثواب، ويتضاعف به الجزاء، ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ عقب قوله سبحانه: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ بيانا لهذه الاستزادة من التطوف التي هي زيادة في خير، ومضاعفة لأجر، فمن استزاد خيرا فهو خير له.
7. الفاصلة التي تختم بها الآية: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ إقرار لهذا التطوع بالخير، الذي يجيء عن تبرع بما هو فوق المطلوب، وتقبّل له بالحمد والرضا من رب العالمين: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، ومثل هذا ما جاء في قوله تعالى في صوم رمضان: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، فالذين يجدون جهدا أو مشقّة في صوم رمضان، مباح لهم أن يفطروا وأن يطعموا مسكينا عن كل يوم، وإطعام المسكين هو القدر المطلوب الذي يجزى كفدية عن إفطار يوم، لمن يفطرون رمضان حين يجدون مشقة في صومه: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ أي من زاد عن المطلوب، فأطعم مسكينين أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة، أو أكثر، فذلك زيادة في عمل الخير، وعلى قدر هذه الزيادة يزاد في الثواب.
8. مثل آية الطواف بالصفا والمروة ما جاء في قوله تعالى فيما هو من أعمال الحج: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، فبالإفاضة من عرفات تتم أعمال الحج، ولكن الحاج لا يزال في تلك المواطن المقدسة، ونفسه معلقة بها، وأشواقه نازعة إليها، وعزيز عليه أن تنقطع الصلة بينه وبينها.. إلا أنه من جهة أخرى يرى أنه أدّى الفريضة وقضى مناسكها، وربما لو أنى عملا آخر ولو كان برا لم يقع عند الله موقع القبول، لأنه جاء على غير شرع الله، فكان قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إذنا بالدخول في باب جديد من أبواب الخير، فيه طلب المزيد من فضل الله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/178.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ هذا كلام وقع معترضا بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة، وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدها، لأن الحج لم يكن قد فرض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بإلحاقها ببعض السّور التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبة بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقع الاعتراض في أثناء الاعتراض، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيرا بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة.. إلى آخر الحديث الذي سبق ذكره.. فيحتمل أن إبراهيم سعى بين الصفا والمروة تذكّرا لشكر النعمة وأمر به إسماعيل، ويحتمل أن إسماعيل ألحقه بأفعال الحج، أو أن من جاء من أبنائه فعل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة.
2. كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عمرو ابن لحيّ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إسافا والآخر يسمى نائلة، كان أحدهما موضوعا قرب جدار الكعبة والآخر موضوعا قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جدّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثرتها جرهم حين خروجهم من مكة وبنى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إسافا على الصفا ونائلة على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناما صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاؤوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمشلّل قرب قديد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجا من أن يطوفوا بغير صنمهم(2)... فتأكيد الجملة بأنّ لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أميل إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية، وفي (أسباب النزول) للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك.
3. الصفا والمروة اسمان لجبيلين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قعيقعان، وسمي الصفا لأن حجارته من الصّفا وهو الحجر الأملس الصّلب، وسميت المروة مروة لأن حجارها من المرو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار ويذبح بها لأن شذرها يخرج قطعا محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب:
çحتى كأنّي للحوادث مروة...بصفا المشقّر كلّ يوم تفرعé
وكأن الله تعالى لطف بأهل بمكة فجعل لهم جبلا من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم، والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعا وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة.
4. الشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدي، فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفة والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار.
5. معنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك.
6. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ تفريع على كونهما من شعائر الله، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يريبه ما حصل فيهما من صنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سيئ العوارض، ولذلك نبه بقوله ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ على نفي ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة.
7. الجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير، فاعتبروا فيه الميل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير.
8. الحج اسم في اللغة للقصد، وفي العرف غلب على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحرام ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفية في هذا المعنى جنسا بالغلبة كالعلم بالغلبة ولذلك قال في (الكشاف): (وهما (أي الحج والعمرة) في المعاني كالنجم والبيت في الذّوات)، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلّا في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعا عن الإضافة نحو ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، وورد مضافا في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب، وفعل حج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان، وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا) بدون ذكر المفعول فذلك حذف للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد.
9. العمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير وقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة، فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة، وفعلها غلب على تلك الزيارة تبعا لغلبة الاسم فساواه فيها، ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع، والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادرا.
10. نفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب، والواجب والرّكن، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة: (لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)، قال ابن العربي في (أحكام القرآن): (إن قول القائل لا جناح عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه)، ومراده أنّ لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل، نعم إن التصدي للإخبار بنفي الإثم عن فاعل شيء يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعا هذا عرف استعمال الكلام فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى واجب أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله، فمن أجل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي، ولقد أصاب فهما من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان، غير أن هنا سببا دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثما، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها، ولهذا قال عروة فيما رواه: (وأنا يومئذ حديث السن) يريد أنه لا علم له بالسنن وأسبابا النزول، وليس مراده من حداثة سنه جهله باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير، ولهذا أيضا قالت له عائشة: (بئسما قلت يا ابن أختي) تريد ذم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك، على عادتهم في الصراحة في قول الحق، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولا بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة.
11. الجناح المنفي في الآية جناح عرض للسعي بين الصفا والمروة في وقت نصب إساف ونائلة عليهما وليس لذات السعي، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عرض قبله من أسباب النشوز والإعراض، ومثله قوله: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 182] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقص من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض.
12. الآية الكريمة تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي فذهب مالك في أشهر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبادر إليه كما في حديث (الصحيحين) و(الموطأ) فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحرام، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه ترك، وبخلاف رمي الجمار فإنه فعل بعضو وهو اليد، وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القوادم فإنه وإن كان فعلا بجميع البدن إلا أنه به مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضا، ولقوله في الحديث: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، والأمر ظاهر في الوجوب، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا في الحج، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساو للفرض.
13. ذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك، واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضا بل واجبا لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظني فيهما، والجواب أن مجموع الظواهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلّا فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإحرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض؟ وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة.
14. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله: ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من ﴿خَيْرًا﴾ خصوص السعي لأن خيرا نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصرا على الطواف بين الصفا والمروة بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: 184] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي.
15. ﴿تَطَوَّعَ﴾ يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها، ويطلق مطاوع طوّعه أي جعله مطيعا فيدل على معنى التبرع غالبا لأن التبرع زائد في الطاعة، وعلى الوجهين فانتصاب ﴿خَيْرًا﴾ على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين ﴿تَطَوَّعَ﴾ معنى فعل أو أتى، ولما كانت الجملة تذييلا فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم، على أن ﴿تَطَوَّعَ﴾ لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة، وقرأ الجمهور: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ بصيغة الماضي، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلف يطوع بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين.
16. ﴿مِنَ﴾ هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيرا جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلّا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ والأظهر عندي أن ﴿شَاكِرٌ﴾ هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/58.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، فلذلك لم نذكرها.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ما زالت النصوص القرآنية الشريفة السامية تتكلم حول الكعبة من ناحية كونها قبلة، وأن الصلاة لا تصح من غير الاتجاه إلى البيت الحرام، وإنه مما حول البيت والصفا والمروة، وهما جبلان مجاوران للكعبة، قيل إن هاجر أم إسماعيل كانت تتردد بينهما عندما أصابهما الجوع والعطش وهى تناجى ربها أن يمن عليها بالغوث فأنبع الله تعالى لها زمزم، وقيل كانت لها طعم وغذاء وشفاء للعلة من عطشها، وقد قال تعالى فيها: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
2. الشعائر جمع شعيرة، وهى المتعبد الذي يكون فيه عبادة الله تعالى والقيام بحق الطاعة، وفى هذا النص تقرير بأن الصفا والمروة موضعا تعبد لله تعالى، وقد قال بعض العلماء: إن ذكر أنهما من شعائر الله دليل على طلب السعي بينهما، ولكن ابن جزى الكلبى الفقيه المالكي ضعف هذا، ولكنا لا نجد فيه ما يسوغ التضعيف لأن كونهما متعبدا يدل على طلب التعبد عندهما، وقد بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم التعبد فيهما بطلب السعي بينهما فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كتب عليكم السعي فاسعوا)، وإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة واعتماره سعى والناس بين يديه وهو وراءهم؛ لأنه كان راكبا، فهو منسك من مناسك الحج والعمرة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لتأخذوا عنى مناسككم)
3. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾، فمن قصد البيت حاجا أو معتمرا فلا جناح عليه أن يطوف بهما والحج هو المعرف بأركانه وركنه الأكبر الوقوف بعرفات، ومن مناسكه النحر ورمى الجمار، والوقوف بالمزدلفة، أما العمرة فهي زيارة البيت والطواف حوله، والسعي بين الصفا والمروة، وقد سعى فيهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن كان النص في هذه الآية، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾
4. نفي الجناح ـ والجناح هو الميل إلى الإثم ـ يقتضى نفى الإثم لا الوجوب؛ لأن نفي الإثم يؤدى إلى معنى الجواز لا الوجوب، أو الطلب فرضا أو سنة، فمن أين جاء الطلب؟ نقول إن الطلب جاء من كلمة (شعائر) أولا، وقد بينا ذلك، ومن بيان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن بين أن السعي كتب علينا، ومن مداومته صلّى الله عليه وآله وسلّم على السعي في عمرته وحجه؛ ولذلك قال مالك وأحمد والشافعي إن السعي فرض، وقال أبو حنيفة: واجب وهو مرتبة بين السنة المؤكدة والفرض، ويعرفونه بأنه ما ثبت طلبه الحتمي اللازم بدليل ظني فيه شبهة.
5. عبر سبحانه بنفي الجناح، ولم يعبر بالطلب، ولا شك أنه كان ثمة موجب لنفى الإثم، وجعله أساس القول، ولقد قيل في هذا كلام رددته بعض كتب التفسير قالوا: إنه كان على الصفا صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، وقد تحرج بعض المسلمين من السعي بينهما لمكان هذين الصنمين اللذين كان أهل الجاهلية يعبدونهما، ولأن الوحدانية طردت الوثنية من القلوب، فنفى الله تعالى الإثم لهذا، ولا يمنع نفى الإثم من الوجوب أو الطلب بشكل عام، وقيل إن بعض الأنصار لم يجدوا النص على السعي في القرآن فتحرجوا من أن يفعلوا ما كان يفعله الجاهليون من غير نص، فبين أنه لا إثم، ودل على الطلب بالنص الذي صدر به القول فيهما وبعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقوله.
6. ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أصل يطوف يتطوف قلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء قوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج] والتطوف المبالغة في الطواف بأن يعددوه، ولا يكتفوا بواحدة، ولكن الصفا والمروة لا يطوف حولهما ولكن يسعى بينهما، والمشابهة بينهما ليست بعيدة؛ لأن السعي سير على الأرض بينهما وتكرار ذلك سبع مرات، فكان كالطواف في الأرض التي بينهما والله سبحانه وتعالى هو مبين مناسك الحج بالقرآن والسنة النبوية المبينة للقرآن.
7. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ التطوع المبالغة في الطاعة فيما أمر الله تعالى به من فرض وواجب ومندوب، فهي المبالغة في أصل الطاعة، وإطلاقها على النفل غير المفروض والمندوبات ونحو ذلك هو من قبيل الاصطلاح الفقهي باعتبار أن النوافل والمندوبات مكملات للفرائض التي هي أصل الطاعات، و﴿خَيْرًا﴾ وصف لمصدر محذوف وهو مفعول مطلق، والوصف يقوم فيه أحيانا مقام المصدر كما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال].
8. الخير كل ما يكون فيه نفع للناس، وأداء لما أمر الله، وقيام بالواجبات الاجتماعية والإنسانية والدينية، ووصف طاعات الله أو المبالغة في الأداء بأنها خير؛ لأنها في ذاتها خير، ولا يكون ما يأمر الله تعالى به إلا خيرا خالصا، ونافعا خالصا، فكل أمر من الله تعالى فهو خير نافع لا ينفع سواه.
9. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فعل شرط جزاؤه قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ وهذه الجملة السامية هي دالة على الجزاء، متضمنة له؛ لأن تقدير الجواب فله أجر يكافئ ما فعل؛ لأن الله شاكر عليم، أي مجاز جزاء حسنا على ما فعل؛ لأن الله شاكر.
10. التعبير بالشكر في هذا، وهو أعظم من أن يشكر عبدا له فالكل منه وإليه، وقد وصف نفسه بأنه غفور شكور، فكيف يشكر المنعم من أنعم عليه!؟ وكل ما يقدم العبد من طاعات هو شكر للمنعم جل جلاله، وشكر المنعم واجب بالعقل والنقل، فكيف يكون الله شاكرا لأنعمه؟ ولكن عبر بذلك، تكميلا لنعمه وتفضله أولا، كما يشكر من يقوم بالواجب تفضلا، ولتحريض العبد على كمال الطاعة ثانيا، ولتعليم العبد شكر النعم ثالثا، ولإثبات رضوان الله تعالى رضوانا كاملا، فإن الشكر زيادة في الرضوان، والرضوان الجزاء.
11. وصف الله سبحانه وتعالى نفسه مع الشكر الدال على الرضا بقوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ أي وصف نفسه بالعلم؛ للدلالة على أنه عالم بمن يقوم بالطاعات فيجازيه، ومن يعمل بالمعصية، فيجزيه بالسوء سوءا، فهو إشعار للطائع بأنه يعمل تحت رعاية الله تعالى، تحت سمعه وبصره، وهو القائم بكل ما في الوجود، وهو القادر على مكافأة كل بما يعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/476.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. العبادة على أقسام شكلا وتوقيتا، وبالنظر الى التوقيت منها ما يجب في كل يوم، وهي الصلاة، ومنها في كل سنة، وهو صوم رمضان، ومنها في العمر مرة، وهو الحج للمستطيع، والحج أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، وهي: شهادة ان لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت..
2. العمرة عادة كالحج، ولكن لا وقوف فيها بعرفة، ولا مبيت بالمزدلفة، ولا رمي أحجار وجمار في منى.
3. تجمل الاشارة الى ان العبادة بشتى أنواعها بما فيها أعمال الحج لا مجال فيها للاجتهاد، ولا للتعليلات وغيرها، وإنما يقتصر فيها على نص الكتاب والسنة فقط، وكل ما يتعدى ذلك لم يأذن الله به.
4. الذي تعرضت له هذه الآية، ودل ظاهرها عليه هو ان الصفا والمروة من الأماكن التي يتعبد الإنسان فيهما لله بالطواف بهما، وهذا الطواف المشار اليه بقوله سبحانه: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ان هذا الطواف هو المعروف بالسعي بين الصفا والمروة.
5. سؤال وإشكال: السعي بين الصفا والمروة في حجة الإسلام واجب بالإجماع، مع ان التعبير بعدم الجناح لا يفيد الا مجرد جواز الفعل، وعدم الإثم فيه، وهذا أعم من الوجوب والاستحباب والاباحة، والعام لا يدل على الخاص؟ والجواب: ان قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ لم يرد لبيان حكم السعي، وانه فرض أو غير فرض، وإنما ورد لبيان ان السعي مشروع، وان الإسلام يجيزه ويقره.. أما معرفة حكمه، وهل هو فرض أو ندب فيستفاد من دليل آخر، وقد تواترت السنة النبوية، وأجمع المسلمون على وجوب السعي في حجة الإسلام، وجاء في مجمع البيان: (ان الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: كان المسلمون يرون ان الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية، فأنزل الله هذه الآية)، أي ان الله سبحانه نفى هذا الوهم، وبيّن ان الصفا والمروة من الإسلام في الصميم.. وإذا تطوّف المشركون بهما تقربا الى الأوثان فان المسلمين يسعون بينهما طاعة لله، وامتثالا لأمره.
6. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، أي من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدى الواجب الذي عليه فان الله يجزيه بالإحسان على إحسانه.. والشاكر من صفات الله، ومعنى شكر الله لعبده المطيع انه راض عنه، ويثيبه على شكره وطاعته.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/245.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصفا والمروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمائة وستون ذراعا ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الأملس، وأصل المروة الحجر الصلب.
ب. الشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر، الهدي أي أعلمه.
ج. الحج هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرر، وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين.
د. الاعتمار الزيارة وأصله العمارة لأن الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة البيت بالطريق المعهود.
هـ. الجناح الميل عن الحق والعدل، ويراد به الإثم، فيئول نفي الجناح إلى التجويز.
و. التطوف من الطواف، وهو الدوران حول الشيء، وهو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله، ومنه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شيء، وإنما ذلك من مصاديقه الظاهرة، وعلى هذا المعنى أطلق التطوف في الآية، فإن المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرات متوالية.
ز. التطوع من الطوع بمعنى الطاعة، وقيل: إن التطوع يفارق الإطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة، بخلاف الإطاعة ولعل ذلك ـ لو صح هذا القول ـ بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطف عنائي وإلا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الأمر الإلزامي، قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، وأصل باب التفعل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميز أي أخذ يميز، وتعلم الشيء أي أخذ يعلمه، وتطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة.
2. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ إلى قوله: ﴿يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه، يدلان بذلك عليه، ويذكرانه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الأشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة متعلقة بهما.
3. تفريع قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ إنما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لإفادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف، لا أن ينفي ذمه، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أن الصفا والمروة لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما ـ وهو ظاهر ـ والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وفي الصوم ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وفي القصر ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾
4. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ﴾، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾، وكان المراد بالتطوع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة.
ب. وإن كان استينافا بالعطف إلى أول الآية كان مسوقا لإفادة محبوبية التطوف في نفسه إن كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لإفادة محبوبية الحج والعمرة إن كان هما المراد بتطوع الخير هذا.
5. الشاكر والعليم اسمان من أسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من أحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسنا قديم الإحسان ومنه كل الإحسان لا يد لأحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثناؤه عد الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان وهو إحسان على إحسان قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.
6. في تفسير العياشي: عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام، سألته: عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هي أم سنة؟ قال فريضة، قلت: أليس الله يقول: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ـ فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام ـ قال: فأنزل الله ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، أي والأصنام عليها.. وعن الكافي، ما يقرب منه.. وفي الكافي، أيضا عن الصادق عليه السلام: في حديث حج النبي عليه السلام: بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتيه ـ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ ـ فابدأ بما بدأ الله عز وجل، وإن المسلمين كانوا يظنون ـ أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون ـ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.. ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقوله عليه السلام في الرواية فابدأ بما بدأ الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرات بين الصفا والمروة أن السنة جرت بذلك.
7. روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.. ومقتضى جميع هذه الروايات أن الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون، وسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة، فإنها نزلت في السنة الثانية من الهجرة ، ومع الآيات التي في مفتتح السورة، فإنها نزلت في السنة الأولى من الهجرة فللآيات سياقات متعددة كثيرة، لا سياق واحد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/385.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصفا والمروة جبلان في مكة فرض الله على حجّاج البيت الذين يقصدون أداء فريضة الحج، وعلى المعتمرين الذين يقصدون أداء العمرة التي يراد بها زيارة البيت ضمن مناسك مخصوصة، أن يسعوا بين هذين الجبلين، وقد كان المسلمون في بداية عهد التشريع يشعرون بالحرج من ذلك، لأنهم يرون فيه مخالفة لعقيدة التوحيد في الفكر والممارسة، لأنّ الأصنام كانت منصوبة عليهما كما ورد ما يدل على ذلك من الآثار(2)..
2. وهكذا نجد أن القضية تتصل باعتبار هذه الفريضة بعيدة عن خط الإيمان، لأنها امتداد لأجواء الشرك والأصنام، فجاءت هذه الآية لتضع القضية في موقعها الطبيعي من عقيدة التوحيد وشريعة، لأن وجود الأصنام وعدم وجودها لا يضر بذلك شيئا ما دامت العبادة مرتبطة في وعي المسلمين وتفكير بالله، ومنطلقة من أمر الله ورسوله، كما كانت الكعبة البيت الحرام مطافا للمسلمين قبل أن يفتح الله عليهم مكة مع وجود الأصنام التي نصبها المشركون فيها، لأن المسلمين لم يحسبوا لها أيّ حساب في طوافهم وفي عبادتهم، أمّا إذا كانت العقدة ناشئة من أنها من شعائر المشركين ومناسكهم، فلا تضرّ شيئا، لأن مناسك الحج لم تكن تشريعا جاهليا إشراكيا، بل كانت تشريعا إلهيا على يد إبراهيم عليهم السّلام ورسالته، كما نلاحظ ذلك في آيات الحج وأحاديثه، ولم يكن من الإسلام، إلا أنهّ أقرّها وزاد عليها بعض التفاصيل.
3. هكذا عرفنا أن كلمة ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ لا تعطي معنى الرخصة بمعنى الإباحة، بل تعني عدم الحرج في ما اعتقدوه من منافاته لخط التوحيد كتأكيد لهم لعدم المنافاة، لذلك كما أشرنا إليه، فإنها ليست من شعائر الشرك وإن نصبت الأصنام عليها، بل هي من شعائر الله التي جعلها للمؤمنين لتكون موضعا لعبادته ومقصدا للقرب إليه، فكأنّه قال إن وجود الأصنام لا يمنع من العبادة، ثم ختم الله هذه الآية بأن الله يشكر للمتطوعين بفعل الخير علمهم، وإن كانوا لا يستحقّون على الله ذلك، فإن الله فرض على نفسه أن يشكر الطائفين والعاكفين والركّع السجود، ثم يوحي إليهم بأنه عليم بنواياهم ومقاصدهم عندما يقصدون الله في عبادتهم هذه، ويقصدون غيره، وبهذا تلتقي الرغبة في عمل الخير في نفس المؤمن وإحساسه بشكر الله له على ذلك، بالحذر من وجود بعض الحالات النفسية المنحرفة التي تفسد العمل في دوافعه ونتائجه، ليقف المؤمن من ذلك موقف الإنسان الذي يفحص عمله فحصا دقيقا، لتتم له جوانبه الإيجابية التي به إلى رضوان الله وغفرانه.
4. قد يثير البعض، في الجانب الفقهي من الآية، أنها تتحدث عن التطوّع الذي يعني الإتيان بالعمل من خلال الحوافز النفسية من دون أن يكون هناك إلزام قانوني، فلا ينسجم مع اعتباره فريضة، ولذا ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى استحبابه وعدم وجوبه، ولكننا نعتقد أن هذه الكلمة لا تفيد المعنى الذي يقابل الإلزام، بل المعنى الذي يقابل الإكراه والإلجاء والضغط الخارجي، فيكون معناها العمل المأتي به طواعية واختيارا كنتيجة للشعور بالمسؤولية الناتجة عن الواجب إن كان هناك وجوب، أو عن المستحب إن كان هناك استحباب، فلا تدل على نفي الوجوب، كما لا تدل على تأكيد الاستحباب، والله العالم بأسرار أحكامه وآياته.
5. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ وهما الجبلان الصغيران الواقعان في الضلع الشرقي للمسجد الحرام في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ التي أراد الله للمؤمنين أن يتعبدوا فيها، فجعلها من مواضع نسكه وطاعته، ومن أعلام متعبداته التي يعيش فيها المؤمنون الأجواء التي تنفتح بهم على الله في مواسم عبادته ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ قاصدا أداء الفريضة الشرعية ذات المناسك المخصوصة، ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ أي أتى بالعمرة بالطريقة المعروفة في الشرع، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ بأن يأتي إلى الصفا تارة وإلى المروة أخرى في عملية دوران بينهما، فلا إثم عليه في ذلك من خلال وجود الصنمين عليهما، في عهد نزول الآية ـ كما يقال ـ مما تركه المشركون هناك ولم يرفعوه عن المكان، أو في أي زمان آخر من خلال التاريخ الوثني في عبادة الأصنام المنصوبة عليهما، لأن المسألة هي إطاعة الله في الطواف بهما تقربا إليه في مناسك الحج والعمرة التي جعلت السعي شرطا فيهما، تماما كما كان المسلمون يطوفون بالبيت الحرام مع وجود الأصنام عليه من دون أن يترك ذلك تأثيرا على طبيعة العبادة وروحيتها لتقوّمها بالقصد إلى امتثال الأمر الإلهي في الطواف، أو السعي بعيدا عن كل الأشياء الوثنية الطارئة عليه، وعن الانحرافات العبادية من الوثنيين، فليس لما أحدثه الناس في أماكن العبادة أيّ أثر سلبي في طبيعة المكان وفي العبادة.
6. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أي جاء بالعمل من خلال اختياره الامتثال للأمر الإلهي ـ واجبا أو مستحبا ـ كتعبير عن روحية الانقياد إلى الله في فعل الخيرات التي يحبها الله، والقيام بالطاعات التي أمر بها، وربما حمل البعض كلمة التطوع على العمل الذي يؤديه الإنسان تبرعا من دون إلزام إلهي، وذلك في فعل النافلة ـ بعد أداء الواجب أو في غياب وجوبه ـ ولكنه غير ظاهر، لأن الآية، كما بيّنّا قبلا، ليست في مجال الحديث عن الواجب والمستحب، بل في مجال الحديث عن الطبيعة العبادية للسعي الذي لا إثم على فعله من خلال ما أحدثه المشركون من وضع الأصنام على موقعه وعبادتهم لها فيه، وأن الآتي به مستحق للثواب لما يعبر عنه ذلك من معنى العبودية لله التي هي محل الشكر الإلهي لعبادة، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ فهو الذي يشكر لعباده انقيادهم له من دون حاجة إليه، ويجزيهم على ذلك أحسن الجزاء، وذلك هو التعبير الحي عن الشكر الذي هو مقابلة من أحسن إليه بإظهاره قولا وعملا، وهو الذي يعلم ما في نفوسهم من الإخلاص له.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/127.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، فلذلك لم نذكرها.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ هذا أول الكلام في الحج والعمرة، و﴿الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ﴾ اسم لموضعين مخصوصين بمكة يقال لهما جبلان، ولعل الصواب أكمتان، فالصفا مرتفع يرقى عليه الحاج أو المعتمر وينزل منه ليسعى إلى المروة وهي مرتفع يرقى عليه الحاج أو المعتمر إذا بلغه في آخر الشوط.
2. معنى: ﴿مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ من معالم الله التي جعلها أعلام متعبداته، قال في (الكشاف): (والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، أي من أعلام مناسكه ومتعبداته)
3. ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ في مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ قال عليه السلام: (كان عليهما أصنام فتحرّج المسلمون من الطواف بينهما لأجل الأصنام، فأنزل الله ـ عزَّ وجل ـ لئلا يكون عليهم حرج في الطواف من أجل الأصنام)، والآية تفيد: شرعية الطواف بهما، لا وجوبه، ولا عدم وجوبه.
4. ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ قال الراغب في (المفردات): (والتطوع في الأصل: تكلف الطاعة، وهو في التعارف التبرع بما لا يلزم)، لعله يعني هذا في التطوع اللازم، فأما المتعدي إلى مفعول فقد قال فيه: (وتطوّع كذا تحَمَّله طوعاً، قال ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:79])، وقال الشرفي في (المصابيح) في ﴿الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة:79]: (المتنفلين الذين ينفقون طوعاً وهم من المحتاجين)
5. إذا كان التطوع مشتقاً من الطوع، فمعناه: فعل الخير برغبة، سواء كان واجباً أم مستحباً، ولو كان مشتقاً من الطاعة لكان خاصاً بالواجب، وظاهر كلام الراغب: أن تخصيصه بالمستحب متعارف، ومفهوم هذه العبارة أنه ليس حقيقة شرعية، وعلى هذا: فلا يفسر به القرآن الكريم إلاَّ أن يكون عرف اللغة.
6. معنى ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أنه يفعل كفعل الشاكر من مكافأة العبد المتطوع خيراً وإعلان حسناته ومدحه، وهذا من كرم الله سبحانه وحسن ثوابه لعبده الشاكر لأنعمه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/218.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج، وكانت هذه المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك، فكانت المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والاضحية والطّواف والسّعي بين الصفا والمروة، ولكن بشكل خاص بالجاهليين، وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك، وطهّرها مما علق بها من تحريف، وأقرّ ما كان صحيحا منها ومن جملتها السعي بين الصفا والمروة.
2. استنادا إلى روايات المؤرخين من الشّيعة وأهل السّنة أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنما اسمه (أساف)، وعلى المروة صنما آخر سموه (نائلة) وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك.
3. الآية الكريمة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما.
4. اختلف المفسرون في وقت نزول الآية:
أ. منهم من قال إنها نزلت في (عمرة القضاء) في السنة السابعة للهجرة، وكان من شروط النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المشركين في هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة، وقد عملوا بهذا الشرط، لكنهم أعادوهما إلى محلهما، وهذا أدّى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة، فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة.
ب. وقيل إنّها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، ومن المؤكد أن مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام، ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين حيث انتصب فيهما (أساف ونائلة).
5. هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النّزول، وتقول للمسلمين: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾، ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين، ثم تقول الآية أخيرا: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيرا، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلّق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرّأ منها.
6. الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم، يفصل بين الجبلين 420 مترا تقريبا، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما، وارتفاع الصفا خمسة عشر مترا، والمروة ثمانية أمتار، واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين، وفي الأصل الصفا هي الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل، والمروة الصخرة القوية المتعرّجة.
7. الشعائر جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر الله أي العلامات التي تذكّر الإنسان بالله، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.
8. ﴿اعْتَمَرَ﴾ أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة، وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.
9. صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الاقتداء بهم، لكن هناك طريقا أكثر تأثيرا، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء الرجال، وسجلوا فيها بطولاتهم، هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة، بل هي تاريخ حيّ ناطق، يستطيع أن يحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار، ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره، الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها.. فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية.
10. من جهة أخرى، قلّ أن يوجد بين الأنبياء نبيّ كإبراهيم عليه السّلام، خاض ألوان النضال وتعرض لأنواع الامتحان، حتى قال القرآن عمّا اختبر به: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾، وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهّلته لأن ينال مقام (الإمامة)
11. مناسك الحج تجسّد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه.
12. لو فهم المسلمون ـ لدى أدائهم مناسك الحج ـ روح الحج وأسراره، وتعمّقوا في جوانبه (الرّمزية) لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنّبوة والشخصية الإنسانية.
13. ذكر بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعقب عليها بما يلي:
أ. في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.
ب. السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائما أمل النجاح والانتصار، حتى في أشدّ لحظات الشدّة، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب.
ج. السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: إن هاتين الشعيرتين كانتا يوما وكرا لصنمين من أصنام العرب، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول: أنا أول منطلق لدعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فحينما كانت مكة تغطّ في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية، واعلموا أيّها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صعد يوما على هذا الجبل ليدعو النّاس إلى الله، فلم يجبه أحد، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمّدي الإبراهيمي، وإنه لدرس لكم يعلمكم أن تسيروا على طريق الحقّ دونما يأس، وإن قلّ الناصر والمجيب.
د. السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.
هـ. من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر الله الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.
و. أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لا بدّ من قطع هذه المسافة ذهابا ومجيئا مع كافة النّاس، وبنفس لباس النّاس، وبهرولة أحيانا! ولذلك ورد في الروايات أن السعي إيقاظ للمتكبرين.
14. بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله، أكدت عدم وجود جناح على من يطوّف بهما في الحج والعمرة، والطواف بين الصفا والمروة هو السعي بينهما، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث ابتدأ هي طواف وإن لم تكن الحركة دائرية.
15. سؤال وإشكال: لفظ ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك، وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي، بينما الآية تبيحه فقط؟ والجواب: الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية، فالمسلمون كرهوا السعي بين الصفا والمروة، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين بهذا المكان، ومدى تلويثهم إياه بالأصنام، فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن يسعى في هذا المكان، جاءت الآية لتقول لهم: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وعبارة ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل، وثمّة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام أخرى كصلاة المسافر في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر، لا جائز، بشكل عام قد تستعمل كلمة ﴿لَا جُنَاحَ﴾ لإزالة التوهم بحرمة الشيء أو بكراهته، وهذا المعنى يؤكده حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام في كتاب (من لا يحضره الفقيه)
16. التطوع في اللغة: قبول الطاعة والانصياع للأوامر، وفي الفقه يطلق على الأعمال المستحبة، من هنا ذهب أغلب المفسرين إلى تفسير ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ بالحج المستحب والعمرة المستحبة، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر.
17. العبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثالا لأوامره سبحانه، والله عليم بكل هذه الأعمال، ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة تأكيدا لما سبقها، ويكون المقصود بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة، معنى العبارة، على هذا، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه من مشاق ورغم كراهتكم لذلك.. هذه الكراهة الناتجة عن سوء تصرف الجاهليين بهذا المكان المقدس.
18. عبارة الشاكر في الآية، وهو تعبير في غاية الروعة، وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان، أن يشكره الله على أعماله الخيّرة، وحين يكون الله شاكرا لعبده على برّه، فمن الأولى أن يكون العبد شاكرا لربّه على نعمه التي لا تحصى، وشاكرا لمن أحسن إليه من العباد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/450.
66. الكاتمون للبينات واللعنات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈66⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 159 ـ 160] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هو الرجل يلعن صاحبه في أمر يرى أنه قد أتى إليه، فترتفع اللعنة في السماء سريعا، فلا تجد صاحبها التي قيلت له أهلا، فترجع إلى الذي تكلم بها، فلا تجد لها أهلا فتنطلق فتقع على اليهود، فهو قوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (1)..
2. روي أنّه قال: هو الرجل يلعن صاحبه في أمر يرى أنه قد أتى إليه، فترتفع اللعنة في السماء سريعا، فلا تجد صاحبها التي قيلت له أهلا، فترجع إلى الذي تكلم بها، فلا تجد لها أهلا، فتنطلق فتقع على اليهود، فهو قوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، فمن تاب منهم ارتفعت عنهم اللعنة، فكانت في من بقي من اليهود، وهو قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ الآية(1)..
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان: ٥١٩٢.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه سئل: من خير الخلق بعد أئمة الهدى، ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا، قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس وفرعون، وبعد المتسمين بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا وإنهم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾)(1)..
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، 302/144.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ الجن، والإنس، وكل دابة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾ ذلك كفارة له(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ إلى قوله: ﴿اللَّاعِنُونَ﴾، ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ الآية(1)..
2. روي أنّه قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل، وخارجة بن زيد أخو الحارث بن الخزرج؛ نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم؛ فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآية(2)..
3. روي أنّه قال: إن الكافر إذا حمل على سريره قال روحه وجسده: ويلكم، أين تذهبون بي؟ فإذا وضع في قبره، ورجع عنه أصحابه؛ أتاه منكر ونكير، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، يخدان الأرض بأنيابهما، ويطآن في أشعارهما، فيجلسانه، ثم يقولان له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت، ثم يقولان له: ما دينك؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت، ثم يقولان له: من نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت، هكذا كنت في الدنيا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فينظر إليها، فيقال له: هذه الجنة التي لو كنت آمنت بالله وصدقت رسوله صرت إليها، لن تراها أبدا، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له: هذه النار التي أنت صائر إليها، ثم يضيق عليه قبره، ثم يضرب ضربة بمرزبة من حديد، لو أصابت جبلا لارفض ما أصابت منه، قال فيصيح عند ذلك صيحة يسمعها كل شيء غير الثقلين، فلا يسمعها شيء إلا لعنه، فهو قوله ـ عز ذكره ـ: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون﴾ (3)..
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.
(2) سيرة ابن هشام: ١/٥٥١.
(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٩٣.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، لا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين؛ الجن، والإنس(1)..
__________
(1) الطيالسي، وابن جرير: ٢/٧٣٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ هم أهل الكتاب(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ كتموا محمدا ونعته، وهم يجدونه مكتوبا عندهم؛ حسدا وبغيا(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، يعني: من ملائكة الله، والمؤمنين(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، يعني: من الشرك(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِم﴾ يعني: أتجاوز عنهم، ﴿التَّوَّابُ﴾ يعني: على من تاب(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ الكافر إذا وضع في حفرته ضرب ضربة بمطرق، فيصيح صيحة، يسمع صوته كل شيء إلا الثقلين؛ الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٣٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ هم أهل الكتاب، كتموا نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم، فقالت: يحبس عنا الغيث بذنوبهم(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ اللاعنون: البهائم: إذا أسنتت السنة قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم؛ لعن الله عصاة بني آدم(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ دواب الأرض؛ العقارب، والخنافس، يقولون: إنما منعنا القطر بذنوبهم، فيلعنونهم(4)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٨.
(2) عبد الرزاق: ١/٥٧.
(3) سعيد بن منصور: ٢٣٦.
(4) ابن جرير: ٢/٧٣٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ يلعنهم كل شيء، حتى الخنافس، والعقارب، يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٣٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْكِتَابِ﴾ القرآن(1)..
2. روي أنّه قال: جميع عباد الله(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٩.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٣٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآية: كتموا الإسلام، وهو دين الله، وكتموا محمدا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ من ملائكة الله، ومن المؤمنين(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾ قال أصلحوا ما بينهم وبين الله، ﴿وَبَيَّنُوا﴾ الذي جاءهم من الله، ولم يكتموه، ولم يجحدوا به(2)..
__________
(1) ابن سعد: ١/٣٦٢.
(2) ابن جرير: ٢/٧٣٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ معناه هوامّ الأرض مثل الخنافس والعقارب، وما أشبهها.. ويقال الملائكة،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ الحلال والحرام(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٦٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ يعني: ما بين الله تعالى في التوراة، يعني: الحلال، والحرام، ﴿وَالْهُدَى﴾ يعني: أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، فكتموه الناس، يقول الله سبحانه: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ يعني: أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ يعني: لبني إسرائيل في التوراة، وذلك قوله سبحانه في العنكبوت [٤٩]: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ أي: بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ يعني: المكذبون بالتوراة(1)..
2. روي أنّه قال: ثم استثنى مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من الكفر، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ العمل، ﴿وَبَيَّنُوا﴾ أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم للناس(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم﴾ يعني: أتجاوز عنهم، ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (2)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٢.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٥٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ بينوا ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا كله في يهود(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٧٣٩.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ اللعنة من الله لهم هو: عذابه إياهم، وإخزاؤه لهم، واللاعنون لهم فهم: الملائكة والنبيون، وكل من أطاع الله من جميع عباده المؤمنين، فهم لهم لاعنون؛ بمخالفتهم وكثرة مضادتهم لدين خالقهم، فلعنه الله وغضبه عليهم(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/72.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾:
أ. قيل: هي الحجج، أي كتموا ما أنزل الله من الحجج التي كانت في كتبهم.
ب. وقيل: كتموا ما بين في كتبهم من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته.
ج. وجائز أن يكون ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ ما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْهُدَى﴾:
أ. قيل: الصواب والرشد.
ب. وقيل: ﴿وَالْهُدَى﴾ ما جاءت به أنبياؤهم من شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه وأمروا من هديه من تصديقه.
ج. وقيل: كتموا الإسلام ومن دين الله كتموا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقيل: بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه.
هـ. ويحتمل: البيان بالحجج والبراهين.
و. ويحتمل: البيان بالخبر، أخبر المؤمنين بذلك.
3. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ قال بعض أهل الكلام: اللعن: هو الشتم من الله تعالى، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذموما به في المعروف مما جبل عليه الخلق، ونقول: اللعن: هو الطرد في اللغة، طردهم الله عزّ وجل عن أبواب الخير.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾:
أ. قيل: يعنى الداعين عليهم باللعن، سموا بذلك (اللاعنين).
ب. ويحتمل: تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر.
ج. وقيل: ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ هم البهائم، إذا قحطت السماء، وأسنت الأرض قالت البهائم: منعنا القطر بذنوب بنى آدم، لعن الله عصاة بنى آدم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾:
أ. قيل: ﴿تَابُوا﴾ عن الشرك، و﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، و﴿وَبَيَّنُوا﴾ صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ عن الكتمان، و﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما أفسدوا بالكتمان، و﴿وَبَيَّنُوا﴾ ما كتموا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾:
أ. قيل: يتوب عليهم: يقبل توبة من يتوب.
ب. وقيل: يتوب عليهم، أي يوفقهم على التوبة.
ج. وقيل: ﴿الرَّحِيمُ﴾: هو المتجاوز عن ذنبهم في هذا الموضع.
د. وقيل: الكاشف عن كربهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/608.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾ قيل: هم رؤساء اليهود، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوت، هم الذين كتموا ما أنزل الله.
2. في قوله تعالى: ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن البينات هي الحجج الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والهدى: الأمر باتباعه.
ب. الثاني: أن البينات والهدى واحد، والجمع بينهما تأكيد، وذلك ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه.
3. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ يعني القرآن.
4. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم كل شيء في الأرض من حيوان وجماد إلا الثقلين الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس والبراء بن عازب.
ب. الثاني: اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت اللعنة على اليهود، وهذا قول ابن مسعود.
ج. الثالث: أنهم البهائم، إذا يبست الأرض قالت البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم، وهذا قول مجاهد وعكرمة.
د. الرابع: أنهم المؤمنون من الإنس والجن، والملائكة يلعنون من كفر بالله واليوم الآخر، وهذا قول الربيع بن أنس.
5. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ يعني بالإسلام من كفرهم ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: إصلاح سرائرهم وأعمالهم.
ب. الثاني: أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام.
6. ﴿وَبَيَّنُوا﴾ يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوب اتّباعه ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ والتوبة من العباد: الرجوع عن الذنب، والتوبة من الله تعالى: قبولها من عباده.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/215.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في المعني بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والحسن، وقتادة، والسدي، واختاره الجبائي، وأكثر أهل العلم: انهم اليهود، والنصارى: مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد، وابن صوريا، وزيد بن تابوه، وغيرهم من علماء النصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونبوته: وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل مبينا فيهما.. ويروى عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة، فكتموهم إياه، فانزل الله عز وجل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ الآية، وإنما نزل فيهم هذا الوعيد، لان الله تعالى علم منهم الكتمان.
ب. الثاني: ذكر البلخي: أنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله وهو أعم، لأنه يدخل فيه أولئك وغيرهم.
2. عموم الآية يدل: على أن كل من كتم شيئاً من علوم الدين، وفعل مثل فعلهم في عظم الجرم أو أعظم منه، فان الوعيد يلزمه، وأما ما كان دون ذلك، فلا يعلم بالآية بل بدليل آخر، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وقال ابو هريرة: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم وتلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الآية، فهذا تغليظ للحال في كتمان علوم الدين.
3. كتمان الشيء اخفاؤه مع الداعي الى إظهاره، لأنه لا يقال لمن أخفى ما لا يدعو الى إظهاره داع: كاتم، والكتاب الذي عني هاهنا قيل التوراة، وقيل كل كتاب أنزله الله، وهو أليق بالعموم، وقال الزجاج: هو القرآن.
4. استدل قوم بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد من حيث أن الله تعالى توعد على كتمان ما أنزله، وقد بينا في اصول الفقه أنه لا يمكن الاعتماد عليه، لأن غاية ما في ذلك وجوب الاظهار، وليس إذا وجب الاظهار وجب القبول، كما أن على الشاهد الواحد يجب إقامة الشهادة وإن لم يجب على الحاكم قبول شهادته، حتى ينضم اليه ما يوجب الحكم بشهادته، وكذلك يجب على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إظهار ما حمله، ولا يجب على أحد قبوله حتى يقترن به المعجز الدال على الصدق، ولذلك نظائر ذكرناها، على أن الله تعالى بين أن الوعيد إنما توجه على من كتم ما هو بينة وهدى وهو الدليل، فمن أين أن خبر الواحد بهذه المنزلة، فإذاً لا دلالة في الآية على ما قالوه.
5. البينات والهدى هي الأدلة وهما بمعنى واحد، وإنما كرر لاختلاف لفظهما، وقيل: إنه أراد بالبينات الحجج الدالة على نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالهدى إلى ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع، فعلى هذا لا تكرار.
6. اللعن في الأصل الابعاد على وجه الطرد قال الشماخ:
çذعرت به القطا ونفيت عنه...مقام الذئب كالرجل اللعينé
أراد مقام الذئب اللعن، واللعين في الحكم: الابعاد ـ من رحمة الله ـ بإيجاب العقوبة، فلا يجوز لعن ما لا يستحق العقوبة، وقول القائل: لعنه الله دعاء، كأنه قال أبعده الله، فإذا لعن الله عبداً، فمعناه الاخبار بأنه أبعده من رحمته.
7. في المعني بقوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال قتادة، والربيع، واختاره الجبائي، والرماني، وغيرهما: انهم الملائكة والمؤمنون ـ وهو الصحيح ـ، لقوله تعالى في وعيد الكفار ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ فلعنة اللاعنين كلعنة الكافرين.
ب. الثاني: قال مجاهد، وعكرمة: إنها دوابّ الأرض، وهو انها تقول منعنا القطر لمعاصي بني آدم.
ج. الثالث: حكاه الفراء أنه كل شيء سوى الثقلين الانس والجن، رواه عن ابن عباس.
د. الرابع: قاله ابن مسعود: أنه إذا تلاعن الرجلان رجعت اللعنة على المستحق لها، فان لم يستحقها واحد منهم رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله.
8. سؤال وإشكال: كيف يجوز على قول من قال المراد به البهائم اللاعنون، وهل يجوز على قياس ذلك الذاهبون؟ والجواب: لما أضيف اليها فعل ما يعقل عوملت معاملة ما يعقل، كما قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾
9. سؤال وإشكال: كيف يجوز إضافة اللعن إلى ما لا يعقل من البهيمة والجماد؟ والجواب: قيل: لأمرين:
أ. أحدهما: لما فيه من الآية التي تدعوا الى لعن من عمل بمعصية الله.
ب. الثاني: أن تكون البهائم تقول على جهة الإلهام لما فيه من الاعتبار.
10. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ استثنى الله تعالى في هذه الآية من جملة الذين يستحقون اللعنة من تاب، وأصلح، وبين.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَيَّنُوا﴾:
أ. قال أكثر المفسرين، كقتادة، وابن زيد، والبلخي، والجبائي، والرماني: إنهم بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقال بعضهم: بينوا التوبة، وإصلاح السريرة بالإظهار لذلك، وإنما شرط مع التوبة الإصلاح، والبيان ليرتفع الإيهام بأن التوبة مما سلف من الكتمان يكفي في إيجاب الثواب.
12. ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أقبل توبتهم، والأصل في أتوب أفعل التوبة إلا أنه لما وصل بحرف الاضافة دل على ان معناه أقبل التوبة، وإنما كان لفظه مشتركا بين فاعل التوبة، والقابل لها، للترغيب في صفة التوبة إذ وصف بها القابل لها، وهو الله وذلك من إنعام على عباده، لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مقارفة الذنب أن الوصف بها عيب، فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح، والتوبة هي الندم الذي يقع موقع التنصل من الشيء وذلك بالتحسر على موافقته، والعزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة، واعتبر قوم المعاودة الى مثله في القبح، وهو الأقوى، لإجماع الامة على سقوط العقاب عندها، وما عداها فمختلف فيه.
13. سؤال وإشكال: ما الفائدة في هذا الاخبار، وقد علمنا أن العبد متى تاب لا بدّ أن يتوب الله عليه؟ والجواب:
أ. أمّا على مذهبنا(2). ، فله فائدة واضحة: وهو أن إسقاط العقاب عندها ليس بواجب عقلا، فإذا أخبر بذلك أفادنا ما لم نكن عالمين به.
ب. ومن خالف في ذلك قال وجه ذلك أنه لما كانت توبة مقبولة وتوبة غير مقبولة صحت الفائدة بالدلالة على أن هذه التوبة مقبولة، ومعنى قبول التوبة حصول الثواب عليها وإسقاط العقاب عندها.
14. ﴿التَّوَّابُ﴾ فيه مبالغة إمّا لكثرة ما يقبل التوبة وإما لأنه لا يرد تائباً منيباً أصلا، وقبول التوبة بمعنى إسقاط العقاب عندها، غير واجب عندنا عقلا، وإنما علم ذلك سمعاً، وتفضلا، من الله تعالى على ما وعد به بالإجماع على ذلك، وقد بيّنا في شرح الجمل في الأصول أنه لا دلالة عقلية عليه.
15. وصف الله تعالى نفسه بالرحيم عقيب قوله ﴿التَّوَّابُ﴾ دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه ورحمة من جهته.
16. من قال إن الفعل الواجب نعمة إذا كان منعماً بسببه كالثواب، والعوض، فإنه لما كان منعماً بالتكليف وبالآلام التي يستحق بها الاعواض، جاز أن يقال في الثواب والعوض أنه تفضل وإن كانا واجبين، فقوله باطل، لأن ذلك إنما قلنا في الثواب للضرورة، وليس هاهنا ضرورة تدعو الى ذلك.
17. إصلاح العمل هو إخلاصه له من قبيح يشوبه، والتبيين هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التميز.
18. وموضع الذين نصب على أنه استثناء من موجب، و(إلا) حقيقتها الاستثناء، ومعنى ذلك الاختصاص بالشيء دون غيره كقولك: جاءني القوم إلا زيداً فقد اختصصت زيداً بأنه لم يجيء وإذا قلت ما جاءني إلا زيد، فقد اختصصت زيداً بأنه جاء، وإذا قلت ما جاءني زيد إلا راكباً فقد اختصصته بهذه الحال دون غيرها من المشي والعدو، وما أشبه ذلك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/46.
(2) يقصد الإمامية .
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الكتمان: إخفاء الشيء مع الحاجة إلى إظهاره، ونقيضه الإظهار.
ب. البينات: الحجج والعلامات، واحدها بينة.
ج. اللعن: الطرد والإبعاد.
د. التوبة أصلها الرجوع، وفي الشرع: هي الندم على مواقعة الجريمة والعزم على ترك المعاودة، والتواب في صفة الله تعالى قابل التوبة، وفي صفة العبد فاعل التوبة، ثم تواب فيه مبالغة، وتلك المبالغة على ضربين إما لكثرة ما يقبل من التوبة حالاً بعد حال، أو لأنه يقبل التوبة على عظائم الإجرام.
هـ. البيان أصله من البَيْن وهو القطع وفيه إبانة، ومنه: ما أُبِين من الحي فهو ميت، والبيان في الشرع هو الأدلة، عن أبي علي وأبي هاشم، وقيل: العلم الحادث، عن أبي عبد الله، والأول أوجه، وموضعه أصول الفقه.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
أ. عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفرًا من اليهود عما في التوراة من صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن الأحكام فكتموا، فنزلت الآية.
ب. وقيل: نزلت في أهل الكتاب، عن الحسن وأبي علي، وإنما نزلت وعيدًا لهم.
3. لما بَيَّنَ تعالى دين الحق حث على إظهاره ونهى عن كتمانه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾:
أ. قيل: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن والربيع والسدي والأصم وأبي علي.
ب. وقيل: إنه كلام مستأنف في كل من كتم ما أنزل الله، عن أبي القاسم وأبي مسلم، والقاضي قال: ونزوله على سبب لا يوجب قصره عليه، ولا مانع من حمله على العموم، فروي عن عائشة وأبي هريرة ما يدل على أنهما حملاه على العموم، قال أبو هريرة: لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثتكم، وتلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾
4. ﴿ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ قيل: من الحُجَج المنزلة في الكتب، والهدى: الدلائل، والأول: علوم الشرع، والثاني: أدلة العقل، فعم الوعيد في كتمان جميعها.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾
أ. قيل: في التوراة والإنجيل من صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأحكام.
ب. وقيل: في كتاب أنزله الله.
ج. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين، وبالثاني ما في القرآن.
6. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله﴾ يعني يبعدهم من رحمته ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾:
أ. قيل: الملائكة والمؤمنون، عن قتادة والربيع وأبي علي، وهو الصحيح.
ب. وقيل: دواب الأرض وهوامها يقولون: مُنِعْنا القطر بمعاصي ابن آدم، عن مجاهد وعكرمة، ولذا عبر عنهم بعبارة ما يعقل؛ لأنه أضيف إليهم فعل ما يعقل فعبر عنهم بعبارتهم كقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾،و لا وجه له إلا أن يحمل على وجهين:
• أحدهما: أنه يكون في الآخرة فتكمل عقولهم حتى لعنوهم.
• والثاني: أنه يحمل على أنه يلهمهم اللعنة، عن القاضي، وفيه تعسف.
ج. وقيل: كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس، عن ابن عباس.
د. وقيل: من آمن به، عن الأصم وأبي مسلم.
هـ. وقيل: إن أهل النار تلعنهم أيضًا حيث كتموهم الدين، فهو على العموم، وعن ابن مسعود: إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق، فإن لم يكن مستحقّ رجعت على اليهود الَّذِينَ كتموا ما أنزل الله.
و. وروي عن ابن عباس أن لهم لعنتين: لعنة الله، ولعنة الخلائق، قال: وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن ربك فيقول: ما أدري، فيضرب ضربة فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ولا يسمع شيء صوته إلا لعنه، ويقول له الملك: لا دريت، فذلك كنت في الدنيا.
7. ثم بَيَّنَ تعالى أن وعيد كاتم الحق يسقط بالتوبة، فقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أي ندموا على ما فرطوا وعزموا على ترك العود إلى أمثاله.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾:
أ. قيل: يعني أصلحوا دينهم، نبه على أن التوبة في الحال لا تكفي ما لم يتمسك في المستقبل بدينه والقيام بالحق.
ب. وقيل: أصلحوا من كانوا أفسدوه ممن لا علم لهم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَيَّنُوا﴾:
أ. قيل: بمعنى أظهروا.
ب. وقيل: صفة محمد وهو الذي كتموه، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وأبي علي وأبي القاسم.
ج. وقيل: بينوا التوبة وإصلاح السريرة بإظهار ذلك.
د. وقيل: بينوا الذي جاءهم من عند الله.
هـ. وقيل: بينوا التوبة بإخلاص العمل.
10. ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ يعني أقبل توبتهم ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾ كثير التوبة مرة بعد أخرى ومن كل أحد: ﴿الرَّحِيمُ﴾ أثيبهم على التوبة وسائر الطاعات ما استحقوا وأزيدهم من فضلي.
11. سؤال وإشكال: أليس جميع المكلفين مشتركين في العقليات، فكيف يجب الإظهار؟ والجواب: قد يتفاوتون في استعمال الأدلة وطرقها وكيفية الاستدلال، فوجب أن يبين ذلك.
12. سؤال وإشكال: إذا تاب من ذنب دون ذنب هل يصح؟ والجواب: لا، عن أبي هاشم؛ لأن الواجب أن يتوب لقبحه، وقيل: نعم، عن أبي علي.
13. سؤال وإشكال: هل يجب قبوله أم لا؟ والجواب: عندنا واجب، وعند بعضهم تَفَضُّل، والأول الوجه؛ لأنه بمنزلة العذر، ولأنه أتى بما في وسعه، ولأنه لولا ذلك لما كان له طريق إلى إزالة العقوبة عن نفسه مع بقاء التكليف، وهذا لا يجوز.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن كتمان الحق من الكبائر إذا احتيج إلى إظهاره مع سلامة الأحوال لذلك أوجب عليه اللعنة.
ب. وجوب إظهاره للغير إذا لم يعلمه؛ لأنه إذا كان عالمًا فليس هو بأن يجب ذلك عليه بأولى من الآخر.
ج. أن المقصود المنع من كتمان المنزل وما يدل عليه، فمن هذا الوجه يدل على وجوب إظهار التنزيل والتأويل.
د. أنه إذا أظهره واحد سقط عن الباقي؛ لأن المقصود الإظهار، فهو من فروض الكفاية.
هـ. وجوب الدعاء إلى التوحيد والعدل؛ لأن البينات والهدى يجمعان ذلك، وفي الكتاب ما يدل عليهما مؤكدًا لما في العقول.
و. أن حل الشبهة واجب؛ لأنه من إظهار الحق.
ز. أن اللعن اسم شرعي؛ لأنه يفيد أمرًا زائدًا على اللغة، وجنس اللعنة يدل على الوعيد، ولَعْنُ الله تعالى: إبعادُهُ من رحمته، وَلَعْنُ غيره: الدعاء عليه باللعن، ولعن الله والمؤمنين يدل على الاستحقاق.
ح. زوال الوعيد والعقاب بالتوبة.
ط. أن التوبة لا تتكامل في نيل الثواب إلا بانضمام فِعْل الواجبات إليه واتقاء المعاصي.
ي. دلالة قوله: ﴿وَبَيَّنُوا﴾ على صحة قولنا: إن إظهار الحق شرط في قبول توبتهم بإصلاح ما بينهم وبين الله تعالى، وما بينهم وبين العباد من رد المظالم ونحوه.
ك. على قبول التوبة؛ لأن قوله: ﴿أَتُوبُ﴾، يدل عليه.
15. موضع: ﴿الَّذِينَ﴾ نصب على الاستثناء من الإيجاب، ولو كان من النفي لألغيت: ﴿إِلَّا﴾ في الإعراب، فهي في الإيجاب مسلطة، وفي النفي ملغاة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/669.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التوبة: هي الندم الذي يقع موقع التنصل من الشيء، وذلك بالتحسر على مواقعته والعزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة، واعتبر قوم ترك المعاودة على مثله في القبح، وهذا أقوى لأن الأمة أجمعت على سقوط العقاب عند هذه التوبة، وفيما عداها خلاف.
ب. إصلاح العمل: هو إخلاصه من قبيح ما يشوبه.
ج. التبيين: هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التمييز، من البين الذي هو القطع.
2. اختلف في المعني بالآية:
أ. قيل: اليهود والنصارى، مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وزيد بن التابوه، وغيرهم من علماء النصارى، الذين كتموا أمر محمد ونبوته، وهم يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل مثبتا فيهما، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: إنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله، وهو اختيار البلخي، وهو الأقوى لأنه أعم فيدخل فيه أولئك، وغيرهم.
3. ثم حث الله سبحانه على إظهار الحق وبيانه، ونهى عن إخفائه وكتمانه، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ أي: يخفون.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾:
أ. قيل: أي من الحجج المنزلة في الكتب ﴿وَالْهُدَى﴾ أي: الدلائل، فالأول: علوم الشرع، والثاني: أدلة العقل، فعم بالوعيد في كتمان جميعها.
ب. وقيل: أراد بالبينات: الحجج الدالة على نبوته عليه السلام، وبالهدى: ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع.
ج. وقيل: البينات والهدى هي الأدلة، وهما بمعنى واحد، وإنما كرر لاختلاف لفظيهما.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: يعني في التوراة والإنجيل من صفته عليه السلام ومن الأحكام.
ب. وقيل: في الكتب المنزلة من عند الله.
ج. وقيل: أراد بقوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾: الكتب المتقدمة، وبالكتاب: القرآن.
6. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله﴾ أي: يبعدهم من رحمته بإيجاب العقوبة، لأنه لا يجوز لعن من لا يستحق العقوبة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾:
أ. قيل: للملائكة والمؤمنون، عن قتادة والربيع وهو الصحيح لقوله سبحانه: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.
ب. وقيل: دواب الأرض وهوامها، تقول: منعنا القطر بمعاصي بني آدم، عن مجاهد وعكرمة.
ج. وقيل: كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس، عن ابن عباس.
د. وقيل: إذا تلاعن الرجلان، رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها واحد منهما، رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله، عن ابن مسعود.
8. سؤال وإشكال: كيف يصح ذلك على قول من قال المراد باللاعنين البهائم، وهذا الجمع لا يكون إلا للعقلاء؟ والجواب: لما أضيف إليها فعل ما يعقل، عوملت معاملة من يعقل، كقوله سبحانه: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾، وإنما أضيف اللعن إلى من لا يعقل:
أ. قيل: لأن الله يلهمهم اللعن عليهم، لما في ذلك من الزجر عن المعاصي، لأن الناس إذا علموا أنهم إذا عملوا هذه المعاصي استحقوا اللعن حتى إنه يلعنهم الدواب والهوام، كان لهم في ذلك أبلغ الزجر.
ب. وقيل: إنما يكون ذلك في الآخرة، يكمل الله عقولها فتلعنهم.
9. في هذه الآية دلالة على:
أ. أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره، من أعظم الكبائر.
ب. وأن من كتم شيئا من علوم الدين، وفعل مثل فعلهم، فهو مثلهم في عظم الجرم، ويلزمه كما لزمهم الوعيد، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)
ج. وجوب الدعاء إلى التوحيد والعدل، لأن في كتاب الله تعالى ما يدل عليهما، تأكيدا لما في العقول من الأدلة.
10. ثم استثنى الله سبحانه في هذه الآية من تاب وأصلح، وبين من جملة من استحق اللعنة فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أي: ندموا على ما قدموا ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ نياتهم فيما يستقبل من الأوقات.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَيَّنُوا﴾:
أ. قال أكثر المفسرين: بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: بينوا التوبة، وإصلاح السريرة بالإظهار لذلك، فإن من ارتكب المعصية سرا، كفاه التوبة سرا، ومن أظهر المعصية، يجب عليه أن يظهر التوبة.
ج. وقيل: بينوا التوبة بإخلاص العمل.
12. ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي: أقبل، والأصل في أتوب أفعل التوبة، إلا أنه لما وصل بحرف الإضافة، دل على أن معناه أقبل التوبة، إنما كان لفظه مشتركا بين فاعل التوبة والقابل لها للترغيب في صفة التوبة، إذ وصف بها القابل لها، وهو الله عز اسمه، وذلك من إنعام الله على عباده، لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مفارقة الذنب أن الوصف بها عيب، فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح.
13. ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾ هذه اللفظة للمبالغة، إما لكثرة ما يقبل التوبة، وإما لأنه لا يرد تائبا منيبا أصلا.
14. ﴿الرَّحِيمُ﴾ وصفه سبحانه نفسه بالرحيم عقيب قوله: ﴿التَّوَّابُ﴾ يدل على أن اسقاط العقاب عند التوبة، تفضل من الله سبحانه، ورحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، وأنه غير واجب عقلا على ما يذهب إليه المعتزلة.
15. سؤال وإشكال: قد يكون الفعل الواجب نعمة إذا كان منعما بسببه كالثواب والعوض لما كان منعما، بالتكليف وبالآلام التي تستحق بها الأعواض، جاز أن يطلق عليها اسم النعمة؟ والجواب: إن ذلك إنما قلناه في الثواب والعوض ضرورة، ولا ضرورة هاهنا تدعو إلى ارتكابه.
16. موضع: ﴿الَّذِينَ﴾: نصب على الاستثناء من الكلام الموجب، ومعنى الاستثناء: الاختصاص بالشيء دون غيره، فإذا قلت: جاءني القوم إلا زيدا، فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجئ، وإذا قلت: ما جاءني إلا زيد، فقد اختصصته بالمجئ، وإذا قلت: ما جاءني زيد إلا راكبا، فقد اختصصته بهذه الحالة دون غيرها من المشي والعدو وغيرهما.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/442.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التّوراة من البيّنات والهدى، فالبيّنات: الحلال والحرام والحدود والفرائض، والهدى: نعت النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾، قال مقاتل: لبني إسرائيل.
2. في الكتاب قولان:
أ. أحدهما: أنه التّوراة، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: التّوراة والإنجيل، قاله قتادة.
3. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الكاتمين ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ قال ابن قتيبة: أصل اللعن في اللغة: الطّرد، ولعن الله إبليس، أي: طرده، ثم انتقل ذلك فصار قولا، قال الشّمّاخ وذكر ماء:
çذعرت به القطا ونفيت عنه...مقام الذّئب كالرّجل اللّعينé
أي: الطّريد.
4. في اللاعنين أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ المراد بهم: (دوابّ الأرض)، رواه البراء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول مجاهد، وعكرمة، قال مجاهد: يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم.
ب. الثاني: أنهم المؤمنون، قاله عبد الله بن مسعود.
ج. الثالث: أنهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبو العالية، وقتادة.
د. الرابع: أنهم الجنّ والإنس وكلّ دابّة، قاله عطاء.
5. هذه الآية توجب إظهار علوم الدّين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدلّ على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله، وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنّه قال إنّكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والله الموعد، وايم الله: لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحدا بشيء أبدا، ثمّ تلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾.. إلى آخرها.
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾، قال ابن مسعود: إلّا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبيّنوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم.
7. ذهب قوم إلى أنّ الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس بنسخ، لأنّ الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التّخصيص دون النّسخ، ومما يحقّق هذا أنّ النّاسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه.
__________
(1) زاد المسير: 1/128.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ قولان:
2. أحدهما: أنه كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين، وهو أقرب إلى الصواب لوجوه:
• أحدها: أن اللفظ عام والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين لا يقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
• ثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف.
• ثالثها: أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، وعن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ فحملت الآية على العموم، وعن أبي هريرة قال لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة، وتلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾
3. الثاني: أنه ليس يجري على ظاهره في العموم، واختلفوا:
أ. من هؤلاء من زعم أنه في اليهود خاصة قال ابن عباس: إن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن الأحكام، فكتموا، فنزلت الآية.
ب. وقيل: نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والسدي والأصم.
4. احتج من خص الآية بأهل الكتاب، أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأما القرآن فإنه متواتر، فلا يصح كتمانه.. وهذا غير صحيح، فالقرآن قبل صيرورته متواتراً يصح كتمانه، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه، وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية.
5. الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه(2).، وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً، فلما كان ما أنزله الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان، كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان، إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها، وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر، لأن الكتمان مما يشق على النفس.
6. هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187] وقريب منهما قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 174] فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيهاً للناس وزاجرة عن كتمانها، ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122] وروى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار).
7. ﴿مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ المراد كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دون أدلة العقول، وقوله تعالى: ﴿وَالْهُدَى﴾ يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية، لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل، فإن قيل: فقد قال ﴿وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ فعاد إلى الوجه الأول قلنا: الأول هو التنزيل و الثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
8. لما دل الكتاب على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب فكان كتمانه داخلًا تحت الآية، فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجاً إليها ثم تركها أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم.
9. هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين، وهذا لأنه إذا أظهر البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوماً، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى.
10. من الناس من احتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد، وقال: دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجباً وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ [البقرة: 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
11. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان ومأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟ والجواب: هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء فلا يكون خبرهم موجباً للعلم.
12. احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذاً للأجرة على أداء الواجب وأنه غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 174] وظاهر ذلك بمنع أخذ الأجرة على الإظهار وعلى الكتمان جميعاً لأن قوله: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 174] مانع أخذ البدل عليه من جميع الوجوه.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن الأحكام.
ب. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين، والثاني: ما في القرآن.
14. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب، أما قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فيجب أن يحمل على من للعنة تأثير، وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة، ويؤكده قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: 161] والناس ذكروا وجوهاً أخر:
أ. أحدها: أن اللاعنين هم دواب الأرض وهوامها، فإنها تقول: منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن مجاهد وعكرمة، وإنما قال ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ ولم يقل اللاعنات لأنه تعالى وصفها بصفة من يعقل فجمعها جمع من يعقل كقوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]، و﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: 18]، و﴿قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ [فصلت: 21]، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: 33].
ب. ثانيها: كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس.
ج. ثالثها: أن أهل النار يلعنونهم أيضاً حيث كتموهم الدين، فهو على العموم.
د. رابعها: قال ابن مسعود: إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه وتعالى.
هـ. خامسها: عن ابن عباس: إن لهم لعنتين: لعنة الله، ولعنة الخلائق، قال وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل: ما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن ربك؟ فيقول: ما أدري فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه، ويقول له الملك: لا دريت ولا تليت، كذلك كنت في الدنيا.
و. سادسها: قال أبو مسلم: ﴿اللَّاعِنُونَ ﴾ هم الذين آمنوا به، ومعنى اللعن منهم: مباعدة الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه.
15. دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، ويدل على أن أحداً من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلًا في الآية(2)..
16. سؤال وإشكال: كيف يصح اللعن من البهائم والجمادات؟ والجواب: على وجهين:
أ. الأول: على سبيل المبالغة، وهو أنها لو كانت عاقلة لكانت تلعنهم.
ب. الثاني: أنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه.
17. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ لما بين الله تعالى عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال، فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم، ودخلوا في أهل الوعيد، وقد ذكرنا أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لا لغرض سواه، لأن من ترك رد الوديعة ثم ندم عليه لأن الناس ذموه، أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً، وكذلك لو عزم على رد كل وديعة، والقيام بكل واجب، لكي تقبل شهادة، أو يمدح بالثناء عليه لم يكن تائباً، وهذا معنى الإخلاص في التوبة.
18. ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلًا لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة.
19. ثم بين ثالثاً أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان، وهو البيان وهو المراد بقوله: ﴿وَبَيَّنُوا﴾ فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي.
20. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم أن الآية تدل على أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصح، لأن قوله: ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ عام في الكل، والجواب عنه: أن اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده.
21. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم أن الآية تدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلًا، لأنه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ولو كان كذلك واجباً لما حسن هذا المدح.
22. معنى: ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أقبل توبتهم وقبول التوبة يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها.
23. سؤال وإشكال: هلا قلتم أن معنى ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما تقولون في قبول الطاعة، والجواب: الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب، لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها، وليس كذلك التوبة لأنها موضوعة لإسقاط العقاب، وهو الغرض بفعلها، وإن كان لا بد من أن يستحق بها الثواب إذا لم يكن مخطئاً.
24. معنى قوله: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾ القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب، ومعنى الرحيم عقيب ذلك: التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده، يقبل توبتهم بعد التفريط العظيم منهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/140.
(2) الكلام هنا للقاضي.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون، واختلفوا من المراد بذلك:
أ. فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد كتم اليهود أمر الرجم.
ب. وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته.
2. هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة في قوله: (لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا)، وبها استدلّ العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام.
3. تحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره، وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث، أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك، يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها)، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير)، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله، وقد قال سحنون: إن حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة، قال ابن العربي: والصحيح خلافه، لان في الحديث: (من سئل عن علم) ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله.
4. ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ يعم المنصوص عليه والمستنبط، لشمول اسم الهدى للجميع، وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
5. سؤال وإشكال: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر، والجواب: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم.
6. لما قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: (حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الأخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)، أخرجه البخاري، قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام، قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى.
7. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ الكناية في ﴿بَيَّنَّاهُ﴾ ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى، والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة.
8. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ أي يتبرأ منهم ويبعد هم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾، واصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾:
أ. قال قتادة والربيع: المراد بـ ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ الملائكة والمؤمنون، قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام.
ب. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم، قال الزجاج: والصواب قول من قال: ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.. والصحيح أنه قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ قال: (دواب الأرض)
ج. وقال البراء بن عازب وابن عباس: ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والانس، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع)، وقال ابن مسعود والسدي: (هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى، فهو قوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.
10. سؤال وإشكال: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟ والجواب: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ ولم يقل ساجدات، وقد قال: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾، وقال: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾، ومثله كثير.
11. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم، ولا يكفى في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه.
12. قال بعض العلماء في قوله تعالى: ﴿وَبَيَّنُوا﴾ أي بكسر الخمر وإراقتها، وقيل: ﴿بَيَّنُوا﴾ يعنى ما في التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوب اتباعه، والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/185.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما تقدم أنّ بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحقّ، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم ـ ترغيبا وترهيبا ـ بأنه يشكر من فعل ما شرعه له، ويعلم من أخفاه وإن دقّ فعله وبالغ في كتمانه، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق، إذ كانت هذه كلّها في الحقيقة قصصهم، والخروج إلى غيرها إنّما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين، لأنّ هذا الكتاب هدى؛ وكان السياق مرشدا إلى أنّ التقدير بعد ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾: ومن أحدث شرا فإنّ الله عليم قدير، فوصل به استئنافا قوله ـ على وجه يعمهم وغيرهم ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾ الآية، بيانا لجزائهم، فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوّله من قوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، فكانت البداية خاصة، وكان الختم عاما، ليكون ما في كتاب الله أمرا منطبقا ـ على نحو ما كان أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن تقدّمه من الرسل خلقا ـ لينطبق الأمر على الخلق بدءا وختما انطباقا واحدا، فعمّ كلّ كاتم من الأولين والآخرين.
2. اللعن: الطرد والإبعاد عن الخير، هذا من الله تعالى؛ ومن الخلق: السبّ، والشتم، والدعاء على الملعون، ومشاقّته، ومخالفته، مع السخط عليه، والبراءة منه، والمراد بقوله: ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ كلّ من يصح منه لعن، وقد بيّنه بعد قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: 162]، وقد دلّت الآية على أنّ هذا الكتمان من الكبائر، لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، لأنّ ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلّف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، وبلغ للعنه من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها.
3. وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدّثت شيئا أبدا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 159] الآية، وقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187] الآية.
4. ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ ـ أي عن الكتمان ـ ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ـ أي عملوا صالحا ـ ﴿وَبَيَّنُوا﴾ ـ ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع ـ ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ ـ أي أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم ـ ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/456.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ من اليهود والنَّصارى بالمحو، أو بتبديل غيره به، أو بتفسيره بغير معناه، أو إخفاء لفظه أو محلِّه عن النَّاس؛ والكتم: ترك إظهار الشيء قصدًا مع مسيس الحاجة إليه، وذلك بمجرَّد إخفائه أو بإزالته ووضع شيء آخر موضعه، واليهود لعنهم الله مرتكبون للأمرين.
2. ﴿مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآيات الدَّالات على الرجم، ونعوت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، سمَّاهنَّ آيات لأنَّهنَّ دلائل، وسمَّاهنَّ هدًى لأنَّه يوصل بهنَّ إلى المقصود، وقيل: الهدى الدَّلائل العقليَّة، كقوله تعالى: ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ ولا يأباه الإنزال والكتم؛ لأنَّ العطف حينئذٍ على (مَا)، لا على (الْبَيِّنَاتِ)، ولا مانع من أنْ تظهَر الحجَّةُ العقليَّة لإنسان ويكتمها، إلَّا أنَّه خلاف المتبادر.
3. ﴿من بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾ الكاتمين وغيرهم، ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ التوراة والإنجيل، وقيل: التوراة وغيرها ملحق بها، وهو أولى؛ لأنَّ سبب النُّزول اليهود، وقيل: القرآن، وعليه فالناس أمَّة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، و﴿بَيَّنَّاهُ﴾: أوضحناه فيه، بحيث يكون متبيِّنًا لكلِّ من رآه أو سمعه، والمشهورون بالكتمان اليهود وهم سبب النُّزول.
4. سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموا، فنزلت، وقيل: نزلت في الكاتمين من اليهود والنَّصارى، إلَّا أنَّ خصوص السَّبب لا يدفع عموم الحكم.
5. فالآية تعمُّ مَن كَتَمَ من أهل التوحيد ما لا يجوز له كتمه من أمر الدِّين، قال أبو هريرة: (لولا هذه الآية ما حدَّثتُ أحدًا بشيء)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من سُئل عن علمٍ فكتمهُ جاءَ يومَ القيامةِ مُلجمًا بلجام من نارٍ)، وذلك شامل للنساء، لا يحلُّ لهنَّ الكتم ولا يعذر المسؤول بل يكفر، إلَّا إن علم أنَّه إنْ لم يُجِب سُئِل غيرُه وأجاب.
6. ﴿أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾ يبعدهم عن رحمته ويذيقهم العذاب، مقتضى الظاهر: أولئك نلعنهم ويلعنهم اللاعِنون ـ بالنون ـ إلَّا أنَّه بالياءِ ولفظِ الجلالةِ تفخيمًا للحكم، يبعدهم الله عن رحمته، أو يذمُّهم للملائكة وفي اللوح المحفوظ.
7. ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أي: يتلفَّظون بلعنهم، كلٌّ وكلامه حتَّى الجمادات، وقد علم الله تسبيحها، أو يُدَعُّونَ بإبعادهم عن الرَّحمة، وتلعنهم أجسامهم وأجسام غيرهم من الكفرة والمسلمين، وقيل: الملائكة والثقلان، وقال ابن عبَّاس: غير الثَّقلين، وقال عطاء: الثَّقلان، وقال مجاهد: البهائم حتَّى العقارب والخنافس، إذا أقحطت بذنوب بني آدم، فجمع السلامة للمذكَّر تنزيلٌ لها منزلة العاقل إذْ دعت، أو تعدُّ من العقلاء إذ ذاكَ.
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ﴾ عن الكتمان، ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أنفسهم بالإيمان والعمل الصَّالح، وكتب ما محوا وإزالة ما زادوا أو بدَّلوا، وإرشاد من أضلُّوا، وضمان ما أفسدوا من الأموال بذلك أو أكلوه بلا حلٍّ.
9. ﴿وَبَيَّنُواْ﴾ ما لُعنوا بكتمانه، وهكذا التوبة إصلاح ما فسد بالمعصية ومضادَّتُها، وبيَّنوا توبتهم لمن علم بكتمانهم ليقتدي بهم في الإعلام والتَّوبة ويُعلِمُوا بتوبتهم، وهكذا كلُّ من عصى الله أَعلَمَ بتوبته مَن عَلِمَ بمعصيته إقامةً لشعار الإسلام، وحوطة عن جانبه، ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ مرَّ ذلك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/272.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان علماء اهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة اليه أو السؤال عنه كالبشارات بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة، ويكتمون بعضه بتحريف الكلم عن مواضعه بالترجمة أو النطق أو حمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم (كما فعلوا بلفظ الفارقليط) ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات التي سجلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ قال محمد عبده: هذه الآية عود إلى أصل السياق وهو معاداة النبي ومعاندته من الكفار عامة ومن اليهود خاصة، والكلام في القبلة إنما كان في معرض جحودهم وعدائهم أيضا، وجاء فيه أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وان فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، ولم يذكر هناك وعيد هؤلاء الكاتمين لان ذكر الكتمان ورد مورد الاحتجاج عليهم، وتسلية للنبي والمؤمنين على إيذائهم، ثم عاد هنا فذكره، وهو عبارة عن إنكارهم أخبار أنبيائهم عنه وبشارتهم به صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجعلهم ذلك حجة سلبية على إنكار نبوته، إذ كانوا يقولون: ان الانبياء يبشر بعضهم ببعض ولم يبشروا بأن سيبعث نبي من العرب أبناء اسماعيل، ولم يجئ بيان في كتبهم عن دينه وكتابه، فالله تعالى يقول: انهم يكتمون ما أنزل الله في شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من بعد ما بينه لهم في الكتاب، وهو اسم جنس يشمل جميع كتب الانبياء عندهم.
3. اختلف الناس في صفة هذا الكتمان:
أ. فقال بعضهم انهم كانوا يحذفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم، وهو غير معقول إذ لا يمكن أن يتواطأ أهل الكتاب على ذلك في جميع الاقطار، ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب لظهر اختلاف كتبهم مع كتب اخوانهم في الشام وأوربة مثلا.
ب. وذهب آخرون إلى أن الانكار كان بالتحريف والتأويل وحمل الاوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوته على غيره حتى إذا سئلوا: هل لهذا النبي ذكر في كتبكم؟ قالوا: لا، على أن في كتبهم أوصافا لا تنطبق إلا على نبي في بلاد العرب وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشعيا فانه لا يقبل التأويل إلا بغاية التمحل والتعسف، وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوة المسيح فانهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا انها لغيره، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير.
4. بين الله تعالى في هذه الآية أنهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتأويل، بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والارشاد بضروب التأويل أيضا حتى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه، وذكر جزاءهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ أي الذين كتموا البينات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق، أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحال والاستقبال ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أما لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأما لعن اللاعنين لهم فليس معناه أنه ينبغي أو يطلب لعنهم، وإنما معناه أنهم بفعلتهم هذه موضع لعنة اللاعنين الآتي ذكرهم في الآية الآتية.
5. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ عن الكتمان ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ عملهم بالأخذ بتلك البينات عن النبي ودينه والهدى الذي جاء به، ﴿وَبَيَّنُوا﴾ ما كانوا يكتمونه أو بينوا إصلاحهم، وجاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس، فان بعض الناس يعرف الحق ويعمل به ولكنه يكتم عمله ويسره موافقة للناس فيما هم فيه لئلا يعيبوه، وهذا ضرب من الشرك الخفي وايثار الخلق على الحق، لذلك اشترط في توبتهم اظهار إصلاحهم والمجاهرة بأعمالهم ليكونوا حجة على المنكرين، وقدوة صالحة لضعفاء التائبين.
6. ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي أرجع وأعود عليهم بالرحمة والرأفة، بعد الحرمان المعبر عنه باللعنة، قال محمد عبده: وهذا من ألطف أنواع التأديب الالهي فإنه لم يذكر أنه يقبل توبتهم كما هو الواقع بل أسند الى ذاته العلية فعل التوبة الذي أسنده اليهم، وزاد على ذلك من تأنيسهم وترغيبهم أن قال ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ يصف نفسه سبحانه بكثرة الرجوع والتوبة، للإيذان بالتكرار، كلما اذنب العبد وتاب، حتى لا ييأس من رحمة ربه، إذا هو عاد إلى ذنبه، فاي ترغيب في ذلك أبلغ من هذا وأشد تأثيرا منه لمن يشعر ويعقل؟
7. العبرة في الآية هي أن حكمها عام وان كان سببها خاصا، فكل من يكتم آيات الله وهدايته عن الناس فهو مستحق لهذه اللعنة، ولما كان هذا الوعيد وأشباهه حجة على الذين لبسوا لباس الدين من المسلمين وانتحلوا الرئاسة لأنفسهم بعلمه، حاولوا التفصي منه:
أ. فقال بعضهم: ان الكتمان لا يتحقق الا اذا سئل العالم عن حكم الله تعالى فكتمه، وأخذوا من هذا التأويل قاعدة هي أن العلماء لا يجب عليهم نشر ما أنزل الله تعالى ودعوة الناس اليه وبيانه لهم، وإنما يجب على العالم أن يجيب إذا سئل عما يعلمه.
ب. وزاد بعضهم إذا لم يكن هناك عالم غيره وإلا كان له أن يحيل على غيره.
وهذه القاعدة مسلمة عند أكثر المنتسبين الى العلم اليوم وقبل اليوم بقرون، وقد ردها أهل العلم الصحيح فقالوا: ان القرآن الكريم لم يكتف بالوعيد على الكتمان، بل أمر ببيان هداه للناس، وبالدعوة إلى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوعد من يترك هذه الفريضة وذكر لهم العبر فيما حكاه عن الذين قصروا فيها من قبل كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ الخ وقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ ـ إلى قوله في المتفرقين عن الحق ـ ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وقوله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ ـ إلى قوله في عصيانهم الذي هو سبب لعنتهم ـ ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ الخ فأخبر تعالى انه لعن الامة كلها لتركهم التناهي عن المنكر.
8. نعم ان هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكن لا يكفي في كل قطر واحد كما قال بعض الفقهاء، بل لا بد أن تقوم به أمة من الناس كما قال الله تعالى لتكون لهم قوة ولنهيهم وأمرهم تأثير.
9. ما ورد من تدافع علماء السلف في الفتوى فإنما هو في الوقائع العملية الاجتهادية التي تعرض للناس، لا في الدعوة إلى مقاصد الدين الثابتة بالنصوص وسياجها من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
10. ذهب بعض المؤولين مذهبا آخر هو ان هذا الوعيد مخصوص بالكافرين ترك المؤمن فريضة من الفرائض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستحق به وعيد الكافرين فيلحقه بالكفار، وهذا كلام قد ألفته الاسماع، وأخذ بالتسليم واستعمل في الإفحام والاقناع، فان الذي يسمعه على علاته يرى نفسه ملزما برمي تاركي الأمر بالمعروف والدعوة الى الخير والنهي عن المنكر بالكفر، وذلك مخالف للقواعد التي وضعوها للعقائد فلا يستطيع أن يقول ذلك، ولكنه اذا عرض على الله في الاخرة وعلى كتابه في الدنيا يظهر أنه لا قيمة له، واذا بحثت فيه يظهر لك أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، ودين الله يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشي الهدى، ولا ينبض له عرق ولا ينفعل له وجدان، ولا يندفع لنصرته بيد ولا بلسان، هو هذا الذي اذا قيل له ان فلانا يريد أن يصادرك في شيء من رزقك (كالجراية مثلا) أو يحاول أن يتقدم عليك عند الأمراء والحكام، تجيش في صدره المراجل، ويضطرب باله، ويتألم قلبه، وربما تجافى جنبه عن مضجعه، وهجر الرقاد عينيه، ثم إنه يجد ويجتهد ويعمل الفكر في استنباط الحيل وإحكام التدبير لمدافعة ذلك الخصم أو الايقاع به، فهل يكون لدين الله تعالى في نفس مثل هذا قيمته؟ وهل يصدق أن الايمان قد تمكن من قلبه، والبرهان عليه قد حكم عقله، والاذعان إليه قد ثلج صدره؟
11. يسهل على من نظر في بعض كتب العقائد التي بنيت على أساس الجدل أن يجادل نفسه ويغشها بما يسليها به من الاماني التي يسميها ايمانا، ولكنه لو حاسبها فناقشها الحساب ورجع الى عقله ووجدانه لعلم أنه اتخذ إلهه هواه، وأنه يعبد شهوته من دون الله، وأن صفات المؤمنين التي سردها الكتاب سردا، وأحصاها عدا، وأظهرها بذل المال والنفس في سبيل الله ونشر الدعوة وتأييد الحق ـ كلما بريئة منه، وأن صفات المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كلهم راسخة فيه فليحاسب امرؤ نفسه قبل أن يحاسب، وليتب إلى الله قبل حلول الاجل لعله يتوب عليه وهو التواب الرحيم.
__________
(1) تفسير المنار: 2/49.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعاداتهم إياه، ولا سيما اليهود، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
2. وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم: إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته مع وجودها في سفر التثنية، فقد جاء فيه: وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه، ويكلمهم بكل شيء آمره به، ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة، وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم، وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.
4. حكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس، كما روي في الخبر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وروى أن أبا هريرة قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم، وتلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾ الآية، ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية.
5. لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهي عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقر بنبوته، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
7. في الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/29.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. من بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة، مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضا.
2. كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب، فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدا عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا.. الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة.
3. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها ـ بعد الله ـ من كل لاعن! واللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب، فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان..
4. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.. هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة ـ نافذة التوبة ـ يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه، فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية، وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه، ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ وهو أصدق القائلين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/151.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها ـ على ما يبدو في ظاهر الأمر من بعد الصلة بينهما ـ هو أن الله سبحانه وتعالى يرسل رسله بالبينات والهدى ليكشفوا للناس طريقهم إلى الله، وما يتقربون به إليه، من عبادات ومعاملات، وقد بينت الآية السابقة منسكا من مناسك الحج، وفتحت للناس بابا من أبواب التقرب والزّلفى إلى الله.
2. آيات الله هذه هي ميراث المؤمنين عن أنبيائه، والعلماء هم الأمناء على هذا الميراث الكريم.. وقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوه للناس ولا يكتموا شيئا منه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾.
3. إذا كان أهل الكتاب ـ وخاصة علماءهم ـ قد نقضوا هذا الميثاق، فكتموا ما أنزل الله عليهم، وشوهوا معالم الحق فيه، فكان من المناسب أن يذكّروا في تلك الحال بما هم متلبسون به، وأن يحذّروا، حتى ينتزعوا أنفسهم مما هم فيه، من خلال، إن كان لهم إلى أنفسهم عودة وإلى استنقاذها رغبة!
4. الضمير في قوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ﴾ يعود إلى الاسم الموصول في قوله تعالى ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾ أي من بعد ما بينا هذا المنزل، وجعلناه في كتاب، وهو التوراة والإنجيل.
5. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ وعيد شديد لهؤلاء الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، الذي بيّنه الله لهم في كتبه، واللعنة معناها المقت والطرد من رحمة الله، وأما قوله سبحانه: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ فهو تشنيع عليهم، وتغليظ لجرمهم، وفضح لهم بعرضهم في وجه كل مسبّة يتسابّ بها الناس، ورميهم بكل سوء يرمى به الناس في دنيا الناس.. هكذا بكل لسان، وفى كل مكان وزمان!
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ هو يد رحيمة منعمة، يمدها الله سبحانه لهؤلاء الذين غرقت سفينتهم، وتدافعت بهم أمواج الضلال والفتنة، لتلقى بهم إلى حيث البلاء المبين، والعذاب الأليم، وتلك فرصتهم إن اهتبلوها ومدوا أيديهم إلى الله، وأخلصوا له القول والعمل، كان في ذلك خلاصهم ونجاتهم، ففي رحمة الله متسع لهم، فعلى هؤلاء الذين مكروا بكتاب الله ان يتوبوا، وأن يعدلوا عن طريقهم المعوج الذين ركبوه، وأن يصلحوا ما أفسدوا وما أدخلوا على كتاب الله من تحريف وتبديل، وأن يبينوا ما في كتاب الله من حق، في شأن النبي ورسالته.. هنالك يستقيم طريقهم، وتقبل توبتهم: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
7. انظر في قوله تعالى: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ كم تجد في قول الحق جل وعلا: ﴿أَنَا﴾ من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم الله إليه، ويتجلّى عليهم بذاته؟ وكم تجد في (واو) العطف في قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّا﴾ من قوى الجذب إلى الله لهؤلاء الضالين الظالمين؟ ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ فهم الراجعون إلىّ، الطامعون في رحمتى ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويرحمهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/182.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآية الكريمة عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفا، قال المفسّرون: إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم، وهو يقتضي أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم، ويكون من العام الوارد على سبب خاص، ولا يخصص بسببه، ولكنه يتناول أفراد سببه تناولا أوليا أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية، ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية.
2. مناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الله﴾ [البقرة: 75] إلى قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 101] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله﴾ [البقرة: 114] الآيات، فنوه بإبراهيم عليه السلام وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146] (يريد علماءهم)، ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ﴾ فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾ إلخ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه، وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود، فجملة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ إلخ استئناف كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله، والتوكيد بإنّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر.
3. الكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يخبر به من حادث مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره.
4. عبر في: ﴿يَكْتُمُونَ﴾ بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعنى به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين، ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك.
5. المراد بـ ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾ ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد، والمراد بالكتاب التوراة، و﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلا على أحكام كثيرة، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم، ﴿وَالْهُدَى﴾ هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم.
6. الكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره قال تعالى: ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: 91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق ﴿يَكْتُمُونَ﴾ الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.
7. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ متعلق بـ ﴿يَكْتُمُونَ ﴾، وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان، وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة.
8. اللام في قوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بينا، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتمانا للحق وحرمانا منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.
9. التعريف في ﴿لِلنَّاسِ﴾ للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم.
10. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ وسط اسم الإشارة بين اسم ﴿إِنَّ﴾ وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5]، واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم.
11. اجتمع في الآية إيمان إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة.
12. اللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل، وكذلك القول في قوله: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
13. كرر فعل ﴿يَلْعَنُهُمُ﴾ مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ﴾ [الأحزاب: 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
14. التعريف في ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة، ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187].
15. جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حوريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه: (أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم.. لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب.. فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه.. حينئذ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا.. لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة)، وفي الإصحاح الثلاثين: (ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك) وفيه: (أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة)
16. قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائما بينهم، فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضا يقرؤون التوراة فإذا قرؤوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم، فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقا عرفيا، واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي.
17. إنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفا لأن المنكّر مجهول، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه، ولما كان في صلة ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلا من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقا بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر، وعن ابن عباس: أن كل ما ذمّ الله أهل الكتاب عليه فالمسلمون محذّرون من مثله، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناس أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآية وساق الحديث.
18. العالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرا للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حدثوا الناس بما يفهمون أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله)، وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه، وفي صحيح البخاري أن الحجّاج قال لأنس بن مالك: حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال: وددت أنه لم يحدثه، أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم، قال ابن عرفة في (التفسير): لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في (الإحياء) من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررا فادحا في الناس، وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوما، والفقهاء حاضرون ما اجترؤوا على مخالفة يحيى، فلما خرجوا سألوه لم خصصته بأحد المخيرات، فقال: لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود.. فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم.
19. العالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علما أو يبين شرعا وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معينا بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد، فهذا يجب عليه بيانه وجوبا متعينا عليه إن انفرد به في عصر أو بلد، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا)، وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم، فإنما يجب عليه عينا أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه.
20. ظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة، وهذا يجيء أيضا في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي، وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك، وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب (السنن الأربعة) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها، وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.
21. العهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه.. والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.
22. يجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى: ﴿وَالْهُدَى﴾ حتى يكون ذلك ضابطا لما يفضي إليه كتمان ما يكتم.
23. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ استثناء من ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ أي فهم لا تلحقهم اللعنة، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا﴾ إلخ، وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، وإنما زاد بعده ﴿وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه، ولعل عطف ﴿وَبَيَّنُوا﴾ على ﴿أَصْلَحُوا﴾ عطف تفسير.
24. ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى ﴿الَّذِينَ تَابُوا﴾ فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت، وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضى الله عنهم، وعن ابن مسعود قال رسول الله: (لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)، فجاء في الآية نظم بديع تقديره: (إلّا الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم)، أي أرضى، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/65.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
1. الله تعالى من أول قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ كان كلامه في بنى إسرائيل، وكفرهم بنعم الله تعالى ومخالفتهم لشرائع النبيين الجامعة لرسائل الله تعالى إلى خلقه، وما تخلل ذلك من استقبال القبلة كان ردا على سفاهتهم وغيهم، ثم ما كان يومئ إليه تحويل القبلة من إيذان بفتح مكة، وأن ذلك يحتاج إلى جهاد، فبين سبحانه أن عدة الجهاد الصبر والصلاة، وجاء ذكر الصفا والمروة تبعا لذكر الكعبة وما حولها، ويختم الله تعالى الكلام في أهل الكتاب ببيان أقبح ما كانوا يعملون، وهو كتمان آياته، ويكتبون بدلها بأيديهم ما يسمونه كتاب الله على أنه من عنده سبحانه، وما هو من عنده.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، البينات الأخبار البينة، والأحكام المبينة في الكتاب بعد بيانها، وقد أنزلها الله تعالى في كتبه التي كانت للنبيين السابقين، والهدى هو ما بينه سبحانه من أوامر ومنهيات، فمن كتم البينات الدالة على الرسالات، والأخبار الصادقة عن النبيين، والأحكام الهادية إلى الصراط، فقد كتم علم الله، والكتمان للعلم، إنما يكون حيث تكون الحاجة إلى البيان من قبل أن يكون المقام مقام بيان وتوجيه وإرشاد، فيكون ممن عنده علم كما أنكر اليهود والنصارى ما عندهم من علم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومكة وما حولها، وإبراهيم وأولاده، وكما ينكر العلم من يسأل عنه فلا يجيب، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار)
3. الآية موضوعها كل كتمان لعلم أو هداية، وقالوا: إنها نزلت في اليهود، ولكن حكمها عام يشمل كل كتمان لعلم فيه هداية للناس، فيشمل الذين يعلمون رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يبلغونها للناس، ومن لا يبينون الشرع الإسلامي لأهله، قربوا أو بعدوا، ولمن يجهله، فإنه كما قال على كرم الله وجهه: لا يسأل الجهلاء لم لم يتعلموا، حتى يسأل العلماء لم لم يعلّموا.
4. حكم الله تعالى على الذين يكتمون العلم بقوله تعالت كلماته: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ اللعن الإبعاد والطرد، والنبذ من جماعة الخير، وجماعة الحق، وأولئك إشارة إلى الذين يكتمون العلم، والإشارة إلى موصوف بوصف، إشارة إلى أن الوصف علة الحكم، فكتمان العلم علة للإبعاد عن رحمة الله تعالى، ونبذه من الناس، ولعن الوجود كله، واللاعنون تشمل الملائكة والجن والإنس، وكل من يسبح بحمد الله تعالى، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء)، وهذا إذا بين العلم وذكره للناس وهدى من ليس عنده علم، فإذا كتمه لعنه كل شيء لعنته الملائكة، ولعنه الناس، ولعنه كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فاللعن عند الكتمان جزاء، هو نظير الاستغفار عند البيان.
5. استثنى الله تعالى من هؤلاء الملعونين الذين يبينون من بعد الكتمان، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ التوبة هي الإقلاع عن الذنب، والشعور بالندم، والعزم المؤكد على ألا يعود إليه من بعد، وإذا كان الذنب بالترك عمل، وإذا كان الذنب بالعمل ترك، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ فتكون التوبة بالبيان والتبليغ؛ ولذلك قال تعالى (وبينوا) أي أكدوا بفعل نقيض ما ارتكبوا.
6. ﴿وَأَصْلَحُوا﴾، أي تركوا الإفساد واتجهوا إلى الإصلاح، وعمارة الوجود، ونشر الخير بين الناس وإرشادهم إلى أقوم السبل في هذه الحياة، وفى ذلك إشارة إلى أمرين جليلين:
أ. أولهما: أن كتمان العلم فيه فساد في الأرض؛ لأنه يجعل الناس في متاهة من الباطل فتنقلب الأوضاع، ويختلط الحق بالباطل، ولا يعرف الناس سبيلا للهداية، وتسد مسالك الخير؛ إذ لا هادى إلا أن يرحم الله عباده بها، ويرشدهم إليها.
ب. ثانيهما: أن بيان الخير والحق هو الإصلاح في هذا الوجود فلا سلامة يسكت فيها الحق، وينطق فيها الباطل، وقد لعن بنو إسرائيل لسكوتهم عن البيان في وقت الحاجة إليه، وقد قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة] وكما قالت الحكمة: السكوت عن الحق نطق بالباطل، والساكت عن الحق ناطق بالباطل.
7. جزى الله تعالى التائبين العاملين المؤكدين لتوبتهم بالبيان للحق والإصلاح بأنه يقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
8. هنا التفات من الإخبار إلى التكلم، فالله تعالى أخبر عنهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ إلى آخر الآية، ثم التفت من الإخبار إلى التكلم عند الجزاء، وكذلك الأمر في أكثر البيان يكون ذكر المعاصي والتوبة منها بالإخبار أو الخطاب؛ ويكون الجزاء من الله تعالى بضمير المتكلم تربية للمهابة، والإشراق في النفس، والإشعار بالرضا، وإن قبول التوبة أحب إلى العاصي التائب من كل ما في الوجود، وهو رفع له من ذلة الذنب وخسته إلى رفعة الحق وعزته؛ ولذا قال عزّ من قائل: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ الإشارة إلى الموصوفين بالتوبة الذين بينوا ما كتموا وأقاموا الإصلاح مكان الإفساد، وكما قلنا وكررنا الإشارة إلى الموصوف بيان أن العلة هي الوصف، فقبول التوبة سببه التوبة النصوح، والعمل على نقيض المعصية وما ترتب عليها.
9. ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ معناها أرجع عليهم بالقبول والجزاء، فكما أنهم رجعوا إلىّ من تيه المعصية أرجع بقبول التوبة وغفران الذنوب، ثم قال عزّ من قائل: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي كثير قبول التوبة لأنى رحيم بعبادي، وإن كان الناس لا يذنبون أتيت بمن يذنب لأقبل توبته كما ورد في معنى الأثر.
10. إن هاتين الآيتين تدلان على وجوب بيان الهادي إلى الرشاد، كما ورد في الأثر، وإن تبليغ العلم يجب أن يكون على علم بسياسة البيان بأن يبين للناس ما يطيقون، ويتدرج من اليسير، حتى يكون العسير سهلا يسيرا، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حدث الناس بما يفهمون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله!؟)، ويجب بيان الحق الذي لا زيغ فيه، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها، فتظلموها)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا المعنى: (لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير)، وفق الله العلماء للنطق بالحق وألا يفتحوا باب التأويل لذوى السلطان حتى لا يضعوا الدر في أعناق الخنازير.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، ظاهر هذه الآية انها مستأنفة لا ترتبط بما قبلها.. ومحصل المراد منها ان كل من علم بحكم من أحكام الدين الذي جاء بيانه في كتاب الله، أو في سنة رسول الله، أو في حكم العقل وكتمه فهو ملعون عند الله وأهل السماء والأرض.
2. أشار الله الى حكم العقل بلفظه (الهدى).. قال صاحب مجمع البيان: البينات هي الأدلة الشرعية، والهدى الدلائل العقلية.
3. لا يختص اللعن على الكتمان بأهل الكتاب فقط، بل يشمل كل من كتم الحق، لأمور:
أ. ان اللفظ لم يقيد بشيء.
ب. لو افترض ان مورد نزول الآية ما فعله أهل الكتاب من تحريف التوراة والإنجيل فان المورد لا يخصص الوارد على حد تعبير الفقهاء، وهم يعنون بذلك ان الحادثة الخاصة لا تقتضي تخصيص اللفظ العام.
ج. قد ثبت في علم الأصول ان ترتب الحكم على الوصف مشعر بأن الوصف علة له، وقد ترتبت اللعنة هنا على الكتمان من حيث هو، فيكون عاما لكل كتمان.
د. وجاء في الحديث: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار.. واتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن تعليم الجاهل احكام دينه الضرورية واجب كفاية على كل عارف بها، فان فعل البعض سقط عن الكل، وان ترك الكل استحقوا جميعا العقاب.
4. معنى اللعن من الله سبحانه طرد الملعون من رحمته، ومعناه من الملائكة والناس الدعاء عليه بالطرد من رحمة الله.
5. ان مسؤولية البالغ العاقل أمام الله سبحانه تقاس بوصول التكليف اليه، ومعرفته به، ولا أثر لمجرد التكليف في نفسه، ولبيانه إذا لم يصل الى المكلف.. فان عدم وصول البيان تماما كعدمه من الأساس.. أجل، يجب على المكلف أن يبحث وينقب عن البيان ودليل الحكم في مظان وجوده، ويسأل عنه أهل الاختصاص في الدين والشرع.. ولا يجوز له أن يقصر ويهمل، ثم يعتذر بالجهل، لأن المقصر تماما كالعامد، بل هو هو، لأنه تعمد عدم البحث والدرس.. فإذا بحث مجدا، ولم يظفر بشيء فهو غير مسؤول، حتى ولو كان البيان موجودا في الواقع.
6. هذه الحقيقة من أولى البديهيات العقلية، وأي عاقل يعاتب غيره على أمر يجهله من غير تقصير! وقد أجمع الفقهاء كلمة واحدة على هذا المبدأ، وأقره الشرع في العديد من الآيات والروايات، فمن الآيات ما نحن بصددها: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾، والآية 15 من الاسراء: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، ومن الروايات قول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع عن أمتي ما لا يعلمون)
7. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾، أي ان الذين يكتمون الحق ملعونون إلا من تاب وندم على ما فرط، وأصلح سريرته بالإخلاص في توبته عازما على عدم العودة الى المعصية، وان يبين صراحة ما كان قد كتمه من قبل.. فان مجرد ندم السارق لا يكفي في توبته ما لم يرجع الحق إلى أهله.
8. ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، التواب من صفات الله تعالى، ومعناه القابل توبة من تاب، وهو مبالغة في القبول، واقترن الرحيم بالتواب للتنبيه على ان السبب في قبول التوبة عمن أساء هو رحمته تعالى بعباده.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/247.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، الظاهر أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإلهي من المعارف والأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بينات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان وهو الإخفاء ـ أعم من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ﴾، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس، لا لهم فقط، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام، فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم.
3. كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم هو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلا فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول، ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة وبين عدم العلم به، فقال: ﴿فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، وقال: ﴿لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾
4. قوله تعالى: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ يفيد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناشئ عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول ببغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتى أن الله عرّف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
5. تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ الآية، مبتنية على قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ إلخ.
6. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللعن من الله، واللعن من كل لاعن، وقد كرر اللعن لأن اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ ـ إلى قوله ﴿أَجْمَعِينَ﴾ الآية فإن الظاهر أن قوله: ﴿إِنَّ﴾ للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾.
7. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ الآية استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين وإلا فلم يتوبوا بعد لأنهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.
8. في تفسير العياشي، عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام قال قلت له: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ الآية، قال نحن نعنى بها ـ والله المستعان ـ إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له ـ أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.. وعن الباقر عليه السلام في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.. وعن محمد بن مسلم، قال عليه السلام: هم أهل الكتاب.. كل ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلا فالآية مطلقة، وفي بعض الروايات عن علي عليه السلام: تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.
9. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، قال نحن هم، وقد قالوا: هوام الأرض.. هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، فإنهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، والقائلون صوابا، وقوله: وقالوا: هوام الأرض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربما نسب في بعض الروايات إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
10. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾، في علي.. وهو من قبيل الجري والانطباق.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/389.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ربما يكون المقصود بهؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله، أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصة، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التفاسير المتنوعة، كما عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، ولكن الآية لا تتجمد عند النماذج التي نزلت فيهم أو انطلقت منهم، لأن أسباب النزول تعتبر منطلقا للفكرة من خلال النموذج الحيّ في عصر نزول الآية، لتتحرك الفكرة من خلال الواقع الذي يقتحم على الناس حياتهم في نطاق المشكلة الحية البارزة.
2. في ضوء ذلك، نقرّر أن الآية واردة لتقرير المبدأ العام الشامل لكل الناس الذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيّنات، وسبل الهدى، في ما بيّنه الله للناس في كتابه، سواء كان من الكتب الأولى التي أنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، أو كان المراد به الكتاب الأخير الذي هو القرآن، فإن الإنسان الذي يملك المعرفة يحمل مسئوليتها أمام الله بأن يبينها للناس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها، لأن في ذلك إخفاء للحقيقة، وكتمانا للرسالة، مما يوجب وقوع الناس في الضلال أو انحرافهم عن خط الحق وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة، وهذا مخالف للسنّة الإلهية التي درجت على إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، ليفتحوا عيون الناس وقلوبهم على الحقيقة، وليخططوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم.
3. لمّا كانت أعمار الأنبياء محدودة، وكانت وسائل وصول الرسالات والكتب السماوية مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تتحرك فيها الرسالات، كان لزاما على أتباع الأنبياء والرسالات أن يحملوا هذه الأمانة التي حملها الأنبياء، ويبلّغوها من جيل إلى جيل لتتصل الحلقات في سلسلة واحدة، ولترتكز المراحل المتعددة على أساس خطة ثابتة ممتدة، ولتتحرك الحياة في خطوات الرسالات خطوة خطوة، ولولا ذلك لماتت الرسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الصدفة بانطلاقة مصلح أو متحمس تدفعه نزعته الإصلاحية أو حماسته الإيمانية إلى حمل الرسالة من جديد، وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الدالّة على نبوّة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى كل الحقائق العقيدية والشرعية والمنهجية، التي أراد الله للناس أن يعتقدوها، أو يعملوا بها، أو ينفتحوا عليها، مما يمثل صلاح دنياهم وآخرتهم، ﴿وَالْهُدَى﴾ وهو الخط الذي يمثل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان وانفتاحها على الخط المستقيم، الذي أنزله الله على رسله ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾، وهو التوراة والإنجيل، وقيل: في الكتب المنزلة من عند الله الشاملة للقرآن، فإن القضية المطروحة لدينا هي أن الوحي يبيّن الحقيقة للناس ليحملوها ويبلغوها إلى من حولهم ومن بعدهم حتى تنتشر في الوجدان العام للناس من جيل إلى جيل، لأن الله لم ينزل وحيه لجماعة معينة أو لمرحلة معينة، بل أنزله للحياة كلها في كل زمان ومكان.
5. لا معنى لأن تكون القضية خاضعة لسؤال السائلين وفحص الباحثين، لأن الناس قد يخضعون لغفلة مطبقة أو لتوجيه سيّئ يبعد التفكير عن مساره الطبيعي بما يثير من قضايا أو يواجه من علامات الاستفهام، ولهذا فإننا نعتقد أن مسئولية العلماء بالله وبشريعته الإسلامية كبيرة جدا في مجالات التبليغ الإسلامي، تبعا للحجم الذي يمثلونه في المعرفة العلمية وفي المساحة الإعلامية التي يملكونها في حياة المجتمع، وفي القوّة الاجتماعية التي يستطيعون أن يستخدموها في مجال الدعوة إلى الله، ولا سيما في الحالات التي يتعرض فيها الفكر الإسلامي أو الشريعة الإسلامية للخطر من قبل أعداء الله، فإن الاستسلام للاسترخاء الفكري والعملي الذي يغريهم بالبحث عن المبررات للتقاعس عن الانطلاق، ولكتمان الحق عمن يحتاجه من الجاهلين والغافلين، يعتبر خيانة للإسلام وللمسلمين، ومصداقا لقوله تعالى في هذه الآية، ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ وذلك بأن يبعدهم عن رحمته ويطردهم من ساحة رضوانه.
6. ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ بالدعاء عليهم بإبعاد الله لهم عن الرحمة، لأن ذلك هو الذي تقتضيه خيانتهم لأمانة المعرفة الرسالية من خلال ما توحيه من ابتعادهم العملي عن خط المسؤولية ورغبتهم عن مواقع رضوانه، واستهانتهم بالرسالة التي يريد الله لها الانتشار والشمول في الناس جميعا، وقد يؤكد ذلك الحديث الشريف المأثور: (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه وإلا فعليه لعنة الله)، وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: (قرأت في كتاب علي عليه السّلام: إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل)، وجاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، وهو قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
7. جاءت الآية الثانية لتوحي للسائرين في هذا السبيل بالتراجع عن هذا الخط المنحرف وبالعودة إلى الله والتوبة عن هذا الخطأ الكبير، وذلك بالسير من جديد في طريق الإبلاغ والدعوة والبيان، ولتعرّفهم أن الله يتقبل التائبين الصالحين المصلحين، فيقبل توبتهم ويجزل ثوابهم على العمل الصالح الجديد، لأنه التوّاب الذي لا يحرم أي تائب من قبول التوبة، ولا يمنع أحدا من رحمته التي سبقت غضبه وأحاطت بكل شيء.
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ وأنابوا إلى الله، وغيّروا، وبدّلوا، وبدأوا بحمل الرسالة والدعوة إليه تعالى، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أمرهم في سرّهم وعلانيتهم، فكان الصلاح في النية والعمل هو الطابع الجديد للحياة التي يعيشونها، ﴿وَبَيَّنُوا﴾ للناس الحقائق الإلهية التي كتموها وانطلقوا من جديد في خطوة تصحيحية ليكونوا الدعاة إلى الله، الأدلّاء على دينه، القادة إلى سبيله، ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ فأغفر لهم ما أسلفوه من الذنوب، ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾ على المذنبين ﴿الرَّحِيمُ﴾ للخاطئين المنيبين.
9. وهكذا نقف في هاتين الآيتين على أحد المبادئ الإسلامية التي تعتبر المعرفة مسئولية، وليست امتيازا، وتدعو الناس إلى أن يخلصوا لهذه المسؤولية بالعمل على أن تتحرك المعرفة في كل المجالات الإنسانية، فلا إخفاء لحقيقة ولا كتمان لأيّ حق، بل هو الوضوح الكامل من خلال الدعوة الشاملة.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/134.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ الذين يخفونه عن الناس، والكتمان: إخفاؤه عن السائل، وعن الجاهل الذي يتوقع منه الغلط بجهله، وعن الغالط المستمر على غلطه مع علم العالم بذلك، ومن الكتمان: إخفاء ما هو حجة عليه.. وعلى الجملة: إخفاء ما هو مطالب بإظهاره بلسان الحال أو بلسان المقال، ومن الكتمان الامتناع عن تبيين ما أمر بتبيينه شرعاً أو عقلاً، وما أنزل الله: ما أوحاه إلى الرسل والأنبياء.
2. ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ الآيات البينات التي هي حجة لله على المكذبين، كالآيات الدالة على صدق الرسول، ويدخل في ذلك المعجزات بأنواعها، وكلام الله المصدق له، ويدخل في ذلك الكرامات الدالة على صدق الإمام في دعواه الإمامة، وأنه على حق في قيامه ﴿وَالْهُدَى﴾ عام لكل أنواع التعاليم السماوية من تعليم العبادات والمعاملات والعقائد والمواعظ والقصص والأمثال.
3. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ احتجاج على الكاتم بأن الله بينه للناس عامة، فليس له أن يختص به أو يخص من يريد، وفيه دلالة على أن الناس كلهم قد أعدهم الله لفهم ما أنزل، وإلا لكان إنما بينه للإمام كما تزعم الباطنية، أو للشيخ كما يزعم بعض الصوفية.
4. ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ وعيد شديد بأنه يطردهم من رحمته، والطرد من الرحمة قد يكون بمعنى الإبعاد عن التوبة بالخذلان وإرسال الشياطين على الكاتم كما قال تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ دليل على استحقاقهم للعن من كل لاعن.
5. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿تَابُوا﴾ رجعوا إلى الله بالطاعة والإقلاع عن المعاصي، والعزم الصادق على طاعة الله في كل شيء، والندم للعصيان الماضي، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما أفسدوا بالكتمان، وما أفسدوا بغير الكتمان ﴿وَبَيَّنُوا﴾ بينوا ما كانوا كتموا ولم يكتموا في المستقبل.
6. توبة الله عليهم: رجوعه عليهم بالرحمة والمغفرة، وهو ﴿التَّوَّابُ﴾ كثير التوب على عبده، فلا يستبعد منه قبول التوبة ولا هداية العاصي للتوبة إذا لم يصدر منه ما يوجب الإبعاد منها بالخذلان، وإرسال الشياطين، ومن توبته على عبده غير ذلك؛ لأنها عامة كما مر، وهذا الوعيد وهذا الاستثناء كله عام لكل كاتم ولكل تائب، ولو فرض أن الآيتين كان سبب نزولهما أناساً مخصوصين، فالعام لا يقصر على سببه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/220.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآية الكريمة وإن خاطبت كما في أسباب النّزول، علماء اليهود ـ غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكما عاما بشأن كاتمي الحق.
2. الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدّة وتقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، فالله سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق، وبعبارة أخرى، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق، وأية خيانة للعالم أكبر من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل النّاس.
3. عبارة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.
4. الفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن، ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.
5. (البينات) و(الهدى) لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.
6. لما كان القرآن كتاب هداية، فإنه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذبوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
7. عبارة ﴿أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ جاءت بعد عبارة ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ للدلالة على كثرة محبة الله، وسبق عطفه على عباده التائبين، فيقول سبحانه لهؤلاء: إن تبتم، أي عدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضا إلى إغداق الرحمة والمواهب عليكم.
8. من الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضا أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، ف الثاني فيه من التودّد والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.
9. استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعا من التودّد وبيان الارتباط المباشر بين المتكلم والسّامع وخاصة إذا قال عظيم من العظماء: (أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني) حيث يختلف عما لو قال (سنقوم نحن بإنجاز العمل) فالمحبّة الكامنة في الأسلوب الاول غير خافية على أحد.
10. كلمة (توّاب) صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس، عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الالهية الخاصة.
11. كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، وكان لها دوما آثار سيئة عميقة استمرت قرونا واعصارا، ويتحمل تبعة هذه المساوئ دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.
12. لعل القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق، ولم لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.
13. البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها، لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.
14. كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
15. السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن يلبّوا هذه الحاجة.
16. نشر الحقائق التي يعاني منها النّاس لا يتوقف على السّؤال، وما يذهب إليه بعضهم من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال ليس بصحيح، خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث في مواضع أخرى عن تبيين الحقائق أيضا، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الانحرافات، يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾.
17. جدير بالذكر أن إلهاء النّاس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل السياسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق، إذا لم يشمله فرضا تعبير (كتمان الحقائق) فهو مشمول حتما بملاك وفلسفة كتمان الحق.
18. حملت الأحاديث بشدّة أيضا على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من سئل عن علم يعلمه فكتم ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة الى بيانها يحل محل السّؤال، وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب، وسئل الامام أمير المؤمنين عليه السّلام: من شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
19. اللعن في الأصل: الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب والاستياء، فاللعن الإلهي إذن إبعاد الإنسان عن رحمة الله، وعن جميع المواهب المغدقة على عباده، وما قيل بشأن تقسيم اللعن إلى: لعن في الآخرة، وهو العذاب والعقوبة، ولعن في الدنيا وهو سلب التوفيق، إنما هو من قبيل بيان المصداق، لا حصر اللعن بهذين القسمين.
20. كلمة ﴿اللَّاعِنُونَ ﴾ لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين، بل يشمل كل الموجودات التي تتحدث بلسان القال أو الحال، وفي بعض الروايات نرى أن كل الموجودات تدعو لطلب العلم، كقول المعصوم: (وإنّه يستغفر لطالب العلم من في السّماء ومن في الأرض حتّى الحوت في البحر)، وإن استغفرت هذه الموجودات لطالب العالم، فمن الطبيعي أن تلعن كاتمه.
21. كلمة ﴿تَوَّابٌ﴾ صيغة مبالغة من تاب: عاد، وتبين حقيقة انفتاح باب التوبة أمام الإنسان، حتى ولو انخدع الإنسان بوساوس الشيطان بعد توبته، فيستطيع أن يتوب ثانية ويعود إلى الله ويكشف ما عنده من الحق، فالله توّاب، ولا يجوز اليأس من رحمته وعفوه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/458.
67. الكفّار واللعنات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈67⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [البقرة: 161-162] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ لا يؤخرون(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، يعني بالناس أجمعين: المؤمنين(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يقول: خالدين في جهنم في اللعنة، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يقول: لا ينظرون فيعتذرون، كقوله: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥ ـ ٣٦] (3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٧٤٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٢.
(3) ابن جرير: ٢/٧٤٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾:
أ. لعنة الله، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها.
ب. ولعنة الملائكة قوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر: 50] جوابا لما سألوهم من تخفيف العذاب، كقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 49]، وكقوله: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: 107]، فتقول لهم الملائكة: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108]، هذا ما قيل من لعنة الملائكة.
ج. لعنة الناس أجمعين، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة الماء بقوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 50] هذا لعنة الناس.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾:
أ. قيل: لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا، كقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [الأعراف: 53].
ب. وقيل: لا ينظرون ولا يؤجلون.
ج. وقيل: لا يناظرهم خزان النار بالعذاب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/610.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وإنما شرط الموت على الكفر لأن حكمه يستقر بالموت عليه ويرتفع بالتوبة منه.
2. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ واللعنة من العباد: الطرد، ومن الله تعالى: العذاب، ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وقرأ الحسن البصري: والملائكة والنّاس أجمعون بالرفع، وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله وتلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون.
3. سؤال وإشكال: ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، والجواب: عن هذا جوابان:
أ. أحدهما: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس، فغلب حكم الأكثر على الأقل.
ب. الثاني: أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25].
4. في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: لا يخفف بالتقليل والاستراحة.
ب. الثاني: لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له.
5. قوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.
ب. الثاني: لا ينظر الله عزّ وجل إليهم فيرحمهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/216.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكفر ما يستحق به العقاب الدائم عندنا، وعند من خالفنا في دوام عقاب فساق أهل الصلاة انه ما يستحق به العقاب الدائم الكثير، ويتعلق به أحكام مخصوصة، سواء كان الكفر في تشبيه الله تعالى بخلقه أو في تجريده في أفعاله أو الرد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ما كان أعظم منه في القبح.
2. اللعنة: الابعاد من الرحمة على ما بيناه مع إيجاب العقوبة، ويجري ذلك من الناس على وجه الدعاء، ومن الله على وجه الحكم.
3. إنما قال: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وكل كافر، فهو ملعون في حال كفره وإن لم يكن ممن يوافى بالكفر للدلالة على خلودهم في النار إذا ماتوا على غير توبة، وقد دلَّ على ذلك ما بينه في الآية الثالثة.
4. إنما أكد بأجمعين ليرتفع الاحتمال، والإيهام قبل أن ينظر في تحقيق الاستدلال، ولهذا لم يجز الأخفش رأيت أحد الرجلين كليهما، وأجاز رأيتهما كليهما، لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل عليه، أزلت الإيهام للفساد، وإذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد بقولك: أحد الرجلين، لما ذكرت التثنية وذكرت أحداً كنت بمنزلة من ذكر الحكم، والدليل عليه فأمّا ذكر التثنية في رأيتهما، فبمنزلة ذكر الحكم وحده، وواحد الناس إنسان في في المعنى، فأما في اللفظ، فلا واحد له، وهو كنفر، ورهط مما يقال: إنه اسم للجمع.
5. سؤال وإشكال: كيف يلعن الكافر كافراً مثله وهو الظاهر في قوله والناس اجمعين؟ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:
أ. أولها: أنه يلعنه الناس أجمعون يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ وهو قول أبي العالية.
ب. الثاني: قال السدي: انه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين، فيدخل في ذلك لعن الكافر لأنه ظالم.
ج. الثالث: يراد به لعن المؤمنين خصوصاً، ولم يعتدّ بغيرهم كما يقال: المؤمنون هم الناس، وهو قول قتادة والربيع، هذا إذا حمل على أن اللعن في دار الدنيا، لأن من المعلوم أن أهل ملة لا يلعن أهل ملته.
6. حكي عن الحسن أنه قرأ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ رفعاً ويكون ذلك على حمله على معنى يلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون، كما تقول: عجبت من ضرب زيد، وعمرو ـ بالرفع ـ وهذه قراءة شاذة لا يعول عليها لأنّ المعتمد ما عليه الجمهور، ولا يجوز رفع ﴿أَجْمَعِينَ ﴾ وحده هاهنا لأن هذه اللفظة لا تكون إلا تابعة، وليس في الكلام مظهر ولا مضمر تتبعه على ذلك، وإنما الحمل على المعنى بمنزلة إعادة معنى العامل الأوّل، كأنك قلت: ويلعنهم الملائكة والناس أجمعون.
7. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ الهاء في قوله (فيها) عائدة على اللعنة في قول الزجاج، وقال ابو العالية هي عائدة الى النار.
8. معنى قوله ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ على قول أبي العالية رفع لإيهام الاعتذار كما قال ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ لئلا يتوهم أن التوبة والانابة هناك تنفع.
9. الخلود في اللعنة يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: استحقاق اللعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبداً.
ب. الثاني: في عاقبة اللعنة: وهي النار التي لا تفنى.
10. إنما قال: ﴿لَا يُخَفَّفُ﴾ مع أنهم مخلدون، لأن التخفيف قد يكون مع الخلود، بان يقل المعاون ما يفعل، فأراد الله أن يبين أنه يقع الخلود، ويرتفع التخفيف.
11. ﴿خَالِدِينَ﴾ نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم، كقولك: عليهم المال صاغرين، والعامل فيه الاستقرار في عليهم.
12. الخلود: اللزوم أبداً، والبقاء: الوجود وقتين فصاعداً، ولذلك لم يجز في صفات الله خالد، وجاز باق، ولذلك يقال: أخلد الى قوله: أي لزم معنى ما أتى به، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ أي مال اليها ميل اللازم لها، كأنه قبل الخلد فيها، والفرق بين الخلود والدوام أن الدوام: هو الوجود في الأول، ولا يزال، وإذا قيل دام المطر، فهو على المبالغة، وحقيقته لم يزل من وقت كذا الى وقت كذا، والخلود هو اللزوم أبداً.
13. التخفيف: هو النقصان من المقدار الذي له اعتماد.
14. العذاب: الألم الذي له امتداد.
15. الانظار: الامهال قدر ما يقع النظر في الخلاص، واصل النظر الطلب، فالنظر بالعين: الطلب بالعين، وكذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها من الحواس، وتقول أنظر الثوب أين هو.
16. الفرق بين العذاب والإيلام، ان الإيلام قد يكون بجزء من الألم في الوقت الواحد، والعذاب له استمرار من الألم في أوقات، ومنه العذب، لاستمراره في الحلق، والعذبة، لاستمرارها بالحركة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/50.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. اللعنة: الإبعاد من رحمة الله وإيجاب العقوبة له.
ب. الناس واحده إنسان ولا واحد له من لفظه، وهو كقولهم: رهط ونفر.
ج. الخلود والدوام من النظائر، ومنه: جنة الخلد.
د. التخفيف: النقصان من المقدار.
هـ. الإنظار: الإمهال إلا أن الإمهال مبهم، والإنظار مضمر بمقدار، وقد يقع فيه النظر.
2. اختلف في علاقة الآيات الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما ذكر تعالى حال كاتمي الحق وذكر حال التائبين منهم عقب ذلك بذكر حال من يموت من غير توبة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: إنه كلام مستأنف عام في جميع الكفار، ولا يحمل على من تقدم بغير دلالة، خصوصًا وقد دخل تحت الآية الأُولى من مات من غير توبة، عن القاضي.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ يعني ماتوا مصرين على الكفر.
4. سؤال وإشكال: أليس كل كافر ملعونًا في حال كفره، فما معنى هذا الشرط؟ والجواب:
أ. قيل: ليصير الوعيد فيه غير مشروط؛ لأن بالموت يفوت التوبة؛ ولذلك شرطه تعالى، وبَيَّنَ أنهم لو لم يموتوا مصرين لم يكن هذا حالهم، عن القاضي.
ب. وقيل: للدلالة على خلودهم في اللعنة.
5. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من تقدم ذكرهم ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾:
أ. قيل: عقابه.
ب. وقيل: إبعاده من رحمته وإيجاب العقاب له.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي لعن الملائكة عليهم، والناس اجمعين فيه أربعة أقوال:
أ. الأول: يلعنهم الناس أجمعون يوم القيامة، عن أبي العالية.
ب. الثاني: أنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين، فيدخل في ذلك لعن الكافر؛ لأنه ظالم، عن السدي.
ج. الثالث: أراد به المؤمنين كأنه لم يَعتدَّ بغيرهم، كما يقال: المؤمنون هم الناس، عن قتادة والربيع بن أنس.
د. الرابع: المراد به أنهم يستحقون لعن الناس في الدنيا، يعني به الاستحقاق، فلذلك عم الناس، عن أبي علي، وقد روي عن الحسن أنه قال: دخل فيه البر والفاجر.
6. حمل اللعن على الدنيا أولى؛ لأن قوله: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ أراد به في الدنيا، فكذلك المعطوف عليه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي دائمين بلا نهاية ولا انقطاع.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهَا﴾:
أ. قيل: في اللعنة، عن أبي العالية وأبي علي وهو الأوجه؛ لأنه جرى له ذكر.
ب. وقيل: في العذاب والنار؛ لأنه كالمذكور لشهرته في حال المعذبين، ولأن اللعن إبعاد من الرحمة وإيجاب العقاب له، وإيجابه يكون في النار وفي الدنيا.
8. سؤال وإشكال: إذا حمل اللعنة على أنها في الدنيا فما معنى الخلود فيها؟ والجواب: فيه قولان:
أ. قيل: في استحقاق اللعنة.
ب. وقيل: في العذاب.
9. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ التخفيف في العذاب من ثلاثة أوجه:
أ. إذا كان العذاب بالكثرة فتخفيفه بالنقصان.
ب. وإذا كان بعظم الموقع فتخفيفه بأن يخف موقعه.
ج. وإذا كان بالاتصال فتخفيفه بالانقطاع.
10. الآية الكريمة تتناول كل ذلك، وإن كان الأقرب أنه يتناول النقصان؛ لأن الاتصال مفهوم بخالدين فكأنه قيل: يخلدون في العذاب ولا يخفف عنهم شيء بل الذي ينالهم في الأوقات متشابه.
11. سؤال وإشكال: إذا تصور أحدهم حال غيره في مزيد العقاب كان ذلك كالتخفيف، والجواب:
أ. قيل: لا يكون تخفيفًا؛ لأن أبدانهم مستغرقة بالعذاب فهذا التفاوت لا يؤثر في حالهم، عن القاضي، وهو الأصح.
ب. وقيل: إن كل واحد مدفوع إلى عذاب يظنه أعظم.
ج. وقيل: إنه لَمَّا يجدُ في نفسه من العذاب غير مشوب براحة يُعَظِّمُ عذاب غيره ولا يوجب تخفيفًا، وإنما أكده بأنه لا يخفف؛ لأن الخلود لا ينافي التخفيف على ما فسرنا.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾:
أ. قيل: لا يؤخرون في التعذيب، بل عذابهم حاضر متصل.
ب. وقيل: لا ينظرون لاعتذار، كقوله: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ قطعًا للطمع في التوبة، عن أبي العالية.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن العام يجوز أن يريد به الخاص؛ لأنه عم الناس، والمراد به المؤمنون على أصح الأقاويل، ولأن جميعهم لا يلعنون.
ب. جواز التخصيص مع التأكيد؛ لأنه مؤكد بأجمعين وقد أريد به الخصوص.
ج. دوام العقاب، وأنه لا يخفف فيه بوجهٍ، فيبطل قول جهم.
د. جواز لعن الظالم، وقد تعلق بالآية أصحاب الموافاة، وجوابنا أن الآية وردت في كفار تقدم كفرهم وموتهم، ومن هذا حاله إنما يجوز لعنه إذا مات كافرًا لا تائبًا ولا خلاف فيه، والخلاف في الكافر المصر ولم يمت بعد، فعندنا يستحق اللعن في الحال، وعندهم لا يستحقه، وذلك يبطل تعلقهم، وبين أنّ ذلك الذي به يَستحِقُّ اللعنَ هو الكفر لا الموت فكيف يقال: يستحقه بعد الموت، ولا يستحقه قبله!؟، وكيف يضم إلى العلة والسبب ما ليس بعلة ولا سبب؟
هـ. أن اسم الكفر لا يجري على الكفار من حيث الاشتقاق؛ لأنه وصفهم بأنهم كفار بعد موتهم، ولو كان على وجه الاشتقاق لما صح ذلك، وثبت أن الكافر اسم شرعي لمن استحق أعظم العقاب بارتكابه أعظم الإجرام.
14. مسائل نحوية:
أ. القراءة المجمع عليها: ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ بالخفض لأنه مضاف إليه، ويجوز في العربية رفعه حملاً على المعنى؛ لأن المعنى يلعنهم الله والملائكة، ويحكى ذلك عن الحسن، ولا يجوز القراءة بها؛ لأن القراءة سنة يتبع فيها النقل المتظاهر.
ب. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لزوال الإيهام أنه يقع على الأكثر، ولا يجوز رفع: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ في العربية كما جاز رفع الملائكة؛ لأن: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ لا يكون إلا تابعًا، وليس في الكلام مظهر ولا مضمر يتبعه على ذلك، وإنما الحمل على المعنى بمنزلة إعادة العامل، كأنه قيل: وتلعنهم الملائكة والناس أجمعون.
ج. الهاء في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قيل: تعود على اللعنة، عن الزجاج، وقيل: تعود إلى النار، وهو كالمذكور، عن أبي العالية.
د. عامل الإعراب في ﴿خَالِدِينَ﴾ الظرف من قوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ لأن فيه معنى استقرار اللعنة، وهي حال من الهاء والميم في: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ كقولك: عليهم المال صاغرين.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/673.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. واحد الناس: انسان في المعنى، فأما في اللفظ فلا واحد له فهو كنفر ورهط مما يقال إنه اسم للجمع.
ب. الخلود: اللزوم أبدا، البقاء: الوجود في وقتين فصاعدا، ولذلك لم يجز في صفات الله تعالى خالد، وجاز باق، ولذلك يقال: أخلد إلى قوله أي: لزم معنى ما أتى به، ومنه قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض أي: مال إليها ميل اللازم لها، والفرق بين الخلود والدوام أن الدوام هو الوجود في الأزل، والا يزال، فإذا قيل: دام المطر، فهو على المبالغة، وحقيقته لم يزل من وقت كذا إلى وقت كذا، والخلود: هو اللزوم أبدا.
ج. التخفيف: هو النقصان من المقدار الذي له.
د. العذاب: هو الألم الذي له امتداد.
هـ. الإنظار: الإمهال قدر ما يقع النظر في الخلاص، وأصل النظر: الطلب، فالنظر بالعين هو الطلب بالعين، وكذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها من الحواس تقول: أنظر الثوب أين هو أي: اطلبه أين هو.
و. الفرق بين العذاب والإيلام أن الإيلام قد يكون بجزء من الألم في الوقت الواحد، مقدار ما يتألم به، والعذاب: الألم الذي له استمرار في أوقات، ومنه العذب: لاستمراره في الحلق، والعذبة: لاستمرارها بالحركة.
2. لما بين سبحانه حال من كتم الحق، وحال من تاب منهم، عقبه بحال من يموت من غير توبة منهم، أو من الكفار جميعا، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي: ماتوا مصرين على الكفر.
3. إنما قال: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ مع أن كل كافر ملعون في حال كفره:
أ. قيل: ليصير الوعيد فيه غير مشروط، لأن بالموت يفوت التلافي بالتوبة، فلذلك شرط سبحانه وبين أن الكفار لو لم يموتوا على كفرهم، لم تكن هذه حالهم.
ب. وقيل: إن هذا الشرط إنما هو في خلود اللعنة لهم كقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
4. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ أي: إبعاده من رحمته وعقابه.
5. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، وفي الناس من لا يلعن الكافر؟ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: إن كل أحد من الناس يلعن الكافر: إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا، كما قال: ﴿ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا﴾، عن أبي العالية.
ب. ثانيها: إنه أراد به المؤمنين، كأنه لم يعتد بغيرهم، كما يقال المؤمنون هم الناس، عن قتادة والربيع.
ج. وثالثها: إنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين، فيدخل في ذلك الكافر لأنه ظالم، عن السدي، واللعنة إنما تكون من الناس على وجه الدعاء، ومن الله على وجه الحكم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾:
أ. قيل: أي: دائمين فيها، أي في تلك اللعنة، عن الزجاج والجبائي.
ب. وقيل: في النار، لأنه كالمذكور لشهرته في حال المعذبين، ولأن اللعن إبعاد من الرحمة، وإيجاب للعقاب، والعقاب يكون في النار.
7. الخلود في اللعنة، يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: الاستحقاق للعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبدا.
ب. الثاني: في عاقبة اللعنة، وهي النار التي لا تفنى أبدا.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾:
أ. قيل: أي: يكون عذابهم على وتيرة واحدة، فلا يخفف أحيانا، ويشتد أحيانا، ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: لا يمهلون للاعتذار، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ قطعا لطمعهم في التوبة، عن أبي العالية.
ب. وقيل: معناه لا يؤخر العذاب عنهم، بل عذابهم حاضر.
9. مسائل نحوية:
أ. ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾: جملة في موضع الحال، و﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد، وإنما أكد به ليرتفع الإبهام والاحتمال قبل أن ينظر في تحقيق الاستدلال، ولهذا لم يجز الأخفش رأيت أحد الرجلين كليهما، وأجاز رأيتهما كليهما، لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل، أزلت الإبهام للفساد، وإذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد، وأنت لما ذكرت التثنية في قولك أحد الرجلين، وذكرت أحدا، كنت بمنزلة من ذكر الحكم والدليل عليه، فأما ذكر التثنية في رأيتهما، فبمنزلة ذكر الحكم وحده.
ب. ﴿خَالِدِينَ﴾: منصوب على الحال، والعامل فيه الظرف من قوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾، لأن فيه معنى الاستقرار للعنة، وذو الحال الهاء، والميم من ﴿عَلَيْهِمْ﴾ كقولك عليهم المال صاغرين.
ج. ﴿فِيهَا﴾ الهاء يعود إلى اللعنة في قول الزجاج، وإلى النار في قول أبي العالية: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾: جملة في موضع الحال، ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾: كذلك، و﴿هُمْ﴾: تأكيد لضمير في فعل مقدر يفسره هذا الظاهر تقديره: ولا هم ينظرون هم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/444.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1)..
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، إنّما شرط الموت على الكفر، لأنّ حكمه يستقرّ بالموت عليه.
2. سؤال وإشكال: كيف قال والناس اجمعين، وأهل دينه لا يلعنونه، والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: أنّهم يلعنونه في الآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، وقال: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾.
ب. الثاني: أنّ المراد بالنّاس هاهنا المؤمنون، قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل، فيكون على هذا من العامّ الذي أريد به الخاصّ.
ج. الثالث: أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها: لعنة جميع النّاس تغليبا لحكم الأكثر على الأقلّ.
3. في هاء الكناية في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها ترجع إلى النّار، وإن لم يجر لها ذكر فقد علمت.
__________
(1) زاد المسير: 1/129.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ عام في حق كل من كان كذلك، فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك، وقال أبو مسلم: يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين يكتمون الآيات، واحتج عليه:
أ. بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون، ثم ذكر حال التائبين منهم، ذكر أيضاً حال من يموت منهم من غير توبة.
ب. وأيضاً أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة، بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات.
والجواب عنه: أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى، فأما إذا دخلوا تحت الأولى: استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف.
2. لما ذكر الله تعالى في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازماً من غير شرط، ولما كان المعلق على الشرط عدماً عند عدم الشرط؛ علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك.
3. سؤال وإشكال: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25].
ب. ثانيها: قال قتادة والربيع: أراد بالناس أجمعين المؤمنين، كأنه لم يعتد بغيرهم وحكم بأن المؤمنين هم الناس لا غير.
ج. ثالثها: أن كل أحد يلعن الجاهل والظالم لأن قبح ذلك مقرر في العقول، فإذا كان هو في نفسه جاهلًا أو ظالماً وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك، كانت لعنته على الجاهل والظالم تتناول نفسه عن السدي.
د. رابعها: أن يحمل وقوع اللعن على استحقاق اللعن، وحينئذ يعم ذلك.
4. في الآية دلالة(2). على أن على المسلمين لعن من مات كافراً، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه، لأن قوله: والناس اجمعين قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لو جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه، وكذلك السبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح، فإن موت من كان كذلك أو جنونه، لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال به.
5. القائلون بالموافاة احتجوا بهذه الآية فقالوا: علق تعالى وجوب لعنته بأن يموت على كفره، فلو استحق ذلك قبل الموت لم يصح ذلك، فعلمنا أن الكفر إنما يفيد استحقاق اللعن لو مات صاحبه عليه وكذا الإيمان إنما يفيد استحقاق المدح إذا مات صاحبه عليه، ورد المخالفون لهم بأن الحكم المرتب على الذين ماتوا على الكفر مجموع أمور منها اللعن لو مات، ومنها الخلود في النار، وعندنا أن هذا المجموع وهو اللعن وحده، لم قلتم: أنه لا يحصل إلا فيه.
6. القائلون بأن الكفر من الأسماء الشرعية، وما بقي على الوضع الأصلي وهم المعتزلة ، ومن وافقهم، احتجوا بقوله تعالى: ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ والله تعالى وصفهم حال موتهم بأنهم كفار، ومعلوم أن الكفر بمعنى الستر والتغطية، لا يبقى فيهم حال الموت، لأن التغطية لا تحصل إلا في حق الحي الفاهم.
7. الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد، لأنه تعالى قال: والناس اجمعين مع أنه مخصوص على مذهب من قال المراد بالناس بعضهم.
8. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ الخلود اللزوم الطويل، ومنه يقال: أخلد إلى كذا أي لزمه وركن إليه، والعامل في ﴿خَالِدِينَ﴾ الظرف من قوله (عليهم) لأن فيه معنى الاستقرار للعنة فهو حال من الهاء والميم في عليهم كقولك: عليهم المال صاغرين.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾:
أ. قيل: أي في اللعنة، وهو أولى لوجوه:
• الأول: أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر.
• الثاني: أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى.
• الثالث: أن قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلًا في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلًا في الحال، بل لا بد من التأويل؛ فكان ذلك أولى.
ب. وقيل: في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلًا كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]
10. وصف الله تعالى هذا العذاب بأمور ثلاثة:
أ. أحدها: الخلود وهو المكث الطويل عند أهل السنة، ومن وافقهم، والمكث الدائم عند المعتزلة ، ومن وافقهم على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81].
ب. ثانيها: عدم التخفيف، ومعناه أن الذي ينالهم من عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها، لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض.
11. سؤال وإشكال: هذا التشابه ممتنع لوجوه:
أ. الأول: أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب، كان ذلك كالتخفيف منه.
ب. الثاني: أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفاً.
ج. الثالث: أنهم حيثما يخاطبون بقوله: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت.
12. والجواب: بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة، فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت.
13. لما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه، وجب أن يكون دائماً لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوره، وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته، وكلما كانت محنته أعظم، كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الانقطاع أكثر.
14. من صفات ذلك العقاب: قوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280] والمعنى: إن عذابهم لا يؤجل، بل يكون حاضراً متصلًا بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى، وفي الآخرة لا مهلة ألبتة فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108] نعوذ بالله من ذلك.
15. الحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الانقطاع والتخفيف والتأخير.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/143.
(2) الكلام هنا لأبي بكر الرازي.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ الواو واو الحال، قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لان حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمالهم، قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أنى لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني)، فلعنه، وإن كان الايمان والدين والإسلام مآله، وانتصف بقوله: (عدد ما هجاني) ولم يزد ليعلم العدل والانصاف، وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
2. أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داوود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين واهلة، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.
3. ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا، وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به، والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الاخبار عن الله تعالى بلعنهم، لا على الامر.
4. ذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)، فجعل له حرمة الاخوة، وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح، خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين، قال وإنما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) في حق نعيمان، فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة.
5. لعن العاصي مطلقا يجوز إجماعا، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)
6. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أي إبعادهم من رحمته، واصل اللعن: الطرد والابعاد، فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب.
7. قرأ الحسن البصري والملائكة والناس أجمعون بالرفع، وتأويلها: أولئك جزاءهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام زيد وعمرو وخالد، لان المعنى: كرهت أن قام زيد، وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف.
8. سؤال وإشكال: ليس يلعنهم جميع الناس لان قومهم لا يلعنونهم، والجواب: عن هذا ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل.
ب. الثاني: قال السدى: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه.
ج. الثالث: قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾
9. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعنى في اللعنة، أي في جزائها، وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات، و﴿خَالِدِينَ﴾ نصب على الحال من الهاء والميم في ﴿عَلَيْهِمْ﴾، والعامل فيه الظرف من قوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ لان فيها معنى استقرار اللعنة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/189.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحال إلى كفره بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في اللعنة، أو في النار، على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها
2. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال، أي: لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم؛ أو من النظر بمعنى الرؤية أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله: ﴿وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 77].
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/457.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بالكتم أو غيره، ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ اُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ المؤمنين، أو النَّاس مطلقًا، فإنَّ أجساد الكفرة تلعنهم وتلعن أصحابها.
2. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في اللَّعنة، فهم خالدون في مقتضاها وهو النَّار، أو خالدون في النَّار المدلول عليها باللَّعنة، ذكرَ اللعنة أوَّلاً للكاتمين وثانيًا لمطلق الكافرين، أو ذكرها أوَّلاً بمعنى حصولها بالفعل لهم، وثانيًا بمعنى أنَّهم مستحقُّون لها، أو بمعنى أنَّهم يلعن بعضهم بعضًا في الآخرة، أو بمعنى دوامه من حيث إنَّه بالجملة الاسميَّة، وثبوت اللعن في الآخرة فرع على ثبوته في الدُّنيا، أو لعنهم أوَّلاً على الكتم واستثنى من تاب، ولعن ثانيًا من لم يتُبْ تصريحًا بما يُفهمه الاستثناء، وما ذكرته أوَّلاً أولى، وفيه إشارة إلى أنَّ الكتم كفرٌ.
3. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنهُمُ الْعَذَابُ﴾ طرفة عين بالاِنقطاع ولا بالنَّقص منه مع الاِستمرار، والجملة خبر ثان، أو حال من ضمير (خَالِدِينَ)، أو هاء (عَلَيْهِم)، أو مستأنفة.
4. ﴿وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ لا يُمهَلون عن العذاب كما أُمهِلوا في الدُّنيا، من الإنظار، أو لا يؤخَّرون ليعتذروا، من النَّظر بمعنى الانتظار، أو لا يُرحمون، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 77]، بمعنى الرُّؤية الرحميَّة، ففي الأساس أنَّه بمعنى الرَّحمة يتعدَّى بـ (إلى) وبنفسه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/274.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ تقدم في الآية السابقة استحقاق اللعن للكافرين يكتمان الحق، واستثنى منهم الذين يتوبون ثم ذكر في هذه الآية وما بعدها بيان أولئك اللاعنين، وشرط استحقاق اللعن الابدي الذي يلزمه الخلود في دار الهوان، وهو ان يموتوا على كفرهم فأولئك تسجل عليهم اللعنة ويخلدون فيها لا تنفعهم معها شفاعة ولا وسيلة.
2. قال بعض المفسرين: ان المراد بالناس هنا المؤمنون كأن غيرهم ليسوا من الناس، وحجتهم ان حمله على ظاهره وهو العموم لا يصدق على أهل دين أولئك الكفار ومذاهبهم فانهم لا يلعنونهم، قال محمد عبده: وهو احتجاج ضعيف، فان أهل مذاهبهم اذا كانوا لا يلعنون الاشخاص الذين يعرفونهم منهم، فهم اذا شرحت لهم أحوالهم في كفرهم وإصرارهم على غيهم، وإعراضهم عن سعادتهم، وحال الداعي الى الحق معهم، وذكر لهم كيف يشاقونه ويعاندونه، فهم يلعنونهم أو يرونهم محلا للعنة ومستحقين لأشد العقوبة، فان المراد ان هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم الى الموت هم أهل للعنة وموضوع لها من الله ومن عالم الملائكة الروحانيين، ومن الناس أجمعين، فان الكافر من الناس اذا ذكر له الكفر وأهله وعنادهم واستكبارهم عن الحق لعنهم، ولكنه قد يخطئ في حمل صفات الكفر على اصحابها.
3. النكتة في ذكر لعنة الملائكة والناس مع ان لعنة الله وحده كافية في خزيهم ونكالهم، هي بيان أن جميع من يعلم حالهم من العوالم العلوية والسفلية يراهم محلا للعنة الله ومقته، فلا يرجى أن يرأف بهم رائف، ولا أن يشفع لهم شافع، لأن اللعنة صبت عليهم باستحقاق عند جميع من يعقل ويعلم، ومن حرمه سوء سعيه من رحمة الرؤف الرحيم فماذا يرجو من سواه؟
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي ماكثين في هذه اللعنة وما تقتضيه من شدة العذاب، لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا هم ينظرون أي يمهلون من (الانظار) ليتوبوا ويصلحوا، أولا ينظر اليهم نظر مغفرة ورحمة.
5. قالوا ان الخلود في اللعنة عبارة عن الخلود في أثرها وهو النار بقرينة ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ ولا أذكر عن محمد عبده في هذا شيئا، ولكن الكلام يصح على ظاهره وهو أن اللعن بمعنى الطرد فيصح أن يكون الخلود فيه عبارة عن دوامه هو، أي هم مطرودون من رحمة الله تعالى طردا دائما لا يرجى لهم أن يسلموا منه لأن الكفر الذي استحقوه به هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح والجناية على الحق، وتدسية النفس، فمتى مات انقطع عمله وبطل كسبه، فتعذر عليه أن يجلي تلك الغمة، وينيرها تيك الظلمة، وحرم من الرجوع الى الحق، ومن تزكية النفس، فكان خلوده في هذه اللعنة قد نشأ عن وصف لازم له، فهو دائم بدوام ذاته التي هي علته، وامتنع أيضا أن ينظر ويمهل فيه، أو ينظر الله اليه ويزكيه، لأنه لم يكن من شيء خارج عنه، فهو الجاني والمعذب لنفسه، فأي شيء يرجو من غيره؟
__________
(1) تفسير المنار: 2/53.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبديّ الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا، ومن بينهم أهل مذهبه، فإنهم إذا شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه، وكيف يعاند الداعي إلى الحق، رأوه محلا للعن ومستحقا أشدّ العقوبة.
2. السر في التعبير بلعن الملائكة والناس، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم، ومن استحق النكال من الرب الرَؤُوف الرّحيم، فماذا يرجو من سواه من عباده؟
3. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه، ولا يخفف عنهم شيء منه، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة، ويرجع إلى الحق، ويزكى نفسه، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه، فأيّ شيء يرجو من غيره؟
__________
(1) تفسير المراغي: 2/32.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾..
2. ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.. فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون!
3. لم يذكر السياق لهم عذابا آخر غير هذه اللعنة المطبقة؛ بل عدها عذابا لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه، وإنه لعذاب دونه كل عذاب، عذاب المطاردة والنبذ والجفوة، فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية، إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء.. وهذا هو العذاب الأليم المهين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/152.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)..
1. أما الذين أصروا على الكفر وماتوا عليه، دون أن يتطهروا منه بالتوبة والإيمان، فقد ضلّ سعيهم، وساء مصيرهم، ووقع عليهم من ربهم رجس وغضب، ومن الوجود كلّه ـ أرضه وسمائه ـ المقت واللعنة..
2. الضمير في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعود إلى اللعنة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أي هم واقعون تحت هذه اللعنة، خالدين فيها أبدا، لا يخفف عنهم عذابها، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة أبدا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/184.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى، وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيرا في القرآن مرادا به الشرك قال تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10]، وذلك أن المشركين قد قرنوا سابقا مع أهل الكتاب قال تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 105] الآية، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: 118] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عقّب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضا فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 159] من كونه بيانيا أو مجردا.
2. قال الفخر: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، وجعل في (الكشاف) المراد من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ خصوص الذين يكتمون وماتوا على ذلك، وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار، على أنه مستغنى عن ذلك أيضا بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها، واللعنة لا يظهر أثرها إلّا بعد الموت فلا معنى لجعلهما لعنتين، ولأن تعقيبه بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال.
3. إنما قال هنا والناس اجمعين لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة، وعموم (الناس) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد.
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: 32]، ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ [القيامة: 26]، ويجوز أن يعود إلى اللعنة ويراد أثرها ولازمها.
5. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب.
6. الإنظار الإمهال، نظره نظرة أمهله، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلّا الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: 15، 16] وهي بطشة يوم بدر، وقيل: ﴿يَنْظُرُونَ﴾ هنا من نظر العين وهو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر الله إليهم يوم القيامة وهو كناية عن الغضب والتحقير.
7. جيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الثبات والاستقرار بخلاف قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/72.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن أنهى الله تعالى موضوعات أهل الكتاب في هذا الموضع من القرآن، وقد كان فيهم كفران النعم، والنفاق وكثرة العدوان والفساد في الأرض، والعبث بالأحكام، والاستهزاء بآيات الله تعالى، بعد ذلك أخذ يبين أقوال الوثنيين وإثبات وحدانية الله تعالى، وابتدأ القول في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين ماتوا على الكفر، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ﴾
2. ذكر بعض العلماء أن موضوع الآية الكريمة كفار مكة الوثنيون قبل أن يدخلوا في الإسلام، بدليل الكلام بعد ذلك في الوثنية والوثنيين، وبيان الوحدانية ودليل التوحيد من خلق الكون، وهذا غير صحيح، فوصف الكفر يعم المشركين والكتابيين، فالكتابيون كافرون كما قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾ [البينة] ولقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة] ولقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة]، وهذه أوصاف الكفار؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، فهم داخلون في وصف الكفار، والكفر كله ملة واحدة، فلا تفاوت فيهم، ولا فضل لكافر على كافر وليس كفر دون كفر، بل جميعهم في الجحيم على سواء.
3. حكم الله تعالى عليهم الحكم الأبدي إذا ماتوا على الكفر مصرين عليه بعد أن بلغوا بالرسالة فكفروا بها، وماتوا على الكفر بها جاحدين معاندين منافرين معذبين الضعفاء، ومثيرين للبغضاء والأحقاد، حكم الله تعالى عليهم بقوله عزّ من قائل: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ولعنة الله تعالى إبعادهم من رحمته، وألا ينظر إليهم نظرة رضا، ومن تكون حاله كذلك يكون في النار خالدا فيها، ولعنة الملائكة تعذيبهم لهم بأمر الله تعالى، وإبعادهم عن رحمته، ولعنة الناس بنبذهم، والدعاء باللعنة عليهم.
4. الإشارة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾ تعود على الكفار الذين ماتوا مصرين على الكفر قد بلغتهم دعوة الله، وكما قلنا ونكرر الإشارة إلى موصوف فيه إشارة إلى أن علة الحكم الوصف، وهو موتهم على الكفر بعد البيان والإنذار الشديد، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء].
5. ذكر الله تعالى في بيان عذابهم أن عليهم اللعنة، أي أن اللعنة تنصب على رؤوسهم انصبابا وتحيط بهم من فوق رؤوسهم وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، فهم بعداء عن رحمته، وعليهم غضب الله والملائكة والناس أجمعين، وإن تلك اللعنة تنالهم بسبب موتهم على الجحود والإصرار على الكفر.
6. أثار الناس جدلا موضوعه هل تجوز لعنة الكافر وهو حي، فناس لم يجيزوها؛ لأنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه، وجواز اللعنة إنما كانت على الكفار الذين ماتوا على الكفر، ومن كان حيا ترجى توبته، أو تجوز توبته، ومن العلماء من أجاز اللعنة على الحال التي هو عليها، وخصوصا إذا كان ممن يؤذون صاحب الدعوة، ويروى في ذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن عمرو بن العاص، وهو على الكفر، فيروى في ذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أنى لست بشاعر، فالعنه واهجه عدد ما هجاني).
7. اتفق أهل العلم على أن اللعن الذي ذكرته هذه الآية عقاب من الله تعالى، وغضب على الكافر، وجزاء له كجزاء جهنم.
8. أكثر العلماء على أن لعن المسلم لا يجوز ولو كان عاصيا؛ لأنه يخزيه ويذله، وخزيانه وذله يقربه من الشيطان ويجعل للشيطان مدخلا في نفسه، يروى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه أتى بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)
9. بين الله تعالى أنهم خالدون في عذابهم، فقال تعالت كلماته: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ الخلود هو البقاء الدائم الذي لا نهاية له، وكثيرا ما يذكر الخلود موصوفا بالدوام، وبصيغة مؤكدة، وقد انحرف بعض الناس فقال إنهم يبقون في العذاب بمقدار جرمهم الدنيوي وزمانه، وذلك انحراف في الفكر وإن قاله بعض الذين لم يعرفوا بالانحراف.
10. الضمير في ﴿فِيهَا﴾ يعود على اللعنة، وتكون اللعنة من الله تعالى مقتضية الدخول في النار؛ لأنها متضمنة غضب الله تعالى يوم القيامة، وغضب الله تعالى مقترن به عذابه، وإنه عذاب مؤلم مستمر لا يخفف عنهم، ولا ينقطع بل هو مستمر؛ لأن سببه استمر طول حياتهم في الدنيا، ولا ينظرون، وقد أكد الله تعالى أنهم لا ينظرون ولا يؤجلون بذكر ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/484.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، حتى من كفر بالله وجحده يقبل الله توبته إذا تاب وأناب، ويغفر له، ويرحمه، ولا يعذب إلا من مات مصرا على الكفر والمعصية، لأنه، والحال هذه، مستحق للعنة أهل السماء والأرض.
2. سؤال وإشكال: كيف قال الله سبحانه: والناس أجمعين، مع العلم بأن في الناس من لا يلعن الكافر، بخاصة أهل دينه الذين هم على شاكلته؟ والجواب: ان القصد من قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ان من مات على الكفر هو أهل ومحل للعنة أهل الأرض والسماء، سواء ألعنوه بالفعل أم لم يلعنوه، حتى ولو كانوا كفارا مثله فهو أهل للعنتهم، وقد جاء في القرآن الكريم ان الكفار غدا يلعن بعضهم بعضا: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾
3. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، معنى الخلود في اللعنة الخلود في أثرها، وهو النار، قال الرازي: (معنى لا ينظرون انهم إذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون، ويقال لهم: اخسأوا ولا تكلمون)
4. لعن الغير محرم، ومن الكبائر، لأنه إثم وعدوان، تماما كالتعدي على الأموال، وفي الحديث: (ان اللعنة إذا خرجت من صاحبها ترددت، فان وجدت مساغا، وإلا رجعت على صاحبها)، وقد خرج عن هذا المبدأ أصناف أجازت الشريعة لعنهم، وهم:
أ. الكافر، والآيات كثيرة في ذلك، ومنها الآية التي نحن بصددها، أما الأحاديث فقد تجاوزت حد التواتر، منها ما جاء في كتاب أحكام القرآن للقاضي أبي بكر المعافري، فقد ذكر عند تفسير الآية 161 من سورة البقرة ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال اللهم ان عمرو بن العاص هجاني، وقد علم اني لست بشاعر، فالعنه.
ب. الظالم، مسلما كان، أو غير مسلم، لقوله تعالى: ﴿لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾
ج. من كذب على الله ورسوله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.. ومن الكذب على الله سبحانه الحكم بغير ما أنزل.
د. من يسعى في الأرض فسادا.
هـ. من يفتن بين الناس، ويثير النعرات والحزازات.
5. لعن غير هؤلاء محلّ إشكال ونظر.. ومن تجاهر بمعصية غير مكترث تجوز غيبته فيما تجاهر به خاصة.. وبديهة ان جواز الغيبة شيء، وجواز اللعن شيء آخر.. أما ما يستعمله العوام من لعن الحيوان، وما اليه فهو من اللغو الذي يجمل تركه(2)..
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/247.
(2) بل من الحرام الذي يجب تركه، لأنه معصية.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الإنسان، قال تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون ـ وهم الكاتمون لما أنزل الله ـ وجازاهم الله تعالى بقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء ـ وهم العلماء الكاتمون لعلمهم ـ شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظراؤه فيه، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها! وسيجيء في الكلام على قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾، ما يتعلق بهذا المقام إن شاء الله العزيز.
2. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾، أي في اللعنة وقوله: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.
3. في هذه الآيات موارد من الالتفات:
أ. فقد التفت في الآية الأولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾، لأن المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه ـ ولا أعظم من الله سبحانه ـ فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ.
ب. ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، للدلالة على كمال الرحمة والرأفة، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الأمر بنفسه تعالى وتقدس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم.
ج. ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله﴾، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في الالتفات الواقع في الآية الأولى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/389.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي استمروا على الكفر حتى ماتوا كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102] وكما روي أن فاطمة عليها السلام ماتت واجدة على أبي بكر، وهذا استعمال ظاهر، ومنه قول الشاعر:
çفمت ما على من مات حراً نقيصة... ألا إنما النقصان أن تتهضماé
2. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ كأن الملائكة عليهم السلام إنما يلعنون من مات على كفره دون الحي، وعلى هذا فاستغفارهم لمن في الأرض بمعنى طلب قبول توبة التائب وهداية المصر للتوبة، وهذا لعلمهم بشدة العذاب ودوامه، فهم يرغبون في توبة الإنسان إشفاقاً عليه؛ لأنه لو كان يفيده ويدفع عنه العذاب أن يبكي عليه أهل السموات وأهل الأرض رحمة له وإشفاقاً عليه، لكان ذلك حسناً مناسباً لعظم المصيبة عليه، وقد جادل إبراهيم عليه السلام في قوم لوط لهذا المعنى، وما كان عليه السلام مذموماً بذلك؛ بل مدحه الله، ولو كانوا يستغفرون للمصر لا على طلب هدايته للتوبة بل على فرض أنه يموت مجرماً لاستغفروا لمن مات مجرماً ولما لعنوه.
3. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ باقين في لعنة الله، فلا يزالون مطرودين من رحمة الله ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ فقوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ يفيد: أنهم لا يموتون، وقوله: ﴿لَا يُخَفَّفُ﴾ يفيد: أن العذاب باق لا يخفف، وقوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يفيد: أنه لا يؤخر عنهم إنظاراً لهم، نعوذ بالله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/222.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الكفر ـ في نظر الإسلام ـ لا يرتكز على حجّة، بل يمكن أن يخضع في بعض الحالات إلى شبهة طارئة، أو شك سريع مما يمكن معه الوصول إلى قناعة تزيل الشبهة وتذهب بالشك، وذلك من خلال الفكر الهادئ العميق، والحجة العقلية القوية، وفي ضوء ذلك يعتبر الكافرون الذين يستمرون على الكفر حتى يموتوا، من المعاندين المتمردين الذين لا يريدون أن يواجهوا القضية من موقع البحث والتحليل الذي يقود إلى الإيمان، لأنهم لا يشعرون بأهمية قضية الإيمان والكفر في حياتهم.
2. ثم إنها من القضايا التي تتصل بموقف الإنسان من الله خالق الحياة في الكون والإنسان، وبشكر نعمه من خلال السير في خطه المستقيم، وليست من القضايا الطارئة التي تقف على هامش حياة الإنسان، وليست من القضايا الفردية التي تتصل بحياة الإنسان كفرد، بل هي من القضايا العامة التي تبني المجتمع أو تهدمه، مما يجعل من الاستهانة بها دليلا على الاستهانة بالحياة العامة للناس، وفي هذا النطاق، نجد الكافرين بالله يحملون في شخصيتهم الكفر بالنعمة إلى جانب الكفر بالله، ويعيشون اللامبالاة بقضايا الحياة من خلال طبيعة اللامبالاة التي يواجهون بها قضايا الإيمان.
3. من هذا المنطلق، كانت هذه الآية نذيرا للذين يكفرون ولا يتراجعون عن خط الكفر بل يموتون وهم كفار، بأنهم يواجهون اللعنة من الله والملائكة والناس أجمعين، جزاء لما يتضمنه الكفر من الإساءة إلى قداسة الله وقيمة الحياة والإنسان، ولا تكتفي الآية الثانية بهذا المقدار من الجزاء الذي تضمنته الآية الأولى، بل تؤكد خلودهم في النار حيث يلاقون العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم منه شيء، ولا يمكن أن يعطوا مهلة يقدّمون فيها الاعتذار، لأن عظمة الجريمة لا تسمح بذلك.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ من دون حجة على كفرهم، لأن الكفر المتمثل بالجحود والتكذيب لا يملك أيّة حجة علمية أو عقلية، فليس هناك أيّ أساس للنفي الفكري للألوهية أو للرسول، بل كل ما هناك مما قد يحصل لبعض الناس، الشك الذي يمنع الإنسان من أن يدين بدين الحق لعدم تبينه له وثبوته عنده، فيكون حاله حال الذين لا يجحدون بالحق ولا يؤمنون به، وفي ضوء ذلك، كان الكفر المعاند دليلا على إرادة العناد والتمرّد والمواجهة للحق، وهكذا يكون المراد بالكافرين المكذبين المعاندين الذين يتعمدون الإيحاء بواقعية الباطل في خط الكفر، وبطلان الحق في خط الإيمان، كما يعملون على إخفاء ما يعلمونه من الحق إمعانا في التضليل والتخريب والتشويه، وبهذا لا يتحول موقفهم إلى موقف فكري مضاد، بل يتحول إلى موقف عدواني ضاغط على الواقع كله، إيحاء وعملا، الأمر الذي يبلغ فيه مستوى الجريمة التي يستحق صاحبها اللعن الحاسم.
5. ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لأنهم ابتعدوا عن الله فأبعدهم عن رحمته، وانحرفوا عن الحق الذي قامت السماء والأرض عليه، وانطلقت الملائكة في تسبيحها وتقديسها من خلاله، وفطر الناس على السير عليه، والأخذ به، كشرط لسعادتهم في انتظام حياتهم، وتوازن وجودهم، لذلك كانت لعنة الملائكة والناس أجمعين مسألة طبيعية في هذا الواقع الكافر.
6. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ في اللعنة التي تختزن العذاب في مضمونها العملي على مستوى النتائج، وتوحي به، ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ فليس هناك أية مهلة للاعتذار أو للتبديل والتغيير.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/140.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم، تقول الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ هؤلاء أيضا مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة الله والملائكة وجميع النّاس، مع اختلاف هو أن هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعا ولا توبة.
2. ثم تقول الآية التالية إن هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾
3. الذين ماتوا على كفرهم لا نجاة لهم، وهذا أمر طبيعي، لأن سعادة الحياة الآخرة وشقاءها نتيجة مباشرة لما ادّخره الإنسان من أعمال في هذه الحياة، ومن أحرق جناحيه في الحياة الدنيا بنار الكفر والانحراف لا يستطيع طبعا أن يحلّق في الآخرة، ولا بدّ من سقوطه في درك الجحيم، وواضح أيضا أن هذا الفرد سيبقى على وضعه هذا في عالم الآخرة، لأن ذلك العالم ليس عالم الحصول على وسيلة.
4. هذا يشبه إنسانا فقد عينيه بسبب جنوحه واتباعه الشهوات والأهواء عالما عامدا، فلا بدّ له أن يعيش أعمى طول حياته، وبديهي أن هذا مصير الكافرين الذين سلكوا طريق الكفر عن علم وعمد.
5. سؤال وإشكال: الآية الكريمة ذكرت أن الذين ماتوا وهم كفار، مشمولون بلعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، أليست لعنة الله كافية؟ والجواب: واضح، فلعنة الملائكة والنّاس زيدت على لعنة الله للتأكيد، ولبيان كراهة النّاس لمثل هؤلاء المذنبين.
6. سؤال وإشكال: لم ذكرت الآية ﴿النَّاسِ ﴾ بشكل عام، بينما يوجد بين النّاس من هم شركاء في الجريمة، وهؤلاء لا يلعنون أولئك المجرمين؟ والجواب: إن هؤلاء أيضا كارهون لأعمال أولئك، فهؤلاء يكرهون مثلا كتمان الحقائق عنهم، ويلعنون من يستر عنهم الحقيقة، لكنهم يفعلون هم أيضا هذه السيئة إن اقتضت مصلحتهم ذلك.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/464.
68. توحيد الله ودلائله
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈68⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 163 ـ 164] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبيّ:
روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا تسبوا الريح؛ فإنها من نفس الرحمن؛ ولكن قولوا: اللهم، إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها، وشر ما أرسلت به(1)..
2. روي أنّه قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب(2)..
3. روي أنّه قال: ينشئ السحاب، فتنطق أحسن المنطق، وتضحك أحسن الضحك)(3)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٠/٢١٧.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٥.
(3) أحمد: ٣٩/٩١.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: فيرسل الله تعالى ماء من تحت العرش، منيا كمني الرجال، فتنبت أجسامهم ولحمانهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٤.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه، قال قام أعرابي يوم الجمل إلى الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إن الله واحد؟ قال فحمل الناس عليه، وقالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب!؟ فقال الإمام علي: دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن من لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة!؟ وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه ربنا أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود، ولا عقل، ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل(1)..
2. روي أنّه قال: ما عبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تمّ عقل امرئ حتّى تكون فيه خصال شتّى: الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذلّ أحبّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيرا منه، وإنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر)(2)..
__________
(1) التوحيد: 83/3.
(2) اصول الكافي 1/19.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أراد اختلافهما في النور والظلمة، والطول والقصر، والزيادة والنقصان(1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، يعبدون من دون الله إفكا وشرا، فبين الله تعالى لهم أنه واحد؛ فأنزل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (1)..
2. روي أنّه قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ توحيده(2)..
3. روي أنّه قال: الرياح للرحمة، والريح للعذاب(3)..
4. روي أنّه قال: نزلت في كفار قريش، قالوا: يا محمد، صف وانسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص، وهذه الآية(4)..
5. روي أنّه قال: قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا؛ نتقوى به على عدونا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم، فأجعل لهم الصفا ذهبا، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فقال: (رب، دعني وقومي، فأدعوهم يوما بيوم)، فأنزل الله هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ [البقرة: 164]، وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا!؟(5)..
6. روي أنّه قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ركبتيه، وقال: (اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا)، قال ابن عباس أنّه قال (والله، إن تفسير ذلك في كتاب الله: ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ [فصلت: ١٦]، و﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: ٢٨]، وقال: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢]، و﴿يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] (6)..
7. روي أنّه قال: الماء والريح جندان من جنود الله، والريح جند الله الأعظم(7)..
__________
(1) الواحدي في الوسيط: ١/٢٤٥.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٢.
(3) تفسير الثعلبي: ٢/٣٣.
(4) أورده الثعلبي: ٢/٣١.
(5) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٣.
(6) الشافعي في الأم: ١/٢٨٩.
(7) أبو الشيخ في العظمة.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: سألت قريش اليهود، فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات، فحدثوهم بالعصا، وبيده البيضاء للناظرين، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، فقالت قريش عند ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا؛ فنزداد به يقينا، ونتقوى به على عدونا، فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه، فأوحى الله إليه: إني معطيهم ذلك، ولكن إن كذبوا بعد عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فقال: (ذرني وقومي، فأدعوهم يوما بيوم)، فأنزل الله عليه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية: إن في ذلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا؛ فخلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار أعظم من أن أجعل لهم الصفا ذهبا(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٧ – ٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ قادر الله ربنا على ذلك، إذا شاء جعلها رحمة؛ لواقح للسحاب، ونشرا بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذابا؛ ريحا عقيما لا تلقح، إنما هي عذاب على من أرسلت عليه(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ فالفلك: السّفينة.. وهو واحد،(1)..
2. روي أنّه قال: (﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ معناه فرّق فيها وبسط،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال لأهل الكتاب: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ يقول: ربكم رب واحد، فوحد نفسه ـ تبارك اسمه ـ، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (1)..
2. روي أنّه قال: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ في معايشهم(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ﴾ يعني: بالماء ﴿الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يبسها(1)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ يعني: وبسط ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ (2)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٣.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٥٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، أي: ليس معه غيره شريكا في أمره(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧١.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبينات، ودلهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 163 ـ 164])(1)..
__________
(1) الكافي: 1/10.
الإمام الجواد:
سئل الإمام الجواد (ت 220 هـ)، ما معنى الواحد؟ فقال: (المجتمع عليه جميع الألسن بالوحدانية)(1)..
__________
(1) معاني الأخبار: 5/1.
ابن شداد:
روي عن عبد الله بن شداد (ت 284 هـ) أنّه قال: الريح من روح الله؛ فإذا رأيتموها فاسألوا من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ﴾ ذكر هذا الاسم؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلها؛ كقوله: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ [الصافات: 91]، وكقوله ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: 43]؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذي يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذي أعداد وأزواج وأشكال، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه الخلق وجميع معايبهم، يقال: فلان واحد زمانه، يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته، لا بحيث العدد، إذ بحيث العدد مثله كثير.
2. ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، فيه إثبات إله واحد، وفى قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ نفى غيره من الآلهة.
3. سؤال وإشكال: لم كان هذا دليلا؟ وهو في الظاهر دعوى، والجواب: دليل وحدانيته في قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية، خلق السموات وجعل فيها منافع، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما؛ إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف في الأرض بالكواكب، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذا وصل هذا قطع الآخر، فإذ لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.
4. كذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد:
أ. لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل، وفيه ذهاب عيش الخلق، وفى ذهابه تفانيهم وفسادهم، فدل أنه واحد.
ب. أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافعا، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما، كقوله: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 73]، فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.
ج. وفيه دلالة حدوث العالم؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال، فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثا.
د. أن كل واحد منهما، أعنى الليل والنهار، يصير بمجيء الآخر مغلوبا، فلولا أن كان ثم لغير فيه تدبير، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا، فدل أن لهما محدثا، وأنه واحد.
هـ. فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت؛ لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شيء، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شيء، ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد في النشوء من غير نقصان ولا تفاوت، فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه، وإن لم يبق له أثر، على ما قدر من إيجاد ما أتلف، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار، ومن النهار بالليل، وإن لم يبق له أثر.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾:
أ. قيل: اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا.
ب. وقيل: اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد في الآخر، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان، ولتغير التدبير، ولا يجرى كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول.
6. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ الآية تنقض على المعتزلة ، ومن وافقهم قولهم؛ لأنه عزّ وجل جعل الفلك التي تجرى في البحر من آياته، والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فلكا، ولكن يسمى خشبا، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات؛ فدل أن له فيها صنعا وتقديرا حيث صار من عجيب آياته:
أ. ثم فيه أعجوبة، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله، وأراهم من عظم آياته مما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.
ب. وفيه أيضا دلالة وحدانيته؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما؛ فدل أن محدثهما واحد.
ج. ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.
د. وفى ذلك دلالة النبوة؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح، وفى الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ فيه دلالة فضل العلوى على السفلى؛ لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبا، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفا، منه ما هو عذب ومنه ما هو أجاج، ومنه ما هو مر، فدل ذا على] فضل العلوى على السفلى.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾:
أ. قيل: خلق.
ب. وقيل: بسط.
ج. وقيل: فرق.
8. ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ جعل فيها من كل جوهر الدابة:
أ. منها: ما جعل مأكولا منتفعا بها من كل أنواع المنافع؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم في الجنة.
ب. ومنها: ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا في النار.
قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: تصرفها مرة للعذاب، ومرة للمنافع؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق: بها تجرى السفن في البحار، وبها تنشر السحاب في الهواء، وبها تنتفى الأشياء، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك، ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شيء وإن لطف، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرّا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير الله فيه تدبير.
ب. ويحتمل: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ صرفه إياها مرة صباء، ومرة دبورا، ومرة جنوبا ومرة نسيما، ومرة يمينا، ومرة شمالا للمنافع.
ج. ثم فيه دلالة أنها من الأجسام، لا من الأعراض؛ لأنه جل وعزّ جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام في ناحيتها، وذلك صفة الأجسام، لا صفة الأعراض، لكن لا ترى للطافتها؛ فدل أنها من الأجسام ما لا يرى ولا يمس، كالهواء لا يرى ولا يمس وهو من الأجسام، وكالذرة التي في الشمس ترى ولا تمس.
9. ثم دلهم عزّ وجل أن الذي سخر السحاب بالرياح التي جعلها في الهواء، وبما فيها من المنافع التي تقدم ذكرها، على أن مدبرهما واحد؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض في التدبير والصنعة، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر، وفى اتساق التدبير واتقان عليه خلقها وغير خلقها.
10. ثم فيه دلالة أن ما خلق من السموات والأرض، والليل والنهار، والرياح والسحاب، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته، وجعلها مسخرة مذللة لهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/610.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أراد بذلك أمرين:
أ. أحدهما: أن إله جميع الخلق واحد، لا كما ذهبت إليه عبدة الأصنام من العرب وغيرهم أن لكل قوم إلها غير إله من سواهم.
ب. الثاني: أن الإله، وإن كان إلها لجميع الخلق فهو واحد لا ثاني له ولا مثل له.
2. ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، ثم وصف فقال: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ترغيبا في عبادته وحثا على طاعته.
3. ثم دل على ما ذكرهم من وحدانيته وقدرته، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾:
أ. فآية السماء: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة.
ب. وآية الأرض: بحارها، وأنهارها، ومعادنها، وشجرها، وسهلها، وجبلها.
ج. وآية الليل والنهار: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، فيقبل الليل من حيث لا يعلم، ويدبر النهار إلى حيث لا يعلم، فهذا اختلافهما.
4. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ الفلك: السفن، الواحد والجمع بلفظ واحد، وقد يذكر ويؤنث، والآية فيها من وجهين:
أ. أحدهما: استقلالها بحملها.
ب. الثاني: بلوغها إلى مقصدها.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ يعني به المطر المنزل منها، يأتي غالبا عند الحاجة، وينقطع عند الاستغناء عنه، وذلك من آياته.
6. ثم قال تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وإحياؤها بذلك قد يكون من وجهين:
أ. أحدهما: ما تجري به أنهارها وعيونها.
ب. الثاني: ما ينبت به من أشجارها وزروعها، وكلا هذين سبب لحياة الخلق من ناطق وبهم.
7. ثم قال تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ يعني جميع الحيوان الذي أنشأه فيها، سماه (دابة) لدبيبه عليها، والآية فيها مع ظهور القدرة على إنشائها من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: تباين خلقها.
ب. الثاني: اختلاف معانيها.
ج. الثالث: إلهامها وجوه مصالحها.
8. ثم قال تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ والآية فيها من وجهين:
أ. أحدهما: اختلاف هبوبها في انتقال الشمال جنوبها، والصبا دبورا، فلا يعلم لانتقالها سبب، ولا لانصرافها جهة.
ب. الثاني: ما جعله في اختلافها من إنعام ينفع، وانتقام يؤذي، وقد روى سعيد بن جبير عن شريح قال ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح أو لشفاء سقيم.
9. الرياح جمع ريح وأصلها أرواح، وحكى أبو معاذ أنه كان في مصحف حفصة: وتصريف الأرواح، وقال ابن عباس: سميت الريح لأنها تريح ساعة بعد ساعة، قال ذو الرمة:
çإذا هبت الأرواح من نحو جانب...به آل ميّ هاج شوقي هبوبهاé
10. ثم قال تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ المسخر: المذلل، والآية فيه من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: ابتداء نشوئه وانتهاء تلاشيه.
ب. الثاني: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق.
ج. الثالث: تسخيره وإرساله إلى حيث يشاء الله عزّ وجل.
11. هذه الآية الكريمة جمعت من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ما صار لذوي العقول مرشدا وإلى الحق قائدا، فلم يقتصر الله بنا على مجرد الإخبار حتى قرنه بالنظر والاعتبار.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/217.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ يوصف الله تعالى بأنه واحد على أربعة أوجه:
أ. أوّلها: إنه ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام.
ب. الثاني: واحد في استحقاق العبادة.
ج. الثالث: واحد لا نظير له ولا شبيه.
د. الرابع: واحد في الصفات التي يستحقها لنفسه، فهو قديم، وقادر لا يعجزه شيء، وعالم لا يخفى عليه شيء، فكل هذه الصفات يستحقها وحده.
2. الواحد شيء لا ينقسم عدداً كان أو غيره، ويجري على وجهين: على الحكم، وعلى جهة الوصف، فالحكم كقولك: الجزء واحد، والوصف كقولك: إنسان واحد، ودار واحدة.
3. اختلف في معنى إله:
أ. قيل: إنه من يحق له العبادة، وغلط الرماني، فقال: هو المستحق للعبادة، ولو كان كما قال لما كان تعالى إلها فيما لم يزل، لأنه لم يفعل ما يستحق به العبادة، ومعنى ما قلناه: أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة.
ب. وقيل: معنى إله انه منعم بما يستحق به العبادة، وهذا باطل لما قد بيناه، ولا يجوز أن يحيّا أحد من الخلق بالإلهية، لأنه يستحيل ان يقدر أحد سوى الله على ما يستحق به العبادة من خلق الأجسام، والقدرة، والحياة، والشهوة، والنفاد، وكمال العقل، والحواس وغير ذلك، فلا تصح الإلهية إلّا له، لأنه القادر على ما عددناه.
4. الآية تتصل بما قبلها وبما بعدها:
أ. فاتصالها بما قبلها، كاتصال الحسنة بالسيئة، لتمحو أثرها، وتحذر من مواقعتها، لأنه لما ذكر الشرك، وأحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه.
ب. واتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته، لأن ما ذكر في الآية التي بعدها حجة على صحة التوحيد.
5. سؤال وإشكال: كيف يتصل الوصف بالرّحمة بما قبله؟ والجواب: لأن العبادة تستحق بالنعمة التي هي في أعلى مرتبة، ولذلك بولغ في الصفة بالرحمة، ليدل على هذا المعنى.
6. ﴿هُوَ﴾ في موضع رفع، ولا يجوز النصب، ورفعه على البدل من موضع (لا) مع الاسم، كقولك: لا رجل إلا زيد كأنك قلت: ليس إلا زيد ـ فيما تريد من المعنى ـ إذا لم يعتد بغيره، ولا يجوز النصب على قولك: ما قام احد إلا زيداً، لان البدل يدّل على أن الاعتماد على الثاني، والمعني ذلك، والنصب يدّل على أن الاعتماد في الاخبار إنما هو على الأول.
7. قوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إثبات لله تعالى وحده وهو بمنزلة قولك: الله إله وحده، وإنما كان كذلك لأنه القادر على ما يستحق به الالهية، ولا يدّل على النفي في هذا الخبر من قبل أنه لم يدّل على إله موجود، ولا معدوم سوى الله عزّ وجل، لكنه نقيض لقول من ادّعى إلها مع الله، وإنما النفي إخبار بعدم شيء كما أن الإثبات إخبار بوجوده.
8. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ لما أخبر الله تعالى الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له، قالوا: ما الدلالة على ذلك؟ فقال الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية الى آخرها.
9. وجه الدّلالة من الآية:
أ. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يدل على أنّ لها خالق، لا يشبهها ولا تشبهه، لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم، ولا عرض، إذ جميع ذلك محدث ولا بدّ له من محدث ليس بمحدث، لاستحالة التسلسل.
ب. ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يدلان على عالم مدبر من جهة أنه فعل محكم، متقن، واقع على نظام واحد، وترتيب واحد، لا يدخل شيئاً من ذلك تفاوت، ولا اختلاف.
ج. ﴿الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ تدل على منعم دبّر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لان الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك.
د. الماء الذي ينزل من السماء: يدل على منعم به يقدر على التصريف فيما يشاء من الأمور، لا يعجزه شيء.
هـ. إحياء الأرض بعد موتها: يدل على الانعام بما يحتاج اليه العباد، وإحياؤها: إخراج النبات منها، وأنواع الثمار.
و. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ دالّ على ان لها صانعاً مخالفاً لها منعماً بأنواع النعم.
ز. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ يدل على الاقتدار على ما لا يتأتى من العباد ولو حرصوا كل الحرص، واجتهدوا كل الاجتهاد، لأنه إذا ذهبت جنوباً مثلا، فاجتمع جميع الخلق على أن يقلبوها شمالا أو صباً أو دبوراً، لما قدروا على ذلك، ولا تمكنوا على ردّه من الجهة التي يجيء منها.
ح. ﴿السَّحابِ الْمُسَخَّرِ﴾ يدل على أنه يمسكه القديم، والذي لا شبه له ولا نظير، لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام الثقال بغير علاقة ولا دعامة إلا الله تعالى، وكذلك لا يقدر على تسكين الأرض كذلك إلا القادر لنفسه.. فهي تدل على صانع غير مصنوع قديم لا يشبهه شيء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، حي لا يموت واحد ليس كمثله شيء، سميع بصير ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ لان صفات النقص لا تجوز عليه تعالى، ويدل على أنه منعم بما لا يقدر غيره على الانعام بمثله، أنه يستحق بذلك العبادة دون غيره.
10. الخلق هو الأحداث للشيء على تقدير من غير احتذاء على مثال، ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله، لأنه ليس أحد ـ جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال ـ إلا الله تعالى، وقد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضى بمعنى المرضى، وهو بمنزلة المصدر، وليس معنى المصدر معنى المخلوق، واختلف أهل العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر، فقال قوم: هو الارادة له، وقال آخرون: إنما هو على معنى مقدر، كقولك: وجود وعدم، وحدوث وقدم، وهذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة وإلا فالمعنى بما هو الموصوف في الحقيقة.
11. إنما جمعت السماوات ووحدت الأرض:
أ. لأنه لما ذكرت السماء بأنها سبع في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وقوله: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع، وقد دل مع ذلك قوله ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ على معنى السبع، ولكنه لم يجر على جهة الإفصاح بالتفصيل في اللفظ.
ب. ووجه آخر: وهو أن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد، كالرجل، والماء الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس تجري السموات مجرى الجنس، لأنه دبر في كل سماء أمرها، والتدبير الذي هو حقها.
12. في اشتقاق كلمة ﴿اخْتِلَافِ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: من الخلف، لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة له.
ب. الثاني: من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك، والمختلفان ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع الى ذاته.
13. النهار: اتساع الضياء، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:
çملكت بها كفي فأنهرت فتقها...يرى قائم من دونها ما وراءهاé
أي أوسعت، ويصلح ان يكون من النهر أي جعله كالنهر، والنهر أوسع مجاري الماء، فهو أوسع من الجدول، والساقية.
14. إنما جمعت الليلة، ولم يجمع النهار لأن النهار بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء، يقع على الكثير والقليل، فأما الليلة، فمخرجها مخرج الواحد من الليل على أنه قد جاء جمعه على وجه الشذوذ، قال الشاعر:
çلولا الثريدان هلكنا بالضُّمر...ثريد ليل وثريد بالنُّهرé
15. الفلك: السفن يقع على الواحد، والجمع بلفظ واحد، ومنه قوله: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ ومنه ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ والفلك: فلك السماء، قال الله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، وكل مستدير فلك، والجمع أفلاك وقال صاحب العين: قيل: اسم للدوران خاصة، وقيل: بل اسم لأطواق سبعة فيها النجوم، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها، والفلكة: فلكة المغزل معروف، وفلكة الجدي، وهو قضيب يدار على لسانه لئلا يرضع، وأصل الباب الدور، والفلك السفينة لأنها تدور بالماء أسهل دور، وإنما جعل الفلك للواحد، والجمع بلفظ واحد، لأن فعل وفعل يشتركان كثيراً: العرب، والعرب، والعجم، والعُجم، والبخل والبخل، ومن قال في أسد: أسد، قال في فلك: فلك، فجمعه على فُعل، وإنما أنث الفلك إذا أريد به الجمع، كقولك: السفن التي تجري في البحر.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾:
أ. قيل: يعني من نحو السماء عند جميع المفسرين.
ب. وقال قوم: السماء تقع على السحاب، لأن كل شيء علا فوق شيء، فهو سماء له.
17. سؤال وإشكال: هل السحاب بخارات تصعد من الأرض؟ والجواب: ذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع ايضاً من صحته من دليل عقل، ولا سمع(2)..
18. السماء: السقف، فسماء البيت سقفه قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ فالسماء المعروفة سقف الأرض، وأصل الباب السمو: وهو العلو، والسماء: الطبقة العالية على الطبقة السافلة إلا أنها صارت بمنزلة الصفة على السماء المعروفة: وهي التي من أجل السمو كانت عالية على الطبقة السافلة، والأرض الطبقة السافلة، يقال: أرض البيت وأرض الغرفة، فهو سماء لما تحته من الطبقة، وارض لما فوقه، وقد صار الاسم كالعلم على الأرض المعروفة، وإنما يقع على غيرها بالإضافة.
19. الليل: هو الظلام المعاقب للنهار، وقد يقال لما لا يصل اليه ضوء الشمس: هو الليل وإن كان النهار موجوداً.
20. البحر: هو الخرق الواسع الماء الذي يزيد على سعة النهر.
21. المنفعة: هي اللذة، والسرور وما أدى إليهما، أو إلى كل واحد منهما، والنفع، والخير، والحظ نظائر، وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أدّت الى لذات.
22. الإحياء: فعل الحياة، وحياة الأرض: عمارتها بالنبات، وموتها إخرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات.
23. البثّ: التفريق، وكل شيء بثثته، فقد فرقته، ومنه قوله تعالى: ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾، وتقول: انبث الجراد في الأرض، وتقول: بثثته سري، وأبثثته إذا أطلعته عليه، والبث: ما يجده الرجل من كرب، أو غم في نفسه، ومنه قوله: ﴿أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾، وأصل الباب التفريق.
24. دابة: قال صاحب العين: كل شيء مما خلق الله يسمى دابة مما يدب، وصار بالعرف اسماً لما يركب، ويقولون للبرذون: دابة وتصغيرها دويبة، ودب النمل يدب دبيبه، ودب الشراب بالإنسان دبيباً، ودب القوم إلى العدو أي مشوا على هيئتهم لم يشرعوا، والدبابة تتخذ في الحروب، ثم يدفع إلى أصل حصن فينقبون وهم في جوف الدبابة والدب: نوع من السباع، والأنثى دبة، والدبة لزوم حال الرجل في فعاله، ركب فلان دبة فلان، وأخذ بدبته أي عمل بعمله.
25. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ التصريف والتقليب والتسليك نظائر، وتصريف الرياح تصرفها من حال إلى حال، ومن وجه إلى وجه، وكذلك تصرف الخيول، والسيول، والأمور، وصرف الدهر تقلبه، والجمع صروف، والصريف: اللبن إذا سكنت رغوته وقال بعضهم: لا يسمى صريفاً حتى يتصرف به الضرع، والصريف صريف الفحل بنا به حتى يسمع لذلك صوت، وكذلك صريف البكرة، وعنز صارف: إذا أرادت الفحل، والصرف: صبغ أحمر، قال الاصمعي: هو الذي يصبغ به الشرك، والصرف: فضل الدرهم على الدرهم في الجودة، وكذلك بيع الذهب بالفضة، ومنه اشتق اسم الصيرفي، لتصريفه أحدهما في الآخر، والصرف: النافلة، والعدل: الفريضة، والصرفة: منزل من منازل القمر: كوكب إذا طلع قدام الفجر، فهو أول الخريف، وإذا غاب من طلوع الفجر، فذاك أول الربيع، والصرف: الشراب غير ممزوج، والصرفان تمر معروف، أوزنه وأجوده، وأصل الباب: القلب عن الشيء، والسحاب: مشتق من السحب وهو حرك الشيء على وجه الأرض، تسحبه سحباً كما تسحب المرأة ذيلها، وكما تسحب الريح التراب، وسمي السحاب سحاباً، لانسحابه في السماء وكل منجر منسحب.
26. التسخير، والتذليل، والتمهيد نظائر، تقول: سخر الله لفلان كذا إذا سهله له، كما سخر الرياح لسليمان، وسخرت الرجل تسخيراً إذا اضطهدته، فكلفته عملا بلا أجرة، وهي السخرة، وسخر منه إذا استهزأ به، قال الله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ وقال ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ من الاستهزاء، وسخريا من تسخير الحول وما أشبهه، وأصل الباب: التسخير: التذليل.
27. قيل في تصريف الرياح قولان:
أ. أحدهما: هبوتها شمالا وجنوباً وصبا ودبوراً.
ب. الثاني: قيل مجيؤها بالرحمة مرة وبالعذاب أخرى، وهو قول قتادة.
28. في قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه عام لمن استدلّ به، ومن لم يستدل من العقلاء.
ب. الثاني: أنه خاص لمن استدلّ به كما قال ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ وكما قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ لما كانوا هم الذين اهتدوا بها وخشوا عند مجيئه أضيف إليهم.
29. إنما أضيفت الآيات الى العقلاء لأمرين:
أ. أحدهما: لأنها نصبت لهم.
ب. الثاني: لأنها لا يصح أن يستدل بها سواهم.
30. اختلف في الرياح: قال القيسيون: الرياح أربع: الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور، فأما الشمال عن يمين القبلة والجنوب عن شمالها والصبا والدبور متقابلتان، فالصبا من قبل المشرق والدبور من قبل المغرب وإذا جاءت الريح بين الصبا، والشمال، فهي النكباء التي لا يختلف فيها، والتي بين الجنوب والصبا، فهي الجريباء.. روى ابن الاعرابي عن الاصمعي، وغيره: ان الرياح اربع: الجنوب، والشمال، والصبا، والدبور، قال ابن الاعرابي: كل ريح بين ريحين، فهي نكباء، قال الاصمعي: إذا انحرفت واحدة منهن، فهي نكباء، وجمعها نكب، فأما مهبهن، فان ابن الاعرابي قال مهب الجنوب من مطلع سهيل الى مطلع الثريا، والصبا من مطلع الثريا الى بنات نعش، والشمال من بنات نعش الى مسقط النسر الطائر، والدبور من مسقط النسر الطائر الى مطلع سهيل، والجنوب، والدبور لهما هيف والهيف: الريح الحارة، والصبا، والشمال: لا هيف لهما، وقال الأصمعي: ما بين سهيل الى طرف بياض الفجر: جنوب، وما بان انهما هما، يستقبلهما من الغرب: شمال، وما جاء من وراء البيت الحرام فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك، فهو صباً، وتسمى الصّبا قبولا، لأنها تستقبل الدّبور، وتسمى الجنوب الأزيب، والنعامى، وتسمى الشمال محوة ولا تصرف، لأنها تمحوا السحاب وتسمى الجريباء، وتسمى مسعا، وتسعا وتسمى الجنوب اللاقح، والشمال حائلا، وتسمى ايضاً عقيما، وتسمى الصبا عقيما ايضاً، قال الله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ وهي التي لا تلقح السحاب، والذاريات التي تذروا التراب ذرواً، ومن قرأ بلفظ الجمع، فلأن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد وتسخيرها لنفع الناس، ومن وحّد أراد به الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار، والدرهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/54.
(2) هذا بناء على عدم اكتشاف ذلك بدقة في عصره.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الواحد شيء لا ينقسم عددًا كان أو غيره، فقولنا: جزء واحد لا ينقسم من جهة أنه جزء، وإنسان واحد لا ينقسم من جهة أنه إنسان، والواحد في صفات الله تعالى على أربعة أوجه:
• الأول: قيل: ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام.
• الثاني: ليس له نظير ولا شبيه.
• الثالث: واحد من الصفات التي يستحقها لنفسه ككونه قديمًا باقيًا قادرًا عالمًا حيًا سميعًا بصيرًا.
• الرابع: في الإلهية وهو استحقاق العبادة وهذا أولى؛ لأنه يشتمل على جميع ما تقدم في المعنى، ولأن التمدح فيه أكثر، والآية لا تحتمل إلا ذلك؛ لأنه مقيد بالإلهية كقولهم: فلان عالم واحد، سيد واحد.
ب. الخلق: إحداث الشيء على تقديرٍ من غير احتذاء على مثال، والخلق والمخلوق بمعنى، وقيل: هما غيران، والأول أوجه.
ج. السماوات: جمع سماء، ويقال لكل سقف سماء غير أنه إذا أطلق لم يفهم منه غير السماوات، وأصله من السُّمُوِّ وهو العلو، سما يسمو سموًّا.
د. الاختلاف: نقيض الاتفاق، وقيل: اختلاف الليل والنهار أخذ من الخَلَف؛ لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على جهة المعاقبة، وقيل من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، والأشياء على ثلاثة أضرب: متماثل كالسواد والسواد، ومختلف كالسواد والحمرة، ومتضاد كالسواد والبياض.
هـ. الليل جَمْعُ ليلةٍ كتمرة وتمر؛ وهو الظلام المعاقب النهار.
و. النهار: الضياء المتسع وأصله من السعة، ومنه أخذ النهر المجرى الواسع للماء، ومنه قول الشاعر: (مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرتُ فَتْقَهَا)
ز. الفُلْك: السُّفُن الواحد والجمع فيه سواء، ويؤنث ويذكر، والفَلَكُ: فَلَكُ السماء، وقيل: هو اسم للدوار خاصة، قيل: بل لأطباق سبعة فيها النجوم، وأصله من الدور سمي فلكًا لدورانه، والفلك لأنها تدور بالماء أسهل دور.
ح. البحر أصله من السعة، وهو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر.
ط. النفع والخير والحظ نظائر، والمنفعة: التعريض للنصيب من اللذة، أو ما أدى إليها.
ي. الإحياء: فِعْلُ الحياة، وحياة الأرض عمارتها بالنبات، وموتها خرابها، وهو اتساع.
ك. البث: التفريق، وكل شيء فرقته فقد بثثته، وسمي العمر بثًّا لتقسيم القلب.
ل. الدابة: أصلة من الدبيب كل ما يدب فهو دابة، غير أنه اختص بنوع من الحيوان في العرف، وقوله تعالى: ﴿وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ ورد على الأصل.
م. التصريف: التقليب، ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: تصريفها عن حال إلى حال، وقيل: ينقلها في الجهات المختلفة.
ن. السحاب الغيم، وأصله من السَّحْب، وهو الجر، وكل منجَرًّ مُسْتَحَبٌ، وسمي سحابًا لاستحابها في الهواء.
س. التسخير: التذليل، يقال: سخرت كذا له أي سهلته، وسخر الله تعالى الريح لسليمان.
ع. الآيات: الحجج والعلامات.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس أن كفار قريش قالوا: يا محمد، صف لنا ربك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسورة الإخلاص.
ب. وروى الضحاك عنه أنه كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا يعبدونها من دون الله إفكًا، فَبَيَّنَ تعالى أنه واحد، فأنزل هذه الآية.
ج. عن عطاء أن المشركين قالوا: أرنا يا محمد آية، فنزلت هذه الآية، وذكر ابن جرير عن عطاء أنه لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة نزل قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناسَ إلهٌ واحدٌ، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.
د. عن أبي الضحى: لما نزل قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ جعل المشركون يتعجبون ويقولون: يقول إلهكم واحد، فليأتنا بآية إن كان صادقًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
هـ. عن سعيد بن مسروق قال: سألت قريش اليهود فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات، فحدثوهم بالعصا واليد وغيرها، وسألوا النصارى، فحدثوهم بإحياء الميت وإبراء الأكمه، فعند ذلك سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأوحى الله تعالى إليه أن أعطهم ما سألوه، فإن لم يؤمنوا أعذبهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذرني وقومي أدعوهم يومًا بيوم)، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبينًا أنهم التمسوا ذلك ليزدادوا يقينًا، فخلق هذه الأشياء أعظم في الحجة.
3. لما تقدم ذكر الكفار وعظم ما أقدموا عليه من الشرك وما استحقوا من العذاب أتبعه بذكر التوحيد الذي فيه النجاة والفوز، فقال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ يعني خالقكم والمنعم عليكم والذي تحق له العبادة.
4. ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ يعني أنه واحد في الإلهية واستحقاق العبادة؛ إذ لا يقدر غيره على أصول النعم التي بها يستحق العبادة كالخلق والحياة والشهوة والرزق، ثم أكد ذلك بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ثم بَيّن صفته التي بها تمام نعمته، وهو ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ وقد تقدم القول في معناهما أن في ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مبالغة من فعل الرحمة، وهي النعمة على المحتاج، و﴿الرَّحِيمُ﴾ فعيل وفيه أيضًا مبالغة، وإذا لم يرد به المبالغة يقال: راحم.
5. لما ذكر تعالى ما تقدم من التوحيد عقبه بذكر الأدلة مبينًا أنه لا يجوز العدول عنها، ومُعرِّفًا أنه أزاح العلة لمن تدبر ونظر فيها ودالّا به أنه إنما يعرف بأفعاله وما نَصب من أدلته كي لا يتكلوا على التقليد، فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني في إنشائها مقدرًا على سبيل الاختراع.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾:
أ. قيل: كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر بعده.
ب. وقيل: اختلافهما في الجنس واللون والطول والقصر، عن عطاء وابن كيسان.
7. قدم الليل، لأن الليل هو الأصل، والضياء طارئ؛ لأنه تعالى خلق الأرض مظلمة ثم خلق الشمس والقمر.
8. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ يعني السفن ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ بركوبها والحمل عليها والتجارات والمكاسب ﴿وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ يعني المطر.
9. اختلفوا في الماء المنزل:
أ. فقيل: إنه ينزل من السماء على الحقيقة كما أخبر به تعالى وهو الصادق في خبره، وإذا كان هناك سحاب لم يمتنع أن يكون نازلاً من السماء إليه، ثم يسقط بقدر الحاجة، هذا قول جماعة من أصحابنا(2).؛ إذ لا مانع من حمل الكلام على حقيقته.
ب. وقال بعضهم: إنه ينزل من السحاب، ومعنى: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي من جهة السماء ويخلقه الله تعالى في السحاب حالاً بعد حال، وهذا جائز، وإن كان الأول أليق بالظاهر.
ج. وقال بعضهم: إنه تعالى بقدرته يحمل السحاب مياه البحر مع ملوحته، ثم ينزله من السحاب بقدر الحاجة عذبًا فراتًا، وهذا أيضًا لا يبعد.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾:
أ. قيل: يعني أحيا الأرض بالنبات بالمطر بعد يبوستها وجدوبتها.
ب. وقيل: أحيا به الأرض يعني أهل الأرض بإخراج الأقوات وغيرها مما تحيا به النفوس.
11. ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ يعني فرق في الأرض: ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ من كل حيوان يدب، وأراد أنه خلقها في مواضعِ متفرقة، وقيل: فرقها كي لا تزدحموا.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾:
أ. قيل: تقليبها شمالاً وجنوبًا وقبولاَ ودبورًا.
ب. وقيل: مجيئها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب، عن قتادة.
﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ أي المذلل يصرفها كما يشاء ﴿بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ﴾ حجج ودلالات فبين أنها أدلة ولم يذكر على ماذا، فحذف لدلالة الكلام عليه، وقد بين العلماء تفصيل ما يدل عليه ما بينها في الأحكام.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: هو عام في العقلاء من استدلّ ومن لا يستدل؛ لأنه يمكنه الاستدلال.
ب. وقيل: هو خاص فيمن اسنتدل وعلم؛ لأنهم لما أهملوا أنفسهم صاروا كأنه لا عقل لهم حيث لم ينتفعوا بتلك الدلالات كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ وإنما أضاف الدلالة إلى من يعقل لوجهين:
• أحدهما: أنها نصبت لهم.
• ولأنها لا تصح أن يستدل بها غيرهم.
14. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿آيَاتِ﴾، يرجع إلى الجميع أو إلى كل واحدة؟ والجواب: يحتمل الوجهين، أي الكل آيات، ويحتمل كل واحد مما ذكر فيه آيات.
15. كيفية دلالة السماوات والأرض على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: كونها مخلوقة محدثة، ولا بد من محدث إذا لم يخل من الحوادث.
ب. ثانيها: كونها مقدرة محكمة متسقة فتدل على مدبر حكيم عليم.
ج. ثالثها: أنهما قُدِّرا على وجوه تتكامل بها المصلحة من رفع السماء والانتفاع بالشمس والقمر، ودحو الأرض حتى صح مقرّا ومتصرفًا، وما فيها من أنواع النبات والأشجار تدل على صانع حكيم.
د. رابعها: سكونهما من غير علاقة، ولا مكان مع ثقلهما وعظمهما لا يصح إلا من صانع قادر وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
هـ. خامسها: ما يستمر عليه أحوال النجوم السائرات والأفلاك الدائرات على طريقة واحدة مما يتم به مصالح الخلق في أرزاقهم ومعاشهم وحسابهم.
16. كيفية دلالة اختلاف الليل والنهار على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: نقيض ما صار به الليل والنهار من الضياء والظلام؛ إذ لا يقدر عليه أحد من الأجسام، ولا بد من محدث مخالف لها.
ب. ثانيها: جريهما على طريقة واحدة حتى تتم به المصالح ومعرفة الأزمنة من السنين والشهور، وتتم به النعمة من السكون وابتغاء الفضل.
ج. ثالثها: أخذ أحدهما من صاحبه والزيادة والنقصان.
د. رابعها: تعلق ذلك بجري الشمس والقمر على الحد الذي يجري عليه لولاه لما تم الليل والنهار.
هـ. خامسها: قصر كل واحد وطوله باختلاف مشارق الأرض ومغاربها.
و. سادسها: اختلافهما حتى لو دام أحدهما واتصل لما تمت المصلحة ومنافع الخلق.
ز. سابعها: لولاهما لما صح شيء من معرفة السنين والحساب.
17. كيفية دلالة الفلك، وإن كان من أفعال العباد فلا يتم إلا بأمور من جهته تعالى:
أ. أولها: الآلات التي يعمل بها الفلك كالخشب والحديد وغيرها مما لا يقدر عليها غيره.
ب. ثانيها: صفة الماء في الرقة التي لولاها لما صح جري الفلك.
ج. ثالثها: ما يفعله تعالى في الماء منْ الجِرْيَة الشديدة وما فيه من الاعتمادات والرطوبات.
د. رابعها: تخلل الماء في البلاد ليقع الانتفاع في الفلك.
هـ. خامسها: الاعتمادات التي خلقها في الماء حتى منع الفلك من الرسوب.
و. سادسها: إرسال الريح لإجراء السفن على حد معلوم.
ز. سابعها: ما أجرى به العادة من السلامة في الغالب في تقوية القلب في الركوب.
18. كيفية دلالة الماء المنزل من السماء على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: إنشاؤه مع أنه لا يقدر عليه غيره.
ب. ثانيها: صفته من الرقة والعذوبة وحياة الأرض.
ج. ثالثها: نزوله قطرًا على وجه لا يتلاقى ولا يتدافع.
د. رابعها: نزوله بقدر الحاجة وفي أوقاتها.
هـ. خامسها: إسكانه في الأرض وإخراجه بقدر الحاجة.
و. سادسها: ما يتعلق به من التطهير والمأكول والمشروب والعبادات وكل ذلك يدل على مدبر حكيم.
19. كيفية دلالة إحياء الأرض بعد موتها على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: ظهور النبات والثمار والحبوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد سواه.
ب. ثانيها: ما يحصل به من أقوات الخلق وأرزاق الحيوانات.
ج. ثالثها: أنه يُنبت كل شيء بقدر الحاجة.
د. رابعها: اختلاف ألوانها على حد لا يكاد يحصى.
هـ. خامسها: اختلاف الطعوم، وذلك ليس بمقدور البشر.
و. سادسها: اختلاف المنافع والمضار.
ز. سابعها: ما أجرى به العادة في حدوثها في أوقاتها ليتم به المصالح.
ح. ثامنها: ما أجرى به العادة أن لا يحدث من كل شجرة إلا نوعًا من الثمرة لتتم مصالح الخلق وليهتدوا إلى معايشهم ومكاسبهم.
ط. تاسعها: ما تنبت الأرض من أنواع الملابس والروائح وغيرها.
ي. عاشرها: اختلاف الروائح واختلاف المنافع من الأغذية والأدوية وأن بعضها ينتفع بقشرها وبعضها بلبها، وبعضها بأصلها وبعضها بورقها، وبعضها بأزهارها، فسبحانه من مدبر حكيم وصانع عليم!.
20. كيفية دلالة بث الدابة على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: خلق الدواب المختلفة بالهيئات المختلفة.
ب. ثانيها: إحياؤه لما بث فيها من دابة.
ج. ثالثها: جعله كل دابة على صفة تحتاج إلى الماء.
د. رابعها: إخراج الماء بحسب حاجتهم ومصالحهم، فلذلك صيرها أنهارًا وينابيع.
هـ. خامسها: ما جعل لكل حيوان من الأغذية التي عاشوا بها.
و. سادسها: ركب فيهم الشهوة التي بها تتم جميع هذه النعم.
ز. سابعها: إحياء الخلق التي بها يتم جميعها، ولا يقدر على الحياة غيره.
ح. ثامنها: الصور المختلفة والأعضاء المختلفة والمركبات المتنوعة من اللحم والعظم والعصب والعروق، وجميع ذلك مركب من ماء دافق لا يقدر عليه أحد.
ط. تاسعها: ما أجرى به العادة من ترتيبه حالاً بعد حال باللبن والطعام، ثم ما يعطيه من الآلات للنطق، والحس والعقل إلى غير ذلك من العجائب التي يطول تفصيلها.
21. كيفية دلالة تصريف الرياح على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: إنشاء نفس الهواء الذي إذا تحرك صار ريحًا.
ب. ثانيها: تحريكه.
ج. ثالثها: تصريفها في الجهات.
د. رابعها: اختلافها في الحر والبرد.
هـ. خامسها: تأثيرها في الحيوانات وأنواع النبات والثمار على عادة مستمرة مستقيمة.
و. سادسها: ما أجرى العادة من ترتيبه حالاً بعد حال من تعلق ادخار الأطعمة بها، ولولاه لما بقيت على الادخار، وغير ذلك من منافع الريح.
22. كيفية دلالة السحاب على الصانع المدبر وصفاته من وجوه:
أ. أولها: إنشاء السحاب الثقال.
ب. ثانيها: بما فيه من الرعد والبرق.
ج. ثالثها: إسكانه الهواء مع ثقله مرة وإجراؤه مرة.
د. رابعها: جعله بالصفة التي يحمل الماء الكثير مع أنه ليس بجسم ممسك.
هـ. خامسها: حمله الماء بقدر الحاجة، وصبه في الموضع الذي يريده تعالى.
و. سادسها: مجيئه مرة وذهابه مرة أخرى، ولو دام لعاد في المضرة وكما لو لم يكن لحصلت المضرة، وكل ذلك يدل على صانع مدبر سبحانه وتعالى.
23. سؤال وإشكال: لم خص هذه الأشياء وجميع الأجسام دالة عليه؟ والجواب: لأنها جامعة بين كونها أدلة وكونها نعمًا على المكلفين؛ فلذلك ذكرها عقيب قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾، ولأن ذلك مما يشاهده عموم الخلق، ولا يخفى على ذي لب.
24. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن معنى الإله ما تُدخلُه الإضافة، ولا يكون كذلك إلا أن يراد به أنه يحق له العبادة، فيضاف إلى من جعله بالصفة التي يستحق عليها العبادة.
ب. أنه المتفرد بالإلهية، المستحق للعبادة.
ج. الصانع المدبر على ما نقرره.
د. كونها أدلة على التوحيد على نِعَمِ منه تعالى على عباده لأجلها استحق العبادة.
هـ. أنه تعالى لا يعرف ضرورة وَلا إلهامًا ولا تقليدًا؛ إذ لو صح شيء من ذلك لم يكن لبيان الأدلة معنى فصارت الآية بيانًا لما يجب فيه النظر وباعثًا على النظر ومبطلاً للتقليد والضرورة.
و. صحة الحجاج في الدين خلاف ما تقوله الحشوية.
ز. وجوب النظر والاستدلال، وأن ذلك طريق معرفته.
ح. أنه تعالى أزاح العلة للمكلف من بيان الحجج، ومن لم يتفكر ولم يتعلم فأتي بمنكرٍ فقد أتى به من قِبل نفسه لا من قبل ربه.
ط. تدل هذه الأشياء على إثبات الصانع وصفاته وتوحيده وعدله ثم دلالتها عليه تنقسم إلى قسمين:
• منها ما يدل عليه بنفسه ككونه قادرًا يدل الفعل عليه.
• ومنها ما يدل عليه بواسطة ككونه حيًّا لما علم أنه قادر عالم علم أنه حي سميع بصير، فتدل الأفعال عليها بواسطة.
ي. ما ذكره الله تعالى في الآية الكريمة من أصناف المخلوقات يدل على:
• حدوثها؛ لأنها لا تخلو من الحوادث ولم يسبقها.
• صانع؛ لأنه إذا ثبت حدوثها فلا بد من مُحدث لها أحدثها كالكتابة والبناء.
• أن صانعها قادر؛ لأن صحة الفعل تدل على كونه قادرًا.
• كون صانعها عالمًا؛ لأن صحة الفعل المحكم تدل على أن صانعه عالم، وإذا ثبت أنه عالم قادر فلا بد أن يكون حيًّا؛ لأن كونه حيًّا يصحح كونه عالمًا قادرًا.
• أن صانعها قديم باقٍ؛ لأنه واجب الوجود؛ إذ لو كان جائز الوجود لاحتاج إلى محدث ولتسلسل.
• أن صانعها سميع بصير؛ لأنه حي لا آفة به.
• أن صانعها ليس بجسم ولا عرض؛ لأن خلق الجسم لا يصح منها، فيعلم أنه لا شبيه له، ولا يجوز عليه المكان والمحل، وأنه لا يُرى؛ لأن جواز الرؤية من صفات الأجسام والأعراض وأنه غني؛ لأن الحاجة من صفات الأجسام، وإذا ثبت أنه ليس بجسم لا يجوز إثبات اليد والوجه ونحوه من الأعضاء؛ لأنه من صفات الأجسام، ويعلم أنه ليس بمحل للحوادث؛ لأنه ليس بمتحيز؛ ولأنه لو صح حلول بعضها صح حلول سائرها فيؤدي إلى الجهالات.
• أن صانعها مخالف للأجسام والأعراض، ولا بد من صفة بها خالف وهو كونه قديمًا فيعلم بذلك أنه لا يجوز أن يكون معه قديم آخر فعند ذلك يعلم أنه عالم لذاته، قادر لذاته، حي لذاته، قديم لذاته لا لمعان قديمة أو مُحَدَثةٍ، ويعلم أن القرآن ليس بقديم، وأنه كلامه أحدثه.
• أن صانعها واحد؛ إذ لو جاز إثبات ثانٍ وثالث لصح التمانع.
• أن صانعها إذا ثبت بأفعاله أنه عالم لذاته غني ثبت أنه لا يفعل القبيح؛ لأن العالم بقبح القبيح العالم بغناه عنه لا يختاره، ولأنه لا داعي له إلى فعل القبيح فعند ذلك يعلم أنه لا يفعله ولا يريده، وأن أفعال العباد ليست بخلق لله لما فيها من الكفر والقبائح، وأنه كلف العباد لمنافعهم، ولم يخلق أحدًا للعذاب لما فيه من القبح، وأنه يزيح العلة ولا يكلف ما لا يطيقه، فيعلم أن الاستطاعة قبل الفعل، وإذا كان غرضه حصول الفعل من المكلف يستحق الثواب، فلا بد أن يلطف فيعلم وجوب اللطف، وإذا عُلم أنه لا يجوز عليه القبائح يُعلَمُ كونه صادقًا، فيعلم صحة ما جاء به الوعد والوعيد، وإذا علم وجوب اللطف وقد يكون ذلك من فعل المكلف فلا بد من رسولٍ يبين، فعند ذلك يعلم وجوب النبوات وشرائطها من المعجز والعصمة ومعرفة الشرائع، وإذا تفكر فيها علم مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد والإمامة، وما يتعلق بالفعل كالصلاة والزكاة والحج، وما يتعلق بالترك كالشرك والقتل والزنا والربا، وجميع أحكام الشرع لا يخلو من هذين الوجهين فِعْلٍ أو ترك، فهذه جملة تدل عليها أفعاله بنفسها أو بواسطة تنبيه على تفصيل يطول.
25. قرأ حمزة والكسائي: ﴿الرِّيحَ﴾ على التوحيد والباقون: ﴿الرِّيَاحِ﴾ على الجمع، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام، قال ابن عباس: الرياح للرحمة، والريح للعذاب، واختلف القراء، فقرأ أبو جعفر: ﴿الرِّيَاحِ﴾ على الجمع كل القرآن إلا في الذاريات: ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ فإنه وَحَّدَه، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر ويعقوبـ ﴿الرِّيَاحِ﴾ على الجمع في عشرة مواضع: البقرة، والأعراف، والحجر، والكهف، والفرقان، والنمل، والروم موضعين، والجاثية، وفاطر، وقرأ نافع اثني عشر موضعًا هذه العشرة، وفي إبراهيم: ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ وفي: ﴿عسق﴾: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ وقرأ ابن كثير الرياح في خمسة مواضع: البقرة، والحجر، والكهف، والروم الأول منها، والجاثية، وقرأ حمزة: ﴿الرِّيَاحِ﴾ في موضعين: في الفرقان، والروم، وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع: في الحجر، والفرقان، والروم الأول منهما.
26. مسائل نحوية:
أ. ارتفع: ﴿هُوَ﴾ لأنه بدل من موضع: ﴿لَا﴾ مع الاسم كقولك: لا رجلَ إلا زيد، كأنك قلت: ليس إلا زيد، فيما تريد من المعنى إذا لم يقيد بغيره.
ب. في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إثبات، هو بمنزلة قوله: الله هو الإله وحده.
ج. سؤال وإشكال: ما فائدة هذه الإضافة، والخطاب ولعلها لمن في قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾؟ والجواب: هذه الإضافة إنما تصح للأحياء، ولم تصح لكونه حيًّا حتى يصح استحقاق العبادة عليه دون الجواهر المنفردة والأعراض، وفائدته لطفُ الاستدعاء إلى عبادته، يعني أنه الذي أنعم عليكم بأصول النعم وفروعها فاعبدوه وانقطعوا إليه، فإنه واحد في استحقاق ذلك، فأما الخطاب فللأحياء المكلفين في الحال.
د. سؤال وإشكال: لم وُحِّدَت الأرض، وجمعت السماوات؟ والجواب: فيه قولان:
• الأول: أنها جمعت لأنها سبع سماوات، فجمع لئلا يوهم التوحيد، ودل مع ذلك قوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ على معنى السبع، ولكنه لم يجئ على جهة الإفصاح بالتفصيل كما في اللفظ.
• الثاني: لأن الأراضي لتشاكلها شبه الجنس الواحد كالرسل، والماء الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق؛ لأنه أخبر عن كل سماء أمرها.
هـ. سؤال وإشكال: لم جمعت الليلة، ولم يجمع النهار؟ والجواب: لأن النهار بمنزلة المصدر كقولك: الضياء يقع على الكثير والقليل، وأما الليلة فَمخْرَجُها مخرج الواحدة من الليل، وقد جاء جمعه على الشذوذ نُهُر، قال الشاعر:
çلَوْلاَ الثَّرِيَدانِ هَلَكْنَا بالضُّمُرْ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْé
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/676.
(2) يقصد الزيدية.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. واحد: شيء لا ينقسم عددا كان أو غيره، ويجري على وجهين: على الحكم، وعلى جهة الوصف:
• فالحكم: كقولك جزء واحد، فإنه لا ينقسم من جهة أنه جزء.
• والوصف كقولك: انسان واحد، ودار واحدة، فإنه لا ينقسم من جهة أنه انسان.
ب. الخلق: هو الإحداث للشيء على تقدير من غير احتذاء على مثال، ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله سبحانه، لأنه لا أحد سوى الله يكون جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال، وقد استعمل الخلق بمعنى المخلوق، كما استعمل الرضا بمعنى المرضي، وهو بمنزلة المصدر، وليس معنى المصدر بمعنى المخلوق، واختلف أهل العلم فيه، إذا كان بمعنى المصدر، فقال قوم: هو الإرادة له، وقال آخرون: إنما هو على معنى مقدر، كقولك وجود وعدم، وحدوث وقدم، وهذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة، وإلا فالمعني بها هذا الموصوف في الحقيقة.
ج. السماوات: جمع السماء، وكل سقف سماء، غير أنه إذا أطلق لهم يفهم منه غير السماوات السبع، وإنما جمعت السماوات ووحدت الأرض لأنه لما ذكر السماء بأنها سبع في قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾، وقوله: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع، وقوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ وإن دل على معنى السبع، فإنه لم يجر على جهة الإفصاح بالتفصيل في اللفظ، وأيضا فإن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق، لأنه دبر في كل سماء أمرها التدبير الذي هو حقها.
د. الاختلاف: نقيض الاتفاق، واختلاف الليل والنهار: أخذ من الخلف، لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة، وقيل: هو من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك، والمختلفان: ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته.
هـ. الليل: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة، فهو مثل تمر وتمرة.
و. النهار: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر: ملكت بها كفي، فأنهرت فتقها... يرى قائم من دونها ما وراءها أي: أوسعت، وإنما جمعت الليلة، ولم يجمع النهار، لأن النهار بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء يقع على الكثير والقليل، على أنه قد جاء جمع النهار نهر على وجه الشذوذ، قال الشاعر:
çلولا الثريدان هلكنا بالضمر... ثريد ليل، وثريد بالنهرé
ز. الفلك: السفن تقع على الواحد والجمع، والفلك: فلك السماء، وكل مستدير فلك، قال صاحب العين: قيل هو اسم للدوران خاصة، وقيل: بل اسم لأطباق سبعة فيها النجوم، وفلكت الجارية: إذا استدار ثديها، وأصل الباب: الدور، وما أنزل الله من السماء.
ح. السماء: وقال قوم: السماء يقع على السحاب، لأن كل شيء علا شيئا فهو سماء له، وقال علي بن عيسى: قيل إن السحاب بخارات تصعد من الأرض، وذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع من صحته من دليل عقل ولا سمع، والسماء: السقف، قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ فالسماء المعروفة سقف الأرض، وأصله من السمو: وهو العلو، فالسماء: الطبقة العالية على الطبقة السافلة، والأرض: الطبقة السافلة، ويقال: أرض البيت، وأرض الغرفة، فهو سماء لما تحته من الطبقة السافلة، وأرض لما فوقه، إلا أنه صار ذلك الاسم بمنزلة الصفة الغالبة على السماء المعروفة، وهذا الاسم كالعلم على الأرض المعروفة.
ط. البحر: هو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر.
ي. المنفعة هي اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما، أو إلى واحد منهما، والنفع والخير والحظ نظائر، وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أدت إلى لذات.
ك. الإحياء: فعل الحياة، وحياة الأرض: عمارتها بالنبات، وموتها: خرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات.
ل. البث: التفريق، وكل شيء بثثته فقد فرقته، وسمي الغم بثا: لتقسم القلب به.
م. الدابة: من الدبيب، وكل شيء خلقه الله مما يدب فهو دابة، وصار بالعرف اسما لما يركب.
ن. التصريف: التقليب، وصرف الدهر: تقلبه، وجمعه صروف.
س. السحاب: مشتق من السحب، وهو جرك الشيء على وجه الأرض، كما تسحب المرأة ذيلها، وكل منجر منسحب، وسمي سحابا لانجراره في السماء.
ع. التسخير والتذليل والتمهيد نظائر، يقال: سخر الله لفلان كذا: إذا سهله له، وسخرت الرجل: إذا كلفته عملا بلا أجرة، وهي السخرة، وسخر منه: إذا استهزأ به.
ف. الرياح أربع: الشمال والجنوب والصبا والدبور، فالشمال عن يمين القبلة، والجنوب عن يسارها، والصبا والدبور متقابلان، فالصبا من قبل المشرق، والدبور من قبل المغرب، وأنشد أبو زيد:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني... نسيم الصبا، من حيث يطلع الفجر
فإذا جاءت الريح بين الصبا والشمال، فهي النكباء، والتي بين الجنوب والصبا الجر بياء، والصبا هي القبول، والجنوب يسمى الأزيب، ويسمى النعامى، والشمال يسمى محوة لا تنصرف، ويسمى مسعا ونسعا، ويسمى الجنوب لاقحا، والشمال حائلا، قال أبو داوود يصف سحابا:
çلقحن ضحيا للقح الجنوب... فأصبحن ينتجن ماء الحياé
قوله: للقح الجنوب أي: لالقاح الجنوب، وقال زهير:
çجرت سنحا، فقلت لها مروعا... نوى مشمولة فمتى اللقاء مشمولةé
أي: مكروهة، لأنهم يكرهون الشمال لبردها وذهابها بالغيم، فصار كل مكروه عندهم مشمولا.
2. عن ابن عباس قال: إن كفار قريش قالوا: يا محمد! صف لنا وأنسب لنا ربك، فأنزل الله هذه الآية، وسورة الإخلاص.
3. ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ أي: خالقكم، والمنعم عليكم بالنعم التي لا يقدر عليها غيره، والذي تحق له العبادة، وقال علي بن عيسى: معنى إله هو المستحق للعبادة، وهذا غلط، لأنه لو كان كذلك، لما كان القديم سبحانه إلها، فيما لم يزل، لأنه لم يفعل في الأزل ما يستحق به العبادة، ومعنى قولنا: إنه تحق له العبادة أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة.
4. ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: وصفه سبحانه بأنه واحد على أربعة أوجه:
أ. أحدها: إنه ليس بذي أبعاض، ولا يجوز عليه الانقسام، ولا يحتمل التجزئة.
ب. الثاني: إنه واحد لا نظير له، ولا شبيه له.
ج. الثالث: إنه واحد في الإلهية واستحقاق العبادة.
د. الرابع: إنه واحد في صفاته التي يستحقها لنفسه، فإن معنى وصفنا لله تعالى بأنه قديم، أنه المختص بهذه الصفة، لا يشاركه فيها غيره، ووصفنا له بأنه عالم قادر، أنه المختص بكيفية استحقاق هاتين الصفتين، لأن المراد به أنه عالم بجميع المعلومات، لا يجوز عليه الجهل، وقادر على الأجناس كلها، لا يجوز عليه العجز، ووصفنا له بأنه حي باق، أنه لا يجوز عليه الموت والفناء، فصار الاختصاص بكيفية الصفات كالاختصاص بنفس الصفات، يستحقها سبحانه وحده على وجه لا يشاركه فيه غيره.
5. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: هذه كلمة لإثبات الإلهية لله تعالى وحده، ومعناه: الله هو الإله وحده، واختلف في أنه هل فيها نفي المثل عن الله سبحانه:
أ. فقال المحققون: ليس فيها نفي المثل عنه، لأن النفي إنما يصح في موجود أو معدوم، والله عز اسمه ليس له مثل موجود ولا معدوم.
ب. وقال بعضهم: فيها نفي المثل المقدر عن الله سبحانه.
6. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ إنما قرن الرحمن الرحيم بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، لأنه بين به سبب استحقاق العبادة على عباده، وهو ما أنعم عليهم من النعم العظام التي لا يقدر عليها أحد غيره، فإن الرحمة هي النعمة على المحتاج إليها.
7. الآية متصلة بما قبلها وبما بعدها، فاتصالها بما قبلها كاتصال الحسنة بالسيئة، لتمحو أثرها، ويحذر من مواقعتها، لأنه لما ذكر الشرك وأحكامه، أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه، واتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته، لأن ما ذكر في الآية التي بعدها، هي الحجة على صحة التوحيد.
8. ثم لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد، لا ثاني له، قالوا: ما الدلالة على ذلك؟ فقال الله سبحانه: ﴿إن خلق السماوات والأرض﴾ أي: في انشائهما مقدرين على سبيل الاختراع، ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة، أو اختلافهما في الجنس واللون، والطول والقصر.
9. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ أي: السفن التي تحمل الأحمال ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ خص النفع بالذكر، وإن كان فيه نفع وضر، لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الضار غيره إنما يقصد منفعة نفسه، والنفع بها يكون بركوبها، والحمل عليها في التجارات والمكاسب.
10. ﴿وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: من نحو السماء عند جميع المفسرين، وقيل: يريد به السحاب (هن ماء) يعني المطر.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾
أ. قيل: أي: فعمر به الأرض بعد خرابها، لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت، وإذا لم يصبها مطر لم تنبت، ولم يتم نباتها، فكانت من هذا الوجه كالميت.
ب. وقيل: أراد به إحياء أهل الأرض بإحياء الأقوات، وغيرها مما تحيا به نفوسهم.
12. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أي: فرق في الأرض من كل حيوان يدب، وأراد بذلك خلقها في مواضع متفرقة.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾:
أ. قيل: أي: تقليبها بأن جعل بعضها صباء، وبعضها دبور، أو بعضها شمالا، وبعضها جنوبا.
ب. وقيل: تصريفها بأن جعل بعضها يأتي بالرحمة، وبعضها يأتي بالعذاب، عن قتادة، وروي أن الريح هاجت على عهد ابن عباس، فجعل بعضهم يسب الريح، فقال: لا تسبوا الريح، ولكن قولوا: اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، وقال ابن عباس: الرياح للرحمة، والريح للعذاب، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا هبت ريح قال: (اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا)، ويقوي هذا الخبر قوله سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ ويشبه أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنما قصد بقوله هذا الموضع، وبقوله: (ولا تجعلها ريحا) قوله سبحانه: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ وقد تختص اللفظة في التنزيل بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في القرآن من قوله: (ما يدريك) مبهم غير مبين.
14. قال أبو علي: وتصريف الرياح على الجمع أولى، لأن كل واحدة من الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد، ومن وحد فإنه أراد الجنس، كما قالوا أهلك الناس الدينار والدرهم، فأما قوله: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾، وإن كانت الرياح كلها سخرت له، فالمراد بها الجنس والكثرة، وإن كانت قد سخرت له ريح بعينها، كان كقولك: الرجل، وأنت تريد به العهد، أما قوله: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ﴾ فهي واحدة يدلك عليه قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ وفي الحديث: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) فهذا يدل على أنها واحدة.
15. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: المذلل ﴿لَآيَاتٍ﴾ أي: حججا ودلالات.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: إنه عام في العقلاء من استدلّ منهم، ومن لم يستدل.
ب. وقيل: إنه خاص بمن استدلّ به، لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات، ولم يستدل بها، صار كأنه لا عقل له، فيكون مثل قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾، وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾.
17. ذكر سبحانه الآيات والدلالات، ولم يذكر على ماذا تدل، فحذف لدلالة الكلام عليه، وقد بين العلماء تفصيل ما تدل عليه فقالوا:
أ. أما السماوات والأرض، فيدل تغير أجزائهما واحتمالهما الزيادة والنقصان، وأنهما من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما، ثم إن حدوثهما وخلقهما يدل على أن لهما خالقا لا يشبههما، ولا يشبهانه، لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه، الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ جميع ما هو بصفة الأجسام والأعراض محدث، ولا بد له من محدث ليس بمحدث لاستحالة التسلسل، ويدل كونهما على وجه الإتقان والإحكام، والاتساق والانتطام، على كون فاعلهما عالما حكيما.
ب. أما اختلاف الليل والنهار، وجريهما على وتيرة واحدة، وأخذ أحدهما من صاحبه الزيادة والنقصان، وتعلق ذلك بمجاري الشمس والقمر، فيدل على عالم مدبر يدبرهما على هذا الحد، لا يسهو ولا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة، واقعة على نظام وترتيب، لا يدخلها تفاوت ولا اختلال.
ج. أما الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، فيدل حصول الماء على ما تراه من الرقة واللطافة التي لولاها لما أمكن جري السفن عليه، وتسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه، على منعم دبر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لأن الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك.
د. أما الماء الذي ينزل من السماء فيدل إنشاؤه وإنزاله قطرة قطرة، لا تلتقي أجزاؤه، ولا تتألف في الجو فينزل مثل السيل، فيخرب البلاد والديار، ثم إمساكه في الهواء مع أن من طبع الماء الانحدار إلى وقت نزوله بقدر الحاجة، وفي أوقاتها على أن مدبره قادر على ما يشاء من الأمور، عالم حكيم خبير.
هـ. أما إحياء الأرض بعد موتها: فيدل بظهور الثمار وأنواع النبات، وما يحصل به من أقوات الخلق، وأرزاق الحيوانات، واختلاف طعومها وألوانها وروائحها، واختلاف مضارها ومنافعها في الأغذية والأدوية على كمال قدرته، وبدائع حكمته، سبحانه من عليم حكيم، ما أعظم شأنه.
و. أما بث كل دابة فيها فيدل على أن لها صانعا مخالفا لها، منعما بأنواع النعم، خالقا للذوات المختلفة بالهيئات، المختلفة في التراكيب، المتنوعة من اللحم والعظم، والأعصاب والعروق، وغير ذلك من الأعضاء والأجزاء المتضمنة لبدائع الفطرة، وغرائب الحكمة، الدالة على عظيم قدرته، وجسيم نعمته.
ز. أما الرياح فيدل تصريفها بتحريكها وتفريقها في الجهات مرة حارة ومرة باردة، وتارة لينة وأخرى عاصفة، وطورا عقيما وطورا لاقحة، على أن مصرفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه، إذ لو أجمع الخلق كلهم على أن يجعلوا الصبا دبورا، أو الشمال جنوبا، لما أمكنهم ذلك.
ح. أما السحاب المسخر فيدل على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له ولا نظير، لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة ولا دعامة، إلا الله سبحانه وتعالى، القادر لذاته الذي لا نهاية لمقدوراته.
18. هذه هي الآيات الدالة على أن الله سبحانه صانع غير مصنوع، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، حي لا تلحقه الآفات، ولا تغيره الحادثات، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير.
19. استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه وأزليته، وبما وسمها به من العجز والتسخير على كمال قدرته، وبما ضمنها من البدائع على عجائب خلقته، وفيها أيضا أوضح دلالة على أنه سبحانه المنان على عباده بفوائد النعم، المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الانعام بمثله من جزيل القسم، فيعلم بذلك أنه سبحانه الاله الذي لا يستحق العبادة سواه.
20. وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر والاستدلال، وأن ذلك هو الطريق إلى معرفته.. وفيها البيان لما يجب فيه النظر وإبطال التقليد.
21. قرأ حمزة والكسائي: ﴿الرِّيحَ﴾ على التوحيد، والباقون على الجمع، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام، وقرأ أبو جعفر: ﴿الرِّيَاحِ﴾ على الجمع كل القرآن، إلا في الذاريات، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وابن عامر وعاصم: ﴿الرِّيَاحِ﴾ في عشرة مواضع: في البقرة والأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم في موضعين، وفاطر والجاثية، وقرأ نافع في اثني عشر موضعا هذه العشرة، وفي إبراهيم وعسق، وقرأ ابن كثير في خمسة مواضع: البقرة والحجر والكهف وأول الروم والجاثية، وقرأ الكسائي: ﴿الرِّيَاحِ﴾ في ثلاثة مواضع: في الحجر والفرقان وأول الروم، ووافقه حمزة، إلا في الحجر.
22. مسائل نحوية:
أ. ﴿هُوَ﴾ من قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: في موضع رفع على البدل من موضع لا مع الاسم، كقولك: لا رجل إلا زيد، كأنك قلت: ليس إلا زيد، كما تريد من المعنى، إذ لم تعتد بغيره، ولا يجوز النصب على قولك ما قام أحد إلا زيد، لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني، والمعنى ذلك، والنصب يدل على أن الاعتماد في الاخبار إنما هو على الأول، والعبارة الواضحة أن هو، بدل من محل إله قبل التركيب.
ب. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هو إثبات الله سبحانه، وهو بمنزلة قولك الله الاله وحده، وإنما كان كذلك، لأنه القادر على ما يستحق به العبادة، ولا لم يدل على النفي في هذا الخبر، من قبل أنه لم يدل على إله موجود، ولا معدوم سوى الله، لكنه نقيض لقوله من ادعى إلها مع الله، وإنما النفي إخبار بعدم شيء كما أن الاثبات إخبار بوجوده.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/446.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، قال ابن عباس: إنّ كفار قريش قالوا: يا محمّد صف لنا ربّك وانسبه، فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص، والإله بمعنى: المعبود.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجعل لنا الصّفا ذهبا إن كنت صادقا؛ فنزلت هذه الآية، حكاه السّدّيّ عن ابن مسعود، وابن عباس.
ب. الثاني: أنهم لمّا قالوا: انسب لنا ربّك وصفه، فنزلت: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، قالوا: فأرنا آية ذلك؛ فنزلت: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنه لمّا نزلت ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، قال كفّار قريش: كيف يسع النّاس إله واحد؟ فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.
3. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، تدلّ على صانعها، إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظّاهرة، ما يدلّ يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها؛ وإرساء جبالها، إلى غير ذلك، ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ كلّ واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان.
4. ﴿وَالْفُلْكَ﴾: السّفن، قال ابن قتيبة: الواحد والجمع بلفظ واحد، وقال اليزيديّ: واحده فلكة، ويذكّر ويؤنّث، وقال الزجّاج: الفلك السّفن، ويكون واحدا، ويكون جمعا، لأنّ فعل، وفعل جمعهما واحد، ويأتيان كثيرا بمعنى واحد، يقال: العجم والعجم، والعرب والعرب، والفلك والفلك، والفلك: يقال لكلّ مستدير، أو فيه استدارة، و(البحر): الماء الغزير ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من المعايش.
5. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾، يعني: المطر، والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والأنواع تختلف في النّبات والطّعوم والألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك ردّ على من قال إنه من فعل الطّبيعة، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتّفق موجبها، إذ المتّفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾
6. ﴿وَبَثَّ﴾، أي: فرّق، ومعنى تصريف الرّياح: تقلّبها شمالا مرّة، وجنوبا مرّة، ودبورا أخرى، وعذابا ورحمة، ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾: المذلّل، والآية فيه من أربعة أوجه: ابتداء كونه، وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا دعامة ولا علاقة، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى، ﴿لَآيَاتٍ﴾، الآية: العلامة.
7. قال الحسن: كانوا يقولون ـ يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: الحمد لله الرّفيق، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف، لقال الشّاكّ في الله: لو كان لهذا الخلق ربّ لحادثه، وإنّ الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، إنه جاء بضوء طبّق ما بين الخافقين؛ وجعل فيها معاشا، وسراجا وهّاجا، ثمّ إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبّقت ما بين الخافقين، وجعل فيه شهبا ونجوما، وقمرا منيرا، وإذا شاء بنى بناء، جعل فيه المطر، والبرق، والرّعد، والصّواعق، ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس، وإذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أنّ لهذا الخلق ربّا يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدّنيا وجاء بالآخرة.
__________
(1) زاد المسير: 1/129.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قولهم واحد اسم جرى على وجهين في كلامهم، أحدهما: أن يكون اسماً، والآخر أن يكون وصفاً(2).:
أ. فالاسم الذي ليس بصفة قولهم: واحد المستعمل في العدد نحو: واحد اثنان ثلاثة، فهذا اسم ليس بوصف، كما أن سائر أسماء العدد كذلك.
ب. أما كونه صفة فنحو قولك مررت برجل واحد، وهذا شيء واحد.
2. إذا أجري هذا الاسم على الحق سبحانه وتعالى جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر، وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولنا شيء، ويقوي الأول قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
3. ذكر هنا بعض المباحث العقدية المفصلة المرتبطة بحقيقة الوحدانية، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
4. سؤال وإشكال: ما معنى إضافته بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾، وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف؟ والجواب: لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبوداً، والذي يليق به أن يكون معبوداً بهذا الوصف، إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى، فإذن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين، وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفاً تقديراً.
5. ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة، فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى، وقادركم قادر واحد، ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود.
6. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ معناه أنه واحد في الإلهية، لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها، فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد، وبأنه عالم واحد.
7. لما قال ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق، فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وذلك لأن قولنا: لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية، ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها، إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد، فقد حصلت الماهية، وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية: فثبت أن قولنا: لا رجل يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قيل بعد: إلا زيداً، أفاد التوحيد التام المحقق.
8. ذكر جماعة من النحويين أن الكلام فيه حذف وإضمار والتقدير: لا إله لنا، أو لا إله في الوجود إلا الله، وهذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق وذلك لأنك لو قلت: التقدير أنه لا إله لنا إلا الله، لكان هذا توحيداً لإلهنا لا توحيد للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وبين قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فرق، فيكون ذلك تكراراً محضاً، وأنه غير جائز، وأما لو قلنا: التقدير لا إله في الوجود، فذلك الإشكال زائل، إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر، وذلك لأنك إذا قلنا: لا إله في الوجود لا إله إلا هو؛ كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني، أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك: لا إله إلا الله نفياً لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
9. سؤال وإشكال: نفي الماهية كيف يعقل؟ فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد، كان ذلك حكماً بأن السواد ليس بسواد، وهو غير معقول، أما إذا قلت: السواد ليس بموجود، فهذا معقول منتظم مستقيم، والجواب: بنفي الماهية أمر لا بد منه، فإنك إذا قلت: السواد ليس بموجود، فقد نفيت الوجود، والوجود من حيث هو وجود ماهية، فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود، فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي، فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضاً، فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا: لا إله إلا الله على ظاهره، من غير حاجة إلى الإضمار.
10. سؤال وإشكال: إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود، فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود، ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود، والجواب: موصوفية الماهية بالوجود، هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا، فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفيا لتلك الماهية، فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها، وحينئذ يعود التقريب المذكور، وإن لم تكن تلك الموصوفية أمرا منفصلا عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي، إما إلى الماهية وإما إلى الوجود، وحينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا، لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار ألبتة.
11. سؤال وإشكال: تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات، فإنك ما لم تتصور الوجود أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود، فتصور الوجود غني عن تصور العدم، وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود، فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات، والجواب: أن الأمر في العقل على ما ذكرت، إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد.
12. ذكر هنا بعض المباحث العقدية والإشارات الصوفية المرتبطة بـ ﴿هُوَ﴾ ، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
13. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا ﴿رَحِيمٌ ﴾ وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا ﴿الرَّحْمَنُ﴾، وخص الله تعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية، وعزة الفردانية وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.
14. لما حكم الله تعالى بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولا وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانيا.
15. اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره:
أ. قيل: الخلق هو المخلوق، واحتجوا عليه بالآية والمعقول، أما الآية فهي هذه الآية، وذلك لأنه تعالى قال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى قول: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق، وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور:
• أحدها: أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، فهذا الإخراج لو كان أمرا مغايرا للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديما أو حديثا، فإن كان قديما فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال، وإن كان محدثا فلا بد له أيضا من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل.
• ثانيها: أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجا للأشياء من عدمها إلى وجودها، ثم في الأزل هل أحدث أمرا أو لم يحدث؟ فإن أحدث أمرا فذلك الأمر الحادث هو المخلوق، وإن لم يحدث أمرا فالله تعالى قط لم يخلق شيئا.
• ثالثها: أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى، وحصول الأثر أما في الحال أو في الاستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادرا مختارا بل ملجأ مضطرا إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة وذلك كفر.
ب. وقيل: الخلق غير المخلوق، واحتجوا بوجوه:
• أولها: أن قالوا: لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء، والخالق هو الموصوف بالخلق، فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى موصوفا بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات، وذلك لا يقوله عاقل.
• ثانيها: أنا إذا رأينا حادثا حدث بعد أن لم يكن قلنا: لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا: إنه حق وصواب، ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض، فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه، علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه، فالخلق غير المخلوق.
• ثالثها: أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور، ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية، فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب.
• رابعها: أن النحاة قالوا: إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به، وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم.
• خامسها: أنه يصح أن يقال: خلق السواد وخلق البياض وخلق والجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة.
16. أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسما لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صوابا قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير(3)..
17. دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية، وأن التقليد ليس طريقا ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض.
18. الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام، أولها في تفصيل القول في كل واحد منها، فالنوع الأول من الدلائل الاستدلال بأحوال السموات، روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوما: ما الذي تقرؤونه فقال: أفسر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنيانها، ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته.
19. ذكر هنا بعض المعارف العلمية المرتبطة بالسماء والأرض على حسب ما كان عليه العلم في عصره، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، ولذلك نقلناها إلى محلها من السلسلة.
20. من الدلائل اختلاف الليل والنهار، وقد ذكروا للاختلاف تفسيرين:
أ. أحدها: أنه افتعال من قولهم: خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني، فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه، وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان: 62].
ب. الثاني: أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان.
ج. وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة، فهما يختلفان بالأمكنة، فإن عند من يقول: الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي موضع ثالث عصر، وفي رابع مغرب، وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك.
21. هذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب، ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع:
أ. فقال في بيان كونه مالك الملك: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحديد: 6]
ب. وقال في القصص: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 71 ـ 73]
ج. وفي الروم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [الروم: 23]
د. وفي لقمان: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [لقمان: 29]
هـ. وفي فاطر: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [فاطر: 13]
و. وفي يس: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس: 37]
ز. وفي الزمر: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: 5]
ح. وفي غافر: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [غافر: 61] وفي عم: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 10 ـ 11]
22. اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه:
أ. الأول: أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس، وهي من الآيات العظام.
ب. الثاني: ما يحصل بسبب طول الأيام تارة، وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهو من الآيات العظام.
ج. الثالث: أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام.
د. الرابع: أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام، فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح.
هـ. الخامس: أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولا عند النفخة الأولى في الصور ويقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية، وهذا أيضا من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام.
و. السادس: أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ [الأنعام: 96].
ز. السابع: أن تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهارا وستة أشهر ليلا وهناك لا يتم النضج ولا يصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة.
ح. الثامن: أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس، من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة، يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى.
23. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ [البقرة: 164] الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك، وفلك السماء اسم لأطوق سبعة تجري فيها النجوم، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر، وإذا أريد به الجمع أنت ومثاله قولهم: ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه: الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج، وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى.
24. البحر: قال الليث سمي البحر بحرا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه ويقال استجر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي البحر بحرا لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة.
25. ذكر هنا بعض المعارف العلمية المرتبطة بالبحار على حسب ما كان عليه العلم في عصره، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، ولذلك نقلناها إلى محلها من السلسلة.
26. الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس من وجوه:
أ. أحدها: أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك.
ب. ثانيها: لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها.
ج. ثالثها: لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت.
د. رابعها: لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد، وطريقا لمنافعهم وتجاراتهم.
هـ. خامسها: أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعيا يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن، فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه.
و. سادسها: تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه.
ز. سابعها: أن الأودية العظام، مثل: جيحون، وسيحون، تنصب أبدا إلى بحيرة خوارزم على صغرها، ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد ألبتة ولا تمتد، فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها.
ح. ثامنها: ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها، ويوصلها إلى سواحل السلامة.
ط. تاسعها: ما في البحار من هذا الأمر العجيب، وهو قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: 19 ـ 20]، وقال: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: 12]، ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الاختلاط بالبعض، وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها.
27. دل قوله تعالى في صفة الفلك: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ على إباحة ركوبها، وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات.
28. دلالة قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ على الصانع من وجوه:
أ. أحدها: أن تلك الأجسام، وما قام بها من صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى، قال سبحانه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30].
ب. ثانيها: أنه تعالى جعله سببا لحياة الإنسان، ولأكثر منافعه قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ [الواقعة: 68، 69] وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: 30].
ج. ثالثها: أنه تعالى كما جعله سببا لحياة الإنسان، جعله سببا لرزقه قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].
د. رابعها: أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة، التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام.
هـ. خامسها: أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدرا بمقدار النفع من الآيات العظام، قال تعالى حكاية عن نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [نوح: 10، 11].
و. سادسها: ما قال ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ [فاطر: 9] وقال: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]
29. ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ هذه الحياة من جهات:
أ. أحدها: ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما، مما لولاه لما عاشت دواب الأرض.
ب. ثانيها: أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد.
ج. ثالثها: أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة، لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات، بقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: 6].
د. رابعها: أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس، لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله.
هـ. خامسها: يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة.
30. وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز، لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم، وكذلك الموت، إلا أن الجسم إذا صار حيا حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء، والنشور والنماء، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة.
31. إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه:
أ. أحدها: نفس الزرع، لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه.
ب. ثانيها: اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى.
ج. ثالثها: اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر.
د. رابعها: استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة.
32. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان، وسائر الحيوانات، كقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، ذلك أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد، وقد يكون بالتوالد، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم:
أ. الإنسان متولد من النطفة، فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها، فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب، وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك، بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية، و الأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله أكثر علما وقدرة، ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفيتها لا يقدر على ذلك، فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك، وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع، فهذا المعنى إما أن يكون جسما متشابه الأجزاء في نفسه، أو يكون مختلف الأجزاء، فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة، لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه، وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة، وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع، وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات، فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحما ودما وإنسانا من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها، وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى.
ب. الاستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها، وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها، واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن.
ج. ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.. ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا: أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار، لأنها حارة يابسة، وأدون منها في اللطافة الهواء، ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها، ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان، لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض، وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء، وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء، وتحت الكل: القلب، وهو حار يابس على طبع النار، فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء، ويركبها كيف أراد، ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه، وعن الهواء كي لا يزيل طراوته ولطافته، وعن النار كيلا تحرقه، ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء، فقال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59] وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30] وقال في الهواء: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم: 12] وقال أيضا: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا﴾ [المائدة: 110] وقال: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر: 29] وقال في النار: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: 15] وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد.
د. انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم، فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوبا يقطع نفسه لمات في الحال، ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة، مع تعذر النفس هناك ولم يمت، ثم إنه بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم، بحيث لا يميز بين الماء والنار، وبين المؤذي والملذ، وبين الأم وبين غيرها، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة، كان أكثر فهما وقت الاستكمال، فلما لم يكن الأمر كذلك، بل كان على الضد منه، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم.
هـ. اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المتشابهة بعضها بالبعض، ونرى الناس مختلفين جدا في الصورة، ولولا ذلك لاختلت المعيشة، ولاشتبه كل أحد بأحد، فما كان يتميز البعض عن البعض، وفيه فساد المعيشة، واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له.
33. تصريف الرياح: وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف، وهو الرقة واللطافة، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات، وذلك من وجوه:
أ. أحدها: أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضا شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل، لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبدا، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين، والأدوية النادرة قليلة، فلا جرم عزت هذه الأشياء، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جدا، فلا جرم كانت في نهاية العزة، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد، كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال:
çسبحان من خص القليل بعزه...والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي...نفس لمحتاج إلى أنفاسهé
ب. ثانيها: لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم بقلب الريح من الشمال إلى الجنوب، أو إذا كان الهواء ساكنا أن يحركه لتعذر.
34. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ قال الواحدي: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير.. والرياح جمع الريح قال أبو على الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الإعلال، كالواو في قوم وقول، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري: إنما سميت الريح ريحا لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح.
35.الرياح أربع، الشمال والجنوب والصبا والدبور، فالشمال من نقطة الشمال، والجنوب من نقطة الجنوب، والصبا مشرقية، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولا لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء.. وكل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس، كقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع، فأما ما روى في الحديث من أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا هبت الريح قال (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا)، فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: 46] وإنما يبشر بالرحمة، وقال في موضع الإفراد: ﴿فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: 41] وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17] وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾.. ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ [القارعة: 3، 10]
36. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء، ومعنى التسخير التذليل، وإنما سماه مسخرا لوجوه:
أ. أحدها: أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع، فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر.
ب. الثاني: أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس، ويكثر الأمطار والابتلال، ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة، فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو المسخر الله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة.
ج. الثالث: أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل.
37. ﴿لَآيَاتٍ﴾ لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى الكل، أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد مما تقدم ذكره، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه:
أ. أحدها: أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة.
ب. ثانيها: أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادرا، لأنه لو كان المؤثر موجبا لدام الأثر بدوامه، فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان دلت على علم الصانع، ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع، ومن حيث أنها وقعت على وجه الاتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع، على ما قال تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22].
ج. ثالثها: أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلا لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر.
د. رابعها: أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث، فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصا بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهدا على وجود الصانع، لا جرم قال إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى، وأما المحدث فكل ما عداه، وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهدا على وجوده مقرا بوحدانية معترفا بلسان الحال بإلهيته، وهذا هو المراد من قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
38. ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ إنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره، وما يلزم عبادته وطاعته.
39. النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعما دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج، فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قال القاضي عبد الجبار: الآية تدل على أمور:
أ. أحدها: أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك.
ب. ثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
ج. ثالثها: أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/146.
(2) الكلام هنا لأبي علي.
(3) الكلام هنا أبي مسلم.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شي، قال ابن عباس: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص وهذه الآية، وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما، فبين الله أنه واحد.
2. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ نفى وإثبات، أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله، وحكى عن الشبلي أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فاسأل عن ذلك فقال: أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار.. وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، والمقصود القلب لا اللسان، فلو قال لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة.
3. قال عطاء: لما نزلت ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد! فنزلت ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال لما نزلت ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قالوا: هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع.
4. جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها تراب.
5. آية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة، ولو جاء نبي فتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا، ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية.
6. آية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾:
أ. قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الأخر من حيث لا يعلم.
ب. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر.
8. الليل: جمع ليلة، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل، ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكان ليالي في القياس جمع ليلاة، وقد استعملوا ذلك في الشعر قال: (في كل يوم وكل ليلاة)
9. النهار: يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار، وقيل النهار اسم للنهار، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير، و الأول أكثر، قال الشاعر:
çلولا الثريدان هلكنا بالضمر...ثريد ليل وثريد بالنهرé
قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار، ويقال: إن النهار يجمع على النهر، والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ورجل نهر: صاحب نهار، ويقال: إن النهار فرخ الحبارى، قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار، وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبى الصلت:
çوالشمس تطلع كل آخر ليلة...حمراء يصبح لونها يتوردé
وأنشد قول عدي بن زيد:
çوجاعل الشمس مصرا لا خفاء به...بين النهار وبين الليل قد فصلاé
وأنشد الكسائي:
çإذا طلعت شمس النهار فإنها...أمارة تسليمي عليك فسلميé
قال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس.
10. قسم ابن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها، وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار.. والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال لما نزلت ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ قال له عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف بهما الليل من النهار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار)، فهذا الحديث يقضى أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو مقتضى الفقه في الايمان، وبه ترتبط الأحكام، فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث، وعلى الأول لا يحنث، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الفيصل في ذلك والحكم، وأما على ظاهر اللغة واخذه من السنة فهو من وقت الاسفار إذا اتسع وقت النهار، كما قال:
çملكت بها كفي فأنهرت فتقها...يرى قائم من دونها ما وراءهاé
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول.
11. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث، وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان، والفلك المفرد مذكر، قال تعالى: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ فجاء به مذكرا، وقال: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ فأنث، ويحتمل واحدا وجمعا، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ فجمع، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث، وقيل: واحده فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم، وفلكت الجارية استدار ثديها، ومنه فلكة المغزل، وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور، ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها، وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: اصنعها على جؤجؤ الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل، فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله ابن العربي.
12. هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد، ومن السنة حديث أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، الحديث، وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، فيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب، وروي عن عمر وعمر بن عبد العزيز المنع من ركوبه، والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين قالوا له: إنا نركب البحر، وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض واليها المفزع، وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا، ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل الله سبيله بالفلك، قاله ابن العربي، قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره، والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال إنما كره ذلك مالك لان السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك، وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس، قال والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يخص بحرا من بر.
13. دل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوب البحر للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهي الحجة وفيها الأسوة، إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد لم يجز ركوبه لاحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون.
14. ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم، وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا، وقد قال بعض من طعن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾
15. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى: ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾
16. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أي فرق ونشر، ومنه ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾، ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، قال الأعشى: (دبيب قطا البطحاء في كل منهل)، وقال علقمة بن عبدة: (صواعقها لطيرهن دبيب)
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾:
أ. قيل: تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة.
ب. وقيل: تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهى التي تأتى بين مهبى ريحين.
ج. وقيل: تصريفها أن تأتى السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضربهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت.
18. الرياح: جمع ريح سميت به لأنها تأتى بالروح غالبا، روى أبو داوود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الريح من روح الله تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالريح يوم الأحزاب، فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾، ويقال: نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا، أي فرج عنه، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، أي فرج عنه، وقال الشاعر:
çكأن الصبا ريح إذا ما تنسمت...على كبد مهموم تجلت همومهاé
قال ابن الاعرابي: النسيم أول هبوب الريح، واصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح، لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها، وفي مصحف حفصة وتصريف الأرواح.
19. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ سمى السحاب سحابا لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحبا، وتسحب فلان على فلان: اجترأ، والسحب: شدة الأكل والشرب، والمسخر: المذلل.
20. تسخيره بعثه من مكان إلى آخر، وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأول أظهر، وقد يكون بماء وبعذاب، روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وارد فيها ثلثه)، وفي رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل)، وفي التنزيل: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ وهو في التنزيل كثير، وخرج ابن ماجة عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: (اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به)، فإن أمطر قال: (اللهم سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثة، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك، أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: (إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)، ويقول إذا رأى المطر: (رحمة)، في رواية فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾
21. هذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول بأن تسخيرها ليس ثبوتها، فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح، لقوله ﴿بَيْنِ﴾ وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك أعظم في القدرة، كالطير في الهواء، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ﴾ وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾
22. ﴿لَآيَاتٍ﴾ أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ليدل بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها)، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها.
23. سؤال وإشكال: ما أنكرت أنها أحدثت أنفسها، والجواب: هذا محال، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهى معدومة كان محالا، لان الأحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغنى عن إحداث أنفسها، وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.
24. ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الاخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والخطاب للكفار، لقوله تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعني بالملكوت الآيات، وقال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ، يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغنى عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ يعني آدم عليه السلام، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ﴾ أي جعلنا نسله وذريته ﴿نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ إلى قوله: ﴿تُبْعَثُونَ﴾
25. الإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الافعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.
26. قال بعض الحكماء: إن كل شي في العالم الكبير له نظير العالم الصغير، الذي هو بدن الإنسان، ولذلك قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وقال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض، وفية من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء، وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار، لان العروق تستمد من الكبد، ومثانته بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر، وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض، وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر، والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض، ثم إن الإنسان يحكى بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد، لا إله إلا هو.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/191.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك، والإشارة إلى أنّ أوّل ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
2. لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ عقب ذلك بالدليل الدالّ عليه، وهو: هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها، أو يقتدر عليه، أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبثّ الدوابّ منها بسببه، وتصريف الرياح؛ فإن من أمعن نظره؛ وأعمل فكره في واحد منها؛ انبهر له، وضاق ذهنه عن تصوّر حقيقته، وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه.
3. إنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب.
4. المراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر، والنهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقال النضر بن شميل: أوّل النهار طلوع الشمس، ولا يعدّ ما قبل ذلك من النهار، وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت:
çوالشّمس تطلع كلّ آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورّدé
وكذا قال الزجاج، وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها، وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار، هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة، وأما في الشرع: فالكلام في ذلك معروف.
5. الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا، ويذكر ويؤنث، قال الله تعالى: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾، ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾، وقيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد وأسد، ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ يحتمل أن تكون ما: موصولة أي: بالذي ينفعهم، أو مصدرية: أي بنفعهم.
المراد بما أنزل من السماء: المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق.
6. البثّ: النشر، والظاهر أن قوله: ﴿بَثَّ﴾ معطوف على قوله ﴿فَأَحْيَا﴾ لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر، وقال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل.
7. المراد بتصريف الرياح: إرسالهما عقيما، وملقحة، وصرّا، ونصرا، وهلاكا، وحارة، وباردة، ولينة، وعاصفة، وقيل: تصريفها: إرسالها جنوبا، وشمالا، ودبورا، وصبا، ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين؛ وقيل: تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر.
8. السحاب: سمي سحابا: لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحبا، وتسحب فلان على فلان: اجترأ.
9. المسخر: المذلل، وسخره: بعثه من مكان إلى آخر؛ وقيل: تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، والأوّل أظهر.
10. الآيات: الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/188.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرّده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عديل، قال الراغب: يجوز أن يكون قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ خطابا عاما، أي المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر؛ ويجوز أن يكون خطابا للمؤمنين، والمعنى، الذي تعبدونه إله واحد، تنبيها أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناما آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك.
2. سؤال وإشكال: ما فائدة الجمع بين: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وبين ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وأحدهما يبنى على الآخر؟ والجواب: لما بين بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها ـ وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة ـ أكده بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكدا وتكرر عليه الألفاظ، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه.
3. لما كان مقام الوحدانية لا يصحّ إلّا بتمام العلم وكمال القدرة، نصب تعالى الأدلة، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات، على ذلك تبصيرا للجهّال وتذكيرا للعلماء بقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
4. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع.
5. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان: 62]، أو اختلاف كلّ منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا كما قال: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحج: 61]، أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك.
6. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليم لغيره، قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإن أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا، ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه ـ قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى.
7. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي المزن ﴿مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ باستيلاء اليبوسة عليها ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ أي نشر وفرق ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ من العقلاء وغيرهم.
8. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ أي: تقليبها في مهابها: قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا، وفي أحوالها: حارة وباردة وعاصفة ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطورا تسوقه، وآونة تجمعه، ووقتا تفرقه، وحينا تصرفه، قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنفس ضعيف وروح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار فهي الزعزعان والزعزع، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ويقال لها زوبعة أيضا، فإذا هبت بالغبرة فهي الهبوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسّموم، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم، ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقع التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
9. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء ـ كما تهوي بقية الأجرام العالية ـ حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع؛ مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع، ذكره البقاعي، قال الثعالبي: أول ما ينشأ السحاب فهو النّشء، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب، فإذا تغيرت له السماء فهو الغمام، فإذا أظلّ فهو العارض، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق فهو العماء، فإذا عنّ فهو العنان، فإذا كان أبيض فهو المزن، قال الراغب: التسخير القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه، كحمل الرحى على الطحن.
10. ﴿لَآيَاتٍ﴾ أي عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كمّا وكيفا ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جلّ شأنه، قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوتة، فجعل سبحانه العالم ـ وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار ـ على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى: الغيب والأمر والملكوت، و الأول يدركه عامة الناس، و الثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس، فالله تعالى ـ بكمال عنايته ورأفته ورحمته ـ جعل العالم بقسميه محتويا على جمل وتفاصيل من وجوه متعدّدة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشرية، عن ضبطها، يستدلّ بها على وحدانيته، بعضها أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكلّ بقدر ما هيّئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك ـ والعياذ بالله ـ هو الشقيّ.
11. كيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات(2).:
أ. أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان، لأن لهما أجزاء يفتقران إليها، فلا بدّ لها من محدث ليس بعض أجزائهما، لأنه دخله التركيب الحادث، والقديم لا يكون محلا للحوادث، والمحدث لا بدّ أن يكون قديما قطعا للتسلسل، وعلى التوحيد، فلأن إله السموات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر، وعلى الرحمتين لأنه عزّ وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السموات.
ب. أما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السموات ولا بدّ لها من محرك، فإن كان حادثا فلا بدّ له من محدث، وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال، فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما، وعلى الرحمتين، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما، إذ دوام الليل مبرّد للعالم في الغاية، ودوام النهار مسخّن له في الغاية.
ج. أما دلالة الفلك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله، ودخول الهواء فيها ـ وإن كان من الأسباب ـ فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقلّ الهواء جدا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدا، فلا ينبغي أن ينسب إلّا إلى الله تعالى من أوّل الأمر؛ وعلى التوحيد، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك؛ وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها.
د. أما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلّا من الله، وعلى التوحيد، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه، وعلى الرحمتين، فلأنّه أحيى به الأرض معاشا للحيوانات، وبثّ به الدواب تكميلا لمنافع الإنسان.
هـ. أما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرّة وهذه أخرى، وقد يعدم الكلّ، فلا بدّ من محدث، فإن كان حادثا افتقر إلى قديم، وعلى التوحيد، فلأنّه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخلّ بالنظام، وعلى الرحمتين، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار.
و. أما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلا لنزل، أو كان خفيفا لصعد، لكنه يصعد تارة وينزل أخرى فهو من الله تعالى؛ وأما على التوحيد فلأن إله السحاب لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكلّ واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز، وعلى الرحمتين فلأنّ منها الأمطار، وله وجوه أخر من الدلالات وفوائد غير محصورة، قنعنا بما ذكرنا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/458.
(2) الكلام هنا للمهايمي.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِلَهُكُم﴾ معشر الخلق، الأجسام والأعراض، العقلاء وغيرهم، الحيوان والجماد، بتغليب العقلاء، ويختصُّ بهم ما يناسِبُهم بعدُ، ويتجدَّدُ لهم معرفته أنَّه لغيرهم أيضًا، وقيل: الخطاب للعقلاء، وقيل: لقريش القائلين: صِفْ لنا ربَّك يا محمَّد، ويلتحق بهم غيرهم، وزعم بعض أنَّه للكاتمين.
2. ﴿إِلَـهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: إنَّ الذي يستحقُّ العبادة منكم إله واحدٌ في ذاته لا يتجزَّأ، وفي صفاته وأقواله وأفعاله، وفي ألوهيَّته، وقيل: الوحدة هنا عدم التَّجزيء، والأولى: أنَّ المعنى: لا نظير له، فيدخل ما ذُكر وعدم التجزُّؤ.
3. قيل: سألت اليهود وقريش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يصف لهم ربَّهم فنزلت سورة الإخلاص وقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
4. ﴿لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ الجملة خبر ثان أو نعت ثان لـ (إله)، والمنفيُّ الآلهة الحقَّة، أي: لم يوجد إله بحقٍّ إلَّا الله، أو الآلهة الباطلة، أي: ليست موجودة من حيث الألوهيَّة، ولو ادَّعاها عابدوها.
5. و(الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) خبر إنَّ لإِلهكم، وقيل: الرحمن بدل هو، و(الرَّحِيمُ) نعت (الرَّحْمَنُ)، وقيل: بدلان مِن (هُوَ)، وقيل: خبر لمحذوف.
6. وروي أنَّ حول الكعبة ثلاثمائة وستُّون صنمًا، وَلَمَّا نزل: ﴿وَإِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ قالوا متعجِّبين: ائتِ بآية على ذلك، فنزل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾، وهم غير القائلين: (لا شريك لك، إلَّا إلهًا تملكه وما ملك)، هو الخالق وما سواه منعَم عليه، ونعمة مشكورة أو مكفورة بالعصيان أو الشرك، وطلبوا آية على ذلك، فنزل قوله تعالى:
7. ﴿إنَّ فِي خَلْقِ﴾ إيجاد ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السَّبع من حيث ارتفاعها بلا عمد ولا علاقةٍ، ونيِّراتها؛ ﴿وَالَارْضِ﴾ أي: جنسها، فصدق بسبع في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَارْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]، وفي قوله: صلّى الله عليه وآله وسلّم (من اقتطع قيد شبر من أرض جاره طوِّقه من سبع أرضين)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اللهمَّ ربَّ السَّماوات السَّبع وما أظللن، وربَّ الأرضين السَّبع وما أقللنَ) من حيث مدُّها وكونها على الماء، ومن حيث شجرها وجبالها وبحارها ومعادنها وجواهرها، وعيونها وثمارها وحيواناتها وأفرادها؛ لأنَّها متَّفقة بالحقيقة، وهي التُّراب، بخلاف السَّماوات فالأولى: من زبد الماء متجمِّدًا، والثَّانية من رُخامٍ أبيض، والثَّالثة من حديد، والرَّابعة من نُحاسٍ، والخامسة من فضَّةٍ، والسَّادسة من ذهبٍ، والسَّابعة من ياقوت أحمر، وقيل: الأولى: زبد جامد، والثَّانية من نُحاسٍ، والثَّالثة من فضَّةٍ، والرَّابعة من ذهبٍ، والخامسة من ياقوتٍ، والسَّادسة من زمرد، والسَّابعة من نور العرش، بين كلِّ سماءٍ وأخرى، وأرضٍ وأخرى، والأرض والسَّماء، [مسيرة] خمسمائة عامٍ كغلظ كلٍّ ـ كذا قيل ـ .
8. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ من الاِفتعال بمعنى التفاعل، يتخالفان طولاً وقصرًا إلَّا وقت الاِعتدال، وزيادة ونقصًا، وذهابًا ومجيئًا، وظلمة ونورًا، وسكونًا للجوارح والأبصار، وراحة وانتشارًا لها، واختلافًا للأوقات، فكلُّ ساعةٍ: مغربٌ في موضع، وعِشاءٌ في آخر، وثلثُ ليلٍ في آخر، ونصفُه في آخر، وسدسٌ في آخر، وسحرٌ في آخر، وتوسُّطٌ في آخر، وزوالٌ في آخر، ووسطٌ الوقتين في آخر، وعصرٌ في آخر، واصفرارٌ في آخر، وغروبٌ في آخر، وما بين ذلك كلِّه أيضًا متخالف، ولا تزول ولو لحظة، تغرب عن موضع وتطلع في آخر من خلفها وقدَّامها، وأينما كانت الشمس عند غروبها في موضع وطلوعها في آخر يكون وراءها مثل الفجر الكاذب شفقًا أبيض، وقدَّامها مثله، وكلُّ بلدٍ يكون عرضه للشَّمال أكثر من طوله يكون أيَّام صيفه أقصر من أيَّام شتائه، والظلمة سابقة على الضَّوء، فقدم اللَّيل لذلك، فالنَّهار لليلة قبله وهو الصَّحيح، وقيل بالعكس، واستثنى بعضهم يوم عرفة على الأوَّل وجعله لليلة بعده، ولا يصحُّ ذلك، وإنَّما نتَّبع الحكم الشَّرعي وليس رجوعًا لتقدُّم اليوم على اللَّيلة.
9. ﴿وَالفُلْكِ﴾ جماعة بدليل قوله: ﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ فدلَّ على الجماعة، بضمِّ الفاء وإسكان اللَّامِ مع الحروف بخلاف الفلك المفرد فإنَّه لا دلالة لضمِّه وسكونه على معنى، أو سُكِّنت اللَّام عن ضمِّ الجمعِ تخفيفًا، والمعنى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالَارْضِ﴾، وفي الفلكِ فالعطف على (خَلْقِ)، أو ﴿إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ﴾، وفي خلق الفلك فالعطف على (السَّمَاوَاتِ)، وقد يجوز عطفه على (اللَّيْلِ)، أي: واختلاف الفلكِ ذهابًا ورُجوعًا، وعلى كلِّ حال إنَّ في ذاتها وإيجادها من حيث إنَّها لا تنزل إلى أسفل الماء مجرَّدة، أو محمولاً فيها ما خفَّ، أو ما ثقل، وجريانها على وجه الماء بالرِّيح مقبلةً ومدبرةً مع قوَّة الماء وهيجانهِ.
10. ﴿بِمَا﴾ أي: بالذي، ﴿يَنفَعُ النَّاسَ﴾ من التِّجارة وسائر ما يُحمل فيها، قيل برد الضمير لـ (ما) على أنَّها موصولة اسميَّة، أو بنفعه النَّاس على أنَّ (ما) مصدريَّة برد الضَّمير للجري، أو للبحر، والردُّ للجري أولى؛ لأنَّ النَّفع بالجري بالذَّات بخلاف البحر فبواسطة الجري ولو كان الجري بواسطة البحر، وقيل: يجوز تذكير الفلك وتأنيثه مفردًا أو جماعة، فيجوز ردُّ الضَّمير للفلك، وقد قيل: إنَّه مفرد أُنِّثَ بتأويل السَّفينة أوَّلاً، وذكِّر ثانيًا على أصله، وفي البحر أيضًا عجائب حيتان ولؤلؤ ومرجان وياقوت، والسَّفينة آلة الخوض فيها والاِطِّلاع على ذلك، ولكن لا تحمل الآية على الإشارة لذلك لما فيه من التكلُّف، ولو كانت الفلك سببًا.
11. ﴿وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ﴾ أي: وفي خلق ما أنزله من السَّحاب، أو في ما أنزله من السَّحاب سمَّاه سماءً، أو ﴿مِنَ السَّمَآءِ﴾: إحدى السَّبع يصل بسُرعة، أو أريد بالسَّماء جهة العلوِّ فيشمل الوجهين، والماء تارة من السَّماء، أو من الجنَّة ينزل في أقرب مدَّة كسرعة الملَك في النُّزول، وتارة من البحر والعيون بخارًا، وهو الأكثر، وتارة بتقلُّب أجزاء الهواء الصِّغار الهبائية ماء بسبب، وأخَّره مع أنَّه أفضل ـ قيل ـ لفضله الزَّائد، أو لجمعه العلوَّ والسفل إذ منه ما من السماء وما من البحر، كما أنَّ اختلاف الليل والنهار فيه ذلك؛ لأنَّ الضوء والظُّلمة في الأرض والجوِّ والفلكَ بالماء والرِّيح.
12. ﴿فَأَحْيَا بِهِ الَارْضَ﴾ بالنبات، أظهر بهجتها وزيادة منها، إظهارًا شبيهًا بإحياء ما مات، وبإدخال الرُّوح فيما ليس حيًّا قطُّ، بجامع الحسن والزِّيادة، وهي قبل النبات جماد، وكَميِّتٍ بعد حياة، كما قال: ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: عدم النبات فيها أو زواله عنها، وذلك أنَّ الماء سبب للحياة في الحيوانات وسبب للنبات والثِّمار، وينزل عند الحاجة وبالدُّعاء والاِستسقاء، وفي مكان دون مكان، وهو لكلِّ سنة مقدار مخصوص، ويكون في بعض بلاد دون بعض.
13. ﴿وَبَثَّ﴾ به، أي: فرَّق، أي: بما أنزل من السماء من ماء، وفيه حذف رابط الصِّلة المجرور بدون جرِّ الموصول بمثله، ودون تعلُّقه بما تعلَّق به جارُّ الموصول لو جرَّ، فأقول: يجوز حذف الرَّابط بلا شرط إذا علم، وذلك أنَّ (بثَّ) معطوف على الصِّلة أو على ما عطف عليها ولا يضرُّ فصله لأنَّه سبـبيٌّ وكأنَّه صلة، وهذا أولى من أنْ يقال: بثَّه، أي: بثَّ به.
14. ﴿فِيهَا﴾ دوابَّ ﴿مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ أي: من كلِّ نوعٍ من الدَّوابِّ توجد بالماء خلقًا، وينمو الموجود منها بالتَّوالد، مع اختلافها خرسًا ونطقًا، وصوتًا ولونًا، ووحشًا وأنسًا، ونفعًا وضرًّا وطبعًا، وغير ذلك كطول حياة وقصرها، وطول ذات وقصرها، ورقَّةٍ وغلظة؛ وفي السماء دوابّ أيضًا.
15. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تقليبها جنوبًا وشمالاً، وقبولاً ودبورًا، حارَّة وباردة، وليِّنة وعاصفة، وعقيمًا ولاقحًا للمطر والشَّجر، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا هبَّت الرِّيح قال: (اللهمَّ اجعلها رياحًا لا ريحًا)؛ لأنَّ مفردها في القرآن سوء، كقوله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ اِذَ اَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: 41]، وجمعها في خيرٍ، كقوله تعالى: ﴿وَمِنَ ـ ايَاتِهِ أَنْ يُّرْسِلَ الرِّيـَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ [الروم: 46] ويقال: سمِّيت ريحًا لأنَّها تريح النُّفوس، وياؤه عن واو، ويقال: ما هبَّت إلَّا لشفاء سقيم أو سقم صحيح، ويقال: البشارة في الصَّبا والشّمال والجنوب، وَأَمَّا الدَّبور فعقيمة لا بشارة فيها، وسمِّيت الصَّبا قَبولاً لاستقبالها وجه الكعبة، وهي حارَّة يابسة، ويسمِّيها أهل مصر (الشَّرقية) لأنَّها تهبُّ من الشَّرق؛ ويقال: المبشِّرات والنَّاشرات والذَّاريات والمرسلات والرُّخاء للرَّحمة، والعقيم والصَّرصر والعاصف والقاصف في البحر للعذاب، والصَّبا من مطلع الشمس في الاِعتدال، والدَّبور تقابلها، والشّمال من جانب القطب، والجنوب تقابلها، وطبع الدَّبور البرد والرُّطوبة، يسمِّيها أهل مصر الغربيَّة؛ لأنَّ مهبَّها الغرب، وتأتي من دُبُرِ الكعبة، وطبع الشّمال البرد واليبس، وتسمَّى البحريَّة؛ لأنَّه يُسَار بها في البحر على كلِّ حال، وقلَّما تهبُّ ليلاً، وطبع الجنوب الحرارة وتُسمَّى القبليَّة؛ لأنَّ مهبَّها من مقابلة القطب، وهي عن يمين مستقبل المشرق، ويقال: إذا هبَّت على أهل مصر سبع ليال استَعَدُّوا للأكفان، ولو أمسكت الرِّيح طرفة عينٍ لمات كلُّ ذي روحٍ وانتن ما على الأرض.
16. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ المذلَّل ﴿بَيْنَ السَّمَآءِ وَالَارْضِ﴾ بلا عمد ولا علاقة مع ما فيه من المياه الثَّقيلة العظيمة التي تملأ منها الأودية والأراضي، سمِّي لانسحابه وانجراره، ويسير بواسطة الرِّياح، و(بَيْنَ) متعلِّق بـ (مُسَخَّر) أو حال من المستتر فيه، ﴿لَايَاتٍ﴾ دلائل على وجود الله وقدرته، وكونه لا كالأشياء.
17. ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يستعملون عقولهم فيدركون بها الحقَّ ولا يهملونها، روى ابن أبي الدُّنيا وابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها)، وتلك الأمور من الجائز، قابلةٌ لعكس ما هي عليه كلِّه من حركة أو سكون وبسط وكوريَّة وغير ذلك، ومثلها لا يفعلها ولا تفعل نفسها، فالفاعل هو غيرها وغير مثلها، والفعل لا يكون من فاعلَيْن، والمصطَلِحَانِ عاجزان، وإن كان لأحدهما فغير الفاعل ليس إلهًا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/275.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. نطقت الآيات السابقة بأن الذين يكتمون ما أنزله الله من البينات والهدى ملعونون لا ترجى لهم رحمة الله تعالى إلا أن يتوبوا فان هم ماتوا ـ على كتمانهم وما يستلزمه كفرهم من الاعمال كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من عذابها شيء، إذ لا يقبل منهم افتداء، ولا تنفعهم شفاعة الشفعاء، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ لان اللعنة تعمهم في الآخرة من جميع الملائكة والناس بحيث يظهر للعوالم أنهم لا يستحقون الرحمة حتى أن المرؤوسين يتبرؤون من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم في الضلال ويتخذون كلامهم دينا من دون كتاب الله كما سيأتي.
2. ناسب بعد هذا أن يبين الله تعالى أن شارع الدين ومحقّ الحق هو واحد لا يعبد غيره، ولا تكتم هدايته، ولا يجعل كلام البشر معيارا على كلامه، وهو مفيض الرحمة والاحسان، إذ الرحمة من صفاته الكاملة اللازمة، ليتذكر أولئك الضالون الكانمون لبينات الله، المؤثرون عليها آراء رؤسائهم وأئمتهم ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا، ويعلموا وجه خطأهم في كتمان الحق ومعاداة أهله عنادا من الرؤساء، وتقليدا من المرؤوسين، فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو، فلا تشركوا به أحدا.
3. الشرك به نوعان:
أ. أحدهما: يتعلق بالألوهية والعبادة وهو أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده، لأجل قربه منه، كما يكون من بطانة الملوك المستبدين، وحواشيهم وحجابهم وأعوانهم، فهو يتوجه إلى هذا المؤثر عند الله بزعمه عندما يتوجه اليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه، وقد يدعوه من دونه عند شدة الحاجة لكشف ضر أو جلب نفع أعيته أسبابهما، وهذا مخ العبادة.
ب. ثانيهما: يتعلق بالربوبية وهو إسناد الخلق والتدبير الى غيره معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله بحجة أن من يؤخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله فيترك الاخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾
4. ظاهر أن الواجب على العلماء بالدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه كما زاد أهل الكتب المنزلة كلهم عبادات وأحكاما كثيرة زائدة على الوحي أو مخالفة له يتأولونه لأجلها دون العكس، وإذا كان الله تعالى واحدا لا إله الا هو فلا ينبغي ان يشرك معه غيره فهو كذلك.
5. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ أي الكامل الرحمة فلا ينبغي أن يعرض العبد عن أسباب رحمته اعتمادا على رحمة سواه ممن يظن انهم مقربون عنده، فحسب المؤمن من رحمة الله التي وسعت كل شيء أن يستغني بالتصدي لها عن رجاء سواها وإلا كان من الخائبين، قال محمد عبده: نبههم سبحانه وتعالى إلى أن المنافع التي يرقبونها من شركهم إنما هي بيده الكريمة وحده، كأنه يقول إذا أنتم تركتم ما أنتم فيه لاجله تعالى فهو بتفرده بالألوهية يكفيكم كل ضرر تخافونه، ويعطيكم برحمته الواسعة كل ما ترجونه، فان بيده ملكوت كل شيء، وكل ما تعتمدون عليه من دونه فليس محلا للاعتماد بل اعتمادكم عليه من قبيل الشرك فيجب أن تطرحوه جانبا، وتعتقدوا أن الا له الذي بيده أزمة المنافع والقادر على دفع المضار وايقاعها هو واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلمته، ولا أوسع من رحمته، وإنما اكد امر الوحدة هذا التأكيد تحذيرا من طرق الشرك الخفية على انها أساس الدين وأصله.
6. أرأيت هذا الاتصال المحكم بين الآية وما قبلها؟ ان بعض المفسرين قد قطع عراه وفصمها، وجعل الآية جوابا لقوم قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: انسب لنا ربك، قاله الجلال، ويقول محمد عبده: ان سبب النزول انما يحتاج اليه في آيات الاحكام لان معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تعين على فهمه وفقه حكمته وسره، ومثلها ما فيه إشارة الى بعض الوقائع كغزوة بدر والنصر فيها ومصيبة المؤمنين في أحد، وأما الآيات المقررة للتوحيد وهو المقصود الاول من الدين، فلا حاجة الى التماس أسباب لنزولها، بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال، وإنما كان يبين عند كل مناسبة، وما عساه يكون قد قارن نزولها من حادثة أو سؤال مثل هذا الذي ذكر آنفا فهو إن صح رواية لا يزيدنا بيانا في فهم الآية ولا يصح أن يجعل سببا لنزولها لا سيما بعد الذي علم من اتصالها بما قبلها كما يليق ببلاغة القرآن ومثل هذا السبب يجعل القرآن مبددا متفرقا لا ترتبط اجزاؤه، ولا تتصل انحاؤه.. ومثله ما قالوه في سبب الآية التي بعد هذه الآية فإنها جاءت على سنة القرآن من وصل الدليل بالدعوى، ولكنهم رووا في سببها روايات منها ان آية ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ نزلت بالمدينة ثم سمع بها مشركو مكة، فقالوا ما قالوا، وعجبوا كيف يسع الخلق إله واحد، وطلبوا الدليل على ذلك، كأنهم لم يكونوا قد سمعوا عليه دليلا، وكأن هذه الدعوى لم تكن طرأت على اذهانهم ولا طرقت ابواب مسامعهم على ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد اقام فيهم يدعوهم إلى هذا التوحيد عشر سنين ونيفا، وسبق لهم التعجب منه: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾، ومعظم ما نزل بمكة آيات وبراهين عليه، فكيف نسلم أن ما نراه في التنزيل المدني من آيتين متصلتين إحداهما في التوحيد والأخرى في دليله قد كان من الفصل بينهما أن نزل الدليل بعد المدلول بزمن طويل وسبب متأخر؟
7. قال محمد عبده بعد بيان اتصال الآية بما قبلها وتقرير معناها: ومن هنا يظهر انها لا يصح أن تكون جوابا للذين قالوا: انسب لنا ربك، أو: صف لنا ربك، لان هذا السؤال انما يصدر عمن لا يعرف شيئا من صفات هذا الرب العظيم ـ أو ممن يبغي أن يعرف مقدار علم المسؤول بهذه الصفات ـ ويجب أن يكون جوابه بذكر جميع ما يجب اعتقاده من التنزيه والصفات الثبوتية، ولم يذكر في الآية الا الوحدة والرحمة، وترك ذكر العلم والحكمة والارادة والقدرة، وهي صفات لا تعقل الالوهية إلا بها، وسببه أن أولئك الكفار لم يكونوا يكتمونها ولا يشركون مع الله أحدا فيها وإنما أشركوا في الالوهية بعبادة غير الله تعالى بالدعاء والنذور والقراببن ويستلزم هذا عدم اكتفائهم برحمته.
8. الاكتفاء بذكر الوحدة والرحمة على الوجه الذي قررناه في تفسير الآية(2). ظاهر لا تطلب البلاغة غيره، لان الوحدة تذكر اولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، وذكر الرحمة بعدها يرغبهم في التوبة ويحول دون يأسهم من فضل الله بعد إيئاسهم ممن اتخذوهم شفعاء ووسطاء عنده، فيطابق ذلك قوله تعالى في الآية التي ذكر فيها الكتمان ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ الخ
9. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الخ هذه آية قرآنية تشرح لنا بعض الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى ورحمته الواسعة إثباتا لما ورد في الآية قبلها من هذين الوصفين له تعالى على طريقة القرآن في قرن المسائل الاعتقادية بدلائلها وبراهينها كما ألمعنا.
10. وهذه الآيات أجناس الاول والثاني منها خلق السموات والأرض، ففيه آيات بينات كثيرة الانواع يدهش المتأملين بعض ظواهرها فكيف حال من اطلع على ما اكتشف العلماء من عجائبها، الدال على أن ما لم يعرفوه أعظم مما عرفوه منها تتألف هذه الاجرام السماوية من طوائف يبعد بعضها عن بعض بما يقدر بالملايين وألوف الملايين من سني سرعة النور، ولكل طائفة منها نظام كامل محكم ولا يبطل نظام بعضها نظام الاخر، لان للمجموع نظاما عاما واحدا يدل على أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره، وحكمته وتدبيره، وأقرب تلك الطوائف الينا ما يسمونه النظام الشمسي نسبة الى شمسنا هذه التي تفيض انوارها على ارضنا فتكون سببأ للحياة النباتية والحيوانية فيها، والكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير والابعاد وقد استقر كل منها في مداره وحفظت النسبة بينه وبين الاخر بسنة إلهية منتظمة حكيمة يعبرون عنها بالجاذبية العامة، ولولا هذا النظام لا نفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم بذلك، فهذا النظام آية على الرحمة الالهية، كما انه آية على الوحدانية.
11. ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ في جرمها ومادتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، فلكل منها نظام عجيب وسنن إلهية مطردة في تكوينها، وتوالد ما يتوالد من أحيائها، وغير ذلك حتى لو دققت النظر في أنواع الجمادات من الصخور المختلفة الانواع، والجواهر المتعددة الخواص والالوان، لشاهدت من النظام فيها ومن أنواع المنافع في اختلافها وتنوعها ما تعلم به علم اليقين، انها ترجع في ذلك الى إبداع إله حكيم، رَؤُوف رحيم، لا شريك له في الخلق والتدبير، وكان محمد عبده يرى أن في الجماد حياة خاصة به دون الحياة النباتية، ولا أدري أقاله في تفسير هذه الآية أم لا ولكنني سمعته منه غير مرة، فهذان جنسان من آياته تعالى يشملان أنواعا وأفرادا منها يتعذر احصاؤها.
12. الجنس الثالث قوله ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ وهو أن يجيء أحدهما فيذهب الآخر، ويطول هذا فيقصر ذاك، وكل ذلك بحسبان، مطرد في جميع الاقطار والبلدان ومثله اختلاف الفصول، باختلاف مواقع العرض والطول، وقد ذكر هذه الآية بعد خلق السموات والأرض لأن هذا الاختلاف هو أثر مقابلة الأرض للشمس وحركتها بإزائها، وتفصيل ذلك مشروح في محله من العلم الخاص بهذه المسائل، وفي المشاهد من اختلاف الليل والنهار والفصول وما للناس في ذلك من المنافع المصالح آيات بينات على وحدة مبدع هذا النظام المطرد ورحمته بعباده يسهل على كل أحد أن يفهمها وان لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره، وفي القرآن بيان لذلك في مواضع كثيرة كقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾، فهذه الآية تهدى الى ما في اختلاف الليل والنهار من المنافع العامة وفي معناها آيات أخرى، وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾، وهذه هداية الى المنافع الدينية.
13. هناك آيات تشير الى أسباب هذا الاختلاف كقوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾، وقوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾، وهاتان الآيتان تدلان على استدارة الارض ودورانها حول الشمس كما بيناه في مواضع من المنار بالتفصيل وفي التفسير بالاجمال.
14. صفوة القول في هذا المقام ان اختلاف الليل والنهار أثر من آثار النظام الشمسي وقلنا إن ذلك النظام يدل على وحدة واهبه ومقدره ونقول إن آثاره تدل على ذلك أيضا، وأما دلالتها على رحمته تعالى فظاهرة مما تقدم الاستشهاد به من الآيات آنفا.
15. الجنس الرابع قوله تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ الفلك (بالضم) اسم للسفينة ولجمعها كان الظاهر أن تأتي هذه الآية في آخر الآيات ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة، والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار هي ان المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة الى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج الى معرفة الأوقات، وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم (الهيأة الفلكية) وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ فهذا وجه الترتيب بين ذكر الفلك وما قبله.
16. كون الفلك آية لا يظهر بادي الرأي كما يظهر كونها رحمة من قوله: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ أي في أسفارهم وتجاراتهم وما يعرف في هذا العصر بالمشاهدة والاختبار أكثر مما كان يعرف في العصور السالفة إذ كانت الفلك كلها شراعية فلم يكن البخار يسير أمثال هذه البواخر والبوارج العظيمة التي تحكي مدنا كبيرة فيها جميع المرافق التي يتمتع بها المترفون والملوك في البر من الأرائك والسرر والحمامات وغير ذلك أو قلاعا وحصونا فيها أقتل آلات الحرب، وكل ذلك من رحمة الاله الذي خلق هذه الاشياء وهدى اليها الانسان، فلا بد لفهم كونها آية على وحدانيته من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الاجسام وطبيعة الهواء والريح وزد على ذلك معرفة طبيعة البخار والكهرباء التي هي العمدة في سير الفلك الكبرى في زماننا فكل ذلك يجرى على سنن إلهية مطردة منتظمة تدل على أنها صادرة عن قوة واحدة هي مصدر الابداع والنظام وهي قوة الاله الواحد الحكيم، الرحمن الرحيم.
17. الجنس الخامس قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ المراد بالسماء هنا جهة العلو أو السحاب لا ما قاله المخذولون الذين تجرؤوا على الكذب على الله ورسوله، فزعموا ان بين السماء والارض بحرا، قالوا: انه موج مكفوف، وان المطر ينزل منه على قدر الحاجة في تفصيل اخترعوه ما أنزل الله به من سلطان، وتبعهم فيه أسرى النقل ولو خالف الحس والبرهان، ونزول المطر من الامور المحسوسة التي لا تحتاج الى نقل، ولا نظر عقل، وقد شرح كيفية تكوينه ونزوله العلماء الذين تكلموا في الكائنات، ووصفوا بالتدقيق الآيات المشاهدات، ولم يخرج شرحهم الطويل عن الكلمة الوجيزة في بعض الآيات التي ذكر فيها المطر وهي قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾، فحرارة الهواء هي التي تبخر المياه والرطوبات وتثيرها الرياح في الجو حتى تتكاثف ببرودتها وتكون كسفا من السحاب يتحلل منه الماء ويخرج من خلاله وينزل بثقله الى الارض وكثيرا ما شاهدنا في جبال سورية كما يشاهد الناس في غيرها أن ينعقد السحاب في أثناء الجبل وينزل منه المطر والشمس طالعة فوقه حيث لا مطر، وقد يخترق الناس منطقة المطر الى ما فوقها.
18. وصف الله تعالى هذا الجنس من آياته بأعظم آثاره فقال: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أي أوجد بسببه الحياة في الارض الميته بخلوها من صفات الاحياء كالنمو والتغذي والنتاج، وبث أي نشر وفرق في ارجائها من جميع أنواع الاحياء التي تدب عليها وهي لا تعد ولا تحصى، فبالماء حدثت حياة الارض بالنبات وبه استعدت لظهور أنواع الحيوان فيها، وهل المراد لا حياء الاول وما تلاه من تولد الحيوانات المعبر عنها بكل دابة أو هو ما يشاهد من آحاد الأحياء التي تتولد دائما في جميع بقاع الارض؟ الظاهر أن المراد أولا وبالذات الاحياء الاول المشار اليه بقوله تعالى في آية أخرى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ فهو يذكر جعل كل شيء حيا بالماء، في إثر ذكر انفصال الارض من السماء، وذلك ان مجموع السموات والارض كان رتقا أي مادة واحدة متصلا بعض أجزائها ببعض على كونه ذرات غازية كالدخان كما قال في آية التكوين: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ ولما كان ذلك الفتق في الاجرام انفصل جرم الارض عن جرم الشمس وصارت الارض قطعة مستقلة مائرة ملتهمة وكانت مادة الماء ـ وهي ما يسميه علماء التحليل والتركيب (علم الكيمياء) بالأكسجين والهدروجين ـ تتبخر من الارض بما فيها من الحرارة فتلاقي في الجو برودة تجعلها ماء فينزل على الارض كما وصفنا آنفا فيبرد من حرارتها، وما زال كذلك حتى صارت الارض كلها ماء وتكونت بعد ذلك اليابسة فيه وخرج النبات والحيوان وكل شيء حي من الماء، فهذا هو الاحياء الاول.
19. أما الإحياء المستمر المشاهد في كل بقاع الارض دائما فهو المشار اليه بمثل قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾، وذلك اننا نرى كل أرض لا ينزل فيها المطر ولا تجري فيها المياه من الاراضي الممطورة لا في ظاهرها ولا في باطنها خالية من النبات والحيوان إلا أن يدخلها من أرض مجاورة لها ثم يعود منها، فحياة الأحياء في الارض انما هي بالماء سواء في ذلك الإحياء الاول عند تكوين العوالم الحية وايجاد أصول الانواع، والإحياء المتجدد في أشخاص هذه الانواع وجزئياتها التي تتولد وتنمي كل يوم، وهذه المياه التي يتغذى بها النبات والحيوان على سطح هذه اليابسة كلها من المطر، ولا يستثنى من ذلك أرض مصر فيقال ان حياتها بماء النيل دون المطر فان مياه الانهار والعيون التي تنبع من الارض كلها من المطر، فهو يتخلل الارض فيجتمع فيندفع، وقد امتن الله تعالى بذلك علينا وأرشدنا الى آيته فيه بقوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ الآية فالبحيرات التي هي ينابيع النيل من ماء المطر والزيادة التي تكون فيه أيام الفيضان هي من المطر الذي يمد هذه الينابيع ويمد النهر نفسه في مجراه من بلاد السودان، وكثرة الفيضان وقلته تابعة لكثرة المطر السنوي وقلته هناك.
20. هذا هو الماء في كونه مطرا وفي كونه سببا للحياة وهو آية في كيفية وجوده وتكونه فإنه يجري في ذلك على سنة إلهية حكيمه تدل على الوحدة والرحمة، ثم انه آية في تأثيره في العوالم الحية أيضا، فان هذا النبات يسقى بماء واحد هو مصدر حياته، ثم هو مختلف في ألوانه وطعومه وروائحه، فتجد في الارض الواحدة نبتة الحنظل مع نبتة البطيخ، متشابهتين في الصورة متضادتين في الطعم، وتجد النخلة وتمرها ما تذوق حلاوة ولذة، وتجد في جانبها شجرة الليمون الحامض والنارنج وثمرها ما تعرف حموضة وملوحة، وتجد بالقرب منهما شجرة الورد لها من الرائحة ما ليس للنخلة وما يخالف في أريجه زهر النارنج، بل يوجد في الشجر ماله زهر ذكي الرائحة، فاذا قطعت الغصن الذي فيه هذا الزهر تنبعث منه رائحة خبيثة ـ فتلك السنن التي يتكون بها المطر وينزل جارية بنظام واحد دقيق، وكذلك طرق تغذي النبات بالماء هي جارية بنظام واحد، فوحدة النظام وعدم الخلل فيه تدل على ان مصدره واحد، فهو من هذه الجهة يدل على الوحدانية الكاملة، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع والمرافق يدل على الرحمة الالهية الشاملة، وقل مثل هذا فيما بث الله تعالى في الارض من كل دابة، فإنها آيات على الوحدة، ودلائل وجودية على عموم الرحمة.
21. الجنس السادس قوله تعالى ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ ذكر آية الرياح بعد آية المطر للتناسب بينهما وتذكيرا بالسبب، فان الرياح هي التي تثير السحاب وتسوقه في الجو الى حيث يتحلل بخاره فيكون مطرا كما تقدم آنفا في آية: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾، وتصريف الرياح تدبيرها وتوجيهها على حسب الارادة ووفق الحكمة والنظام، فهي تهب في الاغلب من احدى الجهات الاربع وتارة تأتي نكباء بين بين، وقد تكون متناوحة، أي تهب من كل ناحية، ومنها العقيم، ومنها الملقحة للنبات وللسحاب واذا هبت حارة في بعض الاماكن والاوقات فهي تهب عقب ذلك لطيفة الحرارة أو باردة، وكل ذلك يجري على سنة حكيمة تدل على وحدة مصدرها، ورحمة مدبرها.
22. الجنس السابع قوله تعالى ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أي الغيم المذلل المسحوب في الجواء لا نزال المطر في البلاد المختلفة، ذكر السحاب هما بعد ذكر تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه وهي التي تسوقه الى حيث يمطر وتفرق شمله أحيانا فيمتنع المطر، ولم يذكره عند ذكر الماء مع انه سببه المباشر ليرشدنا الى أنه في نفسه آية، فإنه يتكون بنظام ويعترض بين السماء والارض بنظام، فهو في ظاهره آية تدهش الناظر الجاهل بالسبب لو لم يألف ذلك ويأنس به، وإنما يعرفها حق معرفتها من وقف على السنن الالهية في اجتماع الاجسام اللطيفة وافتراقها، وعلوها وهبوطها، وهو ما يعبر عنه علماء هذا الشأن بالجاذبية، وهي أنواع منها جاذبية الثقل والجاذبية العامة وجاذبية الملاصقة وغيرها، ومن لا يعرف أسرار هذه الكائنات، وإنما ينظر الى ظواهرها فيراها كما تراها العجماوات، فهو لا يفهم معنى كونها آيات، لأنه أهمل آلة الفهم التي امتاز بها وهي العقل، ولذلك اخبر الله تعالى عن هذه الاجناس كلها ان فيها.
23. ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فانهم هم الذين ينظرون في أسبابها، ويدركون حكمها وأسرارها، ويميزون بين منافعها ومضارها، ويستدلون بما فيها من الاتقان والاحكام، والسنن التي قام بها النظام، على قدرة مبدعها وحكمته، وفضله ورحمته، وعلى استحقاقه للعبادة دون غيره من بريته، وبقدر ارتقاء العقل في العلم والعرفان، يكمل التوحيد في الايمان، وإنما يشرك بالله أقل الناس عقلا، وأكثرهم جهلا.
24. أليس أكبر خذلان للدين وجناية عليه أن لا ينظر المنتسبون اليه في آياته التي يوجههم كتابه الى النظر فيها، ويرشدهم الى استخراج العبر منها؟ أليس من أشد المصائب على الملة أن يهجر رؤساء دين كهذا الدين العلوم التي تشرح حكم الله وآياته في خلقه ويعدوها مضعفة للدين أو ماحية له، خلافا لكتاب الله الذي يستدل لهم بها ويعظم شأن النظر فيها؟ بلى وإنهم ليصرون على تقاليدهم هذه وليس عليها حجة وإنما اتبعوا فيها سنن قوم ممن قبلهم وكان بعض الحكماء المتأخرين يقول كلمة في أهل دينه الذين خذلوه: هكذا شأن أهل الاديان كافة كأنهم تعاهدوا جميعا على أن يكون سيرهم واحدا، وهذا المعنى مأخوذ من قول الله تعالى في الكافرين يتفقون في كل أمة على الطعن في نبيها ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾
25. قد يزعم بعض هؤلاء الذين يعادون علم الكون باسم الدين أن النظر في ظواهر هذه الاشياء كاف للاستدلال بها ومعرفة آيات صانعها وحكمته ورحمته، فمثلهم كمثل من يكتفي من الكتاب برؤية جلده الظاهر وشكله من غير معرفة ما أودعه من العلم والحكمة، نعم ان هذا الكون هو كتاب الابداع الالهي المفصح عن وجود الله وكماله، وجلاله وجماله، وإلى هذا الكتاب الاشارة بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ وبقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله﴾ فكلمات الله في التكوين باعتبار آثارها ومصداقها هي آحاد المخلوقات والمبدعات الالهية، فإنها تنطق بلسان أفصح من لسان المقال، لكن لا يفهمه الذين هم عن السمع معزولون، وللعلم معادون، الواهمون أن معرفة الله تقتبس من الجدليات النظرية، والأقيسة المنطقية، دون الدلائل الوجودية الحقيقية، ولو كان زعمهم حقيقة لا وهما، لكان الله سبحانه استدلّ في كتابه بالأدلة النظرية الفكرية، وذكر الدور والتسلسل وغير ذلك من الاصطلاحات الكلامية، ولم يستدل بالسماء والارض والليل والنهار والفلك والمطر وتأثيره في الحياة، وغير ذلك من المخلوقات التي أرشدنا القرآن إلى النظر فيها، واستخراج الدلائل والعبر منها ألا إن لله كتابين: كتابا مخلوقا وهو الكون، وكتابا منزلا وهو القرآن، وإنما يرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك، بما أوتينا من العقل، فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.
__________
(1) تفسير المنار: 2/55.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة، وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغي أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله.
2. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا، والشرك به ضربان:
أ. شرك في الألوهية والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عندما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.
ب. شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾.
3. واجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة، حين زادوا على الوحى أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه.
4. الله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها ولا يعتمد على رحمة سواه، ممن يظن أنهم مقربون إليه، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
5. الإله الذي بيده أزمّة المنافع، والقادر على دفع المضارّ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته.
6. إنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
7. ثم ذكر ـ عزت قدرته ـ بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية، وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة:
أ. السموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.
çوفي كل شيء له آية...تدلّ على أنه واحدé
ب. الأرض، ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع الحكيم العليم ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾
ج. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي تعاقبهما بمجيء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ وقال أيضا: ﴿وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا﴾
د. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير، ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هي العمدة في سير السفن الكبرى في هذا العصر، وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام، هي قوة الإله الواحد العليم، كما قال ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾، ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم، فهي تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع، ومن قطر إلى آخر، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها، وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾
هـ. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.
و. ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها ببعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان، أما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان، فنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.
ز. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ ومنها العقيم، وهى في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع، وقد تكون متناوحة: أي تهب من كل ناحية، وتارة تأتى نكباء بين بين، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.
ح. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أي الغيم الذي ذلل وسحب في الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد، وتكوّن بنظام، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به.
8. ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب، ليدرك الحكم والأسرار، ويميز بين النافع والضار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام، على قدرة مبدعها وحكمته، وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه، وفي الحديث (ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها)، للج: قذف الريق ونحوه من الفم، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه، وقال بعض العلماء: إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون، وكتابا منزلا هو القرآن، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك، بما أوتيناه من العقل، فمن اعتبر بهما فاز، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/33.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة، قاعدة التوحيد، ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل، ثم يندد بمن يتخذون من دون الله أندادا، ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب، فيتبرأ بعضهم من بعض؛ فلا ينفعهم هذا التبرؤ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار.
2. إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني، فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله ـ تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده ـ ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة، حقيقة وجود إله، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله، وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود؛ ومن ثم فمصيرها حتما إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود، هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور! لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية، بوصفها التصحيح الضروري للتصور، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور.. ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية، المنبثقة من هذا التصور.
3. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.. ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة؛ وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك؛ ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين؛ ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق.
4. هنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل، وكل جوانب الحياة والوجود.. يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف.. ثم يذكر من صفات الله هنا: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.. فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف.
5. هذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
6. هذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون، العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب، وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب وكم فيها من غريب، وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة؛ ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب.
7. تلك السماوات والأرض.. هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة.. هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس.. هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول.. هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئا عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم..
8. واختلاف الليل والنهار.. تعاقب النور والظلام.. توالي الإشراق والعتمة، ذلك الفجر وذلك الغروب.. كم اهتزت لها مشاعر، وكم وجفت لها قلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب.. ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار، إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد؛ ويظل أبدا يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد.
9. والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا، والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك، ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب!
10. وما أنزل الله من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها ـ كما يوحي القرآن للقلب المؤمن ـ بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها.. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء.. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية.. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة..
11. لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات، وحاولوا طويلا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة ـ بلا حاجة إلى إله! ـ ثم أخيرا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال! ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود.. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب.. إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب.. سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة.. سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة.. سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير.
12. إن في ذلك ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.. نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوّره الإيمان، ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة، تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر..
13. إن هذا هو ما يصنعه الإيمان، هذا التفتح، هذه الحساسية، هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال.. إن الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله، آناء الليل وأطراف النهار..
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/152.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه دعوة إلى كل مخلوق: أن يشهد أن لا إله إلا الله ربّ العالمين، لا شريك له، رحمن السموات والأرض ورحيمهما.
2. وبين يدى هذه الدعوة، معارض مختلفة الصور والألوان لما أبدعت يد الخالق، وما أودعت قدرته وحكمته في هذا الوجود من آيات وشواهد، تحدّث بجلال الله وعظمته ووحدانيته.. وفى كلّ شيء له آية تدلّ على أنه الواحد.
3. نظرة مستبصرة في هذا الوجود تفتح للناظر أكثر من طريق إلى الله، إن هو احترم عقله، واستفتى قلبه!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/184.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ معطوف على جملة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [البقرة: 161]، والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفي هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد.
2. الخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارئ للقرآن وسامع فالضمير عام، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلّا واحدا.
3. الإله في كلام العرب هو المعبود، ولذلك تعددت الآلهة عندهم، وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه ولا عن عابده شيئا عبث وغلط، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلا في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق.
4. ما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأحقاف: 28]، والقرينة هي الجمع، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
5. الإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ ﴿إِلَهِ﴾ بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق وليجيء ما كان أصله مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتا إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا وأصل الخبر أن يكون وصفا حادثا، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبني على وصف أو متعلق كقوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [البقرة: 133]، وقوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 27]
6. التنكير في ﴿إِلَهِ﴾ للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله ﴿وَاحِدٌ﴾ خلافا لصاحب (المفتاح) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الأنعام: 19] إذ جعل التنكير في ﴿إِلَهِ﴾ للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بيانا للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحة.
7. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهّمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان: (لنا العزّى ولا عزّى لكم)
8. أفادت جملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف دل عليه ما في ﴿لَا﴾ من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلّا هو، وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجودا في وقت التكلم بهاته الجملة، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله ردا على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو إله فقدم ﴿إِلَهِ﴾ وأخر (هو) لأجل الحصر بإلّا وذكروا أنه ألف في ذلك (رسالة)، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلّا فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى لا إله انتفاء الألوهية إلا الله أي إلّا الله.
9. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ وصفان للضمير، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منعم، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى.
10. في الجمع بين وصفي ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: 60].
11. ﴿إِلَّا هُوَ﴾ استثناء من الإله المنفي أي إن جنس الإله منفي إلّا هذا الفرد، وخبر (لا) في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلّا إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبرا ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئا يسد مسد الخبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلّا الله، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خلة، ولأبي حيان هنا تكلفات.
12. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية، موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع، فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلّا التسليم إليها.
13. ﴿إِنَّ﴾ هنا لمجرد الاهتمام بالخبر للفت الأنظار إليه، ويحتمل أنهم نزلوا منزلة من ينكر أن يكون ﴿في ذلك آيات لقوم يعقلون﴾ لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات، وليست ﴿إِنَّ﴾ هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحا لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذ يغني وقوع (إن) عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) وقد بسطنا فيه عند قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: 61].
14. المقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة، فالآية صالحة للرد على كفار قريش دهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم.
15. الخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض، وللعبرة أيضا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما كل مخلوق منها أو فيها هو آية وعبرة فكذلك مجموع خلقها، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي، وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات.
16. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ جمع سماء والسماء:
أ. إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب، وذلك المراد في نحو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات: 6]، ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [البقرة: 22]
ب. وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف: عطارد والزهرة والمريخ والشمس والمشتري وزحل وأرانوس ونبتون، ولعلها هي السموات السبع والعرش العظيم، وهذا السر في جمع ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ هنا وإفراد ﴿الْأَرْضُ﴾ لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها.
17. المعنى إن في خلق مجموع السموات مع الأرض آيات، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفا على السموات ليتسلط المضاف عليهما.
18. الآية في هذا الخلق ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية، قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ (كتاب المجسطي) على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يوما ما الذي تقرؤونه فقال الأبهري أفسّر قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار المخلوقات كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته.
19. من بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضا بما يحتاجه كل فلا ينقص من الممدّ شيء، لأنه يمده غيره بما يخلف له ما نقص، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد.
20. هي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهدا بديعا في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها.
21. أما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية.
22. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل، وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول نفسها، وحول الشمس في كل يوم ولهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلا منهما آية.
23. الاختلاف افتعال من الخلف وهو:
أ. أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير: (بها العين والآرام يمشين خلفة)، وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضررا ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 71، 72].
ب. للاختلاف معنى آخر هو مراد أيضا وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان ومرة يزيد أحدهما على الآخر، وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة، وهذا أيضا من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قربا وبعدا، ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين.
24. الليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلّا شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا، وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر.
25. هذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر، ومن بلاغة علم القرآن أن سمى ذلك اختلافا تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شيء غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صورة المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل:
çفقلت له لما تمطى بصلبه...وأردف أعجازا وناء بكلكلé
وقال تعالى في سورة الشمس: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشمس: 3 ـ 4]
26. ﴿وَالْفُلْكَ﴾ عطف على ﴿خَلَقَ﴾ و﴿اخْتِلَافُ﴾ فهو معمول لفي أي وفي الفلك، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي إن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها تجري في البحر، وفي كونها نعمة من حيث إنها تجري بما ينفع الناس، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين:
أ. إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقا عجيبا عظيما إذ كان ماء غامرا لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض.
ب. الثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجري السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحا عليه السلام في أقدم عصور البشر.
27. ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحياء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البري الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتي ريح من جهة البر إلى البحر، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاما في مواقع منها في مواقع أخرى.
28. سخر الله تعالى للفلك رياحا موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي، من الكرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار السرطان وإلى جهة مدار الجدي، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضرموت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية.
29. أما كونها نعمة فلأن في هذا التسخير نفعا للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك، ولذلك قال: ﴿بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ لقصد التعميم مع الاختصار.
30. الفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين ما قصد منه التخفيف على مت بينه الرضي فاستوى في اللفظ المفرد والجمع، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخشب وخشب ثم سكنت اللام تخفيفا، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء وسكون اللام، قال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ [هود: 37]، و﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الشعراء: 119] وقال ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ وقال ﴿وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ [إبراهيم: 32]، ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ﴾ [يونس: 22]، ثم إن أصل مفرده التذكير قال تعالى: ﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾ [هود: 41] ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ [هود: 42] كل ذلك بعد قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: 38]، وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته: (والفلك تجري وهي في القرآن) لأن العبرة باستعماله مؤنثا وإن كان تأنيثه بتأويل، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرئ به شاذا والقول به ضعيف، وقال الكواشي هو بضم اللام أيضا للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن.
31. في امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة.. وعليه فما روي عن عمر أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير وأنا أحسبه قد قصد منه خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن، ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق، ولأن عدد المسلمين يومئذ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس، ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو (قبرص) ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة (قبرص) ظهر تأويل رؤيا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أم حرام، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده.
32. روي عن مالك كراهة سفر المرأة في البحر للحج والجهاد، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطّلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكنا سهلا وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك.
33. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ معطوف على الأسماء التي قبله جيء به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة، فالصلة الأولى وهي ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة ما ليس في نحو كلمة المطر والغيث، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم، والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفا، وهو الذي يشاهده جميع السامعين، ووجه العبرة فيه أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلا عليها من ـ ضدها وهو السماء ـ عبرة عجيبة.
34. في الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلا من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عندما يلامس الطبقة الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريرا عندما تقل حرارة أشعة الشمس، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازا عقليا وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي إن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاورة حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجهما الماء وقد قال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: 43]، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوما، وليله كذلك، فيحصل فيه تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد فإذا كانت مدة شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة.
35. ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منة، وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به، وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات، وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحيا وموت طباقان.
36. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ عطف إما على ﴿أَنْزَلَ﴾ فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة صلة ثالثة، وإما عطف على ﴿فَأَحْيَا﴾ فيكون معطوفا ثانيا على الصلة، وأيّا ما كان فهو آية ومنة مستقلة، فإن جعلته عطفا على الصلة فمن في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر، وإن جعلته عطفا على المعطوف على الصلة وهو ﴿فَأَحْيَا﴾ فمن في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ تبعيضية وهي ظرف لغو، أي أكثر فيها عددا من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى أن كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر الله من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر.
37. البث في الأصل نشر ما كان خفيا ومنه بث الشكوى وبث السر أي أظهره، قالت الأعرابية (لقد أبثثتك مكتومي وأطعمتك مأدومي) وفي حديث أم زرع قالت السادسة (ولا يولج الكف ليعلم البث) أي لا يبحث عن سر زوجته لتفشوه له، فمثلت البحث بإدخال الكف لإخراج المخبوء، ثم استعمل البث مجازا في انتشار الشيء بعد أن كان كامنا كما في هاته الآية واستعمل أيضا في مطلق الانتشار، قال الحماسي:
çوهلّا أعدّوني لمثلي تفاقدوا...وفي الأرض مثبوت شجاع وعقربé
وبث الدواب على وجه عطفه على فعل ﴿أَنْزَلَ﴾ هو خلق أنواع الدواب على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة، وعلى وجه عطف ﴿وَبَثَّ﴾ على ﴿فَأَحْيَا﴾ فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفه لبيد بقوله:
çرزقت مرابيع النجوم وصابها...ودق الرواعد جودها فرهامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت...بالجلهتين ظباؤها ونعامهاé
38. الآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ أوجز من البيت الأول، وقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة، وقوله: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام.
39. الدابة ما دب على وجه الأرض وقد أذنت كلمة ﴿كُلِّ﴾ بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع.
40. جمع قوله تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان، زيادة على ما في بقية الآية سابقا ولا حقا من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو.
41. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ عطف على مدخول ﴿فِي﴾ وهو من آيات وجود الخالق وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية، واختلاف مهابّها آية، فلولا الصانع الحكيم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت، ولما اختلفت مهابّها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة، ومن تصريف الرياح أيضا موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسحبة أو لطرد حشرات كالجراد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير، وقد يحتاج أهل مكان إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجع أهل السفن من الأسفار أو من الصيد، فكل هذا موضع نعمة، وهذا هو المشاهد للناس كلهم، ولأهل العلم في ذلك أيضا موضع عبرة أعجب وموضع نعمة، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بحرها وبرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعا لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه، وقد خلقه الله تعالى مؤلفا من غازين هما (النيتروجين والأكسجين) وفيه جزء آخر عارض فيه وهو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حارّ أو بارد، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الأرض ومن الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم، ولما كانت الحرارة من طبعها أن تمدّد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء، والبرودة بالعكس، كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصعد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغا يخلفه فيه الكثيف طلبا للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحا، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيما وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة، فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له، ومن فوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم.
42. اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر: وتصريف الله تعالى الرياح، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكوّنت بذلك التصريف لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق كما في قوله تعالى: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159] وهو ضرب من مجاز الأول، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف.
43. جمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى العدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صارت ريحا غير التي سبقت، وقرأه الجمهور (الرياح) بالجمع وقرأه حمزة والكسائي (الريح) بالإفراد على إرادة الجنس، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفردا أو جمعا سواء، وقد قيل إن الرياح بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وإن الريح بالإفراد يكثر استعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول إذا رأى الريح: (اللهم اجعلها رياحا لا ريحا)، وهي تفرقة أغلبية وإلّا فقد غير بالإفراد في موضع الجمع، والعكس في قراءة كثير من القراء، والحديث لم يصح، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جمعت، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحا واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي.
44. الرياح جمع ريح والريح بوزن فعل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا ديمة وديم وحيلة وحيل وهما من الواوي.
45. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ عطف على ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ أو على ﴿الرِّيَاحِ﴾ ويكون التقدير: وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع، وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونه في الفضاء، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض، ولأنه لو كان على سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد، وفي ذلك أيضا عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخّرها أشعة الشمس ولذا لم يخل الهواء من بخار الماء كما قدمناه إلّا أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحا باردا ثقل وتكاثف فصار ضبابا أو ندى أو سحابا، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطرا، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطرا، قال أبو ذؤيب الهذلي:
çسقى أم عمرو كلّ آخر ليلة...حناتم سود ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت...متى لجج خضر لهن نئيجé
وقال البديع الأصطرلابي:
çأهدي لمجلسك الشريف وإنما...أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله...فضل عليه لأنه من مائهé
فلولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلّا في البحار.
46. موضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض، وفي تسخيره لينتقل، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: 12]
47. ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات، فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقد كانت دلائل واضحة وكان ردا على الدّهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار المراد بهم المشركون تكميلا لأهل النحل في العرب، ويكون قوله بعد ذلك: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ [البقرة: 165] رجوعا إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعالم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام.
48. إن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على الوحدانية، ولأنه ذكره بعد قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين، وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17].
49. إن أريد الاستدلال بهذه الآثار لوحدانية الله على الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان، فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها ومواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعا حكيما متصفا بتمام العلم والقدرة والحكمة وهي الصفات التي تقتضيها الألهانية، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحدا لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير العالم من فعل الله تعالى، إذا لم يدعو لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17]، وذكر في سورة النمل الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] في سورة الأنبياء.
50. القوم: الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدي كرب: (فلو أن قومي أنطقتني رماحهم)، ويطلق على الأمة، وذكر لفظ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء الوصف على لفظ قوم يومئ إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم، ومن مكملات قوميتهم، فإن للقبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة: 56]، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب، فالمعنى إن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/74.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. صرح الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ بالإضافة إليهم فيه إشارة إلى أن المعبود الذي تعبدونه بحق إله واحد، فالذين تعبدونهم من أوثان وأحجار ليسوا بآلهة، بل إلهكم الحق الذي يجب أن تعبدوه واحد لا إله إلا هو، لا يعبد بحق إلا هو، ولا يمكن أن يسمى غيره من الأوثان باسمه، إنما هي أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان، فالإله هو الخالق الذي ينفع ويضر، وأنشأ الوجود برحمته، وعمهم بنعمته.
2. وصفه سبحانه وتعالى بأنه ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ الذي يتصف بالرحمة، وتعتبر صفة من صفاته، وهو الذي يرحم العباد فعلا.. وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الوصفين من بين الأسماء الحسنى؛ لأنهم يحسون بأنهم في آلائه، ورحمته، فهم إذا كانوا في شدة لا يستغيثون بآلهتهم، وإذا كانوا في ضر لا يلجئون إلا إليه ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ الله﴾ [النمل]، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس]، ويقول تعالى في بيان حالهم في مأساتهم وشدائدهم وأنهم يضرعون إليه: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام].
3. أولئك الوثنيون من العرب كانوا يعرفون الله تعالى ولكن يعبدون أوثانهم، وعند ما تشتد الشديدة عليهم يلجئون إلى الله وحده مستعينين طالبين الرحمة من عنده، ولا يرجون الرحمة من غيره قط؛ ولذا كان وصفه بالرحمة؛ لأنهم يلجئون إليه وحده عند رجاء الرحمة فلا يرجونها من غيره، وكأن المعنى: الواحد الأحد هو الذي يرحمكم عندما تضرعون إليه فكان المنطق يوجب عليكم ألا تعبدوا غيره.
4. بين سبحانه دلائل وحدانيته، وأن خلق الوجود بإرادته، ولم يخلق الوجود من غير إرادة خلاقة مسيطرة على ما في الوجود، يعرف ما خلق، ويدبره والدليل على ذلك:
أ. أولا ـ تنوع خلقه من سماوات وأرضين، ومن ماء ينزل فيحيى الأرض بعد موتها، مما يدل على أنه مخلوق بإرادة واحدة.
ب. ثانيا ـ تصريف الوجود من حال إلى حال، من ظلمة ونور وليل ونهار، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
ج. ثالثا ـ المخلوقات المستمرة من رياح تتحرك وسحاب مسخر، وجريان الفلك على الماء بأمره، وكل ذاك لمعنى أريد، وغاية قصدت لا تكون إلا من خالق مريد منفرد بالإيجاد.
د. رابعا ـ الإيجاد بالتوالد المستمر، وانتظام هذا الوجود مما يدل على وحدة الموجد، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء].
5. هذه الآية الكريمة تشير إلى القدرة المنفردة بالتكوين، فتنفرد لا محالة بالعبادة والألوهية، وفى معنى هذه الآية وإن كانت بأسلوب بياني آخر: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق].
6. هذه إشارات إلى بعض ما في الآية من بينات، وأدلة على أن خالق الكون واحد مدبر وحده لا يشاركه في هذا الإيجاد المحكم الذي يسير على سنة رسمها منشئه، لا تقدير لخلق إلا من الله وحده، وهو العليم الحكيم، ولنذكر ما ساقه سبحانه وتعالى من كلمات في هذا الكون.
7. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قالوا: إن المشركين لما ذكر الله سبحانه وتعالى وحدانيته طلبوا دليلا على الدعوى، وإردافها ببينة واضحة، فقال الله تعالى ذلك، وإذا لم يكن سؤال، فإنها جواب على فرض سؤال إذ العقل طلعة يريد معرفة سر كل شيء.
8. السموات جمع سماء، وجمعت لأنها تشتمل على طبقات مختلفة من أبراج ونجوم وكواكب يمسكهن الله تعالى برباط محكم مما سنه في الكون من جاذبية رابطة، ونسق بهيج، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر]، فهو سبحانه خلقها وأمسكها وحفظها من أن تنتثر أو أن تنفطر ووحد الأرض؛ لأنها في سطحها وظاهرها شيء واحد، وإن كانت هي الأخرى طبقات، وآية السموات ما فيها من أبرج ونجوم وارتفاعها بغير عمد ترفعها، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة الباهرة مشرقة ومغربة نيرة، وغير نيرة.
9. آية الأرض ما فيها من بحار وجبال رواسي، وما في باطنها من فلزات ومعادن وماس، وما في بحارها من لآلئ ومرجان وعنبر، فكل هذا آية على وجود الله تعالى ووحدانيته؛ فهو خالق الوجود وحده.
10. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بأن يكون كل واحد منهما خلفا، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان] واختلافهما من حيث الظلمة والنور، ومن حيث الطول والقصر وأن يطول الليل مرة أكثر من النهار وأن يطول النهار أخرى أكثر كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحج] وقد قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس] وآية الليل والنهار هي انتظامهما وتغير أحوالهما بفعل الواحد الحكيم العليم.
11. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ والفلك تذكر وتؤنث، وهى السفن التي تحمل الأثقال وتنقلها من بلد إلى آخر، أو إقليم إلى آخر، لينتفع أهل الأرض بكل خيراتها، وما يفضل من إقليم ينقل إلى غيرها، فيعم الخير، ويتبادل الناس جميعا ما في الأرض من نبات وحيوان؛ ولذا قال سبحانه: ﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ وآية الفلك أنها تحمل أثقالا ويحملها الماء السائل الرقيق، ولقد قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [يس].
12. ﴿السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ﴾ السماء المراد بها ما علا مما يتصل بالأرض، وإن الله وحده هو الذي ينزل الماء أي الأمطار، ولأنها تجيء من غير حسبان، وتجيء بالاستسقاء أحيانا، أسند إنزال الماء إليه سبحانه وتعالى، لأنه المصرف للسحاب، ولا يمكن ابن الأرض أن يعرف متى تمطر السماء، ومتى يكون مطرها غيثا يسقى الناس والدواب والأنعام والحرث والنسل ومتى يكون وابلا عاصفا مفسدا وفاسدا.
13. بين الله تعالى وجها من وجوه النعمة في نزول المياه من السماء إلى الأرض بتسخيره، فقال تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ والمراد الظاهر أنها من قبله كانت جرداء لا نبات فيها، ولا زرع ولا ثمر، فكانت كالميت فينزل الماء فيحييها بالخضرة والنضرة، وتصير كأنها الحى، في ريّق حياته، كما قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يس].
14. ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ الدابة كل ما يدب على الأرض من الحيوان كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود]، وبث أي فرقها ونشرها من أنعام وإنسان وطير وغير ذلك من الحيوان، فإن ذلك كله من الماء الذي ينزل من السماء سواء أكان سيلا يسيل، أم نهرا يجرى، أم عينا تختزن فيها مياه الأمطار في باطن الأرض، ولقد قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء] والآية في ذلك أن الماء به الحياة، والله تعالى منزله ومجريه ولو شاء ما كان في الناس هذه الحياة من كل زوج بهيج.
15. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾، معناه إرسالها على غير صورة واحدة، فقد تكون عقيما، وقد تكون مملوءة ماء، وقد تكون عاصفا وقد تكون رخاء، وتكون حارة أحيانا وباردة أحيانا، وقد تجيء من الشمال وقد تكون من الجنوب ومن الشرق أحيانا، ومن الغرب أحيانا أخرى، وفى مقدار تسييرها للسفن الجاريات في البحر ما بين كبيرة وصغيرة ودافعة ورافعة، وإن ذلك كله بتقدير العزيز العليم، وقد يقولون: إن ذلك كله يكون تابعا لسنن كونية آتية من حرارة الأرض أو برودتها، وإن ذلك لحق، ولكن من الذي سن هذه السنن الكونية؟ إنه هو الله تعالى، وهو قادر على تغييرها، وهذه آية من آيات الله تعالى في الكون، وفيه بيان قدرة الله تعالى وحكمته العالية، وإن الله تعالى نصر نبيه بالريح في غزوة الخندق، وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور)، ولقد قال تعالى في غزوة الخندق: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ [الأحزاب] وكل خواص الرياح من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتكوين وذلك يقتضى انفراده تعالى بالعبادة فلا يعبد سواه ولا إله إلا الله.
16. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ والسحاب ظلال تنتقل بين السماء والأرض، وسميت سحابا لانسحابها من مكان إلى آخر، وهى قد تكون ممتلئة فتنزل على الأرض إذا بردت، ويكون منها الودق، وقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور]، والسحاب المسخر المذلل لأوامر الله تعالى يبعثه من مكان إلى مكان كما يريد سبحانه، وهو العليم الخبير، فيذهب بمطره إلى الأرض التي يريد الله تعالى إحياءها، ولقد قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ [فاطر] ويقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ [الأعراف] فالسحب هي التي سخرت لتوزيع المياه بإرادة الله تعالى من أرض لا تنبت إلى أرض أخرى تنبت، فإذا كان الله ينزل من السماء ماء ليكون منه حياة كل شيء، فالله سبحانه وتعالى سخر السحاب لتوزيع هذا الماء الذي ينزله على حسب الحاجة وعلى حسب حكمته، وسنته.
17. هذا الذي ذكره سبحانه من خلق السموات والأرض والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس، والمطر الذي ينزله من السماء، وتصريف الرياح بسنن كونية نظمها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، فيه آيات بينات، وأدلة واضحات قاطعة تدل على وجود الله تعالى وانفراده سبحانه بتدبير الكون، وعلى أن إرادة واحدة هي التي أنشأته وهى التي تديره، سبحانه الله رب العالمين؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر تلك الآيات البينات ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ هذه الجملة السامية فيها جواب (إن) في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية الكريمة، (آيات)، أي أدلة قاطعة لا مجال للريب فيها ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي يعملون عقولهم لا أهواءهم، ولم تطمس عليها أوهام توارثوها، وتقليد استمسكوا به، وقالوا ما نعبد إلا ما كان يعبد آباؤنا من قبل، وعبر سبحانه وتعالى ب (قوم) للإشارة إلى الأقوام التي لا تعقل ولا تفكر.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/487.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام: (واعلم يا بني لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته)
2. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ان في السماء من النجوم ما يفوق على حبات الرمل عددا، وان أصغر نجم لهو أكبر حجما من الأرض بأكثر من مليون مرة، وان كل مجموعة من النجوم تؤلف مدينة عظمى، اسمها المجرة، تضم أكثر من مائة مليون نجمة، وان عدد هذه المدن أكثر من مليوني مدينة تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة رسالة لا سلكية تصل بعد ثلاثة ملايين من السنين، أي ان نسبة هذه المدن بمجموعها الى الفضاء الخالي، تماما كنسبة ذبابة تائهة في الكرة الأرضية، وكل هذه النجوم والمجرات تسير بتوازن وانتظام.. هذا مثال من ملايين الملايين على قدرة الله وعظمته، اكتشفها العلم الحديث.. وما زالت الآية الكريمة تخاطب العلماء المكتشفين، وتقول لهم: وما أوتيتم من العلم الا قليلا.
3. الأرض كرة معلقة في الهواء، تدور حول نفسها مرة واحدة كل 24 ساعة، فيكون تعاقب الليل والنهار، وتسبح حول الشمس مرة كل عام، فيكون تعاقب الفصول الأربعة، ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويحفظ هذا الغلاف من الغازات درجة الحرارة المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات الى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يتكاثف المطر، ثم لو كان قطر الأرض أصغر مما هو عليه لعجزت عن الاحتفاظ بالتوازن، ولصارت درجة الحرارة بالغة حد الموت، ولو كان قطرها أكبر مما هو لزادت جاذبيتها للأجسام، وتؤثر هذه الزيادة أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض، ولو بعدت الأرض عن الشمس أكثر من المسافة الحالية لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس، ولو قربت منها أكثر مما هي الآن لزادت الحرارة، وفي كلتا الحالتين تتعذر الحياة على الأرض، فكروية الأرض، والفراغ الذي يحيط بها، ودورانها حول الشمس، واحاطتها بالغلاف الجوي، ووضعها في مكانها الخاص، وكون قطرها بهذا المقدار الخاص، كل أولئك تهيئ للإنسان أسباب الحياة على الأرض، ولو فقد وصف واحد من هذه الأوصاف، كما لو كانت الأرض مسطحة، أو أصغر، أو أكبر، أو أبعد أو أقرب الى الشمس، أو فقد الغلاف لاستحال أن يكون الإنسان ابن الأرض بشهادة العلماء، وليس من المعقول ان هذا النظام العجيب مجرد مصادفة.. بل بحكمة حكيم، وتدبير مدبر.
4. من الادلة على وجود المدبر الحكيم الدليل المعروف بالدليل الغائي، وان النظام الدقيق المحكم بين الاجرام السماوية والعوالم الأرضية لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، ولا تفسير مقنع له إلا وجود قادر حكيم، وقد اعتمد القرآن هذا الدليل، وأشار اليه في العديد من الآيات، منها هذه الآية.
5. إن الماديين يحصرون سبب العلم والمعرفة بالمشاهدة والتجربة، فكل ما تؤمن به عن طريق التجربة فهو علم، وكل ما تعتقده عن غير هذا الطريق فلا يسمونه علما، ويسمونه عقيدة.. فالعلم والاعتقاد في اصطلاحهم مختلفان في مصدرهما، ومتى استعان المرء بالتأمل والتجربة على صحة ما يعتقد يصبح المعتقد علما، وعلى أساسهم هذا يكون الايمان بوجود الله عقيدة لا علما، وكذا الايمان بعدم وجوده عقيدة لا علم، لأن كلا منهما لا يستند الى التجربة والاختبار، وتكون المقارنة بينهما مقارنة بين عقيدة وعقيدة.. وبكلمة ان كل ما يتصل بالله سبحانه من الاعتراف أو الإنكار فهو من شئون الغيب، فإذا كان المؤمن بوجود الله مؤمنا بالغيب، لأنه لم يستند الى التجربة، فكذا من كفر به لم يستند الى التجربة، بل الى الغيب، فإذن هما سواء في ذلك.
6. بعد هذا التمهيد نعرض قول الماديين الجاحدين لوجود الله، وقول المؤمنين بالله، ونترك الخيار للقارئ:
أ. قال الجاحدون: ان وجود الكون، وما فيه من نظام وانسجام، والإنسان وما فيه من شعور وعقل ـ كل ذلك وما اليه لا يخضع لضابط، ولا لمنطق، وإنما جاء وليد الصدفة، فالكون وجد صدفة ثم حصل الترتيب، والنظام صدفة، وكل شيء أخذ محله اللائق به صدفة، والمادة هي التي أعطت الحياة والعقل، والسمع والبصر، وبكلمة ان المادة العمياء هي الإله القادر على كل شيء، ولكن جاءتها القدرة والحكمة والتدبير عن طريق الصدفة.
ب. أما المؤمنون بوجود الله فيقولون: ان الكون ونظامه قد انبثق عن قصد وتصميم، وحكمة وتدبير من إله قادر حكيم.
7. الآن أيها القارئ الق على نفسك هذا السؤال: ما هو مصدر الكون، والنظام والتدبير فيه؟ هل هو الصدفة كما يقول الجاحدون، أو القصد والتدبير كما يقول المؤمنون؟ الق هذا السؤال على نفسك أيها القارئ، ثم أجب عنه بوحي من عقلك.. أما (فولتير) الشهير فقد أجاب عن هذا السؤال بقوله: (ان فكرة وجود الله فرض ضروري، لأن الفكرة المضادة حماقات)
8. اختلف العلماء: هل النور سابق على الظلمة، أو الظلمة سابقة على النور في الوجود، وعلى الأول يكون النهار سابقا على الليل، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي بعد النهار، وعلى الثاني يكون الليل سابقا على النهار، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي قبل النهار، وذهب الأوائل الى هذا القول، فليلة الجمعة عندهم ـ مثلا ـ هي التي تدخل قبل فجر الجمعة، وهكذا سائر ليالي الأيام، ومما استدلوا به قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/251.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد ـ وهي تذكر التوحيد ـ وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.
2. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، مفهومها الوحدة من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها، والشيء ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة، فإن الرجولية التي في زيد مثلا ـ وهو رجل واحد ـ ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلا ـ وهما رجلان ـ فإنه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة ـ وهي الرجولية ـ واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحياته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، والله سبحانه واحد، من جهة أن الصفة التي لا يشاركه فيها غيره، كالألوهية فهو واحد في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم والقدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر ولا تتعدد إلا مفهوما فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شيء واحد هو ذاته، ليس شيء منها غير الآخر، بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحياته وحي بعلمه، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا ومفهوما، وربما يتصف الشيء بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثر والتجزي في الذات بذاته، فلا تتجزى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا، وهذه الوحدة هي المسماة بأحدية الذات، ويدل على هذا المعنى بلفظ أحد، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جاءني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا، لأن الوحدة مأخوذة في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جاءني واحد فإن هذا القول لا يكذب بمجيء اثنين أو أزيد لأن الوحدة مأخوذة في صفة الجائي وهو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الإجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، إن شاء الله تعالى.
3. بالجملة فقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، تفيد بجملته اختصاص الألوهية بالله عز اسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها، فهناك وحدة عددية، ووحدة نوعية، ووحدة جنسية، وغير ذلك، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى، ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأن أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل: وإلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد، لإمكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع، وهو الألوهية، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، والبغل واحد، مع كون كل منهما متعددا في العدد، لكن لما قيل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ فأثبت معنى إله واحد ـ وهو في مقابل إلهين اثنين وآلهة كثيرة ـ على قوله: إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الألوهية على واحد من الآلهة التي اعتقدوا بها.
4. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، جيء به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد ونفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها، والنفي فيه نفي الجنس، والمراد بالإله ما يصدق عليه الإله حقيقة وواقعا، وحينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، والتقدير لا إله بالحقيقة والحق بموجود، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، والمعنى لا إله غير الله بموجود.
5. تبين أن الجملة أعني قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه، كما توهمه كثيرون، ويشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتا لوحدته في الألوهية لا الإثبات والنفي معا، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به، وإنما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، والفاطرية، والعلم، والقدرة، وغير ذلك.
6. ربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوي الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها، وربما يجاب عنه بتقدير حق، والمعنى لا معبود حق إلا هو.
7. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، بذكر الاسمين يتم معنى الربوبية، فإليه تعالى ينتهي كل عطية عامة، بمقتضى رحمانيته، وكل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية والسعادة الأخروية بمقتضى رحيميته.
8. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ الآية، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شيء من هذه الأشياء إلها، وأن إله الجميع واحد وأن هذا الإله الواحد هو إلهكم، وأنه رحمن مفيض للرحمة العامة، وأنه رحيم يسوق إلى سعادة الغاية وهي سعادة الآخرة فهذه حقائق حقة و﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون، ولو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الإنسان أو أن إله الإنسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير، ولكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال: وإلهكم واحد لا إله إلا هو، فالآية مسوقة للدلالة على الحجة على وجود الإله وعلى وحدته بمعنى أن إله غير الإنسان من النظام الكبير واحد وأن ذلك بعينه إله الإنسان.
9. إجمال الدلالة أن هذه السماوات التي قد علتنا وأظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، والأرض التي قد أقلتنا وحملتنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب التحولات والتقلبات كاختلاف الليل والنهار، والفلك الجارية، والأمطار النازلة، والرياح المصرفة، والسحب المسخرة أمور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكل منها إله موجد (وهذا هو الحجة الأولى).
10. ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر والبعد والقرب(2)... فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر واقض ما أنت قاض في غرابة الأمر وبداعته تفعل البعض منها في البعض، وتنفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامة، وإفاضة النور والحرارة وتحيا بذلك سنة الحركة العامة والزمان العمومي، وهذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت، حتى أن النسبية العمومية القاضية بالتغير في قوانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير والتحول، ثم إن هذه الحركة والتحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي لعالمنا مع منظومتها ثم تزيد ضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث والأجرام، كالقمر والليل والنهار، والرياح والسحب والأمطار، ثم تتضيق الدائرة، كما في المكونات الأرضية: من المعادن والنبات والحيوان وسائر التراكيب، ثم في كل نوع من أنواعها، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر، ثم إلى الذرات، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للإنسان إلى هذا اليوم، وهي الإلكترون، والبروتون، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي وأشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها وسبحها في أفلاكها.
11. في أي موقف من هذه المواقف وقف الإنسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات وتغيرات، يحفظ بها أصل عالمه، وتحيا بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها وإن كان واحدا، ولا اتفاق في طيها وإن كان نادرا شاردا، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها، وكلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد، ذا نظام واحد وتدبير متصل حتى ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح والأرصاد الدقيقة، وكلما حللتها وجزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد وتدبير متصل، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا وحكما شخصا، فالعالم شيء واحد والتدبير متصل، وجميع الأجزاء مسخرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها، وعنت الوجوه للحي القيوم، فإله العالم الموجد له والمدبر لأمره واحد (وهذا هو البرهان الثاني).
12. ثم إن الإنسان الذي هو موجود أرضي يحيا في الأرض ويعيش في الأرض ثم يموت ويرجع إلى الأرض لا يفتقر في شيء من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره، الواحد نظامه، فهذه الأجرام العلوية في إنارتها وتسخينها، وهذه الأرض في اختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي التي يحتاج إليها الإنسان في حاجته المادية وتدبير وجوده وبقائهـ والله من ورائهم محيط ـ فإلهها الموجد لها المدبر لأمرها هو إله الإنسان الموجد له والمدبر لأمره (وهذا هو البرهان الثالث)
13. ثم إن هذا الإله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة أخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار، وكيف يمكن أن يدبر عاقبة الأمر غير الذي يدبر نفس الأمر؟ (وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم)
14. عند هذا تم تعليل الآية الأولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة، إن؛ الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك.
15. فقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، إشارة إلى ذوات الأجرام العلوية والأرض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، ومواد تتألف منها ذواتها، وتحول بعضها إلى بعض، ونقص أو زيادة تطرؤها، وتركب أو تحلل يعرضها، كما قال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾
16. قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، وهي الحركة اليومية التي للأرض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة، ويسمى النهار، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل، ولا يزالان يدوران حول الأرض، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الإستوائية أو المعدل عن سطح المدار الأرضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الإستواء وفي القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، والليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا والنهار والليل فيها متساويان، وأما بقية المناطق فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها، وهذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء والحرارة، وهو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الأرضية والتحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الإنسان انتفاعات مختلفة.
17. قوله تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الأرض إلى قطر آخر، وفي عد الفلك في طي الموجودات والحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها كالسماء والأرض واختلاف الليل والنهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فإن نسبة الفعل إلى الإنسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الأسباب الطبيعية، والاختيار الذي يتبجح به الإنسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الأسباب الطبيعية، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة، فتوجد بالفعل والانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا وبين أن يفعل الإنسان، بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله وإيجاده لا يستقل شيء مستغنيا عنه تعالى في ذاته وفعله.
18. الفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الإله في وجودها وتفتقر إلى الإله في تدبير أمرها من غير فرق، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الأصنام التي اتخذوها آلهة فإن من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، وقال تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾، فعدها ملكا لنفسه، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾، فعد تدبير أمرها راجعا إليه، فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الأشياء التي يعملها الإنسان مصنوعة مخلوقة للإنسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لإرادة الإنسان واختياره.
19. طائفة منهم ـ وهم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع ـ زعموا أن حجة المليين في إثبات الصانع: أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادية ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية والمعلولية في الأشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها ـ وهي مجهولة لهم بعد ـ فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة؛ وهو الله سبحانه؛ فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الإنسان الأولي من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية وكثير من الحوادث الأرضية المجهولة العلل، وما وجده من الحوادث والخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها المادية حتى اليوم، قالوا: وقد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها، وانتهاؤها إلى علة مجردة، وتقدم البحث في الكيمياء الآلي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الإنسان على علل الروح ويقدر على صنعه الجراثيم الحيوية وتركيب أي موجود روحي وإيجاد أي خاصة روحية، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة ويخلق الإنسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شيء شاء من الطبيعيات، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه.
20. هؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أن الإلهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم ـ ولن يوجد له أول ـ أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم، وبين أجزائه حوادث معلومة العلل ـ وفيها حوادث مجهولة العلل ـ والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء، فالمثبتون ـ ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدإ لظهورهم في تاريخ حياة النوع الإنساني ـ أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا (وإن كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية، وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الألماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية) وهم حتى الإنسان الأولي منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية، فإثباتهم، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لأجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الإله واستغناء البعض الآخر عنه، بل لإذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل ومعلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات والتأثرات الجارية بين أجزائه، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين أجزاء العالم أنفسها، ولا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استناد الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها، وليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة.
21. من عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث ـ ومن جملتها الأفعال الإنسانية ـ بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلا وهو معلول جبري لعلل عندهم، وهم مع ذلك يزعمون أن الإنسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة.
22. وهذا المعنى الذي قلنا ـ على لطفه ودقته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الإجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الإله الصانع ـ وفيه العلل والمعلولات فهذا ـ أولا.. ثم إن البراهين العقلية التي أقامها الإلهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، واستمروا على هذا المسلك من البحث منذ ألوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهّمه هؤلاء، وهذا ثانيا.
23. ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الإله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الأفعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الإنسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، وقال تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، فكل ما صدق عليه اسم شيء فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله، وقد جمع في آيات أخر بين الإثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، فنسب الرمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.
24. ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الإثباتين بطريق عام كقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾: الفرقان ـ 2، وقال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾: القمر ـ 53، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾: الطلاق ـ 3، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾: الحجر ـ 21، فإن تقدير كل شيء هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية.
25. وبالجملة فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، وهذا ثالثا.
نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوه: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى، أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الأديان الأخرى وكانت مؤلفه من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر، فهؤلاء لما أرادوا بيان دعواهم الحق (الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم) ونقله من الإجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، وتوسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، ونفوا حاجة الأفعال الاختيارية إلى علة موجبة، أو احتياج الإنسان في صدور فعله الاختياري إلى الإله تعالى، واستقلاله في فعله، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾
26. طائفة منهم ـ وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم ـ لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لإسناد أفعال الإنسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الإنسان إليه سبحانه، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهو والقمار وغير ذلك، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾، ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه، وقد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا وعقلا، فالأفعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الأمور الصناعية التي يصنعها الإنسان لداعي رفع الحوائج الحيوية، على أن الأنصاب الواقعة في الآية السابقة هي الأصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، الآية ومن هاهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شيء، وأما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره.
27. تبين من جميع ما مر أن الأمور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الأمور الطبيعية من غير فرق، نعم يدور الأمر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشيء من الوجود فافهم ذلك.
28. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾، حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الأرض فتشربه وتحيا به أو تخزنه فيخرج على صورة ينابيع في الأرض بها حياة كل شيء فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الإتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع، وهو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده وعلة تظهره فله إله واحد، ومن جهة أنه مما يستند إليه وجود الإنسان حدوثا وبقاء يدل على كون إلهه هو إله الإنسان.
29. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة، والأغلب فيها أن الأشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة لأن الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخارية، والعفونات المتصاعدة، وسوق السحب الماطرة وغيرها، ففيه حياة النبات والحيوان والإنسان، وهو في وجوده يدل على الإله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم، وفي وقوعه طريقا إلى وجود الإنسان وبقائه يدل على أن إله الإنسان وغيره واحد.
30. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الأمطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك، والتسخير قهر الشيء وتذليله في عمله، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.
31. اختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرفة والسحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الأرضيات من المركبات النباتية والحيوانية وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لإجمال قوله تعالى: ﴿وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾
32. ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، العقل، وهو مصدر عقل يعقل إدراك الشيء وفهمه التام، ومنه العقل اسم لما يميز به الإنسان بين الصلاح والفساد وبين الحق والباطل والصدق والكذب وهو نفس الإنسان المدرك وليس بقوة من قواه التي هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة والباصرة وغيرهما.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/393.
(2) ذكر هنا بعض الأرقام، فقال: وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل:0033 000 000 000 000 000 000 000/0 من سانتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل:، 365 24 60 60 300000 كيلومتر تقريبا.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ليس متعدداً كما يزعم بعض النصارى أن الله تعالى ثلاثة أقانيم، وكذلك ليس مؤلفاً من أعضاء ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فكل معبودٍ سواه ليس معبوداً بحق ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ فهو الذي ينبغي أن يعبد طمعاً في رحمته.
2. ﴿فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ إيجادهما عظيمتين واسعتين على المقدار الذي جعله سبحانه ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ كون كل منهما يخلف الآخر لا يستمر الليل ولا يستمر النهار، وكل يحتاج إليه البشر ﴿وَالْفُلْكَ﴾ السفائن ﴿الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ تشق مَوجَ البحر ليسافر الناس عليها، لابتغاء فضل الله، وذلك بصنعه للخشب الذي منه ألواحها والحديد الذي منه مساميرها، وتسخير الرياح التي تسوقها ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشورى:33].
3. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ إنزاله من السماء آية، وكيفية إنزاله آية، وكونه نزل لإحياء الأرض مُعدّاً لذلك آية، وحياتها بعد موتها آية ﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾ في الأرض ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ فرق الدواب ونشرها في الأرض لها رزقها بسبب الماء الذي ينبت المرعى فخلقها آية، واختلاف أنواعها آية، ورزقها آية.
4. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تحويلها من جهة بعد جهة، من شرق وغرب وجنوب وشمال، ونحو ذلك آية ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾ الذي سخره الله وذلّله فهو يسوقه إذا شاء إلى بلد ويحبسه إذا شاء ﴿بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وفي جمعه حتى يتراكم لا تفرقه الرياح آية، وفي سوقه إلى بلد تحتاجه آية، وفي حبسه عند إنزال الماء منه على بلد آية، وفي كونه مصدراً للماء على خفة السحاب ولطافته وثقل الماء آية، سواء كان يحمل الماء من البحر أم كان فيه مصنع الماء بين السماء والأرض لا تناله أيدي البشر ولا ينزل إلاَّ متى شاء ربهم.
5. في هذه الأشياء كلها آيات تدل على أن الله ربهم الذي تحق له العبادة، وأنه لا ندّ له إذ كل ما سواه مخلوق مربوب، وتدل على قدرة الله وعلمه وأنه قادر على إحيائهم للحساب والجزاء لا يخفى عليه منهم شيء، وتدل على أن الله هو المنعم عليهم الذي يستحق أن يشكروه، ويدل إتقانه هذه المصنوعات وحسن التدبير فيها كما ذكرت على علم الله وقدرته، علمه بكل شيء، وقدرته على كل شيء، وأنه الأول قبل كل شيء، وأنه لا يشبه المخلوقين، وعلى الجملة: أصول العقائد في معرفة الله، ومعرفة رسله، وكتبه، واليوم الآخر، كلها أصل معرفتها مما ذكر الله من هذه الآيات وأمثالها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/223.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾ الذي خلقكم ورزقكم وأبدع الكون كله وأوجده من العدم، ومنحه نظامه البديع في دقته، المتنوع في أشكاله وألوانه وخصائصه وآثاره، وجعل الفطرة الكامنة في وجودكم العقلي والروحي دليلا عليه وعلى وحدانيته.
2. ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا مجال لتعدده في الاثنينية التي قد يعتقدها البعض، أو في الآلهة التي قد يتصورها بعض آخر بأنها الوحدة التي لا تقبل التجزئة ولا يمكن أن تنفتح على حركة العدد في امتداده، بل تنفتح على أعمق أعماق معنى الوحدة في العقل والإحساس والوجود.
3. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهذه هي الحقيقة التفصيلية للتوحيد التي لا بد لكل مؤمن من أن يختزنها في وجدانه الإيماني من أجل نفي الألوهية عن كل ما يعتبره الناس إلها، أو ما يمكن أن يمنحوه هذه الصفة في المستقبل كاستغراقهم في خصائص الموجودات الذاتية مما تمثل فيها من عناصر العظمة التي توحي إليهم بالاعتقاد المنحرف، والتصور المشرك، وإثبات الألوهية لله وحده في تعينه في ذاته، بحيث تنفي وحدته غيره من دون حاجة إلى نفي الغير بطريقة خارجية.
4. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ الذي أوجدكم برحمته، وأنعم عليكم بنعمه، وهداكم إلى الحق بهدايته، ووعدكم برضوانه وجنته على امتداد الوجود كله.
5. هذا هو التصور الإنساني للتوحيد في مضمونه الذاتي في معنى الله، وفي حركته العامة في مواجهة الآلهة المدّعاة معه، أو من دونه، للدخول في عملية مقارنة بين الله وبين الآخرين للوصول إلى النتيجة الطبيعية في احتقارهم في حجم وجودهم، وفي قدراتهم الذاتية، وفي كل ما يتمثل فيهم، أمام عظمة الله المطلقة، فيتخفف الإنسان من الشعور بأيّة علاقة كبيرة بهم من خلال المعرفة العقلية والشعورية بأنهم مجرد موجودات عادية لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا إلا بالله، وهذا ما جعل شهادة التوحيد ممثلة بكلمة (لا إله إلا الله) دون غيرها من الكلمات.
6. الآية الكريمة تطرح الحقيقة الإلهية ببساطة وعفويّة، لا مجال فيها للتكلف والتعقيد، فها هي وحدانية الله تبرز واضحة جليّة لكل من كان له فكر ونظر، عندما يدرس وحدة النظام الكوني وتناسقه ووحدة الرسالات السماوية وارتكازها على قاعدة واحدة، وضعف القوى المنتشرة في الكون وسيرها إلى الفناء مما لا يجعل لأية قوّة مجالا للاستعلاء الذي يرتفع إلى مستوى الألوهية، أمّا رحمته تعالى، فإنها تنساب في كل مظهر من مظاهر النعمة والرعاية والعناية بالإنسان، وفي كل ما يحيط به من أوضاع تتصل بحياته ومماته، ويقظته ومنامه، وأكله وشربه، وملبسه وملذّاته، وهكذا فإنها تعطي الصورة الواضحة على انطلاق الخلق كله من موقع الرحمة التي تريد أن تبني الإنسان على أساس الرحمة ليعمل الناس على الوصول إلى هذا الهدف الكبير في نهاية المطاف.
7. تأتي الآية الثانية حاملة دعوة إلى العقل لأن يتحرك في أجواء الكون ليكتشف الله من خلال اكتشافه لأسرار خلقه، وتأكيدا على أن قضية الإيمان هي قضية عقل وفكر لا قضية مزاج وعاطفة، وإشارة ذكيّة موحية بأن غفلة الناس عن الله وابتعادهم عن سبيله ينطلقان من تعطيل العقل عن الحركة في اتجاه المعرفة بالابتعاد عن الأجواء والوسائل الطبيعية للمعرفة والإيمان، ولا يرتبطان بواقعية الفكرة المضادة وقابليتها للامتداد في وجدان الإنسان كحقيقة فكرية حاسمة.
8. الملحوظ في مفردات القضايا والظواهر التي أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان أنها تواجه الناس في حياتهم اليومية، فتلفت أنظارهم بشكل طبيعي، إلى أن الطريق إلى معرفة الله لا يتوقف على الاستغراق في الأجواء الفلسفية المجرّدة التي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيات المتنوّعة والأساليب المتضادّة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدة عن أجوائه الطبيعية المادية، بل كل ما هناك هو الالتفات الواعي إلى ما حوله من ظواهر الطبيعة ومفردات الحياة التي تحيط به.
9. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ التي ترتفع فوقه بكل ما فيها من كواكب ونجوم خاضعة لنظام دقيق محكم رائع، يدركه الناظر إليه بعفوية في ما يشاهده من نتائجه وظواهره المتصلة بحياته في نظام الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب، ويعرفه المتأمل الباحث الذي يعرف ما وراء هذه الظواهر من قوانين طبيعية حكيمة تضع كل شيء في موضعه، وتعطي كل قضية أسبابها.
10. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ التي يعيش الإنسان عليها في ما يتمثل فوقها من أسباب الحياة، وفي ما يكمن في أعماقها من الطاقات التي تساهم في نموّ الحياة واستمرارها في ما تحشده من شروط الحياة للإنسان في نظام دقيق يعيش الإنسان عظمته من خلال مشاهداته ومعاناته وإحساساته العميقة التي تقتحم عليه كيانه، لتوحي له بعظمة الخالق الذي يصنع ذلك كله.
11. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ في الزيادة والنقصان، ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ والقوانين التي تحكم مسيرة الفلك في البحر، وهي التي تحمل ما ينتفع به الناس في معاشهم، ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، الماء الذي ينزل من السماء ليرتوي به الإنسان في شرابه، وترتوي به الأرض من خلال ما يتساقط عليها، وما يختزن في أعماقها مما تتفجر منه الأنهار والينابيع، ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾، والدواب التي بثها الله في الأرض مع اختلاف أنواعها وأدوارها ومنافعها، ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، أما تصريف الرياح فهو تحريكها وتفريقها في الجهات بين حارّة وباردة، وليّنة وعاصفة، وعميقة ولاقحة، تبعا للحكمة الإلهية التي تحركها من خلال مصلحة النظام الكوني في حاجات الأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والأنهار، أما حركة السحاب المسخّر بين السماء والأرض فإن لها أكثر من سرّ ومنفعة في النظام العام للحياة.
12. هكذا نجد أن في هذه الظواهر الكونية ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ من خلال ما يدركه العقل من دلالتها على الله، فكأن الآية تريد أن تقول لنا: إن بإمكانكم اكتشاف الله في ما تشاهدونه من آياته التي لو فكرتم بها بما أوتيتم من عقل لوصلتم إلى النتيجة الحاسمة وهي الإيمان بالله.
13. إن التفكير بالله والوصول إليه لا يكلفكم جهدا في السفر والتنقيب في الأرض أو النزول إلى أعماق البحار، أو الصعود إلى آفاق الفضاء، بل يكفيكم التعامل مع حياتكم اليومية، لتفكروا في ما يمر أو يحيط بكم، لتكتشفوا الله الذي يطلّ عليكم من خلال ذلك، بحكمته ورحمته وعظمته، حيث يقودكم الفكر العميق إلى أن الصدفة لا يمكن أن تصنع نظاما، وأن القوّة العمياء الجامدة لا يمكن أن تخلق عقلا ورؤية وامتدادا، وأن الموت الراقد في أعماق العدم لا يفجر الحياة، بل لا بد من العقل المنظّم القادر الحكيم الذي يبعث ذلك كله في قدرته التي لا يعجزها شيء مهما كان عظيما.
14. نستطيع أن نأخذ من الآية الكريمة أسلوبا عمليا في التربية، وخلاصته أن ينطلق الدعاة إلى الله في دعوة الناس إلى التفكير من خلال حياتهم العامة في كل تفاصيلها اليومية لجعلهم يفكرون به في كل نعمة يعيشونها، أو ظاهرة يشاهدونها، أو قانون طبيعي أو حياتي يلمسونه في حياتهم، فذلك هو السبيل الأمثل للوصول إلى قناعاتهم الفكرية والروحية بواقعية وعمق وصفاء، بعيدا عن كل الحذلقات الفلسفية المعقدة، لأن الإنسان يحب أن يتعامل مع الأشياء الحسية التي تحيط به أو تكون قريبة من حياته، ولعل قيمة هذا الأسلوب تتمثل في فكرتين:
أ. الأولى: إننا نربط وجود الله بكل ما يحيط بنا، فيكون كل شيء في الكون دليلا على وجوده.
ب. الثانية: إننا لا نشعر بابتعاد الله عنا، فنحس بالجو الحميم الذي يغمرنا بروح الله، والسر في ذلك أنك عندما تريد إثبات وجود الله من خلال أشياء بعيدة عن حسّ الإنسان ووعيه وحياته، فكأنك توحي له بأن الله حقيقة لا تدرك، ولا يمكن أن تقترب من حياته، ككل شيء عظيم عميق مقدّس يحوطه الغموض من كل جوانبه، فلا تشعر به إلا كما تشعر بالأشياء البعيدة في الأفق الغارق في الضباب.. أما إذا ربطته بالفكرة من خلال حياته اليومية، فإنه سيشعر بوجوده معه في كل التفاصيل التي تمر به.. وبهذا، لا تقتصر النتائج على حصول الإيمان بالله كعقيدة تعيش في الوجدان، بل هناك الشعور بحضور الله في حياته، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في ما نعتقد، أن لا يبقى وجود الله مجرّد فكرة كامنة في وعي الإنسان، أو إيمان ساذج مستقر في قلبه، بل يتحول إلى فكرة في العقل، وإحساس في المشاعر، وحضور قوي مهيمن في الحياة والوجدان.
15. هذه الآية تمثل خطّا واضحا في المنهج الفكري الذي يريد الإسلام أن يصنعه للإنسان في محاولته الدائمة للوصول إلى الحقيقة، فقد لا نجد في القرآن الكريم الكثير من التحليل والتفصيل لأسرار الكون وقوانين الخلق، التي تضع فكر الإنسان في قوالب جاهزة من الفكر العلمي في أسلوب يعتمد على التلقين الجامد الذي لا يحرك الفكر إلا بمقدار ما يطوف بالفكرة المطروحة، بل كل ما نجده في الغالب من آياته، أنه يدعو إلى التفكير والتدبر والتأمل واستثارة الطاقات الحسيّة والعقلية من أجل أن تسير في ضمن الاتجاه السليم الذي يصنع للمعرفة ظروفها الطبيعية، وآفاقها الواسعة، ووسائلها الصحيحة، لتفود الإنسان إلى تحصيل الحقائق التفضيلية للحياة بنفسه، في ضمن أفكار متعددة، ونظريات متنوعة، تتحفز للصراع في مجال البحث، لتكون النتيجة للفكرة التي تملك الحجة الأقوى.
16. بهذا استطاع الإسلام أن يبني للإنسان فكره على أساس من الاستقلال والحرية، والثقة بقدرته على الإبداع والاكتشاف والامتداد، فأوحى له أن المساحات التي يمكنه التحرك فيها لا تنحصر في حدود ضيقة، بل تتسع لكل جوانب الحياة في ظواهرها الكونية والإنسانية والحياتية، وليس عليه إلّا أن يعرف كيف يسير على المنهج الإسلامي المتكامل الذي لا يطرح أمام الإنسان إلّا شعار التفكير الذي يعيش مسئولية المعرفة بالتزام وإيمان.
17. بعض الناس من الباحثين في تاريخ نشأة الأديان، يحاولون أن يرجعوا بتاريخها إلى بدايات وجود الإنسان، ويعودوا بأسبابها إلى الجهل بقانون السببية في الكون الذي يرجع كل ظاهرة إلى أسبابها الطبيعية، مما دعا الإنسان الأول إلى أن يخترع في وهمه، وجود قوى غير منظورة خارج نطاق الطبيعة، فيعتبرها السبب الأعمق لوجود الكون، وأدى هذا الاتجاه إلى اعتبار القوى الخفية أساسا لكل ظاهرة من الظواهر، وخلاصة هذه الفكرة: أن فكرة الله انطلقت من الجهل بالأسباب الطبيعة للكون، ويرون، من خلال ذلك، أن الاكتشافات التي توصّل إليها الإنسان فاستطاع أن يعرف من خلالها القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء، تلغي مبدأ الحاجة إلى هذه الفكرة، لأنها أجابت عن كثير من الأسئلة الغامضة التي كانت تشغل تفكير الإنسان وتدعوه إلى فرضيات ما وراء الطبيعة، فلا حاجة إلى جواب الغيب بعد أن حصل الإنسان على جواب الحس والواقع، ولكن، ما صحّة هذه النظرية؟
18. للإجابة عن ذلك نثير الأسس الفكرية من زوايا ثلاث: الناحية التاريخية، والأسس الفكرية للإيمان بالله، وأسلوب القرآن في معالجة الإيمان، وسنرى أننا سنصل إلى خطأ هذه النظرية التي ألمحنا إليها.
أ. أما الناحية الأولى، وهي الناحية التاريخية، فإننا نجد الوحدانية التي تتمثل في عقيدة التوحيد سابقة على الوثنية في ما يوحيه تاريخ الديانات من جهة، وفي ما يراه بعض الباحثين في نشأة الدين من جهة أخرى، ونلاحظ في هذا المجال، أن الإنسان في مراحله المتقدمة كان لا يجهل كل أسرار الكون، بل كان يعرف بعضها في ما استطاع أن يخوضه من تجارب عملية وأفكار عقلية، فلم يمنعه ذلك من الإيمان بالله، أو السير بعيدا في خطى هذا الإيمان، ثم نلاحظ مراحل نموّ المعرفة الإنسانية، وازدهار عصر الفلسفة، وتقدم الفكر الإنساني في مجالات الحياة، فنجد أن قضية الإيمان كانت تقدم تبعا لتقدم الفكر وتطوّر المعرفة، وهو ما يعني أن القضية لا تتعامل مع الجهل، بل تتحرك في مواكب العلم، وجاء عصر الاكتشافات العلمية، التي استطاعت أن تضع أقدام الإنسان على سطح الكواكب، وبقي الإيمان يفرض نفسه على تفكير كثير من هؤلاء العلماء الذين سجّلوا الكثير من الاكتشافات العلمية، أو ساعدت نظرياتهم على هذه الاكتشافات، ما يعني أن اتساع نطاق التجربة، وسعة أفق المعرفة، لا يغلق على الفكر باب الإيمان، بل يفتحه على أوسع آفاقه، لدرجة نستطيع معها تقرير فكرة حاسمة محددة، وهي أن تحوّل الجهل إلى علم، قد يرفع قيمة الإيمان ومستواه وإمكانياته لدى العلماء، لأنه يمنحهم وسائل جديدة وأدوات جديدة للتجربة الحيّة والفكر الواسع.
ب. أما من الناحية الثانية التي ترتبط بالأسس الفكرية للإيمان، فإننا نلاحظ أن الإلهيين الذين قالوا بوجود قوة وراء الطبيعة، انطلقوا من الأدلة العقلية القطعية المرتكزة على أساس أن الأسباب الطبيعية للوجود لا يمكن أن تكون نهائية، بل لا بد من أن تنتهي إلى السبب الأعمق، لأنها لا تحمل بذور الحتمية في داخلها، بل تتصارع فيها قابلية الوجود والعدم، من دون وجود مرجح ذاتي لأحدهما على الآخر، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى علة خارجة عنها من أجل أن ترجح جانب الوجود على العدم، ويظل عنصر الحاجة هو الأساس الذي يحكم قانون تسلسل العلل والمعلولات حتى ينتهي إلى العلة التي تحمل بذور الحتمية في الداخل، وهي التي نعبّر عنها ب (واجب الوجود)، وفي ضوء ذلك، نفهم أن العلماء الذين آمنوا بالألوهية في ما وراء الطبيعة لم يغفلوا عن قانون السببية في الكون ولم يجهلوا طبيعة الأسباب المباشرة التي تستند إليها الأشياء، ولكنهم كانوا يتساءلون عن السبب الأول الذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السببية، فلم تكن القضية لديهم منطلقة من مشاهدات ساذجة، أو حالات جهل بسيط، أو انفعالات طارئة، بل انطلقت من دراسة فكرية عميقة وتأملات ذاتية دقيقة.
ج. أما الناحية الثالثة، وهي أسلوب القرآن في معالجة الإيمان، فإننا نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يغفل دور الإنسان في النسبة في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر، وذلك بالتعبير نفسه، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96] فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدسة، فنحن الذين قمنا بالعمل، وبذلك صحت نسبة العمل إلينا، أما نسبته إلى الله فلأنه أعطانا الحياة والقوة والأدوات التي يحتاجها العمل، ومنحنا الإرادة التي تتحرك نحو العمل بشكل مباشر، للإيحاء بأنه السبب الأعمق الذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17]، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الذي يرجع إليه كل شيء، ولا ينفي عنه قيامة بالفعل، وهكذا تتنوع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأفعال والظواهر الطبيعية في الكون، وفي حركة الحياة والإنسان، ليتحدث بأسلوب واحد عن السبب المباشر والأعمق الذي يوحي للإنسان بالمنهج الحق للمعرفة التي تواجه الأسباب المباشرة التي تعطينا الأسس للنظام الكوني، وتربطنا بالله في النطاق الغيبي لوجوده.
19. من خلال هذا العرض الواسع، نستطيع التعرف على خطأ الفكرة التي تربط الإيمان بجهل الإنسان بالأسس الطبيعية، التي يرتكز عليها نظام الكون، ليكون الإلحاد منطلقا من وعي الكائن للطبيعة، ونصل إلى النتيجة الصحيحة، وهي أن القضية ليست قضية خوف يجعل الإنسان يتعلق بأي شيء، ولكنها قضية فكر يحاول أن يواجه الظواهر والمشاكل والقضايا بالفكر الذي يتساءل ويفتش عن جواب للسؤال حتى يصل إلى السؤال الذي لا يحتاج إلى سؤال مثله، ولهذا نذهب إلى أنّ قضية الإيمان لا تنفصل عن السببية المودعة في الكون وعن تطور العلم وتقدمه، بل إننا نرى في كل اكتشاف علمي جديد دليلا جديدا على وجود الله، لأن العلم لا يكتشف شيئا إلا ليكتشف وراءه حكمة ونظاما وقانونا يتصل بالظواهر الأخرى للكون، ويوحي لنا بوحدته التي نكتشف من خلالها حكمة الخالق ووحدته، لأنها، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها، إلا أنها تتحد في قوانينها الأساسية التي تحكم الكون كله، وهذا ما تثيره أمامنا هذه الآيات الكريمة لتخطط لنا المنهج التأمّلي للعقيدة والإيمان، كما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]
__________
(1) من وحي القرآن: 3/143.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الكريمة تطرح هذا الأصل وتقول: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، بعد ذلك تصف الآية الله بأنه ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ لتقول إن الله الذي تشمل رحمته العامة كل الموجودات، ورحمته الخاصة المؤمنين، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.
2. هذه الآية الكريمة تبين أحدية الله بشكل ينفي كل شرك وانحراف، قد نرى أحيانا موجودات منفردة في صفة من صفاتها، لكن هذه الموجودات تتفرد في صفة أو عدّة صفات، أمّا الله فهو أحد في ذاته، وأحد في صفاته، وأحد في أفعاله، أحديته لا تقبل التعدد عقلا، إنه أحد أزلي وأبدي لا تؤثر الحوادث على أحديته، إنه أحد في الذهن وخارج الذهن، إنه أحد في أحديته!
3. حيثما كان (النظم والانسجام)، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان (التنسيق) فهو دليل على الوحدة، من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والانسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة أخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر، حينما نمعن النظر في الأغشية الستة للعين الباصرة ونرى جهازها البديع، نفهم أن الطبيعة العمياء الصماء لا يمكن إطلاقا أن تكون مبدأ مثل هذا الأثر البديع، ثم حينما ندقق في التعاون والتنسيق بين هذه الأغشية، والتنسيق بين العين بكل أجزائها وبين جسم الإنسان، والتنسيق الفطري الموجود بين الإنسان وبين سائر البشر، والتنسيق بين بني البشر وبين كل مجموعة نظام الكون، نعلم أن كل ذلك صادر من مبدأ واحد، وكل ذلك من آثار وقدرة ذات مقدسة واحدة، ألا تدل القصيدة الجميلة العميقة المعنى على ذوق الشاعر وقريحته!؟ ألا يدلّ التنسيق الموجود بين قصائد الديوان الواحد على أنها جميعا صادرة من قريحة شاعر مقتدر واحد؟
4. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.. تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.
5. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته، السماء وكرات العالم العلوي، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم الثابتة والسيارة، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات، ولا يمكن رؤية بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع.. الشاسع للغاية، والتي تنتظم مع بعضها في نظام دقيق مترابط، وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة، تتجلّى بمظاهر مختلفة وتتلبس بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان، ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدّم العلم، ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون! يقول العلم لنا اليوم: إن في السماء آلافا مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم السّاطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحيّة! حقا ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!
6. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ من الدّلائل الأخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحد هما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل، لو انعدم هذا التغيير التدريجي، أو انعدم النظام في هذا التدريج، أو انعدم تعاقب الليل والنهار لانمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية، ولو بقيت واستمرت ـ فرضا ـ لأصابتها الفوضى والخبط.
7. ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدما هذه السفن للسفر ولنقل المتاع، وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها تقوم على عدّة أنظمة:
أ. الأوّل، نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية، فهناك الرياح القارية التي تهبّ من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خطّ الإستواء وبالعكس وتدعى (اليزه) و(كنتراليزه)؟، وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام معين، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.
ب. وهكذا خاصية الخشب، أو خاصية القوّة الدافعة التي يسلطها الماء على الأجسام الغاطسة فيه، فيجعل هذه السفن تطفو على سطح الماء.
ج. أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية، التي تساعد البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار، إضافة إلى استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.
كل هذه الأنظمة تساعد على الاستفادة من الفلك، وتعطي دليلا محسوسا على قدرة الله وعظمته، وتعتبر آية من آيات وجوده.
8. استعمال المحركات الوقودية بدل الأشرعة في السفن اليوم، لم يقلل أهمية هذه الظاهرة، بل زادها عجبا ودهشة، إذ نرى اليوم السفن العملاقة التي تشبه مدينة بجميع مرافقها، تطفو على سطح الماء وتتنقل بفنادقها وساحات لعبها وأسواقها، بل ومدارج للطائرات فيها.. على ظهر البحار والمحيطات.
9. ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾، من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.
10. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾، لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضا لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة، وتارة تعمل على تحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض السقاء لإيجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية، وأخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة، وبالعكس، وأحيانا تقوم بنقل الهواء الملوّث الفاقد للأوكسجين من المدن إلى الصحاري والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.. أجل فهبوب الرياح مع كل تلك البركات والفوائد علامة أخرى على حكمة الباري ولطفه الدائم.
11. ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافا لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى أخرى دون إيجاد خطر، من مظاهر عظمة الله سبحانه، إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الّذي يخرج من خلال السحاب يحيي الأرض، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإنسان، ولولا ذلك لتحولت الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة، وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.
12. وكل تلك العلامات والمظاهر ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، لا للغافلين الصم البكم العمي.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/466.
69. التبعية العمياء وأسبابها ومصيرها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈69⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 165 ـ 167] ، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال في قصة ذكرها: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة: فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة، فيقال لهم: لو عملتم! فتأخذهم الحسرة: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن منّ الله عليكم!(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٣٤.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أثبت، وأدوم(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ المودة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ المنازل(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ الأرحام(3)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٣.
(2) ابن جرير: ٣/٢٦.
(3) ابن جرير: ٣/٢٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، يعني: أوثانا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ يحبون تلك الأوثان كحب الله، أي: كحب الذين آمنوا ربهم(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ من أهل الأوثان لأوثانهم(1)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ لو قد عاينوا العذاب(2)..
5. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة إذا رأت العذاب(2)..
6. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، يعني: أسباب الندامة(3)..
7. روي أنّه قال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرؤوا مِنَّا﴾ فقالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا(4)..
8. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة(5)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٨.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٩.
(5) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: إن الله يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم، فلا يدخلون؛ لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكافرين: إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم، فيقتحمون فيها، فينادي مناد من تحت العرش: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ (1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، يعني: تقطعت بهم الأرحام، وتفرقت بهم المنازل في النار(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ مباهاة ومضادة للحق بالأنداد(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا، والمودة(2)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٨.
(2) سفيان الثوري: ص٥٤.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، أي: شركاء(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ من الكفار لآلهتهم، أي: لأوثانهم(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ أولئك أهلها الذين هم أهلها(2)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أشد حبا في الآخرة(3)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
(3) تفسير الثعلبي: ٢/٣٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، يقول الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، أنك ستراهم إذ يرون العذاب، وحينئذ يعلمون أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب(1)..
2. روي أنّه قال: إن الكافرين عبدوا الله بالواسطة، وذلك قولهم للأصنام: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله﴾ [يونس: ١٨]، وقولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣]، والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة، ولذلك قال ـ عز من قائل ـ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ (2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٧.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٣٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الإيمان حب وبغض(1)..
2. روي أنّه قال في معنى قوله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾: الرجل يكسب مالا فيحرم أن يعمل فيه خيرا فيموت، فيرثه غيره، فيعمل فيه عملا صالحا، فيرى الرجل ما كسب حسنات في ميزان غيره(2)..
__________
(1) تحف العقول: ص295.
(2) الأمالي: 205/35.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء، ويقبل على الله تعالى؛ لقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: ٦٥]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء، والرخاء والبلاء، ولا يختار عليه سواه(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿الْعَذَابَ﴾، أي: عقوبة الآخرة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك والشر ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ وهم الأتباع والضعفاء(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أسباب الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابون بها، فصارت عداوة يوم القيامة، ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥]، ويتبرأ بعضكم من بعض، وقال الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧]، فصارت كل خلة عداوة على أهلها، إلا خلة المتقين(3)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ هو الوصل الذي كان بينهم في الدنيا(4)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٧٧.
(3) ابن جرير: ٣/٢٧.
(4) عبد الرزاق: ١/٦٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ معناه يعلم وليس برؤيا عين،(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ معناه الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا.. وواحدها سبب.. والسّبب أيضا الحبل(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ وواحدها حسرة.. وهي أشد الندامة،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 93.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ أما الذين اتبعوا فهم الشياطين، تبرؤوا من الإنس(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ ترفع لهم الجنة، فينظرون إليها، وإلى بيوتهم فيها؛ لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين، فيرثونهم، فذلك حين يندمون(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٨.
(2) ابن جرير: ٣/٢٤.
(3) ابن جرير: ٣/٣٤.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ هي الآلهة التي تعبد من دون الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ تبرأت القادة من الأتباع يوم القيامة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ فصارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٧.
(2) ابن جرير: ٣/٢٤.
(3) ابن جرير: ٣/٣٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا، ثم يموت، فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله، أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فزاده حسرة وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله)(1)..
__________
(1) الكافي: 4/42.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ يعني: مشركي العرب ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ يعني: شركاء، وهي الآلهة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ محمد يوم القيامة ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ يعني: مشركي العرب، ستراهم ـ يا محمد ـ في الآخرة، ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ فيعلمون حينئذ ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ (1)..
3. روي أنّه قال: ثم أخبر سبحانه عنهم، فقال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ يعني: القادة ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعني: الأتباع، ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ يعني: القادة، والأتباع(1)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، يعني: المنازل، والأرحام التي كانوا يجتمعون عليها؛ من معاصي الله، ويتحابون عليها في غير عبادة الله، انقطع عنهم ذلك، وندموا(1)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ أي: الأتباع: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ يعني: رجعة إلى الدنيا؛ ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُم﴾ من القادة، ﴿كَمَا تَبَرؤوا مِنَّا﴾ في الآخرة، وذلك قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ﴾ يعني: يتبرأ ﴿بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥] (1)..
6. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ يقول: هكذا ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُم﴾ يعني: القادة، والأتباع ﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ يعني: ندامة، ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ (1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ هؤلاء المشركون، أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أسباب أعمالهم؛ فأهل التقوي أعطوا أسباب أعمالهم وثيقة، فيأخذون بها، فينجون، والآخرون أعطوا أسباب أعمالهم الخبيثة، فتتقطع بهم، فيذهبون في النار: والأسباب: الشيء يتعلق به: والسبب: الحبل(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم﴾ أوليس أعمالهم الخبيثة التي أدخلهم الله بها النار حسرات عليهم؟ قال وجعل أعمال أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤] (3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٧.
(2) ابن جرير: ٣/٢٩.
(3) ابن جرير: ٣/٣٥.
الدنداني:
روي عن أبو صالح الدنداني (ت 190 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ الأعمال(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٥.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ الأنداد هم: الأنداد في الطاعة، يطيعونهم ويوجبون طاعتهم على نفوسهم، كما تجب طاعة الله عز وجل على المؤمنين، ومعنى يحيبونهم هو: يودونهم ويعظمونهم.
2. معنى ﴿كَحُبِّ الله﴾، هذه الآية إنما خاطب الله بها محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخبره والمؤمنين بفعل الظالمين، فقال في المشركين: إنهم يحبون الأنداد كما تحبون أنتم الله، أو أشد حبا؛ أراد بقوله ﴿أَشَدُّ﴾: أنهم في الاستبلاغ على غاية المحبة، والمؤمنون شديدة محبتهم، حسنة طريقتهم، خالصة مودتهم، قاصدون لله سبحانه بعملهم، وإنما أخبرهم الله بكفر الكافرين، وما هم عليه من الشرارة والعتو والمرادة؛ ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، فأمرهم الله عز وجل ألا يسبوا أصنامهم، ولا ما اتخذوه؛ جهلا وعما لعبادتهم، فيسبوا الله سبحانه عدوا وجراءة وجهلا؛ إذ هم عندهم في التعظيم كرب العالمين في صدور المؤمنين ومن عظمه من المتقين، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/73.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ وجوه:
أ. قيل: ﴿يَتَّخِذَ﴾ يعبد ﴿مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾.
ب. وقيل: ﴿يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ في التسمية، يعنى: يتخذ الجواهر التي تصاغ أو تنحت ونحو ذلك، مما يتعلق كونهم بصنيعهم، يسفههم بهذا، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة، وسلم لهم كل خير، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا بالله.
ج. وقيل: ﴿يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، أي أشباها في التسمية، أو أعدالا في العبادة، أو شركاء في الحقوق كقوله: ﴿وَجَعَلُوا لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ الآية [الأنعام: 136]، يسفههم بما عبدوا ما قد صنعوه بالصناعة أو النحت، وزينوا بأنواع الزينة، وعلموا أنه لا يملك شيئا، وأعرضوا بذلك عن عبادة من عرفوه بشهادة جميع العالم به [لهم وعلموا أنه لا يملك شيئا مما عبدوه ضرّا ولا نفعا]، بل لو كان يجوز العبادة لغير الله لكان أولئك الذين اتخذوا أولى من المتخذين، ثم بين عظم سفههم: علمهم بجهلها بعبادتهم، وعجزها عن الدفع عنها، ثم قاموا بنصرها والدفع عنها سفها بغير علم.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾:
أ. قيل: يحبون عبادة الأنداد وطاعتهم كحبهم عبادة الله وطاعته؛ لأنهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ويقولون: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله﴾ [يونس: 18].
ب. وقيل: يحبون عبادة الأنداد كحب المؤمنين عبادة ربهم.
ج. وقيل: يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾:
أ. قيل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ منهم لآلهتهم.
ب. وقيل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أي أشد حبّا لأجل الله.
ج. وقيل: أي أشد اختيارا لطاعته، وأكثر ائتمارا وإعظاما وإجلالا لأمره من إعظامهم وإجلالهم آلهتهم، والله أعلم.
4. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أي لعبادته منهم لعبادة الأوثان من حيث لا يؤثر المؤمن على عبادة الله، أعنى في الاختيار لا فيما يوجد من ظاهر الأحوال في الدارين جميعا، وهم يتركون عبادة الأوثان بوجود ما هو أعجب منها أو بأدنى شيء من متاع الدنيا.
5. المحبة ـ محبة الشهوة والميل إليها، وهو في الخلق، لا يحتمل في الله، ومحبته ـ الطاعة وإيثار الأمر والإعظام، فهو في الله يحتمل.
6. الحب يخرج على الثناء، وعلى العبادة والطاعة، وعلى التبجيل والتعظيم، وقد يخرج على ميل القلوب، فحب الكفرة هذا، وهو حب الجسداني به الذي يولده الشهوة أو يستحسنه البصر.
7. حب الله من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد، بل هو من الوجوه التي ذكرنا، وقد كان حب الهيبة والرغبة؛ إذ علموا النعم كلها من الله تعالى، وعلموا أن السلطان والعزة لله ولا أحد ينال شيئا من ذلك إلا بالله، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة، وما له من السلطان الهيبة، فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التي لا تحصى وأفضاله التي لا تحاط، والعلم بهما موجبا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام، فيكون حبه في الحقيقة في تعظيم أموره، وحسن صحبة نعمه، ومعرفة حقوقه، لا في توهم ذاته، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك، بل هو فيما ذكرت؛ ولذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول لهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31]، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان في ذلك هلاكه، وتعظيما لأمره وتبجيلا، فكيف فيما نجاته وفوزه في الدارين.
8. قوله تعالى: ﴿يَرَى﴾ قرئ بالياء والتاء جميعا:
أ. ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقول: ولو ترى الذين ظلموا يا محمد: شهدوا لك: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾
ب. ومن قرأ بالياء، يقول:
• ولو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة لله جميعا.
• ويحتمل: لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة لله جميعا]
• ويحتمل: المراد من قوله: ﴿يَرَى﴾، أي يدخل، كقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ [النازعات: 36]، أي لمن يدخلها ويصليها.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾:
أ. قيل: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعنى: الرؤساء، ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعنى: الأتباع والسفلة، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة، وهو كقوله: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38]، وقوله: ﴿وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 39]، وكقوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ [سبأ: 31]، وقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾ [سبأ: 33]، وقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ [سبأ: 32]، وكقوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25].
ب. وقيل: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾، يعنى: الشياطين، ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعنى: الإنس.
ج. وقيل: يبرأ الله كلا غدا أن أوثانهم لن تغنى عنهم شيئا، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾:
أ. قيل: ﴿الْأَسْبَابَ﴾ الأرحام والأنساب؛ كقوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، وكقوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 34 ـ 37].
ب. وقيل: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ يعنى العهود والأيمان التي كانت بينهم في الدنيا.
ج. وقيل: تواصلهم في الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئا؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون في الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضا؛ كقوله: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾:
أ. قيل: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ التي لم يريدوا الله بها ﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾، أي حسرة عليهم وندامة.
ب. وقيل: كل عمل عملوه أرادوا به غير وجه الله، كان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة.
ج. وقيل: أعمالهم التي عملوها في الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع الله لهم الجنة، فينظرون إلى مساكنهم التي كانت لهم، وبأسمائهم لغيرهم، وبأسماء غيرهم لهم.
12. لا يصح أن يجعل الله لأحد نصيبا في الجنة ثم يحرمه، ولكن هذا على أصل الوعد ـ وعد من أطاع الله الجنة، ومن عصاه النار ـ فهو على أن هؤلاء لو أطاعوا كان لهم نصيبا في الجنة، وهؤلاء لو عصوا كان لهم نصيبا في النار، أو يكون ذكر النصيب لهؤلاء في الجنة هو الذي ادعوه لأنفسهم كما قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم في الجنة؛ كما قال الله تعالى: ﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 79 ـ 80].
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/614.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ أي أرباباً يجعلهم لله في العبادة أمثالاً وأشباهاً، يحبونهم كحب الله: أي يعبدونهم كعبادة الله، ويدعون إليها كدعائهم إلى الله، ويرغبون إليها كما يرغب إلى الله.
2. حبهم لله: هو من رغبتهم إليه في الدعاء عند الاضطرار فقط.. ويمكن أن يكون أراد كحب المؤمنين لله، ثم اختصر فقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ يريد أنهم أشد رغبة إلى الله من هؤلاء الكافرين، لأن رغبة الكافرين في أصنامهم، إنما هو تقليد وشك، ورغبة المؤمنين يقين وخوف.
3. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾: هذه الآية من الاختصار، والمعنى في ذلك: ومثلك ومثل الذين كفروا إذا دعوتهم إلى الحق كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، أي كمثل الراعي إذا نعق بالغنم ودعى إليها لم تميز من كلامه شيئاً إلا دعاه ونداه وصوته، وهي لا تميز ألفاظه وقوله، فإن أجابوك فإنما ذلك مثل إجابة الغنم التي تتبع كل من نعق بها، ولا تتكل عليهم، ولا تثق بقولهم، فإنهم كالأنعام التي تجيب كل من نعق بها، ولا تعقل ولا تفرق بين من يريد نجاتها أو يريد هلاكها، بل هما عندهم سواء، لا يكادون يفرقون بينهما إلا باليسير، فلا تقبل مواعيدهم، ولا تثق أبداً بشيء من ترهاتهم.. والناعق: هو الذي ينادي بالغنم، قال الهادي إلى الحق صلوات الله عليه يذم قوماً من الفساق:
çهمج نوك رعاع كلهم... وهم أتباع أيضاً من نَعَقْé
الهمج: هم الأوباش الذين هم بمنزلة الذباب، والنوك: هم الجهال والحمقاء، الذين أذهلوا عقولهم في اللعب حتى صاروا نوكاً لا يعقلون.
4. معنى قوله عز وجل: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ هذا تعجيب من سيدنا لذوي الألباب، على صبر هؤلاء على العمل الذي يقرب إلى النار، وإني لأعجب منهم كيف صبروا وأقاموا على معاصي الله!؟ وكيف لم يرهبوا نقمة الله!؟ وربما أطلتُ الفكر في ذلك ثم أعلم أن الله مع ما هو عليه من الكرم والرحمة والعطف ما كان ليعذب إلا من يستحق العذاب، بما هم عليه ـ لعنهم الله ـ من المباينة لرب الأرباب، والتهجم على كل قبيح من الأسباب.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ أي أشباهاً وهي الآلهة من الأوثان يعبدونها.
2. ﴿وَلَوْ ترى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي لو ترى يا محمد أي تنظر عند عذابهم كيف يتخاذلون لعجبت وقيل: لو تعلم، ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله﴾ فيه حذف أي يعلمون ذلك.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/93.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم أخبر أن مع هذه الآيات الباهرة لذوي العقول ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ والأنداد الأمثال، واحدها ند، والمراد به الأصنام التي كانوا يتخذونها آلهة يعبدونها كعبادة الله تعالى مع عجزها عن قدرة الله في آياته الدالة على وحدانيته.
2. ثم قال تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ يعني أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب الله مع قدرته، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ يعني من حب أهل الأوثان لأوثانهم، ومعناه أن المخلصين لله تعالى هم المحبون حقا.
3. في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الذين اتبعوا هم السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، وهذا قول عطاء.
ب. الثاني: أنهم الشياطين تبرؤوا من الإنس، وهذا قول السدي.
4. ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ يعني به المتبوعين والتابعين، وفي رؤيتهم للعذاب وجهان محتملان:
أ. أحدهما: تيقنهم له عند المعاينة في الدنيا.
ب. الثاني: أن الأمر بعذابهم عند العرض والمساءلة في الآخرة.
5. في قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ خمسة تأويلات:
أ. أحدها: أن الأسباب تواصلهم في الدنيا، وهو قول مجاهد وقتادة.
ب. الثاني: المنازل التي كانت لهم في الدنيا، وهو قول ابن عباس.
ج. الثالث: أنها الأرحام، وهو رواية ابن جريج عن ابن عباس.
د. الرابع: أنها الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو قول السدي.
هـ. الخامس: أنها العهود والحلف الذي كان بينهم في الدنيا.
6. ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ يريد بذلك أن الأتباع قالوا للمتبوعين لو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منكم فيها كما تبرأتم منا في الآخرة.
7. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ يريد المتبوعين والأتباع، والحسرة شدة الندامة على محزون فائت.
8. في قوله تعالى: ﴿أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: برهم الذي حبط بكفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره.
ب. الثاني: ما نقصت به أعمارهم في أعمال المعاصي أن لا تكون مصروفة إلى طاعة الله.
9. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ يريد به أمرين:
أ. أحدهما: فوات الرجعة.
ب. والثاني: خلودهم في النار.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/219.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأنداد، والأمثال، والاشباه نظائر، والأنداد واحدها ندّ، وقيل الاضداد، وأصل النّد المثل المناوي والمراد به هنا:
أ. قال قتادة، والربيع، ومجاهد، وابن زيد، وأكثر المفسرين آلهتهم التي كانوا يعبدونها.
ب. وقال السدي: رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾:
أ. قيل: المحبة هي الارادة إلا ان فيها حذفاً، وليس ذلك في الارادة فإذا قلت: أحب زيداً معناه أريد منافعه أو مدحه، وإذا أحب الله تعالى عبداً فمعناه أنه يريد ثوابه وتعظيمه، وإذا قال أحب الله معناه أريد طاعته واتباع أوامره، ولا يقال: أريد زيداً، ولا أريد الله ولا إن الله يريد المؤمن، فاعتيد الحذف في المحبة، ولم يعتد في الإرادة.
ب. وقيل: المحبة ليست من جنس الارادة، بل هي من جنس ميل الطبع، كما تقولون: أحب ولدي أي يميل طبعي اليه، وذلك مجاز، بدلالة أنهم يقولون: أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أفعل.
وضدّ الحب البغض، وتقول: أحبه حبّا، وتحبب تحبباً، وحببه تحبيباً، وتحابا تحاباً، والمحبة: الحب، والحب واحده حبة من بر، أو شعير، أو عنب، أو ما أشبه ذلك، والحبة بزور البقل، وحبة القلب ثمرته، والحب: الجرة الضخمة، والحب القرط من حبة واحدة، وحباب الماء: فقاقيعه، والحباب الحبة، وأحب البعير إحباباً: إذا برك، فلا يثور، كالحران في الخيل، قال أبو عبيدة: ومنه قوله تعالى ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ أي لصقت بالأرض لحب الخير، حتى تأتيني الصلاة، وأصل الباب: الحب ضد البغض.
3. في هذه الاضافة: ﴿كَحُبِّ الله﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: كحبكم الله.
ب. الثاني: كحبهم الله.
ج. الثالث: كحب الله الواجب عليهم لا الواقع منهم، كما قال الشاعر:
çفلستُ مسلماً ما دمت حيَّا...على زيد بتسليم الأميرé
أي مثل تسليمي على الأمير.
4. سؤال وإشكال: كيف يحب المشرك ـ الذي لا يعرف الله ـ شيئاً كحبه لله؟ والجواب:
أ. من قال إن الكفار يعرفون الله قال كحبه لله.
ب. ومن قال هم لا يعرفون الله ـ على ما يقوله أصحاب الموافاة ـ قال معناه كحب المؤمنين لله أو كالحب الواجب عليهم.
5. في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ قولان:
أ. أحدهما: ﴿أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ للإخلاص له من الاشراك به.
ب. الثاني: لأنهم عبدوا من يملك الضر والنفع، والثواب، والعقاب، فهم أشد حباً لله بذلك ممن عبد الأوثان.
6. اتصلت الآية بما قبلها اتصال انكار، كأنه قال أبعد هذا البيان والأدلة القاهرة على وحدانيته، يتخذون الأنداد من دون الله.
7. التبرّؤ: التباعد للعداوة، فإذا قيل تبرّأ الله من المشركين معناه باعدهم من رحمته، وكذلك إذ تبرّء الرسول منهم معناه باعدهم ـ للعداوة ـ عن منازل من لا يحب له الكراهة، والتبرؤ في أصل اللغة، والتزيل، والتقصي نظائر، وضد التبرؤ التولي.
8. الاتباع: طلب الاتفاق في مكان، أو مقال، أو فعال، فإذا قيل اتبعه ليلحقه، فمعناه ليتفق معه في المكان، وإذا تبعه في مذهبه أو في سيره أو غير ذلك من الأحوال، فمعناه طلب الاتفاق.
9. ﴿اتَّبَعُوا﴾ ضمت الألف فيه لضمة الثالث، وضمة الثالث لما لم يسم فاعله، لأنه إنما يضم له أول المتحرك من الفعل فيما بني عليه، والف الوصل لا يعتد به، لأنه وصلة الى التكلم بالساكن فإذا اتصل بمتحرك، استغني عنه.
10. اختلف في معنى بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾:
أ. قيل: رؤساء الضلالة من الانس.
ب. وقال قوم: هم من الجن.
ج. وقيل: من الجميع.
والأول ـ قول قتادة، والربيع، وعطا، و الثاني: قول السدي.
11. ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، التقطع: التباعد بعد الاتصال، والسبب: الوصلة الى التعذر بما يصلح من الطلب، ومعنى الأسباب هاهنا، قيل فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال مجاهد، وقتادة، والربيع، وفي رواية عن ابن عباس: هي الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها.
ب. الثاني: روي عن ابن عباس: أنها الأرحام التي كانوا يتقاطعون بها.
ج. الثالث: قال ابن زيد: الأعمال التي كانوا يوصلونها، وقال الجبائي: تقطعت بهم اسباب: النجاة.
12. السبب: الحبل، والسبب: ما تسببت به من رحم، أو يد، أو دين، ومنه قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾، تقول العرب، إذا كان الرجل ذا دين: ارتقى في الأسباب، والسبّ: الشتم، والسبّ: القطع، والسبّ: الشقة البيضاء من الثياب، وهي السبيبة، ومضت سبة من الدهر أي ملاوة، والسب: الوتد، والسبابة: ما بين الوسطى والإبهام، والتسبب: التوصل الى ما هو منقطع عنك، ويقال: تسبب يتسبب تسبباً، واستبّوا استباباً، وسبب تسبيباً، وسابّه متسابّة.
13. المعني بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ هم الذين تبرؤوا منهم: ساداتهم الذين اتبعوهم ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ يعني رجعة الى دار الدنيا، قال الأخطل:
çولقد عطفن على فزارةَ عطفة...كرَّ المنيح وجلن ثَم مجالاé
14. الكرّ نقيض الفر تقول: كرّ يكر كراً، وكرة، وتكرّر تكرراً، وكرر تكريراً، وتكراراً، والكرة والفرة متقابلان، والكرّ والرجع والفتل نظائر في اللغة قال صاحب العين: الكر الرجوع عن الشيء ومنه التكرار، والكرّ الحبل الغليظ، وقيل: الشديد الفتل، والكرير صوت في الحلق، والكرير: نهر، والكرة: سرقين وتراب، يدق، ويجلا به الدّروع.
15. ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ التبرؤ والانفصال واحد، ومنه بريء من مرضه: إذا انفصل منه بالعافية، ومنه بريء من الدين براءة، وبريء الله من الخلق.
16. انتصب ﴿فَنَتَبَرَّأَ﴾ على أنه جواب التمني ـ بالفاء ـ كأنه قال لو كان لنا كرة فتبرؤاً وكلما عطف للفعل على تأويل المصدر، نصب بإضمار (أن)، ولا يجوز إظهارها.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾:
أ. قيل: ذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما.
ب. وقيل: كما أراهم العذاب يريهم أعمالهم حسرات عليهم، وذلك، لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما، والعامل في الكاف يريهم.
18. في الأعمال التي يرونها حسرات ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها وهو قول الربيع، وابن زيد، واختيار الجبائي، وأحد قولي البلخي.
ب. الثاني: الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها، وكيف ضيعوها، ومثله قوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي أعمالهم التي فرضناها عليهم، أو ندبناهم اليها، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: هو الرجل يكتسب المال، ولا يعمل فيه خيراً، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحاً، فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره، وهو قول عبد الله، والسدي، وأحد قولي البلخي، وهو كما تقول الإنسان أقبل على عملك وأعقدت عليه عملا قلت في عملك.
ج. الثالث: الثواب فان الله تعالى يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليهـ لم فرطوا فيه.
والذي أقوله: ان الكلام يحتمل أمرين: فلا ينبغي أن يقطع على واحد منهما إلا بدليل إلا ان الاول أقوى، لأنه الحقيقة، والله أعلم بمراده.
19. سؤال وإشكال: لو جاز أن تضاف الأعمال التي رغبوا فيها، ولم يفعلوها بأنها أعمالهم لجاز أن يقال: الجنة دارهم وحور العين أزواجهم لأنهم عرضوا لها! والجواب: لا يجب ذلك، لأنا إنما حملنا على ذلك للضرورة، ولو سمى الله تعالى الجنة بأنها دارهم لتأولنا ذلك، ولكن لم يثبت ذلك، فلا يقاس على غيره.
20. الحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد من الندامة، والفرق بينهما وبين الارادة ان الحسرة تتعلق بالماضي خاصة، والارادة تتعلق بالمستقبل، لان الحسرة انما هي على ما فات بوقوعه أو يتقضي وقته، وإنما حركت السين، لأنه اسم على فعلة أوسطه ليس من حروف العلة، ولو كان صفة لقلت: صعبات فلم يحرك، وكذلك جوزات وبيضات، وإنما حرك الاسم، لأنه على خلاف الجمع السالم، إذ كان كان انما يستحقه ما يعقل، والحسرة والندامة نظائر، وهي نقيض الغبطة، وتقول: حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها، وحسر عن ذراعيه حسراً، وانحسر انحساراً، وحسره تحسيراً، والحاسر في الحرب الذي لا درع عليه، ولا مغفر، وحسر يحسر حسرة وحسراً: إذا كمد على الشيء الفائت، وتلهف عليه، وحسرت الناقة حسوراً: إذا أعيت، وحسر البصر إذا كلّ عن البصر: والمحسرة: المكنسة، والطير يتحسر: إذا خرج من ريشه العتيق الى الحديث، وأصل الباب الحسر: الكشف.
21. في الآية دلالة على انه كان فيهم قدرة على البراءة منهم، لأنهم لو لم يكونوا قادرين لم يجز أن يتحسروا على ما فات، كما لا يتحسر الإنسان لم لم يصعد الى السماء، ولا من كونه في الأرض.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/62.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحب: خلاف البغض، يقال: أَحَبَّهُ حُبًّا، وأحبه إحبابًا، والحب يستعمل بمعنى الإرادة، وعلى هذا يقال: أحب الله ورسوله، والله يحب عباده، والمراد بحب الله عبدَهُ إرادةُ مَدْحِه وثنائه وإثابته، وحب العبد لله: إرادة ثنائه ومدحه وعبادته وتعظيمه، ويقال: أحببت أفعل كذا، أي أردت وهو الأصل، ثم يستعمل في الشهوة توسعًا، يقال: يحب جاريته، والحب يضاف إلى الشخص وإلى الفعل، فالأول كقولهم: فلان يحب فلانًا، ولا بد من حذف فيه، والمعنى: يحب مدحه وبقاءه ونحوها، فإذا أضيف إلى الفعل يراد وجوده، وإذا استعمل بمعنى الشهوة فيتعلق بالشخص وغيره.
ب. الند: المِثْل، وقيل: الند: الضد، وأصل الند: المثل المساوي والقوة والقدرة.
ج. التَّبَرِّي: التباعد للعداوة، وقيل: تبرأ الله عن المشركين، فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بمعصيته، وأصله من الانفصال، ومنه بَرَأَ من مرضه، وبرئ من الدَّين، وتبَرَّؤُوا عنهم لانفصالهم عنه بالمباينة والعدواة.
د. الاتباع من تبع غيره أي اقتدى به تبعه يتبعه، ومنه: التابعون.
هـ. التقطع: التباعد بعد الاتصال.
و. الأسباب جمع سبب، وهي الوصلة، ومنه سُمِّي الحبل سببًا؛ لأنه يتوصل إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره.
ز. الكَرَّة: الرجعة والرد.
ح. الحسرة: التلهف على ما فات، وأصل الحسر الكشف، ومنه: الحاسر، خلاف الدارع، وسمي حسرة؛ لأنه انكشاف عن حال الندامة، وجمعه: حسرات، كشهوة وشهوات.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما تقدم ذكر التوحيد وأدلته والأمر بتدبرها عقبه بذكر حال من عدل عنهما ومال إلى الشرك، عن القاضي.
ب. وقيل: اتصل بما قبلها اتصال الإنكار للإقامة على الباطل بعد ظهور البرهان، كأنه قال: أَبعْدَ هذا البيان يتخذون الأنداد؟، عن علي بن عيسى.
3. ﴿مِنَ﴾ للتبعيض ههنا أي بعض الناس ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾:
أ. قيل: أشباهًا وهي الآلهة من الأوثان يعبدونها، عن قتادة والربيع ومجاهد وأكثر المفسرين.
ب. وقيل: أضدادًا.
ج. وقيل: هم رؤساؤهم الَّذِينَ يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، عن السدي، وقوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ على هذا القول أدل، وكذلك قوله: ﴿كَحُبِّ الله﴾ لا يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم أنها لا تنفع ولا تضر، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأالَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ﴾ من بعد: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ وليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف، والمراد يحبون عبادتهم والتقرب إليهم والانقياد لهم وجميع ذلك.
4. في قوله تعالى: كَحُبِّ الله﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: كحبكم الله، يعني الَّذِينَ اتخذوا الأنداد، فيكون على من يعرف الله من المشركين، ويعبد معه الأوثان، ويسوون بينهم في المحبة، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
ب. الثاني: كحب المؤمن لله، عن ابن عباس والحسن.
ج. الثالث: كحب الله؛ أي الحب اللازم الواجب عليهم لا الواقع عن أبي علي، وهذان الوجهان على قول من يقول: لم يكونوا عارفين بربهم، والأول هو الظاهر؛ لأن ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ راجع إلى الناس، فلذلك قال: ﴿كَحُبِّ الله﴾؛ لأنه تقدم ذكرهم دون ذكر المؤمنين.
5. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ يعني حب المؤمنين فوق حب هَؤُلَاءِ، وحبهم أشد من وجوه:
أ. أحدها: إخلاصهم التعظيم والعبادة له والثناء عليه دون من أشرك.
ب. الثاني: أن حبهم لله اقترن به الرجاء للثواب والرغبة، وعظم المنزلة والخوف من شدة العقاب، فكان محبتهم أشد، عن أبي علي.
ج. وقيل: إنهم يعبدونه ويحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء، ويرجون رحمته عن يقين، ويعلمون أنه فعل لهم في جميع أحواله ما هو الأصلح لهم في الدين، وأنعم عليهم ما لا يدخل تحت العد، فلا بد أن يكون حبهم له أشد.
د. وقيل: إذا علم أنه تعالى حكيم، لا مِثْل له ولا نظير، وأنه عدل وله الصفات العُلاَ والأسماء الحسنى، وإليه المرجع والمآب، فيكون حبه أشد ممن لا يعلم على الحقيقة، واختلفوا في معنى قوله: ﴿أَشَدُّ﴾ فقيل: أثبت وأدوم فإن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم، عن ابن عباس، وقيل: لأن حبهم مشترك وحب المؤمنين في الإخلاص، وقيل: المؤمن يعبده بلا واسطة، والمشرك يعبده بواسطة، عن الحسن.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى﴾:
أ. أما بالتاء:
• قيل: خطاب للنبي أي ولو ترى يا محمد، عن الحسن.
• وقيل: له والمراد غيره كقوله: الَّذِينَ آمنوا ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾.
• وقيل: ولو ترى أيها السامع أو أيها الإنسان فالخطاب لغيره.
ب. أما الياء، فالمراد نفس الَّذِينَ ظلموا تقديره: ولو يرى هذا الظالم.
7. اختلفوا في الرؤية:
أ. قيل: لو يبصرون، وتقدير الكلام على هذا الوجه: لو رأيتهم عند رؤية العذاب كيف يتجادلون لعجبت.
ب. وقيل: لو يعلمون، وتقدير الكلام على هذا الوجه: لو علم هَؤُلَاءِ الظالمون حين يرون العذاب كيف يتبرأ بعضهم من بعض لما تناصروا على الظلم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾:
أ. قيل: فيه حذف كأنه قيل: يعلمون أن القوة لله، فعلى هذا يتصل بما قبله.
ب. وقيل: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ مستأنف والحذف لـ ﴿رَأَوْا﴾ ـ مضمرة ـ فعلهم وسوء عاقبتهم، ثم استأنف: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾:
أ. قيل: يعني هو قادر على أخذهم وعقوبتهم، وفيه وعيد وإشارة إلى أن هَؤُلَاءِ الجبابرة مع عزتهم إذا حشروا ذلوا وتخاذلوا وعلموا أن القوة لله، وأن الأنداد لا تنفعهم والتناصر لا يغني عنهم شيئًا.
ب. وقيل: معناه إن القوة كلها من الله خلقها في العباد فكيف يُعبد بها سواه من الأنداد ولا يملك قوة ولا نفعًا ولا ضرًّا، وقد بينا الفتح والكسر في: ﴿إِنَّ﴾ والوجه فيه.
10. ﴿وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ يعني عذابه شديد، ووصف العذاب بالشدة مبالغة في الوصف، وهو توسع؛ لأن الشدة من صفات الأجسام.
11. ثم لما تقدم ذكر الَّذِينَ اتخذوا الأنداد بيَّن حالهم يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾:
أ. قيل: القادة والرؤساء من مشركي الإنس، عن قتادة والربيع وعطاء، وهو الأظهر.
ب. وقيل: هم الشياطين الَّذِينَ اتبعوا بالوسوسة من الجن، عن السدي.
ج. وقيل: شياطين الإنس والجن.
د. وقيل: من كانوا يدعونه شريكا وإلهًا، عن أبي مسلم
12. بيّن تعالى أن الَّذِينَ أفنوا عمرهم في اتباعهم كان عاقبة أمرهم أن تبرؤوا منهم أحوج ما كانوا، وهذا التبري يحتمل أن يقع منهم بالقول، ويحتمل أن يكون عند نزول العقاب ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعني المتبوعين من الأتباع السفل ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ وعاينوا حين دخلوا النار.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ على سبعة أقوال:
أ. الأول: الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع.
ب. الثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها، عن ابن عباس وابن جريج.
ج. الثالث: الأعمال التي كانوا يؤتونها، عن ابن زيد والسدي.
د. الرابع: العهود والحلف الذي كان بينهم يتوادون عليه، عن ابن عباس.
هـ. الخامس: ما كانوا يتواصلون به من الكفر، فكان بها تقاطعهم، عن الأصم.
و. السادس: المنازل التي كانت لهم من الدنيا، عن الضحاك والربيع بن أنس.
ز. السابع: أسباب النجاة تقطعت بهم، عن أبي علي.
ح. وقيل: معنى: ﴿بِهِمْ﴾ عنهم.
قال القاضي: والظاهر دخول الكل فيه؛ لأنه كالنفي، فيعم الكل، فكأنه قيل: وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به حتى لا ينتفعوا بالأسباب على اختلافها من منزلة ونسب وسبب وحلف وعقد وعهد على ما كانوا ينتفعون به في الدنيا، وذلك نهاية في الإياس.
14. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعني الأتباع للقادة: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي عودة ورجعة إلى دار الدنيا وحال التكليف، وهذا تَمَن منهم: ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ يعني من القادة في الدنيا ﴿ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا ﴾ في القيامة.
15. سؤال وإشكال: الَّذِينَ تمنوه هذا القدر أم غيره؟ والجواب: بل مفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب، فيتبرؤون منهم، ولا يُخَلِّصُونَهم بنصرة كما فعلوا هم يوم القيامة، وتقديره: فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم، وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرأوا منا والحال هذه؛ لأنهم لو تبرؤوا مع السلامة قلت فائدتُه.
16. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ أربعة أقوال:
أ. الأول: الطاعات لِمَ ضيعوها؟، عن عبد الله والسدي وأبي القاسم، كما يقال: جد في عملك يعني، ما هو أولى بك.
ب. الثاني: المعاصي وأعمالهم الخبيثة، عن الربيع وابن زيد وأبي علي وأبي القاسم، يتحسرون لَمِ عملوها؟.
ج. الثالث: ثواب طاعاتهم، يعني ما عملوا من خير حيث أحبطوه بالكفر، عن الأصم.
د. الرابع: أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والائتمار لأمرهم، والظاهر أن المراد الأعمال التي فيها اتبعوا القادة وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحفهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقة؛ لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم، فلم يقوموا به: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ يعني مخلدون فيها، ولا ينقطع العذاب بموت وغيره.
17. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن المؤمن يحب الله تعالى، ويحب عبادته والجهاد في سبيله، حتى يبذل نفسه وماله فيه، فلذلك وصفه بأنه أشد حبًّا لله.
ب. أن أشد الناس حبًّا لله أعرفهم به، فتدل من هذا الوجه أنه ليس في المكلفين أشد حبًّا لله من أهل التوحيد والعدل؛ لأن عندهم أنه تعالى محسن عَدْلٌ، تفضل عليهم بأنواع النعم من الخلق والرزق والتكليف، وأنه خلقهم للجنة وأكمل عقولهم ولا يفعل بهم إلا ما هو أصلح، وأنه أزاح عللهم، وإذا أطاعه عَبْدٌ صيره إلى نعيم الأبد، وأنه لا يفعل الظلم ولا يخلق أحدًا للنار، والْمُجْبِرَة تزعم أنه خلق الأكثر للنار، وأن جميع القبائح من خلقه، وأحد لا يأمن أن يكون خَلَقَهُ للنار، وخلق فيه الكفر والشر وقضاه، ثم يعاقبهم، ويكلفهم ما ليس إليهم ولا يقدرون عليه، وحَمَلَهم على المعاصي، ويأخذهم بغير ذنب، وأحد لا يأمن أن يأخذه بغير جريمة، ولو تفرقت هذه الخصال فَوُجِدَ واحدة منها في واحد لأبغضوه، فكيف مَنْ جَمَعَ الخصال عندهم!؟، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرا.
ج. أنه لا ينبغي لأحد أن يؤثر رضا مخلوق على رضا الخالق؛ لأنه تعالى ذمهم حيث انقادوا لقادتهم في خلاف أمره.
د. بطلان التقليد بما حصل بين المتبوع والأتباع من التبري.
هـ. الخلود في النار فيبطل قول جهم وأكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار، عن ابن عباس وغيره، ولولا ذلك لكان الظاهر يجمع الكفار والفساق وأهل البدع خصوصًا علماء السوء حيث يدعون إلى الاعتقادات الفاسدة.
و. أنه كان لهم قدرة التبري منهم لولا ذلك لما صح تحسرهم، كما لا يتحسر الإنسان على ترك صعود السماء.
ز. أن التبري فعلهم؛ لذلك أضافوا إلى أنفسهم.
ح. أن أهل الضلال يتبرأ بحضهم من بعض، وفيه تحذير من اتباعهم والاتكال في الدين على الغير، وتنبيه على أن الواجب اتباع الأدلة ليأمن العقوبة.
18. قراءات وحجج:
أ. قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ بالتاء المعجمة من فوق على الخطاب، وقرأ الباقون بالياء المعجمة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم، واختلفوا في: ﴿يَرَوْنَ﴾ فقرأ ابن عامر بضم الياء على التعدية، وقرأ الباقون: ﴿يَرَوْنَ﴾ بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.
ب. قرأ أبو جعفر ويعقوبـ ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾: ﴿وَأَنَّ الله﴾ بكسر الألف في: ﴿إِنَّ﴾ فيهما على الاستئناف، والقراء على فتح الألف فيهما على معنى لعلموا حين يرونه.
ج. القراءة الظاهرة تقديم المتبوع على الأتباع. وقرأ مجاهد على الضد.
19. مسائل نحوية:
20. سؤال وإشكال: كم وجهًا في العربية في: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾ مع الياء في: ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾؟ والجواب: يجوز الفتح من ثلاثة أوجه، والكسر من ثلاثة أوجه:
• أما الفتح: فالأول: لوقوع: ﴿يَرَى﴾ عليه بمعنى المصدر تقديره: ولو يرى الَّذِينَ ظلموا إذ يرون العذاب قوة الله وشدة عذابه.. الثاني: الفتح على حذف اللام، تقديره: لأن القوة لله، ولأن الله شديد العقاب.. الثالث: على تقدير ﴿ لرأوا أن القوة ﴾ على الإيصال بما حذف من الجواب.
• وأما الكسر، فالأول: على الاستئناف.. والثاني: على الحكاية فيما حذف من الجواب، تقديره: لقالوا: إن القوة لله.. الثالث: على الإيصال بما حذف من الجواب كقولك: يقولون: إن القوة لله.
21. سؤال وإشكال: كم وجهًا يجوز في: ﴿إِنَّ﴾ مع التاء؟ والجواب: يجوز الفتح من ثلاثة أوجه، والكسر من ثلاثة أوجه:
• أما الفتح: فالأول: على البدل كقولك: ولو يرى الَّذِينَ ظلموا أن القوة لله عليهم، عن الفراء، الثاني: لأن القوة، الثالث: لريت أن القوة لله.
• فأما الكسر مع التاء كالكسر مع الياء، قال الفراء: والاختيار مع الياء الفتح، ومع التاء الكسر؛ لأن ﴿ الرؤية ﴾ قد وقعت على: ﴿الَّذِينَ﴾
22. جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف كأنه قيل: لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد أو لرأوا أمرًا عظيمًا، وحذف الجواب يدل على المبالغة كقولهم: لو رأيت السياط تأخذ فلانًا؛ لأن المحذوف يحتمل كل أمر.
23. يعود الضمير في: ﴿يَتَّخِذَ﴾، و﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ على ﴿مِنَ﴾ وإن كان أحدهما على التوحيد والآخر على الجمع؛ لأن: ﴿مِنَ﴾ مبهمة فتتناول الواحد والجميع، فمرة يحمل الكلام فيها على اللفظ، ومرة على المعنى؛ لأن المبهم موقوف على بيان غيره له.
24. انتصب ﴿جَمِيعًا﴾ على الحال، كأنه قيل: القوة ثابتة لله في حال اجتماعها، وهي صفة مبالغة كأنه تعالى يقول: هو قادر، لا يعجزه شيء.
25. عامل الإعراب في: ﴿إِذِ﴾ معنى: ﴿شَدِيدٌ﴾ كأنه قيل: شديد العقاب إذ تبرأ، يعني وقت التبري.
26. ضُمَّتِ الألف في: ﴿اتَّبَعُوا﴾ لضمة التاء، وإنما ضمت لما لم يُسَمَّ فاعله؛ لأنه إنما يضم له أول المتحرك من الفعل فيما يثنى عليه، وألف الوصل لا يعتد به، لأنه وصلةٌ إلى التكلم بالساكن، فإذا اتصل بتحرك استغنى عنه.
27. انتصب جواب التمني ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ بالفاء، كأنه قيل: لو أن لنا كرة فنتبرأ، وكلما عطف الفعل على تأويل المصدر نصب بإضمار: ﴿إِنَّ﴾، ولا يجوز بإظهار: ﴿إِنَّ﴾ فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه؛ لأنه لما حمل الأول [على] التأويل حمل الثاني أيضًا على التأويل، ويجوز فيه الرفع على الاستئناف، أي فيجوز: يتبرأ منه على كل حال.
عامل الإعراب في: ﴿ أَنَّ ﴾ في قوله: ﴿لَوْ أَنَّ﴾ محذوف، تقديره: لو صح أن لنا كرة؛ لأن ﴿أنَّ﴾ في التمني وغيره تطلب الفعل، وإن ثبت قدر به: لؤ ثبت أن لنا كرة.
28. سؤال وإشكال: في ﴿كَذَلِكَ﴾ بأي شيء رفع التشبيه، وما العامل في الكاف؟ والجواب: فيه قولان:
أ. الأول: كَتَبِّري بعضِهم من بعضهم يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما.
ب. الثاني: كما أواهم العذاب يريهم أعمالهم حسرات؛ لأنهم أيقنوا بالهلاك، فكل واحد من العامل فيه يريهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/690.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأنداد والأشباه والأمثال نظائر واحدها ند، وقيل: هي الأضداد، وأصل الند: المثل المناوئ.
ب. الحب: خلاف البغض، والمحبة هي الإرادة، إلا أن فيها حذفا لا يكون في الإرادة، فإذا قلت: أحب زيدا، فالمعنى أني أريد منافعه أو مدحه، وإذا قلت: أحب الله، زيدا، فالمعنى أنه يريد ثوابه وتعظيمه، وإذا قلت: أحب الله، فالمعنى أريد طاعته واتباع أوامره، ولا يقال: أريد زيدا، ولا إن الله يريد المؤمن، ولا إني أريد الله، فاعتيد الحذف في المحبة، ولم يعتد في الإرادة، وقيل: إن المحبة ليست من جنس الإرادة، بل هي من جنس ميل الطبع، كما تقول: أحب ولدي أي: يميل طبعي إليه، وهذا من المجاز بدلالة أنهم يقولون: أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أفعل، ويقال: أحبه احبابا، وحبه حبا، ومحبة، وأحب البعير احبابا: إذا برك، فلا يثور، وهو كالحران في الخيل، قال أبو عبيدة: ومنه قوله: ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ أي: لصقت بالأرض لحب الخير، حتى فاتتني الصلاة.
ج. يرى: قال أبو علي الفارسي، هو من رؤية العين، يدل على ذلك تعديه إلى مفعول واحد تقديره: ولو يرون أن القوة لله أي: لو يرى الكفار ذلك، ويدل عليه قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ والشدة: قوة العقد، وهو ضد الرخاوة.
د. القوة والقدرة واحدة.
هـ. التبرؤ في اللغة والتفصي والتنزيل نظائر، وأصل التبرؤ: التولي، والتباعد للعداوة، وإذا قيل: تبرأ الله من المشركين، فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بالمعصية، وأصله من الانفصال، ومنه برأ من مرضه، وبرئ يبرأ برأ وبراء، وبرئ من الدين براءة.
و. الاتباع: طلب الاتفاق في مقال أو فعال أو مكان، فإذا قيل: اتبعه ليلحقه، فالمراد ليتفق معه في المكان.
ز. التقطع: التباعد بعد اتصال.
ح. السبب: الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب، والأسباب: الوصلات واحدها سبب، ومنه يسمى الحبل سببا، لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره، ومضت سبة من الدهر أي: ملاوة.
ط. الكرة: الرجعة، قال الأخطل:
çولقد عطفن على فزارة عطفة... كر المنيح، وجلن ثم مجالاé
والكر: نقيض الفر، قال صاحب العين: الكر: الرجوع عن الشيء، والكر: الحبل الغليظ، وقيل: الشديد الفتل.
ي. الحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد الندامة، والفرق بينها وبين الإرادة أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة، والإرادة تتعلق بالمستقبل، لأن الحسرة إنما هي على ما فات بوقوعه، أو ينقضي وقته، والحسرة والندامة من النظائر، يقال: حسر يحسر حسرا وحسرة: إذا كمد على الشيء الفائت وتلهف عليه، وأصل الحسر: الكشف، تقول: حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها، وحسر عن ذراعيه حسرا، والحاسر: الذي لا درع عليه ولا مغفر.
2. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ من للتبعيض هاهنا أي بعض الناس.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾:
أ. قيل: يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها، عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين.
ب. وقيل: رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، عن السدي، وعلى هذا المعنى ما روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: هم أئمة الظلمة وأشياعهم، وقوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ على هذا القول الأخير أدل، لأنه يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع ولا تضر، ويدل أيضا عليه قوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ قيل: معنى يحبونهم: يحبون عبادتهم، أو التقرب إليهم، أو الانقياد لهم، أو جميع ذلك.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَحُبِّ الله﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: كحبكم الله أي: كحب المؤمنين الله، عن ابن عباس، والحسن.
ب. الثاني: كحبهم الله يعني الذين اتخذوا الأنداد، فيكون المعني به من يعرف الله من المشركين، ويعبد معه الأوثان، ويسوي بينهما في المحبة، عن أبي علي، وأبي مسلم.
ج. الثالث: كحب الله أي: كالحب الواجب عليهم، اللازم لهم، لا الواقع.
6. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء، وحبهم أشد من وجوه:
أ. أحدها: إخلاصهم العبادة والتعظيم له، والثناء عليه من الاشراك.
ب. ثانيها: إنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء، وأنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير، وقد أنعم عليهم بالكثير، فيعبدونه عبادة الشاكرين، ويرجون رحمته على يقين، فلا بد أن يكون حبهم له أشد.
ج. ثالثها: إنهم يعلمون أن له الصفات العلى، والأسماء الحسنى، وأنه الحكيم الخبير الذي لا مثيل له، ولا نظير، يملك النفع والضر، والثواب والعقاب، وإليه المرجع والمآب، فهم أشد حبا لله بذلك، ممن عبد الأوثان.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَشَدُّ حُبًّا﴾:
أ. فقيل: أثبت وأدوم، لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم، عن ابن عباس.
ب. وقيل: لأن المؤمن يعبده بلا واسطة، والمشرك يعبده بواسطة، عن الحسن.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾:
أ. قيل: تقديره: ولو يرى الظالمون أي: يبصرون.
ب. وقيل: لو يعلم هؤلاء الظالمون: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾.
9. والصحيح الأول كما تقدم بيانه، هذا على قراءة من قرأ بالياء، ومن قرأ بالتاء فمعناه ولو ترى يا محمد، عن الحسن، والخطاب له، والمراد غيره، وقيل: معناه لو ترى أيها السامع، أو أيها الانسان الظالمين، إذ يرون العذاب.
10. ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾ فيه حذف أي: لرأيت أن القوة لله: ﴿جَمِيعًا﴾ فعلى هذا يكون متصلا بجواب لو، ومن قرأ بالياء فمعناه ولو يرى الظالمون أن القوة لله جميعا، لرأوا مضرة فعلهم، وسوء عاقبتهم.
11. معنى قوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ أن الله سبحانه قادر على أخذهم وعقوبتهم، وفي هذا وعيد وإشارة إلى أن هؤلاء الجبابرة مع تعززهم، إذا حشروا ذلوا وتخاذلوا، وقد بينا الوجوه في فتح إن وكسرها، فالمعنى تابع لها، ودائر عليها.
12. جواب لو محذوف على جميع الوجوه: ﴿وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ وصف العذاب بالشدة توسعا ومبالغة في الوصف، فإن الشدة من صفات الأجسام.
13. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله سبحان أخبر أن مع وضوح هذه الآيات والدلالات التي سبق ذكرها، أقام قوم على الباطل، وإنكار الحق، فكأنه قال أبعد هذا البيان، وظهور البرهان، يتخذون من دون الله أندادا.
14. ثم لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد، ذكر سوء حالهم في المعاد، فقال سبحانه: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾:
أ. قيل: هم القادة والرؤساء من مشركي الانس، عن قتادة والربيع وعطاء، وهو الأظهر.
ب. وقيل: هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن، عن السدي.
ج. وقيل: هم شياطين الجن والإنس.
15. ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ أي: من أتباع السفل ﴿وَرَأَوُا﴾ أي: رأى التابعون، والمتبوعون ﴿الْعَذَابَ﴾ أي: عاينوه حين دخلوا النار.
16. في قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ وجوه:
أ. أحدها: الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع.
ب. الثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها، عن ابن عباس.
ج. الثالث: العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها، عن ابن عباس أيضا.
د. الرابع: تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها، عن ابن زيد، والسدي.
هـ. الخامس: تقطعت بهم أسباب النجاة، عن أبي علي.
17. ظاهر الآية يحتمل الكل، فينبغي أن يحمل على عمومه، فكأنه قيل: قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به، فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد، على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا، وذلك نهاية في الإياس.
18. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ يعني الأتباع: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي: عودة إلى دار الدنيا وحال التكليف: ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أي: من القادة في الدنيا، ﴿كما تبرأوا منا﴾ في الآخرة.
19. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أقوال:
أ. أحدها: ان المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها، عن الربيع وابن زيد، وهو اختيار الجبائي والبلخي.
ب. الثاني: المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها وضيعوها، عن السدي.
ج. الثالث: ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: هو الرجل يكتسب المال، ولا يعمل فيه خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره.
د. الرابع: إن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات، فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه.
والآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم.
20. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ أي: يخلدون فيها.
21. بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة، وذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة، وأكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار، كابن عباس وغيره، وفي هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة والمعصية، لأن ليس في المعقول أن يتحسر الانسان على ترك ما كان لا يمكنه الانفكاك عنه، أو على فعل ما كان لا يمكنه الاتيان به، ألا ترى أنه لا يتحسر الانسان على أنه لم يصعد السماء، لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء.
22. قراءات وحجج:
أ. قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: (ولو ترى الذين ظلموا) بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بالياء، وكلهم قرأوا: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ بفتح الياء، إلا ابن عامر فإنه قرأ: ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾ بالضم، وقرأ أبو جعفر ويعقوب: (إن القوة لله وإن الله) بكسر الهمزة فيهما، والباقون بفتحها.
ب. قال أبو علي: حجة من قرأ: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالياء أن لفظ الغيبة أولى من لفظ الخطاب، من حيث إنه يكون أشبه بما قبله من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، وهو أيضا أشبه بما بعده من قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾، وحجة من قرأ: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾: فجعل الخطاب للنبي عليه السلام، لكثرة ما جاء في التنزيل من قوله ولو ترى، ويكون الخطاب للنبي عليه السلام، والمراد به الكافة.
ج. أما فتح: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ فيمن قرأ بالتاء، فلا يخلو من أن يكون ترى من رؤية البصر، أو المتعدية إلى مفعولين، فإن جعلته من رؤية البصر، لم يجز أن يتعدى إلى أن، لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه، وهو ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، ولا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين، لأن المفعول الثاني في هذا الباب، هو المفعول الأول في المعنى.
د. قوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ﴾ لا يكون: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فإذا يجب أن يكون منتصبا بفعل آخر غير ترى، وذلك الفعل هو الذي يقدر جوابا للو، كأنه قال: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا أن القوة لله جميعا، والمعنى انهم شاهدوا من قدرته سبحانه، ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك، أو شكهم فيه، ومذهب من قرأ بالياء أبين، لأنهم ينصبون ان بالفعل الظاهر دون المضمر، والجواب في هذا النحو يجئ محذوفا، فإذا أعمل الجواب في شيء، صار بمنزلة الأشياء المذكورة في اللفظ، فحمل المفعول عليه يخالف ما عليه سائر هذا النحو من الأي التي حذفت الأجوبة معها، لتكون أبلغ في باب التوعيد.. هذا كلام أبي علي الفارسي.
هـ. نذكر ما قاله غيره في كسر: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ وفتحها في الإعراب، وحجة من قرأ: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ قوله: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾، وقوله: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ﴾، وحجة ابن عامر، قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ لأنك إذا بنيت هذا الفعل للمفعول به، قلت يرون أعمالهم حسرات.
23. مسائل نحوية:
أ. يجوز فتح ﴿إِنَّ﴾ من ثلاثة أوجه، وكسرها من ثلاثة أوجه مع القراءة بالياء، فأما الفتح:
• فالأول أن يفتح بإيقاع الفعل عليها بمعنى المصدر، وتقديره ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب قوة الله، وشدة عذابه.
• الثاني: أن يفتح على حذف اللام، كقولك: لأن القوة لله.
• الثالث: على تقدير لرأوا أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب على الاتصال بما حذف من الجواب.
ب. يجوز كسر ﴿إِنَّ﴾ من ثلاثة أوجه مع القراءة بالياء:
• الأول في الكسر فعلى الاستئناف.
• الثاني: على الحكاية مما حذف من الجواب، كأنه قيل: لقالوا إن القوة لله.
• الثالث: على الاتصال بما حذف من الحال، كأنه قيل: يقولون إن القوة لله.
ج. يجوز فتح ﴿إِنَّ﴾ من ثلاثة أوجه مع القراءة بالتاء:
• أولها: أن يكون على البدل، كقولك ولو ترى الذين ظلموا أن القوة لله عليهم، عن الفراء، وقال أبو علي: وهذا لا يجوز، لأن قوله إن القوة ليس الذين ظلموا، ولا بعضهم، ولا مشتملا عليهم.
• الثاني: أن يفتح على حذف اللام، كقولك لأن القوة.
• الثالث: لرأيت أن القوة لله.
د. يجوز كسر ﴿إِنَّ﴾ مع القراءة بالتاء، وهي كالكسر مع الياء، قال الفراء: والاختيار مع الياء الفتح ومع التاء الكسر، لأن الرؤية قد وقعت على الذين، وجواب لو محذوف، كأنه قيل لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد، ولرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالأوهام، وحذف الجواب يدل على المبالغة كقولك لو رأيت السياط تأخذ فلانا، لأن المحذوف يحتمل كل أمر.
هـ. من قرأ: ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ بالياء فالذين ظلموا في موضع رفع بأنهم الفاعلون، ومن قرأ بالتاء: فالذين ظلموا في موضع نصب.
و. ﴿جَمِيعًا﴾: نصب على الحال، كأنه قيل: إن القوة ثابتة لله في حال اجتماعها، وهو صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به، علموا أن الله سبحانه قادر لا يعجزه شيء.
ز. ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾: في موضع نصب على الحال من الضمير في يتخذ، وإن كان الضمير في يتخذ على التوحيد، لأنه يعود إلى من، ويجوز أن يعود إليه الضمير على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى، ويجوز أن يكون: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ صفة لقوله أندادا.
ح. جاء ﴿إِذِ﴾ في قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ وهذا أمر مستقبل على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب وإن الساعة قريب) وعلى هذا قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ ومن هذا الضرب ما جاء في التنزيل من قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ﴾: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾
ط. العامل في: ﴿إِذِ﴾ قوله: شديد العذاب أي: وقت التبرؤ، وانتصب فنتبرأ على أنه جواب التمني بالفاء، كأنه قال: ليت لنا كرورا فنتبرأ وكلما عطف الفعل على ما تأويله تأويل المصدر نصب بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه، لأنه لما حمل الأول على التأويل، حمل الثاني على التأويل أيضا، ويجوز فيه الرفع على الاستئناف أي: فنحن نتبرأ منهم على كل حال.
ي. ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ في موضع الرفع لفعل محذوف تقديره: لو صح أن لنا كرة، لأن لو في التمني وفي غيره، تطلب الفعل، وإن شئت قلت: تقديره لو ثبت أن لنا كرة، وأقول: إن جواب ﴿لَوْ﴾ هنا أيضا في التقدير محذوف، ولذلك أفاد: ﴿لَوْ﴾ في الكلام معنى التمني، فيكون تقديره: لو ثبت أن لنا كرة فنتبرأ منهم لتشفينا بذلك، وجازيناهم صاعا بصاع، وهذا شيء أخرجه لي الاعتبار، ولم أره في الأصول، وهو الصحيح الذي لا غبار عليه، وبالله التوفيق.
ك. العامل في الكاف من ﴿كَذَلِكَ﴾ فقوله: ﴿يُرِيهِمُ الله﴾ أي: يريهم الله أعمالهم حسرات، كذلك أي: مثل تبرؤ بعضهم من بعض، وذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما، وقيل: تقديره يريهم أعمالهم حسرات، كما أراهم العذاب، وذلك لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/453.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناه: يحبّونهم كحبّ الذين آمنوا لله، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء.
ب. الثاني: يحبّونهم كمحبّتهم لله، أي: يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبّة، هذا اختيار الزّجّاج، قال والقول الأوّل ليس بشيء، والدّليل على نقضه قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، قال المفسّرون: أشدّ حبّا لله من أهل الأوثان لأوثانهم.
2. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: (يرى) بالياء، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة؛ لعلموا أنّ القوة لله جميعا، وقرأ نافع وابن عامر، ويعقوب: (ولو ترى) بالتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به جميع الناس، وجوابه محذوف، تقديره: لرأيتم أمرا عظيما، كما تقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه، فإنّما حذف الجواب، لأنّ المعنى معلوم، قال أبو عليّ: وإنّما قال (إذ) ولم يقل: (إذا) وإن كانت (إذ) لما مضى، لإرادة تقريب الأمر، فأتى بمثال الماضي، وإنّما حذف جواب (لو) لأنّه أفخم، لذهاب المتوعّد إلى كلّ ضرب من الوعيد، وقرأ أبو جعفر: (إن القوة) و(إن الله) بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنّه يقول: ولا يحزنك ما ترى من محبّتهم أصنامهم (إن القوة لله جميعا)، قال ابن عباس: القوّة: القدرة، والمنعة.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم القادة والرّؤساء، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل، والزّجّاج.
ب. الثاني: أنهم الشّياطين، قاله السّدّيّ.
4. قوله تعالى: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾، يشمل الكلّ، ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾، أي: عنهم، مثل قوله: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾، وفي الْأَسْبابُ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها المودّات، وإلى نحوه يذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
ب. الثاني: أنّها الأعمال، رواه السّدّيّ عن ابن مسعود، وابن عباس، وهو قول أبي صالح وابن زيد.
ج. الثالث: أنّها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس.
د. الرابع: أنّها تشمل جميع ذلك، قال ابن قتيبة: هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدّنيا.
5. أمّا تسميتها بالأسباب، فالسّبب في اللغة: الحبل، ثم قيل لكلّ ما يتوصّل به إلى مقصود: سبب.
6. الكرّة: الرّجعة إلى الدّنيا، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين، ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾، يريدون: من القادة ﴿كَما تَبَرَّؤُوا مِنَّا﴾ في الآخرة، ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾، قال الزجّاج: أي: كتبرّؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، لأنّ أعمال الكافر لا تنفعه، وقال ابن الأنباريّ: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسرات عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال ويجوز أن يكون: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم وجزاءها، فحذف الجزاء وأقام الأعمال مقامه، قال ابن فارس: والحسرة: التّلهّف على الشّيء الفائت، وقال غيره: الحسرة: أشدّ النّدامة.
__________
(1) زاد المسير: 1/131.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما قرر الله تعالى التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر: (وبضدها تتبين الأشياء)، وقالوا أيضا: النعمة مجهولة، فإذا فقدت عرفت، والناس لا يعرفون قدر الصحة، فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها، وكذا القول في جميع النعم، فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية.
2. الند هو المثل المنازع، واختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال:
أ. أحدها: أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا من عندها النفع والضرر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور، وقربوا لها القرابين، وهو قول أكثر المفسرين، وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض، أي أمثال ليس إنها أندادا لله، أو المعنى: إنها أندادا لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة.
ب. ثانيها: إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، عن السدى، والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه:
• الأول: أن قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ الهاء والميم فيه ضمير العقلاء.
• الثاني: أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع.
• الثالث: أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالا لله تعالى، يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم، ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى.
ج. الثالث: في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين، وهو أن كل شيء شغلت قبلك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قبلك ندا لله تعالى وهو المراد من قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: 43].
3. ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ ليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف، والمراد يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم، أو جميع ذلك.
4. في قوله تعالى: ﴿كَحُبِّ الله﴾ ثلاثة أقوال:
أ. قيل: كحبهم لله.
ب. وقيل: كالحب اللازم عليهم لله.
ج. وقيل: كحب المؤمنين لله.
5. إنما اختلفوا هذا الاختلاف من حيث إنهم اختلفوا في أنهم هل كانوا يعرفون الله أم لا:
أ. فمن قال كانوا يعرفون مع اتخاذهم الأنداد تأول على أن المراد كحبهم لله، وهو أقرب لأن قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ راجع إلى الناس الذين تقدم ذكرهم، وظاهر قوله: ﴿كَحُبِّ الله﴾ يقتضي حبا لله ثابتا فيهم، فكأنه تعالى بين في الآية السالفة أن الإله واحد، ونبه على دلائله، ثم حكى قول من يشرك معه، وذلك يقتضي كونهم مقرين بالله تعالى.
ب. ومن قال إنهم ما كانوا عارفين بربهم حمل الآية على أحد الوجهين الباقيين، إما كالحب اللازم لهم، أو كحب المؤمنين لله.
6. سؤال وإشكال: العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله، وذلك لأنه بضرورة العقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع، ولا تضر، ولا تسمع، ولا تبصر ولا تعقل، وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعا مدبرا حكيما ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزمر: 38] ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى، وأيضا فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ [الزمر: 3] وإذا كان كذلك، كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى، فكيف يعقل الإستواء في الحب مع هذا القول؟ والجواب: قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي في الطاعة لها، والتعظيم لها، فالاستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه.
7. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة، وهي أن العبد قد يحب الله تعالى، والقرآن ناطق به، كما في هذه الآية، وكما في قوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54] وكذا الأخبار:
أ. روى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض.
ب. وجاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يا رسول الله متى الساعة؟ فقال ما أعددت لها؟ فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: المرء مع من أحب)، فقال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
ج. وروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر، وقد نحلت أبدانهم، وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال حق على الله أن يؤمن الخائف، ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام؟ قالوا؛ الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا، كأن وجوههم المرايا من النور، فقال: كيف بلغتم إلى هذه الدرجة، قالوا: بحب الله فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة)
د. وعند السدى قال: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها، فيقال: يا أمة موسى، ويا أمة عيسى، ويا أمة محمد، غير المحبين منهم، فإنهم ينادون: يا أولياء الله.
هـ. وفي بعض الكتب: (عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا).
8. اتفقت الأمة على إطلاق هذه اللفظة، لكنهم اختلفوا في معناها:
أ. فقال جمهور المتكلمين: إن المحبة نوع من أنواع الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته، فإذا قلنا: نحب الله، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته، أو نحب ثوابه وإحسانه.
ب. أما العارفون فقد قالوا: العبد قد يحب الله تعالى لذاته، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة، واحتجوا بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها، والكمال أيضا محبوب لذاته:
• أما اللذة فإنه إذا قيل لنا: لم تكتسبون؟ قلنا: لنجد المال، فإن قيل: ولم تطلبون المال؟ قلنا: لنجد به المأكول والمشروب، فإن قالوا: لم تطلبون المأكول والمشروب؟ قلنا: لتحصيل اللذة ويندفع الألم، فإن قيل لنا: ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم؟ قلنا: هذا غير معلل، فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوبا أجل شيء آخر، لزم التسلسل، وإما الدور، وهما محالان، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوبا لذاته، وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها، والألم مطلوب الدفع لذاته، لا لسبب آخر.
• وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء و الأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال، وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم، وإسفنديار، واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم، حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه، وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح، وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوبا لذاته.
9. الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته، أو على محبة ثوابه، فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها، ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته، أما العارفون الذين قالوا: إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته، فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته، وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى، فإنه لوجوب وجوده: غنى عن كل ما عداه، وكمال كل شيء فهو مستفاد منه وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة، فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه، والرجل الشجاع لكماله في شجاعته، والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال، فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى عمله كالعدم، وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البرءاة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم، فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى، وأنه محبوب في ذاته ولذاته، سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره.
10. العبد لا سبيل له إلى الاطلاع على الله سبحانه ابتداء، بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام، فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم، كان علمه بكماله أتم، فكان له حبه أتم، ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى، فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى، ثم تحدث هناك حالة أخرى، وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى، كثر ترقيه في مقام محبة الله، فإذا كثر ذلك صار ذلك سببا لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها، واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الالتفات إلى ما عداه يشغله عن الالتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله، ونفرته عما سواه على القلب، ويشتد كل واحد منهما بالآخر، إلى أن يصير القلب نفورا عما سوى الله تعالى، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيرا بأنوار القدس، مستضيئا بأضواء عالم العصمة فانيا عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث، وهذا المقام أعلى الدرجات، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية.
11. لا يتصور الشوق إلا إلى شيء أدرك من وجه، ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلا، فلا يشتاق إليه، فإن لم ير شخصا ولم يسمع وصفه، لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين:
أ. أحدهما: أنه إذا رآه، ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية.
ب. الثاني: أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره، ولا سائر محاسنه، فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط.
12. الوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين:
أ. فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح، مشوب بشوائب الخيالات، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات، وهي مدركات للمعارف الروحانية، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فبما اتضح اتضاحا.
ب. الثاني: أن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها، وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقا إلى معرفتها.
13. الشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة، ولا يتصور أن يكون في الدنيا، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته، وحكمته في أفعاله، وهي غير متناهية، والإطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال.
14. الشوق إلى الله تعالى لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان، والحرمان، والوصول، والصد آلاما مخلوطة بلذات، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان، كانت أقوى، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل، والبهائم لا تستعد لها أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو.
15. ذكر المتكلمون عند بيان أن الذين آمنوا هم أشد حبا لله، أن حبهم لله يكون من وجهين:
أ. أحدهما: أنه ما يصدر منهم من التعظيم، والمدح، والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك.
ب. الثاني: أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد.
16. الذين آمنوا هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية، والحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفناهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد.
17. سؤال وإشكال: كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حبا لله، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة، وعند زوال الحاجة، يرجعون إلى الأنداد، قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: 6] إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء، والكافر قد يعرض عن ربه، فكان حب المؤمن أقوى.
ب. ثانيها: أن من أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في ملكه، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه، وذلك في الجهاد.
ج. ثالثها: أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب، فالذي فعلوه باطل.
د. رابعها: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يعبدون صنما، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن.
هـ. خامسها: أن المؤمنين يوحدون ربهم، والكفار يعبدون مع الصنم أصناما فتنقص محبة الواحد، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه.
18. اختلف في قراءة قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾:
أ. قرأ نافع وابن عمر: (ولو ترى) بالتاء المنقوطة من فوق خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كأنه قال لو ترى يا محمد الذين ظلموا، والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد، ثم قال بعضهم: هذه القراءة أولى، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار، ويعاينون من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم.
ب. اختلفوا في ﴿يَرَوْنَ﴾ فقرأ ابن عامر: (يرون) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.
ج. اختلفوا في ﴿إِنَّ﴾ فقرأ بعض القراء (إن) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها.
د. لما عرفت أن ﴿يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قرئ تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت، وقوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ قرئ تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل هاهنا أربع احتمالات:
• الأول: أن يقرأ ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير: ولو يرون أن القوة لله: ومعناه، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ [الأنعام: 93]، ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ [الرعد: 31] ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.
• الثاني: أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا: إن القوة لله.
• الثالث: أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع فتح الهمزة من (أن (وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء: الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعا.
• الرابع: أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع كسر الهمزة، وتقديره: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعا، وهذا أيضا تأويل ظاهر جيد.
19. سؤال وإشكال: كيف جاء قوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وهو مستقبل مع قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ و(إذ) للماضي؟ والجواب: إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب، قال تعالى: ﴿وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَأَقْرَبُ﴾ [النحل: 77] وقال: ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17] وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 44] وقول المقيم: قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا﴾ [الأنعام: 27]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ [سبأ: 31]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا﴾ [سبأ: 51]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى﴾ [الأنفال: 50].
20. لما بين الله تعالى حال من يتخذ من دون الله أندادا بقوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: 165] على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرءون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى: ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25] وقال أيضا: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67] وقال: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: 38] وحكى عن إبليس أنّه قال ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: 22]
21. في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ﴾ قولان.
أ. الأول: أنه بدل من: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: 165].
ب. الثاني: أن عامل الإعراب في (إذ) معنى شديد كأنه قال هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ.
22. معنى الآية الكريمة أن المتبوعين يتبرؤون من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤون منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سببا، والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب.
23. اختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه:
أ. أحدها: أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس، عن قتادة والربيع وعطاء، وهو الأقرب لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام، ويجب أيضا حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب: 67]، وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل، و الثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء.
ب. ثانيها: أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدى.
ج. ثالثها: أنهم شياطين الجن والإنس.
د. رابعها: الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة.
24. ذكروا في تفسير التبرؤ وجوها:
أ. أحدها: أن يقع منهم ذلك بالقول.
ب. ثانيها: أن يكون نزول العذاب بهم، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا.
ج. ثالثها: أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول، لأنه هو الحقيقة في اللفظ.
25. ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ الواو للحال، أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال، لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف.
26. ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ عطف على ﴿تَبَرَّأَ﴾ وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال:
أ. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع.
ب. الثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج.
ج. الثالث: الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي.
د. الرابع: العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها، عن ابن عباس.
هـ. الخامس: ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم.
و. السادس: المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس.
ز. السابع: أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه، لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد، وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر.
الباء في قوله: ﴿بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ بمعنى (عن) كقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 59] أي عنه قال علقمة بن عبدة:
çفإن تسألوني بالنساء فإنني...بصير بأدواء النساء طبيبé
أي عن النساء.
27. أصل السبب في اللغة الحبل قالوا: ولا يدعى الحبل سببا حتى ينزل ويصعد به، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: 15] ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب، يقال: ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة، وقيل للطريق: سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده، قال تعالى: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات: أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ [غافر: 36، 37] قال زهير:
çومن هاب أسباب المنايا تناله...ولو رام أسباب السماء بسلمé
والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون.
28. ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ ذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤون منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤون منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره: فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرؤ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة.
29. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ﴾ وجهان:
أ. الأول: كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد.
ب. الثاني: كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات، لأنهم أيقنوا بالهلاك.
في المراد بالأعمال أقوال:
أ. الأول: الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي.
ب. الثاني: المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها.
ج. الثالث: ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم.
د. الرابع: أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم.
30. الظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به.
31. حسرات: ثالث مفاعيل: رأى، قال الزجاج: الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب، وهو الذي لا منفعة فيه، يقال: حسر فلان يحسر حسرة وحسرا إذا اشتد ندمه على أمر فاته، وأصل الحسر الكشف، يقال: حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة، والحسور: الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر، قال تعالى: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19] والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض، والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
32. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ احتج به أهل السنة، ومن وافقهم على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا: إن قوله ﴿وَمَا هُمْ﴾ تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصا بهم، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ [الانفطار: 14 ـ 16] وثبت أن المراد بالفجار هاهنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/175.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند:
أ. والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها، قاله مجاهد، قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج، أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.
ب. وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله، وجاء الضمير في ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ على هذا على الأصل، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام ضمير من يعقل على غير الأصل.
2. قال ابن كيسان والزجاج: معنى ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي يسوون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة، قال أبو إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾، وقرا أبو رجاء يحبونهم بفتح الياء، وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب، قال الفراء: أنشدني أبو تراب:
çأحب لحبها السودان حتى...حببت لحبها سود الكلابé
3. ﴿مِنَ﴾ في قوله ﴿مَنْ يَتَّخِذُ﴾ في موضع رفع بالابتداء، و﴿يَتَّخِذَ﴾ على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يتخذون على المعنى، و﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ على المعنى، و﴿يُحِبُّهُمْ﴾ على اللفظ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في ﴿يَتَّخِذَ﴾ أي محبين، وإن شئت كان نعتا للأنداد، أي محبوبة.
4. الكاف من ﴿كَحُبِّ﴾ نعت لمصدر محذوف، أي يحبونهم حبا كحب الله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أي أشد من حب أهل الأوثان لأوثانهم والتابعين لمتبوعهم.
5. إنما قال ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ لان الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه، ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
6. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد، وفي الآية إشكال وحذف، فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا، و﴿يَرَى﴾ على هذا من رؤية البصر، قال النحاس في كتاب معاني القرآن له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير، وقال في كتاب إعراب القرآن له: وروي عن محمد بن يزيد أنّه قال هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو قول الأخفش: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله، و(يرى) بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه، فيرى واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد المفعولين، و(الذين فاعل يرى)، وجواب لو محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال عز وجل، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ ولم يأت ل لو جواب، قال الزهري وقتادة: الإضمار أشد للوعيد، ومثله قول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه! ومن قرأ بالتاء فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في أن)، وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا، ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا، وقيل: (أن (في موضع نصب مفعول من أجله، أي لان القوة لله جميعا، وأنشد سيبويه:
çوأغفر عوراء الكريم ادخاره...وأعرض عن شتم اللئيم تكرماé
أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لان القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم، ودخلت إذ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه، وقرا ابن عامر وحده يرون بضم الياء، والباقون بفتحها، وقرا الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر إن القوة، وإن الله بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله، وثبت بنص هذه الآية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، تعالى الله عن قولهم.
7. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ يعنى السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، عن قتادة وعطاء والربيع، وقال قتادة أيضا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرؤوا من الانس، وقل: هو عام في كل متبوع.
8. ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا، وقيل: عند العرض والمسألة في الآخرة، قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال.
9. ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره، الواحد سبب ووصلة، واصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا، وقال السدي وابن زيد: إن الأسباب أعمالهم، والسبب الناحية، ومنه قول زهير:
çومن هاب أسباب المنايا ينلنه...ولو رام أسباب السماء بسلمé
10. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أن في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ جواب التمني، والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الاتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم ﴿كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال.
11. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ الكاف في موضع رفع، أي الامر كذلك، أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم، و﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ قيل: هي من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الأول الهاء والميم في ﴿يُرِيهِمُ﴾، و الثاني ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، وتكون ﴿حَسَرَاتٍ﴾ حال، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون ﴿حَسَرَاتٍ﴾ المفعول الثالث.
12. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ قال الربيع: أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار، وقال ابن مسعود والسدي: الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث، قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها، والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات، هذا إذا كان اسما، فإن نعته سكنت، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات، والحسرة أعلا درجات الندامة على شي فائت، والتحسر: التلهف، يقال: حسرت عليه (بالكسر) أحسر حسرا وحسرة، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته، كالبعير إذا عيي، وقيل: هي مشتقة من حسر إذا كشف، ومنه الحاسر في الحرب: الذي لا درع معه، والانحسار، الانكشاف.
13. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها، وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية، ولقوله تعالى: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/204.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، وجليل قدرته وتفرّده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من الأصنام، وأن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد الأنداد؛ بل أحبوها حبا عظيما، وأفرطوا في ذلك إفراطا بالغا، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكنا في صدورهم؛ كتمكن حبّ المؤمنين لله سبحانه.
2. المصدر في قوله: ﴿كَحُبِّ الله﴾ مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف وهو المؤمنون، ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله، أي: عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجّاج، ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول، أي: كما يحب الله، و الأول أولى لقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي، أي: أن حبّ المؤمنين لله أشد من حبّ الكفار الأنداد، ولأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذا، أعني قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ دليلا على الثاني، لأن المؤمنين إذا كانوا أشدّ حبا لم يكن حبّ الكفار للأنداد كحبّ المؤمنين لله؛ وقيل: المراد بالأنداد هنا: الرؤساء، أي: يطيعونهم في معاصي الله، ويقوي هذا: الضمير في قولهم: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ فإنه لمن يعقل، ويقوّيه أيضا: قوله سبحانه عقب ذلك: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ الآية.
3. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قراءة أهل مكة والكوفة وأبو عمرو بالياء التحتية، وهو اختيار أبي عبيد، وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على القراءة الأولى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة؛ لعلموا حين يرونه أن القوّة لله جميعا، قاله أبو عبيد، قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير، انتهى، وعلى هذا: فالرؤية هي البصرية لا القلبية، وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنّه قال هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدّر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه، وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير هو الأحسن: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ـ ويرى بمعنى: يعلم، أي: لو يعلمون حقيقة قوّة الله وشدّة عذابه، قال وجواب لو محذوف، أي: لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ ومن قرأ بالفوقية فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعا، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب، والمراد به أمته؛ وقيل: ﴿إِنَّ﴾ في موضع نصب مفعول لأجله، أي: لأن القوة لله، كما قال الشاعر:
çوأغفر عوراء الكريم ادّخاره...وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّمé
أي: لادّخاره؛ والمعنى: ولو ترى يا محمد! الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذابـ لأن القوّة لله ـ لعلمت مبلغهم من النكال، ودخلت (إذا) وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه، وقرأ ابن عامر ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾ بضم الياء، والباقون بفتحها، وقرأ الحسن ويعقوب وأبو جعفر ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، وعلى تقدير القول.
4. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ بدل من قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ ومعناه: أن السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، وقوله: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ في محل نصب على الحال: يعني التابعين والمتبوعين؛ قيل: عند المعاينة في الدنيا؛ وقيل: عند العرض والمساءلة في الآخرة، ويمكن أن يقال: فيهما جميعا، إذ لا مانع من ذلك، وقوله: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ هي جمع سبب، وأصله في اللغة: الحبل الذي يشدّ به الشيء ويجذب به، ثم جعل كل ما جرّ شيئا سببا، والمراد بها: الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره، وقيل: هي الأعمال.
5. الكرّة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، ولو هنا في معنى التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرّة؛ ولهذا وقعت الفاء في الجواب، والمعنى: أن الأتباع قالوا: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرّؤوا منا.
6. الكاف في قوله: ﴿كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ في محل نصب على النعت لمصدر محذوف؛ وقيل: في محل نصب على الحال، ولا أراه صحيحا، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ في موضع رفع، أي: الأمر كذلك، أي: كما أراهم الله العذاب يريهم ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله: ﴿حَسَرَاتٍ﴾ منتصب على الحال، وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث؛ والمعنى: أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها، فيكون ذلك حسرة عليهم، وقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فيه دليل على خلود الكفار في النار، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب، والبحث في هذا يطول.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/191.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً﴾ أي: أمثالا، مع أنّ الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلا عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له.
2. الأنداد: هي: إمّا الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضرّ، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين، وإمّا الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لا سيما في الأوامر والنواهي، ورجح هذا، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلّا بمن اتخذ الرجال أندادا وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى.
3. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ من المشركين لأندادهم، لأنّ أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس، عام المجاعة.
4. قال ابن القيم: أما الشرك الأكبر فإن الله تعالى لا يغفره إلّا بالتّوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندّا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 97 ـ 98] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلّهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادّونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم ـ بل أكثرهم ـ يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم.
5. قال تقي الدين المقريزيّ: من أجلّ الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ الآية، فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ مع الله شيئا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندّا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، والمعنى على أصحّ القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 97 ـ 98]؛ ومعلوم قطعا أنّ هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا ـ كما أخبر الله عنهم ـ مقرّين بأنّ الله تعالى وحده هو ربّهم وخالقهم، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السموات وربّ العرش العظيم، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.. وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة؛ فمن أحبّ غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذلّ له ـ كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه ـ فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى..! فعياذا بالله! من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحيّة من قشرها، وهو يظنّ أنّه مسلم موحّد.
6. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ المعدّ لهم يوم القيامة ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾ أي: القدرة كلّها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ أي: العقاب للظالمين، وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر، فإنّ اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب، لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه، وجواب (لو) محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان: إمّا لعدم الإحاطة بكنهه، وإمّا لضيق العبارة عنه، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه، أي لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، ونظيره ـ في حذف الجواب ـ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا﴾ [الأنعام: 27] وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه، وقرئ ولو ترى بالتاء ـ على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب ـ أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
7. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ بدل من ﴿إِذْ يَرَوْنَ﴾ أي: تبرّأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكلّ ما عبد من دونه تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم ـ أو يدعونهم إليه ـ من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن، وقرئ الأول على البناء للفاعل، و الثاني على البناء للمفعول، أي تبرّأ الأتباع من الرؤساء ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ الواو للحال، أي: تبرّأوا في حال رؤيتهم العذاب ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أي: الوصل التي كانت بينهم: من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحابّ، والاتباع، والاستتباع.
8. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ حين عاينوا تبرّؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده ﴿كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ اليوم، وهم كاذبون في هذا، بل لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك.
9. ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل تلك الإراءة الفظيعة ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ ندمات شديدة ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: تذهب وتضمحلّ، كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23] وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: 18] الآية، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور: 39] الآية ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: 31 ـ 33].. وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: 81 ـ 82]، وقال الخليل لقومه ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ الله أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25]، وقالت الملائكة ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: 63] ويقولون ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 41]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5 ـ 6]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/462.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا﴾ أمثالاً للهِ مقاوِمة له في زعمهم، وهي الأصنام، أو أصنامًا أمثالاً، بعضها يماثل بعضًا، أو رؤساء من النَّاس يتَّبعونهم، وهو ضعيف؛ لأنَّ المقام للاِستدلال على انتفاء ألوهيَّة الأصنام الدَّائرة بالكعبة وغير الدَّائرة بها؛ ولأنَّه لم يعهد تعظيم رؤسائهم حبًّا وطاعةً، وَأَمَّا ضمير العقلاء في قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ وهو (هُمْ)، فلتنزيلهم الأصنام منزلة العقلاء في السَّمع والفهم والنَّفع والضَّرِّ؛ ولأنَّ رؤساءهم يتَّخذون الأنداد، فهم ممَّن خوطب باتِّخاذ الأنداد، أو ما يعمُّ الأصنام والرُّؤساء وغيرهم من كلِّ ما يشغل عن الله تعالى ، ﴿كَحُبِّ اللهِ﴾ كحبِّهم اللهَ، أو كحبِّ النَّاس مطلقًا اللهَ خضوعًا وتعظيمًا، ولو تفاوت الحبَّان؛ لأنَّهم عقلاء يعلمون أنَّ الخالق للسَّماوات والأرض وغيرهنَّ الله، وقد قال: ﴿وَظَنُّوا أَنـَّهُمُ إُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [يونس: 22]، وأنَّ الأصنام وسائل ولا تُعبَدُ تسويتهم لفرط حمقهم، قال الله تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ [العنكبوت: 61]، ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت: 65].
2. ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ﴾ من المشركين لأندادهم، فإنَّهم لا يعدلون بالله شيئًا في الرَّخاء والشِّدَّةِ، والمشركون يَعْدِلون عن الأنداد إلى الله في الشدَّة كما مرَّ آنِفًا، ويرفضون صنمًا إلى غيره ويأكلونه، كما أكلت باهلة وهي قبيلة من قيس غيلان إلهها من حيس ـ تمر يخلط بِسَمنٍ وإقط ـ وكما عَبَد عمر بن الخطَّاب قبل إسلامه عجينة فأكلها.
3. وللمشركين حبٌّ شديدٌ للأنداد؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وعلا أخبرنا أنَّ شدَّة حبِّ المؤمنين الله سبحانه فوق شدَّة حبِّ المشركين الأندادَ؛ لأنَّ محبَّة المؤمنين اللهَ تزداد بازدياد إدراكهم الكمالَ، وهي ميلهم إليه توقيرًا بامتثال وازدجار، لنعمه وخوف عقابه، فالحبُّ متعلِّقٌ بطاعته وتعظيمه، وزعم بعض أنَّه يجوز تعلُّقه بذاته تعالى من حيث إنَّه الكامل المطلق؛ وحبُّهم الله أرسخ لا يميلون عنه، والمشرك المبالغ في عبادة صنم يميل عنه لشدَّة تناله ولو اشتدَّ في نفس العبادة أكثر من المؤمن، والحُبُّ بالضَّمِّ من الحبَّة بالفتح كالثَّمرة والعنبة استعير لحبَّة القلب وهي دمه الأسود، يتعلَّق به الرُّوح الحيوانيُّ بعد تعلُّقه بالبخار اللَّطيف الذي يحدث ويتصاعد من ثَمَّ، بواسطتها يسري إلى سائر البدن، فسويداء القلب في كونها منشأ للحياة والآثار، كالحَبِّ في كونه مبدأً للنَّماء والإثمار، والله تعالى يحبُّ عبده المؤمن بمعنى أنَّه أراد له الخير وأنَّه يوفِّقه.
4. ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ رأيت بعينيك يا محمَّد، أو من يصلُح للرُّؤية، ﴿الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ باتِّخاذ الأنداد، أو مطلق الظَّالمين بالكفر.
5. ﴿إِذْ﴾ أي: (إذا) بدليل المضارع بعدها؛ لأنَّه للاستقبال أو للحال المستقبلة، وهو متعلِّق بـ (تَرَى)، ﴿يَرَوْنَ﴾ يشاهدون، ﴿الْعَذَابَ﴾ على ظلمهم لرأيت أمرًا فظيعًا خارجًا عن الوصف لك، ويجوز إبقاء (تَرَى) على الاِستقبال تحقيقًا، و(إِذْ) للماضي تأويلاً بتحقيق الوقوع، أي: ولو ترى يوم القيامة عذابهم لترى أمرًا فظيعًا، لكن لا تراهم لأنَّهم في النَّار وأنت في الجنَّة، أو: لو ترى الآن لترى.. إلخ، لكن لا ترى العذاب في قبورهم في برزخ موتهم، وعلَّل قوله: لرأيت أو لترى بقوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا﴾ بفتح الهمزة، أي: لأنَّ القوَّة، أو يقدَّر: (لعلمت أنَّ القوَّة..) إلخ، أي: لازْدَادَ عملك، أو المصدر من خبر (أنَّ) بدل اشتمال من (الْعَذَابِ)؛ لأنَّ ثبوت القوَّة كلِّها لله تعالى تشمل قوَّته في العذاب، فيقدَّر على هذا (لرأيت)، أو (لَترى) بعد قوله: ﴿وَأنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ أي: لرأيت أو لترى، أي: علمت أو تعلم ثبوت القوَّة كلِّها وشدَّة العذاب للهِ، والمراد ازدياد العلم أو علم المشاهدة.
6. ﴿إِذْ﴾ بدل من (إذ) باعتبار مدخوليها، أو متعلِّقٌ بـ (شَدِيدُ) أو مفعول لـ (اُذْكُر)، ﴿تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ﴾ ادَّعى الرؤساء المتَّبوعون براءة ذمَّتهم، ﴿مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾ من ذنوب التَّابعين لهم، بأنْ قالوا: ما أضللناكم، أو ما قهرناكم على الضَّلال، بل اخترتُموه، ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: 63].
7. ﴿وَرَأَوُاْ﴾ عطف على (تَبَرَّأَ) أو حال، أي: والحال أنَّهم قد رأوا، ﴿الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ﴾ زالت زوالاً شديدًا، ﴿بِهِم﴾ عنهم، أو بسبب كُفرِهم، أو الباء للتَّعدية، أي: قطَّعتهم كما يقال: تمزَّقت بهم الطُّرق، أي: فرَّقتهم، ﴿الَاسْبَابُ﴾ الأمور التي يتوصَّلون بها إلى مرادهم، من دين الباطل وسائر الأغراض، كما يتوصَّل بالحبال، من القرابة والمودَّة والجوار والأموال فليسوا ينجون بها يوم القيامة ولو نفعتهم في الدنيا، والسَّبب: الحبل مطلقًا، أو الذي يُتوصَّل به إلى الماء، أو الذي تعلَّق بالسَّقف، أو الذي تُرتَقَى به النَّخلة فهو استعارة أصليَّة تحقيقيَّة تصريحيَّة والقرينة حاليَّة.
8. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ﴾ قال التَّابعون، هؤلاء الرُّؤساء، ﴿لَو﴾ ثبت ﴿اَنَّ لَنَا﴾ معشر التَّابعين والمتبوعين ﴿كَرَّةً﴾ أي: رجعة إلى الدنيا، ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ من هؤلاء الرؤساء في الدنيا إذا رجعنا إليها نحن وهم، فلا نتابعهم على الكفر إذا دعونا إليه، فعدم المتابعة بعد الرجوع هو تبرُّؤهم منهم، أو نتبرَّأ من دينهم إذا رجعنا إلى الآخرة مسلمين بعد الرجوع إلى الدنيا، ورجعوا إليها كافرين، أو لو أنَّ لنا رجعة إلى الدنيا فنسلم ونرجع إلى الآخرة، وهم باقون فيها لم يرجعوا فنتبرَّأ من دينهم، و(لو) للتمنِّي، ونُصِب (نَتَبَرَّأَ) في جوابه، ولا يلزم من التشبيه أن يكون تبرُّؤُ التابعين من جنس تبرُّؤِ المتبوعين فقد تخالفا، إذ تبرُّؤُ المتبوعين بقولهم: لم نقهركم على الضلال، وتبرُّؤ التابعين بقولهم: لسنا على دينكم، لو رجعوا إلى الدنيا وأصلحوا.
9. ويجوز أن يكون المتبوعون الأصنام، إذ عظَّموهم وجعلوهم كالعقلاء، فتقول في الآخرة: ﴿مَّا كُنتُمُ إِيـَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: 28]، ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: 63]، ﴿كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا﴾ كما تبرَّأ هؤلاء الرؤساء المتبوعون منَّا معشر التابعين، بأن قالوا: إنَّا بريئون من ذنوبكم، ما أضللناكم، أو ما قهرناكم على الضلال بل اخترتموه، وذلك مجازاة لهم إذ غاظهم تبرُّؤ الرؤساء المتبوعين، فأرادوا أن يغيظوهم بالتبرُّؤ بأن يرجعوا إلى الدنيا ويسلموا فيقولوا: لسنا على دينكم، ويبقى الرؤساء المتبوعون على الكفر، وذلك إغاظة في الدنيا أو يوم القيامة، إذا رجعوا إلى الآخرة من الدنيا التي رجعوا إليها.
10. ﴿كَذَالِكَ﴾ أي: مثل ما ذكر من رؤية العذاب، ومن تبرُّؤِ المتبوعين من التابعين، وذلك أنَّه يجوز أن يقال: قمت كما قعدت، أي: فعلت القيام كما فعلت القعود، فلا يضرُّ أنَّ التبرُّؤَ لم تسلَّط عليه الرؤية، بل لا مانع من أن يقال: المراد مثل إراءة العذاب وشدَّته وتبرُّئهم؛ لأنَّ ذلك كلَّه يرونه ولو لم يذكر رؤية كلِّ ذلك في الآية، فيكون التذكير بتأويل ما ذكر، أو يشار إلى الإرءاء ـ بهمزتين بينهما ألف بوزن (إكرام) بلا تاء ـ أو إلى إراء ما ذكر بالإضافة تنزيلا للهمزة قبل الألف ـ وهي عين الكلمة ـ منزلة حرف العلَّة، فيكون من باب إقامة لكن بلا تاء لأنَّا قدَّرناه مضافًا، فهو مذكَّر كقوله: تعالى، وإقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة، والمعنى على كلِّ حال: كما أراهم ذلك.
11. ﴿يُرِيهِمُ اللهُ﴾ يعلِمهم، أو يجعلهم رائين بأبصارهم باعتبار الأثر، ﴿أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ موجبات ندمات في حزنٍ وتلهُّفٍ، فالحسرة أخصُّ من النَّدمِ، وقيل مترادفان، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلِّق بـ (حَسَرَاتٍ) أو نعته؛ لأنَّ المعنى: مضرَّات عليهم، أو المراد: حسرات على خبثهم، إفراطًا وتفريطًا.
12. ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ولو وجدوا لخرجوا بأنفسهم ولو بلا إخراج، بخلاف أهل الجنَّة فإنَّهم لا يخرجون منها إلَّا بإخراج مخرج لو كان، لكن لا خروج ولا إخراج، والجملة الاسميَّة والباء للمبالغة في الخلود، وليس في ذلك حصر، وإذا قيل به في مثل ذلك فمن دليل خارجٍ، فليس المعنى: هم فقط لا يخرجون وَأَمَّا الفسَّاق فيخرجون، فلا دليل فيه على عدم خلوده، وليس في ذلك صيغة حصر، وأيضًا ليس المقام مقام حصر الخلود في المشرك حصر قلبٍ أو تعيين أو إفراط؛ والمراد: نفي أصل الخروج، مثل ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَّخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ [المائدة: 37].
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/281.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات مبينة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أندادا يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة.
2. قال المفسرون: ان الند هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيدا فقال: انه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه، ويفهم من هذا أن متخذي الانداد يزعمون انهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح لان القرآن قص علينا خبر متخذي الانداد في آيات كثيرة صريحة في أنهم لا يعتقدون شيئا من هذا الذي يفهم أو يتوهم من عبارة المفسرين، بل يعتقدون غالبا أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأن الانداد وسطاء بينه وبين عباده يقربونهم اليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم، ويحتجون لهذه العقيدة بأن المذنبين المقصرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بد لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والامراء، والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولا سيما المستبدين منهم، الذين استعبدوا الناس استعبادا بل تعبدوهم فعبدوهم، فالآيات الناطقة بأنهم إذا سئلوا: من خلق كذا وكذا؟ يقولون: الله كثيرة وقال فيهم مع ذلك: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله﴾، وقال أيضا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ أي يقولون ما نعبدهم.
3. الانداد عند جمهور المفسرين أعم من الاصنام والاوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعا دينيا، ويدل عليه الآيات الآتية: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ فالمراد إذا من الند من يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا عن الله تعالى، وبيان الاول على ما قررناه مرارا أن للأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الانداد في شيء، وان هناك أمورا تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلابها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مسبب الاسباب لعله بعنايته ورحمته يهدينا الى طريقها أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الاسباب حتى لا يبقى في الامكان شيء مع اعتقادنا بأن الاسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا اليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.
4. لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الارض بغير عمل منهم أخذا بظاهر قوله ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الاعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذر والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الامطار، وإفاضة الانهار، ودفع الجوائح، فان استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوه بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم، مع شكر الله تعالى على هدايتهم اليه، وإقدارهم عليه.
5. كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم اتكالا على الله تعالى واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ويتكلوا بعد ذلك في الهجوم والاقدام، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام، وغير ذلك من ضروب التوفيق والالهام، فمن قصر في اتخاذ الاسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، ومن التجأ إلي ما ليس بسبب من دون الله فهو مشرك بالله.
6. هذا الذي يُلجأ اليه من انسان مكرم ـ كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال جعل تذكارا لشيء من هذه ـ يسمى ندا لله وشريكا له ووليا من دونه، وقد نطق القرآن بجميع هذه الاسماء التي سماها المشركون ولم ينزل الله بها من سلطان.
7. قال محمد عبده: قسم المفسرون الانداد إلى قسمين:
أ. قسم يشفع عند الله تعالى ويتوسط لصاحب الحاجة فتقضى، وإنما كان الشفيع ندا لأنه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته، وتحويل الارادة لابد أن يكون مسبوقا بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الارادة تابعة للعلم دائما، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكام وهو محال على الله تعالى، وأقل تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أن الشفيع يهمه أمر من يشفع له ويتمنى لو تقضى حاجته، ولا يرغب عن الاسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الاطباء فيتراءي له أو لأحد أقاربه ان يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الاسباب طلبا للتعجيل بالشفاء، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤون إلى من اتخذوهم أولياء ليكفوهم عناء اتخاذ الأسباب.
ب. وأما القسم الآخر من الانداد فهو من يتبع في الدين من غير أن يكون مبينه للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ويتخذ رأيه دينا واجب الاتباع وإن ظهر أنه مخالف لما جاء عن الله ورسوله، اعتمادا على أنه أعلم بالوحي ممن قلدوه دينهم وأوسع منهم فهما فيما نزل الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾ كما ورد في التفسير المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. عظمت فتنة متخذي الانداد بهم حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله عز وجل، ولذلك قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي يجعلون من بعض خلق الله نظراء له فيما هو خاص به يحبونهم كحبه، ذلك ان الحب ضروب شتى تختلف باختلاف أسبابها وعللها، وكلها ترجع إلى الأنس بالمحبوب أو الركون والالتجاء اليه عند الحاجة، فقد يحب الانسان شخصا لأنه يانس به ويرتاح إلى لقائه لمشاكلة بينهما، ولا مشاكلة بين الله تعالى وبين الناس فيظهر فيهم هذا النوع من الحب، ومن أسباب الحب اعتقاد المحب أن في المحبوب قدرة فوق قدرته، ونفوذا يعلو نفوذه، مع ثقته بانه يهتم لأمره ويعطف عليه، بحيث يمكنه اللجأ اليه عند الحاجة فيستعين به على ما لا سبيل له اليه بدونه، فهذا الاعتقاد يحدث انجذابا من المعتقد يصحبه شعور خفي بان له قوة عالية مستمدة ممن يحب، ويعظم هذا النوع من الحب بمقدار ما يعتقد في المحبوب من الصفات والمزايا التي بها كان مصدر المنافع وركن اللاجئ، وكل ما للمخلوق من ذلك فهو داخل في دائرة الاسباب والمسببات والاعمال الكسبية.
9. قوة الخالق وقدرته وما يعتقده المؤمنون فيه من الرحمة الشاملة، والصفات الكاملة، والمشيئة النافذة، والتصرف المطلق في تسخير الاسباب والمسببات، والسلطان المطاع في الارض والسموات، فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك وهذا الحب لا ينبغي أن يكون لغير الله تعالى إذ لا يلجأ الى غيره في كل شيء كما يلجأ اليه، ولكن متخذي الانداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه: لا يخصونه بنوع من الحب إذ لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله أو ضربا من التوسط الغيبي فيه، فهم كفار مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد، ولذلك قال تعالى بعد بيان شركهم هذا: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ من كل ما سواه، لان حبهم له خاص به سبحانه لا يشركون فيه غيره، فحبهم ثابت كامل لان متعلقه هو الكمال المطلق الذي يستمد منه كل كمال، وأما متخذو الانداد فان حبهم متوزع متزعزع لا ثبات له ولا استقرار.
10. للمؤمن محبوب واحد يعتقد أن منه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وله القدرة والسلطان، على جميع الاكوان، فما ناله من خير كسبي فهو بتوفيقه وهدايته وما جاءه بغير حساب فهو بتسخيره وعنايته، وما توجه اليه من أمر فتعذر عليه، فهو يكله اليه، ويعول فيه عليه، وللمشرك أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فاذا حزبه أمر، أو نزل به ضر، لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر، أو استشفع بزيد وعمرو، لا يدري أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفّع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
11. من الحب نوع سببه الاحسان السابق، كما أن سبب الاول الرجاء بالإحسان اللاحق، ومن الاحسان ما تتمتع به ساعة أو يوما أو أياما متاعا قليلا أو كثيرا، ومنه ما تكون به سعيدا في حياتك كلها كالتربية الصحيحة والتعليم النافع، والارشاد إلى ما خفي من المنافع، وكل هذا مما يكون من الناس بكسبهم، وليس في طاقة البشر أن يحسن بعضهم الى بعض بإحسان إذا قبله المحسن اليه وعمل به يكون سعيدا في الدنيا والآخرة بحيث تكون سعادته به غير متناهية، وهذا الاحسان الذي يعجز عنه البشر هو هداية الدين التي تعلم الناس العقائد الصحيحة التي ترنقي بها العقول وتخرج بها من ظلمات الوثنية، والتعاليم التي تتهذب بها النفوس وتتزكى من الصفات البهيمية وقوانين العبادة التي تغذي العقائد والاخلاق، حتى لا يعتريها كسوف ولا محاق.
12. فالدين وضع إلهي يحسن الله تعالى به إلى البشر على لسان واحد منهم لا كسب له فيه ولا صنع، ولا يصل اليه بتلقّ ولا تعلّم ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ فيجب أن يحب صاحب هذا الاحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد، ولكن متخذي الانداد قد أشركوا أندادهم مع الله تعالى في هذا الحب إذ جعلوا لهم شركة في هذا الاحسان بسوء التأويل، فكما يأخذون بآرائهم على أنها دين من غير أن يعلموا من أين أخذوها وإن لم يأمروهم بذلك بل وإن نهوهم عنه يتمسكون كذلك بتأويلهم لما أنزل الله كأن التأويل أنزل معه بدون استعمال العقل ودلالة اللغة وبقية نصوص الدين للعلم بصحته وانطباقه على الحق.
13. المؤمنون حقا يوحدون الله تعالى ويخصونه بهذا الحب كما يوحدونه بالتشريع بمعنى انهم لا يأخذون الدين إلا عن الوحي، ولا يفهمونه إلا بقرائن ما جاء به الوحي، وإنما الائمة والعلماء ناقلون للنصوص ومبينون لها، بل قال الله تعالى للنبي نفسه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فهؤلاء المؤمنون يسترشدون بنقلهم وبيانهم، ولكنهم لا يقلدونهم في عقائدهم ولا عبادتهم، ولا يأخذون بآرائهم في الدين الذي هو عبارة عن سير الارواح من عالم إلى عالم، بل يجوزون كل عقبة ويدوسون كل رئاسة في سبيل الله تعالى ومحبته وابتغاء رضوانه، فهم متعلقون بالله ومخلصون له ﴿أَلا لله الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ فالمؤمنون هم المخلصون لله في دينهم الذين لا يأخذون أحكامه إلا عن وحيه، وأما متخذو الانداد ومحبوهم بهذا المعنى فهم الذين ورد في بعضهم ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ فهم لا يقبلون حكم الله في كتابه ولكن اذا دعوا ليحكم بينهم بآراء رؤسائهم أقبلوا مذعنين.
14. بعد هذا ذكر الله وعيد متخذي الانداد على سنة القرآن فقال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (ولو ترى) بالتاء على ان الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجوابه لرأيت أمرا عظيما وخطبا فظيعا وقرأها الباقون بالياء، وقرأ يعقوب (إن) في الموضعين بالكسر على الاستئناف أو على اضمار القول أي لو يشاهد الذين ظلموا انفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلموا الناس بما غشوهم به من أقوالهم وأفعالهم فحملوهم على أن يتلو تلوهم، ويتخذوا الانداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة فتتقطع بهم الاسباب، ولا تغني عنهم الانداد والارباب، أن القوة لله جميعا يظهر تصرفها المطلق في كل موجود، ويتمثل لهم سلطانها تمثل المشهود، فلا تحجبهم عنها أسباب ظاهرة، ولا تخدعهم عنها قوى تتوهم كامنة، لعلموا أن هذه القوة التي تدير عالم الآخرة هي عين القوة التي كانت تدير عالم الدنيا، وأنها قوة واحدة لا تاثير لغيرها فيها ولا في شيء من العالم بدونها، وأنهم كانوا ضالين في اللجأ إلى سواها، وإشراك غيرها معها، وأن هذا الضلال هبط بعقولهم وأرواحهم، وكان منشأ عقابهم وعذابهم، ولو رأوا مع هذا أن الله شديد العذابـ لرأوا أمرا هائلا عظيما يندمون معه حيث لا ينفع الندم وأمثال هذا الوعيد على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثيرة في القرآن ثم هي تترك كلها ويترك معها ما يؤيده من السنة الصحيحة وسيرة السلف الصالحين، والائمة المجتهدين، ويؤخذ بالشرك الصريح عملا بأقوال أناس من الميتين منهم من لا يعرف مطلقا، وإنما سمي وليا عملا ببعض الرؤى والاحلام أو لاختراع بعض الطغام، ومنهم من يعرف في الجملة ولكن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها، وإنما قدّم الخلف الطالح كلام هؤلاء على كلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف لان العامة اعتقدت صلاحهم وولايتهم، والعامة قوة تخضع لها الخاصة في أكثر الازمان.
15. من مباحث اللفظ في الآية أن الرؤية فيها علمية على قول الجلال، وقال محمد عبده: انها بصرية وإنما سلطت على المعقول لانزاله منزلة المحسوس، كأنه قال لو يتمثل لهم الامر ويتشخص لرأوا أمرا هائلا عظيما لا يتصور نظيره وهو مجاز لا لطف منه ولا ابدع، ويجوز أن يراد بالعذاب مظاهره فتكون مسلطة على محسوس، وقراءة (ولو ترى) أي لو رأيت حال هؤلاء الظالمين يومئذ لرأيت كذا وكذا، وحذف جواب (لو) معهود في كلام العرب وفي كلام الناس اليوم وذلك عند قيام القرينة على مراد المتكلم ولو إجمالا، يقولون في شخص تغير حاله وانتقل إلى طور أعلى أو أدنى: لو رأيت فلانا اليوم ـ ويسكتون ـ والمراد معلوم والاجمال فيه مقصود، لتذهب النفس في تصويره كل مذهب، ويخترع له الخيال ما يمكن من الصور، و(لو) على كل حال هي التي لمجرد الشرط لا يراعى فيها امتناع لامتناع.
16. قال محمد عبده بعد تفسير اتخاذ الانداد ومحبتهم على نحو ما تقدم وبيان أن المراد بالمحبة ما يجده المحب في نفسه من الأنس بالمحبوب والثقة به والاعتماد عليه واللجأ اليه على اختلاف أطوار الانسان في وجدانه واعتقاده: إننا قد اشترطنا في ابتداء قراءة التفسير أن نتكلم عن معنى القرآن من حيث هو دين جاء مكملا للأرواح وسائقا لها إلى سعادتها في طورها الدنيوي وطورها الاخروي، ولا يتم لنا هذا إلا بالاعتبار وهو أن ننظر في الحسن الذي يمدحه الله تعالى ويأمر به ونرجع إلى أنفسنا لنرى هل نحن متصفون به؟ وننظر في القبيح الذي يذمه وينهى عنه كذلك، ثم نجتهد في تزكية أنفسنا من القبيح وتحليتها بالحسن، وههنا يجب علينا أن نبحث وننظر هل اتخذ المسلمون أندادا كما اتخذ الذين من قبلهم أندادا أم لا؟ فان هذا أهم ما يبحث فيه قارئ القرآن، ثم قال ما مثاله.
17. ذكر هنا مبحثا مرتبطا بالتصوف والموالد التي يقيمها الصوفية، والموقف منها، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
18. بقي صنف آخر يشبه أن يكون من الانداد وهم العامة، والذين اتخذوهم أندادا هم علماء الدنيا فانهم يحلون لمرضاتهم ويحرمون ويخالفون النصوص الصريحة بضروب سخيفة من التأويل لموافقة أهوائهم، فان لم يفتوهم بخلاف النص التماسا لخيرهم أو هربا من سخطهم كتموا حكم الله من أجل ذلك، فترى أحدهم إذا سئل: أهذا حق أم باطل وحلال أم حرام؟ يغض من صوته بالجواب، ولا يجهر بالقول مداراة للعوام، إذا كان الجواب على غير ما هم عليه، ولا سيما إذا كان هؤلاء العامة من الاغنياء وأصحاب السلطة، ونقول: مداراة للعوام، حكاية لقولهم اذ يسمون النفاق والمحاباة في الدين مداراة لما كانت المداراة محمودة، وكذلك كان الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ممن قبلهم يسمون كتمانهم ما سماء محمودة، ولكن الله تعالى لعنهم على ذلك وسجل لهم الكفر والفسوق والعصيان، فهل يختلف حكمه فيرضى لهؤلاء بأن يؤثروا العامة على ربهم ويجعلونهم أندادا له يحبونهم كحبه أو أشد؟
19. ترى العالم من هؤلاء ينتسب إلى الشرع ويحترم لاجله وهو مع ذلك يتبع هوى من لا يعرف الشرع، فهو من الذين إذا أوذوا في الله جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، فلا يتخذون الله وليا ولا نصيرا، فهل يكون المرء مؤمنا إذا كان يترك دينه لأجل الناس؟ أم شرط الايمان أن يصبر في سبيله على ايذاء الناس؟ ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ كلا ان هؤلاء المتبوعين والتابعين بعضهم فتنة لبعض وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبرنا الله تعالى.
20. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ التبرؤ المبالغة في البراءة وهي التفصي ممن يكره قربه وجواره تنزها عنه، و(إذ) ظرف متعلق ب ﴿يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ في الآية السابقة، والكلام متصل لاحقه بسابقه في موضوع اتخاذ الانداد، وقد نطقت الآية السابقة أن عذاب الله تعالى سيحل بمتخذي الانداد من دونه، وهو عام في التابع في الاتخاذ والمتبوع فيه، وفي أنواع الاتباع المذموم من التشريع بالرأي والهوى والتقليد فيه وغير ذلك من الضلال، وبين في هاتين الآيتين تفصيل حال التابعين والمتبوعين في ذلك، وأورده بصيغة الماضي تمثيلا لحال الفريقين في ذلك اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء ويرى الناس فيه العذاب بأعينهم، ويعرفون أسبابه من تأثير العقائد الباطلة والاعمال السيئة في أنفسهم، كأن الامر قد وقع، والبلاء قد نزل، ورأى الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا أن إغواءهم للناس الذين اتّبعوا رأيهم، وقلدوهم دينهم، قد ضاعف عذابهم، وحملهم مثل أوزار الذين أضلوهم فوق أوزارهم، فتبرؤا منهم، وتنصلوا من ضلالتهم ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أي والحال انهم قد رأوا العذاب الذي هو جزاؤهم ماثلا لهم يوم الحساب فأنى ينفعهم التبرؤ.
21. ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أي الروابط التي كانت بينهم وبين التابعين وإنما كان ينفعهم في الدنيا لو انهم آثروا به الحق على الرياسة والجاه والمنافع التي يستفيدها الرئيس باستهواء المرؤوس وإخضاعه له وحمله على اتباعه، أما وقد صدر عن نفوس ترتعد من رؤية العذاب الذي أشرفت عليه بما جنت واقترفت، بعد ما تقطعت الروابط والصلات بينها وبين المتبوعين واصطلمت، فلا منفعة للمتبرئ تركت فيحمد تركها، ولا هداية للمتبرأ منه ترجى فيحمد اثرها.
22. الاسباب جمع سبب وهو في أصل اللغة الحبل الذي يصعد به النخل وأمثاله من الشجر ثم غلب في كل ما يتوصل به الى مقصد من المقاصد المعنوية لولا ان حيل بين المقلدين وهداية القرآن لكان لهم في هذه الآية اشد زلزال لجمودهم على اقوال الناس وآرائهم في الدين، سواء كانوا من الاحياء أم الميتين، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات أم في احكام الحلال والحرام، إذ كل هذا مما يؤخذ عن الله ورسوله ليس لأحد فيه رأي ولا قول، إلا ما كان من الاحكام متعلقا بالقضاء وما يتنازع فيه الناس فلأولي الامر فيه الاجتهاد بشرطه اقامة للعدل، وحفظا للمصالح العامة والخاصة، وإنما العلماء نقلة وأدلاء لا أنداد ولا انبياء، فلا عصمة تحوط احدهم فيعتمد على فهمه، وقصارى العدالة ان يوثق بنقله، ويستعان بعلمه، وما تنازعوا فيه يرد الى كتاب الله وسنة رسوله، فهناك القول الفصل والحكم العدل والله يحكم لا معقب لحكمه، ولا مرد لامره.
23. في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ فكل يؤاخذ عمله، فاذا حمل الاول الاخر على رأيه ودعاه الى اتباعه فيه أو في رأي غيره الذي يقلده هو فيه فهو من الائمة المضلين، وعليه إثمه ومثل اثم من أضلهم من غير أن ينقص من اثمهم شيء، اذ حرم الله عليهم اتخاذ الانداد من دون الله فاتخذوهم.
24. أما من يبدي في الدين فهما، ويقرر بحسب ما ظهر له من الدليل حكما، يريد أن يفتح به للناس أبواب الفقه، ويسهل لهم طريق العلم، ثم هو يأمر الناس بان يعرضوا قوله على كتاب الله وسنة رسوله، وينهاهم أن يأخذوا به الا أن يقتنعوا بدليله، فهو من أئمة الهدى، وأعلام التقى، وليس يضره أن يقلّد فيه بغير علمه، ويجعل ندا لله من بعد موته، فإنه اذا كان مخطئا وجاء ذلك المقلّد له على غير بصيرة يوم القيامة ينسب ضلاله اليه، فإنه يتبرأ منه بحق ويقول ما أمرتك ان تأخذ بقولي على علاته ولا أعرفك، فالذين يتخذون أندادا يتبرؤن كلهم يوم القيامة ممن اتخذوهم، ولكنهم يكونون على قسمين:
أ. قسم عبدهم الناس كالمسيح وبعض أولي العلم والتقوى من هذه الامة ومن الامم قبلها أو قلدوهم وأخذوا بأقوالهم في الدين من غير دليل شرعي كبعض الائمة المهتدين من غير أن يأمرهم هؤلاء بعبادتهم أو تقليدهم، بل مع نهيهم إياهم عن عبادة غير الله تعالى وعن الاعتماد على غير وحيه في الدين ـ فهذا القسم غير مراد هنا لان الذين عبدوا أولئك الاخيار أو قلدوهم دينهم لم يتبعوهم في الحقيقة إذ اتباعهم هو اتباع طريقتهم في الدين وما كانوا يشركون بالله أحدا ولا شيئا، ولا يقلدون في دينه أحدا وإنما كانوا يأخذون دينه عن وحيه فقط ـ
ب. وقسم أضلوا الناس بأحوالهم وأقوالهم فاتبعوهم على غير بصيرة ولا هدى فهؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، إذ تتقطع بهم أسباب الاهواء والمنافع الدنيوية التي تربط هنا بعضهم ببعض.
25. ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ أي نتمنى لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لنتبرأ من اتباع هؤلاء المضلين ونتنصل من رياستهم، أو لنتبع سبيل الحق ونأخذ بالتوحيد الخالص ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، ثم نعود إلى هنا (للآخرة) فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا إذ نسعد بعملنا من حيث هم أشقياء بأعمالهم.
26. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي ان الله تعالى يظهر لهم كيف أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الاثر في نفوسهم إذ جعلتها مستذلة مستعبدة لغير الله تعالى فأورثها ذلك من الظلمة والصغار ما كان حسرة وشقاء عليها، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفس، ولكن لا يظهر ذلك إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها كل نفس بتزكيتها، وتشقى بتدسيتها.
27. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ إلى الدنيا صحيحي العقيدة ليصلحوا أعمالهم، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا الى الجنة لان علة دخولهم في النار هي ذواتهم بما طبعتها عليه خرافات الشرك وحب الانداد.
28. يقول المفسرون(2). في مثل هذه الآيات ان هذا الكلام خاص بالكفار، نعم انه خاص بالكفار كما قالوا، ولكن من الخطأ أن يفهم من هذا الكلام ما يفصل بين المسلمين والقرآن إذ يصرفون كل وعيد فيه إلى المشركين واليهود والنصارى فينصرفون عن الاعتبار المقصود، لهذا ترى المسلمين لا يتعظون بالقرآن، ويحسبون ان كلمة (لا إله إلا الله) يتحرك بها اللسان من غير قيام بحقوقها كافية للنجاة في الآخرة، على أن كثيرا من الكافرين يقولها، ومنهم من يهز جسده عند ذكر الله كما يهزه جماهيرهم، فهل هذا كل ما أراده الله من إنزال القرآن، وبعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
29. ليس هذا الذي يتوهّمه الجاهلون من مراد المفسرين، فما بين الله تعالى ضروب الشرك وصفات الكافرين وأحوالهم إلا عبرة لمن يؤمن بكتابه حتى لا يقع فيما وقعوا فيه فيكون من الهالكين، ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربهم، بزعمهم أن المستعدين للاهتداء به قد انقرضوا ولا يمكن أن يخلفهم الزمان لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسر لغيرهم، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية والاحاطة بخلاف العلماء في الاحكام، والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الاول من المسلمين هو أن أهل القرنين الاول و الثاني لم يكونوا يقلدون أحدا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الاول رضي الله تعالى عنهم يلقنون الناس الدين ببيان كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان الجاهل بالشيء يسأل عن حكم الله فيه فيجاب بأن الله تعالى قال كذا أو جرت سنة نبيه على كذا، فان لم يكن عند المسئول فيه هدي من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي أو أحال على غيره.
30. ذكر هنا مبحثا مرتبطا بالفقه ومواقف المذاهب الأربعة من التقليد، وليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناه إلى محلها من السلسلة.
31. من مباحث اللفظ في الآيتين:
أ. أن التشبيه في قوله تعالى ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ هو تشبيه حالة بحالة ذكرت في الكلام السابق أي كذلك النحو الذي ذكر من إراءتهم العذاب سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، والذين تنطعوا في إعرابها من المفسرين صرفتهم قواعد النحو عن ملاحظة الاسلوب العربي في مثل هذا، على أن له نظائر في كلام العامة في كل زمان هي مما بقي لهم من الاساليب العربية الفصيحة لم تفسدها العجمة إذ لا تمجها أذواق الأعجمين
ب. ومنها قوله تعالى ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ قال محمد عبده: جاءت فيه الباء لمعنى خاص لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانبها، وإنما يفهمه العربي من الاسلوب، فانك اذا قلت هنا كما قال الجلال تقطعت عنهم الاسباب لا ترى في نفسك الاثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الاولى التي تمثل لك التابعين والمتبوعين كعقد انفرط بانقطاع سلكه فذهبت كل حبة منه في ناحية، وتوضيحه أن هؤلاء المقلدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا ومتصلا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح يستمدها كل من التابع والمتبوع من الآخر، فشبهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤوسين، والتابعين على تقليد المتبوعين، بالأسباب وهي في أصل اللغة الحبال كأنه يقول ان كل واحد منهم كان مربوطا مع الآخرين بحبال كثيرة فلم بشعروا الا وقد تقطعت هذه الحبال كلها فاصبح كل واحد منبوذا في ناحية لا يصله بالآخر شيء، وعلى هذا تكون الباء متعلقة بمحذوف حال من الفاعل، قال محمد عبده: ومن هذه الاساليب الخاصة قوله تعالى ﴿وَكَفَى بِالله شَهِيدًا﴾ و﴿سُبْحَانَ الله﴾ فاذا فسرت ذلك بالتحليل والارجاع الى القواعد العامة فقلت في الاول كفى الله شهيدا أو كفت شهادته، وفي الثاني تسبيحا لله: لم يكن له تاثير الاول وموقعه من النفس.. ومثل هذه الاساليب الخاصة توجد في كل لغة.
__________
(1) تفسير المنار: 2/66.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر الله تعالى فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشّرعة.
2. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبي فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد.
3. للمشرك أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضرّ لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر؟ أو استشفع بزيد أو عمرو، لا يدرى أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفّع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
4. عظمت فتنة متخذي الأنداد بهم، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه.
5. ليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتى لا يبقى في الإمكان شيء بعد ذلك.
6. الدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملو سلاح دون سلاح العدو المعتدى اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرنا بإعداد العدة، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرّم أو ملك مقرّب، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب، أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقار به أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء.
7. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ من كل ما سواه؛ إذ حبهم له خاص به لا يشركون فيه غيره، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السموات والأرض بيده، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان، فما ينالهم من خير كسبي فهو بهدايته وتوفيقه، وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه، ولا يعوّلون إلا عليه.
8. ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذي الأنداد قال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ أي ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلم الناس وغشهم، بحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة، فتقطع بهم الأسباب، ولا تغنى عنهم الأنداد والأرباب، أن القوة لله وحده، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
9. أمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة، وعليه جرى السلف الصالح، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف.
10. ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء، ويرى الناس بأعينهم العذاب، فقال: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا؛ ولكن ذلك لا يجديهم نفعا؛ فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام، فأنّى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟.
11. ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ أي وقال التابعون: ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدى بكتاب الله وسنة رسوله؛ ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
12. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي إنه كما أراهم العذاب، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم، والمراد من إراءتهم ذلك، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفوس، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي.
13. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/39.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. مع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾.. من الناس من يتخذ من دون الله أندادا.. كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارا وأشجارا، أو نجوما وكواكب، أو ملائكة وشياطين.. وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات.. وكلها شرك خفي أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟
2. إن المؤمنين لا يحبون شيئا حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم، لا أشخاصا ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيما من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾.. أشد حبا لله، حبا مطلقا من كل موازنة، ومن كل قيد، أشد حبا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه.
3. التعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق، فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي، صلة المودة والقربي، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود.
4. أولئك الذين اتخذوا من دون الله أندادا، فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم.. لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو يرون لرأوا ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾ فلا شركاء ولا أنداد.. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين، ورأوا العذاب، فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كل بنفسه تابعا كان أم متبوعا، وسقطت الرئاسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلا على وقاية تابعيها، وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب.
5. ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة، وتمنوا لو يردون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرؤوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب! إنه مشهد مؤثر: مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/154.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إنه لضلال ما بعده من ضلال، وسفه ليس وراءه من سفه؛ أن تكون دلائل القدرة، وشواهد الوحدانية مبثوثة في كل أفق، ناجمة في كل مكان، ثم يكون مع ذلك في الناس من لا يعرف طريقه المستقيم إلى الله فتتفرق به السبل إليه، فيرى الله بعين مريضة، وبقلب سقيم، وإذا الله عنده ربّ مع أرباب، وإله بين آلهة، فولاؤه لله قسمة بينه وبين ما أشرك معه من آلهة وأرباب، وحبه لله موزع مشاع بينه وبين الشركاء الذين جعلهم معه، وليس كذلك حبّ الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم لله، فهو الحبّ كل الحبّ لله وحده، لا شريك له فيه.
2. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ وعيد مزلزل لكيان أولئك الذين أشركوا بالله وجعلوا له أندادا، وانتقال خاطف بهم إلى يوم القيامة وأهوالها، والنار الجاحمة المعدة لهم، وعندئذ يرون أن الملك لله وحده، وأن القوة كلها بيده، لا يملك أحد منها مع الله شيئا، يدفع عنهم هذا العذاب المحيط بهم.
3. هنالك في هذا الموقف المتأزم الخانق، وبين يدى هذا الجحيم الآخذ بالنواصي والأقدام، يكثر التلفت إلى الوراء، وترتفع صيحات الحسرة والندم من الآثمين الضالين! وفى مشهد من تلك المشاهد تقع الملاحاة بين الأتباع والمتبوعين، ويتبرأ المتبوعون من الأتباع، وتتقطع بينهم أسباب التقارب والتواصل، ويترامون بالعداوة والبغضاء! والأتباع والمتبوعون هنا هم جميعا من أهل الضلال.. أما الأتباع فهم العامة، وأما المتبوعون فهم العلماء وأصحاب القيادة الدينية فيهم، إذ هم الذين زينوا للعامة هذا الضلال، وهم الذين حرّفوا لهم الكلم عن مواضعه، فأهلكوهم وهلكوا معهم جميعا، فالمشهد هنا بين الأتباع والمتبوعين قائم على شفير جهنم التي يساق إليها الأتباع والمتبوعون معا.
4. لما كان هؤلاء المتبوعون هم الذين زينوا لأتباعهم هذا الضلال الذي أوردهم موارد الهلاك، فقد وقع في أنفسهم حين رأوا العذاب الذي ينتظرهم، أن أتباعهم سوف يتعلقون بهم، ويسوقونهم للقصاص منهم، بتهمة التحريض والغواية لهم، إذّاك بادر هؤلاء المتبرعون وتبرؤوا من أتباعهم، ونفضوا أيديهم من كل صلة بهم! وحين يجد الأتباع أنهم وقادتهم حصب جهنم، كما يقول الله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ يتضاعف حزنهم وتشتد حسرتهم، ويقطّع اليأس نياط قلوبهم، حين لم ينالوا منالا من هؤلاء الذين غرروا بهم، وأوردوهم هذا المورد الوبيل! وإذ ذاك تنطلق ألسنتهم بكلمات تتميز غيظا ويأسا: ﴿لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ فهم إنما يتمتمون ـ في يأس مغلق ـ أن يردّوا هم ورؤساؤهم إلى هذه الدنيا، ليراجعوا حسابهم معهم على ضوء ما تكشّف لهم في هذا الموقف، وليصموا آذانهم عن كل دعوة باطلة يدعونهم إليها.
5. أما تبرؤوهم منهم في الآخرة فإنه لا يجدى نفعا.. فقد دعوا إلى الضلال وأجابوا، وها هم أولاء يجنون ثمرة ما زرعوا من شرّ، وما ثمّروا من إثم! ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/185.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾، عطف على ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 164] لأن تلك الجملة تضمنت أن قوما يعقلون استدلوا بخلق السموات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحدوه، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك، فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [البقرة: 161] الآيات.
2. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وعطفه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديم الخبر وكون الخبر ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ مؤذن بأنه تعجب من شأنهم، و﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ﴾ ما صدقها فريق لا فرد بدليل عود الضمير في قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾.
3. المراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة، وقد مضى الكلام على النّد بكسر النون عند قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، وقوله: ﴿مِنْ دُونِ الله﴾ معناه مع الله لأن كلمة دون تؤذن بالحيلولة لأنها بمعنى وراء فإذا قالوا اتخذه دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله، وإذا قالوا اتخذه من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن الله في أوقات الشغل بعبادة ذلك الشريك.
4. ﴿مِنْ دُونِ الله﴾ خال من ضمير ﴿يَتَّخِذَ﴾، وقوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ بدل من ﴿يَتَّخِذَ﴾ بدل اشتمال، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة، ويجوز كونه صفة لمن، وجوّز أن يكون صفة الأندادا لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم، والأظهر أن يكون حالا من (من) تفظيعا لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها.
5. المراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن، الأصنام لا الرؤساء كما قيل، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل.
6. المحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو ميل النفس إلى الحسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول نفع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافا لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخلق (بضم الخاء) الحسن وإلى الفعل الحسن والكمال، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله.
7. التحقيق أن الحب يتعلق بذكر المرء وحصول النفع منه وحسن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا، ونحب أجدادنا، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين، ولله در أبي مدين في هذا المعنى:
çوكم من محب قد أحب وما رأى...وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرىé
وبضد ذلك كله تكون الكراهية.
8. من الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم عرفي لها قال الجعدي:
çلو كان حبك صادقا لأطعته...إن المحب لمن يحب مطيعé
أو مجاز بالحذف، والتقدير: يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله، إما لأنها من أنواع الإرادة، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأى بعض المتكلمين، وإما لأنها طلب الملائم، واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر، وعلى هذا التفصيل بين إطلاقي المحبة هنا يكون التشبيه راجعا إلى التسوية في القوة.
9. منهم من جعل محبة الله تعالى مجازا وجعلها في قوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ﴾ أيضا مجازا وعلى ذلك درج في (الكشاف) وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها، وقد علمت أنه غير متعين.
10. ﴿كَحُبِّ الله﴾ مفيد لمساواة الحبين؛ لأن أصل التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول، فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب لله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه، ويسميهم شركاء أو أبناء الله تعالى، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى قال تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يحب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام.
11. المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 42] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ أي أشد حبّا لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم، على ما بلغوا من التصلب فيها، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لمّا كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونه أهلا للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس.
12. المقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيرا ما كانوا يعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أمّلوه، فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم تزلزلها، وهذا مأخوذ من كلام (الكشاف) ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح (الكشاف)، روي أن امرئ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حجرا ملكهم مر على ذي الخلصة الصّنم الذي كان بتبالة بين مكة واليمن فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصّنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات فكسر تلك القداح ورمى بها وجه الصّنم وشتمه وأنشد:
çلو كنت يا ذا الخلص الموتورا...مثلي وكان شيخك المقبوراé
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثم قصد بني أسد فظفر بهم.
وروي أن رجلا من بني ملكان جاء إلى سعد الصّنم بساحل جدّة وكان معه إبل، فنفرت إبله لما رأت الصّنم فغضب الملكاني على الصّنم ورماه بحجر وقال:
çأتينا إلى سعد ليجمع شملنا...فشتّتنا سعد فما نحن من سعد
وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة...من الأرض لا تدعو لغيّ ولا رشدé
13. إنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة ﴿أَشَدُّ﴾ قال التفتازانيّ: آثر ﴿أَشَدُّ حُبًّا﴾ على أحبّ لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول: هو أحب إلي، وفي القرآن: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 24] إلخ.. يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل، فلذلك خصوا في الاستعمال كلا بمواقع نفيا للبس فقالوا: أحب وهو محب وأشد حبا وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضا.
14. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، عطف على قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ﴾ وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحا لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ مؤذنا بالتعجيب من حالهم كما قدمنا، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أندادا وأحبوها كحبه، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا.
15. قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ﴿وَلَوْ يَرَى﴾ بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (فالذين ظلموا) مفعول (ترى) على المعنيين، و(إذ) ظرف زمان، والرؤية بصرية في الأول و الثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات، ولأن ذلك مورد المعنى، إلّا أن وقت الرؤيتين مختلف، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة، أي لو ترى الآن حالهم، وقرأه الجمهور ﴿يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالتحتية فيكون ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فاعل ﴿يَرَى﴾ والمعنى أيضا لو يرون الآن، وحذف مفعول ﴿يَرَى﴾ لدلالة المقام، تقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون (إذ) اسما غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
16. ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملا لهؤلاء المشركين وغيرهم، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلما لأنه اعتداء على عدة حقوق فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده، واعتدوا على من جعلوهم أندادا لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد ورد في (الصحيح) عن ابن عباس أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها، ومثل (اللات) يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللات بتشديد التاء، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سببا لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله﴾ [المائدة: 116] وقال: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: 40] الآية ـ وقال: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ [الفرقان: 17] الآية، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال، ولذلك حذف مفعول ﴿ظَلَمُوا﴾ لقصد التعميم، ولك أن تجعل ﴿ظَلَمُوا﴾ بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] وعليه فالفعل منزّل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب.
17. جملة: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ معترضة، والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها.. وتركيب لو ترى وما أشبهه نحو لو رأيت من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن.
18. جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ونظيره ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ [الأنعام: 93]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27]، ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ [الرعد: 31]، قال المرزوقي عند قول الشّميذر الحارثي:
çوقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا...بني عمّنا لو كان أمرا مدانياé
حذف الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده: لئن قمت إليك، ثم سكت تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضرب من العذاب)، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر: لرأيت أمرا عظيما وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمرا عظيما.
19. ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ قرأه الجمهور بفتح همزة أنّ وهو بدل اشتمال من ﴿الْعَذَابَ﴾ أو من ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فإن ذلك العذاب من أحوالهم، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعا والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعا.
20. جميعا: استعمل في الكثرة والشدة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شرا:
çقليل التشكي للملمّ يصيبه...كثير الهوى شتّى النّوى والمسالكé
أراد شديد الغرام.
21. قرأ أبو جعفر ويعقوب ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ﴾ بكسر الهمزة على الاستئناف البياني كأن سائلا قال: ماذا أرى وما هذا التهويل؟ فقيل: إن القوة ولا يصح كونها حينئذ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار: (إن ذاك النجاح في التبكير)، لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه.
22. قرأ ابن عامر وحده ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾ [البقرة: 167].
23. انتصب (جميعا) على التوكيد لقوله ﴿الْقُوَّةِ﴾ أي جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 2].
24. جاء (لو) في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن لو للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطا لها يصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعينا للمستقبل فأوّله الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب (المفتاح)، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حرف بالمعنى إن لمجرد التعليق لا للامتناع، وذهب ابن مالك في (التسهيل) و(الخلاصة) إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية بالنسبة لوقوع الماضي وإلّا فهو وارد في القرآن وفصيح العربية، والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده (لو) متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضا وغير مقصود حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذرا ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم، وأن كون الفعل بعدها ماضيا أو مضارعا ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة بالاختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها، إذ كثيرا ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة:
çولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا...ومن بين رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمّة...لصوت صدى ليلى يهشّ ويطربé
فإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية.
25. ﴿إِذِ﴾ ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: 165] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرئ بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد.
26. جيء بالفعل بعد (إذ) هنا ماضيا مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيها على تحقق وقوعه فإن درجت على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفا للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحا للتبعية، وإن درجت على أنها ترد ظرفا للمستقبل وهو الأصح ونسبه في (التسهيل) إلى بعض النحاة، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: 152] على أن يكون ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ هو الموعود به وقال: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ [غافر: 71] فيكون المجاز في فعل ﴿تَبَرَّأَ﴾ خاصة.
27. التبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قربه أن يكون مضرا ولذلك يقال تبارءا إذا أبعد كل الآخر من تبعة محققة أو متوقعة.
28. ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لحيّ، فقد أشعر قوله: ﴿اتَّبَعُوا﴾ أنهم كانوا يدعون إلى متابعتهم، وأيّد ذلك قوله بعده ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ أي نجازيهم على إخلافهم، ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم، وصرفهم عن الالتحاق بهم حين هرعوا إليهم.
29. جملة ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ حاليّة أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أعد لمن أضلّ الناس فجعلوا يتباعدون من أتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازا في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله: ﴿يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾ [الأنعام: 49] فموقع الحال هنا حسن جدا وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاء بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب، ولا تكون معطوفة على جملة ﴿تَبَرَّأَ﴾ لأن معناها حينئذ يصير إعادة لمعنى جملة: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ فتصير مجرد تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات.
30. ضمير ﴿رَأَوْا﴾ ضمير مبهم عائد إلى فريقي الذين اتّبعوا والذين اتّبعوا، وجملة ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ معطوفة على جملة ﴿تَبَرَّأَ﴾ أي وإذ تقطعت بهم الأسباب، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين.
31. التقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطّعه بالتشديد مضاعف قطع بالتخفيف، والأسباب جمع سبب وهو الحبل الذي يمد ليرتقى عليه في النخلة أو السطح، وقوله ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبّها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي: تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقي بجامع السعي، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك، وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يعد مثالا في الحسن:
çكأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا...وأسيافنا ليل تهاوى كواكبهé
فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة.
32. الباء في ﴿بِهِمْ﴾ للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سببا آخر ينزل فيه، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابهم أو نحوه، فمن قال إن الباء بمعنى عن أو للسببية أو التعدية فقد بعد عن البلاغة، وبهذه الباء تقوّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرئ القيس:
çتقطّع أسباب اللّبانة والهوى...عشيّة جاوزنا حماة وشيزراé
33. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذين قبله عائدان إلى مجموع الفريقين، على أن في صلة ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ تنبيها على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعف العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾.
34. ﴿لَوْ﴾ في قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف (لو) وأصلها الشرطية حذف شرطها وجوابها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المنال يكثر تمنيه، وسدّ المصدر مسد الشرط والجواب، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جوابا على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب.
35. الكرّة الرّجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق، وحذف متعلّق (الكرة) هنا لظهوره.
36. الكاف في كما تبرؤوا للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلي:
çأهزّ به في ندوة الحي عطفه...كما هزّ عطفي بالهجان الأواركé
ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جعلت للمجازاة، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعث على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 198]، والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعد ما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة.
37. سؤال وإشكال: هم إذا رجعوا رجعوا جميعا عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم، والجواب: باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق، وقد يقال اتهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالبا، والأتباع مغرورون لجهلهم، فهم إذا رجعوا جميعا إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم.
38. جملة ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ تذييل وفذلكة لقصة تبري المتبوعين من أتباعهم.
39. الإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ للإراءة المأخوذة من ﴿يُرِيهِمُ﴾ على أسلوب ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراء مثل هذا الإراء إذ لا يكون إراء لأعمالهم أوقع منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنع من هذه الحالة، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شعري شعرى، أو بمرادفه نحو والسفاهة كاسمها، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
40. الإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله: ﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ حال من ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ ومعنى ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسّون بها.
41. الحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرح واشتقاقها من الحسر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له.
42. ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعيّن أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوث الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلّا إدخال ألم الحسرات عليهم وإلّا فهم باقون في النار على كل حال.
43. عدل عن الجملة الفعلية بأن يقال ﴿وما يخرجون﴾ إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة، إلّا أنه الأصل في التعبير بالجملة الاسمية في مثل هذا إذ لا تتأتّى بسوى هذا التقديم، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة، ولأجل ذلك صرح الزمخشري تبعا للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذّل البكري:
çهم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة...وأجرد سبّاق يبذ المغالياé
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص .. وادعى صاحب (المفتاح) أن تقديم المستند إليه على المسند المشتق قد يفيد الاختصاص كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: 91] ـ ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [هود: 29] ـ ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: 107] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه معنى التخصيص بالقرائن، وليس في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾، ما يفيد التخصيص ولا يدعو إليه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/89.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الله وحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لا إله إلا هو، وذكر الأدلة على الوحدانية، وأنه حافظ الإنسانية ومنميها، والأحياء جميعا، ومع هذه الأدلة الواضحة ومع ما غمر الإنسان من نعم ووجود وكيان قائم، مع ذلك وجد من يجعل للخالق المدبر أندادا في العبادة؛ ولذا قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾
2. الأنداد جمع ند وهو النظير المقابل المماثل، وأنهم يتخذون الأصنام أو الأشجار أندادا مماثلة لله تعالى يتعبدون الأصنام، ولا يذكرون الله إلا قليلا، أو الأشخاص فيطيعونهم كأن أوامرهم هي من الله تعالى، وإن ذلك كله مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها مما نيط بهم في هذا الكون الذي هو في ذاته دليل الوحدانية، ونعم من آلائه، سبحانه وتعالى فالإنكار ابتداء هو في اتخاذهم هؤلاء الأنداد أيا كانوا.
3. في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله﴾ إشارتان بيانيتان:
أ. الأولى: التعبير ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ فمن للبعضية، أي بعض الناس، وفى ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا، أم كانوا عددا كثيرا فهم مهينون في تفكيرهم، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم، وما يحيط بهم، فضلوا ضلالا بعيدا، والتعبير عنهم بذلك ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس، فليس لهم وصف علم ولا إيمان، ولا شيء من المكارم التي تعلى الإنسان وتسير به في مدارج الرقى، كما تقول عن رجل محتقرا: هذا الآدمي، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي.
ب. الثانية: أن الله تعالى قال ﴿يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، فيه إشارة إلى أنهم ـ أي الأنداد ـ ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا، وإنهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا.
4. قوله تعالى: ﴿كَحُبِّ الله﴾ يحتمل وجوها:
أ. قد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وإذا أنزلت بهم شديدة لا يلجئون إلا لله، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما تلونا من كتاب الله تعالى ما يحكيه عنهم، فهم يفرقون بين معبوداتهم، وبين الله في شدائدهم، ولا يفرقون في رخائهم، وقد علمت أن وثنيي العرب ما كانوا ينكرون وجود الله وأنه المنشئ المكون للوجود، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان] ويقولون في أوثانهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وهذا التخريج هو الأقرب إلى الخاطر.
ب. وهناك تخريج آخر، يقول إن معنى قوله تعالى ﴿كَحُبِّ الله﴾ أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده.
5. التخريج الأول أظهر وأقرب إلى الخاطر، وهو المتبادر، ولقد قال بعد ذلك: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾، أي أن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر، وأنه خالق الكون؛ ولأن حبهم مقصور على الذات العلية، فإنهم بذلك أشد حبا لله، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له، وتسليم الوجه والطاعة له، والخضوع له، ولما يأتي من عنده، فحب الله طاعته، وأن تمتلئ النفس بذكره، وأن يكون حبه كله لله تعالى لا يحب شيئا في الوجود إلا لله، كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة] ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله) فالله في قلبه وفى عمله، وقوله واختلاطه بالناس، وهو معه دائما.
6. أعد الله تعالى العقاب الشديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد، وقدسوا الحجارة، وعبدوا الطاغوت، وقد قال تعالى في وصف عقابهم الهائل: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ والذين ظلموا هم الذين اتخذوا الأنداد، وأظهرهم، ولم يعبر عنهم بالضمير أو الإشارة، لبيان أنهم ظالمون ظلموا أنفسهم وظلموا الحقيقة، وضلوا وأضلوا، وإن ما ينالهم من جزاء هو بسبب ظلمهم، وقوله تعالى: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابَ﴾ مفعول يرى، ويصح أن تكون يرى الأولى علمية، ويكون المؤدى أن ذلك يوم القيامة وظلمهم كان في الدنيا، ويكون سياق الكلام هكذا: لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، لو يرى الذين ظلموا ذلك، وهم يرون العذاب الواقع فعلا، والمعنى يرون العذاب رأى العين بالعين البصرية يوم القيامة ويعلمون أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العقاب، فهم يرون العذاب فعلا رأى العين، وقد علموا في ذلك الوقت أن الله سبحانه وتعالى له القوة جميعا، فلا قوة لأحد أن يزحزحهم من النار التي هم فيها، ويعلمون أن الله شديد العقاب.
7. هنا إشارتان بيانيتان لا بد من ذكرهما:
أ. الأولى: أنه سبحانه يقرر أن الذين ظلموا لو علموا قوة الله وأنه شديد العقاب، ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ وهم يرون العذاب برؤية العين البصرية، وإذ هنا للزمن الماضي، وذكرت هنا لبيان تحقق الرؤية كما يذكر الماضي في موضع المستقبل لتأكد الوقوع.
ب. الثانية: أن قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ إلى آخره، هذا فعل شرط، فأين الجواب؟ ونقول: إن الجواب محذوف ومقدر بما يناسب المقام، وهو الهوان الشديد، ويكون المعنى لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا هولا شديدا لا يكتنه كنهه، ولا تدرك حقيقته إلا عند رؤيته.
8. إن العلم بقوة الله تعالى، وشدة عقابه، وأنهم قد رأوا بوادره، فيه تهديد شديد، وعذاب شديد، ويلاحظ أن الله تعالى قال ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، ولم يقل ﴿شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ كما قال في موضع آخر؛ لأنه ذكر الجريمة، وهو اتخاذهم الأنداد، فالعذاب الذي يرونه هو عقاب، والعقاب دائما من جنس الفعل، وليس عذابا لذات العذاب بل هو جزاء وفاق لما قدموا.
9. إنهم في هذا اليوم لا يكون لهم خل ولا شفيع، وإن الذين يتبرؤون منهم، لأنهم جميعا في عذاب أليم، وكل يفكر في هول ما نزل به، ولذا قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ تبرأ المتبوع من التابع وتبرأ الرئيس المتغطرس من المرؤوس الذليل الضعيف، وهذا كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم ﴿وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم].
10. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ (إذ) للدلالة على الزمن الماضي وهى هنا للمستقبل فيكون استحضار الحال المستقبل، أو يقال إنها لزمن القول، وهو عن زمن في الماضي وفيما بعد إخبار عن المستقبل، يتبرأ المتبوعون من التابعين الذين يقولون: هؤلاء الذين أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، فيتبرأ المتبوعون منهم ويقال: لكل ضعف ولكن لا تعلمون، فهم إذ يرون العذاب لا يفكر أحد منهم في تضليله للآخر، وإن ذلك التبرؤ وهم قد رأوا العذاب، لقد ضل التابع وضل المتبوع وقد كان مآل الفريقين النار.
11. كانت بينهم مودة موصولة جعلت بعضهم يتبع الآخر على الشرك والضلالة، وكانت أحيانا تكون الصلة نسبية، أو عصبية جاهلية، وقد بين سبحانه أن تلك الصلات كلها تتقطع؛ ولذا قال عزّ من قائل: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ الأسباب جمع سبب وهو في الأصل الحبل الذي يشد به الشيء أو يصل بين أمرين برباط بينهما والمراد هنا الصلات التي كانت تربطهم من عصبية جاهلية أو رحم أو رئاسة أو من أي تبعية كانت، هذه الصلات تقطعت، وتقطعت مبالغة في القطع، أي أنها قطعت من كل ناحية بحيث لا يمكن وصلها بحال من الأحوال.
12. أولئك الذين أضلهم كبراؤهم، وأخذوا عليهم طريق الهداية ينالهم الألم المرير؛ لأنه كان ـ بين طريق الحق المستقيم ومخاوف الشيطان على الطريق ـ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو ويهدى، وعلى رأس السبل الأخرى شياطين الإنس يقودونهم إلى الضلال، فسلكوا طريقهم، فلما كان عذاب يوم القيامة يتخلى عنهم الذين قادوهم إلى مهاوى الشر، وكانوا معهم في النيران وتبرؤوا منهم؛ فتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا، ليتبرؤوا منهم كما تبرؤوا هم منهم؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ (الكرّة): الرجعة مرة أخرى إلى ما كانوا في الدنيا، و(لو) للتمني، ومعنى الجملة لو ثبت أن لنا كرّة نتمناها ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾، وإن تفسير هذا التمني أنهم في الآخرة، أخلوا بهم وتبرؤوا منهم فتمنيهم العود إلى الدنيا ليتبرؤوا من دعوتهم إلى الباطل وينفروا منهم ويتبعوا الصالحات، فالمتبعون يتبرؤون منهم في الآخرة، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ليعلنوا التبرؤ منهم ومنافرتهم بالبعد عنهم كما خذلوهم في هذه الشدة.
13. بين سبحانه أن تمنياتهم لو حققت ما تبرؤوا وما عملوا فقال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام] وإن غرور الحياة لا يمكنهم من أن يعتبروا بل ستدفعهم أهواؤهم إلى مثل ما فعلوا أولا فهم في ريبهم يترددون، وإن ذلك التصوير الذي صوره الله تعالى لحالهم يوم القيامة هو ليريهم أعمالهم حسرات عليهم، ولذلك قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾، أي كان هذا منهم كذلك ليكون ذلك عقابا لهم فوق عقابهم بعذاب النار، وذلك العقاب بأن يريهم أعمالهم التي مضت على أنها حسرات، توالت عليهم حسرة بعد حسرة، فكان جمعها للدلالة على كثرتها وأنها متوالية حسرة تخلفها حسرة، وإذ أعمالهم كثيرة، فحسراتهم كثيرة، وحسرات مفعول ثان؛ فالله تعالى يريهم تلك الأعمال حسرات تكبو لها النفوس بعد أن كانت في الدنيا مسرة يفرحون بها ويطربون بسوء ما يفعلون.
14. مع هذه التمنيات التي تجعل نفوسهم متلهفة على العودة إن كان ذلك ممكنا، والحسرات المتتابعة فهم في النار خالدون فيها، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فنفى الله تعالى نفيا باتا قاطعا خروجهم من النار، وأكد ذلك النفي باستغراق النفي الثابت بالباء وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/493.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾، أي ان بعض الناس يشركون بالله، لأنهم قد جعلوا له نظراء في بعض خصائصه، كالنفع والضرر.. وعن الإمام الباقر عليه السلام انه قال: الأنداد الذين اتخذوهم، وأحبوهم كحب الله هم أئمة الظلمة، وأشياعهم.
2. قيل: ان معنى حب الله سبحانه هو حب الكمال: لأنه الكمال المطلق، وقيل: بل هو العلم بعظمته وقدرته وحكمته، وقيل: الايمان بأنه المبدئ المعيد، وان كل شيء في يده.. ونحن على الطريقة التي التزمناها من اختيار المعنى الملائم الواضح القريب الى كل فهم، وعلى هذا الأساس نقول: ان الذي يحب الله هو الذي يخالف هواه، ويطيع مولاه، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في تعريف من يؤخذ الدين عنه، وبكلمة: ان معنى حبك لله ان تترك ما تريد لما يريد، كما ان معنى محبة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم العمل بسنته، أما حب الله لعبده فاجزال الثواب له، وجاء في الحديث: (سأعطي الراية غدا الى رجل ـ وهو علي بن أبي طالب ـ يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، أي ان عليا يطيع الله، والله يجزل له الثواب، والرسول يكرمه ويقدمه.. فكل من يؤثر طاعة المخلوق على طاعة الخالق فقد اتخذ من دون الله أندادا، من حيث يريد، أو لا يريد.
3. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾، لأنهم لا يشركون أحدا في طاعته، والثقة به، والتوكل عليه، أما غير المؤمنين فيثقون بالعديد من الأنداد، ويشركونهم مع الله في الطاعة، وطلب الخير، ودفع الشر.
4. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾، أي لو علم المشركون الذين ظلموا أنفسهم ان لا سلطان في يوم الحق والفصل لأحد سوى الله، وانه وحده يستقل بعذاب العاصين، وثواب الطائعين ـ لو علموا ذلك لأيقنوا ان الذي يستقل غدا في شئون الآخرة هو وحده الذي يدبر هذا العالم.. فجواب لو محذوف دل عليه سياق الكلام.
5. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ ما زال الكلام في الذين اتخذوا أندادا من دون الله، وهؤلاء هم المرؤوسون والتابعون، والأنداد هم الرؤساء والمتبوعون.. وغدا إذا انكشف الغطاء تبرأ الرئيس من المرؤوس، والمتبوع من التابع، لشدة ما وقع به من العذاب، وتقطعت الروابط والعلاقات بين الاثنين، قال صاحب مجمع البيان: (يزول بينهم كل سبب يمكن التعلق به من مودة وقرابة ومنزلة وحلف وعهد، وما إلى ذلك مما كانوا ينتفعون به في هذه الدنيا، وذلك غاية الإياس)، وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
6. ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾، يتمنى غدا كل عاص ان يعود الى الدنيا ليصلح ما كان أفسد، بخاصة التابع لأهل البغي والضلال، ليتبرأ من المتبوع المضل، ولا شيء أبعد من هذه الأمنية، بل هي حسرة تحرق النفس، تماما كما تحرق النار الجسد.. وهكذا تكون الحسرات ثمرة لاتباع الهوى والتفريط.
7. ظاهر لفظ الآية يدل على انها مختصة بالكفار، ولكن السبب الموجب للحكم يشمل كل من اتبع وناصر أهل الجور والفساد، ومن اعتقد ان غير الله ينفع ويضر، ومن أخذ دينه عن أهل الجهل والضلال، ان هذه الآية تشمل هؤلاء جميعا، حتى من نطق بكلمة التوحيد، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة.. اللهم الا الجاهل القاصر الذي يعجز عن معرفة الحقيقة، وادراك ما تدركه العقول السليمة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/255.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾، الند كالمثل وزنا ومعنى، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَادًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا﴾، وغير ذلك لأن المقام مسبوق بالحصر في قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الآية، فكأن من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بإله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾.
2. ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط، بل يشمل الملائكة، وأفرادا من الإنسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾، وكما قال تعالى: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾، وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾
3. في الآية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال إن الحب ـ وهو وصف شهواني ـ يتعلق بالأجسام والجسمانيات، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة، وإن معنى ما ورد من الحب له الإطاعة بالائتمار بالأمر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، والآية حجة عليهم فإن قوله تعالى: ﴿أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله أندادا، ولو كان المراد بالحب هو الإطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لأن طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه، فالمراد بالحب معناه الحقيقي.
4. يدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ﴾، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والأبناء والأموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ﴾، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.
5. في الآية ذم المتخذين للأنداد بقوله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم إنما هو لتوزيعهم المحبة الإلهية بين الله وبين الأنداد الذين اتخذوهم أندادا، وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإن قوله: ﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث إنه حب، بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم أن لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتباع الحق من أصله أو في بعض الأمر، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له، وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور.
6. يظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من أمر الله، ولذلك مدح المؤمنين بذلك في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾
7. وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى ـ ليس له شأن دون ذلك ـ لم يتوجه إليه ذم البتة كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ﴾، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لأن حبه صلّى الله عليه وآله وسلّم حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع الله تعالى فإن الله سبحانه هو الداعي إلى إطاعة رسوله والأمر باتباعه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقراءته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه.
8. بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شيء لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله أندادا، وسيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا، وبان أيضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شيء، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾والشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيد بشيء مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.
9. نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والآيات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حياة أو نشورا إخراج لها عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الألوهية وشرك بالله العظيم، والعياذ بالله تعالى.
10. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، ظاهر السياق أن قوله: ﴿إِذِ﴾ مفعول يرى، وأن قوله: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله﴾ إلى آخر الآية، بيان للعذاب، و﴿لَوْ﴾ للتمني، والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد أخطئوا في إعطاء شيء منه لأندادهم وأن الله شديد في عذابه، وإذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية ـ على ما يبينه ما يتلوه ـ مشاهدتهم الخطأ في اتخاذهم أندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فلم يبق تأثير لشيء دون الله.
11. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أي من الأنداد المتبوعين في الدنيا ﴿كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ في الآخرة ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ أي الذين ظلموا باتخاذ الأنداد ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حال كونها ﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾، ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.
12. ذكر هنا مبحثا فلسفيا في معنى الحب وتعلقه بالله تعالى، وليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، وقد نقلناه إلى محله من السلسلة.
13. ذكر هنا مبحثا فلسفيا في دوام العذاب وانقطاعه، وليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، وقد نقلناه إلى محله من السلسلة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/406.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ من لا ينتفع بهذه الآيات ولا يهتدي بها، فهو يتخذ أصناماً أو غيرها مما يجعله شريكاً لله، ويجعلها ﴿أَنْدَادًا﴾ لله، أي مثله في الإلهية، من دون الله يعبدها ويخشاها ويرجوها ويدعوها كأنها أقرب إليه من الله ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي كما يُحبَ الله المنعم على عباده نعماً لا يحصونها، ومنه أصول النعم وفروعها، والذي يدعوهم إلى رحمته وثوابه يدعوهم إلى السعادة الدائمة، ويفتح لهم باب التوبة، ولا يعاجلهم بالعقوبة فهو الرحيم بعباده الكريم الحليم، فكيف أحبوا أصناماً لا تنفع ولا تضر؟! وجعلوها أنداداً لله، ما أجهلهم! وما أكفرهم للنعم!
2. حب الله معنى في القلب يدعو إلى طاعته، والسعي في سبيل مرضاته، واجتناب ما يكره، وحب رسله وأوليائه كلهم، وبغض أعدائه، وحب عبادة الله والرغبة في التقرب إليه وكراهة معصية الله كما قال الهادي عليه السلام: (لكل شيء ضد، وضدّ حياتي المعاصي)، بل كما في الحديث الشريف: (أحِبُّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) ومن شأن المحب الرغبة في طاعة المحبوب، ومن شأن المحب الرغبة في أن يحبّه المحبوب، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31] ولكون حب الله يستدعي حب عبادته يكون حب الله سبباً في كراهة ما يشغل عن عبادة الله وذكر الله.
3. قال الإمام القاسم عليه السلام في كتاب (سياسة النفس): وقد بلغني أن عيسى بن مريم ـ صلى الله عليه ـ كان يقول لمن يحضره ولحوارييه: (بحق أقول لكم: إنه لا يصلح حب ربّين، وما جعل الله لرجل من قلبين، لا يصلح حب الله وحب الدنيا في قلب، كما لا تصلح العبادة إلاَّ لربّ) وكان يقول صلى الله عليه: (بحق أقول لكم: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وكذلك فحب الله، ولا قوة إلاَّ بالله، فعاصم لأهله من كل سيئة)، لأن حب الله يستلزم حب طاعته والرغبة في عبادته والتقرب إليه، ويستلزم كراهة معصيته والخوف من مقته، وكما أنه يستلزم حب طاعته فهو يستلزم حب أن يطيع الناس ربهم وكراهة أن يعصوه، ويستلزم الغضب لله والرغبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:24].
4. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ لإيمانهم بإنعامه عليهم نعمة الدنيا ونعمة الدين، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، ولكن قلب الفاجر غافل عن الله وعن إنعامه عليه، وكذلك إيمانهم بكرمه وحلمه وسعة رحمته وفضله وإحسانه العظيم، والقلوب تحب أهل الكمال والفضل، فكيف لا تحب من هو المنعم بالهدى لكمال الكامل وفضل الفاضل ذو الجلال والإكرام، وله المثل الأعلى، فأنت تحب الفاضل لحب الفضل، تحب العالم لحب العلم، تحب الكريم لحب الكرم، تحب صاحب العدالة لحب العدل، وهكذا، فكيف لا تحب العزيز الحكيم الرحمن الرحيم الحليم الكريم؟!
5. على قدر المعرفة بالله والمعرفة بأسمائه الحسنى على معناها الكامل، أعني على التفصيل ينبغي أن يكون حب المؤمن لله، لكن إذا تفرغ من حب الدنيا الذي يسبب الغفلة، أقول هذا لتحقيق المعنى ولا أدعي لنفسي هذا، ولكني أوصي نفسي وإخواني أن ندعو الله أن ينزع حب الدنيا من قلوبنا ويهدينا لمعرفته كما ينبغي، ولحبّه كما ينبغي إن ربي قريب مجيب.
6. ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام:27] وعلى قراءة ﴿تَرَى﴾ بالمثناة من فوق، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عام لكل سامع، والذين ظلموا هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أنداداً ظلماً وحيفاً وجوراً أو هو عام لكل ظالم، فلا يقصر على سببه، والمعنى: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت أمراً عظيماً من بؤسهم وذلتهم وصغارهم وندمهم لهول الموقف.
7. ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ لأن القوة لله جميعاً ليس لشركائهم شيء من القوة لينفعوهم أو يدفعوا عنهم أو يشفعوا لهم أو نحو ذلك، ولا لغيرهم قوة إلاَّ بالله، فالقوة لله وحده؛ ولأن الله شديد العذاب، فصار الذين ظلموا إلى تلك الحالة؛ لأنهم لم يكن لهم حول ولا قوة وعظم الخطب عليهم؛ لأن ﴿اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾.
8. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ لهول الموقف خوفاً من أن يزاد عذابه من أجل إضلالهم ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، فلم يبق لهم سبب يتعلقون به للتخلص من العذاب فلا توبة تقبل ولا دعاء يُسمع ولا تضرع ينفع ولا فدية ولا شفاعة ولا ناصر.
9. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ ليت ﴿لَنَا كَرَّةً﴾ إلى حالة التكليف كما كنا في الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ من المتبوعين ولا نعينهم في شيء من أمرهم ونقطع العلائق بيننا وبينهم ﴿كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ فلم ينفعونا بشيء وقطعوا حبالنا عنهم.
10. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ الطرفين التابعين والمتبوعين يريهم الله أعمالهم ندامات؛ لأن المتبوعين نادمون لزيادة عذابهم بسبب إضلال التابعين، والتابعين نادمون على اتباعهم لتبرئ المتبوعين منهم، بل ولزيادة عذابهم بسبب طاعتهم في معصية الله وإيثارهم طاعتهم على طاعة الله، قال تعالى: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:38] فهناك ظهرت حسرات الفريقين.
11. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ﴾ راجع إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ أي لو تراهم حين يرون العذاب وحين يرون أعمالهم حسرات عليهم ويتعادون ويكفر بعضهم ببعض ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ لأن القوة لله جميعاً فلا يجدون من ينقذهم، ولأن الله شديد العذاب فلا ينتهي عذابه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/225.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآيات، يتحرك القرآن في واقع الحياة ليقدم إلينا نموذجا من نماذج الانحراف العاطفي والعملي في واقع الناس في الحياة، وهو النموذج المتمثل في أتباع الظّلمة وأشياعهم حسب التفسير الوارد عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السّلام في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾، فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبته، وبين حبّ الظالمين من أسيادهم وكبرائهم، تماما كما يحب الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات، ولعل هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين الله وبين أئمة الظلم، كان منطلقا من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه، فإن الحب الذي تتحدث عنه الآية ليس الحب الداخلي الانفعالي الذي يتحرك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان، لأن الجوّ هنا هو جوّ الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم، بل الظاهر أن المراد من الحب هو الحب العملي ـ إن صح التعبير ـ وهو الذي يتمثل بالاتّباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخططون من دون قيد أو شرط، تماما كما هي الحال في محبة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة، وذلك هو التطبيق العملي للإشراك بالله، لأن مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلا لله، عندما يقدمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنه قد جعل ذلك المطاع ندّا ونظيرا لله في ما يمثله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية، بل يتصل بتعددها على مستوى الطاعة، انطلاقا من العوامل الذاتية المتصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو التي يأملون الحصول عليها منهم.
2. هنا يلتفت القرآن في عملية مقارنة سريعة بين هؤلاء وبين المؤمنين في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ فإن معرفة المؤمن بربه ووعيه لعظمته، تجعلانه ينفتح على الله انفتاحا يملأ كل كيانه في أفكاره ومشاعره، في جوارحه وجوانحه، فلا يبقى هناك مجال لأيّة قوّة، مهما عظمت، أن تحتل ولو مساحة صغيرة من نفسه في المستوى الذي يلتقي فيه بالله، فلا ولاء لغيره، ولا طاعة إلا له، لأن معنى التوحيد أن يخلص كل شيء فيك للإله الواحد، وهذا هو معنى الحب لله في القرآن الذي يريد للمؤمنين أن يعيشوه ويتمثلوه في وجدانهم، بعيدا عن الاستغراق في ذاته، أو التغزل بصفاته، في ما يشبه بعض أساليب المتصوفة في تعبيرهم عن المحبة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسدي والروحي، ممّا يجعل من حياتهم امتدادا للخط الذي أرسل الله به رسوله في طاعة مطلقة، في فكره وإرادته وكلامه.
3. أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرّره، فهذا ما يبدو لنا من جوّ الآية من جهة، ومن طبيعة الرسالة من جهة أخرى، فنحن نلاحظ في الآية أنها تثير في نهاية المطاف قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، مما يوحي بأن الأساس في قضية الحب هو التبعية لا العاطفة المجرّدة، كما أننا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31] حيث جعل اتّباع النبي من علامات الحب ونتائجه.
4. أما طبيعة الحب من ناحية الرسالة، فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطلاع على تخطيط الله لنا أسلوب التعامل معه في الوقوف بين يديه، وفي ممارستنا للمسؤولية أمامه، وفي الانضباط في الخط المستقيم العملي لديه، وفي كيفية العمل من خلال رسالاته في الحياة، مما يعني أن يكون التعبير عن الحب بالعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه.
5. في ضوء ذلك، نفهم الاتجاه القرآني الذي يدعو الإنسان إلى التفكير في خلق الله وفي صفاته، ونفهم الأحاديث التي تدعو إلى التفكير في خلق الله وتنهى عن التفكير في ذاته، لأن التفكير في ذاته يغرق الإنسان في متاهات واسعة من الفكر التجريدي الذي لا ينتهي إلى نتيجة، ومن المشاعر السلبية التي لا تؤدي إلى أساس معقول، بينما ينطلق التفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساس واقعي، يربط العقيدة بالخط المعقول والمشاعر الطبيعية الإيجابية التي ترتبط بالله من خلال ما تعيشه من نعم وأوضاع، وما تشاهده من ظواهر وآيات، فكأنها ترى الله في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته.
6. لعل الأحاديث الكريمة التي تدعو إلى أن نتخلق بأخلاق الله، تتحرك في هذا الاتجاه الذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعة للخط الواقعي العملي في الأخلاق والصفات، ليحبّ الإنسان الله من خلال صفاته التي تتحول في حياته إلى عيش وإيمان وحياة، ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضبابية التي تعزله عن ذاته وعن مسئوليته العملية أمام الله.
7. عالج القرآن الحب المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان، فقد يكون من أسبابه شعوره بالقوة التي يملكها هؤلاء الظالمون والمنحرفون في ما يملكون من شؤون الملك والسلطان في الدنيا، فيخيّل للناظر أنهم يتمتعون بالقوة المطلقة التي تهيمن على كل الأمور، مما يخلق في أعماق النفس شعورا بالإعجاب الذي يتحول إلى المحبة في كثير من الحالات، ثم تتحول المشاعر إلى رغبة عميقة في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه، فكانت هذه الآيات التي تكشف ضعفهم الذاتي الذي قد تحجبه مظاهر السلطان في الدنيا، ولكنه يبدو على حقيقته في الآخرة، ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾، وذلك عندما يقف الظالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من الله، فيعرفون أن كل مظاهر القوة التي يتمتعون بها أو يتمتع بها غيرهم من الناس، لا قيمة لها ولا أساس، فها هم يعانون من العذاب الذي يقفون أمامه موقف الذالة المطلقة، والضعف المطلق، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرا ولا نفعا، وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة، وهي ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾ فهو الذي يعطي القوّة، وهو الذي يمنعها، أو يسيّرها، أو يوقفها عند حدودها التي يريد لها أن تقف عندها، وهكذا يتعمق الشعور وهم أمام الحقيقة الأخروية الحاسمة في مصيرهم النهائي، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول فيرون الله شديد العذاب للمتمردين والعاصين والمنحرفين والكافرين.
8. ثم يحدثنا الله عن مصير هؤلاء الذين يتبعون الظالمين فيشعرون بحمايتهم لهم عندما يوحون لهم بأنهم يتحملون مسئوليتهم في كل ما يتعرضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها، وذلك في ما ينقله لنا من مشاهد القيامة ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ فالمتبوعون من الظالمين والكبراء يتهربون من المسؤولية، فلا يشعرون بأيّة علاقة تربطهم بهم، وذلك عندما رأوا العذاب ماثلا أمامهم وهو يقتحم الجميع بمستوى واحد من دون تفريق.
9. ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ التي كانت بينهم، في كل ما تمثله من على أساس متين من الله، بل كانت خاضعة للأوضاع الطارئة التي تزول لدى أوّل تحدّ من تحديات المصير التي تواجه المسؤولين بطريقة حاسمة ليس فيها أيّ انحراف أو لفّ أو دوران، أو وساطة في ما تعارف عليه الناس من أساليب الوساطة في الدنيا.
10. هنا وقف التابعون ليطلقوا التنهدات والحسرات على كل المواقف الخاضعة الخانعة التي كانوا يقفونها لمصلحة هؤلاء في الدنيا، فيجعلون مصيرهم تبعا لإرادة الآخرين وشهواتهم وأطماعهم، وانطلقت التمنيات التي تعبر عن التمزق النفسي الداخلي، والحيرة القاتلة، والشعور بالخيبة الكبيرة للآمال التي تعيش في نفوسهم من خلال العلاقة بهم، والحقد العميق الذي يحرق الروح بحثا عن الثأر، ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ إنهم يبحثون عن ردّ الفعل الذي يقابل البراءة ببراءة مماثلة تمسّ الظالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدنيا، فيتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا كرّة أخرى، ولكنها تمنيات تضيع في الهواء.
11. ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ عندما ترجع بهم الذكرى إلى حياتهم التي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظالمين، ليبنوا حياة الظلم والطغيان بسواعدهم وجهودهم في كفاح متواصل طويل، إنهم يواجهون الموقف ليروا كل تلك الأعمال والجهود تتحول في مصيرهم إلى حسرات لا تنفعهم، فقد وقعوا في النار ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ مهما احتجوا ومهما برّروا أو تنهدوا، فقد كان لهم مجال كبير في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرسالة والمبدأ، وقامت عليهم الحجة من الله في ذلك كله.
12. بناء على هذا، نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدة نقاط، أهمها التالي:
أ. إن الالتزام بالعقيدة لا يتمثل في الالتزام الفكري الذي يمثل الموقف الفكري للإنسان، بل يمتد إلى الالتزام العاطفي والروحي مع خط الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانية الموافقة أو المضادة، فإن التقاء الجانب العاطفي بالجانب الفكري في شخصية الإنسان المسلم يمثل وحدة الشخصية، بينما يكون اختلافهما مظهرا من مظاهر ازدواجيتها وتمزقها الذاتي، مما يترك آثارا سلبية على استقامتها على الخط الإسلامي المستقيم، وإذا كانت العواطف غير الإسلامية تنطلق من مفاهيم غير إسلامية، باعتبار أن العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذات، فإن ذلك يؤدي إلى التناقض بين الالتزام الفكري الذي يوحي بعاطفة إيجابية، والعاطفة السلبية الناتجة عن مفهوم مضادّ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذات في الوقت الذي ينفي فيه أحدهما الآخر!؟
ب. إن الحب في المفهوم القرآني لا يتمثل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها الساذجة، بل يتمثل في العاطفة التي تتحول إلى مواقف عملية في اتجاه خط الحبّ، وقد يتطور المفهوم في اعتبار المواقف العملية المضادة دليلا على ضعف الحب أو عدم جديّة العاطفة وصدقها.
ج. القرآن الكريم يوجه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطغاة بالبحث عن نقاط الضعف الكامنة في داخلهم، وبالانطلاق في التصور الديني بعيدا إلى يوم القيامة، حيث يقف الأقوياء في موقف الضعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه، وهكذا ينطلق المنهج التربوي القرآني في عملية إيحائية ترتبط بالسلب من حيث فقدان الطغاة والمستكبرين للقوة التي تبرر للناس الارتباط بهم في أمورهم الخاصة والعامة وفي قضايا المصير، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التوحيدية التي تؤكد (أن القوة لله جميعا) (وأن العزة لله جميعا) في خطاب الذين يريدون الاعتزاز بغير الله، فقد جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾ [النساء: 139] وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10] على أساس ملكية الله للقوة كلها، والعزة كلها، فالله هو مصدر القوة والعزة، ما يفرض على الناس أن يطلبوها منه، ويرتبطوا بقوته وعزته، هذا هو الخط الأصيل في التوحيد الحركي للإنسان المسلم في العمل والوجدان.
د. الآيات الكريمة توحي للمؤمنين الضعفاء بأن المسؤولية في الإسلام فردية، يتحملها الإنسان من خلال عمله، وأن الضغوط الخارجية التي تنطلق من الشعور بسيطرة الأقوياء على الموقف، وحاجة الضعفاء إليهم في ما يملكونه من مال وجاه وسلطة، لا تمثل أيّ مبرر شرعي للانحراف عن الخط، ثم تبيّن لهم أن الأساليب التي يتبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشدّة، ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة، هي أساليب تضليلية لا تثبت أمام الواقع الذي يفرض نفسه، وهو أنّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله!؟ وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كل تبعة أو مسئولية من كل هؤلاء عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدنيا قبل الآخرة، ليبدأوا ـ هنا ـ بالبراءة من هؤلاء المتبوعين، فلا ينفذون مخططاتهم الشريرة التي لا ترضي الله، ولا يطيعونهم في معصية الله، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك، وليحصلوا على ما يتمنونه من العودة إلى الدنيا ليعلنوا البراءة كرد فعل لبراءة هؤلاء منهم، إن الآيات التي تتحدث عن خيبة الضعفاء في الآخرة لا تتحدث عن القضية كقصة للإثارة، بل كأسلوب من الأساليب الوقائية التي توجه الإنسان كي يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك، فيكون أكثر وعيا للواقع وللمصير، وبهذا يتحول القرآن إلى كتاب يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي التي لا تعيش في إطاره المحدود، بل تعيش في نطاق الحياة كلها، والله العالم بأسرار آياته.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/156.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تناولت الآيات السابقة دلائل وجود الله سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون، وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدّد الآلهة.. عن أولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيما أمام الآلهة المزيقة، ويتعشقونها ويشغفون بها حبّا لا يليق إلّا بالله سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم.
2. تقول الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير الله.
3. ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾، واضح أن المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا النّاس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة، واستسلموا لهم دون قيد أو شرط.
هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يروا ما حلّ بهم يمنّون أنفسهم: ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تبرّؤوا مِنَّا﴾ لكنها أمنية لا تتحقق، وعبرت آية أخرى عن مثل هذا التمني على لسان كافر يقول لمعبوده المزيف: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
4. ثم تقول الآية: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾، ليس لهم إلّا أن يتحسّروا، يتحسّرون على أموالهم التي كنزوها واستفاد منها غيرهم.. وعلى فرصة الهداية والنجاة التي هيئت لهم فلم يستثمروها.. وعلى عبادتهم لآلهة زائفة بدل عبادة الله الواحد الأحد، لكنّها حسرة غير نافعة.. فاليوم الجزاء على ما جنته يد الإنسان من أخطاء، وليس يوم تلافي الأخطاء.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/472.
70. أكل الحلال وخطوات الشيطان
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈70⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 168-169]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أتي بضرع وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريد، فقال: أصائم أنت؟ قال لا، قال فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا، فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان؛ فاطعم، وكفر عن يمينك(1)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٩٨.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ عمله(1)..
2. روي أنّه قال: ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان(2)..
3. روي أنّه قال: زلاته، وشهواته(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ الفحشاء من المعاصي: كل ما فيه حد في الدنيا(4)..
5. روي أنّه قال: الفحشاء: هو ما لا يعرف في شريعة ولا سنة(5)..
6. روي أنّه قال: الفحشاء: البخل(5)..
7. روي أنّه قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: (يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به)(6).
8. روي أنّه قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين(7)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٣٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٥/١٤٠١.
(3) الثعلبي: ٢/٣٨.
(4) الثعلبي: ٢/٣٩.
(5) تفسير الثعلبي: ٢/٣٩.
(6) الطبراني في الأوسط: ٦/٣١٠.
(7) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
ابن زيد:
عن عثمان بن غياث: سألت جابر بن زيد (ت 93 هـ) عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب، فقال: هي من خطوات الشيطان، ولا يزال عاصيا لله؛ فليكفر عن يمينه(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ تزيين الشيطان(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي الشيخ.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ خطايا الشيطان التي يأمر بها(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٣٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ خطأه، أو قال خطاياه(1)..
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٨.
أبو مجلز:
روي عن لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ النذور في المعاصي(1)..
__________
(1) سعيد بن منصور في سننه: ٢٤٢.
الباقر:
ذكر الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن امرأة جعلت مالها هديا، وكل مملوك لها حرا، إن كلمت أختها أبدا؟ فقال: (تكلمها وليس هذا بشيء، إنما هذا وأشباهه من خطوات الشيطان)(1)..
2. روي عن محمد بن مسلم: أن امرأة من آل المختار حلفت على أختها، أو ذات قرابة لها، قالت: ادني ـ يا فلانة ـ فكلي معي، فقالت: لا، فحلفت عليها بالمشي إلى بيت الله، وعتق ما تملك، إن لم تدني فتأكلي معي، ألا يظلني وإياك سقف بيت، أو أكلت معك على خواني أبدا؟ قال فقالت الاخرى مثل ذلك، فحمل عمر بن حنظلة إلى الإمام الباقر مقالتهما، فقال: (أنا أقضي في ذا، قل لها: فلتأكل معها، وليظلها وإياها سقف بيت، ولا تمشي، ولا تعتق، ولتتق الله ربها ولا تعود إلى ذلك، فإن هذا من خطوات الشيطان)(1)..
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/73.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان(1)..
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن موسوعة ابن أبي الدنيا: ٣/٣٨٧.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ أما السوء: فالمعصية، وأما الفحشاء: فالزنا(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٤٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن رجل حلف أن ينحر ولده، قال: (ذلك من خطوات الشيطان)(1)..
2. روي عن منصور بن حازم، قال: قال لي الإمام الصادق: (أما سمعت بطارق؟ إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبي، فقال: يا أبا جعفر، إني هالك، إني حلفت بالطلاق والعتاق والنذر، فقال له: يا طارق، إن هذه من خطوات الشيطان)(2)..
3. روي أنّه قال: إذا حلف الرجل على شيء، والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه، فليأت الذي هو خير ولا كفارة عليه، وإنما ذلك من خطوات الشيطان(3)..
4. روي أنّه سئل عن رجل يقول: علي ألف بدنة وهو محرم بألف حجة، قال (ذلك من خطوات الشيطان)(4)..
__________
(1) التهذيب: 8/288.
(2) التهذيب: 8/287.
(3) الكافي: 7/443.
(4) الكافي: 7/441.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال (: قال لي عطاء بن أبي رباح في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: ١٧٤ ـ ١٧٥] (1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن جميع ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنا، إلا قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾؛ فإنه منع الزكاة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ يعني: بالإثم، ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ يعني: وبالمعاصي؛ لأنه لكم عدو مبين، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله﴾ بأنه حرم عليكم ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أنتم أنه حرمه(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يعني: تزيين الشيطان في تحريم الحرث والأنعام؛ ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ يعني: بين(2)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٣٩.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٥٥.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: إياك أن تزداد بحلمه عنك جرأة على المعصية؛ فإن الله لم يرض لأنبيائه المعصية والحرام والظلم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١]، ثم قال للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم﴾ [البقرة: ٢٦٧]، ثم أجملها، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، واعلم ـ يا أخي ـ أنه لم يرض لأنبيائه ولا للمؤمنين ولا للمشركين حراما(1)..
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٧/٢٤.
الدنداني:
روي عن أبو صالح الدنداني (ت 190 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ نزلت في بني ثقيف، وخزاعة، وعامر بن صعصعة؛ حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام(1)..
__________
(1) الواحدي في أسباب نزول القرآن: ص١٥٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ وجوه:
أ. قيل: إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي، فيقولون: حرم الانتفاع بها؛ فأنزل الله تعالى فقال: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ وانتفعوا بها؛ فإن الله لم يحرمها عليكم، كقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 103].
ب. وقيل: خلق في الأرض ما هو حلال وما هو حرام؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام.
ج. وقيل: إن قوما يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس، ويتناولون من الدرن والرثة، فنهوا عن ذلك.
2. لا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها، ولكن ما تطيب النفس من التناول؛ لأن النفس لا تتلذذ بالتناول من كل حلال، ولكن إنما تطيب بما هو لها ألذ وأوفق، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الآيات [الأعراف: 32 ـ 33]، فيكون كأنه الذي في الأرض حلالا وحراما، ثم فما حل طيب دون ما حرم، فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله في القلب، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه، والتعظيم لمن أكرمه بالذي طابت له به النفس.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، وهو يرجع إلى واحد:
أ. قيل: آثار الشيطان.
ب. وقيل: وساوس الشيطان.
ج. وقيل: سبل الشيطان؛ كقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
4. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، وذكر في موضع آخر، وسماه وليّا بقوله: ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: 257]، فالوجه فيه أنه يريهم في الظاهر الموالاة ولكنه يريد في الباطن إهلاكهم، فإذا كان كذلك فهو في الحقيقة عدو، وجائز أن يكون ﴿أَوْلِيَاؤُهُمْ﴾ أي هو أولى بهم إذ عملوا ما عملوا بأمره، أو أولياؤهم بما وافقوهم في الفعل، وشاركوهم في الأمر، وكانوا في الحقيقة لهم أعداء، إذ ذلك هلاكهم، وقوله: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه ـ وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك ـ فهو ضعيف؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف، يوصف بالضعف ويكون ضعيفا على من يتأمل مكايده ويتحفظ أحواله.
5. قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أن يكون السوء هو الفحشاء، والفحشاء هو السوء، لما أن كل واحد منهما يشتمل على كل نوع من الآثام.
ب. ويحتمل: أن يكون السوء ما خفى من المعاصي والفحشاء ما ظهر منها.
ج. ويحتمل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى وشرب
د. ويحتمل: الفحشاء ما فحش في العقل، والسوء ما ينتهى بالنهى عنه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أنه يخرج على الأول، وهو السوء والفحشاء، يأمرهم بذلك فيقولوا: الله أمرنا بها.
ب. ويحتمل قوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ما قالوا: إن الله حرم هذه الأشياء، أو القول على الله ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره في عبادته.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/618.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام والزرع، فأباح لهم الله تعالى أكله وجعله لهم حلالا طيبا.
2. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ وهي جمع خطوة، واختلف أهل التفسير في المراد بها على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أن خطوات الشيطان أعماله، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنها خطاياه وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: أنها طاعته، وهو قول السدي.
د. الرابع: أنها النذور في المعاصي.
3. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي ظاهر العداوة، ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ قال السدي: السوء في هذا الموضع معاصي الله، سميت سوءا لأنها تسوء صاحبها بسوء عواقبها.
4. في الفحشاء هاهنا ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: الزنى.
ب. الثاني: المعاصي.
ج. الثالث: كل ما فيه الحد، سمي بذلك لفحش فعله وقبح مسموعة.
5. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرمه الله عليكم.
ب. الثاني: أن تجعلوا له شريكا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/221.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأكل: هو البلع عن مضغ، وبلع الحصا ليس بأكل في الحقيقة، وقد قيل: النعام يأكل الخمر، فأجروه مجرى فلان يأكل الطعام، ويقال: مضغه ولم يأكله.
2. الحلال: هو الجائز من أفعال العباد، مأخوذ من أنه طلق، لم يعقد بحظر، والمباح هو الحلال بعينه، وليس كل حسن حلالا، لأن أفعاله تعالى حسنة ولا يقال: انها حلال، إذ الحلال اطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع، وتقول: حل يحل حلالا، وحلّ يحل حلولا، وحل العقد حلا، وأحله إحلالا، واستحلّ استحلالا، وتحلل تحللا، واحتل احتلالا، وتحالوا تحالا، وحاله محالة، وحلله تحليلا، وانحل انحلالا، وحل العقد يحله حلا، وكل جامد أذبته فقد حللته، وحل بالمكان إذا نزل به، وحل الدين محلا، وأحل من إحرامه وحل، والحل: الحلال، ومن قرأ (يحلل) معناه ينزل ومن قرأ (يحل) معناه يجب، وحلت عليه العقوبة أي وجبت، والحلال الجدي الذي يشق عن بطن أمه، وتحلة اليمين، منه قول الشاعر:
çتحفي التراب بأضلاف ثمانية...في أربع مسهن الارض تحليلé
أي هين، والحليل، والحليلة: الزوج والمرأة سميا بذلك، لأنهما يحلان في موضع واحد، والحلة: أزار، ورداء برد، وغيره، لا يقال حلة حتى يكون ثوبين، والإحليل مخرج اللبن من الضبي، والفرس، وخلف الناقة، وغيرها، وهو مخرج البول من الذكر، وأصل الباب: الحل نقيض العقد، ومنه أحل من إحرامه، لأنه حلّ عقد الإحرام بالخروج منه، وتحلة اليمين أخذ أقل القليل، لأن عقدة اليمين تنحل به.
3. الطيب: هو الخالص من شائب ينغص، وهو على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر، كقوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي طاهراً، والأصل واحد، وهو المستلذ إلا أنه يوصف به الطاهر، والجائر تشبيهاً إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع، كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه، وما تدعو اليه بخلاف ذلك، وتقول: طاب طيباً، واستطاب استطابة، وطايبه مطايبة، وتطيب تطيباً، وتطيبه تطييباً، والطيب: الحلال والنضيف، والطهور، من الطيب، وأصل الباب: الطيب خلاف الخبيث.
4. الخطوة: بعد ما بين قدمي الماشي، والخطوة المرة من الخطو: وهو نقل قدم الماشي، وتقول: خُطوة، وخَطوة واحدة، والاسم: الخطوة، وجمعها خطىً، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي لا تتبعوا آثاره ولا تقتدوا به، وأصل الباب الخطو: نقل القدم قدماً، والعدو: المباعد عن الخير الى الشر، والولي نقيضه.
5. إنما قال ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فجمع الوصفين، لاختلاف الفائدتين: إذ وصفه بأنه حلال يفيد بأنه طلق، ووصفه بانه طيب مفيد أنه مستلذ إما في العاجل وإما في الآجل.
6. في قوله تعالى: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أقوال:
أ. قال ابن عباس: أعماله.
ب. وقال مجاهد، وقتادة: خطاياه.
ج. وقال السدي: طاعتكم إياه.
د. وقال الخليل: إيثاره.
هـ. وقال قوم: هي النذور في المعاصي.
و. وقال الجبائي: ما يتخطى بكم اليه بالأمر والترغيب.
7. روي أن هذه الآية نزلت، لما حرم أهل الجاهلية من ثقيف، وخزاعة، وبني مدلج من الانعام، والحرث: البحيرة والسائبة والوصيلة، فنهى الله تعالى عما كانوا يفعلونه، وأمر المؤمنين بخلافه، والاذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضرور به، وأنواعه، فحملها على العموم أولى.
8. المآكل، والمنافع في الأصل للناس فيها أقوال:
أ. قال قوم: هي على الحظر.
ب. وقال آخرون: هي على الاباحة.
ج. وقال قوم: هي على الوقف.
د. وحكى الرماني: أن فيهم من قال بعضها على الحظر، وبعضها على الاباحة.
وقد بينا ما عندنا في ذلك في أصول الفقه إلا أن هذه الآية دالة على إباحة المآكل إلا ما دل الدليل على حظره.
9. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ في وصف الشيطان معناه أنه مظهر العداوة بما يدعو اليه من خلاف الطاعة لله التي فيها النجاة من الهلاك، والفوز بالجنة.
10. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾:
أ. الأمر من الشيطان هو دعاؤه الى الفعل، فأما الأمر في اللغة، فهو قول القائل لمن هو دونه: افعل، وإذا كان فوقه سمي ذلك دعاء، ومسألة، وهل يقتضي الأمر الإيجاب، أو الندب، ذكرناه في أصول الفقه، فلا نطول بذكره هاهنا.
ب. السوء: كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، ويسمى ما تنفر عنه النفس سوء، تقول: ساءني كذا يسوءني سوء، وقيل إنما سمي القبيح سوء، لسوء عاقبته، لأنه يلتذ به في العاجل، ولا يخلو المكلف من الزجر عن القبيح إما عقلا، أو شرعاً، ولو خلا منه لكان معرّى بالقبيح، وذلك لا يجوز، والسوء في الآية قيل فيه قولان:
• قال السدي: هو المعاصي، وهو الصحيح.
• وقال غيره: ما يسوء الفاعل: يعني ما يضره، والمعنى قريب من الأول.
ج. الفحشاء: هو العظيم القبح في الفعل، وكذلك الفاحشة، وقيل المراد به: الزنا من الفجور، عن السدي، والفحشاء: مصدر فحش فحشاً، كقولك: ضره ضراً وسره سرّاء وسرّا، والفحشاء، والفاحشة، والقبيحة، والسيئة نظائر، ونقيضها الحسنة، تقول: فحش فحشاً، وأفحش إفحاشاً، وتفاحش تفاحشاً، وفحش تفحيشاً، واستفحش استفحاشاً، وكل من تجاوز قدره فهو فاحش، وأفحش الرجل: إذا قال فحشاً، وكل شيء لم يكن موافقاً للحق، فهو فاحشة، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ يعني بذلك خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلّق لها، وقال تعالى ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ والقول: كلام له عبارة تنبئ عن الحكاية، وذلك ككلام زيد، يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه تنبئ عن الحكاية له فيقول: قال زيد كذا وكذا، فيكون قوله: قال زيد، يؤذن أنه يحكى بعده كلام، وليس كذلك إذا قال تكلم زيد لأنه لا يؤذن بالحكاية.
د. العلم: ما اقتضى سكون النفس، وقيل: هو تبين الشيء على ما هو به للمدرك له.
11. سؤال وإشكال: كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نراه، ولا نسمع كلامه! والجواب: لما كان الواحد منا يجد من نفسه معنى الأمر بما يجد من الدعاء الى المعصية، والمنازعة في الخطيئة، وكان ما نجده من نفوسنا من الدعاء، والإغواء إنما هو بأمر الشيطان الذي دلنا الله عليه، وحذرنا منه، صحّ إخبار الله بذلك.
12. سؤال وإشكال: إذا كان الله عز وجل يوصل معنى أمره لنا الى نفوسنا، فما وجه ذلك في الحكمة، وهو لو أمر من غير إيصال معنى الأمر لم يكن في ذلك مضرة؟ والجواب: في ذلك أكبر النعمة لأن التكليف لا يصح إلا مع منازعة الى الشيء المنهي عنه، فكان ذلك من قبل عدوّ، يحذره، أولى من أن يكون المنازعة من قبل ولي يستنصحه، وفي ذلك المصلحة لنا بالتعريض للثواب الذي يستحقه بالمخالفة له، والطاعة لله تعالى، كما أن في خلقه مصلحة من هذه الجهة، وإذا كان إنما أفهمنا ذلك لنجتنبه، فهو كتعليم شبهة ملحد، لنعلم حلها.
13. في الآية دلالة على بطلان قول من قال إن المعارف ضرورة، لأنها لو كانت ضرورة، لما جاز أن يدعوهم الى خلافها، كما لا يدعوهم الى خلاف ما هم مضطرون اليه من أن السماء فوقهم، والأرض تحتهم، وما جرى مجراه مما يعلم ضرورة لأن الدعاء الى ذلك يجري مجرى الدعاء الى خلق الأجسام، وبعث الأموات، لا يدخل تحت مقدور القدرة.
14. استدلّ نفّاة القياس، والقول بالاجتهاد بهذه الآية بأن قالوا: القول بالاجتهاد والقياس قول بغير علم، وقد نهى الله عن ذلك فيجب أن يكون ذلك محظوراً، ومذهبنا وإن كان المنع من القول بالاجتهاد، فليس في هذه الآية دلالة على ذلك، لأن للخصم أن يقول: إذا دلني الله تعالى على العمل بالاجتهاد، فلا أعمل أنا به إلا بالعلم، ويجري ذلك مجرى وجوب العمل عند شهادة الشاهدين، والعمل بقول المقومين في أروش الجنايات، وقيم المتلفات، وجهات القبلة، وغير ذلك من الأشياء التي هي واقعة على الظن شرط، والعمل واقف على الدليل الموجب للعلم عنده، فلا يكون في الآية دلالة على ذلك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/71.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحلال: نقيض الحرام ونظيره المباح، وأصل الحَلِّ نقض العقد، فالحلال المباح لانحلال عقدة الحظر عنه.
ب. الطيب: نقيض الخبيث، وأصله الخلوص من الشوائب الذي تنغصها، ثم يستعمل على ثلاثة أوجه: الطيب: المستلذ، والطيب: الحلال الجائز، والطيب: الطاهر، والأصل فيه المستلذ.
ج. الأكل: الابتلاع عن مضغ.
د. الخطوة أصله من الخطو، وهو نقل القدم، والجمع الخُطا، فخطوات الشيطان: آثاره أخذ من ذلك، فأما الخَطْوة بالفتح، فهو المرة منه.
هـ. الأمر: هو قول القائل لمن دونه: ﴿افْعَلْ﴾، إذا أراد الأمر المأمور به، ثم يستعمل صيغته في الإباحة والدعاء والتهديد، ويختلف ذلك باختلاف الإرادة، وقيل: الأمر هو الدعاء إلى الفعل بصيغة: ﴿افْعَلْ﴾.
و. السوء: الفعل الذي يزجر عنه العقل، والأصل فيه نفور النفس عن الشيء، يقال: ساءني كذا، يسوءني.
ز. الفحشاء: الفاحشة، وهي القبيحة، ونقيضه الحسنة، والفحشاء مصدر، نحو: ضَرّ وشر.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس أنها نزلت فيما حرموا على أنفسهم من الزرع والأنعام.
ب. وقيل: كان ذلك في ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج وبني عبد مناف، عن الحسن، وفيما حرم أهل الجاهلية البحيرة والسايبة والوصيلة أنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما بَيَّنَ الله تعالى التوحيد وما لأهله من الثواب وذكر الشرك وما لأهله من العقاب أتبع ذلك بذكر نعمه على الفريقين وإحسانه إليهم ليعلم أن نعمه سابغة على الكل، ثم نهى عن اتباع الشيطان لما فيه من كفر النعمة.
4. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وهذا خطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم ﴿كُلُوا﴾ صيغته أمر، ومعناه الإباحة، ولما أباح الأكل بَيَّنَ ما يجب أن يكون عليه من الصفة؛ لأن فيه ما يحرم، وفيه ما يحل، والأول يعقب الهلكة، والثاني يقوي على العبادة.
5. ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ وإنما يكون حلالا بألا يكون عين المال وجنسه مما تناوله الحظر كالميتة والدم، وألا يكون لغير الآكل فيه حق يمنع من أكله، واختلف في معنى الطيب:
أ. قيل: هو الحلال، عن الأصم وأبي مسلم.
ب. وقيل: هو المستلذ، وهو الأوجه؛ لكيلا يكون معنى اللفظين واحدًا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾:
أ. قيل: أعماله، عن ابن عباس.
ب. وقيل: خطاياه، عن مجاهد وقتادة.
ج. وقيل: طاعتكم إياه، عن السدي.
د. وقيل: آثاره، عن الخليل.
هـ. وقيل: ما يتخطى به إليكم بالأمر والترغيب، عن أبي علي.
و. وقيل: النذور في المعاصي، عن أبي مِجْلَز.
ز. وقيل: ما يزين لكم من الحرام، عن أبي القاسم.
ح. وقيل: لا تطيعوه ولا تقتدوا به كما يقال: فلان تَقَفَّى فلانا.
ط. قال القاضي: والمراد به وساوسه وخواطره.
7. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ يعني: ظاهر العداوة، يبذل جهده في العدول بكم عن طريق الرشد.
8. ثم لما تقدم ذكر الشيطان وعداوته بَيّن ما يدعو إليه فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾:
أ. قيل: المعاصي، عن السدي وقتادة.
ب. وقيل: ما يسوء الفاعل يعني عواقبه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾:
أ. قيل: الزنا، عن السدي.
ب. وقيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد، عن ابن عباس.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: هو دعواهم له الأولاد والأنداد ونسبتهم إليه الفواحش، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: أراد به جميع المذاهب الفاسدة.
ج. وقيل: إنه تعالى لم يُفَصِّل ما يدعو إليه الشيطان من أنواع المعاصي؛ لأن ما يتصل بالمذاهب والاعتقادات دخل تحت قوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وجميع أفعال الجوارح دخل تحت قوله: ﴿السَّوْءِ﴾، ودخل تحت قوله: ﴿الْفَحْشَاءِ﴾ جميع الكبائر.
11. سؤال وإشكال: إذا كنا لا نشاهد الشيطان ولا نسمع كلامه، فكيف يدعو؟ والجواب: نجد وسوسته في أنفسنا في الأمر بالمعاصي والتزيين والترغيب؛ ولذلك أمر تعالى بمجانبة المعاصي، وألا نلتفت إلى ترغيبه، ونَحذره لعداوته.
12. سؤال وإشكال: يجب أن يكون الشيطان عارفًا بِالله تعالى والحق والباطل، والحلال والحرام، والمذهب حتى يدعو إليها، والجواب: اختلفوا:
أ. فقيل: إنه عالم بجميع ذلك، ولكنه معاند.
ب. وقيل: يصح أن يكون في بعض ذلك مقلدًا فيدعو إليه وإن لم يكن عارفًا به.
ج. وقيل: يجوز أن يعلم من حال الملائكة معاداتهم للكفار، فيعلم عند ذلك بطلان تلك الاعتقادات فيدعو إليها.
13. سؤال وإشكال: أي فائدة في الإخبار عن عداوة الشيطان وما يأمر به؟ والجواب: في فوائد كثيرة:
أ. منها: كي نحاربه بفعل الطاعات وترك المعاصي.
ب. ومنها: أنه إذا دعا إلى الشُّبه والحرام دعاه علمه بعداوته إلى النظر في الأدلة والتحرز، والتمييز بين الحلال والحرام.
ج. ومنها: إذا علم عداوته تجنب دعوته وترك اتباعه.
د. ومنها: أنه إذا علم عداوته وقابل دعوته أوامر الله تعالى مع محبته لعباده اتبع أوامره، وطلب مرضاته دون من صحت عداوته.
14. سؤال وإشكال: ما معنى التخلية بينه وبين العباد حتى يوسوس إليهم؟ وهل يضل بسببه أحد؟ والجواب:
أ. أما التخلية فلما علم تعالى من المصلحة للمكلفين، وهي زيادة في التكليف واختبرهم به.
ب. أما الضلال فقال أبو علي: لا يضل أحد بوسوسته إلا ولو فقدها لضل أيضًا حتى لو علم تعالى أنه لولاه لم يضل لمنعه منه، ولما خلى بينهما، وأما أبو هاشم فيقول: يجوز أن يضل بسببه أحد لولاه لما ضل، ويقول: إنه كزيادة الشهوة، فإذا خالفه عظم ثوابه.
15. قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وأحد الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم: ﴿خُطُوَاتِ﴾ بضم الخاء والطاء على التثقيل، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو زيد عن عاصم وابن كثير بسكون الطاء على التخفيف، وعن سلام القاري بضم الخاء والطاء وهمزة بعد الطاء، وعن عبيد بن عمير بفتح الخاء والطاء، فأما من خفف فَبَقَّاهُ على الأصل وطلب الخفة؛ لأنها جمع خُطْوة ساكنة للطاء، ومن ضم الطاء فلاتباع ضمة الخاء، وكل ما كان على ﴿ فُعْلَةٍ ﴾ فالأكثر في جمعه التثقيل كظُلْمة وظُلُمَات، وقُرْبُة وقُرُبات وحُجْرة وحُجُرات، ومن ضم الخاء والطاء مع الهمز قال الأخفش: ذهب بها مذهب الخطيئة، فجعل ذلك على زنة ﴿ فَعِيلة ﴾ من الخطأ، وقال أبو حاتم: أرادوا إشباع الضمة في الواو، فانقلبت همزة، ومن فتح الخاء والطاء فهو جمع خَطْوَة، مثل تَمْرة وتَمَرَات.
16. تدل الآيات الكريمة على:
أ. حظر الحرام؛ لأنه لما أذن في الحلال كان ذلك منعًا من الحرام.
ب. إباحة المأكل إلا ما قام الدليل على حظره، فجاءت الآية مؤكدة لما في العقل؛ لأن الأشياء في الأصل على الإباحة عقلاً.
ج. المنع عن اتباع من يدعو إلى الضلالة، وفيه إيجاب النظر ليعرف الحق والباطل وأهلهما.
د. أن الشيطان يوسوس، وأنه لا يقدر على ما سوى ذلك.
هـ. أن الوسوسة فعله؛ لذلك أضافها إليه وحذرنا منه وذمه، ولو كان خلقًا له لما صح ذلك، وكذلك يدل قوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا﴾.
و. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأن قوله: ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ نص في الباب.
ز. استدل بعضهم بالآية على نفي القياس، وذلك يبعد؛ لأنا عَلِمْنَا صحته بما دللنا عليه وموضعه وصفته، فقد قلنا ما يعلم صحته، وقيل: إن الآية وردت فيما يتصل بالتوحيد والعدل ولا وجه لما قال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/699.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأكل هو البلع عن مضغ، وبلع الذهب واللؤلؤ وما أشبهه ليس بأكل في الحقيقة، وقد قيل: النعام تأكل الجمر، فأجروه مجرى أكل الطعام.
ب. الحلال: هو الجائز من أفعال العباد، ونظيره: المباح، وأصله: الحل، نقيض العقد، وإنما سمي المباح حلالا، لانحلال عقد الحظر عنه، ولا يسمى كل حسن حلالا، لأن أفعاله تعالى حسنة، ولا يقال إنها حلال إذ الحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع، يقال: حل يحل حلالا، وحل يحل حلولا، وحل العقد يحله حلا، وأحل من إحرامه، وحل فهو محل، وحلال، وحلت عليه العقوبة: وجبت.
ج. الطيب: هو الخالص من شائب ينغص، وهو على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر، والأصل هو المستلذ، إلا أنه وصف به الطاهر والجائز تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع، كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه، وما تدعو إليه بخلاف ذلك، والطيب: الحلال، والطيب: النظيف، وأصل الباب: الطيب خلاف الخبيث.
د. الخطوة: بعد ما بين قدمي الماشي، والخطوة: المرة من الخطو، يقال: خطوت خطوة واحدة، وجمع الخطوة: خطى، وأصل الخطو: نقل القدم، وخطوات الشيطان: آثاره.
هـ. العدو: المباعد عن الخير إلى الشر، والولي نقيضه.
و. الأمر من الشيطان: هو دعاؤه إلى الفعل، فأما الأمر في اللغة فهو قول القائل لمن دونه افعل، إذا كان الامر مريدا للمأمور به، وقيل: هو الدعاء إلى الفعل بصيغة افعل.
ز. السوء: كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، ويسمى أيضا ما تنفر عنه النفس سوء، تقول: ساءني كذا يسوؤني سوءا، وقيل: إنما سمي القبيح سوءا، لسوء عاقبته، لأنه قد يلتذ به في العاجل.
ح. الفحشاء والفاحشة والقبيحة والسيئة نظائر، وهي مصدر نحو السراء والضراء، يقال: فحش فحشا وفحشاء، وكل من تجاوز قدره فهو فاحش، وأفحش الرجل: إذا أتى بالفحشاء، وكل ما لا يوافق الحق فهو فاحشة، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ معناه: خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها.
ط. القول: كلام له عبارة تنبئ عن الحكاية، وذلك ككلام زيد يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه ينبئ عن الحكاية له، فيقول: قال زيد كذا وكذا، فيكون قوله قال زيد يؤذن بأنه يحكي بعده كلام، وليس كذلك إذا قال تكلم زيد، لأنه لا يؤذن بالحكاية والعلم ما اقتضى سكون النفس، وقيل: هو تبين الشيء على ما هو به للمدرك له.
2. عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، وبني مدلج لما حرموا على أنفسهم من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم الله عن ذلك.
3. لما قدم سبحانه ذكر التوحيد وأهله، والشرك وأهله، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم والإحسان، ثم نهاهم عن اتباع الشيطان لما في ذلك من الجحود لنعمه والكفران.
4. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وهذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم ﴿كُلُوا﴾ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الإباحة ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ لما أباح الأكل، بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة، لأن في المأكول ما يحرم، وفيه ما يحل، فالحرام يعقب الهلكة، والحلال يقوي على العبادة، وإنما يكون حلالا بأن لا يكون مما تناوله الحظر، ولا يكون لغير الأكل فيه حق، وهو يتناول جميع المحللات، واما الطيب:
أ. فقيل: هو الحلال أيضا، فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا.
ب. وقيل: معناه ما يستطيبونه ويستلذونه في العاجل والآجل.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾:
أ. قيل: أعماله، عن ابن عباس.
ب. وقيل: خطاياه، عن مجاهد وقتادة.
ج. وقيل: طاعتكم إياه، عن السدي.
د. وقيل: آثاره عن الخليل.
هـ. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: إن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذور في المعاصي، وكل يمين بغير الله تعالى.
و. وقال القاضي: يريد وساوس الشيطان وخواطره.
ز. وقال الماوردي: هو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية، حتى يستوعبوا جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم، في نقلها من مكان إلى مكان، حتى يبلغ مقصده.
6. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي: مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى.
7. اختلف الناس في المآكل والمنافع التي لا ضرر على أحد فيها، فمنهم من ذهب إلى أنها الحظر، ومنهم من ذهب إلى أنها على الإباحة، واختاره المرتضى، ومنهم من وقف بين الأمرين، وجوز كل واحد منهما، وهذه الآية دالة على إباحة المأكل، إلا ما دل الدليل على حظره، فجاءت مؤكدة لما في العقل.
8. ثم لما قدم سبحانه ذكر الشيطان، عقبه ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين، فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾:
أ. قيل: أي: المعاصي، عن السدي وقتادة.
ب. وقيل: بما يسوء فاعله أي: يضره، وهو في المعنى مثل الأول.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾:
أ. قيل: المراد به الزنا.
ب. وقيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء: ما فيه حد، عن ابن عباس.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: هو دعواهم له الأنداد والأولاد، ونسبتهم إليه الفواحش، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: أراد به جميع المذاهب الفاسدة، والاعتقادات الباطلة.
11. سؤال وإشكال: كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نشاهده، ولا نسمع كلامه؟ والجواب:
أ. قيل: إن معنى أمره هو دعاؤه إليه، كما تقول: نفسي تأمرني بكذا، أي: تدعوني إليه.
ب. وقيل: إنه يأمر بالمعاصي حقيقة، وقد يعرف ذلك الانسان من نفسه، فيجد ثقل بعض الطاعات عليه، وميل نفسه إلى بعض المعاصي، والوسوسة: هي الصوت الخفي، ومنه وسواس الحلي، فيلقي إليه الشيطان أشياء بصوت خفي في أذنه.
12. سؤال وإشكال: كيف يميز الانسان بين ما يلقي إليه الشيطان، وما تدعو إليه النفس؟ والجواب: لا ضير عليه إذا لم يميز بينهما، فإنه إذا ثبت عنده أن الشيطان قد يأمره بالمعاصي، جوز في كل ما كان من هذا الجنس أن يكون من قبل الشيطان الذي ثبت له عداوته، فيكون أرغب في فعل الطاعة مع ثقلها عليه، وفي ترك المعاصي مع ميل النفس إليها، مخالفة للشيطان الذي هو عدوه.
13. قراءات وحجج:
أ. قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر إلا البرجمي: ﴿خُطُوَاتِ﴾ بسكون الطاء حيث وقع، والباقون بضمها، وروي في الشواذ، عن علي عليه السلام: (خطوءات) بضمتين وهمزة، وعن أبي السماك: ﴿خُطُوَاتِ﴾ بفتح الخاء والطاء.
ب. ما كان على فعلة من الأسماء، فالأصل في جمعه التثقيل، نحو: غرفة وغرفات، وحجرة وحجرات، لأن التحريك فاصل بين الاسم والصفة، ومن أسكنه قال: خطوات، فإنه نوى الضمة، وأسكن الكلمة عنها طلبا للخفة، ومن ضم الخاء والطاء مع الهمزة، فكأنه ذهب بها مذهب الخطيئة، فجعل ذلك على مثال فعله من الخطأ، هذا قول الأخفش، وقال أبو حاتم: أرادوا إشباع الفتحة في الواو، فانقلبت همزة، ومن فتح الخاء والطاء فهو جمع خطوة، فيكون مثل تمرة وتمرات.
14. مسائل نحوية:
أ. ﴿حَلَالًا﴾ صفة مصدر محذوف أي: كلوا شيئا حلالا.
ب. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ يتعلق بكلوا، أو بمحذوف يكون معه في محل النصب على الحال، والعامل فيه كلوا، وذو الحال قوله: ﴿حَلَالًا﴾، وقوله: ﴿طَيِّبًا﴾: صفة بعد صفة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/459.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرّموا البحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام، قاله ابن السّائب.
2. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، قال ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه، وهي جمع خطوة، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين، وبفتحها: الفعلة الواحدة، واتّباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلّها الله، ويحلّون أشياء قد حرّمها الله، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، أي: بيّن، وقيل: أبان عداوته ، بما جرى له مع آدم.
3. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾، السّوء: كلّ إثم وقبح، قال ابن عباس: وإنّما سمّي سوءا، لأنه تسوء عواقبه، وقيل: لأنه يسوء إظهاره.
4. الْفَحْشاءِ من: فحش الشيء: إذا جاز قدره، وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنها كلّ معصية لها حدّ في الدنيا.
ب. الثاني: أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة.
ج. الثالث: أنها البخل، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس.
د. الرابع: أنها الزّنا، قاله السّدّيّ.
هـ. الخامس: المعاصي، قاله مقاتل.
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، أي: أنه حرّم عليكم ما لم يحرّم
__________
(1) زاد المسير: 1/132.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما بين الله تعالى التوحيد ودلائله، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أندادا، ويتبع رؤساء الكفرة أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾
2. الحلال: المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه: حل بالمكان إذا نزل به، لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقيدة الإحرام، وحلت عليه العقوبة، أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء، لأنه يحل عن الطي للبس، ومن هذا تحلة اليمين، لأنه عقدة اليمين تنحل به، واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه كالميتة والدم والخمر، وقد يكون حراما لا لخبثه، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين.
3. ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض، وإن شئت نصبته على أنه مفعول.
4. الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب، لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة: 100] والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويسطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه والحرام غير مستلذ، لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان.
أ. الأول: أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيبا إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراما وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة.
ب. الثاني: المراد منه المباح، ولا يلزم التكرار لأن قوله: ﴿حَلَالًا﴾ المراد منه ما يكون جنسه حلالا وقوله ﴿طَيِّبًا﴾ المراد منه لا يكون متعلقا به حق الغير فإن أكل الحرام وإن استطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطابا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10].
5. ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ قرأ ابن عامر والكسائي، وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم ﴿خُطُوَاتِ﴾ بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء:
أ. أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع، كما فعل بالأسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات، وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الاسم والصفة، وذلك أن ما كان اسما جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات، وما كان نعتا جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين.
ب. وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة.
6. ﴿خُطُوَاتِ﴾ قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكي عن الفراء: خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال: حثوت حثوة، والحثوة اسم لما تحثيت، وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت، وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان، وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فإنهما قالا: خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير: لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة.
7. ﴿خُطُوَاتِ﴾ ليس مراد الله هاهنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور أحذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة، فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك، ثم بين العلة في هذا التحذير، وهو كونه عدوا مبنيا أي متظاهر بالعداوة، وذلك لأن الشيطان التزم أمورا سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ [النساء: 119] وثلاثة منها في قوله تعالى: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16، 17] فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدوا متظاهرا بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك.
8. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هذا كالتفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة:
أ. أولها: السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب.
ب. ثانيها: الفحشاء وهي نوع من السوء، لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي.
ج. ثالثها: ﴿أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وكأنه أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله.
9. أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا، وقد اختلفت الناس في ما هية هذه الخواطر:
أ. قال بعضهم: إنها حروف وأصوات خفية.
ب. وقال الفلاسفة: إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه.
10. لقائل أن يقول: صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفا أو لا تشبهها، فإن كان الأول فصور الحروف حروف، فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية، وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفا، لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج، والعربي لا يتكلم في قلبه إلا بالعربية، وكذا العجمي، وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج، فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية.
11. اختلف في فاعل هذه الخواطر من هو؟
أ. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: أن خالق الحوادث بأسرها هو الله تعالى.
ب. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: هم لا يقولون بذلك، وأيضا فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى، وفيها ما يكون كذبا وسخفا، لزم كون الله موصوفا بذلك تعالى الله عنه، ولا يمكن أن يقال: إن فاعلها هو العبد، لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر، ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها ألبتة لا تندفع، بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال، فإذن لا بد هاهنا من شيء آخر، وهو إما الملك وإما الشيطان، فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ، وفي أقصى القلب، حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم، فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها، غير متحيزة ألبتة، لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال، وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضا أن يقال: إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر، ولا بعد أيضا أن يقال إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى الأقصى قلبه ودماغه، ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب، بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالا لا ينفصل، فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى.
12. مما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: 12] أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم، ويدل عليه من الأخبار قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة)، وفي الحديث أيضا: (إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطانا وقرن الله به ملكا، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه)، ومن الصوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية، وفسر الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية.
13. دلت الآية الكريمة على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة ﴿إِنَّمَا﴾ وهي للحصر، وقال بعض العارفين: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر، وذلك يدل على أنواع: إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر، وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية.
14. قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يتناول جميع المذاهب الفاسدة بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلدا للحق لكنه قال ما لا يعلمه فصار مستحقا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.
تمسك نفاة القياس بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ والجواب عنه: أنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب كان العمل بالقياس قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/185.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الانعام، واللفظ عام.
2. الطيب: هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب، وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.
3. ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ حلالا حال، وقيل مفعول، وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه، قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال أبو عبد الله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، واكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل، قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت ـ وهو اسم مجمل ـ والغلول والمكروه والشبهة.
4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا﴾ نهى ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ خطوات جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد، قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح، وخطوة (بالضم): ما بين القدمين، وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا، والخطوة (بالفتح): المرة الواحدة، والجمع خطوات (بالتحريك) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس:
çلها وثبات كوثب الظباء...فؤاد خطاء وواد مطرé
والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تفقوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان، قال ابن عباس: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أعماله، مجاهد: خطاياه، السدي: طاعته، أبو مجلز: هي النذور في المعاصي.. والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي.
5. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بنى آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾، وقال: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، وقال: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير، وقال عبد الله ابن عمر: إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر في الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه، وخرج الترمذي من حديث أبى مالك الأشعري وفيه: (و آمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)
6. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ سمى السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه، وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى: ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وقال الشاعر:
çإن يك هذا الدهر قد ساءني...فطالما قد سرني الدهر
الامر عندي فيهما واحد...لذاك شكر ولذاك صبرé
7. الفحشاء: أصله قبح المنظر، كما قال: وجيد كجيد الريم و ليس بفاحش، ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني.
8. الشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء، وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾، فإنه منع الزكاة.. فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد، وحكي عن ابن عباس وغيره.
9. ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا،﴿وَأَنْ تَقُولُوا﴾ في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: ﴿بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/208.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قيل: إنها نزلت في ثقيف؛ وخزاعة؛ وبني مدلج؛ فيما حرّموه على أنفسهم من الأنعام، حكاه القرطبي في تفسيره، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2. ﴿حَلَالًا﴾ مفعول أو حال، وسمي الحلال حلالا: لانحلال عقدة الحظر عنه، والطيب هنا: هو المستلذّ، كما قاله الشافعي وغيره، وقال مالك وغيره: هو الحلال، فيكون تأكيدا لقوله: ﴿حَلَالًا﴾
3. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ للتبعيض؛ للقطع بأن في الأرض ما هو حرام.
4. ﴿خُطُوَاتِ﴾: جمع خطوة بالفتح والضم، وهي بالفتح للمرة، وبالضم لما بين القدمين، وقرأ الفراء خطوات بفتح الخاء، وقرأ أبو السّمّال بفتح الخاء والطاء؛ وقرأ عليّ وقتادة والأعرج وعمر بن ميمون والأعمش (خطوات) بضم الخاء والطاء والهمز على الواو، قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطية من الخطأ لا من الخطو، قال الجوهري: والخطوة بالفتح: المرة الواحدة، والجمع خطوات وخطأ، والمعنى على قراءة الجمهور: لا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان؛ وقيل: هي النذور والمعاصي، و الأولى التعميم؛ وعدم التخصيص بفرد أو نوع.
5. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي: ظاهر العداوة، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾
6. ﴿بِالسُّوءِ﴾ سمي السوء سوءا: لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته، وهو مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءة إذا أحزنه، ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾: أصله سوء المنظر، ومنه قول الشاعر: (وجيد كجيد الرّيم ليس بفاحش)، ثم استعمل فيما قبح من المعاني، وقيل: السوء: القبيح، والفحشاء: التجاوز للحدّ في القبح؛ وقيل: السوء: ما لا حدّ فيه، والفحشاء: ما فيه الحدّ؛ وقيل: الفحشاء: الزنا؛ وقيل: إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء.
7. ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قال ابن جرير الطبري: يريد ما حرّموه من البحيرة والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعا؛ وقيل: هو قولهم: هذا حلال وهذا حرام بغير علم، والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم.
8. في هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحلّ حتى يرد دليل يقتضي تحريمه، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/194.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا﴾ حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم ﴿طَيِّبًا﴾ أي: مستطابا في نفسه، غير ضارّ للأبدان ولا للعقول، وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده! إنّ الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والرّبا فالنار أولى به!
2. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها.. مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال يقول الله تعالى: (إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال)، وفيه: (وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم)
3. مما يدخل في خطوات الشيطان: كلّ معصية لله، ومنها: النذور في المعاصي، كما قاله بعض السلف في الآية، قال الشعبيّ: نذر رجل ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان! قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم؛ فقال لا أريده؛ فقال: أصائم أنت؟ قال لا! قال فما شأنك؟ قال حرّمت أن آكل ضرعا أبدا! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفّر عن يمينك! رواه ابن أبي حاتم، وروي أيضا عن أبي رافع قال غضبت يوما على امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حرّ إن لم تطلق امرأتك! فأتيت عبد الله ابن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ـ وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة ـ وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفّارته كفارة يمين! نقله ابن كثير الدمشقيّ.
4. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، وقال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]
5. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لفنون شرّه وإفساده، و﴿بِالسُّوءِ﴾ يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب، و﴿الْفَحْشَاءِ﴾ ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علم، فمعنى ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به.
6. قال البقاعي: لقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفا بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم: بخلقه لهم أولا، وبجعله ملائما لهم ثانيا، وإباحته لهم ثالثا، وتحذيره لهم من العدوّ رابعا.. إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن!
7. قال الرازيّ: قوله تعالى ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق! لأنه ـ وإن كان مقلدا للحق ـ لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقا للذمّ لاندراجه تحت الذم في هذه الآية،! انتهى.
8. قال ابن القيم في (أعلام الموقعين): القول على الله بلا علم يعمّ القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه، وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات؛ بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، وقال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل: 116 ـ 117]،! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحلّه: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحلّه وحرّمه، وقال بعض السلف: ليتّق أحدكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرّمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال: فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا..؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك.. فتأمّل، كيف فرّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/467.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الَارْضِ حَلَالاً﴾ غير محرَّم، كمغصوب ومسروق، وربًا وخمر وميتة، وما أخذ في قمار أو زنًى أو كهانة أو في معصية، ونحو ذلك من المحرَّمات.
2. ﴿طَيِّبًا﴾ نعت مؤكِّدٌ لأنَّ الحلال هو الطيِّب، وأفاد أنَّ الشَّرع استطاب الحلال فأمروا بأكل الطيِّب، وهو الحلال مستلذًّا أو غير مستلذٍّ، فالآية نزلت ردًّا على من حرَّم البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامي من المشركين، وعلى قوم من ثقيف ومن بني عامر بن صعصعة، وخزاعة وبني مدلج إذ حرَّموا على أنفسهم التَّمر والإقط، ويضعف لقوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُوا﴾، أنْ يكون ذلك ردًّا على من عزم من المسلمين على أنْ لا يأكل لذيذًا، ولا يلبس لباسًا رفيعًا، وعلى عبد الله بن سلام وأضْرابِه حين أراد تحريم لحم البعير كما في دين اليهود قبل أن يسلم، وإنْ كان بعد الإسلام ـ فنزلت ـ تاب منها، كما استأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ يصلِّي ليلاً النَّفل بالتوراة فزجره فازدجر، ونزل أيضًا في تحريم اللَّذائذ في قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: 87]، وقوله تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32].
3. وسمِّي الحلال حلالاً لانحلال عقدة الحظر عنه، والأمر للإباحة، أي: أبَحتُ لكم السَّائبة ونحوها واللَّذائذ ولم أحرِّمها عليكم قطُّ، ولن أحرِّمها أبدًا، وللوجوب على معنى اعتقدوا حلَّ أكل ما لم يُحرِّمه الله.
4. ويجب الأكل لقوام الجسد، ويستحبُّ ـ ولو فوق الشِّبَع ـ إذا كان مؤانسة للضَّيف، أو لعقًا للقصعة أو للأصابع، أو أكلاً لما يسقط من الطَّعام، وكذا الشُّرب من زمزم فوق الرَّيِّ مستحبٌّ، وقد استدلَّ بعض بالآية على تحريم الأكل فوق الشِّبَعِ لأنَّه ليس طيِّبًا في الشَّهوة المستقيمة.
5. ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ طُرُقَه، من تحريم السَّائبة واللَّذيذ ونحوهما، لَمَّا كان يأمر بها جُعلت كأنَّها طرق يمشي فيها، وَلَمَّا كانت الطُّرُق محلًّا للخطو سمِّيت باسم الخطوات، أو لَمَّا كان الأمر بتلك المحرَّمات أمرًا بالكون عليها الشبيه بالخطو أطلق على الذي يأمر به وهو الشيطان أنَّه يمشي فيها.
6. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهر العداوة لأهل البصائر، وَأَمَّا الغواة فهو وليُّهم يتبعونه ولو ظهرت لهم منه مضرَّة، كقوله تعالى: ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة: 257]، وقيل: أولياؤهم أعداء، كما يقال: (تحيَّتهم ضربٌ وجيع)، و(تحيَّتهم السَّيف)، والجملة تعليل، فلا يليق جعله من (أَبَانَ) بمعنى أظهر، ﴿اِنَّمَا يَامُرُكُم بِالسُّوءِ﴾ الذَّنب الكبير والصَّغير.
7. ﴿وَالْفَحْشَآءِ﴾ الذَّنب الكبير المتجاوزِ الحدَّ في القبح، والفحشاء أخصُّ من السُّوء، ويجوز أنْ يكونا بمعنى واحد إلَّا أنَّه من حيث إنَّه يسوء فاعله وغيره سوءٌ، ومن حيث إنَّه قبيح فحشاء، أو السُّوء: ما لا حدَّ فيه، والفحشاء: ما فيه الحدُّ، وقيل: هما بمعنى واحد؛ وهو ما أنكره العقل وحكم بأنَّه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشَّرع، وقوله تعالى: ﴿قُلِ اِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف: 33] دليل على أنَّ كلَّ معصية ولو صغيرة تسمَّى فاحشة، والأمر المذكور عن الشَّيطان حقيقة؛ لأنَّه يقول: افعلوا كذا، على طريق الاِلتماس على أنَّهم يسوِّيهم بنفسه، أو لأنَّه يدَّعي العلوَّ عليهم ولو لم يكن عنده، أو اعتقد أنَّه أعلى، ولا حاجة إلى أن نقول: شبَّه الوسوسة في المعاصي بالأمر بها، ولا إلى أنْ نقول شبَّه تزيين المعاصي بالأمر بها على أنَّ ذلك استعارة، ولا يلزم من الأمر ـ ولو كان من عال ـ تسلُّط وقهر، فلا منافاة بين الآية وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: 42].
8. ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: وبأن تقولوا كاذبين على اللهِ، أو ضمِّن (تَقُولُوا) معنى الكذب، أو عن الله ما لا علم لكم به من تحريم السَّائبة ونحوها، وتحليل الميتة ونحوها، واتِّخاذ الأنداد.
9. وليس قول المجتهد قولا بما لا يعلم؛ لأنَّه يقول استدلالاً بما يستنبطُ من القرآن والسنَّة والإجماع، قصدًا للحقِّ لا اتباعًا للهوى، وقد أباح الله له ذلك، وإن اختلف المجتهدون فالحقُّ عند الله مع واحدٍ فقط، وغيره مأجورٌ يجوز العمل بما قال، وقد يكون الحقُّ عند الله غير ما قالوا مع أنَّ ما قالوا لا يعدُّ ضلالاً عليهم، وقالت المعتزلة: الحقُّ متعدِّدٌ بحسب أقوال المجتهدين، وهو ضعيف، وَأَمَّا أن يقال: كلُّ واحد مأجور يجوز العمل بما قال، وإنَّ كلَّ واحد العمل به حقٌّ في حقِّ المقلِّد، فلا بأس.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/286.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الجلال أن الآية الاولى نزلت فيمن حرم السوائب ونحوها، ولكنه لم يذكر ذلك في اسباب النزول وقد كان هذا في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة، قال محمد عبده: لو صح أن الآية نزلت في ذلك لما كان مقتضيا فصل الآية مما قبلها وجعلها كلاما مستأنفا لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن الظاهر من السياق أن الكلام متصل بما قبله أتم الاتصال، فان الآيات الاولى بينت حال متخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى، وقد قلنا في تفسيرها إن الانداد قسمان قسم يتخذ شارعا يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا عن الله ورسوله، بل يجعل قوله وفعله حجة بذاته لا يسأل من اين أخذه وهل هو فيه على هدي من ربه أم لا، وقسم يعتمد عليه ويدعى في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب، حتى انهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الانداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الاسباب، ثم بينت أن الناس يتبع بعضهم بعضا في ذلك، وأن سيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا عند رؤية العذاب وتقطع الاسباب بينهم، وقلنا في تفسيرها إن الاسباب هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وفي هذه الآيات يبين تعالى أن تلك الاسباب محرمة لأنها ترجع الى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ونهى عنها، وبين سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى، فالكلام متمم لما قبله قطعا.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ الحلال هو غير الحرام الذي نص عليه في قوله تعالى ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ فما عدا هذا فكله مباح بشرط أن يكون طيبا أي غير خبيث.
3. فسر الجلال الطيب بالحلال على انه تأكيد أو بالمستلذ، والاول لا محل له والتأسيس مقدم على التأكيد، و الثاني لا يظهر تقييد الاباحة العامة لما في الارض به، ورجح محمد عبده أن الطيب ما لا يتعلق به حق الغير، وهو الظاهر، لان المراد بحصر المحرم فيما ذكر المحرم لذاته الذي لا يحل الا للمضطر، وبقي المحرم لعارض فتعين بيانه وهو ما يتعلق به حق الغير ويؤخذ بغير وجه صحيح، كما يكون في أكل الرؤساء من المرؤوسين بلا مقابل الا انهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم، وكذلك أكل المرؤوسين بجاه الرؤساء، فان كلا منهما يمد الآخر ليستمد منه في غير الوجوه المشروعة التي يتساوى فيها جميع الناس، وبخرج بذلك الربا والرشوة والسحت والغصب والغش والسرقة فكل ذلك خبيث، وكذا ما عرض له الخبث بتغيره كالطعام المنتن، وبهذا التفسير يتحرر ما أباحه الدين وتلتئم الآية مع ما قبلها.
4. أتبع الله تعالى الأمر النهي فقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قرأ الأئمة خطوات بضمتين جمع خطوة بالضم وهي ما بين القدمين ـ وبفتحتين جمع خطوة وهي المرة من خطا يخطو في مشيه، والمعنى لا تتبعوا سيرته في الاغواء، ووسوسته في الامر بالسوء والفحشاء، وهو ما يبينه في الآية التالية، وعلل النهي بكونه عدوا للناس بين العداوة، والعلم بعداوته لنا لا يتوقف على معرفة ذاته، وإنما يعرف الشيطان بهذا الاثر الذي ينسب إليه وهو وحي الشر، وخواطر الباطل والسوء في النفس، فهو منشأ هذا الوحي والخواطر الرديئة، قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ ولا أبين وأظهر من عداوة داعية الشر والضلال، فعلى الانسان ان يلتفت الى خواطره ويضع لها ميزانا، فاذا مالت نفسه الى بذل المال لمصلحة عامة، أو عرض له سبب معاونة عامل على خير، أو صدقة على بائس فقير، فعارضه خاطر التوفير والاقتصاد، فليعلم أنه من وحي الشيطان، ولا ينخدع لما يسوله له من إرجاء هذا العطاء لأجل وضعه في موضع أنفع، أو بذله لفقير احوج، واذاهم بدفاع عن حق أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فخطر له ما يثبط عزمه أو يمسك لسانه، فليعلم أنه من وسواس الشيطان.
5. اظهر وحي الشياطين ما يجرئ على التحريم والتحليل لأجل المنافع التي تلبس على المتجرئ عليها بالمصلحة وسياسة الناس، كانه قال لا تتبعوا وحي الباطل والشر وخواطرهما تلم بكم وتطوف بنفوسكم، فإنها من اغواء الشيطان عدوكم.
6. ثم بين الله تعالى ذلك بما يفيد اثبات العداوة من تعليل النهي فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ دون غيرهما من الحق والخير:
أ. فأما السوء فهو كل ما يسوءك وقوعه أو عاقبته، فمن الشرور ما يقدم عليه المرء مندفعا بتزيين الشيطان له، حتى اذا فعل الشر فاجأه السوء وعاجله الضرر، ومن الاعمال ما لا يظهر السوء في بدايته، ولكنه يتصل بنهايته، كمن يصده عن طلب العلم أن بعض المتعلمين أضاع وقته وبذل كثيرا من ماله ثم لم يستفد من التعلم شيئا، فهذا قياس شيطاني يصرف بعض الناس عن طلب العلم بأنفسهم، وبعض الآباء عن تعليم أولادهم، فتكون عاقبتهم السوأى ذات ناحيتين: سلبية وهي الحرمان من فوائد العلم، وايجابية وهي مصائب الجهل، وكل منهما ديني ودنيوي، فلا بد من البصيرة والتأمل في تمييز بعض الخواطر من بعض، فان الشيطانية منها ربما لا تظهر بادي الراي.
ب. وأما الفحشاء فكل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام، ولا يختص بنحو الزنا كما قال بعضهم والفحشاء في الغالب أقبح وأشد من السوء وأسوء السوء مبدأ وعاقبة ترك الاسباب الطبيعية التي قضت حكمة الباري بربط المسببات بها اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الاحياء يظن بل يتوهم أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية والتصرف في الاكوان بدون اتخاذ الاسباب، ومثله اتخاذ رؤساء في الدين يؤخذ بقولهم ويعتمد على فعلهم، من غير أن يكون بيانا وتبليغا لما جاء عن الله ورسوله فان في هذين النوعين من السوء إهمالا لنعمة العقل وكفرا بالمنعم بها، واعراضا عن أهل السنة، ومن وافقهم الله تعالى وجهلا باطرادها، وصاحبه كمن يطلب من السراب الماء، أو ينعق بما لا يسمع غير الدعاء والنداء، وهذا شان متخذي الانداد ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾
7. أما الرؤساء الذين يحملون العامة على هذا التقليد في الامرين فقد بين تعالى اتباعهم لوحي الشيطان بقوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه الذي دان به عباده ما لا تعلمون علم اليقين ان الله شرعه لهم من عقائد وأورادو أعمال تعبدية، وشعائر دينية، أو تحليل ما الاصل فيه التحريم، وتحريم ما الاصل فيه الاباحة، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والاجتهاد من قياس واستحسان، لانهما ظن لا علم، فالقول على الله بغير علم اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهو شرك صريح، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان فإنه الاصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير أليس من القول على الله بغير علم زعم هؤلاء الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل سبحانه شيئا بدون وساطتهم، فحولوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه ووجهوها الى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا؟ وقد يسمون هذا توسلا اليه أي يتقربون اليه بالشرك به، ودعاء غيره من دونه أو معه، وهو يقول: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا﴾، ويقول: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ أي دون غيره، أليس من القول على الله بغير علم ما اختلقوه من الحيل لهدم ركن الزكاة وهو من أعظم أركان الإسلام؟ أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام، عما ورد في الكتاب والسنة المبينة له والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول عن لله تعالى وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها؟
__________
(1) تفسير المنار: 2/87.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين الله تعالى في الآية قبلها حال متخذي الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتّبعوا سيتبرؤون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهى المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان:
أ. قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
ب. قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.
3. بين الله تعالى ما حرم من المآكل في الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير، وبيانه أن المحرم قسمان:
أ. محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر.
ب. محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرؤوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرؤوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب.
4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي ولا تتبعوا سيرته في الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء، فهو عدو لكم بين العداوة، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام، قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر، لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير، فهمّت نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان، ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه في موضع أنفع، أو بذله لفقير أحوج.
5. ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية، والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب ـ قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد ﴿ومن يضلل الله فلا هادى له﴾
6. ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع، ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمون مثل هذا توسلا: أي تقربا إلى الله، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به، ودعاء غيره معه وهو يقول ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 2/42.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة، والبعد عن خبائثها، محذرا من اتباع الشيطان، الذي يأمرهم بالخبائث، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع؛ ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع.. وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق.
2. لما بين الله ـ سبحانه ـ أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد ـ في الفقرات السابقة ـ وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم.. شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام.. وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا، فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل، وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك.
3. هنا يبيح الله للناس جميعا أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالا طيبا ـ إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد ـ وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا، لأنه عدوهم.
4. من ثم فهو لا يأمرهم بخير، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل؛ ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم، دون أمر من الله، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله.. كما كان اليهود مثلا يصنعون، وكما كان مشركو قريش يدعون.
5. هذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض ـ إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصا ـ يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس، فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالا، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد، ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق.. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق، لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة، لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والافتراء عليه، دون تثبت ولا يقين!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/155.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تكشف هاتان الآيتان عن وجه آخر من وجوه الضلال، فكما يفسد بعض الناس على الناس تفكيرهم، ويفتنونهم في دينهم، كذلك تفسد نفس الإنسان على الإنسان تفكيره وتفتنه عن دينه، حين يسلم المرء زمامه لنفسه فلا يراجعها، ويتبع هواها حيث يميل به، والإنسان بما فيه من عقل وإدراك مسئول عن نفسه مسئولية لا يدفعها عنه إغواء المغوين ولا إضلال المضلين، حتى ولو كان وارد هذا الإغواء، ومهب ذلك الضلال نابعا منه، ومن نفسه التي بين جنبيه، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالشيطان.. فسواء أكان الشيطان هنا أو هناك، بعيدا أو قريبا، فإنه لا يبدو للإنسان، ولا يجد له وجودا قائما في كيانه، وإنما هي وسوساته وخطراته، التي يقذفها في النفس، فتتحرك أهواؤها، وتتناغى بلابل شهواتها، فإذا لم يتنبه الإنسان لها، ويأخذ السبيل عليها، ملكته، وأسرته، وألقت به ليد الشيطان!
2. الشيطان، هو دعوة الضلال التي تساق إلى النفس، على لسان إنسان ضال مضلّ، وذلك هو شيطان الإنس، أو التي تتحرك من داخل كيان الإنسان فيجد مسّها في صدره ووقعها على نفسه، من وارد خفى، لا يدرى من أين جاء، وذلك هو شيطان الجن: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/188.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: 161] الآية، إذ ذكر كفرهم إجمالا ثم أبطله بقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163] واستدل على إبطاله بقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 164] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ [البقرة: 165]، ووصف حالهم وحسرتهم يوم القيامة، فوصف هنا بعض مساوئ دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة: 164] الآية، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172].
2. الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والأمر في قوله: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإباحة، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله: ﴿كُلُوا﴾ تمهيد لقوله بعده: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾.
3. ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ تعريض بتحميقهم فيما أعنتوا به أنفسهم فحرموها من نعم طيبة افتراء على الله، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحل والتحريم، والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وما حكي الله عنهم في سورة الأنعام من قوله: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ [الأنعام: 138] الآيات، قيل نزلت في ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حرّموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام.
4. من في قوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ للتبعيض، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضا من كل نوع وليس راجعا إلى كون المأكول أنواعا دون أنواع، لأنه يفوت غرض الآية، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله: ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة.
5. ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ حالان من (ما) الموصولة، أولهما لبيان الحكم الشرعي و الثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلّية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح، والمراد بالطيب هنا ما تستطيبه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني.
6. في هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام، فلذلك قال علماؤنا: إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه، إذ التحريم حينئذ حكم للعارض لا للمعروض.
7. فسر الطيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم.
8. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوما، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة، واتباع الخطوات تمثيلية، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علما منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلّا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدي الذي لا دليل له سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له.
9. الخطوات بضم فسكون جمع خطوة ـ مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو ـ والمغروف والمقبوض، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة ما بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها، وأما الخطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول.
10. قرأ الجمهور (خطوات) بضم فسكون على أصل جمع السلامة، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفص عن عاصم بضم الخاء والطاء على الاتباع، والاتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان.
11. الاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر الشرية، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر سيئة، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فاعله، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها، ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمّل لنا ذلك بالهدى الديني عونا وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسنا ما ليس بالحسن، ولهذا جاء في الحديث (من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)، لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا وقدرتنا، وهدى الله تعالى إيانا وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب، وعنه يترتب الثواب والعقاب.
12. اللام في ﴿الشَّيْطَانِ﴾ للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، ويكون المراد إبليس وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى.
13. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، (إنّ) لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان، أو تجعل (إن) للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم منزلة المتردد أو المنكر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة:
çإن الذين ترونهم إخوانكم...يشفى غليل صدورهم أن تصرعواé
وأيا ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغني غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في (دلائل الإعجاز) ومثله قول بشار:
çبكّرا صاحبيّ قبل الهجير...إنّ ذاك النجاح في التبكيرé
14. إنما الشيطان كان عدوا لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقة الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كيلا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلّا وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا، ولأجل هذا أيضا صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال.
15. معنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم، ولذلك سماه الله وليّا فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119]، إلّا أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلّا أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته.
16. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ استئناف بياني لقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فيئول إلى كونه علة للعلة إذ يسأل السامع عن ثبوت العداوة مع عدم سبق المعرفة ومع بعد ما بيننا وبينه فقيل ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ أي لأنه لا يأمركم إلّا بالسوء إلخ أي يحسّن لكم ما فيه مضرتكم لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله.
17. الأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمر من الشيطان، ولك أن تجعل جملة: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملا في حقيقته مفيدا مع ذلك الرمز إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم.
18. السوء الضّرّ من ساءه سوءا، فالمصدر بفتح السين وأما السّوء بضم السين فاسم للمصدر.
19. الفحشاء اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظم إنكاره، لأن وساوس النفس تئول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المفضي للثأر أو إلى سوءة وعار كالزنا والكذب، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة وأما تصادقهما معا في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادقة.
20. ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أمر الله بها، وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله.
21. مفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾ محذوف وهو ضمير عائد إلى (ما) وهو رابط الصلة، ومعنى ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ لا تعلمون أنه من عند الله بقرينة قوله: ﴿عَلَى الله﴾ أي لا تعلمون أنه يرضيه ويأمر به، وطريق معرفة رضا الله وأمره هو الرجوع إلى الوحي وإلى ما يتفرع عنه من القياس وأدلة الشريعة المستقراة من أدلتها، ولذلك قال الأصوليون: يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس: إنه دين الله ولا يجوز أن يقول قاله الله، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقراة من الشريعة انعقد الإجماع عليها وهي وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والقضاء وخاصة نفسه فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يرضي الله تعالى بحسب ما كلف به من الظن.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/101.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. النداء بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يشمل الناس جميعا مؤمنهم ومشركهم، وكافرهم سواء أكان وثنيا أم كان كتابيا، وإن الله تعالى بين حال الذين اتخذوا من دون الله تعالى أندادا، وأنه يوسوس لهم في طعامهم وطيباتهم وما أحل الله تعالى لهم، ولذا جاء الأمر بالأكل من الحلال والنهى عن تتبع خطوات الشيطان، بعد التنديد باتخاذ الأنداد، وبيان الذين يتخذونها يوم القيامة.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ الأمر هنا للإباحة من حيث الجزء، ولكنه للطلب المفروض من حيث الكل، فيباح الأكل بالجزء في الأوقات التي يتخيرها، وفى الطيبات التي يستحسنها، ولكن لا يباح أن يترك الأكل جملة؛ لأنه يؤدى إلى الهلاك وهذا منهى عنه.
3. ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ أي مما تخرجه الأرض من نبات وزرع وثمار وما يمشى من حيوان طيب يحل أكله وما يكون في جوها من طير يطيب أكله.
4. ذكر سبحانه وتعالى ما يباح أكله أو يطلب بوصفين:
أ. أن يكون حلالا لم يحظر أكله كالخنزير والميتة وسباع البهائم وسباع الطير والمنخنقة والموقوذة والمتردية في بئر حتى ماتت، والنطيحة، وما أكل السبع من غير تذكية، وما كان في أصله حلالا، ولكن اقترن به ما جعله محظورا كالذبح على النصب والاستقسام بالأزلام أو سمى عليه بغير اسم الله، أو لم يذك تذكية شرعية فإن ذلك كله ليس بحلال.
ب. الطيب هو الذي تستطيبه النفوس، وينميها ويغذيها غذاء صالحا، ولا يكون طيبا إلا إذا كان كسبه من حلال ولا يكون من حرام، ولا يكون حلالا إذا كان من الرشوة أو من السحت أو الربا أو من غلول، وفى الجملة أن يكون كسبه خبيثا، ولو كان في أصله طيبا، روى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذى نفسي بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت أو الربا، فالنار أولى به).
5. بعد الأمر بالحلال نهى عن كل حرام بألا يطيع الشيطان، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ وهذا يصل الكلام بالآية السابقة التي بينت أن من الناس من اتخذ أندادا بوسوسته وإغرائه.
6. الخطوات جمع خطوة بضم الخاء وهى الأفصح، ويجوز فيها خطوة بفتحها والخطوة ما بين القدمين عند انتقالهما، والخطوات ما بينهما متتابعا، وهذا كناية عن السير في طريق، وتتبع السير فيه، باتباع حركاته، وسيرها، وكأنما شبهت حال أتباعه بحال من يتبع سيره خطوة بعد خطوة، فلو سار به في ضلال سار معه، وانهوى به في هاوية من الفساد، وإن السير وراءه هو سير وراء عدو واضح العداوة؛ ولذا قال تعالى معللا النهى بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، بمعنى بيّن العداوة لا يخفيها ولا يطويها، فمبين بمعنى إن عداوته جلية واضحة؛ لأنه يبينها ولا يخفيها من يوم أن عارض آدم كما قال تعالى: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الأعراف]، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر] وكما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص]، وكما قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة].
7. النهى عن اتباع خطوات الشيطان له مغزاه ومعناه، ذلك أن الشيطان يجيء من الحلال الطيب الذي تشتهيه الأنفس فيخلطه بغيره، ويأخذ بالنفس التي تطيعه من طيب المال إلى سوئه، ويأخذهم من مشتبهات الحلال إلى الحرام، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات)، فهو يجيئهم من هذه المشتبهات ومن أجل ذلك كان الأمر بالحلال قد اقترن به النهى عن تتبع خطوات الشيطان الآثمة لأنها تجيء على مقربة من الحلال، وكذلك من تتبع خطوات الشيطان أن يحرم المباح على نفسه كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ﴾ [المائدة] ولقد أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح وجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم فقال: لا أريد، فقال: أصائم أنت؟ قال لا، قال فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود: (هذا من خطوات الشيطان)، وكذلك كل تحريم للطيبات هو من خطوات الشيطان، فكان النهى عن اتباع الخطوات مقترنا بإباحة ما أحل الله تعالى؛ لأنه مخالفة لما قرره الشرع.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/499.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الحلال كل ما لم يثبت النهي عنه في الشريعة، والحرام ما ثبت النهي عنه، والطيب هو الحسن، تقول: حياة طيبة، وكلمة طيبة، أي حسنة، ومأكول طيب أي حسن، والمراد بالطيب هنا ما تميل النفس اليه وتستلذه على شريطة ان لا يكون منهيا عنه.. والسوء كل ما تسوء عاقبته، والفحشاء من الفحش، وهو قبح المنظر، ثم استعمل في كل قبيح من قول أو فعل.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، هذا الخطاب عام لجميع الناس، سواء منهم من حرّم على نفسه بعض الأطعمة، أو لم يحرّم، وسواء منهم المؤمن والكافر، لأن الكافر يحرم من نعيم الآخرة، لا من متاع الدنيا، وفي الحديث القدسي: (أنا أخلق، ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)
3. لما كان المأكول منه حلال ومنه حرام، فقد أباح الله الأول دون الثاني، وكل ما لم ينه الشرع عنه فهو حلال: جاء في الحديث: (ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله بكم)، وقد يحرم بالعارض الشيء الذي هو حلال بالأصل، كالمال المأخوذ بالربا والغش والرشوة والسرقة.
4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، بعد أن أباح الله للناس الحلال حذرهم من التعدي الى الحرام، وعبّر عن هذا التحذير بالنهي عن اتباع الشيطان ووسوسته التي تزين للإنسان ما لا يحل له.. وكل خاطر يغري بارتكاب الحرام، كالخمر والزنا والكذب والرياء، أو يحذر من فعل الواجب، كالخوف من الفقر إذا أدّى ما عليه من حق، أو من الضرر إذا جاهد أو قال الحق، كل ذلك وما اليه هو من وحي الشيطان.. وقد حكى الله عن الشيطان قوله: ﴿لَأُضِلَّنَّهُمْ ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾، وقوله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾
5. (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ والْفَحْشاءِ وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)، هذا بيان للآثار والنتائج التي تترتب على اتباع دعوة الشيطان وخطواته، وهي أمور ثلاثة: السوء، وهو كل فعل تسوء عاقبته، والفحشاء، وهي أقبح أنواع المعاصي، والقول على الله بغير علم من أن له أندادا وأولادا، ومن تحليل الحرام، وتحريم الحلال، ومنه العمل بالرأي والقياس والاستحسان لاستخراج الأحكام الشرعية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/258.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، والحل مقابل الحرمة، والحل مقابل حرم، والحل مقابل العقد، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشيء في فعله وأثره.
2. الطيب ـ مقابل الخبيث ـ ما يلائم النفس والشيء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، والطيب من العطر يلائم الشامة، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه.
3. الخطوات بضمتين جمع خطوة، وهي ما بين القدمين للماشي، وقرئ خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة وهي المرة، وخطوات الشيطان هي الأمور التي نسبته إلى غرض الشيطان ـ وهو الإغواء بالشرك ـ نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه.
4. الأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، والأمر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الإنسان عليه بإخطاره في قلبه وتزيينه في نظره والسوء ما ينافره الإنسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء.
5. عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلى به الكل:
أ. أما المشركون: فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، هذا في العرب، وفي غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل.
ب. أما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الإسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان والقوانين وغيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها وقوتها ـ وذلك بحسن التربية وحسن القبول ـ أماتت الفروع وقطعت الأذناب وإلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتأمت بها وصارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا ولا ذاك.
6. أمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، والأكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإنسان والركن في حياته كما قال تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإطلاقها، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الأرض من النعم الإلهية التي هيأته لكم طبيعة الأرض بإذن الله وتسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.
7. قوله تعالى: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، يفيد الإباحة العامة من غير تقييد واشتراط فيه إلا أن قوله ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، إلخ يفيد: أن هاهنا أمورا تسمى خطوات الشيطان ـ متعلقة بهذا الأكل الحلال الطيب ـ إما كف عن الأكل اتباعا للشيطان، وإما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء وفحشاء، وقول ما لا يعلم على الله سبحانه وإذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الأكل مما في الأرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى ويشرعه وقد شرعه بهذه الآية ونظائرها ولا يمنع عنه بنهي أو ردع، كما سيأتي من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ الآية) فرجع معنى الآية إلى نحو قولنا كلوا مما في الأرض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا ولا تتركوا بعضا منها كفا وامتناعا فيكون سوء وفحشاء وقولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك وهو اتباع خطوات الشيطان.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فإن لله سبحانه المنع فيما له الإذن فيه.
ب. وثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.
ج. وثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فإنه لم ينه عن المشي والسلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الإنسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، ومن هنا يعلم أن عموم التعليل، وهو قوله ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ إلخ، وإن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فإنه ليس من اتباع خطوات الشيطان وإن كان اتباعا للشيطان.
9. ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، السوء والفحشاء يكونان في الفعل، وفي مقابله القول، وبذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء وفحشاء، والقول الذي هو قول بغير علم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/417.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ كانت الجاهلية مع شركهم يحرمون بعض ما أحل الله، كما حكى الله في (سورة الأنعام) وهو الحلال الطيب، وتحريمهم له ليس بمحرم له؛ لأن الحكم لله وحده وليس لأحد غيره أن يحل ما حرم ولا يحرم ما أحل؛ لأن الملك له، واتباع حكم غيره نوع من الشرك، ولذلك قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [النحل:114] فأمرهم الله أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض وأحله، إيماناً بالله وكفراً بالطاغوت.
2. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي لا تقتدوا به ولا تتبعوا طريقه، أي ما يزينه من الأعمال، وهذا عام في تحريم ما أحل الله على طريقة الجاهلية وفي الغلو والابتداع، وفي الباطل كله.
3. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي بيّن العداوة تحذير من اتباعه؛ لأنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فأي عداوة تساوي عداوته، وهذا يوجب ترك اتباعه، وأضاف سبحانه إلى هذا المعنى معنى آخر فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ السوء: القبيح ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ ما زاد قبحه من القبائح، وهي صفة محذوف، كالمنكرات الفحشاء، أو الفعلة الفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، وهذا القول من السوء، وخصه بالذكر ليعلموا أنه مما يدعو إليه الشيطان ويأمرهم به ليحذروه، وقد كانوا كما حكى الله عنهم: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:28] وهو تحذير لهم ولمن بعدهم من أهل العقائد الباطلة والبدع التي ينسبونها إلى الله بغير علم.
4. في قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ إهانة لهم، ودليل على أنهم بطاعتهم للشيطان جعلوا أنفسهم تحت أمره، وأهانوا أنفسهم بجعل الشيطان أميراً عليهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/228.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هاتين الآيتين نداء ربّاني للناس، يستشعر فيه الإنسان الرحمة في وحيه له بأن الله لا يريد أن يضيّق عليه سبل الحياة، بل يريد أن يوسّع له آفاقها الرحبة ومواردها الخصبة، فقد خلق له الأرض في كل ما تنتجه من رزق، وفي ما تحتوي عليه من نعم، وأباح له التمتع بالرزق الطيب الحلال، والنعم الكثيرة الخالصة، فلم يحرّم عليه شيئا من طيباتها مما يحتاجه في استمرار حياته ونموّ جسمه، بل دعاه إلى أن يأكل منها ما يشاء، وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾
2. لكنه حذّره من خطوات الشيطان التي تتجه به إلى ما فيه فساد حياته، وضرر جسمه وعقله، بالاستمتاع بالشهوات المحرّمة، والأكل من الخبائث المضرّة، مما يزين له فعله ويغريه بالإقبال عليه، بما يثيره أمامه من الأجواء الحميمة، والإغراءات اللذيذة التي يدعوه إليها بلهفة شديدة، وشوق حميم، بطريقة تحجب عنه ما في الداخل من خسارة وضرر وفساد، ويبرر القرآن للإنسان كل هذا الحذر بالحقيقة الدينية الحاسمة التي توضح عداوة الشيطان الواضحة البيّنة للإنسان، ليشعر بأنّ هذه الخطوات التي يثيرها أمامه ليست في مصلحته مهما أظهر له من إخلاص أو مودّة.
3. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ في إيحاءاته ووساوسه وخططه الإغوائية الإغرائية مما يزين به للإنسان من أقوال وأفعال وأفكار بعيدة عن خط الاستقامة، وعن مواقع رضى الله، وقريبة من موارد سخطه التي تؤدي إلى عذابه وإبعاده عن رحمته.
4. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فقد أخرج أبويكم من الجنة، وأعلن عزمه على أن لا يدخل أحد من بني آدم الجنة من خلال أساليبه الضالة ووسائله المنحرفة، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
5. ثم يفصّل القرآن للإنسان في الآية الثانية بعضا مما أجمله في الآية الأولى من خطوات الشيطان: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فيعدد لنا نماذج ثلاثة من أوامره:
أ. فهو يأمر الإنسان بالسوء الذي يمثل كل فكر سيّئ أو عمل شرير.
ب. وبالفحشاء التي تتمثل فيها الأعمال المنكرة التي تجاوزت الحد الطبيعي للأشياء، سواء كانت من المنكرات المتعلقة بالعلاقة بين العبد وربه في معاصي الله، أو كانت من المنكرات المتعلقة بين الناس وبين الشخص، في الجوانب المالية أو الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية والأخلاقية، ولا سيّما في ما يتعلق بالعرض وبالخيانة والكذب.
ج. أما الأمر الثالث، فهو نسبة الأحكام أو العقائد أو الأعمال إلى الله باعتبارها شيئا موحى به من قبله، وثابتا في وحيه، مع أنهم لا يعلمون شيئا من ذلك، لأنهم لا يملكون طريقا إلى المعرفة في هذا الاتجاه، ولعل من الطبيعي، في مثل هذه الحالة، أن يؤكد القرآن خطورة مثل هذا الواقع على مسيرة الإنسان المسلم في الحياة، لأنه يغريه بالزيف والنفاق والكذب والخيانة في ما يوحي إليه به من أساليبه الذكية الشيطانية، ويدفعه إلى الارتباك في مواجهة خط الانحراف لاختلاط الحق والباطل أمامه، مما يعطل عليه طريق الوصول إلى الهدى الحقّ، ويجعله يتقلب في أجواء غامضة من الضباب الكثيف.
6. قد ينطلق التعبير القرآني بهذا الأسلوب ليريد به الشرك وأمثاله من العقائد المضادة للحق مما ثبت بطلانه بالدليل والحجة ليدلل بكلمة: ﴿السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13]، أو ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾، أو بكلمة: ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 113]، التي يصف بها المشركين للإيحاء بأن هؤلاء لا ينطلقون من موقع الحجة والبرهان في ما يعتقدونه من عقيدة، وفي ما يحملونه من صفات وأخلاق، كأسلوب من أساليب إثارتهم نحو البحث عن الحقيقة والخروج من أجواء الغفلة، بالطريقة التي هي أحسن، حيث لم يعبر عنهم بتعابير توحي بالجحود والإنكار والعناد الذي يربطهم بجو التعصب ويخرجهم عن أجواء التفاهم ويبعدهم عن روحية الحوار.
7. هذا هو الأسلوب القرآني الذي يجب أن نتعلمه، وهو أن نختار الكلمات الخفيفة بدلا من الكلمات الثقيلة في المجالات التي نشعر فيها بالحاجة إلى أن نقود الأفكار المضادة إلى ساحة الحقيقة والحوار، لأن الهدف الرسالي من الحوار مع الناس هو الوصول إلى عقلهم بالطريقة التي يدخل فيها إساءة حادة، أو انفعال شديد، أو قسوة عنيفة، مما يهيئ الجو النفسي للاستماع إلى وجهة النظر المخالفة وإلى الدخول في حوار هادئ حول القضايا المختلف عليها، وربما كانت المشكلة الصعبة التي يقع فيها بعض الدعاة، في جدالهم مع الآخرين، أنّهم ينطلقون من عقدة ذاتية، لا من ذهنية رسالية، الأمر الذي يدفعهم إلى المزيد من كلمات السباب والفحش ونحوهما من خلال الزعم بأن ذلك هو الطريقة الشرعية للتعبير عن رفض الباطل وتحقيره من دون دراسة للنتائج السلبية على أجواء الحوار وأساليبه، حيث تزيد هذه العقدة في عداوة الطرف الآخر الذي يراد الدخول معه في الحوار، فيبتعد عن الاستجابة لعملية الأخذ والرد، أو يدخل معنا في أجواء التشنج والانفعال التي تسقط كل النتائج الإيجابية على مستوى المقدمات والنتائج.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/166.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير الله.
2. الآية الكريمة اعتبرت هذا العمل شيطانيا وقالت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
3. تكرر في القرآن طلب الاستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيّدا بالحلال وبالطيّب، و(الحلال) ما أبيح تناوله، والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، ويقابله (الخبيث) الذي يشمأز منه الإنسان.
4. (الخطوات) جمع (خطوة) وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتغرير بالنّاس.
5. عبارة ﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الاستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي، وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها، وحثّ على الاستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.
6. النهي عن اتباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، توضحه آيات أخرى تنهى أيضا عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ الله وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وكقوله سبحانه ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾.
7. هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقة دافعة نحو الطاعة لا وسيلة لارتكاب الذنوب.
8. عبارة ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهبا لمجابهة هذا العدوّ اللدود الظاهر.
9. الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل في شقاء الإنسان، وتقول: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
10. منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء، والفحشاء، والتّقول على الله.
11. الفحشاء من (الفحش)، وهو كل عمل خارج عن حدّ الاعتدال، ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية، واستعمال هذه المفردة حاليا بمعنى الأعمال المنافية للعفّة هو من قبيل استعمال اللفظ الكلي في بعض مصاديقه.
12. عبارة ﴿تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قد تشير إلى تحريم بعض الأطعمة المحللة، كما مرّ بنا في سبب النّزول، وهو عمل بعض القبائل العربية في الجاهلية، وقيل: إن رواسبه كانت باقية في ذهن بعض المسلمين الجدد، وقد يتسع معناها ليشمل الشرك والتشبيه بالله أيضا، على أية حال، العبارة تشير إلى القول غير القائم على العلم، وهو قول شيطاني مذموم، خاصة إذا كان متضمنا نسبة شيء إلى الله.
13. الإسلام يحثّ دوما على الانطلاق من العقل والمنطق في اتخاذ المواقف وفي إصدار الأحكام، ولو كان دأب أفراد المجتمع ذلك لزال من المجتمع الشقاء.
14. كل ما دخل في الأديان الإلهية من تحريف ومسخ إنما كان على يد أفراد بعيدين عن المنطق، والجانب الأكبر من الانحرافات العقائدية يعود إلى عدم رعاية هذا الأصل، لذلك كان محورا من محاور النشاط الشيطاني بعنوان مستقل ـ في مقابل السوء والفحشاء ـ في الآية المذكورة.
15. هذه الآية الكريمة تدل على أنّ الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض الحليّة، والمستثناة هي الأغذية المحرمة، من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحلية، وهذا ما يقتضيه أيضا طبيعة الخليقة، إذ لا بدّ من وجود تنسيق بين القوانين التشريعية والقوانين التكوينية، بعبارة أوضح ما خلقه الله لا بدّ أن ينطوي على فائدة لعباده، من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلي للأطعمة على ظهر الأرض التحريم، فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح، وما دام لا يشكل ضررا على الفرد والمجتمع.
16. عبارة ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، هي إنّ الانحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجي، لا دفعي فوري، فتلوّث شاب بالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدرات مثلا يتم على مراحل:
أ. يشترك أوّلا متفرجا في جلسة من جلسات الخمارين أو المقامرين، ظانا أنه عمل اعتيادي لا ضير فيه.
ب. ثم يشترك في القمار للترويح عن النفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول شيئا من المخدرات بحجة رفع التعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.
ج. وفي الخطوة الأخرى يمارس العمل المحرم قاصدا أنه يمارسه مؤقتا.
د. وهكذا تتوالى الخطوات واحدة بعد أخرى ويصبح الفرد مقامرا محترفا أو مدمنا خطرا.
17. وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل (خطوات) لذلك يحذّر القرآن كثيرا من اتّخاذ الخطوة الاولى على طريق الانزلاق.
18. جدير بالذكر أن الأعمال الخرافية غير القائمة على أساس منطقي اعتبرتها النصوص الإسلامية من (خطوات الشّيطان)، وقد ورد في رجل أقسم أن يذبح ابنه، قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: (ذلك من خطوات الشّيطان)، وعن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام: (كلّ يمين بغير الله فهو من خطوات الشّيطان)
19. الآية الكريمة وصفت الشّيطان أنّه ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، وذلك إمّا لعدائه لآدم بعد أن أبى السجود له، وخسر كل شيء على أثر ذلك، وإما بسبب إغوائه الواضح لبني البشر ودفعهم على طريق الإجرام، وواضح أن هذا الدفع لا يصدر إلّا من عدوّ لدود، أو لأن الشيطان أعلن عداءه صراحة للإنسان، وعاهد نفسه على إغوائهم إذ قال ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
20. سؤال وإشكال: الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان: فقالت: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾ وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية، وقد يطرح سؤال بشأن هذه الأوامر الشيطانية إذ لا يحسّ الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب السيئات، ولا يتلمس سعيا شيطانيا لإضلاله، والجواب: هو أن هذه (الوسوسة) تأثير خفي عبّرت عنه بعض الآيات بالإيحاء: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾، والإيحاء من (الوحي) الذي هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللاواعية أحيانا، وثمّة فرق بين (الإلهام الإلهي) و(الوسوسة الشيطانية) هو إن الإلهام الإلهي لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح، يترك في النفس حالة انبساط وانشراح، بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة، تجعل القلب يحسّ بظلام وانزعاج وثقل، وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب السيئة فإنه يحسّ بها بعد الارتكاب، هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية والإلهامات الإلهية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/475.
71. الهداية واتباع الآباء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈71⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 170 ـ 171]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: العقل غطاء ستير والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودّة وتظهر لك المحبّة(1)..
2. روي أنّه قال يوصي بعض أهله: (يا بنيّ احفظ عنّي أربعا وأربعا لا يضرّك ما عملت معهنّ: إنّ أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق(2)..
__________
(1) اصول الكافي 1/22.
(2) نهج البلاغة حكمة: 37/1104.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿مَا أَلْفَيْنَا﴾ يعني: وجدنا: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول نابغة بن ذبيان(1)..:
çفحسبوه فألفوه كما زعمت... تسعا وتسعين لم تنقص ولم يزدé
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ كمثل البقر والحمار والشاة، وإن قلت لبعضهم كلاما لم يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر، إن أمرته بخير، أو نهيته عن شر، أو وعظته؛ لم يعقل ما تقول، غير أنه يسمع صوتك(2)..
3. روي أنّه قال في الآية: مثل الدابة تنادى فتسمع ولا تعقل ما يقال لها، كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل(2)..
4. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ شبه الله أصوات المنافقين والكفار بأصوات البهم، أي: بأنهم لا يعقلون: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت بشر بن أبي خازم وهو يقول(3).:
çهضيم الكشح لم يغمز ببؤس... ولم ينعق بناحية الرباقé
5. روي أنّه قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود إلى الإسلام، ورغبهم فيه، وحذرهم عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة، ومالك بن عوف: بل نتبع ـ يا محمد ـ ما وجدنا عليه آباءنا؛ فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ الآية(4)..
__________
(1) الإتقان: ٢/٧٩.
(2) ابن جرير: ٣/٤٤.
(3) الدرّ المنثور: الطستي.
(4) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ﴾، أي: ما وجدنا(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ مثل ضربه الله للكافر، يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ الراعي ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ البهائم، ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٤٦.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ مثل البعير أو مثل الحمار، تدعوه، فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٤٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ كمثل الراعي يصيح بالغنم، فترفع رؤوسها لا تدري ما يقول، ثم تضع رؤوسها(1)..
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٩٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر، يقول: مثل هذا الكافر كمثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها، فكذلك الكافر يقال له ولا ينتفع بما يقال له(1)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٦٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾: معناه وجدناهم عليه،(1)..
2. روي أنّه قال: (﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ معناه يصوّت،(1)..
3. روي أنّه قال: (﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ فالأبكم: الأخرس.. وواحدها أبكم،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 93.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ لا يعقل ما يقال له، إلا أن تدعى فتأتي، أو ينادى بها فتذهب، وأما ﴿الَّذِي يَنْعِقُ﴾ فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ ما يقال له، إلا أن يدعى أو ينادى، فكذلك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو من لا يسمع إلا حوير الكلام، يقول الله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ (1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٤٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من القرآن، في تحليل ما حرموه، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من أمر الدين؛ فإن آباءنا أمرونا أن نعبد ما كانوا يعبدون، ﴿قُل﴾ يا محمد: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ من الدين، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ به؛ أفتتبعونهم!؟(1)..
2. روي أنّه قال: ثم ضرب لهم مثلا، فقال سبحانه: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يعني: الشاة والحمار ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يعني: مثل الكافر كمثل البهيمة؛ إن أمرت أن تأكل أو تشرب سمعت صوتا ولا تعقل ما يقال لها، فكذلك الكافر الذين يسمع الهدى والموعظة إذا دعي إليها فلا يعقل ولا يفهم بمنزلة البهيمة(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ﴾ فلا يسمعون الهدى، ﴿بِكُمُ﴾ فلا يتكلمون بالهدى، ﴿عَمِيَ﴾ فلا يبصرون الهدى، ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ الهدى(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ الرجل الذي يصيح في جوف الجبال، فيجيبه فيها صوت يراجعه، يقال له: الصدى، فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت ولا ينفعه، لا يسمع إلا دعاء ونداء: والعرب تسمي ذلك: الصدى(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٤٩.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال لهشام بن الحكم: يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ الآية، وذكر الحديث بطوله إلى أن قال وذم الذين لا يعقلون، فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾(1)..
__________
(1) الكافي: 1/10.
الهادي إلى الحق:
سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله سبحانه: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: 171] كيف يشبه الذين كفروا بالناعق؟ ثم قال ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ والناعق سميع بصير، فإن كان مَثَّلهم بالبهائم فكان مجاز الكلام إن يقول: كمثل الذين نعق به؟، فقال: (يا جاهل ذا ارتياب، ويا جائر عن الصواب: إن الله تبارك وتعالى إنما شبَّه الذين كفروا بالبهائم التي تنعق، لقلة أتباعهم وقبولهم، وقلة معرفتهم بما جاءهم من ربهم، فشبههم في قلة استماعهم بالبهائم التي لا تمييز لها، فأما قوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾، فهو مثل ضربه الله لهم، فمثلهم بغنم راعي سامت فظلت، وتتابعت فذهبت، فأزاعها صاحبها فلم يجدها، فعلا شُرفاً من الأرض لها، وأقبل ينعق بها، ويناديها وهي لا تسمعه، وهو في دعاء ونداء وهي سائمه ترعى، ولا تجيب له صوتا، ولا تألوه فوتا، كذلك الذين كفروا حالهم في ترك الإجابة إلى الحق، كحال هذه الغنم المستعجمة من الخلق(1)..
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/159.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه، فقالوا عند ذلك: لا ندع وصية آبائنا، كقوله: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 53].
ب. أو كانوا قوما سفهاء أصحاب التقليد، فقالوا: إنا قلدنا آباءنا، فلا نقلد غيرهم.
2. قوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ يخرج على وجهين:
أ. أي تقلدون أنتم آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئا.
ب. ويحتمل: ﴿أَوَلَوْ كَانَ﴾، أي وقد كان آباؤكم لا يعقلون شيئا فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: 24]، أي وقد جئتكم، أو أن يقال: من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟
3. قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: مثلنا ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أي يصوت ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يسمعون الصوت ولا يفهمون ما فيه.
ب. يحتمل: ﴿يَنْعِقُ﴾ بمعنى ينعق، ذكر الفاعل على إرادة المفعول؛ كقوله: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 21] أي مرضية، فعلى ذلك الأولى، وهو في اللغة جائز جار.
4. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ سماهم بذلك وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ لما لم ينتفعوا بها، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها؛ ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/622.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الضمير في قوله (لهم) في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. قيل: يعود على من في قوله: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ وهم مشركو العرب وقد سبق ذكرهم.
ب. وقيل: يعود على الناس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة للتصرف في الكلام كـ ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس:22]
ج. وقيل: يعود على الكفار من اليهود وغيرهم وقد جرى ذكرهم.
2. كل ذلك محتمل والقائل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.. ويدل على أن الضمير عائد إلى اليهود ما روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم منا)، فأنزل الله تعالى هذه الآية.. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش، وهو يدل على القول الأول.
3. ﴿مَا أَلْفَيْنَا﴾ أي صادفنا ووجدنا.
4. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ عن عطاء أنها نزلت في اليهود والمعنى أنهم لما لم يجيبوا وركنوا إلى التقليد لآبائهم ضرب لهم تعالى مثلاً فقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قيل صفتهم وقيل شبههم، ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ بصوت لا يسمع من البهائم، ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يعني صياحاً من دون معرفة معناه.. ثم وصفهم بما جرى مجرى التوبيخ فقال تعالى: ﴿صُمٌّ﴾ يعني عن استماع الحجة، ﴿بِكُمُ﴾ عن التكلم بالحق، ﴿عَمِيَ﴾ عن الإبصار لها ذكره ابن عباس، وهذا على التشبيه يعني لما لم يسمعوا الحق ولم يتكلم ولم يبصر الأدلة صار بمنزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يتكلم كقول الشاعر:
çلقد أسمعت لو ناديت حياً... ولكن لا حياة لمن تناديé
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/93.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني في تحليل ما حرموه من الأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ يعني في تحريم ذلك عليهم.
2. في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن مثل الكافر فيما يوعظ به مثل البهيمة التي ينعق بها تسمع الصوت ولا تفهم معناه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: مثل الكافر في دعاء آلهته التي يعبدها من دون الله كمثل راعي البهيمة يسمع صوتها ولا يفهمه، وهذا قول ابن زيد.
3. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي صم عن الوعظ فلا يسمعونه، بكم عن الحق فلا يذكرونه، عمي عن الرشد فلا يبصرونه فهم لا يعقلونه، لأنهم إذا لم يعلموا بما يسمعونه ويقولونه ويبصرونه كانوا بمثابة من فقد السمع والنطق والبصر، والعرب تقول لمن سمع ما لا يعمل به: أصم، قال الشاعر: (أصمّ عمّا ساءه سميع)
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/222.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَوَلَوْ كَانَ﴾ هي واو العطف، دخلت عليها حرف الاستفهام، والمراد بها التوبيخ والتقريع، فهي ألف التوبيخ، ومثل هذه الألف ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ و﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، وإنما جعلت ألف الاستفهام للتوبيخ، لأنه يقتضي ما الإقرار به فضيحة عليه، كما يقتضي الاستفهام الاخبار، مما يحتاج اليه، والمعنى: إنهم يقولون، هذا القول: ﴿وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾، والفرق بين دخول الواو، وسقوطها في مثل هذا الكلام، أنك إذا قلت: اتبعه ولو ضرك، فمعناه اتبعه على كل حال ولو ضرك، وليس كذلك إذا قال اتبعه لو ضرك، لأن هذا خاص، و الأول عام، فإنما دخلت الواو لهذا المعنى.
2. قوله تعالى: ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ يحتمل شيئين:
أ. أحدهما: لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون إليه، هذا قول الجبائي.
ب. الثاني: على الشتم والذم، كما يقال: هو أعمى إذا كان لا يبصر طريق الحق ـ على الذم ـ هذا قول البلخي.
3. في الآية الكريمة دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، لأنها دلت على أنهم كانوا على ضلال في الاعتقاد.
4. في الضمير في قوله: ﴿هُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: انه يعود على ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾.
ب. الثاني: انه يعود على ﴿النَّاسِ ﴾ من ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ فعدل عن المخاطبة الى الغيبة، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾
ج. الثالث: انه يعود على الكفار، إذ جرى ذكرهم، ويصلح أن يعود اليهم وإن لم يجر ذكرهم، لأن الضمير يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور، وقال ابن عباس: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود من أهل الكتاب الى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيراً منّا، فأنزل الله عز وجل ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الآية.
5. ﴿أَلْفَيْنَا﴾ في الآية معناه وجدنا ـ في قول قتادة ـ قال الشاعر:
çفألفيته غير مستعتب...ولا ذاكر الله إلا قليلاé
6. الاتباع: طلب الاتفاق في المقال أو الفعال، أما في المقال، فإذا دعا الى شيء استجيب له، وأما في الفعال، فإذا فعل شيئاً، فعلت مثله.
7. اختلف في تعريف العقل:
أ. قيل: مجموعة علوم بها يتمكن من الاستدلال بالشاهد على الغائب.
ب. وقال قوم: هو قوة في النفس يمكن بها ذلك، والاهتداء الاصابة لطريق الحق بالعلم.
8. في الآية الكريمة حجة عليهم من حيث أنهم إذا جاز لهم أن يتبعوا آباءهم فيما لا يدرون أحق هو أم باطل، فلم لا يجوز اتباعهم مع العلم بأنهم مبطلون، وهذا في غاية البطلان.
9. في الآية الكريمة دلالة على فساد التقليد، لأن الله تعالى ذمهم على تقليد آبائهم، ووبخهم على ذلك، ولو جاز التقليد لم يتوجه إليهم توبيخ، ولا لوم، والأمر بخلافه.
10. التشبيه في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل:
أ. أحدها: وهو أحسنها وأقربها الى الفهم، وأكثرها في باب الفائدة ـ ما قاله أكثر المفسرين كابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، واختاره الزجاج، والفراء، والطبري، والجبائي، والرماني، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام: إن مثل الذين كفروا في دعائك إياهم، ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أي الناعق في دعائه، المنعوق به من البهائم التي لا تفهم كالإبل، والبقر، والغنم، لأنها لا تعقل ما يقال لها، وإنما تسمع الصوت، والحذف في مثل هذا حسن، كقولك لمن هو سيء الفهم: أنت كالحمار، وزيد كالأسد: أي في الشجاعة، لأن المعنى في أحد الشيئين أظهر، فيشبه بالآخر ليظهر بظهوره، وهذا باب حسن البيان.
ب. الثاني: حكاه البلخي، وغيره: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع، بتعالى، وما جرى مجراه من الكلام، وذلك أنّ البهائم لا تفهم الكلام، وإن سمعت النداء، والدعاء، وأقصى أحوال الأصنام أن تكون كالبهائم في أنها لا تفهم، فإذا كان لا يشكل عليهم أن من دعا البهائم بما ذكرناه جاهل، فهم في دعائهم الحجارة أولى بالجهل وصفة الذم.
ج. الثالث: قال ابن زيد: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه الصدى في الجبل، وما أشبهه، لأنه لا يسمع منه إلا دعاء ونداء، لأنه إذا قال يا زيد، سمع من الصدى يا زيد، فيتخيل اليه أن مجيباً أجابه، وليس هناك شيء، فيقول: يا زيد، وليس فيه فائدة، فكذلك يخيل الى المشركين أن دعاءهم للأصنام يستجاب، وليس لذلك حقيقة، ولا فائدة.
11. إنما رجحنا الوجه الأول، لما بيناه من حسن الكلام، ولأنه مطابق للسبب الذي قيل: إنها نزلت في اليهود، فإنهم لم يكونوا يعبدون الأصنام، ولا يليق بهم الوجه الثاني، فإذا ثبت ذلك، ففيه ثلاثة أوجه من الحذف:
أ. أولها: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في دعائك لهم كمثل الناعق في دعائه المنعوق به.
ب. الثاني: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في دعائهم الأوثان كمثل الناعق في دعائه الأنعام.
ج. الثالث: مثل وعظ الذين كفروا كمثل نعق الناعق بما لا يسمع، وهذا من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف اليه مقامه كقول الشاعر:
çوقد خفت حتى ما تزيد مخافتي... على وعل في ذي المطارة عاقلé
والتقدير على مخافة وعل.
12. سؤال وإشكال: كيف قوبل الذين كفروا ـ وهم المنعوق به ـ بالناعق، ولما تقابل المنعوق به بالمنعوق به ـ في ترتيب الكلام ـ أو الناعق بالناعق؟ والجواب: للدلالة على تضمين الكلام تشبيه اثنين باثنين: الداعي للإيمان للمدعو من الكفار بالداعي الى المراد للمدعوّ من الانعام، فلما أريد الإيجاز أبقي ما يدل على ما ألقي، فأبقي في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي، ولو رتب على ما قال السائل، لبطل هذا المعنى، وزعم أبو عبيدة، والفراء: أنه يجري مجرى المقلوب الذي يوضع فيه كلمة مكان كلمة، كأنه وضع الناعق مكان المنعوق به، وأنشد:
çكانت فريضة ما تقول كما... كان الزناء فريضة الرجمé
والمعنى كما كان الرجم فريضة الزناء، وكما يقال: أدخلت القلنسوة في رأسي، وإنما هو أدخلت رأسي في القلنسوة قال الشاعر:
çإنّ سراجا لكريم مفخرة... تحلى به العين إذا ما تجهرهé
والمعنى يحلى بالعين، فجعله تحلى به العين، والأقوى أن يكون الأمر على ما بيناه من المعنى الذي دعا الى الخلاف في الحذف، ليدل بما بقي على ما ألقي.
13. ينعق: قال صاحب العين: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقاً إذا صاح بها زجراً، ونعق الغراب نعاقاً ونعيقاً إذا صاح، والناعقان كوكبان من كواكب الجوزاء: رجلها اليسرى ومنكبها الأيمن، وهو الذي يسمى الهنعة، وهما أضوء كوكبين في الجوزاء، وأصل الباب الصياح.
14. النداء: مصدر نادى مناداة، ونداء، وتنادوا تنادياً، وندى تندية، وتندى تندّياً، والنداء، والدعاء، والسؤال نظائر، قال صاحب العين: الندى له وجوه من المعنى: ندى الماء، وندى الخير، وندى الشر، وندى الصوت، وندى الخصر، فأما ندى الماء، فمنه ندى المطر، أصابه ندى من طلّ، ويوم ندى، فأرض ندية، والمصدر منه الندوة.. والندى ما أصابه من البلل، وندى الخير هو المعروف، تقول: أندى علينا فلان ندى كثيراً، وإن يده لندية بالمعروف، وندى الصوت: بعد مذهبه، وندى الخصر: صحة جريه، واشتق النداء في الصوت من ندى ناداه أي دعاه بأرفع صوته: ناداه به، والندوة الاجتماع في النادي، وهو المجلس، ندى القوم يندون ندواً إذا اجتمعوا، ومنه دار الندوة، وأصل الباب الندى: البلل، وندى الجود كندى الغيث.
15. معنى ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ أي صم عن استماع الحجة، بكم عن التكلم بها، عمي عن الأبصار لها، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي، والأعمى، من في بصره آفة تمنعه من الرؤية، والأصم: من كان في آلة سمعه آفة تمنعه من السمع، والأبكم: من كان في لسانه آفة تمنعه من الكلام، وقيل: إنه يولد كذلك، والخرس قد يكون لعرض يتجدد، وأجاز الفراء النصب في (صم) على الذم، والأجود الرفع على ما عليه القراء، وتقديره هم صم.
16. في الآية الكريمة دلالة على بطلان قول من زعم: أنهم لا يستطيعون سمعاً على الحقيقة، لأنه لا خلاف أنهم لم يكونوا صماً لم يسمعوا الأصوات، وإنما هو كما قال الشاعر: (أصمّ عما ساءه سميع)
17. في الآية الكريمة دلالة على بطلان قول من قال إن المعرفة ضرورة، لأنهم لو كانوا عالمين ضرورة لما استحقوا هذه الصفة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/76.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاتباع: طلب الاتفاق في المقال والفعال، يقال: تبع فلانا إذا وافقه في ذلك.
ب. ألفينا: صادفنا ووجدنا.
ج. الأب: من وُلدَ الولد على فراشه، وقيل: من خلق من نطفته وولد على فراشه.
د. العقل علوم ضرورية بها يتمكن من الاستدلال والاهتداء.
هـ. نَعَقَ الراعي بالغنم يَنْعِقُ: إذا صاح بها، ونعق الغراب: إذا صوت.
و. النداء والدعاء نظيران، يقال: ناداه أو دعاه بأرفع صوته كقولك: يا زيد.
ز. الدعاء: طلب الفعل من المدعو، ونظيره الأمر، والفرق بينهما يظهر بالرتبة، فالأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل، والدعاء لمن فوقه.
ح. الصمم والبكم والعمى آفات تمنع الإدراك بهذه الحواس.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود إلى الإسلام فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش.
ج. عن عطاء أنها نزلت في اليهود.
3. قيل في اتصال الآية بما قبلها وجهان:
أ. أحدهما: أنه إخبار عن الكفار الَّذِينَ تقدم ذكرهم، ثم منهم من قال: إنهم اليهود، ومنهم من قال بأنهم المشركون، ومنهم من قال: إنهم الَّذِينَ حرموا فخوطبوا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فبين أن طريقهم التقليد لا العلم.
ب. الثاني: أنه لما بَيَّنَ عداوة الشيطان ونهى عن اتباعه بين أن الكفار يتبعون آباءهم عدولاً عن النظر وطلبًا للإلف، كما يتبعون الشيطان عند دعائه إلى الشُّبَه، فلما حذر من أحد الأمرين حذر من الآخر.
4. اختلفوا في الضمير في قوله: ﴿لَهُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. قيل: يعود على مَنْ في قوله: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ وهم مشركو العرب وقد سبق ذكرهم.
ب. وقيل: على الناس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فعدل عن المخاطبة إلى المعاينة للتصرف في الكلام، كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾
ج. وقيل: يعود على الكفار من اليهود وغيرهم، وقد جرى ذكرهم، والضمير قد يعود على المعلوم كما يعود على المذكور.
5. القائل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله﴾:
أ. قيل: القرآن وشرائع الإسلام.
ب. وقيل: في التحريم والتحليل.
7. ﴿قَالُوا﴾ يعني الكفار ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾ وجدنا ﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾:
أ. قيل: من عبادة الأصنام، فالخطاب للمشركين.
ب. وقيل: في التمسك باليهودية فيكون خطابًا لليهود.
ج. وقيل: من تحريم الحرث والأنعام.
8. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ أي لا يعلمون شيئًا من أمور الدين ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أي لا يصيبون طريقة الحق، واختلفوا في وصفهم بذلك:
أ. فقيل: هو على النفي، عن أبي علي، أي لا ينظرون ولا يعلمون ما لزمهم معرفته.
ب. وقيل: هو على جهة الذم، كما يقال: فلان أعمى القلب، عن أبي القاسم.
9. سؤال وإشكال: كيف الاحتجاج بهذا عليهم؟ والجواب: معناه أكنتم تتبعونهم وإن ظهر لكم أنهم لا يعقلون شيئًا من أمور الدين ولا يهتدون إلى الحق أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم إن وجب الانصراف؟ فوجب في الاتباع أن يعلم أولاً أنهم على حق أم لا فيجب إذًا اتباع الدليل دون هَؤُلَاءِ.
10. اختلف في قوله تعالى: ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: هو عام.
ب. وقيل: لا، بل المراد به الخصوص، يعني لا يعقلون من أمر الدين شيئًا، ولا يهتدون إلى حق.
11. ثم لما تقدم ذكر الكفار وأنهم دُعُوا إلى الإسلام فلم يجيبوا، وركنوا إلى التقليد ضرب لهم مثلاً، فقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قيل: صفتهم، وقيل: شبههم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يصوت ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ من البهائم ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يعني صياحًا من دون معرفة معناه.
12. اختلفوا في تقدير الكلام، وتأويل الآية على وجوه أربعة:
أ. الأول: مثل الَّذِينَ كفروا في دعائك إياهم كمثل الناعق في دعائه المنعوقَ به من البهائم التي لا تفهم كالإبل والبقر والغنم، فحذف لدلالة الكلام عليه، والحذف في مثله حسن كقولهم: إنهم كالحمار أي في سوء الفهم وعدم الفهم وكالأسد في القوة، وهذا أحسن في البيان، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع، وهو معنى قول أبي علي.
ب. الثاني: مثل الَّذِينَ كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع ب ﴿ تَعَالَ ﴾ وما يجري مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم، فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بها، فإذا كان لا يشكل أن من دعا بهيمة عد جاهلاً، فمن دعا حجرًا أولى بالذم والجهل، حكاه أبو القاسم وغيره.
ج. الثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه الصدى في الجبل وغيره أنه لا يسمع منه إلا دعاء ونداء، وذلك أنه إذا قال: (يا زيد) سمع مِن الصدى (يا زيد)، وليس وراء هذا القول شيء، إلا أنه يخيل أنه يجيبه مجيب، وليس فيه فائدة كذلك يخيل إلى هَؤُلَاءِ المشركين أن دعاءهم الأصنام يستجاب، وليس لذلك حقيقة ولا فيه فائدة، عن أبي زيد.
د. الرابع: مثل الَّذِينَ كفروا في قلة تفهمهم وعقلهم كمثل الراعي يكلم البهائم، وهي لا تعقل، وهذا لا يحتاج إلى تقدير محذوف، وعلى الوجوه الأخر لا بد من محذوف.
13. سؤال وإشكال: كم وجهًا في تقدير المحذوف؟ والجواب: ثلاثة أوجه:
أ. أولها: مثل الَّذِينَ كفروا في دعائك إياهم كمثل الناعق في دعائه المنعوقَ به.
ب. الثاني: مثل وعظ الَّذِينَ كفروا كمثل الناعق، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.
ج. الثالث: مثل الَّذِينَ كفروا في دعائهم الأصنامَ كمثل الناعق في دعائه الأنعام.
14. سؤال وإشكال: إذا كان مثل الَّذِينَ كفروا مثل المنعوق به وهو مشبه به، فهلا قوبل به؟ والجواب:
أ. قال الفراء والكسائي: إنه مجرى المقلوب، وهو أن توضع كلمة مكان كلمة، قال أبو القاسم: وقع المعنى على المنعوق به واللفظ على الناعق، فكأنه قيل: كمثل الغنم الذي لا تسمع الذي ينعق بها راعيها، وهذا كما يقال: أدخلت القلنسوة الرأس، وإنما هو أدخلت الرأس في القلنسوة.
ب. وقيل: لأن الكلام يتضمن تشبيهين: الداعي إلى الإيمان بالراعي، والكفار المدعوين بالأنعام، وأريد الإيجاز، فحذف ما حذف، وبقي ما يدل على ما حذف، فأبقى في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي.
15. ثم وصفهم الله تعالى بما يجري مجرى التوبيخ، فقال تعالى: ﴿صُمٌّ﴾ يعني عن استماع الحجة ﴿بُكْم﴾ عن التكلم بالحق ﴿عُمْي﴾:
أ. يحتمل: عن الإبصار لها، عن ابن عباس وقتادة والسدي، وهذا على التشبيه يعني لما لم يسمعوا الحق، ولم يتكلموا به، ولم يبصروا الأدلة ساروا بمنزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يتكلم كقول الشاعر: (أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ)، وقال آخر:
çلَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا... وَلَكِنْ لاَ حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِيé
ب. ويحتمل أنهم على هذه الصفة يوم القيامة كقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: لا يعلمون الحق.
ب. وقيل: هم بمنزلة من لا عقل له إذ لم ينتفعوا بعقولهم.
17. يدغم الكسائي لام هل وبل في ثمانية أحرف الياء؟ كقوله: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ والنون: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ﴾، والثاء: ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ والسين: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ والزاي: ﴿بَلْ زُيِّنَ﴾ والضاد: ﴿بَلْ ضَلُّوا﴾ والظاء: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ﴾ والطاء: ﴿بَلْ طَبَعَ الله﴾ وأكثر القراء على الإظهار، ومنهم من يوافقه في البعض، والإظهار هو الأصل، وعلته أنها ساكنة أصلاً، وسائر اللامات تسكن لعلة، فإذا زالت العلة زال سكونها، نحو قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾.
18. مسائل نحوية:
أ. واو ﴿أَولَو﴾: واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع، فهي ألف توبيخ، مخرجها مخرج الاستفهام.
ب. ﴿صُمٌّ﴾ رفع على الاستئناف، أي هم صم، وأجاز الفراء النصب في العربية على الذم.
19. تدل الآيات الكريمة على:
أ. بطلان التقليد؛ لأنه ليس بطريق إلى المعرفة؛ إذ ليس تقليد بعضهم أولى من بعض.
ب. جواز النظر والحجاج في الدين؛ لأن قوله: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله﴾ أولاً، ثم قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ طريقُهُ الحجاج، نبه بذلك على أن المعتبر الحجة دون اتباع الأشخاص.
ج. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنه يدل على أنهم كانوا على ضلال في الاعتقاد، عن أبي علي، قال أبو علي: الآية تدل على بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنهم لو كانوا عالمين بصحة الدين ضرورة لم يستحقوا هذه الصفة.
د. أن من لا يقبل قول الواعظ الداعي كأنه بمنزلة البهيمة التي لا تعقل.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/703.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ألفينا أي: صادفنا ووجدنا.
ب. الأب والوالد واحد.
ج. الاهتداء: الإصابة لطريق الحق بالعلم.
د. المثل: قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول.
هـ. نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، قال الأخطل:
çفانعق بضأنك يا جرير، فإنما... منتك نفسك في الخلاء ضلالاé
ونقع الغراب نعاقا ونعيقا: إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه، فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب، والناعقان: كوكبان من كواكب الجوزاء، ورجلها اليسرى ومنكبها الأيمن، وهو الذي يسمى الهنعة، وهما أضوأ كواكب الجوزاء.
و. الدعاء: طلب الفعل من المدعو، ونظيره الأمر، والفرق بينهما يطهر بالرتبة.
ز. النداء: مصدر نادى مناداة ونداء، والدعاء والسؤال بمعناه، والندى له وجوه في المعنى، يقال: ندى الماء، وندى الخير والشر، وندى الصوت، وندى الحضر، فالندى هو البلل، وندى الخير هو المعروف، يقال: أندى فلان علينا ندى كثيرا، ويده ندية بالمعروف، وندى الصوت: بعد مذهبه، وندى الحضر: صحة جريه، واشتق النداء من ندى الصوت ناداه أي: دعاه بأرفع صوته.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. عن ابن عباس قال: دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود إلى الاسلام، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، فنزلت هذه الآية.
ب. وفي رواية الضحاك عنه: إنها نزلت في كفار قريش.
3. لما تقدم ذكر الكفار، بين سبحانه حالهم في التقليد، وترك الإجابة إلى الإقرار بصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيما جاء به من الكتاب المجيد.
4. اختلف في الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾:
أ. قيل: يعود إلى من من قوله: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ وهم مشركو العرب.
ب. وقيل: يعود إلى الناس من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة، كما قال: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾.
ج. وقيل: يعود إلى الكفار إذ قد جرى ذكرهم، ويصلح أيضا أن يعود إليهم، وإن لم يجر ذكرهم، لأن الضمير يعود إلى المعلوم، كما يعود إلى المذكور.
5. القائل لهم هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمون.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله﴾:
أ. قيل: أي: من القرآن وشرائع الاسلام.
ب. وقيل: في التحريم والتحليل.
7. ﴿قَالُوا﴾ أي الكفار: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾ أي: وجدنا ﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من عبادة الأصنام إذا كان الخطاب للمشركين، أو في التمسك باليهودية إذا كان الخطاب لليهود.
8. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ أي: لا يعلمون شيئا من أمور الدين، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أي: لا يصيبون طريق الحق، ومعناه: لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئا مما لزمهم معرفته، أكنتم تتبعونهم، أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم، فإذا صح أنه يجب الانصراف عن اتباعهم، فقد تبين أن الواجب اتباع الدليل، دون اتباع هؤلاء.
9. ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد، وركونهم إلى التقليد فقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أي: يصوت: ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ من البهائم ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ واختلف في تقدير الكلام وتأويله على وجوه:
أ. أولها: إن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إياهم أي: مثل الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه، المنعوق به من البهائم التي لا تفهم، وإنما تسمع الصوت، فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى، فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إلى الإيمان إلا السماع دون تفهم المعنى، لأنهم يعرضون عن قبول قولك، وينصرفون عن تأمله، فيكونون بمنزلة من لم يعقله، ولم يفهمه، وهذا كما تقول العرب: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى كخوفه من الأسد، فأضاف الخوف إلى الأسد، وهو في المعنى مضاف إلى الرجل، قال الشاعر:
çفلست مسلما، ما دمت حيا... على زيد، بتسليم الأميرé
أراد بتسليمي على الأمير، وهذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهو اختيار الجبائي والرماني والطبري.
ب. ثانيها: أن يكون المعنى مثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثل الذين كفروا ومثلك يا محمد، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: كمثل الأنعام المنعوق بها، والناعق الراعي الذي يكلمها، وهي لا تعقل، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول، ومثله قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾، وأراد الحر والبرد، وقال أبو دؤيب:
çعصيت إليها القلب، إني لأمرها... مطيع، فما أدري أرشد طلابهاé
أراد أرشد أم غي، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر، وهو قول الأخفش والزجاج، وهذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين: تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي، وتشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام، فحذف ما حذف للإيجاز، وأبقى في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي، وفيما أبقى دليل على ما ألقى.
ج. ثالثها: إن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال وما جرى مجراه من الكلام، فكما أن من دعا البهائم يعد جاهلا، فداعي الحجارة أشد جهلا منه، لأن البهائم تسمع الدعاء، وإن لم تفهم معناه، والأصنام لا يحصل لها السماع أيضا، عن أبي القاسم البلخي، وغيره.
د. رابعها: إن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، وهي لا تعقل ولا تفهم، كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة، ويكون المثل مصروفا إلى غير الغنم، وما أشبهها مما يسمع، وإن لم يفهم، وعلى هذا الوجه ينتصب دعاء ونداء بينعق، وإلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق:
çهم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم... وضحوا بلحم من محل، ومحرمé
والمعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم.
هـ. خامسها: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا، كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق، فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق، وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به، على مذهب العرب في القلب، نحو قولهم: طلعت الشعرى، وانتصب العود على الحرباء، والمعنى انتصب الحرباء على العود، وأنشد الفراء:
çإن سراجا لكريم مفخره... تجلى به العين إذا ما تجمرهé
أي: تجلى بالعين، وأنشد أيضا:
çكانت فريضة ما تقول، كما... كان الزناء فريضة الرجمé
والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنا، وأنشد:
çوقد خفت حتى ما تزيد مخافتي... على وعل في ذي المطارة عاقلé
أي: ما تزيد مخافة وعل على مخافتي، وقال العباس بن مرداس:
çفديت بنفسه نفسي، ومالي... وما الوك إلا ما أطيقé
أراد بنفسي نفسه.
10. ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين والتوبيخ، فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أي: صم عن استماع الحجة، بكم عن التكلم بها، عمي عن الابصار لها، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي، وقد مر بيانه في أول السورة أبسط من هذا: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي: هم بمنزلة من لا عقل له، إذ لم ينتفعوا بعقولهم.
11. ﴿أَولَو﴾: هنا واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام، والمراد به التوبيخ والتقريع، ومثل هذه الواو ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾، وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ، لأنه يقتضي ما الإقرار به وإنما دخلت الواو في مثل هذا الكلام، لأنك إذا قلت: أتبع ولو ضرك، فمعناه اتبعه على كل حال، وليس كذلك أتتبعه لو ضرك، لأن هذا خاص، وذاك عام، فدخلت الواو لهذا المعنى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/462.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها في الذين قيل لهم: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل.
ب. الثاني: أنها نزلت في اليهود، وهي قصّة مستأنفة، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنها في مشركي العرب وكفّار قريش، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾:
أ. على القول الأوّل؛ يكون المراد بالذي أنزل الله: تحليل الحلال، وتحريم الحرام.
ب. على القول الثاني يكون: الإسلام.
ج. على القول الثالث: التّوحيد والإسلام.
3. ﴿أَلْفَيْنَا﴾ بمعنى: وجدنا، ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ من الدّين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم في خطئهم وافترائهم.
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الرّاعي، وهذا قول الفرّاء، وثعلب، قالا جميعا: أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبّههم بالرّاعي، ولم يقل: كالغنم، والمعنى: ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الرّاعي أكثر من الصّوت، فلو قال لها الرّاعي: ارعي، أو اشربي، لم تدر ما يقول، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرّسول، فأضيف التّشبيه إلى الرّاعي، والمعنى في المرعيّ، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف، قال الشاعر:
çكانت فريضة ما تقول كما... كان الزّناء فريضة الرّجمé
المعنى: كما كان الرّجم فريضة الزّنى.
ب. الثاني: أنّ معناها: ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل النّاعق والمنعوق به، فحذف (ومثلنا) اختصارا، إذ كان في الكلام ما يدلّ عليه، وهذا قول ابن قتيبة، والزجّاج.
ج. الثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد، والذي ينعق هو الرّاعي، يقال: نعق بالغنم، ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا، قال ابن الأنباريّ: والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق، إلّا في الصّياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ إنّما وصفهم بالصّمّ والبكم، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا يسمع، وكذلك في النّطق والنّظر.
__________
(1) زاد المسير: 1/133.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلفوا في الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه عائد على ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ [البقرة: 165] وهم مشركو العرب، وقد سبق ذكرهم.
ب. ثانيها: يعود على ﴿النَّاسِ ﴾ في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [البقرة: 21] فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الالتفات مبالغة في بيان ضلالهم، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون.
ج. ثالثها: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام، فقالوا: نتبع ما وجدنا عليه أباءنا، فهم كانوا خير منا، وأعلم منا، فعلى هذا الآية مستأنفة، والكناية في ﴿لَهُمْ﴾ تعود إلى غير مذكور، إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور.
2. ثم حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الكسائي يدغم لام (هل) و(بل) في ثمانية أحرف: التاء كقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ [الأعلى: 16] والنون ﴿بَلْ نَتَّبِعُ﴾ والثاء ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ [المطففين: 36] والسين ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ [يوسف: 18] والزاي ﴿بَلْ زُيِّنَ﴾ [الرعد: 33] والضاد ﴿بَلْ ضَلُّوا﴾ [الأحقاف: 28] والظاء ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ﴾ والطاء ﴿بَلْ طَبَعَ﴾ [النساء: 155] وأكثر القراء على الإظهار، ومنهم من يوافقه في البعض، والإظهار هو الأصل.
3. ﴿أَلْفَيْنَا﴾ بمعنى وجدنا، بدليل قوله تعالى في آية أخرى ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [لقمان: 21]، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ [يوسف: 25]، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾ [الصافات: 69].
4. معنى الآية: أن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة فهم قالوا لا نتبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا، فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾
5. الواو في ﴿أَولَو﴾ واو العطف، دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع، وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ، لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.
6. تقرير هذا الجواب ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ من وجوه:
أ. أحدها: أن يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا، فإذن قد جوزت تقليده، وإن كان مبطلا فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل.
ب. ثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط وما اختار فيه ألبتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا هاهنا.
ج. ثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفا له، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلا.
7. إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
8. ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ لفظ عام، ومعناه الخصوص، لأنهم كانوا يعقلون كثيرا من أمور الدنيا، فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص.
9. ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ المراد أنهم لا يعلمون شيئا من الدين، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه.
10. لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170] ضرب لهم هذا المثل: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد.
11. للعلماء من أهل التأويل في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ طريقان:
أ. أحدهما: تصحيح المعنى بالإضمار في الآية، وذكروا وجوها:
• الأول: وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة، كأنه قال ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه.
• الثاني: مثل الذين كفروا في دعاتهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم، وما يجري مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم: فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم، فإذا كان لا شك أن هاهنا المحذوف هو المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي، وفيه سؤال، وهو أن قوله: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئا.
• الثالث: قال ابن زيد: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل، فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال يا زيد يسمع من الصدى: يا زيد، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء.
ب. الثاني: إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار، وفيه وجهان:
• أحدهما: أن يقول: مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضى على ذلك الراعي بقلة العقل، فكذا هاهنا.
• الثاني: مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة، فكذا التقليد عبث عديم الفائدة.
12. لما شبههم الله تعالى بالبهائم زاد في تبكيتهم، فقال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه، وبمنزلة العمي من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل، فصاروا كأنهم لم يشاهدوها، قال النحويون ﴿صُمٌّ﴾ أي هم صم وهو رفع على الذم، أما قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم قال العقل عقلان مطبوع ومسموع، ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/189.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ يعني كفار العرب، ابن عباس: نزلت في اليهود، الطبري: الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ عائد على الناس من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا﴾، وقيل: هو عائد على من في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله﴾ الآية.
2. ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي بالقبول والعمل، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ألفينا: وجدنا، وقال الشاعر:
çفألفيته غير مستعتب...ولا ذاكر الله إلا قليلاé
3. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ الالف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لان غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم.
4. قوة ألفاظ هذه الآية تعطى إبطال التقليد، ونظيرها: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الآية.
5. هذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في ﴿لَهُمْ﴾ عائد عليهم في الآيتين جميعا.
6. تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذمّ الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر، واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.
7. التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا، وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله.
8. التقليد في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم:
çوقلدوا أمركم لله دركم...ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعاé
9. التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.
10. فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.
11. على العالم فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين.
12. قال ابن عطية: أجمعت الامة على إبطال التقليد في العقائد، وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبى بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي، قال ابن درباس في كتاب الانتصار له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ ، فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل، كصنيع أهل الاهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في دينه، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد، والله يهدي من يريد.
13. قال ابن درباس: أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون، وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ إلى قوله: ﴿كَبِيرًا﴾ وقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ، ثم قال لنبيه: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ ثم قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ الآية، فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام، وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الامة، من قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا﴾ و﴿أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ بسبيل، لان هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِالله وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِالله مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾، فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح، ولم يجئ فيما جاؤوا به ذكر الاعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها.
14. قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الاغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة، فلم يزل الامر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الامر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم، وكان من درج من المسلمين من هذه الامة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف.
15. من نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين، فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم، أما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الإيجاز.
ب. وقال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى.
ج. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الحماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع.
د. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي.
هـ. قال الطبري: المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه.
17. في هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به، والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعاقا، أي صاح بها وزجرها، قال الأخطل:
çانعق بضأنك يا جرير فإنما...منتك نفسك في الخلاء ضلالاé
قال القتبي: لم يكن جرير راعى ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون: (أجهل من راعى ضأن)، قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم، والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد، وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر، ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمى، وقد تقدم في أول السورة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/211.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الضمير في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ راجع إلى الناس، لأن الكفار منهم وهم المقصودون هنا؛ وقيل: كفار العرب خاصة، و﴿أَلْفَيْنَا﴾ معناه: وجدنا.
2. الألف في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو العطف.
3. في هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الآية، وفي ذلك دليل على قبح التقليد، والمنع منه، والبحث في ذلك يطول، وقد أفردته بمؤلف مستقلّ سمّيته (القول المفيد في حكم التقليد) واستوفيت الكلام فيه في (أدب الطلب ومنتهى الأرب)
4. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ فيه تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم ـ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل؛ فلا تسمع إلّا دعاء ونداء، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسّره الزجّاج والفرّاء وسيبويه، وبه قال جماعة من السلف، قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق، وإنما شبهوا بالمنعوق به، والمعنى: مثلك يا محمد! ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى عليه، وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم ـ يعني الأصنام ـ كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي، وبه قال ابن جرير الطبري، وقال ابن زيد: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل؛ فيجيبه الصدى؛ فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه.
5. النعق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا، أي: صاح بها وزجرها، والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل؛ ويقولون: أجهل من راعي ضأن.
6. ﴿صُمٌّ﴾ وما بعده أخبار لمبتدأ محذوف، أي: هم صمّ بكم عمي.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/194.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لمّا نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ، ذمّهم بمتابعته، مع أنه عدوّ، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الردّ عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾ أي: وجدنا ﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أي: من عبادة الأصنام والأنداد.
2. قال الله تعالى مبكّتا لهم ﴿أَولَو﴾ أي: أيتّبعون آباءهم ولو ﴿كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ أي: من الدين ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ للصواب إذ جهلوه؟ قال الحراليّ: فيه إشعار بأنّ عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم، قال الرازيّ: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة، فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا، فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ إلى آخره.
3. قال الراغب: ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركّب فيه من المعارف، وذلك أن الله ميّز الإنسان بالفكر ليعرف به الحقّ من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الفعل، ليتحرى الحقّ والصدق والجميل، ويتجنب أضدادها، وجعل له من نور العقل ما يستغني به، فيدله على معرفة مطلوبه، فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بيّن حال الكفار ـ في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد ـ ليحذّر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته، ثمّ قال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء.
4. سؤال وإشكال: ما فائدة الجمع بين قوله ﴿يَعْقِلُونَ﴾ و﴿يَهْتَدُونَ﴾ وأحدهما يغني عن الآخر؟ والجواب(2).:
أ. (العاقل) يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، و الثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود هاهنا، و(المهتدي) قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم؛ فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون.
ب. ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.
5. ثمّ ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ [النحل: 60]، فقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أي يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها.
6. قوله تعالى: ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أي: بالبهائم التي لا تسمع إلّا دعاء الناعق ونداءه ـ الذي هو تصويت بها، وزجر لها ـ ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون، وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد، فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم، وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا، أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه.
ب. وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم، والمعنى مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعيّ، ومثله في الكلام (فلان يخافك كخوف الأسد) المعنى كخوفه الأسد، لأنّ الأسد معروف أنه المخوف.
ج. وقيل: أريد تشبيه حال الكافر ـ في دعائه الصنم ـ بحال من ينعق بما لا يسمعه، والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم ـ التي لا تفقه دعاءهم ـ كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنّه هو في دعاء ونداء، وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلّا العناء.
د. وقال ابن القيّم في (أعلام الموقعين): ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركّب، وأنّ تجعله من التشبيه المفرّق، فإن جعلته من المركّب: كان تشبيها للكفّار ـ في عدم فقههم وانتفاعهم ـ بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء، وإن جعلته من التشبيه المفرّق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/470.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم﴾ للناس وهم كفَّار، ﴿اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ﴾ في القرآن وفي العقول من الحجج العقليَّة من التوحيد، وتحليل السَّائبة ونحوها.
2. ﴿قَالُواْ﴾ لا نتَّبِع ما تزعُمون أنَّه من الله، ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا﴾ وجدنا ﴿عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ﴾ من عبادة الأصنام وتحريم السَّوائب، ويبعد أن يكون الضَّمير لليهود الذين دعاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإسلام، وأنَّ ما أنزل الله هو التوراة والإنجيل والقرآن؛ لأنَّ الثلاثة تدعو إلى الإسلام، ولو روي أنَّها نزلت في طائفة منهم دعاهم فقالوا: نتَّبع ما عليه آباءنا لأنَّهم أعلم منَّا، وإنَّما قلت: يبعد ذلك لأنَّ الآيات والضمائر قبل ذلك في غيرهم، وعلى هذه الرواية لو صحَّت يكون المراد بـ ﴿مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ﴾ [البقرة: 170] ما وجدوا عليه أسلافهم من اليهود، ممَّا يخالف الحقَّ البتَّة، أو كان حقًّا ونَسَخَهُ القرآنُ، وقيل: الضَّمير عائدٌ إلى (مَن يَّـتَّخِذُ)، أو إلى ما يفهم من أنَّ الذين يكتمون، أو إلى المشركين، ولا يلزم من النُّزول في قوم ردُّ الضَّمير إليهم، والغيبة بعد الخطاب تلويح بأنَّهم ليسوا من أهل الخطاب، فصرف عنهم إلى أهله بإخبار أهله عنهم.
3. ﴿أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ﴾ زيادة في كلامهم على طريق الاستفهام التوبيخي، والهمزة ممَّا بعد الواو، أو مستأنف توبيخ، أي: أيتَّبعون آباءهم ولو كان آباؤهم؟ ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ من أمور الدِّين التي خالفوها، وأمروا باتِّباعها، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ إلى الحقِّ.
4. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ من اليهود والنَّصارى وغيرهم ومشركي العرب، مع الذين يدعونهم إلى الإيمان من النبيء والمؤمنين، أي: مثل الكافرين مع المؤمنين كمثل الغنم مع راعيها كما قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يصوِّت من رعاة الغنم عليها، ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ أي: على ما لا يسمع وهو الغنم.
5. ﴿إِلَّا دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ صوتًا بلا فهم لمعناه لماذا صاح بها لِتمشيَ أو تقف، ولو فهمت منه على الاعتياد أنَّها تقف أو تمشي، وأيضًا هذا الفهم ليس فهمًا لوضع الصَّوت لمعناه، بل فهمًا لاعتياد ضربها أوَّلاً بالحجر لتقف أو تمشي، وإنَّما قدَّرتُ مع الذين يدعونهم إلى الإيمان بلفظ (مع) لا بالواو ليناسب قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾، فإنَّ المتقدِّم فيه الراعي كذلك، فإنَّ (مَعَ) أصلُها أَنْ تدخلَ على الراجح المصحوب، فالراجح المصحوب هو النبيء والمؤمنون، أو يقدَّر: (ومَثَل داعي الذين كفروا للإيمان كَمَثَل الذي ينعق)، أو يقدَّر: (مَثَل الذين كفروا كَمَثَل بهائم الذي ينعق).
6. وعلى كل حال فالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون يدعون الكفَّار إلى الإيمان ولا يعرفون المقصود لانهِماكِهم في التقليد، وكونهم أُمِّـيِّين وإعراضهم تجاهلاً كما يصيح الرَّاعي على غنمه، ولا تفهم حكمة موضوع الصَّوت ولو وقَفَتْ به أو مَشَت، فهم أضلُّ منها إذ تمتثل ولا يمتثلون، أو المعنى: مَثَل الذين كفروا في دعاء الأصنام كَمَثَل النَّاعق في غنمه، بل الناعق فوقهم؛ لأنَّ الغنم تسمع وتحسُّ بخلاف الأصنام.
7. والدعاء والنداء مترادفان فيما قيل، فلعلَّه كُرِّر تأكيدًا، كأنَّه قيل: أصواتًا كثيرةً، أو الدُّعاء: ما يدلُّ على معنى امش أو قف أو اشربي أو كلي أو نحو ذلك، من فعل أو اسم فعل أو اسم صوت، والنِّداء: ما يزاد على ذلك، كهاء وياء، ممَّا يتلفَّظ به في البهائم، ويبعد ما قيل: إنَّ الدعاء للقريب والنداء للبعيد، كقولٍ يُسمع، والنِّداء قد يُسمع وقد لا يُسمع.
8. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ هم صمٌّ بكم عمي، أي: لا يسمعون الحقَّ ولا ينطقون به ولا يرونه، ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ الموعظة والأحكام الشرعيَّة، أي: لا يدركونها، وليس المراد نفي عقل التكليف، بل هو على سبيل تنزيل وجوده منزلة العدم، لفقد ثمرته؛ لأنَّه لا يصحُّ ترتُّبه بالفاء كذا قيل، وفيه أنَّه لا مانع من أنْ يقال: هم صمٌّ بكمٌ عميٌ لا يدركون، فهم لذلك كمن لا عقل له كالمجنون.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/288.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أي واذا قيل لمتبعي خطوات الشيطان، الذين يقولون على الله بغير علم ولا برهان: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ قالوا: لا، نحن لا نعرف ما انزل الله، بل نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا، وهو ما تقلدناه من سادتنا وكبراءنا، وشيوخ علمائنا، لم يخاطب هؤلاء ببطلان ما هم عليه وتشنيعه خطابا لهم بل حكى عنهم حكاية بين فساد مذهبهم فيها، كأنه أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب، ولا يعقل الحجج والدلائل كما بين ذلك بالتمثيل الآتي، ولو كان للمقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية بأسلوبها لتنفيرهم من التقليد، فانهم في كل ملة وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألفوه مما ألفوا آباءهم عليه، وحسبك بهذا شناعة، اذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس وإن كبر عقله وحسن سيره، إذ ما من عاقل الا وهو عرضة للخطأ في فكره، وما من مهتد الا ويحتمل أن يضل في بعض سيره، فلا ثقة في الدين الا بما أنزل الله، ولا معصوم الا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله الى اتباع الاباء مع دعواه الايمان بالتنزيل، على انه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجب أن ينفره عن التقليد.
2. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ هذا حجة عقلية لا تنقض، والهمزة للإنكار والتعجب، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة ولو للغاية لا تحتاج الى جواب وجزاء، والتقدير أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال، وفي كل شيء ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين إذ يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله؟ أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل، هذا ما أفهمه، وقال البيضاوي: (أي لو كان آباؤهم جهلة لا يفكرون في أمر الدين ولا يهتدون الى الحق لاتبعوهم، وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر أو الاجتهاد وأما اتباع الغير في الدين اذا علم بدليل ما انه محق كالأنبياء والمجتهدين في الاحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله)، نقله عنه الالوسي بغير عزو ووصله بآية ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفيه انه لم يفرق في التقليد بين القطعي المعلوم من الدين بالضرورة، وهو لا يجوز التقليد فيه البتة، بل لا محل له وبين الامور الاجتهادية كاحكام القضاء وسياسة الامة وهذا هو الذي يشترط فيه القدرة على النظر والاستدلال، ولم يفرق بين اتباع النبي المعصوم فيما يبلغه عن الله تعالى لمن قامت عنده الحجة على نبوته فهو لا يكون الا محقا ـ وبين المجتهد الذي لا يمكن العلم بأنه محق الا بالوقوف على دليله وفهمه، وقوله تعالى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ في طلب السؤال عن أمر قطعي معلوم بالضرورة، وهو كون الرسل رجالا يوحى اليهم ـ لا عن رأي اجتهادي.
3. قال الجلال وغيره: لا يعقلون شيئا من أمر الدين، وتعقبه محمد عبده بقوله: عقل الشيء معرفته بدلائله، وفهمه بأسبابه ونتائجه، وأقرب الناس الى معرفة الحق الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ولو في غير الحق، لان الباحث المستدل اذا أخطأ يوما في طريق الاستدلال أو في موضوع البحث فقد يصيب في يوم آخر، لأن عقله يتعود الفكر الصحيح، واستفادة المطالب من الدلائل، وأبعد الناس عن معرفة الحق المقلدون، الذين لا يبحثون ولا يستدلون، لانهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم، وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم، فهم لا يوصفون بإصابة لان المصيب هو من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا يقول ان هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط، ولذلك ضرب لهم المثل في الآية الآتية بعد ما سجل عليهم الضلالة بعدم استعمال عقولهم.
4. سؤال وإشكال: ان الآية إنما تمنع اتباع غير من يعقل الحق، ويهتدي إلى حسن العمل والصواب في الحكم، ولكنها لا تمنع من تقليد العاقل المهتدي، والجواب: ومن أين يعرف المقلد ان متبوعه يعقل ويهتدي إذا هو لم يقف على دليله؟ فان هو اتبعه في طريقة الاستدلال حتى وصل الى ما وصل على بصيرة فان الآية لا تنعي عليه هذا، إذ هو استفادة للعلم محمودة لا تقليد في المعلوم أو المظنون لغيره، قال محمد عبده: رأيت لبعض السلف انه قال لو ان شخصا رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته وسمع قوله واقتدى به من غير نظر في نبوته يؤدي الى الوصول الى اعتقاد صحتها بالدليل لعد مقلدا، ولم يكن على بصيرة كما أمر الله المؤمن ان يكون.. وهذا مأخوذ من قوله تعالى ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ وقد فسروا البصيرة بالحجة الواضحة، ولا يشترط في صحة الايمان بنبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم النظر الاستدلالي المعروف عند المتكلمين، بل يكفي فيها اطمئنان النفس لصدقه بمعرفة حاله وحسن ما دعا اليه، ولكن مرتبة الدعوة إلى الله وإثبات دينه بالحجة لا يرتقي اليها كل مؤمن به صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. في قوله تعالى ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ بحث، فقد يشكل هذا العموم فيه على بعض الافهام، وقد بين محمد عبده له ثلاثة أوجه:
أ. احدها: ان معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به، بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث وهو ما مر.
ب. ثانيها، أنه جار على طريقة البلغاء في المبالغة بجعل الغالب أمرا كليا عاما، يقولون في الضال في عامة شؤونه: انه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب، ويقولون في البليد: انه لا يفهم شيئا، وهذا لا ينافي أن يعقل الاول بعض الاشياء ويفهم الثاني بعض المسائل.
ج. ثالثها، انه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل، وإنما المراد منها: أيتبعون آباءهم لذواتهم كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون؟ كانه يقول ان اتباع الشخص لذاته منكر لا ينبغي، وهذا قول مألوف، فمن يقول أنا أتبع فلانا في كل ما يعمل، يقال له أتتبعه ولو كان لا يعمل خيرا؟ أي ان من شأن من يتبع آخر لذاته لا لكونه محسنا ومصيبا أن يتبعه في كل شيء وإن كان كل عمله باطلا، لأنه لا يفرق بين الحق والباطل والخير والشر إلا من ينظر ويميز، وهذا لا يتبع أحدا لذاته كيفما كان حاله.
6. بعدما بين تعالى فساد ما عليه المقلدون من اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير نظر ولا استدلال، ضرب لهم مثلا زيادة في تقبيح شأنهم، والزراية عليهم، بقوله ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وزجرها عن الحمى فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار، شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سببا للإقبال ولا للادبار ومعنى المثل هنا كما قال سيبويه أن صفة الكفار وشأنهم كشأن الناعق بالغنم ولا يقتضي هذا أن يكون كل جزء من المشبه كمقابله من المشبه به، وهو ما سماه علماء البيان بعد سيبويه بالتمثيل، وفرقوا بينه وبين تشبيه متعدد بمتعدد.
7. الكفر جحود الحق والاعراض عن النظر في الدليل عليه عند الدعوة اليه، وفرق بينه وبين الضلال، فان الضال من أخطأ طريق الحق مع طلبه، أو جهله فلم يعرفه بنفسه ولا بدلالة غيره، وأما الكافر فهو يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله وآياته فلا ينظر فيها، فهو كالحيوان يرضى بأن لا يكون له فهم ولا علم، بل يقوده غيره ويصرفه كيف شاء، فهو مع من قلدهم من الرؤساء كالغنم مع الراعي تقبل بدعائه وتنزجر بندائه، مسخرة لإرادته وقضائه، ولا تفهم لماذا دعا ولماذا زجر، فدعوتها الى الرعي وإلى الذبح سواء، وكذلك شأن كل من يسلم اعتقادا بلا دليل، ويقبل تكليفا بغير فقه ولا تعليل.
8. الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل ـ ولو صالحا ـ بغير فقه، فهو غير مؤمن، لأنه ليس القصد من الايمان أن يذلل الانسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه ان يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه، فيعمل الخير لأنه يفقه انه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته في دينه ودنياه، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بانهم ﴿صُمٌّ﴾ لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ﴿بِكُمُ﴾ لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم ﴿عَمِيَ﴾ لا ينظرون في آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم انه الحق ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ مبدأ ما هم فيه ولا غايته كما يطلب من الانسان، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ولذلك اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون، فالعاقل لا يقلد عاقلا مثله، فاجدر به أن لا يقلد جاهلا ضالا هو دونه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/92.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. سجل الله تعالى عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحى ولا تتبعوا من دونه أولياء ـ جنحوا إلى التقليد، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل.
2. ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته: أي حتى لو تجردوا من دليل عقلي أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.
3. في الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد، فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين ـ فهذا ليس بتقليد، بل اتباع لما أنزل الله، كما قال تعالى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط.
4. بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه، أو حجة يركنون إليها، أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم، وسخف عقولهم، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها، وتنزجر بزجره، مسخّرة لإرادته، ولا تفهم لماذا دعا، ولما ذا زجر، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه، وكالعمى في الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا: من فقد حسا فقد فقد علما.
5. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره، وهى لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.
6. في الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه، ويعرفه بنفسه، ويقتنع بصحته، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله، ويترك الشر لأنه يضره في دينه ودنياه.
7. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/45.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ سواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام، أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا.. سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك.
2. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، أو لو كان الأمر كذلك، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم؟ فأي جمود هذا وأي تقليد!؟
3. ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني! بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ! صم بكم عمي، ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون، ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون، فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون، وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/156.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هؤلاء الذين لم يستمعوا لنداء الحق، ولم يستجيبوا لدعوة العقل، فاتبعوا خطوات الشيطان، وأسلموا زمامهم ليده ـ هؤلاء قد ألغوا عقولهم، وباعوها بيع المفلسين.. بلا ثمن.. فإذا دعاهم داعى الحق: أن آمنوا بما أنزل الله، قالوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ هكذا يريحون أنفسهم من عناء التفكير والنظر، وحسبهم أن يقفوا آثار آبائهم، وأن يرثوا عنهم عقيدتهم، ويتلقوا منهم دينهم، كما يرثون ما خلّفوا من متاع، وكما يتلقون ما استقر فيهم من تقاليد وعادات!
2. المجتمع الذي يحيا هذه الحياة، مجتمع مصيره إلى الضياع والبوار، لأنه أشبه بالبركة الراكدة، التي لا يلبث ماؤها طويلا حتى يفسد ويتعفّن! أما المجتمعات التي يكتب لها النماء والازدهار فهي المجتمعات التي يتجدد شبابها بالعمل المادي والعقلي، فتفيد من تجارب أسلافها، وتضيف إلى تلك التجارب جديدا يجلو صدأها، وينمّى ذاتها، ويستولد الجديد الكريم منها.
3. ماذا على هؤلاء الذين يدعون إلى الإيمان بما أنزل الله، لو نظروا بعقولهم في هذا الذي يدعون إليه، فإن صحّ في عقولهم، واستقام مع الحق البعيد عن الهوى، اتبعوه عن علم، ولا عليهم أن يكون موافقا أو مخالفا لما عليه آباؤهم.. فإن كان موافقا له، زاد إيمانهم إيمانا، ويقينهم يقينا، وإن كان مخالفا وقوا أنفسهم شرّ الهاوية التي كانوا سيهوون إليها، لو أنهم اقتفوا آثار آبائهم، وسلكوا مسلكهم! وفى قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا، فجمدوا على ما هم فيه، وأبوا أن يتحولوا عنه، ولو زلزلت الأرض بهم..
4. إنهم ـ وهذا شأنهم ـ لا يستمعون لداع، ولا يستجيبون لمناد، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه، يهتف به: أن أقبل، أو اتجه يمينا أو يسارا، أو ما أشبه ذلك، فلا تترجم هذه المعاني في سمعه إلا على أنها أصوات هائمة، لا معقول لها عنده، فتسقط الكلمات على أدنه كما تسقط الحجارة على الحجر! ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ فلقد سدّت عليهم منافذ العلم، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة.
5. فى قوله تعالى: ﴿يَنْعِقُ﴾ إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هي بالنسبة إليه نعيق، ولهذا عبّر عنها بما هي صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/189.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ الأحسن أن يكون عطفا على قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، والمسلمون محاشون عن مجموع ذلك.
2. في هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرّموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.
3. ﴿بَلْ﴾ إضراب إبطال، أي أضربوا عن قول الرسول، ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، إضراب إعراض بدون حجة إلّا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم.
4. في ضمير ﴿لَهُمْ﴾ التفات من الخطاب الذي في قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 168]، والمراد بما ألفوا عليه آباءهم، ما وجدوهم عليه من أمور الشرك كما قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23] والأمة: الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام.
5. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ كلام من جانب آخر للرد على قولهم ﴿نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يقصد منه الرد ثم التعجيب، فالهمزة مستعملة في الإنكار كناية وفي التعجيب إيماء، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي.
6. ﴿لَوْ﴾ للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق، تقديره: لاتّبعوهم، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل العلم بأن المستفهم عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهم، ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازا و(لو) في مثله تسمى وصلية وكذلك (إن) إذا وقعت في موقع (لو)
7. للعلماء في معنى الواو وأداة الشرط في مثله ثلاثة أقوال(2). :
أ. الأول: إنها للحال وإليه ذهب ابن جني والمرزوقي والزمخشري، قال الزمخشري: في هذه الآية وفي نظيرتها في سورة المائدة: (الواو للحال)، ثم ظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الحال في مثله من الجملة المذكورة قبل الواو وهو الذي نحاه البيضاوي هنا ورجحه عبد الحكيم، وذهب الزمخشري إلى أن الحال من جملة محذوفة تقديرها أيتبعونهم ولو كان آباؤهم، وعلى اعتبار الواو واو الحال فهمزة الاستفهام في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ ليست مقدمة من تأخير كما هو شأنها مع واو العطف والفاء وثم بل الهمزة داخلة على الجملة الحالية، لأن محل الإنكار هو تلك الحالة ولذلك قال في (الكشاف) في سورة المائدة: (الواو واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار) وقدر هنا وفي المائدة محذوفا هو مدخول الهمزة في التقدير يدل عليه ما قبله فقدره هنا أيتبعون آباءهم وقدره في سورة المائدة أحسبهم ذلك، وهذا اختلاف في رأيه، فمن لا يقدر محذوفا يجعل الهمزة داخلة على جملة الحال.
ب. الثاني: أن الواو للعطف، قيل على الجملة المتقدمة وإليه ذهب البيضاوي، ولا أعلم له سلفا فيه، وهو وجيه جدا أي قالوا بل نتبع ولو كان آباؤهم، وعليه فالجملة المعطوفة تارة تكون من كلام الحاكي كما في الآية أي يقولونه في كل حال ولو كان آباؤهم إلخ فهو من مجيء المتعاطفين من كلامي متكلمين عطف التلقين كما تقدم في قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: 124]، وتارة تكون من كلام صاحب الكلام الأول كما في بيت (الحماسة) وبيت (الكتاب) وتارة تكون من كلام الحاكي تلقينا للمحكي عنه وتقديرا له من كلامه كقول رؤبة:
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن...كان فقيرا معدما قالت وإن
وقيل العطف على جملة محذوفة ونسبه الرضي للجرميّ وقدروا الجملة بشرطية مخالفة للشرط المذكور، والتقدير: يتبعونهم إن كانوا يعقلون ويهتدون ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكذلك التقدير في نظائره من الشواهد وهذا هو الجاري على ألسنة المعربين عندنا في نظائره لخفة مئونته.
ج. الثالث: مختار الرضي أن الواو في مثله للاعتراض إما في آخر الكلام كما هنا وإما في وسطه، وليس الاعتراض معنى من معاني الواو ولكنه استعمال يرجع إلى واو الحال، فأما الشرط المقترن بهذه الواو فلكونه وقع موقع الحال أو المعطوف أو الاعتراض من كلام سابق غير شرط، كان معنى الشرطية فيه ضعيفا، لذلك اختلف النحاة في أنه باق على معنى الشرط أو انسلخ عنه إلى معنى جديد فظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الشرطية باقية ولذلك جعلا يقرّبان معنى الشرط من معنى الحال يومئان إلى وجه الجمع بين كون الجملة حالية وكونها شرطية، وإليه مال البيضاوي هنا وحسّنه عبد الحكيم وهو الحق، ووجه معنى الشرطية فيه أن الكلام الذي قبله إذا ذكر فيه حكم وذكر معه ما يدل على وجود سبب لذلك الحكم وكان لذلك السبب أفراد أو أحوال متعددة منها ما هو مظنة لأن تتخلف السببية عنده لوجود ما ينافيها معه فإنهم يأتون بجملة شرطية مقترنة بأنّ أو لو دلالة على الربط والتعليق بين الحالة المظنون فيها تخلف التسبب وبين الفعل المسبب عن تلك الحالة، لأن جملة الشرط تدل على السبب وجملة الجزاء تدل على المسبب ويستغنون حينئذ عن ذكر الجزاء لأنه يعلم من أصل الكلام الذي عقّب بجملة الشرط.
8. إنما خص هذا النوع بحرفي (إن ـ ولو) في كلام العرب لدلالتهما على ندرة حصول الشرط أو امتناعه، إلّا أنه إذا كان ذلك الشرط نادر الحصول جاؤوا معه بأنّ كبيت عمرو، وإذا كان ممتنع الحصول في نفس الأمر جاؤوا معه بلو كما في هذه الآية، وربما أتوا بلو لشرط شديد الندرة، للدلالة على أنه قريب من الممتنع، فيكون استعمال لو معه مجازا مرسلا تبعيّا.
9. ذهب جماعة إلى أن (إن ـ ولو) في مثل هذا التركيب خرجتا عن الشرطية إلى معنى جديد، وظاهر كلام الزمخشري في قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ [الأحزاب: 52] أن لو فيه للفرض؛ إذ فسره بقوله: مفروضا إعجابك حسنهن، وقال الزمخشري هنا إن الشرط في مثله لمجرد التسوية وهي لا تقتضي جوابا على الصحيح لخروجها عن معنى الشرطية وإنما يقدرون الجواب توضيحا للمعنى وتصويرا له اه، وسمّى المتأخرون من النحاة (إن ـ ولو) هاتين وصليّتين، وفسره التفتازاني في (المطوّل) بأنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد.
10. إذ قد تحققت معنى هذا الشرط فقد حان أن نبين لك وجه الحق في الواو المقارنة له المختلف فيها ذلك الاختلاف الذي سمعته، فإن كان ما بعد الواو معتبرا من جملة الكلام الذي قبلها فلا شبهة في أن الواو للحال وأنه المعنى المراد وهو الغالب، وإن كان ما بعدها من كلام آخر فهي واو العطف لا محالة عطفت ما بعدها على مضمون الكلام الأول على معنى التلقين، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزمر: 43] وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فإن مجيء همزة الاستفهام دليل على أنه كلام آخر، وكذلك بيت: (قالت بنات العم) المتقدم، وإن كان ما بعدها من جملة الكلام الأول لكنه منظور فيه إلى جواب سؤال يخطر ببال السامع فالواو للاستئناف البياني الذي عبر عنه الرضي بالاعتراض مثل قول كعب بن زهير:
çلا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم...أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويلé
فإن موقع الشرط فيه ليس موقع الحال بل موقع رد سؤال سائل يقول: أتنفي عن نفسك الذنب، وقد كثر القول في إثباته.
11. ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ أي لا يدركون شيئا من المدركات، وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطإ في اتباع آبائهم من غير تبصر ولا تأمل، وتقدم القول في كلمة شيء.
12. متعلق ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ محذوف أي إلى شيء، وهذه الحالة ممتنعة في نفس الأمر؛ لأن لآبائهم عقولا تدرك الأشياء، وفيهم بعض الاهتداء مثل اهتدائهم إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى بعض ما عليه أمورهم من الخير كإغاثة الملهوف وقرى الضيف وحفظ العهد ونحو ذلك، ولهذا صح وقوع (لو) الشرطية هنا، وقد أشبعت الكلام على (لو) هذه؛ لأن الكلام عليها لا يوجد مفصلا في كتب النحو، وقد أجحف فيه صاحب (المغني).
13. ليس لهذه الآية تعلق بأحكام الاجتهاد والتقليد؛ لأنها ذم للذين أبوا أن يتبعوا ما أنزل الله، فأما التقليد فهو تقليد للمتبعين ما أنزل الله.
14. لما ذكر الله تعالى تلقيهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170]، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ [البقرة: 165] الآية، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من ﴿النَّاسِ﴾ في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا﴾ وعين المراد من ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ في قوله: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [البقرة: 165]، وعين الناس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168]، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ [البقرة: 170]، عقّب ذلك كله بتمثيل فظيع حالهم إبلاغا في البيان واستحضارا لهم بالمثال، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: 17]، وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك.
15. المثل هنا لمّا أضيف إلى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كان ظاهرا في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلّا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه، فكلّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء: داع ومدعو ودعوة، وفهم وإعراض وتصميم، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبها بجزء من أجزاء المشبه به، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزته الآية إيجازا بديعا، والمقصود ابتداء هو تشبيه حال الكفار لا محالة، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته، وللكفار هنا حالتان: إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام، و الثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام، وقد تضمنت الحالتين الآية السابقة وهي قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: 170] وأعظمه عبادة الأصنام، فجاء هذا المثل بيانا لما طوي في الآية السابقة.
16. سؤال وإشكال: مقتضى الظاهر أن يقال: ومثل الذين كفروا كمثل غنم الذي ينعق؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يشبهه داعي الكفار فلما ذا عدل عن ذلك؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في دعائه لهم بالذي ينعق؟ والجواب: كلا الأمرين منتف؛ فإن قوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ﴾، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: 17]، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالا، وأيّها ذكرت في جانب المركب المشبّه والمربة المشبه به أجزأك، وإنما كان الغالب أن يبدؤوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ وقد لا يلتزمون ذلك، فقد قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ [آل عمران: 117] الآية، والذي يقابل ﴿مَا يُنْفِقُونَ﴾ في جانب المشبه به هو قوله: ﴿حَرْثَ قَوْمٍ﴾ [آل عمران: 177] وقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ [البقرة: 261] وإنما الذي يقابل ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلا وقال تعالى: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ [البقرة: 264] الآية، والذي يقابل الصفوان في جانب المشبه هو المال المنفق لا الذي ينفق، وفي الحديث الصحيح (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء) إلخ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلا، وهو استعمال كثير جدا.
17. بناء على ذلك؛ فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم، أو تشبيه حال المشركين في إقبالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم، وأيّا ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيكون قوله: ﴿إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك، ولأن يكون احتراسا في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رعاتها فهي لا تسمع إلّا دعاء ونداء، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذ مثل قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74] ثم قال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 74].
18. جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين، وعندي أن الجمع بينهما ممكن، ولعله من مراد الله تعالى، فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حمّلته من الهيئة كلها، وهيئة المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على دينهم كما هو مدلول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ﴾ [البقرة: 170] الآية، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يسمع، فالنبي يدعوهم كناعق بغنم لا تفقه دليلا، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئا، ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.
19. النعق نداء الغنم وفعله كضرب ومنع ولم يقرأ إلّا بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منع أقيس، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريرا بأن لا طائل في هجائه الأخطل:
çفانعق بضأنك يا جرير فإنما...منّتك نفسك في الظلام ضلالاé
20. الدعاء والنداء قيل بمعنى واحد، فهو تأكيد ولا يصح، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد، وقيل الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح، والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام، أو المراد به هنا نداء الرّعاء بعضهم بعضا للتعاون على ذود الغنم، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ [الأعراف: 43] في سورة الأعراف.
21. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومة من ينعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهدا على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط: هو أعمى، إلّا أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكما بالمشركين فقيل: صم بكم عمي كقول إبراهيم: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ [مريم: 42].
22. ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان، فإن كان ذلك راجعا للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي، أي إن تأملتم وجدتموهم لا يعقلون؛ لأنهم كالأنعام والصمّ والبكم إلخ، وإن كان راجعا للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها، ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/106.
(2) ذكر تفاصيل لغوية كثيرة محلها كتب اللغة، ولذلك اختصرتها هنا.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الله تعالى أن الشيطان لا يكون منه خير قط، بل سوء وفحشاء، وما لا يكون فطريا، فقال تعالى معللا النهى عن اتباع خطواته: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
2. الأمر هنا من الشيطان هو الغواية القوية، كما قال مخاطبا ربه: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص]، ولما كان أهل الغواية يطيعونه شبه بالأمر فعبر عنه بالأمر، والسوء: هو ما يسوء وتكون عاقبته السوأى، سواء أكانت السوأى في النفس، فتسوء الأنفس، أم كانت الإساءة للمجتمع، فالسوء هو ما يكون فيه فساد وهو ضد المصلحة التي يأمر بها الله تعالى، وإذا كان إغواء الشيطان بما يسوء خاصة وعامة بلا ريب يكون مقتا للنفس وللجماعة وللأخلاق أن تتبع خطواته؛ لأنها إلى ضرر لا محالة.
3. يأمر الشيطان أيضا بالفحشاء أي يغوى بها، والفحشاء من الفحش والأمر الفاحش، وهو الذي يكون خارجا عن الفطرة المستقيمة،؛ إذ الأمر الفاحش هو الزائد زيادة كبيرة، والفحشاء باعتبارها خروجا على الفطرة الإنسانية تعم المعاصي كلها من زنى وشرب خمر، وسعى في الأرض بالفساد، والإيقاع بين الناس بالنميمة والغيبة، وغير ذلك من المعاصي النفسية واللسانية والاجتماعية، وتطلق في كثير من آيات القرآن على الزنى فقط، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء]، وتطلق الفحشاء على المعاصي الكبيرة التي تزيد عن المعقول، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل].
4. الشيطان لا يأمر إلا بما فيه مفسدة تسوء الآحاد والجماعات وإلا بالمعاصي التي تفحش حتى لا يستسيغها عاقل إلا من يكون الشيطان قد أغواه.
5. يأمر الشيطان أيضا، أي يغوى ويضل على ما فسرنا معنى الأمر، بأن يحرموا على أنفسهم ما لا يعلمون أن الله حرمه، ويقولون على الله تعالى ما لا يعلمون له دليلا من عند الله؛ ولذا قال تعالى في الأمر الثالث الذي يغوى به الشيطان بعد إغوائه بالسوء والفحشاء: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أغواهم الشيطان بأن يحرموا على أنفسهم بعض الغنم من الإبل والبقر والنعم يحرمون أنواعا منها، ويزعمون أن الله تعالى حرمها عليهم من غير حجة من عند الله، كما أشركوا وادعوا أن الله تعالى لا يكره ذلك، ولو كان يكرهه لمنعنا، وقال الله تعالى في ذلك: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام]، فالشيطان كما سول لهم الشرك بالله تعالى سول لهم أيضا أن يحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله ونسبوا ذلك لله تعالى، وهذا تطاول على الله تعالى كتطاول الشرك؛ إذ يقولون على الله ما لا يعلمون أنّه قاله وحكم به، بظن آثم من عندهم، ولقد قال الله في جملة ما حرم: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف].
6. نرى من هذا أن الشيطان يأمر بنقيض ما يأمر الله تعالى، وأن الشيطان يغرى بالظنون الفاسدة التي لا أصل لها، وإن من أقبح ما يقع فيه الإنسان أن يحل ويحرم وينسب إلى الله تعالى قوله كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل].
7. إغواء الشيطان لا حدود له فمخارفه مختلفة متكاثرة وصراط الله المستقيم واحد؛ ولذا يغرى أتباعه باتباع الباطل بكل الطرق يغريهم بالإشراك هم وآباؤهم، ويغريهم بتحريم ما أحل الله هم وآباؤهم، ويظهره لهم كأنه الحق جليا بينا، ولقد قال تعالى في ذلك: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.
8. نهانا سبحانه وتعالى أن نتبع خطوات الشيطان، وبين لنا أنه يأمرنا بالسوء والفحشاء وأن نفترى على الله الكذب، وأشار سبحانه وتعالى إلى أثره في إغواء المشركين، وبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة إغواء شديدا آخر لهم، وهو اتباع الآباء من غير فكر ولا عقل يتدبر فعلهم وأقوالهم، يتدبر ما أثر عنهم أهو حق فيتبع أم باطل فينبذ، أو هو صدق فيقبل أم كذب فيرد، أو هو حسن فيقتدى بهم أم هو قبيح عليهم فينكره عليهم، لا يفكرون في شيء من ذلك، بل إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، وألفينا معناها وجدنا آباء كانوا واستمروا إلى أن جاؤوا وهم تابعون لهم، يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله، وما أنزل الله تعالى يحمل حجته في ذاته؛ لأنه أنزله الله ذو الجلال الخالق الرزاق ذو القوة المتين، فدليله معه لأنه من عند الله وكفى بهذا دليلا مبينا، ولكنهم يعرضون عن هذا الأمر الموجّه للحق إلى باطل لا دليل فيه.
9. ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، يضربون عن طلب اتباع الله ويستبدلون به اتباع ما وجدوا عليه آباءهم من غير حجة قائمة هادية، ولا دليل مرشد موجه، إن اتباع الآباء وحده ليس حجة، وكونهم استمروا عليه ليس دليلا مرشدا، وإن اتباع الآباء إنما يكون حجة إذا كان عن علم وبينة، وإذا علمتم أنه كان عن علم وبينة فيكون اتباعهم للحق في ذاته لا لآبائهم لمجرد أنهم آباؤهم، ولكنهم يتبعونهم من غير بينة ولا دليل، بل لمجرد التقليد الذي لا يهدى ولا يرشد.
10. لذا قال تعالى منددا بتقليدهم الذي أضلهم: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، الهمزة للاستفهام التوبيخي الذي هو إنكار ما وقع منهم فقد اتبعوا على غير عقل يوجه، ولا على اعتقاد هداية قائمة، والهمزة داخلة على فعل محذوف، أي أيتبعونهم، ولو كانوا لا يعقلون ولا يدركون بعقولهم أي شيء في هذا الاتباع، يتبعونهم في إشراكهم بالله، ويتبعونهم في تحريم ما أحل الله من طيبات من غير أي سبب موجب، ولا أي دليل مرشد، ولا هو فيه هداية، بل فيه ضلال مبين، لم يكن عند آبائهم دليل على ما هم عليه عقلوه، ولم يكن عندهم داعية حق يهتدون بهديه.
11. ذكر قوله ﴿لَا يَهْتَدُونَ ﴾ بجوار قوله ﴿لَا يَعْقِلُونَ ﴾ لاختلاف موضوعهما، فموضوع العقل تفكّر وتدبّر وطريقه المنطق والبرهان، وموضوع الاهتداء اتباع لهاد مرشد كنبى مرسل، فما كان لهم عقل مفكر ولا هاد يهتدون بهديه، ولقد قسم الغزالي أهل الإيمان إلى قسمين: قسم يدرك بالبرهان ويسير بالقسط المستقيم، وقسم يطمئن قلبه إلى الحق ويرتضيه بإشراق قلبه بنور الحكمة والفطرة المستقيمة، أو باتباع هاد يهديه ويوجهه ويهتدى به، وقد فقد هؤلاء الأمرين فليس لهم عقل يتدبر ولا هاد يهدى إلى التي هي أقوم؛ ولذلك استنكر الله تعالى على المشركين اتباع آبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله تعالى حيث حرموه ونسبوا التحريم إلى الله تعالى من غير حجة ولا سلطان مبين، إن ذلك مثل قوله تعالى في موضع آخر من الذكر الحكيم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، [المائدة] ومثل قوله تعالى عنهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف].
12. هذا النص السامي الكريم يدل على أن التقليد في العقائد لا يجوز، وشذ من قال غير ذلك، وعلى الذين لا يعرفون دليلا أن يسألوا أهل العلم بذلك كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل]؛ ولذا يجب على العلماء أن يبينوا للناس عقائدهم، لا بطريق علم الكلام، بل بطريق القرآن، فدليل القرآن هو الغذاء والدواء الشافي، وأدلة علم الكلام كالدواء الذي يعطى بقدر لمن أصيبوا في عقيدتهم.
13. إن المشركين الذين يتبعون خطوات الشيطان في عقيدتهم، ويتبعونه فيما يحلون وما يحرمون، ويقولون نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون بسبب ما أركسوا أنفسهم فيه قد صموا أنفسهم عن سماع الحق، ولذا قال سبحانه في حالهم: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾.
14. تكلم المفسرون في هذا التمثيل البليغ:
أ. فقال بعضهم: إن ذلك التمثيل هو تمثيل لدعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين كفروا كمثل الراعي الذي يرعى غنمه، فينعق: أي فيصيح بالغنم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء زاجرا لينتقل بهم من كلإ كلإ، ولكن هذا التشبيه لا يليق بدعوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنها لا تسمى بهذا الاسم وهو النعيق.
ب. وقال بعضهم: إن ذلك تشبيه للذين كفروا في دعوتهم إلى أصنامهم التي لا تملك نفعا ولا ضرا، كمثل الراعي الذي ينادى غنما لا تسمع إلا دعاء ونداء ما يزجره في الانتقال من كلإ كلإ، وهذا تشبيه حسن في ذاته، ولكن القرآن نسق واحد في البيان تأخذ كلماته بعضها بحجز بعض، وربما لا يتقارب هذا التفسير مع قوله بعد ذلك ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لأن هذه أوصاف للكافرين وليست أوصافا للغنم.
ج. بقى التخريج الثالث للمثل وهو بأن يشبه الذين كفروا وما معهم من غنم يرعونها، يشبهون بالبهائم التي تنعق بأن تصيح بما لا يسمع إلا دعاء إن كانوا في كرب، ونداء إن كانوا بعيدا.
15. الكافرون مع غنمهم مثلهم كناعق ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فأصوات الغنم تتبادل بنعيق لا يفهم، وبصياح مجاوب للنداء، فالجميع يتصايح بالنعيق، والجميع لا يفهم إلا دعاء ونداء، ولذا صح أن يوصف المشركون بالأوصاف التي ذكرها الله عنهم، فقال ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أي أنهم في عدم سماعهم للحق الذي دعوا إليه كالصم الذين لا يسمعون، وهو تشبيه حالهم المعنوية في عدم سماعهم لدعوة الحق إذا نادى المنادى به بحال الأصم الذي لا يسمع شيئا، وفى عدم نطقهم بالحق، واستجابتهم له بحال الأبكم الذي لا يتكلم، شبه عدم إدراكهم الحق الذي بدت معالمه، وظهر نوره بحال الأعمى الذي لا يبصر ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج].
16. ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ ما يدعون إليه، ويتفكرون فيه ويبدون وكأنهم لم يسمعوه، ولا يفكرون في الاستجابة بالإذعان والتسليم ولا يستضيئون بنوره، فتح الله قلوبنا للحق إذ نسمع داعيه، ورطب ألسنتنا بالحق لنجيب نداءه، وأنار بصرنا وبصيرتنا لنراه إنه سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/501.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ يعود على كل من قلد الغير بلا حجة ودليل، وترك قول الله والرسول بقول الآباء، والمراد بما انزل الله كل ما قامت عليه الدلائل والبراهين، وآمنت به العقول السليمة.
2. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾، الهمزة للتوبيخ، والواو للحال، والمعنى أيتبعون الآباء حال كونهم لا يعقلون شيئا من أمور الدين..
3. ليس المراد من قوله ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ نفي العقل والفهم عنهم في كل شيء، وان كان الظاهر يعطي ذلك، بل المراد نفي التعقل في أمور الدين فقط، لأن الكلام في خصوص الأمور الدينية.
4. التقليد كفكرة، ومن حيث هو، لا يذم ولا يمدح، ولا يحكم عليه بحسن ولا بقبح بوجه عام، بل يختلف باختلاف أنواعه التالية:
أ. التقليد الذي يرجع الى العدوى النفسية، والغريزة التي تشاهد في الإنسان، والحيوان على السواء، من ذلك صياح الديكة حين تسمع صوت أحدها، ونهيق الأحمرة حين ينهق واحد منها.. وكذلك الحال بالنسبة الى الإنسان، يصفق واحد للخطيب، فيقلده الآخرون من غير شعور، حتى ولو لم يفهموا شيئا مما أراد، وينظر شخص الى جهة معينة، فيصوب النظر اليها كل من يراه من غير قصد، وهذا النوع من التقليد لا يوصف بحسن ولا بقبح، لأنه خارج عن دائرة الشعور والارادة.
ب. ما جرت عليه العادة في طريقة المحاورات والمجاملات، وفي كيفية اللباس، وما الى ذلك مما تستدعيه الحياة الاجتماعية، ويشترك فيه الكبير والصغير، والعالم والجاهل، وهذا النوع من التقليد يوصف بالحسن والقبح تبعا لما يراه الناس.
ج. تقليد الجاهل للعالم في الشؤون الدنيوية، كالطب والهندسة، والزراعة والصناعة، وما اليها من الرجوع الى أهل الخبرة والاختصاص، وهذا التقليد حسن، بل هو ضرورة لازمة تفرضها الحياة الاجتماعية، ولولاه لاختل النظام، وتعطلت الأعمال، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يعلم كل شيء، ويحيط بكل ما يحتاج اليه، وقد كان الإنسان وما زال بحاجة الى التعاون، وتبادل الخدمات.
د. تقليد المجتهد لمجتهد مثله في الأمور الدينية، فإنه مذموم عقلا وعرفا، ومحرّم شرعا، لأن ما علمه هو حكم الله في حقه، فلا يجوز تركه بقول غيره.. وأي عاقل كفؤ تقوم الحجة لديه فينكرها بحجة سواه؟.. وأي عالم يرغب عن قول الله ورسوله المعصوم الى قول من يخطئ ويصيب؟.
هـ. تقليد الجاهل للمجتهد العادل في المسائل الدينية الفرعية، كأحكام العبادات، والحلال والحرام، والطهارة والنجاسة، وصحة المعاملات، وما اليها، وهذا التقليد واجب عقلا وشرعا، لأنه تقليد لمن أخذ علمه من الدليل والحجة، تماما كتقليد المريض الجاهل بدائه ودوائه للعالم بهما.. ان الجاهل مكلف بالاحكام، ولا طريق له الى الامتثال إلا بالرجوع الى العالم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾، أجل، إذا صلى الجاهل وصام تبعا لآبائه ومن اليهم، لا تقليدا للمجتهد العادل، وطابقت عبادته الواقع صحت منه وقبلت، لأن التقليد ليس جزءا ولا شرطا من المأمور به، وإنما هو مجرد وسيلة.. وب الأولى ان تصح معاملاته إذا وقعت على وجهها، أما قول من قال ان العبادة تفتقر الى نية القربة، ونية القربة لا تتحقق إلا من المجتهد أو المقلد له.. أما هذا القول فمجرد دعوى، لأن معنى نية القربة الإتيان بالمأمور به بدافع الأمر المتعلق به خالصا من كل شائبة دنيوية.. وليس من شك ان هذا يتحقق من غير المقلد للمجتهد، وقوله تعالى: (أَ ولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ) يشعر بأن الأب إذا كان على هدى، وقلده الابن صح عمله.. فالعبرة، اذن، بالمطابقة وكفى.
و. التقليد في أصول الدين والعقيدة، كمعرفه الله وصفاته، ونبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعصمته، والبعث والنشر.. وقد منع أكثر علماء السنة والشيعة هذا النوع من التقليد، وقالوا بعدم جوازه، لأن التقليد قبول الشيء بلا دليل، وهذا هو الجهل بعينه، أي ان القائل بوجود الله تقليدا، تماما كمن يجهل وجوده من الأساس.. وقال هؤلاء: انما أجزنا التقليد في الفروع والمسائل العملية دون الأصول العقائدية، لأن المطلوب في الفروع مجرد العمل على مقتضى قول المجتهد وهذا ممكن بذاته، بخلاف الأصول العقائدية فان المطلوب فيها العلم والاعتقاد.. والعلم لا يجتمع مع التقليد، لأنه جهل محض، والاعتقاد خارج عن الاختيار والارادة، فلا يتعلق التكليف به، وقال المحققون من السنة والشيعة: إذا أعقب التقليد تصديق جازم مطابق للواقع صح، لأنه هو المطلوب، والاجتهاد ليس شرطا ولا جزءا من الايمان والتصديق، وإنما هو وسيلة، لا غاية، وهذا هو الحق، لأن العبرة في اصول العقائد بالإيمان الصحيح المطابق، ومن أجل هذا قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اسلام كل من آمن به، واطمأنت نفسه لصدقه ونبوته، دون أن يجتهد ويستعمل النظر.
5. سياق الآيات التي وردت في ذم اتباع الآباء يدل على ان المراد منها التقليد في الباطل والضلال، لا في الحق والهداية.. وتظهر هذه الحقيقة لكل من أمعن الفكر في قوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، وقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾، فان المفهوم من هذه الآيات ان آباءهم إذا كانوا على الهدى الذي نزل على الرسول جاز اتباعهم، لأن المطلوب هو اتباع ما انزل الله، فإذا اتبعوه فقد امتثلوا وأطاعوا، ولا يسألون بعد الطاعة عن شيء.
6. اختصارا ان كل من اتبع قول الله والرسول فقد اتبع الحق الثابت بالدليل، سواء أكان على علم من هذا الدليل، أو لم يكن، ويكفي ان يعلم اجمالا بأن هناك دليلا صحيحا يعرفه أهل الاجتهاد والاختصاص، بل من اتبع الحق دون أن يعلم انه حق فلا يعاقب على ترك التعلم، وان لم يستأهل المدح والثواب، ويشعر بذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾فان المستفاد منه أيضا ان جاهداك على ان تؤمن بالله، وأطعت من غير علم فلا بأس عليك.
7. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ ضرب الله في هذه الآية مثلا من الكفار الذين تعصبوا لدين الآباء، فشبههم بالبهائم، وشبّه من يدعوهم الى الحق بالراعي، فكما ان البهائم لا تعقل شيئا من كلام الراعي، وإنما تسمع صوتا تقبل أو تدبر عند سماعه بعد التمرين والتعويد كذلك الكفار لا يعرفون الحق الذي يدعوهم اليه الداعي، ولا النفع الذي يترتب على العمل بموجبه.. وانهم في ذلك تماما كالأطرش، وان كانوا يسمعون، وكالأخرس، وان كانوا يتكلمون، وكالأعمى، وان كانوا يبصرون.
8. في القرآن العديد من الآيات التي لا تفرق بين الأصم الذي لا يسمع إطلاقا، وبين من يسمع الحق ولا يعمل بموجبه.. منها هذه الآية: ﴿لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾، ومنها: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾
9. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على ان الله سبحانه شبّه الكفار براعي البهائم، لا بالبهائم، لأنه قال ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع، وبديهة ان الذي ينعق هو الراعي، وما لا يسمع البهائم، وعليه يكون الكفار كالراعي الذي يصيح بالبهائم، لا كالبهائم، كما قلت في تفسير الآية؟ والجواب: ان في الكلام حذفا تدل عليه قرينة الحال، والتقدير ان مثل من يدعو الذين كفروا الى الحق كمثل الذي ينعق بما لا يسمع.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/260.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾، الإلفاء الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا، والآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.
2. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، جواب عن قولهم، وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبين، وينافيه صريح العقل فإن قولهم: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، قول مطلق أي نتبع آباءنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حق، وهذا هو القول بغير علم، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له، ولو كانوا اتبعوا آباءهم فيما علموه واهتدوا فيه وهم يعلمون: أنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم، ومن هنا يعلم أن قوله تعالى: ﴿لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حياتهم لا يحتمل إلا المبالغة، وذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الاتباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آباءنا وهو ظاهر.
3. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ المثل هو الكلام السائر والمثل هو الوصف كقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾، والنعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، والنداء مصدر نادى ينادي مناداة، وهو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت ونحوه بخلاف الدعاء، والمعنى: ومثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، وعمي لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.
4. من ذلك يظهر أن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الأوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، لما كانت أوصافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.
5. الآراء والعقائد التي يتخذها الإنسان إما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات والطبيعيات وما وراء الطبيعة، وإما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله وما لا ينبغي، والسبيل في القسم الأول هو اتباع العلم واليقين المنتهي إلى برهان أو حس، وفي القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان أو النافع فيها، واجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، وأما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الأول، والاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي.
6. الإنسان لما كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء والطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء وجهلا إلا أن العواطف النفسانية والإحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال ـ وعمدتها الخوف والرجاء ـ ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الإنسان إذا أحل واديا ـ وهو وحده بلا أنيس والليل داج مظلم والبصر حاسر عن الإدراك ـ فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء ونحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يتراءى له غولا مهيبا يقصده بالإهلاك أو روحا من الأرواح، وربما صور له حركة وذهابا وإيابا وصعودا في السماء ونزولا إلى الأرض، وأشكالا وتماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره وحاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله ولا يزال ينتشر ـ وهو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة ـ. وربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم ويحث غيره على العمل بها للأمن من شره فيذهب سنة خرافية.
7. لم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم وليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم، ولا يزال الخواص من الإنسان ـ وهم العلماء ـ يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة وتيقظهم في أمرها، وقد أعيا الداء الطبيب فإن الإنسان لا يخلو من التقليد والاتباع في الآراء النظرية والمعلومات الحقيقية من جانب، ومن الإحساسات والعواطف النفسانية من جانب آخر، وناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم.
8. وأعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة وعلماء الطبيعة اليوم! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبنى أساسه على الحس والتجربة ويدفع ما دون ذلك، والمدنية والحضارة تبنى أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، وبنوا التربية على ذلك، مع أن ذلك ـ وهو عجيب ـ نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة وتثبتها لموضوعاتها، وبعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، وأما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه وإبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس والتجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.
9. وكذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال والنيل بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل والتفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، والمحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال، وأن يراها كمالات ـ وليست كمالات لنفسه ـ بل عدم وحرمان لها، وإنما هي كمالات ـ لو كانت كمالات ـ للمجتمع من حيث هو مجتمع وإنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع، ولذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها فلقنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا واسما باقيا على الفخر دائما وهو الحياة الدائمة، وهذه خرافة، وأي حياة بعد البطلان والفناء غير أنا نسميه حياة، تسمية ليس وراءها شيء؟
10. ومثلها القول: إن الإنسان يجب له تحمل مر القانون والصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي، فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، وهذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان، وأما غير ذلك فلا فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله ولو بالجور وفاق في القوة والاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله والذكر الجميل فخارة؟ كما أن أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوه، ولا منالا إلا نالوه، ولا نسمة إلا استرقوه واستعبدوه، وهل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالإفناء؟
11. أما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله والنهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، وأما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة وإن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، وما عند الله خير وأبقى.
12. الذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم وأنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان (وهي عهد الأساطير وعهد المذهب وعهد الفلسفة وعهد العلم، وهو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم ورفض الخرافات) فهو قول بغير علم ورأي خرافي.
13. أما إن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدأ والمعاد، ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذة من طريق الوحي والنبوة الثابت صدقه بالبرهان والمجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة واتباعها اتباع للعلم لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان.
14. من العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة وسنن الاجتماع: من مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ومسكنه وغير ذلك إلا التقليد على العمى واتباع الهوى من غير تثبت وتبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر وهو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعنى، وكان (ألق دلوك في الدلاء) شعارا علميا ورقيا مدنيا وعاد ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ﴾ تقليدا دينيا وقولا خرافيا.
15. أما تقسيمهم سير الحياة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين والفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند ومصر وكلدان ودين عيسى بعد فلسفة يونان وكذا دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو الإسلام ـ كان بعد فلسفة يونان وإسكندرية، وبالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه، وقد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر، والذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الإنسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة ووحدة الأمم وعهد الحس والمادة، وسيجيء بيانه في الكلام على قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/420.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ومع أن الشيطان لهم عدو مبين إنما يأمرهم بما ذكر، يأبون إتباع ما أنزل الله الذي يهديهم ويعصمهم من الشيطان، وانقادوا للشيطان الذي يدعوهم إلى الكبر والحسد والحمية للآباء، فهم يتبعون أمر الشيطان ولا يتبعون ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الذي هو الهدى، وهو أمر ربهم الذي هو أولى بهم، ويجعلون عذرهم التعصب لآبائهم فيقولون: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾ أي ما وجدنا ﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، فرد الله عليهم بقوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أيتبعون آباءهم ولو كانوا جاهلين ضالين؛ لمجرد أنهم آباؤهم، فمعنى هذا: أنهم لا يريدون الحق، وأنهم قد رضوا لأنفسهم بالباطل، وأنهم لم ينصحوا أنفسهم، فكيف وقد جاءهم النذير ينذرهم عذاب السعير، فهم كما في الآية الأخرى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان:21] قد عرضوا أنفسهم لعذاب السعير.
2. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في عدم قبولهم لما يتلى عليهم من آيات الله، وفي إعراضهم عنها حتى لا يهتدون ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ النعق: زجر الراعي بالغنم، نعق الراعي بالغنم: إذا صاح بها، قال الهادي عليه السلام: أما قوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ فهو مثل ضربه الله لهم بغنم راعٍ سَامَتْ فضَلَّت وتتابعت فذهبت فأراغَها صاحبها، فلم يجدها فعَلا شَرَفاً من الأرض لها، وأقبل ينعق بها وهي لا تسمعه وهو في دعاء ونداء وهي سائمة ترعى، ولا تجب له صوتاً، ولا تألوه فوتاً، كذلك قال الذين كفروا، حالهم في عدم الإجابة إلى الحق كحال هذه الغنم المستعجمة من الخلق)
3. قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يفيد أن الكلام فيهم لبيان غفلتهم عن داعي الحق وتشبيههم بالأنعام، فشبّه حالهم مع الداعي بحال الغنم مع الراعي، وحيث المقصود تشبيه حال بحال لا يلزم أن يلي حرف التشبيه المنعوق به، كقوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ﴾ [يونس:24]، وقول الإمام الهادي عليه السلام: (وهي لا تسمعه) لعله يعني لا تسمعه من حيث هو صاحبها، أي لا تنتبه له؛ لأن صاحبها ينعق بها، فلا تدري أنه يدعوها، أي يطلب إقبالها إليه ولا تفهم أنه ينادي لها، ولذلك قال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ ولم يقل: (دعاءه ونداءه)؛ لأنه يمر على مسامعها، ولا تنتبه أنه دعاء صاحبها ونداءه، فهي لا تسمع إلاَّ مجرد دعاء ونداء لا تنتبه له ولا تلتفت إليه.
4. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ هذا تشبيه لكل منهم بالأصم الذي لا يسمع، الأبكم: الذي لا ينطق، الأعمى: الذي لا يبصر ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ما يقال لهم، ولا ما يراد بهم، كما لا يعقله من جمع الصفات الثلاث.
5. فائدة ذكر البكم: الذي هو عدم قدرة النطق، المبالغة في الدلالة على بعدهم من الفهم؛ لأن من ينطق قد يسأل ويبيّن وجه الخفاء عليه، فقد يمكن تفهيمه من طريق اللمس، أو الجس، أو حمل الشيء ليعرف خفته أو ثقله، أو محاولة حمله ليعرف ثقله أو نحو ذلك، وكذلك تفهيمه من طريق الشم أو من طريق الطعم أو بجذبه، بحيث يشعر أنه قد أشرف على هوة، ولو لم يسأل لم ينتبه له ولا لوجه اللبس عليه، فإذا كان أبكم لا ينطق أنسدت عليه طريق السؤال والتفهيم المتوقف على السؤال.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/230.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نموذج من نماذج الناس الذين يتبعون خطوات الشيطان في منهج التفكير وفي طبيعة الفكرة، فإنهم لا ينطلقون، في ما يعتقدون وفي ما يتبعون من نهج في الحياة، من موقع القناعة الفكرية المرتكزة على أساس البحث والتأمل والتفكير، بل يتحركون من عاطفة ساذجة وعصبية ذاتية تدفع الإنسان إلى تقديس الماضي الذي ينتسب إليه في عاداته وتقاليده وأفكاره ومقدّساته، مما يجعل من ذلك أساسا للقناعة الفكرية والسلوك العملي في ما يتفق معه، وللرفض الفكري والعملي في ما يختلف عنه، بالمستوى الذي لا يقبل فيه الدخول في أيّ حوار أو نقاش حول تلك القضايا، كما لو كانت من البديهيات والمسلّمات الفكرية.
2. قد كان هذا المنهج في طبيعة سلوك الشخصية سببا من أسباب التعقيد الذي يواجه أصحاب الرسالات من الأنبياء ومن السائرين في خطهم في الدعوة إلى الله، لأنه يغلق على الإنسان نوافذ التفكير، ويحوّله إلى إنسان منغلق على ذاته، بعيد عن التفاعل مع الآخرين في ما يثيرونه من قضايا ويدعون إليه من أفكار ومبادئ، ويدفع المجتمع إلى أن يبقى مشدودا إلى عجلة الماضي من دون أن يفكر في الانطلاق إلى المستقبل بأجنحته الطائرة إلى العلاء، مما يجعله يبتعد عن تطوير حياته، وتغيير مسيرته نحو الأفضل في جميع شؤون الحياة، ويتجمّد في عملية تقديس للأخطاء وللانحرافات الفكرية والعملية باسم الإرث المقدس للآباء والأجداد، وقد حارب القرآن بقوة هذا الاتجاه في مواجهة القضايا والأفكار، فدعا إلى الانطلاق في الفكر، وفي العمل، من قاعدة فكرية ثابتة ترتكز على الحرية الفكرية البعيدة عن الضغوط العاطفية على أساس الدعوة إلى دراسة شخصية هؤلاء الآباء في مستواهم العقلي، وفي مسيرهم العملي، ليكتشف الإنسان أن كثيرا من هؤلاء لا يعقلون شيئا، ولا يهتدون، لأنهم عاشوا في ظل العقليات الخرافية المشبعة بالخرافات والأساطير، وانطلقوا في ظل أمّية الحرف والثقافة، ليخططوا لحياتهم في جميع ألوانها وقضاياها، فكيف يمكن للإنسان الذي يحترم فكره يجعل حياته تحت رحمة أفكار هؤلاء ومسيرتهم في الحياة؟
3. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ للكافرين الذين انطلقت الدعوة الإسلامية الرسالية لتفتح عقولهم على الإسلام فكرا وعقيدة ومنهجا للحياة، ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من الآيات التي تخطط لكم منهج المعرفة، ومنهج الحركة في الحياة، وشريعة السلوك العملي في أوضاع الإنسان في قضاياه العامة والخاصة، وحاجاته الأساسية، ونظرته إلى الواقع، وتطلعه إلى الأفق الأعلى في الإيمان بالله والالتزام بشرائعه وأحكامه، واتباع رسله والانفتاح على الإيمان باليوم الآخر، والقيام بمسؤولية الإنسان في الخلافة عن الله في إدارة الواقع الكوني المتحرك، وتفجير طاقات الحياة في نفسه، وفي الأرض التي يسير عليها، والأجواء التي يعيش في داخلها، ليكون الإنسان سيد الكون في دوره القيادي من أجل تحقيق إرادة الله في حركته في كل عمره.
4. ﴿قَالُوا﴾ في موقف احتجاج واستنكار للدعوة التي تفصلهم عن الماضي الجاهل المتخلف لتدفعهم إلى الحاضر الواعي المنفتح على تطلعات المستقبل للتقدم والنموّ والازدهار، ومن موقع إصرار على الواقع الجامد الذي يعيشون في داخله: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من أفكار وعادات وتقاليد ومنهج للعلاقات وللمشاعر والمواقف، مهما كانت طبيعته وقيمته وصلاحه وفساده، لأن المسألة هي مسألة الإرث المقدس الذي يأخذ قداسته من قداسة الآباء في وجدان الأبناء، ويثير القرآن التساؤل أمام هذا الموقف الجامد الذي يفتقد المنطق العقلاني الذي يحترم الإنسان فيه عقله ووجوده.
5. ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ فليدرسوا المستوى العقلي لهؤلاء الآباء، وليدرسوا طبيعة المرتكزات الفكرية التي استندوا إليها في ما اختاروه وساروا عليه، فقد يكتشفون أنهم لا يملكون عقلا، ولا ينفتحون على هدى، بل ربما كانت عقول الأبناء أكثر انفتاحا وقوة من عقول الآباء، فكيف يتبع العاقل من لا عقل له، وكيف يسير الضال وراء من لا هدى له!؟ إنه سؤال للتحدي وللمعرفة وللوصول بالقضية إلى الموقف الإنساني الذي ينطلق من البعد المعرفي للإنسان في حياته وفي حركة الانتماء عنده.
6. هكذا نرى أنّ القرآن يريد أن يقرر للإنسان المنهج في الوصول إلى القناعات الفكرية، ويريد أن يثير قضية الارتباط بالآباء كنموذج من نماذج الضغوط العاطفية التي تضغط على الإنسان لتقوده إلى الخضوع للخط الذي يسير عليه الأشخاص الذين يرتبط بهم عاطفيا، سواء كانوا آباء أو أبناء أو أصدقاء أو غيرهم ممن تشدهم إليهم الصلات العاطفية الحميمة، تلك هي القضية، إن الصلات العاطفية لا تعني الحق، ولا تمثل التبرير للارتباط الفكري، مهما كانت الظروف والأوضاع والأشخاص، لأن هذه (الظاهرة الآبائية) التي تضغط على الوجدان العام في الجانب الفكري مما اختزنه الآباء من أفكار، أو في الجانب الشعوري مما عاشوه من مشاعر العداوة والصداقة والحب والبغض، لا تمثل أي بعد عقلاني في الاختيار الإنساني، باعتبار أن المسألة العاطفية في الرابطة الإنسانية قد تتدخل في بعض العلاقات الذاتية في نطاق العلاقات الاجتماعية أو الذكريات التاريخية من خلال الأجواء الحميمة التي تترك آثارها في النفس، أمّا المسائل الفكرية فإنها تتحرك من موقع الأسس العلمية والمفردات الموضوعية التي قد تختلف نتائجها وأبعادها باختلاف المراحل الزمنية أو الخصوصيات المكانية أو المؤثرات الذاتية، أو الضغوط الاجتماعية المحيطة بالإنسان والواقع، مما يفرض التبدل في طبيعتها بين وقت وآخر، أو بين بيئة وأخرى، هذا إلى جانب المستوى الثقافي الذي قد يجعل النتيجة متخلّفة من خلال ذهنية التخلف، أو متقدمة من خلال عناصر التقدم، الأمر الذي يفرض إعادة النظر دائما في كل الأمور الخاضعة لتلك المؤثرات، بل قد تفرض على الإنسان ـ في بعض الحالات ـ إعادة النظر في قناعاته الفكرية أو الشعورية بين وقت وآخر عندما تكون الأمور خاضعة للحالات الطارئة في حياته، ليجدد نظرته فيها لاكتشاف ما يمكن أن يجد فيها من ضعف أو خطأ أو انحراف، فكيف إذا كان الموضوع متصلا بقناعات الآخرين.
7. إذا كان القرآن يركّز على المسألة في نطاق الآباء، فليس ذلك من أجل اختصاص الظاهرة بهم، ولكن الواقع الذي يعيشه الناس ـ غالبا ـ في الاتباع الأعمى في تقليد الماضي هو واقع اتباع الآباء والأجداد الذين يمثلون في الوجدان العائلي أو العشائري العمق الذاتي للإنسان في جذوره التاريخية، بالدرجة التي يشعر معها بأن امتداداتهم الفكرية في حركته تمثل العنوان الكبير لوجوده، فتكون القضية الحالة الشعورية في طبيعة الانتماء الفكري، وقد تكون القضية في بعض نماذجها متمثلة في الآباء الحزبيين أو القوميين أو المذهبيين أو الطائفيين الذين يرتبط بهم الإنسان من خلال الحزب أو القومية أو المذهب أو الطائفة، بحيث تكون أفكارهم عنوانا مقدّسا للدائرة التي تحركوا فيها، حتى أن أي ضعف في مفردات هذه الأفكار قد ينعكس على ضعف عنوان الانتماء، إنها مسألة العصبية التي لا ترى الأشياء إلا من خلال ذاتية النسب أو العنوان الذي يطبع الناس بطابعه، لتكون القداسة للعنوان بعيدا عن المضمون في قيمته الفكرية والحضارية، وهذا ما يعطّل عملية التجديد والتغيير ويحبس الفكر في دائرة ضيقة تتصل بالماضي ولا تنفتح على الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يجعل منها سجنا للعقل وللحركة وللحوار، وخنقا للحرية في كل الموارد التي يختلف فيها قادة الحاضر عن قادة الماضي.
8. رأى القرآن في هذه (الظاهرة الآبائية) الممتدة إلى كل العناوين المتصلة بالرموز التي يخضع الإنسان لها عاطفيا ويرى أن فكرها يمثل فكره، وعنوانها يمثل عنفوانه، وأن الانتقاص من قيمتها الفكرية يمثل انتقاصا من مجده، رأى فيها خطرا كبيرا على حركة الرسالات التي تصطدم دائما بذهنية التخلف في تقديس الماضي بما يؤدي إلى التعصب له ولكل مفاهيمه وعاداته وتقاليده، وإلى تجميد الفكر الذي يمنعه من التحرك بعيدا عن المفردات الكامنة في وجدانه التاريخي الموروث، فيمتنع عن الاستماع إلى أي فكر جديد فضلا عن التفكير فيه بأسلوب المناقشة والحوار، ويتحول الموقف في رموز هذا الاتجاه إلى حالة طاغوتية تعمل على قهر كل حركة جديدة في أفكارها ورموزها، لأنها تخاف منها على الامتيازات الشعبية التي اكتسبتها من خلال التخلف الشعبي، وعلى المقدسات السخيفة التي لا تملك أية قيمة مقدّسة.
9. نستوحي من الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع بعض خصائص هذه الظاهرة في جمودها الفكري، وفي ذهنيتها العدوانية، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23] وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبأ: 22] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21]، وقوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: 74] وقوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 78] وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [هود: 62]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104].
10. إنّ المنطق الذي يحكم تفكير هؤلاء هو اعتبار الطريقة التي جرى عليها الآباء من العبادة والعادات والتقاليد أساسا للاقتداء، وللاهتداء، من دون أن يقدموا أي أساس فكري على شرعية ذلك من الناحية الفكرية، بل كل ما هناك أنهم يتعقّدون من دعوة التغيير لأنها تخرجهم من دائرتهم التي عاشوا فيها واستغرقوا في خصوصياتها، ولذلك فإنهم لم يدخلوا مع الطرح القرآني في جدل فكري حول الموضوع في مضمون عقيدة الآباء مقارنا بمضمون الدعوة القرآنية، بل أطلقوا كلمة الإصرار الجامد، والاستغراب القاسي للمحاولة الرسالية في إبعادهم عما وجدوا عليه آباءهم وعما يعبد آباؤهم، وأطلقوا كلمة الجمود التي تريد أن تختصر حركة الحياة في الماضي فلا مجال لأية حركة جديدة في الحاضر والمستقبل، لأن مسئوليتهما أن يعيشا في إرث التاريخ الذي تركه الآباء، فالزمن وقف عندهم، والتطور انتهى إليهم، وهذا ما تعبر عنه كلمتهم التي نقلها الله عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة: 104] فلن نفكر في أي شيء خارج تلك الدائرة من أية جهة كانت، ومن أي شخص كان، إنه منطق التعصب الأعمى الذي يواجه الأشياء بالنظرة العمياء.
11. أطلق القرآن الكريم الحوار معهم من موقع عقلاني متحرك فقال في آية موحية في قوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104] وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170] فإن مسألة الاقتداء والاهتداء لا بد لها من أن تنطلق من الموقع الذي يملك أساس القدوة من خلال أنه يملك مسئولية الفكر وقوّته، ويلتزم أساس الهدى من خلال العلم الواسع العميق، والعقل المنفتح الدقيق، والرؤية الواضحة الواسعة، والهدى المشرق، تماما كما هو الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة الذين تطمئن النفس إليهم، ويستريح العقل والعلم والهدى عندهم، بل ربما كان آباؤهم أكثر علما وأوسع عقلا وأكثر تجربة منهم، ما يجعل من تقليدهم واتباعهم لهم أمرا لا يرتكز على أساس ما يرتبط بالشكل لا بالمضمون، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40] فهي مجرد أسماء ترنّ في أسماعكم بعيدا عن مضمونها الحقيقي الذي تناقشه عقولكم.
12. هكذا نجد أن القرآن لا يطرح عليهم الرفض المطلق لعقائد آبائهم في البداية، بل يقول لهم ـ في عملية دعوة للدخول في مقارنة بين ما يعبد آباؤهم، وما يفكرون به ويسيرون عليه، ودعوة النبي للإسلام في عقيدته وفكرته وعبادته ومنهجه وذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 24]، إنه يدعوهم لمناقشة هذا المنهج المتعالي في الهداية والوعي ليرفضوا الفكر الأدنى وليختاروا الفكر الأهدى، وهكذا أراد القرآن لهم أن يفكروا ويحاوروا ويختاروا من موقع ذلك، لكن التعصب الأعمى أغلق عقولهم وجمّد حركتهم وجعلهم يغرقون في الظلام والجهل والتخلّف.
13. إن المنهج القرآني يرتكز على حرية الإنسان في تفكيره من خلال مسئوليته عن قناعاته التي يريد الله له أن ينطلق بها من قاعدة فكرية صلبة، فلا ضغط من موقع العاطفة والقوة، ولا خضوع للعاطفة وللمصالح، بل هي الحقيقة التي تدعو الإنسان إلى ملاحقتها بالتأمل والتفكير والبحث، بعيدا عن تراث الماضي وعن هيمنة الحاضر.
14. قد يثير البعض في هذا المجال سؤالا حول الاتجاه الديني في حياة الناس، فإن من الملحوظ أن التديّن عند أغلب الناس لا ينطلق من فكر يبحث ويتأمّل ويدقق، بل يعيش في وجدان أتباعه كعقيدة مقدسة من تراث الآباء والأجداد، ولهذا نرى الكثيرين من المتدينين يرثون الدين يعتنقه آباؤهم ويخلصون له، من دون أيّة دراسة للمضمون، أو وعي للتفاصيل في ما هو الحق والباطل، تماما كما هو الانتماء النسبي أو وعي للتفاصيل في ما هو الحق والباطل، تماما كما هو الانتماء النسبي أو القومي، عندما يمنح الإنسان شخصية لا يملك معها إرادة واختيارا، بل هي مفروضة عليه من خلال الظروف الموضوعية أو الطبيعية المحيطة به، وقد يجد هذا تشجيعا لدى المؤسسات الدينية المتنوعة التي تحوّلت إلى كيانات رسمية لا تسمح للفكر أن يتحرك، وللحوار أن يطرح علامات الاستفهام أمام مواطن الشك.
15. سؤال وإشكال: السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو الفرق بين واقع الناس الديني الآن، وبين واقع الناس الذين يتحدث عنهم القرآن في هذه الآية؟ والجواب: إن المنهج القرآني يوجه الناس إلى اعتبار الفكر أساسا للعقيدة بعيدا عن الطرق غير العلمية مما يعتمد على الحدس والتخمين والاحتمال، وعلى ضوء ذلك، فهو يعتبر الاتجاهات المعتمدة على التقليد في العقيدة انحرافا عن الخط الإسلامي في طريق الوصول إلى الحق، ولهذا فإن الإسلام لا يعتبر الإنسان معذورا أمام الله إذا قاده هذا الطريق إلى الخطأ في العقيدة، بينما يرى الإنسان الذي يستفرغ وسعه وجهده في سبيل الوصول إلى الحقيقة معذورا إذا لم يصل إلى الحق كنتيجة للظروف الخارجة عن إرادته، ولكنه في الوقت نفسه يرحب بالإنسان الذي يلتقي بالحق كنتيجة للطرق التقليدية المشار إليها في السؤال، كأيّ دين يريد أن يمتد في حياة الناس لتمتد قيمه ومفاهيمه من خلال قناعاتهم الفكرية، بل ربما نجد أنه يشجّع الكثيرين الذين دخلوا فيه رغبة أو رهبة في عهد الدعوة الإسلامية الأوّل، لأنه يشعر بأنّ دخولهم في مساره وأجوائه يمنحهم الفرصة للتفكير من جديد، وللعيش في الواقع الإسلامي الذي يفتح لهم مجالات اكتشافات الإسلام من الداخل بدون أيّ تعقيد أو حواجز نفسية سلبية، ليتعرفوا من خلال ذلك على خط الحوار في الإسلام في آيات القرآن وحركة الشريعة في الحياة.
16. في ضوء ذلك، نعرف أن الإسلام لا يشجع التقليد في العقيدة عندما يشجّع الآخرين على الدخول فيه بدون استدلال برهاني، بل يعمل على أن يحقق هدفين:
أ. أحدهما: تحطيم الحواجز النفسية التي تفصل النفس عن الانفتاح على الإسلام، وذلك بإيجاد روح الألفة بين الإنسان وبين الأجواء الدينية في الإسلام، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن يلتقي بالمفاهيم الإسلامية ببساطة خالية من التعقيد.
ب. ثانيهما: التخطيط للتربية الفكرية من الداخل لتعميق العقيدة من موقع الشعور بالحاجة إلى العمق كنتيجة لتعميق الانتماء إليها على أساس من جدية الإحساس ومسئولية التفكير في نطاق الشخصية الإسلامية التي تعيش في داخله، وتمتد في حياته، ومن خلال ذلك، نعرف الفرق بين الموقف الذي ترفضه الآية لأنه يسجن الإنسان في نطاق العصبية العمياء، وبين الموقف الذي يشجع عليه الإسلام لأنه يفتح الطريق للالتزام الفكري في نطاق خطة مدروسة ثابتة.
17. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ هذا مثل للكافرين يستهدف كشف الصورة الداخلية الحقيقية للكافر في مواجهته للفكر الذي يقدّم إليه، وللإيمان، الذي يدعى إليه، فهو لا يحمل في نفسه مسئولية الفكر والإيمان ليفكر ويناقش ويدير الحوار الذي يرتكز على أن يسمع وجهة نظر الآخرين، ويفهم طبيعتها وخصائصها وتفاصيلها، ثم يفكر فيها من حيث هي خطأ أو صواب، إنه خاضع لتسلّط الفكرة المنحرفة على وجدانه وضميره، فهي تملأ كل جوانب ذاته، لا يسمح لأيّة علامة استفهام أن تهز هذه القناعة المضلّلة عنده، ولا يستمع لأيّ صوت هدى يقتحم عليه ضلاله، ولهذا فهو لا يواجه أصوات الحق والخير والهدى، إلا كما تواجه الأنعام أصوات الرعاة، فلا تفهم من أناشيدهم أيّ شيء مما تجيش به صدورهم وتنفعل معه مشاعرهم، بل لا تعي إلّا الصوت الذي يرنّ في أسماعها لتتحرك معه.
18. تزيد الآية الصورة وضوحا في طبيعة الحالة العامة التي تمنعهم من مواجهة الإيمان بالجدّ والإيجابية، فقد عطّلوا أسماعهم وأغلقوها عن آيات الله، فمثلهم مثل الذين لا يملكون قوّة السمع، وقد عطّلوا ألسنتهم عن الجواب، في ما يوجه إليهم من كلمات الله بما يحتج عليهم به أو يسألهم عنه، فكأنهم لا ينطقون، وقد أغمضوا عيونهم عن النظر إلى آيات الله في خلقه بما تجسده من مواطن العظمة، فكأنهم لا يبصرون، ومن خلال ذلك كله، عطّلوا عقولهم عن التفكير بما جمّدوه من أدوات الفكر المسموعة والمنظورة والمنطوقة، فكأنهم لا يعقلون.
19. قد نجد في هذا المثل الحيّ الفكرة التي يعمل القرآن على تقريرها وتأكيدها في قضية الكفر والإيمان، وهي أن الكفر ليس مشكلة فكرية تواجه الإنسان في ما يواجهه من مشاكل الفكر المعقّدة، بل هي مشكلة ذاتية تنطلق من خلال العقدة النفسية التي يعيشها الإنسان إزاء ارتباطه بفكرة معينة مما لا يبقي له مجالا للانفتاح على أيّ شيء آخر مضادّ لها.
20. ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في دعوتك إياهم إلى الإيمان ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أي يرسل الصوت ﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ كالبهائم التي تسمع أناشيد الرعاة التي تتضمن معاني عدّة، ولكنها لا تفهم معناها، ولا تنفتح بها إلا على الصوت فهم لا يفهمون من كلامك الرسالي معناه، بل يقتصرون من ذلك على الصوت المجرّد الذي يشق طريقه إلى السمع من دون أن يدخل في العقل، لأنهم ذاهلون عن دعوتك، منصرفون عن معناها لاستغراقهم في التفكير الذي وورثوه عن آبائهم، فهم متعبدون بها لا ينحرفون عنه إلى غيره حتى لو كان صوابا، لأن الصواب لا يمثل اهتماماتهم في الانتماء والاقتناع، بل هو امتداد الماضي في عقولهم وأفكارهم، ويقول صاحب الكشاف: (ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلح الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف، وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم، ولا يفقهون أهم على حق أم على باطل)
21. ﴿صُمٌّ﴾ عن استماع الحجة كمن لا يسمعون، ﴿بِكُمُ﴾ عن النطق بها كمن لا ينطقون، ﴿عَمِيَ﴾ عن رؤية الحقائق البارزة فيها كمن لا يبصرون، ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ لأنهم لا يستعملون عقولهم في إدراك الحق.
22. نستطيع أن نستوحي من الحديث في الآية السابقة التي تتساءل عن اتباعهم آباءهم حتى لو كانوا لا يعقلون شيئا، وفي هذه الآية التي تؤكد أنهم لا يعقلون، أن المشكلة في هؤلاء أنهم لا يملكون حركة العقل في وجدانهم حتى يميزوا به الخط المستقيم من الخط المنحرف، ولا يفرّقون بين الجهة التي لا تعقل شيئا ولا تهتدي طريقا، وبين الجهة التي تملك العقل والوعي والهدى، فيتّبعون تلك ويتركون هذه، ومن هنا، فإن فقدانهم حيوية العقل وجرأته، جعلهم يقلدون من لا عقل له في حقائق الأشياء، ومن جهة أخرى، فهي تدل على أن العقل هو الأساس في حركة المعرفة الصحيحة ووعي المسؤولية، فمن لا يعتمد العقل وسيلته إلى المعرفة في مسئولياته الفكرية فلن يصل إلى الحقيقة في عمقها الإيماني.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/171.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحلّ الله، أو عبادة الأوثان وتقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾.
2. يدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية، أمّا إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلّا تركيز للجهل والضلال.
3. الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية كاذبة وأصالة موهومة، وهذه عادة الجاهليين قديما وحديثا في تعصبهم القومي وخاصة في ما يتعلق بأسلافهم.
4. الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد، لأنه ينفي العقل الإنساني، ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.
5. هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم ـ ومع الأسف ـ في بقاع مختلفة من عالمنا، ويظهر هنا وهناك بشكل (صنم) يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم (آثار الآباء) ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القوميّة والوطنية، مشكّلا بذلك أهم عامل لانتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.
6. لا مانع طبعا من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل والمنطق حفظ، وما كان وهما وخرافة لفظ، المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثا قوميا، أمّا الاستسلام التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلّا الرجعية والحماقة.
7. جدير بالذكر أن الآية الكريمة تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون، وهذا يعني إمكان الاقتداء باثنين، بمن كان يملك الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء، أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنه تقليد الجاهل للجاهل.
8. الآية التالية تبين سبب تعصّب هؤلاء وإعراضهم عن الانصياع لقول الحق تقول: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾، تقول الآية: إن مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الايمان ونبذ الخرافات والتقليد الأعمى كمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الأغنام لا تدرك منه سوى أصوات غير مفهومة، أجل فهؤلاء الكفار والمشركين كالحيوانات والانعام التي لا تسمع من راعيها الذي يريد لها الخير سوى أصوات مبهمة.
9. ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أن هؤلاء ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، ولذلك يتمسكون بالتقاليد الخاطئة لآبائهم، ويعرضون عن كل دعوة بنّاءة.
10. وقيل في تفسير الآية أيضا إن معناها: مثل الذين يدعون أصنامهم وآلهتهم الكاذبة كالذي يدعو البهائم، لا الحيوانات تفهم النداء ولا تلك الأصنام، لأن هذه الأصنام صمّاء بكماء عمياء لا تعقل.
11. أكثر المفسرين على التّفسير الأوّل للآية، والروايات الإسلامية تؤيده ونحن على ذلك أيضا.
12. يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمّى سبل المعرفة، أهم هذه السبل العين والأذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال، لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء التفريع وتقول: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأذن واللسان، العين والأذن للفهم المباشر، واللسان لإقامة الارتباط بالآخرين وكسب علومهم.
13. نعق الغراب: إذا صوّت دون أن يمدّ عنقه، فإذا مدّ عنقه وحركها ثم صاح قيل: نغق (بالغين)، ثم توسّعوا في نعق لتشمل كل صوت تنادى به البهائم، وواضح أن هذه البهائم لا تفهم شيئا من هذا النداء وإن أبدت ردّ فعل تجاه هذا النداء، فإنما هو لدويّ هذا الصوت وطريقة أدائه الخاصة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/481.
72. الطيبات والخبائث
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈72⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 172-173]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ لا يشوي من الميتة ليشتهيه، ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٤.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) أنّه قال: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فتركه تقذرا أو لم يأكل، ولم يشرب، ثم مات؛ دخل النار(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: وكيع، وعبد بن حميد، وأبي الشيخ.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ﴾ ذبح(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾، يعني: ما أهل للطواغيت كلها، يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾، يعني: إلى شيء مما حرم(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ فليأكل منه الشيء قدر ما يسده، ولا يشبع منه(3)..
5. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ من أكل شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى(3)..
6. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ في الميتة، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ قال في الأكل(4)..
7. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلالٌ وما حرم فهو حرامٌ، وما سكت عنه فهو عفوٌ ﴿قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أوحى إلي مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أو فِسْقًا أهل لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 145] (5)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥٦.
(2) ابن جرير: ٣/٥٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٣.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٤.
(5) أبو داوود: 3800.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ما ذكر عليه اسم غير الله(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ من الحلال(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ العادي: الذي يقطع الطريق؛ فلا رخصة له إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ يعني: غير مستحل؛ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني: في أكله حين اضطر إليه(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، يعني: في أكله حين اضطر إليه(3)..
5. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ يعني: لما أكل من الحرام، ﴿رَحِيمٌ﴾ به؛ إذ أحل له الحرام في الاضطرار(4)..
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
(2) ابن جرير: ٣/٥٩.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٤.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٥.
ابن عبد العزيز:
روي عن عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) أنّه قال يوما: إني أكلت الليلة حمصا وعدسا فنفخني، فقال له بعض القوم: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول في كتابه: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم﴾، فقال عمر: هيهات، ذهبت به إلى غير مذهبه، إنما يريد به طيب الكسب، ولا يريد به طيب الطعام(1)..
__________
(1) ابن سعد: ٥/٣٦٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ما أهل به للطواغيت(1)..
2. روي أنّه قال: من خرج يقطع الرحم، أو يخيف السبيل، أو يفسد في الأرض، أو أبق من سيده، أو فر من غريمه، أو خرج عاصيا بأي وجه كان، فاضطر إلى ميتة؛ لم يحل له أكلها، أو اضطر إلى الخمر عند العطش؛ لم يحل له شربه، ولا رخصة له ولا كرامة، فأما إذا خرج مطيعا ومباحا له ذلك؛ فإنه يرخص فيه له(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥٦.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٤٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ﴾ ما ذبح لغير الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ الرجل يأخذه العدو، فيدعونه إلى معصية الله(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ غير باغ على المسلمين، ولا معتد عليهم؛ من خرج يقطع الرحم، أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض، أو مفارقا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله، فاضطر إلى الميتة؛ لم تحل له(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على الأئمة، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ قاطع السبيل(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ يبتغيه، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ يتعدى على ما يمسك نفسه(5)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥٦.
(2) ابن جرير: ٣/٥٨.
(3) تفسير مجاهد: ص٢١٩.
(4) ابن جرير: ٣/٦٠.
(5) ابن جرير: ٣/٦١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم﴾ أما إنه لم يذكر أحمركم وأصفركم، ولكنه قال تنتهون إلى حلاله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾، فقال: نعم، حرم الله الميتة، والدم، ولحم الخنزير(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ غير باغ فيها، ولا معتد فيها؛ يأكلها وهو غني عنها(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٢.
(2) تفسير عبد الرزاق: ١/٦٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا شرب الماء قال الحمد لله الذي سقانا عذبا زلالا برحمته، ولم يسقنا ملحا أجاجا بذنوبنا(1)..
2. روي أنّه سئل عن المرأة أو الرجل يذهب بصره، فيأتيه الأطباء، فيقولون: نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا، كذلك يصلي؟ فقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ (2)..
__________
(1) الدعاء للطبراني: ص 280.
(2) تفسير العيّاشي: 1/74.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ما ذبح لغير الله مما لم يسم عليه(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ غير باغ في أكله، ولا عاد بتعدي الحلال إلى الحرام، وهو يجد عنه بلغة ومندوحة(2)..
__________
(1) تفسير عبد الرزاق: ١/٦٥.
(2) ابن جرير: ٣/٦١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ معناه أريد به غير الله.. والإهلال: رفع الصوت بذكر الله، وذكر غيره،(1)..
2. روي أنّه قال: (﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ والباغ الذي يأكل الميتة عن غير اضطرار إليها.. والعاد الذي يشبع منه.. فالميتة تحلّ له،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 93.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ أما باغ: فيبتغي فيه شهوته، وأما العادي: فيتعدى في أكله؛ يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قوتا، ما يمسك به نفسه حتى يبلغ حاجته(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ما ذكر عليه غير اسم الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ من غير أن يبتغي حراما ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [المؤمنون: ٧، المعارج: ٣١] (2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥٧.
(2) ابن جرير: ٣/٦١.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: غير باغ في الأرض، يقول: اللص يقطع الطريق، ولا عاد على الناس(1)..
__________
(1) تفسير عبد الرزاق: ١/٦٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قيل له: أخبرني ـ جعلني الله فداك ـ لم حرم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ قال (إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما احل لهم، ولكنه خلق الخلق، فعلم ما تقوم به أبدانهم، وما يصلحهم، فأحلّه لهم واباحه، تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم، ثم اباحه للمضطر، واحله له في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به، فأمره ان ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك)، ثم قال (اما الميتة فإنه لا يدمنها أحد الا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت أكل الميتة الا فجأة، وأما الدم فإنه يورث اكله الماء الاصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخلق، ويورث الكلب، والقسوة في القلب، وقلة الرأفة والرحمة، حتى لا يؤمن ان يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من يصحبه، وأما لحم الخنزير فان الله تبارك وتعالى مسخ قوما في صور شتى مثل الخنزير والقرد والدب، وما كان من المسوخ ثم نهى عن اكله للمثلة لكيلا ينتفع الناس به، ولا يستخفوا بعقوبته، وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها)، وقال: (مدمن الخمر كعابد وثن يورثه الارتعاش، ويذهب بنوره، ويهدم مروءته، ويحمله على ان يجسر على المحارم من سفك الدماء، وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لا يزداد شاربها الا كل شر)(1)..
2. روي أنّه قيل له: لم حرم الله لحم الخنزير؟ قال: إن الله مسخ قوما في صور شتى مثل الخنزير والقرد والدب، ثم نهى عن أكل المثلة، لكيلا ينتفع الناس، ولا يستخف بعقوبته(2)..
3. روي أنّه قال: ما أنزلت الدنيا من نفسي الا بمنزلة الميتة، إذا اضطررت إليها أكلت منها(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ الباغي باغي الصيد، والعادي السارق، ليس لهما أن يأكلا الميتة، إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ الباغي الذي يخرج على الإمام، والعادي الذي يقطع الطريق، لا تحل لهما الميتة(5)..
6. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾: الباغي الظالم، والعادي الغاصب(6)..
7. روي أنّه قال: المضطر لا يشرب الخمر، لأنها لا تزيده إلا شرا، فإن شربها قتلته، فلا يشربن منها قطرة(6)..
8. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ الباغي الخارج على الإمام، والعادي اللص)(6)..
__________
(1) الكافي: 6/242/1.
(2) علل الشرائع: 484/3.
(3) تفسير القمي: 2/146.
(4) الكافي: 3/438.
(5) معاني الأخبار: 213/1.
(6) تفسير العيّاشي: 1/74.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي: مستحل لها، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ متزود منها(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فيما أكل في اضطرار، وبلغنا: أنه لا يزاد على ثلاث لقم(2)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٤٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم﴾؛ من تحليل الحرث والأنعام، يعني بالطيب: الحلال(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ولا تحرموا ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ وما ذبح للأوثان(1)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى شيء مما حرم الله ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ استحلاله، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ يعني: ولا متعديا لم يضطر إليه(1)..
5. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما أكل من الحرام في الاضطرار، ﴿رَحِيمٌ﴾ إذ رخص لهم في الاضطرار، مثلها في الأنعام، والمضطر يأكل على قدر قوته(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد (ت 182 هـ)
في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ ما يذبح لآلهتهم؛ الأنصاب التي يعبدونها، ويسمون أسماءها عليها: يقولون: باسم فلان، كما تقول أنت: باسم الله، قال: فذلك قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ (1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ غير أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام، هذا التعدي، ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد(2).
__________
(1) ابن جرير: ٣/٥٧.
(2) ابن جرير: ٣/٦١.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وليست المغفرة هاهنا من ذنب، ولا عن حرام مرتكب؛ ولكنها مغفرة تخفيف ورحمة فيما وضع من التكليف(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/74.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يتوجه وجهين:
أ. أحدهما: الإذن في الأكل ما تستطيبه النفس وتتلذذ به، ليكون أرضى وأشكر لله فيما أنعم عليه، ويكون على إرادة الحلال بقوله: ﴿طَيِّبَاتِ﴾، فيكون في الآية دليل كون المرزوق حلالا وحراما، إذ قيل: (من ذا)، ولم يقل: (كلوا ذا)، ولو كان كل الرزق حلالا لكان يقول: (كلوا مما رزقناكم)
ب. ثم حق المحنة التمكين مما يحرم ويحل، ومما ترغب إليه النفس وتزهد، فجائز جميع ذلك كله في الملك وفى الرزق ليمكن لكم من الأمرين بالمحنة، إذ ذلك حق المحنة.
2. ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فيه الدليل على أن من الرزق ما هو طيب حلال، وما هو خبيث حرام؛ إذ لو لم يكن منه طيب وخبيث لكان لا يشترط فيه ذكر الطيب، بل يقول: (كلوا مما رزقناكم)
3. سؤال وإشكال: ما وجه الحكمة في الامتحان بجعل الخبيث رزقا لهم؟ والجواب: هذا أصل المحنة في كل شيء، يجعل لهم الغذاء؛ فلا يأمرهم بالامتناع عنه، ويجعل لهم قضاء الشهوة في المحرم ويأمرهم بالكف، وهو الظاهر من المحن.
4. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ على ما أباح لكم من الطيبات.
5. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أي إن كنتم منه ترون ذلك.
ب. ويحتمل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي إياه توحدون.
ج. ويحتمل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ ممّن تعبدونه ـ إياه تقصدون ـ فاجعلوا عبادتكم له خالصة، لا تعبدوا غيره ليكون له، ولا قوة إلا بالله.
د. وقيل: (إن) بمعنى: إذ آثرتم عبادته فاشكروا له.
6. يحتمل قوله: ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ على جميع ما أنعم عليكم من الدين، والنبي، والقرآن وغير ذلك من النعم، أي كونوا له شاكرين.
7. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾، ذكر (الميتة) فمعناه: حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها، فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف، والشعر، والعظم ونحوه، ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة وهى حية وأبين منها لم تصر ميتة لا يجوز الانتفاع به، وغيره من اللحم إذا أبين منها صار ميتة؛ لما روى في الخبر: (ما أبين من الحى فهو ميت)، ولأن الصوف واللبن وغيرهما ليسوا بذوي الروح فيموت باستخراج الروح منها؛ كالحيوان على ما ذكرنا من الخبر.
8. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
9. الدم المذكور في هذه الآية هو الدم المسفوح، دليله قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: 145]، فالمحرم من الدماء المسفوح وهو السائل، ألا ترى أن الشاة إذا ماتت صارت ميتة بهلاك ذلك المحرم من الدم فيها!؟
10. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، واختلف فيه على أوجه:
أ. قيل: قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ هو تفسير قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾، وهو كقوله: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ [النساء: 25]، فصار قوله: ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ تفسير قوله: ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾؛ لأنها إن كانت محصنة كانت غير مسافحة ولا متخذة الأخدان، فعلى ذلك إن كان مضطرّا كان غير باغ ولا عاد، والله أعلم.
ب. وقيل: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي غير مستحل لتناوله، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ بعدو على أكله للجوع.
ج. وقيل: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ غير متجاوز حده، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ ولا مقتصر نهايته.
د. وقيل: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ فيه ﴿وَلَا عَادٍ﴾ على حد الله إذ حرمه عليه في غير حال الاضطرار، فيصير باغيا في الأكل، عاديا على حد الله.
هـ. وقيل: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ في مجاوزته في أكل الحد المجعول له من إقامة المهجة ودفع الضرورة، فأكل بشهوة أو لحاجة غير حاجة الجوع خاصة.
و. وقيل: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على المسلمين، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ عليهم.
11. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/623.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ أخبر الله تعالى بما حرم بعد قوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ليدل على تخصيص التحريم من عموم الإباحة، فقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وهو ما فات روحه بغير ذكاة، ﴿وَالدَّمَ﴾ هو الجاري من الحيوان بذبح أو جرح.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: التحريم مقصور على لحمه دون غيره اقتصارا على النص، وهذا قول داوود بن علي.
ب. الثاني: أن التحريم عام في جملة الخنزير، والنص على اللحم تنبيه على جميعه لأنه معظمه، وهذا قول الجمهور.
3. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ يعني بقوله: ﴿أَهْلِ﴾ أي ذبح وإنما سمي الذبح إهلالا لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم، فسمي كل ذابح جهر بالتسمية أو لم يجهر مهلا، كما سمي الإحرام إهلالا لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسما له وإن لم يرفع عنده صوت.
4. في قوله تعالى: ﴿لِغَيْرِ الله﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: ما ذبح لغير الله من الأصنام وهذا قول مجاهد وقتادة.
ب. الثاني: ما ذكر عليه اسم غير الله، وهو قول عطاء والربيع.
5. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ اضطر افتعل من الضرورة، وفيه قولان:
أ. أحدهما: معناه: فمن أكره على أكله فلا إثم عليه، وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: فمن احتاج إلى أكله لضرورة دعته من خوف على نفس فلا إثم عليه، وهو قول الجمهور.
6. في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: غير باغ على الإمام ولا عاد على الأمة بإفساد شملهم، فيدخل الباغي على الإمام وأمته والعادي: قاطع الطريق، وهو معنى قول مجاهد وسعيد بن جبير.
ب. الثاني: غير باغ في أكله فوق حاجته ولا عاد يعني متعديا بأكلها وهو يجد غيرها، وهو قول قتادة، والحسن، وعكرمة، والربيع، وابن زيد.
ج. الثالث: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع، وهو قول السدي، وأصل البغي في اللغة: قصد الفساد يقال بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، وقال الله عزّ وجل: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور: 33] وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد، والعرب تقول خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر:
çلا يمنعنّك من بغا...ء الخير تعقاد التمائم
إن الأشائم كالأيا...من، والأيامن كالأشائمé
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/222.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ هذا الخطاب يتوجه الى جميع المؤمنين، وقد بينا أن المؤمن هو المصدق بما وجب عليه، ويدخل فيه الفساق بأفعال الجوارح، وغيرها، لأن الايمان لا ينفي الفسق ـ عندنا ـ، وعند المعتزلة: إنه خطاب لمجتنبي الكبائر، وإنما يدخل فيه الفساق على طريق التبع، والتغليب، كما يغلب المذكر على المؤنث في قولك: الإماء والعبيد جاوزني، وقد بينا فيما تقدم أن أفعال الجوارح لا تسمى إيماناً ـ عند أكثر المرجئة، وأكثر أصحابنا ـ وإن بعضهم يسمي ذلك إيماناً، لما رووه عن الرضا عليه السلام، وإيمان مأخوذ من أمان العقاب ـ عند من قال إنه تناول مجتنبي الكبائر ـ وعند الآخرين من أمان الخطأ، في الاعتقاد الواجب عليه، وفي المخالفين من يجعل الطاعات الواجبات، والنوافل من الايمان، وفيهم من يجعل الواجبات فقط إيماناً، ويسمي النوافل إيماناً مجازا.
2. قوله تعالى: ﴿كُلُوا﴾ ظاهره ظاهر الأمر، والمراد به الاباحة، والتخيير، لأن الأكل ليس بواجب إلا أنه متى أراد الأكل، فلا يجوز أن يأكل إلا من الحلال الطيب، ومتى كان الوقت وقت الحاجة فإنه محمول على ظاهره في باب الأمر، سواء قلنا: إنه يقتضي الإيجاب أو الندب.
3. في الآية دلالة على النهي عن أكل الخبيث ـ في قول البلخي، وغيره ـ كأنه قيل: كلوا من الطيب دون الخبيث، كما لو قال كلوا من الحلال، لكان ذلك دالّا على حظر الحرام ـ وهذا صحيح فيما له ضدّ قبيح مفهوم، فأمّا غير ذلك، فلا يدل على قبح ضدّه، لأن قول القائل، كل من زيد، لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه، لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصه، والآخر موقوف على بيان آخر، وليس كذلك ما ضدّه قبيح، لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده.
4. الطيبات: المراد بها الخالص من شائب ينغص، وإن كان لا يخلو شيء من شائب، لكنه لا يعتد به في الوصف بأنه حلال طيب، ولو كان في الطعام ما ينغصه لجاز وصفه بأنه ليس بطيب.
5. الرزق: أنه ما للحي الانتفاع به على وجه لا يكون لأحد منعه منه.
6. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ الشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون ذلك عن وجهين:
أ. أحدهما: الاعتراف بالنعمة ـ متى ذكرها ـ للمنعم بالاعتقاد لها، فهو لازم في كل حال من أحوال الذكر.
ب. الثاني: الطاعة بحسب جلالة النعمة ، فهو إنما يلزم في الحال التي يحتاج فيها الى القيام بالحق.
7. اقتضى ذكر الشكر هاهنا ما تقدم ذكره من الانعام في جعل الطيب من الرزق، للانتفاع، واستدفاع المضار، وذكر الشرط هاهنا إنما هو وجه المظاهرة في الحجاج، ولما فيه من حسن البيان دون أن يكون ذلك شرطاً في وجوب الشكر، وتلخيص الكلام إن كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب عليكم بأنه محسن إليكم.
8. العبادة، ضرب من الشكر، لأنها غاية ليس وراءها شكر، ويقترن به ضرب من الخضوع، ولا يستحق العبادة إلا الله، لأنها تستحق بأصول النعم من الحياة، والقدرة، والشهوة، والنفاد، وأنواع المنافع، وبقدر من النفع لا يواريه نعمة منعم، فلذلك اختص الله تعالى باستحقاقها.
9. قرأ نافع وابن عامر، وابن كثير، والكسائي ـ بضم نون ـ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ الباقون بكسرها.
10. لفظة ﴿إِنَّمَا﴾ تفيد إثبات الشيء، ونفي ما سواه كقول الشاعر: (وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي)، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي لا إله إلا واحد، ومثله ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ﴾ أي لا نذير إلا أنت ومعناه تحريم الميتة، وتحليل المذكى، ولو كانت ما بمعنى الذي، لكان يجوز في الميتة الرفع.
11. في الفرق بين الميت، والميتة قولان:
أ. أحدهما: قال أبو عمرو: ما كان قد مات، فهو بالتخفيف مثل ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾، وما لم يمت بالتثقيل كقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، ووجه ذلك أن التثقيل لما كان هو الأصل كان أقوى على التصريف في معنى الحاضر والمستقبل.
ب. الثاني قال قوم: المعنى واحد، وإنما التخفيف لثقل الياء على الكسرة، قال الشاعر:
çليس من مات فاستراح بميت...إنما الميت ميت الأحياءé
فجمع بين اللغتين.
12. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الربيع، وابن زيد، وغيرهما من أهل التأويل: معناه ذكر غير اسم الله عليه.
ب. الثاني: قال قتادة، ومجاهد: ما ذبح لغير الله.
13. الإهلال على الذبح: هو رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الأوثان، والمسلمون يسمون الله، ويقال: انهل المطر انهلالا وهو شدة انصبابه، وتهلل السحاب ببرقه أي تلألأ، وتهلل وجهه إذا تلألأ، وتهلل الرجل فرحاً، والهلال غرة القمر، لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يتهلل بالإحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية، ويهلل الرجل: يكبر إذا نظر الى الهلال، وهلل البعير تهليلا إذا تقوس كتقوس الهلال، وسمي به الذكر، لأن الهلال ذكر، وثوب هل أي رقيق مشبه بالهلال في رقته، والتهليل: الفزع، واستهل الصبي إذا بكى حين يولد، والهلال: الحية الذكر، لأنه يتقوس، وسمي به الذكر، لأن الهلال ذكر.
14. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ من كسر النون فلالتقاء الساكنين، ومن ضمها أتبع الضمة الضمة في الطاء، وقرأ أبو جعفر بكسر الطاء، والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان، ولا يمكنه الامتناع منه، والفرق بين الاضطرار، والإلجاء أنّ الإلجاء تتوفر معه الدواعي الى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك الاضطرار، وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة، وقال مجاهد: ضرورة إكراه، و الأولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.
15. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ قال صاحب العين يقال: رجل لحم إذا كان أكول اللحم، وبيت لحم: يكثر فيه اللحم، وألحمت القوم إذا قتلتهم وصاروا لحماً، والملحمة: الحرب ذات القتل الشديد، واستلحم الطريق إذا اتسع، واللحمة: قرابة النسب، واللحمة ما يسد به بين السديين من الثوب، واللحام: ما يلحم به صدع ذهب أو فضة أو حديد حتى يلتحما، ويلتئما، وكل شيء كان متبايناً ثم تلاءم، فقد التحم، وشجة متلاحمة إذا بلغة اللحم، وأصل الباب اللزوم، فمنه اللحم للزومه بعضه بعضاً.
16. في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ اللذة ﴿وَلَا عَادٍ﴾ سد الجوعة وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد.
ب. الثاني: ما حكاه الزجاج ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ في الافراط ﴿وَلَا عَادٍ﴾ في التقصير.
ج. الثالث: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على إمام المسلمين ﴿وَلَا عَادٍ﴾ بالمعصية طريق المحقين، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام، قال الرماني: وهذا القول لا يسوغ، لأنه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه، بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين، ولأن الرخصة إنما كانت لأجل المجاعة المتلفة، لا لأجل الخروج في طاعة، وفعل إباحة، وهذا الذي ذكره غير صحيح لأن من بغى على إمام عادل، فأدى ذلك الى تلفه، فهو المعرّض نفسه للقتل، كما لو قتل في المعركة، فإنه المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرّم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين، وما قاله من أن الرخصة لمكان المجاعة، لا يسلم إطلاقه، بل يقال: إنما ذلك للمجاعة التي لم يكن هو المعرض نفسه لها، فأما إذا عرَّض نفسه لها، فلا يجوز له استباحة المحرم، كما قلنا في قتل نفس الغير، ليدفع عن نفسه القتل.
17. أصل البغي: الطلب من قولهم: بغي الرجل حاجته يبغيها بغاً قال الشاعر:
çلا يمنعنّك من بغا...ء الخير تعقاد التمائمé
والبغاء: طلب الزنا.
18. إنما اقتضى ذكر المغفرة هاهنا أحد أمرين:
أ. أحدهما: النهي عما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة، والوصيلة، والحام، فوعد الله بالمغفرة عند التوبة، والانابة الى طاعة الله فيما أباحه أو حظره.
ب. الثاني: إذا كان يغفر المعصية، فهو لا يؤاخذ بها، جعل فيه الرخصة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/82.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الشكر: إظهار النعمة مع القيام بحقها، قال أبو علي: وهو على وجهين:
• اعتراف بالنعمة في القلب وترك الكفر به بالقلب والجوارح وذلك واجب على كل أحد.
• الثاني: ما يفعله من تعظيم المنعم ومدحه لمكان نعمته، فالأول واجب بكل حال، والثاني يلزم في الحالة التي يحتاج إلى القيام بالحق، فأما باللسان فقد يجب عند التهمة، وضد الشكر: الكفر.
ب. العبادة: خضوع وتذلل ليس لها نهاية، ولا يستحقها إلا الله تعالى.
ج. التحريم: ضد التحليل، وهو ما دخله الحظر، وأصله المنع.
د. الميت بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، وقيل: بينهما فرق، قال أبو عمرو: ما كان قد مات فهو بالتخفيف، كقوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ وما لم يمت بالتثقيل كقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ ووجه ذلك أن التثقيل لما كان هو الأصل كان أقوى على التصريف، وقال غيره: المعنى واحد، وإنما التخفيف لثقل الياء والكسر، قال الشاعر: (إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ)، فجمع بين اللغتين، وأصله مَيْوِتٌ؛ لأنه من الموت، أدغمت الواو في الياء.
هـ. الإهلال: التصويت، ومنه: استهل الصبي، والإهلال على الذبيحة: رفع الصوت بالتسمية.
و. الاضطرار: الضرورة، وهو فعل لا يمكن المفعول به الامتناع فيه.
ز. البغي: الطلب، ومنه: فلان باغٍ أي طالب.
ح. العادي: المعتدي.
2. ثم خاطب الله تعالى المؤمنين وذكَّرهم نعمه عليهم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
أ. قيل: صدقوا، عن الضحاك.
ب. وقيل: صاروا مؤمنين بفعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كُلُوا﴾:
أ. قيل: إنه إباحة وإن كان صيغته الأمر؛ لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد، عن القاضي.
ب. وقيل: إنه أمر من وجهين:
• أحدهما أن يأكل الحلال.
• الثاني أن يأكلوا وقت الحاجة دفعًا للضرر عن النفس، قال القاضي: وهذا مما يعرض في بعض الأوقات، والآية غير مقصورة عليه، فيحمل على الإباحة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾:
أ. قيل: مما يستلذ ويشتهى مما رزقناكم، وهو أوجه، قال القاضي: لأن الرزق لا يكون إلا حلالاً فوجب حمل الطيبات على ما هو أخص، ولكيلا يؤدي إلى التكرار.
ب. وقيل: من حلال ما رزقناكم، قال: ومعناه مما حَكَمَ أنه رزقكم دون ما هو لغيركم ولم يرد إثبات رزق ليس بطيب، ونظيره قوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ الله﴾ لا يدل على أن شيئًا ليس من رزق الله، عن أبي القاسم.
5. ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾ أعطيناكم ﴿وَاشْكُرُوا﴾ أمر بالشكر، وذلك يكون بالقلب واللسان، فأما أفعال الجوارح:
أ. فقيل: إنه مِنْ شكر النعمة كالعبادات، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: إنه سمي شكرًا على وجه التشبيه من حيث إنه يجب لمكان النعمة العظيمة فًعُدَّ من الشكر في عرف الشرع، لا من حيث اللغة.
6. ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ يعني إن كنتم عارفين به وبنعمه؛ لأن المتمسك بعبادته وحده هو الذي عرفه، وتقديره: إن كنتم إياه تعبدون عن علم بكونه منعمًا إلهًا، وقيل: إن كنتم مخلصين له في العبادة.
7. سؤال وإشكال: أفيجب الشكر بهذا الشرط أم يجب على الكافر والفاسق؟ والجواب: يجب على الجميع، وإنما ذكر هذا الشرط؛ لأن الشكر عنده يصح، ولولاه لما صح، والشرط قد يدخل في الأداء كما يدخل في الوجوب، كالطهارة في الصلاة.
8. ثم لما ذكر الله تعالى إباحة الطيبات بين المحظورات، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ﴾:
أ. قيل: معناه ما حرم عليكم إلا الميتة، عن الزجاج.
ب. وقيل: إنه تأكيد فقط.
9. ﴿الْمَيْتَةَ﴾ وهو ما يموت من الحيوانات ﴿وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ وخص اللحم؛ لأنه المعظَّم والمقصود، وإلا فجملته محرمة.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾:
أ. قيل: ذكر عليه غير اسم الله، عن الربيع وابن زيد وجماعة.
ب. وقيل: ما ذبح لغير الله، عن قتادة ومجاهد.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾:
أ. قيل: ضرورة مجاعة عند الأكثر، وهو الوجه، وتقديره: فمن خاف على النفس من الجوع، ولا يجد مأكولاً يسد به الرمق فيكون مضطرًّا، وكما حرم تعالى هذه الأشياء مطلقًا استثنى حالة الاضطرار إزالةً للتوهم أنه لا يحل مع الضرورة.
ب. وقيل: ضرورة إكراه، عن مجاهد.
12. سؤال وإشكال: هل يثبت تكليف علمه في أكله؟ والجواب: المضطر على وجهين:
أ. إن كان يشتهي الميتة فهو ملجأ إلى تناوله.
ب. وإن كان طبعه نافرا عنها يجب عليه تناولها حتى لو لم يتناول يأثم.
13. في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. قيل: غير باغ اللذة أي طالب لها، ولا عاد متجاوز سد الجوعة، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد، وهو الوجه؛ لوجوه:
• منها: أنهم أجمعوا أن قتل النفس والتعريض للقتل لا يجوز، ولو لم يُبَحْ ذلك للمسافر، وإن كان في معصية لكان معرضًا نفسه للقتل.
• ومنها: أن الرخصة لأجل المجاعة لا لأجل الحرج، فمتى وجد السبب وجد المسبب، وهو الحل.
• ومنها: أن الذي تقدم ذكر الأكل دون السفر، والشرط كالاستثناء يتعلق بالمذكور، فقوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ يجب أن يتعلق بالأكل.
• ومنهما: أن الرخصة للضرورة بدليل أن المقيم كالمسافر فيه، فوجب في الشرط أن يتعلق به.
• ومنها: أن للعاصي دفع التلف عن نفسه بما أمكن كالمطيع، وكذلك في أكل الميتة.
• ومنها: إذا كان له دفع ضرر العقاب عن نفسه بالتوبة كان له دفع الهلاك عن نفسه بالأكل.
• ومنها: أجمعنا أن له أن يقتل الجمل الذي صال عليه دفعًا عن نفسه، كذلك أكل الميتة.
• ومنها: أن أكثر المفسرين عليه.
ب. وقيل: غير باغ في الإفراط ولا عاد في التقصير، عن الزجاج.
ج. وقيل: غير باغ على إمام المسلمين من البغي، ولا عاد بالمعصية أي مجاوزة طريقة المحقين واتباع غير سبيلهم، عن مجاهد وسعيد بن جبير.
14. سؤال وإشكال: كيف يصح البغي في الأكل؟ والجواب: إذا طلب التلذذ بالأكل فقد صار طالبًا ما ليس له، ولو وجد غيره فعدل إليه صار باغيًا، ولو تزود للمستقبل كان باغيًا في أكله، فأما كونه عاديًا فإذا تجاوز الحلال إلى الحرام فهو عادٍ، وإذا زاد على قدر الحاجة كان عاديًا.
15. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني لا حرج عليه فذكر هذا اللفظ ليبين أنه ليس بمباح في الأصل، ولكن دفع الحرج لأجل الضرورة.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾:
أ. قيل: يستر بالرخصة ما لولا الضرورة لكان منكشفًا ولِرَحْمَته جَوَّزَ تناوله.
ب. وقيل: غفور رحيم لمن كان يُحِلُّ ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله، ثم تاب وتلافَى رُحِمَ بقبول توبته.
ج. وقيل: غفور للناس رحيم بالمؤمنين.
17. تدل الآيات الكريمة على:
أ. إباحة المأكولات إلا ما دل الدليل على الحظر.
ب. وجوب شكر النعمة.
ج. النهي عن أكل الخبيث، كأنه قيل: كلوا من الطيب دون الخبيث.
د. تحريم هذه الأشياء، والتحريم والتحليل وإن كان لا يتعلق بالأعيان في الأصل، وإنما يتعلق بأفعالنا فبالعرف يقيد التصرف في العين، فإذا علق بها التحريم أفاد حظر التصرف.
هـ. تحريم الميتة، وهي وإن كانت في اللغة عينا خرجت من كونها حية من دون قتل ونَقْضٍ بِنْيَة فهو في الشرع اسم لما لا ذكاة حصلت فيه؛ ولذلك عد ذبيحة المجوس ميتًا وإن حصل الذبح، ولا تسميه أهل اللغة ميتة، والذي يقتضيه الظاهر تحريم الميت.
و. تحريم الدم، ثم اختلفوا فقيل: المراد به الدم المسفوح؛ لأنه قال في موضع آخر: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقيل: هو عام في كل دم، وهو قول الشافعي، واختلفوا في دم السمك، فقال أصحابنا: طاهر لأنه مأكول بدمه، وقال الشافعي: نجس للطاهر.
ز. تحريم لحم الخنزير وهو حيوان معروف، ثم اختلفوا في خنزير الماء، فحرمه أصحابنا للظاهر، وأباحه الشافعي، ولا خلاف في نجاسته ونجاسة سؤره ووجوب غسل الإناء منه، وإنما اختلفوا في شعره، فأباح استعماله جماعة وحَرَّمَ بعضهم.
ح. تحريم ما أُهِلَّ لغير الله، ولا شبهة أن المراد ما يظهر من اسم غير الله على الذبيحة وأنه يحرم، واختلفوا فيما يذبح لغير الله بالقلب ولا يظهر ذلك، فمنهم من يحرم وهو الأولى، ومنهم من لا يحرم، واختلفوا في النصراني إذا ذبح لعيسى وسمى اسمه، فمنهم من حرم، والظاهر يدل عليه، ومنهم من لا يحرم، فأما إذا لم يعلم كيف ذبح فيحل عند جماعة الفقهاء إلا من حرم ذبيحة أهل الكتاب، وهو مذهب الهادي، واختلفوا في المسلم إذا ذبح على هذا الوجه فحكي عن سعيد بن جبير: أنه لا يحل، وهذا على التقدير؛ لأنه إذا فعل ذلك خرج من الإسلام كالساجد لغير الله.
ط. أن الضرورة تبيح هذه الأشياء ولا شبهة فيه، واختلفوا في مقدار ما يحل، فقيل: قدر ما يزيل الاضطرار، عن أصحاب أبي حنيفة، وقيل: له أن يشبع والأول أليق بالظاهر، واختلفوا في المضطر في سفر المعصية فقيل: يترخص، عن أصحاب أبي حنيفة، وقيل: لا يترخص، وهو قول الشافعي، وقد بينا، واختلفوا في المضطر إذا وجد جميع ما تقدم، وأكثر العلماء على أنه مُخَير، وهو الصحيح، ومنهم من يقول يتناول الميتة، ويجعل تحريم لحم الخنزير أغلظ، وهذا أقرب.
ي. أن المضطر إلى شيء إذا فعله لا إثم عليه، فيبطل الجبر؛ لأن العبد لو كان فعله مخلوقًا فيه لكان مضطرًّا ملجأ إليه، فكان لا يتوجه عليه الإثم، وهذا ظاهر.
18. قراءات وحجج:
أ. القراءة الظاهرة: ﴿حَرَّمَ﴾ بفتح الحاء والراء على أنه فعل ماض مضاف إلى الله تعالى: ﴿الْمَيْتَةُ﴾ نصب لأنه مفعول، وعن السلمي: ﴿حَرَّمَ﴾ بالتخفيف وضم الراء: ﴿الْمَيْتَةُ﴾ رفع على إضافة الفعل إليه. وعن أبي جعفر القاري: ﴿حَرَّمَ﴾ بضم الحاء وكسر الراء والتشديد و﴿الْمَيْتَةُ﴾ رفع على أن: ﴿مَا﴾ اسم إنّ وما بعده خبر. وحرم على ما لم يسم فاعله.
ب. قرأ أبو جعفر: ﴿الْمَيْتَةُ﴾ مشددة في جميع القرآن، وخففها ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو عمر عن عاصم كل القرآن، فأما نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم في بعضها بالتخفيف وبعضها بالتشديد.
ج. قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر والكسائي: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ بضم النون والباقون بالكسر، فالضم ـ للاتباع والكسر على أصل الحركة لالتقاء الساكنين، ولهم في نظائر ذلك اختلاف.
19. مسائل نحوية:
أ. نصب ﴿الْمَيْتَةُ﴾ وما بعدها على ظاهر القراءة؛ لأنه مفعول، و﴿مَا﴾ كافة تمنع: ﴿إِنَّ﴾ من العمل، ويجوز الرفع في العربية على أن: ﴿مَا﴾ بمعنى: ﴿الَّذِي﴾.
ب. سؤال وإشكال: لماذا صار: ﴿إِنَّمَا﴾ إثباتًا للشيء ونفيًا لما سواه؟ والجواب: لأنها لما كانت للتوكيد، ثم ضم إليها: ﴿مَا﴾ للتوكيد أيضًا وكّدت هي من جهة تحقيق الشيء، وأكدت: ﴿مَا﴾ من جهة نفي ما عداه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/709.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الشكر هو الاعتراف بالنعمة، مع ضرب من التعظيم، ويكون على وجهين:
• أحدهما: الاعتراف بالنعمة متى ذكرها المنعم عليه، بالاعتقاد لها.. وهو لازم في كل حال من أحوال الذكر.
• الثاني: الطاعة بحسب جلالة النعمة.. وهو يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق.
ب. العبادة ضرب من الشكر، إلا أنها غاية فيه ليس وراءها شكر، ويقترن به ضرب من الخضوع، ولا يستحق العبادة غير الله سبحانه، لأنها إنما تستحق بأصول النعم التي هي الحياة، والقدرة والشهوة وأنواع المنافع، وبقدر من النفع لا يوازيه نعمة منعم، فلذلك اختص الله سبحانه باستحقاقها.
ج. الإهلال في الذبيحة: رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الأوثان، والمسلمون يسمون الله، وانهلال المطر: شدة انصبابه، والهلال: غرة القمر لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يهل بالإحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية، واستهل الصبي: إذا بكى وقت الولادة.
د. الاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه وذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان، فلا يمكنه الامتناع منه، والفرق بين الاضطرار والإلجاء أن الإلجاء قد تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضرر والنفع، وليس كذلك الاضطرار.
هـ. لحم: قال صاحب العين: رجل لحم إذا كان أكولا للحم، وبيت لحم: يكثر فيه اللحم، وألحمت: القوم إذا قتلتهم وصاروا لحما، والملحمة: الحرب ذات القتل الشديد، واستلحم الطريد: إذا اتسع، واللحمة قرابة النسب، وأصل الباب: اللزوم، ومنه اللحم للزوم بعضه بعضا.
و. أصل البغي: الطلب، من قولهم: بغى الرجل حاجته يبغي بغاء، قال الشاعر:
çلا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم... إن الأشائم كالأيامن، والأيامن كالأشائمé
ز. العادي: المعتدي.
2. ثم خاطب سبحانه المؤمنين، وذكر نعمه الظاهرة عليهم، وإحسانه المبين إليهم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا﴾:
أ. قيل: ظاهره الأمر، والمراد به الإباحة، لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد.
ب. وقيل: إنه أمر من وجهين: أحدهما: بأكل الحلال والآخر: بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس، قال القاضي: وهذا مما يعترض في بعض الأوقات، والآية غير مقصورة عليه، فيحمل على الإباحة.
3. ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي: مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق، وفيه دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول البلخي وغيره، كأنه قيل: كلوا من الطيب غير الخبيث، كما أنه لو قال: كلوا من الحلال، لكان ذلك دالا على حظر الحرام، وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم، فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده، لأن قول القائل: كل من مال زيد، لا يدل على أنه أراد تحريم ما عداه، لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة، وما عداه موقوف على بيان آخر، وليس كذلك ما ضده قبيح، لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده.
4. ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ لما نبه سبحانه على إنعامه علينا، بما جعله لنا من لذيذ الرزق، أمرنا بالشكر لأن الانعام يقتضي الشكر.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾:
أ. قيل: أي: إن كنتم تعبدونه عن علم بكونه منعما عليكم.
ب. وقيل: إن كنتم مخلصين له في العبادة.
6. ذكر الشرط هنا إنما هو على وجه المظاهرة في الحجاج، ولما فيه من حسن البيان، وتلخيص الكلام: إن كانت العبادة لله سبحانه واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب عليكم بأنه منعم محسن إليكم.
7. ثم لما ذكر سبحانه إباحة الطيبات، عقبه بتحريم المحرمات، فقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وهو ما يموت من الحيوان، ﴿وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ خص اللحم لأنه المعظم والمقصود وإلا فجملته محرمة.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾:
أ. قيل: إنه ما ذكر غير اسم الله عليه، عن الربيع وجماعة من المفسرين.
ب. وقيل: إنه ما ذبح لغير الله، عن مجاهد وقتادة، والأول أوجه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾:
أ. قيل: إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة، عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: ضرورة إكراه، عن مجاهد، وتقديره فمن خاف على النفس من الجوع، ولا يجد مأكولا يسد به الرمق.
10. في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: غير باغ اللذة، ولا عاد سد الجوعة، عن الحسن وقتادة ومجاهد.
ب. ثانيها: غير باغ في الإفراط، ولا عاد في التقصير، عن الزجاج.
ج. ثالثها: غير باغ على إمام المسلمين، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وعن مجاهد وسعيد بن جبير، واعترض علي بن عيسى على هذا القول بأن قال: إن الله لم يبح لأحد قتل نفسه، والتعرض للقتل قتل في حكم الدين، ولأن الرخصة لأجل المجاعة، لا لأجل سفر الطاعة، وهذا فاسد لأن الباغي على الإمام معرض نفسه للقتل، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين، وقوله: إن الرخصة لأجل المجاعة غير مسلم على الإطلاق، بل هو مخصوص بمن لم يعرض نفسه لها.
11. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: لا حرج عليه، وإنما ذكر هذا اللفظ ليبين أنه ليس بمباح في الأصل، وإنما رفع الحرج لأجل الضرورة.
12. ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وإنما ذكر المغفرة لأحد الأمرين:
أ. إما ليبين أنه إذا كان يغفر المعصية، فإنه لا يؤاخذ بما رخص فيه.
ب. وإما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله مما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة وغيرها.
13. قراءات وحجج:
أ. قرأ أبو جعفر: ﴿الْمَيْتَةُ﴾ مشددة كل القرآن.
ب. قرأ أهل الحجاز والشام والكسائي: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ بضم النون، وأبو جعفر منهم بكسر الطاء (من اضطر)، والباقون بكسر النون.
ج. الميتة: أصلها المييتة، فحذفت الياء الثانية استخفافا لثقل الياءين والكسرة، والأجود في القراءة: ﴿الْمَيْتَةُ﴾ بالتخفيف.
د. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ بالضم فهو للاتباع، كما ضمت همزة الوصل في انصروا، وأما الكسرة فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين، وأما قراءة أبي جعفر: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ فلأن الأصل اضطرر، فسكنت الراء الأولى للادغام، ونقلت حركتها إلى الحرف الذي قبلها، فصار اضطر، والأصل أن لا تنقل حركة عند إسكانها، لأن الطاء على حركتها الأصلية.
14. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾: موصول وصلة، والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف، وتقديره ما رزقناكموه، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم إياه تعبدون، فكلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا لله.
ب. ﴿إِنَّمَا﴾ تفيد إثبات الشيء الذي يذكر بعدها، ونفي ما عداه، كقول الشاعر: (وإنما عن أحسابهم أنا، أو مثلي)، وإنما كانت لاثبات الشيء ونفي ما سواه من قبل أن إن كانت للتوكيد، وانضاف إليها ما للتوكيد أيضا، أكدت أن من جهة التحقيق للشيء، وأكدت ما من جهة نفي ما عداه، فإذا قلت: إنما أنا بشر، فكأنك قلت: ما أنا إلا بشر، ولو كانت ما بمعنى الذي، لكتبت ما مفصولة، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: لا إله إلا الله إلا إله واحد، ومثله: إنما أنت نذير أي: لا نذير إلا أنت، فإذا ثبت ذلك، فلا يجوز في الميتة إلا النصب، لأن ما كافة، ولو كانت ما بمعنى الذي، لجاز في الميتة الرفع.
ج. ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: منصوب على الحال، وتقديره: لا باغيا ولا عاديا، ولا يجوز أن يقع إلا ها هنا في موضع غير، لما قلناه إنه بمعنى النفي، ولذلك عطف عليه بلا.
د. ﴿إِلَّا﴾ فمعناه في الأصل الاختصاص لبعض من كل، وليس ها هنا كل يصلح أن يخص منه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/466.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الميتة في عرف الشّرع: اسم لكلّ حيوان خرجت روحه بغير ذكاة، وقيل: إنّ الحكمة في تحريم الميتة أنّ جمود الدّم فيها بالموت يحدث أذى للآكل، وقد يسمّى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكما، لأنّ حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتدّ.
2. الدم: المحرّم منه المسفوح، لقوله تعالى: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾، قال القاضي أبو يعلى: فأمّا الدّم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذّبح، وما يبقى في العروق؛ فهو مباح.
3. لحم الخنزير: فالمراد: جملته، وإنما خصّ اللحم، لأنّه معظم المقصود، قال الزّجّاج: الخنزير يشتمل على الذّكر والأنثى.
4. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله، ومثله الإهلال بالحجّ، إنّما هو رفع الصّوت بالتّلبية.
5. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾، أي: ألجئ بضرورة، وقرأ أبو جعفر: (فمن اضطر) بكسر الطاء حيث كان، وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء.
6. ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾، قال الزجّاج: البغي: قصد الفساد، يقول: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد، وفي قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السّبيل، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد.
ب. الثاني: غير باع في أكله فوق حاجته، ولا متعدّ بأكلها وهو يجد غيرها، هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والرّبيع.
ج. الثالث: غير باغ، أي: مستحلّ، ولا عاد: غير مضطرّ، روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل.
د. الرابع: غير باغ شهوته بذلك، ولا عاد بالشّبع منه، قاله السّدّيّ.
7. معنى الضّرورة في إباحة الميتة: أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه، سئل أحمد عن المضطرّ إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنّه قال من اضطرّ فلم يأكل فمات دخل النّار، وأمّا مقدار ما يأكل؛ فنقل حنبل: يأكل بمقدار ما يقيمه عن الموت، ونقل ابن منصور: يأكل بقدر ما يستغني، فظاهر الأولى: أنّه لا يجوز له الشّبع، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ، وظاهر الثانية: جواز الشّبع؛ وهو قول مالك.
__________
(1) زاد المسير: 1/134.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾
2. تكلم الله تعالى من أول السورة إلى هاهنا في دلائل التوحيد والنبوة، واستقصى في الرد على اليهود والنصارى، ومن هنا شرع في بيان الأحكام.
3. الأكل قد يكون واجبا، وذلك عند دفع الضرر عن النفس، وقد يكون مندوبا، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد، فهذا الأكل مندوب، وقد يكون مباحا إذا خلا عن هذه العوارض، والأصل في الشيء أن يكون خاليا عن العوارض، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحا وإذا كان الأمر كذلك كان قوله: ﴿كُلُوا﴾ في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة.
4. احتج أهل السنة، ومن وافقهم على أن الرزق قد يكون حراما بقوله تعالى: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالا لكان قوله: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ معناه من محللات ما أحللنا لكم، فيكون تكرارا وهو خلاف الأصل، وقد أجاب المخالفون بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب، ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه، فأباح الله تعالى ذلك بقوله، كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى.
5. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ وجوه:
أ. أحدها: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ إن كنتم عارفين بالله وبنعمه، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته، إطلاقا لاسم الأثر على المؤثر.
ب. ثانيها: معناه: إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه، فإن الشكر رأس العبادات.
ج. ثالثها: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ الذي رزقكم هذه النعم ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره، عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)
6. احتج من قال إن المعلق بلفظ: أن، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة (إن) على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضا.
7. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ لما أمرنا الله تعالى في الآية السالفة بتناول الحلال فصل في هذه الآية أنواع الحرام، والكلام فيها على نوعين:
أ. الأول: ما يتعلق بالتفسير.
ب. الثاني: ما يتعلق بالأحكام التي استنبطها العلماء من هذه الآية(2)..
8. كلمة ﴿إِنَّمَا﴾ على وجهين:
أ. أحدهما: أن تكون حرفا واحدا، كقولك: إنما داري دارك، وإنما مالي مالك.
ب. الثاني: أن تكون (ما) منفصلة من: إن، وتكون (ما) بمعنى الذي، كقولك: إن ما أخذت مالك، وإن ما ركبت دابتك، وجاء في التنزيل على الوجهين:
• أما على الأول فقوله: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ وإِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ﴾
• وأما على الثاني فقوله: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ [طه]، ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل ﴿إِنَّمَا﴾ حرفا واحدا كان صوابا، وقوله: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين.
9. اختلفوا في حكم ﴿إِنَّمَا﴾ على الوجه الأول، أي اعتبارها حرفا واحدا:
أ. منهم من قال ﴿إِنَّمَا﴾ تفيد الحصر، واحتجّوا عليه بالقرآن والشعر والقياس:
• أما القرآن فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، أي ما هو إلا إله واحد، وقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة] أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف] أي ما أنا إلا بشر مثلكم، وكذا هذه الآية، فإنه تعالى قال في آية أخرى ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ [الأنعام]، فصارت الآيتان واحدة فقوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ﴾ في هذه الآية مفسر لقوله: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ إلا كذا في تلك الآية.
• أما الشعر فقوله الأعشى:
çولست بالأكثر منهم حصى... وإنما العزة للكاثرé
وقول الفرزدق:
çأنا الذائد الحامي الذمار وإنما... يدافع عن أحسابه أنا أو مثليé
• وأما القياس، فهو أن كلمة (إن) للإثبات وكلمة (ما) للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما؛ فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور، ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق، أو ثبوت المذكور، ونفي غير المذكور وهو المطلوب.
ب. منهم من قال ﴿إِنَّمَا﴾ لا تفيد الحصر، واحتج بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ ولقد كان غيره نذيرا، وجوابه معناه: ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر، ولا ينفي وجود نذير آخر.
10. الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح، وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها، فحرم الله الدم وقوله: ﴿لَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ أراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل.
11. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ قال الأصمعي: الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل، وقال ابن أحمر:
çيهل بالفدفد ركبانها... كما يهل الراكب المعتمرé
هذا معنى الإهلال في اللغة، ثم قيل للمحرم مهل لرفعة الصوت بالتلبية عند الإحرام، هذا معنى الإهلال، يقال: أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها، وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، والذابح مهل، لأن العرب كانوا يسمعون الأوثان عند الذبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه: استهل الصبي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾:
أ. قيل: يعني ما ذبح للأصنام، وهو قول مجاهد، والضحاك وقتادة.
ب. وقال الربيع بن أنس وابن زيد: يعني ما ذكر عليه غير اسم الله، وهذا القول أولى، لأنه أشد مطابقة للفظ، قال العلماء: لو أن مسلما ذبح ذبيحة، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد، وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب، أما ذبائح أهل الكتاب، فتحل لنا لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: 5].
13. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ اضطر: أحوج وألجئ، وهو افتعل من الضرورة، وأصله من الضرر، وهو الضيق.
14. لما حرم الله تعالى تلك الأشياء، استثنى عنها حال الضرورة، وهذه الضرورة لها سببان:
أ. أحدهما: الجوع الشديد، وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق، فعند ذلك يكون مضطرا.
ب. الثاني: إذا أكرهه على تناوله مكره، فيحل له تناوله.
15. الاضطرار ليس من أفعال المكلف، حتى يقال إنه ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فإذن لا بد هاهنا من إضمار وهو الأكل والتقدير: فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف هاهنا كالحذف في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ﴾ [البقرة: 196] ومعناه فحلق ففدية، وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف، ولدلالة الخطاب عليه.
16. ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ قال الفراء ﴿غَيْرُ﴾ هاهنا لا تصلح أن تكون بمعنى الاستثناء، لأن غير هاهنا بمعنى النفي، ولذلك عطف عليها لا لأنها في معنى: لا، وهي هاهنا حال للمضطر، كأنك قلت: فمن اضطر باغيا، ولا عاديا فهو له حلال.
17. أصل البغي في اللغة الفساد، وتجاوز الحد قال الليث: البغي في عدو الفرس اختيال ومروح، وأنه يبغي في عدوه ولا يقال: فرس باغ، والبغي الظلم والخروج عن الإنصاف ومنه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39] وقال الأصمعي: بغى الجرح يبغي بغيا، إذا بدأ بالفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد، وبغى الجرح والبحر والسحاب إذا طغى.
18. ﴿وَلَا عَادٍ﴾ العدو هو التعدي في الأمور، وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، يقال عدا عليه عدوا، وعدوانا، واعتداء وتعديا، إذا ظلمه ظلما مجاوزا للحد، وعدا طوره: جاوز قدره.
19. لأهل التأويل في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن يكون قوله، ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ مختصا بالأكل، وفيه وجوه:
• الأول: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ وذلك بأن يجد حلالا تكرهه النفس، فعدل إلى أكل الحرام اللذيذ ﴿وَلَا عَادٍ﴾ أي متجاوز قدر الرخصة.
• الثاني: غير باغ للذة أي طالب لها، ولا عاد متجاوز سد الجوعة، عن الحسن، وقتادة، والربيع، ومجاهد، وابن زيد.
• الثالث: غير باغ على مضطر آخر بالاستيلاء عليه، ولا عاد في سد الجوعة.
ب. الثاني: أن يكون عاما في الأكل وغيره، كأن يكون المعنى غير باغ على إمام المسلمين في السفر من البغي، ولا عاد بالمعصية أي مجاوز طريقة المحقين.
20. بينا في تفسير قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158] أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وأيضا فقوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ معناه رفع الحرج والضيق، وهذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك، أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار، وهاهنا يتحقق معنى الوجوب.
21. سؤال وإشكال: في آخر الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إشكال وهو أنه لما قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فكيف يليق أن يقول بعده: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعنى لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك.
ب. ثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة.
ج. ثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورا رحيما لأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى.
22. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، وقد قدم لها بقوله: (النوع الثاني: من الكلام في هذه الآية المسائل الفقهية التي استنبطها العلماء منها وهي مرتبة على فصول)، وقد نقلناها إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/190.
(2) نقلنا هذا إلى محله من السلسلة.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر في تفسيره لهذا المقطع الكثير من المسائل الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا، والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه، وقيل: هو الأكل المعتاد، وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثم ذكر ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)
3. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ إنما كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه، وقد حصرت ها هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة إنما الحاصرة، فاقتضى ذلك الايعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روى أنها نزلت بعرفة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا.
4. الميتة نصب بـ ﴿حَرَّمَ﴾، و﴿مَا﴾ كافة، ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع الميتة والدم ولحم الخنزير على خبر إن، وهي قراءة ابن أبى عبلة، وفي ﴿حَرَّمَ﴾ ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾، وقرا أبو جعفر حرم بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن، وقرا أبو جعفر بن القعقاع أيضا الميتة بالتشديد، الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت، وميت لغتان، وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه ميت بالتخفيف، دليله قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، وقال الشاعر:
çليس من مات فاستراح بميت...إنما الميت ميت الأحياءé
ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير وما هو بميت والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:
çإذا ما مات ميت من تميم...فسرك أن يعيش فجئ بزادé
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، و الأول أشهر.
5. الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها.
6. الإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته، قال ابن أحمر يصف فلاة:
çيهل بالفريد ركبانها...كما يهل الراكب المعتمرé
وقال النابغة:
çأو درة صدفية غواصها...بهج متى يرها يهلّ ويسجدé
ومنه إهلال الصبى واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته، وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح.
7. جرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير الله به، فتركها الناس، قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم، ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال أخبرنا جرير عن قابوس قال أرسل أبي امرأة إلى عائشة وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدوم عليها، قالت: كان يصلى قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة، قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم.
8. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة، والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح، وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات، قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه، وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة قال: بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليهما فنادانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرجعنا إليه فقال: (إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا) قالوا لا، فقال: (إن هذه كذلك)، قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: (كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل)، خرجه ابن ماجة، وقال: هذا الأصل عندي، وذكره ابن المنذر قال: قلنا: يا رسول الله، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال (يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل)، قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال، قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضى عليه بنرميق تلك المهجة الآدمية، وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض، فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية، والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء.
9. ﴿وَلَا عَادٍ﴾ أصل عاد عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث، والأصل شائك وهائر ولائت، من لثت العمامة، فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/216.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ هذا تأكيد للأمر الأول، أعني قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس، والمراد بالأكل: الانتفاع؛ وقيل: المراد به: الأكل المعتاد، وهو الظاهر.
2. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ قد تقدّم أنه يقال شكره وشكر له يتعدى بنفسه وبالحرف، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي: تخصونه بالعبادة، كما يفيده تقدّم المفعول.
3. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ قرأ أبو جعفر: حرم على البناء للمفعول و﴿إِنَّمَا﴾ كلمة موضوعة للحصر؛ تثبت ما تناوله الخطاب؛ وتنفي ما عداه، وقد حصرت هاهنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها.
4. ﴿الْمَيْتَةُ﴾ قرأ ابن أبي عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل ما في ﴿إِنَّمَا﴾ موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة: بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد، والميتة: ما فارقها الروح من غير ذكاة.
5. ﴿وَالدَّمَ﴾ اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ فيحمل المطلق على المقيد، لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي: بالإجماع، وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ينكره.
6. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ أن المحرّم إنما هو اللحم فقط، وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم، وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه تجوز الخرازة به.
7. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ الإهلال: رفع الصوت، يقال: أهلّ بكذا، أي: رفع صوته قال الشاعر يصف فلاة:
çيهلّ بالفرقد ركبانها...كما يهلّ الرّاكب المعتمرé
وقال النّابغة:
çأو درّة صدفيّة غوّاصها...بهج متى يرها يهلّ ويسجدé
ومنه: إهلال الصبيّ، واستهلاله، وهو: صياحه عند ولادته، والمراد هنا: ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزّى إذا كان الذباح وثنيا، والنار إذا كان الذابح مجوسيا، ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهلّ به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن.
8. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ قرئ بضم النون للإتباع، وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي: فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرمات، وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء، وقرأ أبو السمال بكسر الطاء، والمراد من صيّره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة.
9. ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ نصب على الحال، قيل: المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة؛ وقيل: غير باغ على المسلمين؛ وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي: قطاع الطريق، والخارج على السلطان، وقاطع الرحم، ونحوهم؛ وقيل: المراد: غير باغ على مضطرّ آخر ولا عاد سدّ الجوعة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/196.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي: ما أخلصناه لكم من الشّبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس ـ كما أحلّه المشركون من المحرّمات ـ ولا تحرّموا ما أحلّوا منها من السائبة وما معها ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ ـ الذي رزقكم هذه النعم ـ ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ﴾ ـ أي: وحده ـ ﴿تَعْبُدُونَ﴾ أي: إن صحّ أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرّون أنه سبحانه هو المنعم لا غير.
2. قال ابن تيمية: الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق، فأباح الله الطيبات للمتّقين التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها، وحرّم عليهم الخبائث التي تضرّهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم ـ مع أكلها ـ بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحقّ العقوبة، ومن حرّمها ـ كالرهبان ـ فقد تعدّى حدود الله فاستحق العقوبة، وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)، وفي حديث آخر: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)، وقال تعالى ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: 8]، أي: عن شكره، فإنّه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه، وعمّا حرّمه عليه، هل فرّط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87].
3. لمّا قيّد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب، فبيّن صريحا ما حرّم عليهم ـ مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره ـ وأفهم حلّ ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
4. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ هي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة ـ إما في الفاعل أو في المفعول ـ فدخل فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
5. ﴿وَالدَّمَ﴾ وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى ـ والمفسّر قاض على المبهم ـ وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد، وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معي من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة، ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابيّ فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال: ما قريت وإنما فصد لي، فقال: لم يحرم من فصد له ـ بسكون الصاد ـ فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكّن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها، ويروى: من فزد له ـ بالزاي بدل الصاد ـ وبعضهم يقول: من قصد له ـ بالقاف ـ أي: من أعطى قصدا أي قليلا، وكلام العرب بالفاء، وقال يعقوب: تأويل هذا أنّ الرجل كان يضيف الرجل في شدّة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشحّ أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه.
6. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إمّا تغليبا؛ أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإمّا بطريق القياس على رأي، لأنّه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل ـ وهو أطيب ما فيه ـ كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم.
7. لمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس، حرّم ما يرين على القلب، فقال: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له، وأصل (الإهلال) رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى، وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنّه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم، وذكر أيضا عن عائشة: أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم، والقصد سدّ ما كان مظنّة للشرك، قال النوويّ في (شرح مسلم): فإن قصد الذابح ـ مع ذلك ـ تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى ـ والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما، قبل ذلك، صار بالذبح مرتدّا، ذكره في الكلام على حديث عليّ رضي الله عنه: لعن الله من ذبح لغير الله، قال الحراليّ: وذكر الإهلال إعلام بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر.
8. فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات:
أ. أما الميتة: فقال الحراليّ: هي ما أدركه الموت من الحيوان ـ عن ذبول القوّة وفناء الحياة ـ وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلزز أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها، وقال المهايميّ في تفسيره: ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم وهو الميتة وما ذكر معها، فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهّر من الذبح باسم الله ـ تحقيقا أو تقديرا ـ فتتعلّق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله، وإنما أبيح ميتة السمك لأنّ أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه؛ والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
ب. أمّا خبث الدّم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة، وقال ابن تيمية: حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
ج. أمّا خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس ـ كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم ـ لأن من حكمة الله في خلقه: أنّ من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: (الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم)، فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق، نقله البقاعيّ، وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير ـ المبنية على التجارب الحسّية ـ غير ما قالوه القدماء، فمن مضارّه: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام أو النهم الشديد وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى، ويودي بحياة المصاب.. إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها، قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا! فلم يترك ضارّا لأحدهما إلا ونبّه عليه تصريحا أو تلويحا.. وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
د. أما خبث المهلّ به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرّب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى؛ فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن؛ والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.
9. لما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر، فقال ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي غير طالب له راغب فيه لذاته، من (بغى الشيء وابتغاه: طلبه وحرص عليه) ﴿وَلَا عَادٍ﴾ أي: مجاوز لسدّ الرمق وإزالة الضرورة ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثّر فيه الخبث لأنّه كاره بالطبع.
10. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما أكله حال الضرورة ﴿رَحِيمٌ﴾ حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/474.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ﴾ لذائذ ﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ لا تحرِّموها على أنفسكم ولو اعتقدتم حلَّها، نزلت فيمن عزم من الصَّحابة على أنْ يمنع نفسه منها، أو الطيِّبات: الحلال مطلقًا، فيدخل فيها اللَّذائذ، ﴿وَاشْكُرُواْ لِلهِ﴾ على حلِّ أكلها، والأمر بالأكل للإباحة العامَّة في الطيِّبات، أو في اللَّذائذ إباحة تأكيدٍ لتقدُّمها في آيٍ أُخَر، ولعهدها في الأذهان، وخارجًا وعملاً، كرَّر ذلك تشخيصًا للمؤمنين، وتخصيصًا بأنَّهم الأهل لها، وتشريفًا لهم، وليرتِّب عليه ذكر الشكر وتحريم الميتة وما بعدها.
2. ﴿إِن كُنتُمُ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إذ عبادته لا تتمُّ إلَّا بالشكر، أي: إن كنتم تريدون عبادته عبادة تامَّة، والمراد الشكر باللسان، أو أنْ يستشعر في العبادة أنَّه يعبده لأجل نعمه، وَأَمَّا الشكر بمعنى استعمال القلب واللسان والجارحة فلا تفسَّر به الآية؛ لأنَّ المعنى يكون بذلك: واشكروا الله إنْ كنتم إيَّاه تشكرون، وهو لا يصحُّ.
3. تقديم (إِيَّاهُ) للاهتمام والفاصلة، وإنْ جعلناه للحصر كان المعنى: واشكروا الله إن كنتم خصَّصتموه بالعبادة، فالقيد حصَرَ العبادة له لا نفس العبادة، فمن لم يشكر له بل شكر غيره لم يخصَّه بالعبادة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الحمد رأس الشكر ما شكر اللهَ من لم يحمده)، والمراد بالحمد في الحديث الحمد اللفظيُّ، قال الطَّبرانيُّ والديلميُّ والبيهقيُّ: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يقول الله تبارك وتعالى: إنِّي والإنس والجنَّ في نبإ عظيم، أخلُق ويُعبد غيري! وأَرزق ويُشكر غيري!).
4. ﴿إِنَّمَا حَرَمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾ الحصر إضافيٌّ، منظور فيه إلى السائبة وما معها لا حقيقيٌّ؛ لأنَّه قد حرَّم أيضًا المغصوب والمسروق، وأجرة الزنى وأجرة الكهانة، والرِّبا وغير ذلك، وَأَمَّا الموقوذة والمتردِّية والنطيحة وما أكل السبع فداخلة في الميتة إنْ لم تُدرَك ذكاتُها قبل الموت، وإنْ أدركت فمن الحلال، والحصر حصر قلبٍ بالنسبة إلى من أحلَّ الميتة وما معها، وحرَّم السائبة وما معها، وحصرُ أفرادٍ بالنسبة إلى ما حرَّمه بعض المؤمنين من اللَّذات بأنْ شدَّد عليهم، فعدَّ منعهم أنفسهم منها تحريما، فنهاهم بهذا الحصر، ففي كلٍّ من التحريم والمنع تحجير فيكون من عموم المجاز، ثمَّ الحكم إنَّما يتعلَّق بالمعاني لا بالذَّوات، فالمراد: حرَّم عليكم أكل الميتة وما معها وبيعهنَّ وشراءهنَّ، ورهنهنَّ والإجارة بهنَّ، وإصداقهنَّ والغسل بهنَّ والاستصباح بهنَّ، ولكن أسند الحكم إلى الذَّوات مبالغة، وأَلحقَ الحديثُ ما قُطع من حيٍّ وهو حيٌّ، قال أبو داود والترمذي وحسَّنه عن أبي واقد الليثي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم المدينة وهم يَجُبُّون الأسنمة، ويقطعون إليات الغنم، (ما قُطع ـ ، أي: وهو حيٌّ ـ من البهيمة ـ وهي حيَّةٌ ـ فهو ميِّتة)، واستثنى الحديث السمك والجراد إذ قال: (أحِلَّت لكم ميتتان..)، وزعم بعض أنَّ ما مات من الحوت والجراد حرام، وعموم الحديث يردُّه، واستثنى الحديثُ أيضًا الجلدَ فإنَّه إنْ أزيل وَدَكُهُ بدباغ أو غيره حَلَّ ظاهرًا وباطنًا، واستثنى من الدمِ الكبدَ والطحالَ، وخصَّ ذكر لحم الخنزير بالذكر لأنَّه معظم ما يؤكل، ولأنَّهم يستعظمون تحريمه، وغيرُه تبعٌ له وكلُّه حرام حتَّى عظامه وجلده وشعره، وقيل بحلِّ شعره، وحلَّ خنزير البحر على الصحيح.
ومعنى ﴿أُهِلَّ بِهِ﴾ رفع الصوت به، وذلك أنْ يذكر الصَّنم أو غيره عند ذكاته وحده أو مع الله، فيحرم ما ذُكر عليه المسيح، وقيل: حلَّ؛ لأنَّ الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب، وقد علم أنَّهم يخلطون، ويحرم ما ذكر للجنِّ اتِّقاء بهم لمريض، أو عند حفر بئرٍ، أو بناء دارٍ بأن يذبح في الموضع الذي يحفر نفسِهِ، أو في الدار نفسِها، أو في موضع مجاور لهما لذلك، ورفع الصوت ذكرٌ للواقع في الجاهليَّة، فما ذُبح لغير الله حرام ولو أسرَّ ذكر غير الله، أو ذَكَره في قلبه، والإهلال مأخوذ من الهلال إذ يرفع الصوت به إذا رُئي، ثمَّ أطلق على رفع كلِّ صوت.
5. كلُّ ما نهي عن قتله في الحديث من نحو الصرد والهدهد فذبحه للأكل أو لمنفعة حلال، والآية تشمله.
6. ﴿فَمَنُ اضْطُرَّ﴾ افتُعل، من الضرِّ، وهو متعدٍّ لواحدٍ كأصله، ألا تراه مبنيًّا للمفعول مع أنَّ نائب الفاعل غير ظرف ولا مصدر، وطاؤه عن تاء لتوافق الضَّاد في الجهر، والافتعال هنا للمبالغة، كأنَّه قيل: من ضُرَّ ضرًّا عظيمًا بالجوع حتَّى خاف به الموت أو العمى أو الصَّمم أو البكم أو الشَّلل أو نحو ذلك ممَّا لا يُحمل، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ بالسَّفر في معصية، أو منع حقٍّ، أو نشوز عن زوج أو سيِّد، أو خروج عن المسلمين أو منع مضطرٍّ آخَر عن أن يشاركه، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ معلٌّ، كَغَازٍ وقاضٍ، من العداوة أو العدوان، وهو تجاوز الحدِّ، ومرجعهما واحد، وذلك بقطع الطريق عن المسلمين أو أهل الذمَّة، أو بأكل فوق ما يمسك.
7. الرمق، ﴿فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في الأكل من ذلك بقدر ما يوصله أو يحيى به، ولا يأخذ معه من ذلك، والمذهب تحريم الزيادة على ما يمسك الرَّمق، وكذا روي عن أبي حنيفة والشافعي، وقال عبد الله بن الحسن البصري: يأكل قدر ما يدفع الجوع، وقال مالك: يأكل حتَّى يشبع ويتزوَّد، فإذا وجد الحلال طرحه، وإنْ تاب الباغي أو العادي حلَّ له تناول من ذلك، وكذا لا يحلُّ لهما التيمُّم إنْ فقدا الماء ويصلِّيان به، ويقضيان إذا وجدا ماء، وإنْ تابا لم يقضيا ما صلَّيا بالتيمم بعد التوبة.
8. ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لأوليائه لأنَّهم يتوبون، ﴿رَّحِيمٌ﴾ بأهل طاعته حيث وسَّع للمضطرِّ، وليس ذلك مختصًّا بالموحِّدين بل يحلُّ لمشرك غير باغ ولا عاد أيضًا أنْ يتناول منها للاضطرار؛ لأنَّهم مخاطبون بفروع الشَّريعة كأصلها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/290.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بين الله تعالى حال الذين يتخذون الانداد من دونه، وأشار إلى أن سبب ذلك حب الحطام، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلهم بان يأكلوا مما في الارض إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط ان تكون حلالا طيبا، وبين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم لانهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ـ ثم وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة لانهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالاهتداء، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ الامر هنا للوجوب لا للإباحة والطيبات ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس.
2. هذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الارض فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم، وأعطوا ميزانا يميزون به الخواطر الشيطانية الضارة من غيرها، فما أقاموا به ولا له وزنا، وبين لهم الحرام من الحلال، ولكنهم نفضوا أيديهم من عز الاستقلال بالاستدلال، وهون عليهم التقليد ذل القيود والاغلال، فهو يقول كلوا من هذه الطيبات ولا تضيقوا على انفسكم مثلهم.
3. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ الذي خلقها لكم وسهل عليكم أسبابها، بأن تتبعوا سنته الحكيمة في طلب هذه الطيبات واستخراجها، وفي استعمالها فيما خلقت لاجله، وبالثناء عليه جل جلاله وعم نواله، واعتقاد أن هذه الطيبات من فضله وإحسانه، ليس لمن اتخذوا أندادا له تأثير فيها.
4. ولذلك قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي إن كنتم تخصونه بالعبادة، وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم، ولا تجعلوا له أندادا تطلبون منهم الرزق أو ترجعون اليهم بالتحليل والتحريم، فان ذلك له وحده، وإلا كنتم مشركين به، كافرين لنعمه، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق، ورؤساء يشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه، ويحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه لهم.
5. من الشكر له تعالى استعمال القوى التي غذيت بتلك الطيبات في نفع أنفسكم وأمتكم وجنسكم، وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم بل هو من الخبائث والسحت.
6. قال محمد عبده: لا يفهم هذه الآية حق فهمها الا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الاسلام وقبله، فان المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم، وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به الى الله تعالى تعذيب النفس واحتقارها وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أن لا حياة للروح الا بذلك، وأن الله تعالى لا يرضى منا الا احياء الروح، وكان الحرمان من الطيبات على أنواع منها ما هو خاص بالقديسين، أو بالرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كأنواع الصوم الكثيرة كصوم العذراء وصوم القديسين، وفي بعضها يحرمون اللحم والسمن دون السمك، وفي بعضها يحرمون السمك واللبن والبيض أيضا، وكل هذه الاحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء وليس لها أثر ينقل عن التوراة أو عن المسيح عليه السّلام، وبذلك كانوا أندادا، ونزل في شأنهم ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾ وتقدم بيان ذلك وقد سرت اليهم هذه الاحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ويرون أن التقرب الى الله محصور في تعذيب النفس وترك حظوظ الجسد، اذ رأوا في دينهم وفي سيرة المسيح وحواريه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤيدها.
7. تفضل الله تعالى على هذه الامة بجعلها أمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها كما تقدم في تفسير: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة، وإنما جعلنا أناسيّ كملة، بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن.
8. ظهر بهذا التقرير أن الآية متصلة بما قبلها ومتممة له، وقال بعض المفسرين وله وجه فيما قال: ان ما تقدم من أول السورة الى ما قبل هذه الآية كله في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي، وما جاء فيها من الاحكام، فإنما جاء بطريق العرض والاستطراد، وهذه الآية ابتداء قسم جديد من الكلام، وهو سرد الاحكام، فإنه يذكر بعدها أحكام محرمات الطعام واحكام الصوم والحج والقصاص والوصية والنكاح والطلاق والرجعة والعدة والايلاء والرضاع وغير ذلك، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ الآية ولا غرو فان بين كل قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كل آية وأخرى في القسم الواحد ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾
9. بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ هذا حصر لمحرمات الطعام من الحيوان بصيغة ﴿إِنَّمَا﴾ الدالة على ما سبق الاعلام به وهو آية سورة الانعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الاربعة بصيغة الاثبات بعد النفي.
10. إنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها، ولما يتوقع من ضررها، فإنها إما ان تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، لان المرض قد يكون معديا، والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الاشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق هذا ما قاله محمد عبده ويزاد عليه عدم القصد الى إماتتها بعمل الانسان وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف انفها، ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الذكاة كالمنخنقة والموقوذة ـ الى آخر ما ذكر في آية المائدة.
11. ﴿وَالدَّمَ﴾ أي المسفوح كما في آية الانعام، فإنه قذر لا طيب وضار كالميتة.
12. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ فإنه قذر، لان أشهى غذاء الخنزير اليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الاقاليم ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة.
13. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد، والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد، لأنه من اعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب الى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الاشراك والاعتماد على غير الله تعالى، وقد ذكر الفقهاء ان كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم.
14. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ الى الاكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ له أي غير طالب له، راغب فيه لذاته ﴿وَلَا عَادٍ﴾ متجاوز قدر الضرورة ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لان الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا اشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، بل الضرر في ترك الاكل محقق، وهو في فعله مظنون، وربما كانت شدة الحاجة إلى الاكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر، وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه.
15. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إذ حرم على عباده الضار، وجعل الضرورات بقدرها، لينتفي الحرج والعسر عنهم، ووكل تحديدها الى اجتهادهم، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه.
16. فسر الجلال كلمة ﴿بَاغٍ﴾ بالخارج على المسلمين، و﴿عَاد﴾ بالمعتدي عليهم بقطع الطريق (قال) ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس وعليه الشافعي.. قال محمد عبده: ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة، ويجب عليه توقي الضرر، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص، ثم ان المناسب للسياق ان تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف ﴿مَا نَبْغِي﴾ وفي الحديث الصحيح (يا باغي الخير هلم) وفي التنزيل ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾، أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم، فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل ويحرم من الاكل، لا في السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للامة، وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار اذا هو وكل اليهم بلا حد ولا قيد، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهوته الى ما وراء حد الضرورة، فعلم من قوله ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ كيف تقدر الضرورة بقدرها، والاحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد الا بنص صريح من الشارع.
17. ذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل، وقد قلنا اننا لا نتعرض في بيان القرآن الى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف.. هذا ملخص ما قاله محمد عبده في الدرس، واقتصرت عليه في الطبعة الاولى وقرأه هو فيها، وأقول الآن انه رحمه الله كانت خطته الغالبة فيه ترك ذكر المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة الى بيان كونه فوق كل خلاف.
18. زاد المفسرون على هذه المحرمات تبعا لفقهائهم محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر وبعموم تحريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر، وقد حققت هذه المسألة في تفسير ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ﴾ وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف.
19. من مباحث البلاغة في الآية ان ذكر ﴿غَفُورٌ﴾ له فيها نكتة دقيقة لا تظهر الا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال ان ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الالهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات، والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدا ومرجعه الى اجتهاد المضطر ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الايمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود.
__________
(1) تفسير المنار: 2/96.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأي ولا يهتدون بعقل، هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجيء الإسلام فرقا وأصنافا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب، وبعض الحيوان عند غيرهم، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد وما يلزمه، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها، وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء، ولا وجود لها في التوراة، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.
3. جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسيّ كملة، وقصارى ذلك ـ إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين، وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم، وإلا كنا مشركين به، كافرين لنعمه، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه، يطلب منهم الرزق، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.
4. بعد أن ذكر الله تعالى إباحة الطيبات، بين ما حرم من الأطعمة فقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها، ﴿وَالدَّمَ﴾ أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة، ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.
5. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم.
6. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون؛ كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية، ولا استحسانه.
7. إنما ذكر قوله: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/48.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هنا يتجه بالحديث ـ خاصة ـ إلى الذين آمنوا، يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم، ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه، ويبين لهم ما حرم عليهم، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم، ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود، وهي عندهم في كتابهم.:
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام، ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيبا من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئا فلأنه غير طيب، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم ـ وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء ـ ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك، فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد.. كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات.
3. ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر ﴿إِنَّمَا﴾.. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾.. والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم، فضلا على ما أثبته الطب ـ بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله ـ من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس.
4. أما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم.. والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم.. ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة)، ويقول الآن قوم: إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة.. وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حللت، وهي من لدن حكيم خبير!
5. أما ما أهل به لغير الله، أي ما توجه به صاحبه لغير الله، فهو محرم، لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله، محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور، وسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، ووحدة المتجه.. فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة، وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك.. ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة، فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم.. وفي سائر أمور التشريع.
6. مع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات، فيبيح فيها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.. وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات، ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات، فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة، على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة.. هل فيها قياس؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها.. وحول مقدار ما تدفع به الضرورة؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة.. ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي، وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن.
7. جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه، فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾.. بينما كانت هذه مباحة للمسلمين، ولعلهم جادلوا في هذا الحل، وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة.. وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/157.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نداء إلى الذين آمنوا، والتفات إليهم بعد الانصراف عن أولئك الذين أصمّوا آذانهم عن دعوة الحق، وأغلقوا قلوبهم على ما أشربوا من التعلق بما كان عليه أسلافهم من ضلال.
2. طيبات الرزق، هي الصفو الخالص من كل شائبة، وقد أبيح للمؤمنين كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث، حتى لا يدخل على أجسامهم من الطعام إلا الطيب، كما لم يدخل على عقولهم من الدين إلا الحق.
3. ما أهلّ به لغير الله، هو ما لم يذكر اسم الله عليه، وذبح قربانا لمعبود غير الله.
4. وفى قوله تعالى (غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ) ضبط للقدر الذي يقف عنده المضطر حين يدعوه الاضطرار إلى تناول شيء من هذه المحرّمات، فلا يفتعل الاضطرار، ولا يركب الأمور التي يعلم أنها ستدخله مداخل الاضطرار وهو قادر على ركوب غيرها؛ فإذا دخل منطقة الاضطرار من غير بغى، فلا ينال من هذه المحرمات إلا القدر الذي يمسك عليه حياته، ولا يلقى به في التهلكة من غير عدوان ومجاوزة الحدّ، الذي يحفظ النفس من التلف.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/190.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات، جرّت إليه مناسبة الانتقال، فقد انتقل من توبيخ أهل الشرك على أن حرّموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حرّم عليهم من المطعومات، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 168] بمضمون جملة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ليكون خطاب المسلمين مستقلا بنفسه، ولهذا كان الخطاب هنا بيا أيها الذين آمنوا.
2. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان، والأمر في ﴿اشْكُرُوا﴾ للوجوب لأن شكر المنعم واجب، وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ [البقرة: 152].
3. العدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعارا بالإلهية فكأنه يومئ إلى ألّا تشكر الأصنام؛ لأنها لم تخلق شيئا مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكرا، وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة؛ إذ الضمير لا يصلح لذلك إلّا في مواضع، ولذلك جاء بالشرط فقال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلّا الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: 43] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده، فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية، وجواب الشرط محذوف أغنى عنه ما تقدم من قوله ﴿وَاشْكُرُوا﴾
4. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ استئناف بياني، ذلك أن الإذن بأكل الطيبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيّنا المحرمات وهي أضداد الطيبات، لتعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر، وإنما سلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقيا لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلب اعتقاد أحد وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض.
5. ﴿إِنَّمَا﴾ بمعنى ما وإلّا أي ما حرّم عليكم إلّا الميتة وما عطف عليها، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حرّم من المأكولات.
6. الحرام: الممنوع منعا شديدا.
7. الميتة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذّات التي أصابها الموت فمخففها ومشدّدها سواء كالميت والميّت، ثم خص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة، فقيل: إن هذا من نقل الشرع وقيل: هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى، وقرأ الجمهور (الميتة) بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء.
8. إضافة التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، ومحمله على تحريم ما يقصد من تلك العين باعتبار نوعها نحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3] أو باعتبار المقام نحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق، أو يقال: أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة، فإذا تعين ما تقصد له قصر التحريم والتحليل على ذلك، وإلّا عمّم احتياطا، فنحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن، ونحو: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90] بالنسبة إلى الميسر والأزلام متعين لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها.
9. الميتة هنا عام؛ لأنه معرّف بلام الجنس، فتحريم أكل الميتة هو نصّ الآية وصريحها لوقوع فعل ﴿حَرَّمَ﴾ بعد قوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصوفها وما لا يتصل بلحمها مما كان ينتزع منها في وقت حياتها.
10. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
11. حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالبا إلّا وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءا من دمه جراثيم الأمراض، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكى مات من غير علة غالبا ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقيا مما يخشى منه أضرار.
12. نص الله على تحريم الدم لأن العرب كانت تأكل الدم، كانوا يأخذون المباعر فيملئونها دما، ثم يشوونها بالنار ويأكلونها، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس، وهذا مناف لمقصد الشريعة، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده ولو اعتاده أورثه ضراوة، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك، ومداركهم في ذلك ضعيفة، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة.
13. والدم معروف مدلوله في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آت من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقوّة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ماكينية هوائية، ثم يدور الدم في العروق منتقلا من بعضها إلى بعض بواسطة حركات القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان.
14. لحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم، وقد قال بعض المفسرين: إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم واردا على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أولى بالتحريم أو مساو للوحشي، وذكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه ولا على عدمها، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4]، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية.
15. قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وجوه: قال ابن عطية: إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذكّي أم لم يذكّ اه، ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد، وقال الألوسي: (خصه لإظهار حرمته، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه)، يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة، ولا أحسب ذلك، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد.
16. حكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.
17. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون: استهل الصبي صارخا إذا رفع صوته بالبكاء، وأهلّ بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل: هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضا اسم صوت لزجر الخيل، وقيل مشتق من الهلال، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضا وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقا وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هلّ وأهلّ بمعنى رفع صوته، لأن تصاريف أهلّ أكثر، ولأنهم سموا الهلال شهرا من الشهرة كما سيأتي، وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزّى أو نحوهما، وكذلك كان عند الأمم التي تعبد آلهة إذا قربت لها القرابين، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عادة عند اليونان كما جاء في (الإلياذة) لهوميروس.
18. أهلّ في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله، وضمن (أهل) معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى ﴿ما أُهِلَ﴾، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.
19. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فلا إثم عليه.
20. ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ حال، والبغي الظلم، والعدوان المحاربة والقتال، ومجيء هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه بأكلها يكون غير باغ ولا عاد، لأن الضرورة تلجئ إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي والعدوان بين الأمة، وهي أيضا إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلّا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى.
21. من عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافا لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود، وقد فسر قوله ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ بتفاسير أخرى فعن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية: بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/114.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بين الله سبحانه وتعالى أننا فيما أباحه الله لنا لا نتبع خطوات الذي يغوينا بتحريم ما أحل لنا، وذكر حال المشركين في اعتقاداتهم ثم بين بعد ذلك ما أحله وما حرمه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وكان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خطوات الشيطان، أما الآن فالخطاب للمؤمنين خاصة، وهم لا يتبعون خطوات الشيطان إنما يتبعون شرع الرحمن.
2. الأمر هنا للإباحة، والإباحة بالجزء، أي لنا أن نتخير من الطيبات، وعلينا أن نتناول ما نحب لا ما لا نحب، من غير أن نحرم على أنفسنا شيئا كما تلونا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة]، وبالنسبة لمجموعة الأوقات فالأكل من الطيبات فرض، فهو وإن كان مباحا بالجزء مطلوب بالكل، ليس لأحد أن يترك الأكل من الطيبات فإن ذلك يكون حراما، ويؤدى إلى الهلاك.
3. الطيبات هي ما تستطيبه النفوس، ويكون حلالا، والأكل منه مطلوب لتقوى الأجسام ولتقوى العقول والنفوس في ذاتها، ولتقوى للجهاد في سبيله وبشرط أن تكون حلالا، وحرم الله الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنزير والميتة أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسحت، وأكل مال الناس بالباطل، وإن من أعظم القربات بعد تقوى الله، طلب الطيبات الحلال، وقد روى مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها).
4. أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بالأكل من الطيبات بالأمر بالشكر؛ لأن هذه الإباحة للطيبات نعمة، والنعمة توجب الشكر من المنعم، الذي أباح ومكن، والشكر يكون بترك المعاصي ولزوم الطاعات والتقوى والتقرب إليه سبحانه وتعالى، وطلب رضوانه، ويقول سبحانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر).
5. هذه المباحات نعم الله تعالى في هذه الدنيا يسأل عن حقها وعن شكرها، فقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر] وإن الشكر هو الطاعات الكاملة، والعمل الصالح، وإن ذلك شريعة الرسائل الإلهية كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
6. ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أضيفت الطيبات، وهى إضافة تشير إلى المصدر، وهو إنعام المنعم؛ لأن الطيبات مما رزق الله تعالى، ومما تمكن عباده منه، فكان هنا نعمتان أنعم الله تعالى بهما، وهما: نعمة الرزق والعطاء، ونعمة الإباحة للطيبات، وكان الشكر على النعمتين واجبا، ولذا قال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ أي اشكروا الله، وقد بينا أن (شكر) تتعدى باللام، وهو الأفصح، وتتعدى بنفسها، وإن الشكر ملازم للعبادة أو هو منها، أو هو هي ولذا قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي إن كنتم تعبدونه وحدى من غير إشراك غير، وتقديم الضمير على الفعل للإشارة إلى اختصاصه تعالى بالعبادة وحده، اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك وراضين في السراء والضراء.
7. بعد أن ذكر الله ما أحله من طيبات بين ما حرمه من خبائث سواء أكانت هذه الخبائث حسية أم كانت معنوية، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، حرم الله تعالى ثلاثة أشياء من الخبائث الحسية، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير، ومن الخبائث المعنوية ما أهل به لغير الله، أي ما ذبح لصنم ونحو ذلك.
8. الميتة هي التي ماتت حتف أنفها من غير ذبح شرعي، وتشمل النطيحة والمتردية؛ ولذا قال في الخبائث المحرمة في سورة المائدة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة]، ويدخل في الميتة كل ما مات من غير أن يسال دمه ولو بسبب من العباد أو السبع، فيدخل في الميتة المنخنقة التي ماتت بالخنق من غير ذبح يسيل دمها، والموقوذة التي رميت حتى ماتت، والنطيحة التي ماتت بنطح ولم يسل لها دم، والمتردية وهى التي تردت في حفرة أو بئر فماتت بهذا التردي، ولم تذبح وما أكل السبع بعضه، ولم يذبح فإنه أيضا يكون محرما، وحرم الاستقسام بالأزلام وهى أقداح الميسر كما حرم الذبح على النصب، وحرمت هذه الأشياء لا لخبث في ذاتها ولكن لما اقترن بذبحها وهو النصب، كما حرم الاستقسام بالأزلام فهي في ذاتها طيبة حسيا، ولكن لازمها خبث معنوي وهو ما يقترن بها من ميسر، والقرآن الكريم قد حصر التحريم في هذه الأشياء المذكورة فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وإنما أداة من أدوات القصر، أي حرمت هذه الأشياء من النعم التي هي البقر والإبل والغنم وغيرها مما يشبهها آكلة العشب كالغزال والأوعال، أما سباع البهائم كالأسد والذئب وغيرها فهي محرمة بذاتها؛ لأن لحمها لا يؤكل وتعافه النفوس المستقيمة، فالحصر في التحريم، إنما هو بالنسبة للنعم وما يشبهها من آكلة العشب، والمحرمات هي الميتة ويدخل فيها كما سبق من القول المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا أن يذكى بأن يبقى بعد أكله حيا، فيذكى والتذكية إسالة الدم.
9. الميتة يبقى فيها الدم، فبمضي الزمن يفسد أجزاء جسمها وتتعفن ببقائه فيها فيفسد لحمها وتسارع إليها الجراثيم المفسدة، فتكون خبيثة وتتحول من لحم طيب إلى لحم خبيث، ويدخل في ذلك الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة والدم، والمراد به الدم المسفوح، أي السائل، وليس المتجمد بأصل تكوينه وإن كان التكوين من الدم وهو الكبد والطحال، والدم المسفوح يسارع إليه الفساد وهو ثقيل الهضم وهو يفسد الجسم والنفس، وإنما قيد الدم بالمسفوح؛ لأنه صرح في آية الأنعام بأن المحرم هو الدم المسفوح فقال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾
10. من المقررات أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب، فيحمل الدم المذكور في الآية التي نتكلم في معناها على المقيد في آية الأنعام، والدم يسارع إليه الفساد وأكله يربى القسوة وهو ثقيل الهضم.
11. لحم الخنزير ذكر الله تعالى في القرآن أنه رجس أي قذر يحتوى على كل ما يضر البنية الإنسانية، وقد ثبت بالتجربة أنه أثقل طعام على المعدة، والمعدة بيت الداء، وثبت أنه يحوى من الديدان ما يضر الجسم، وأنه يحدث فقد الشهوة، ويوجد أعراضا عصبية، ويظن كثيرون أنه مورد من موارد داء السرطان العضال.
12. ما أهل لغير الله تعالى به، والإهلال رفع الصوت بذكر الله تعالى عند الذبح، والإهلال لغير الله تعالى بأن يذكر عند الذبح أنه لصنم أو وثن أو نار أو نحو ذلك، ويدخل في ذلك ما ذبح على النصب التي كانت تقام للأوثان وتذبح الذبائح عليها.
13. بين سبحانه وتعالى أن ذلك عند الاختيار، وأما عند الاضطرار فإنها يرفع عنها الإثم؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي من كان في حال ضرورة، بحيث تتعرض الحياة للهلاك إذا لم يأكل شيئا من هذه المحرمات، فإنه لا إثم عليه إذا أكل، ويكون واجبا عليه أن يأكل إن لم يجد غيرها؛ لأن ضرر الموت أشد من ضرر الأكل، والضرر القليل يتحمل في سبيل دفع الضرر الكبير، ولقد بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حال الضرورة لمن سأله عن ذلك، فقال: (أن يأتي الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله)، ولقد قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة].
14. قيد الله تعالى رفع الإثم، فقال تعالت كلماته: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ أي غير طالب لها تبتغى إشباع رغبتك، كأن يكون في عطش شديد ولم يجد إلا خمرا، فيشربها مبتغيا لها لا يقصد دفع الضرورة ولكن يرغب فيها، وكمن يكون في حال ضرورة فيكون بين يديه الميتة والخنزير فيبتغى الخنزير اشتهاء له ورغبة فيه، ولا عاد أي غير متجاوز حد الضرورة، والضرورة تدفع بأقل قدر فلا يتجاوزه، فيتعدى ما رفع الله تعالى الإثم عنه، وروى عن مجاهد وابن جبير أنهما قالا في معنى باغ وعاد، غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي الخارج على السلطان العادل وقاطع الطريق، وبهذا أخذ الشافعي في أحد قوليه فمن كان مضطرا للطعام ولا يجد إلا بعض هذه المحرمات وكان خارجا في معصية فإنه لا يترخص له في أكل واحد من هذه المحرمات؛ لأن وقوع الضرورة بسبب معصية، والمعصية لا تحل المحرم.
15. أبو حنيفة ومالك وأحمد، والرأي الثاني عند الشافعي أن الرخصة قائمة وسببها ليس هو المعصية أو غير المعصية، وإنما سببها الاضطرار والخشية من الهلاك والمعصية في قتل النفس أشد من المعصية في الخروج على الأحكام؛ ولأن الجهة منفكة؛ فرفع الإثم لدفع الجوع والظلم في العصيان فلا خلط بينهما، ومن المقررات أن الظالم في معصية لا يحرم من حقوقه في ناحية أخرى، وإلا كان ظلما والظالم لا يظلم، ولكن يقتص منه في موضع ظلمه، هذا وإن الرخصة نتيجتها أن يرفع الإثم لا أن تباح الميتة وأخواتها، ولكن قرروا أنه في حال الضرورة هذا يكون الأكل مطلوبا طلبا حتميا بحيث يأثم إن لم يأكل، لأن عدم الأخذ بالرخصة قتل للنفس والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء].
16. ختم الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى، ولغفرانه في الدنيا والآخرة ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن المضطر إلى أكل المحرمات، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات، وإن حرم الخبائث، فتحريم الخبائث لإضرارها، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه، إذ إن الشريعة الغراء قامت على جلب ما هو نافع ودفع ما هو ضار، وكان من رحمته جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار.
17. ذكر بعض العلماء ذوى النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها، أو لا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لا يتعدى حد الضرورة، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/507.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن خاطب الله سبحانه الجميع بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ أعاد الخطاب ثانية لخصوص المؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ليبين لهم ان الايمان الصحيح لا يكون بحرمان النفس، والامتناع عن الطيبات، كما يفعل بعض الرهبان والقسيسين وغيرهم فإنه سبحانه قد أحل لنا التمتع بالحياة، والنعم الجسدية، وأمرنا بالشكر عليها، ومعنى شكرها أن نستعملها في الوجه الذي ينبغي استعمالها فيه، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (أقلّ ما يلزمكم لله ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه)، وعسى أن يتعظ بهذه الحكمة البالغة أهل الجاه والثراء، ولا يستغلوهما في الملذات المحرمة، وفي الكبر والطغيان.
2. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾، وليس من شك ان المراد بالحرمة هنا حرمة الفعل، وهو الأكل، لا حرمة الأعيان، لأن الأعيان لا يمكن وصفها بحل ولا بحرمة.
3. بعد ان ذكر الله سبحانه في الآية السابقة الحلال مما يؤكل ذكر في هذه الآية أربعة أنواع مما يحرم أكله:
أ. الأول: الميتة، وهي كل حيوان مات من غير تذكية شرعية.
ب. الثاني: الدم، والمراد به الدم المسفوح أي المتميز عن اللحم، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه.
ج. الثالث: الخنزير لحمه وشحمه وجميع أجزائه خلافا لداود الظاهري الذي قال يحرم لحم الخنزير دون شحمه عملا بظاهر اللفظ، وإنما ذكر اللحم بالخصوص، لأنه أظهر الأجزاء التي ينتفع بها.
د. الرابع: ما أهلّ به لغير الله، وهو ما ذكر عليه حين الذبح غير اسم الله تعالى، سواء أذبح للأصنام، أو لغيرها.
4. الحكمة في تحريم الأنواع الثلاثة الأولى صحية محض يعرفها الأطباء، وأهل الاختصاص، أما حكمة المنع عمّا ذكر غير اسم الله عليه فدينية صرف تهدف الى صيانة التوحيد والتنزيه عن الشرك.
5. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على انه لا يحرم من المأكولات سوى هذه الأربعة، لأن ﴿إِنَّمَا﴾ تفيد الحصر، وكل حصر يتضمن جملتين: الأولى تفيد اثبات ما يتناوله الخطاب، وهو هنا تحريم الأشياء الأربعة، و الثانية تفيد النفي، وهو هنا عدم تحريم ما عدا الأربعة، مع العلم بأن هناك مأكولات أخرى محرمة، كالكلاب، والحيوانات المفترسة، والحشرات، وبعض أنواع السمك، ومحرمات الذبيحة، والتفصيل في كتب الفقه، والجواب: أجل، ان الظاهر يدل على ذلك، ولكنه متروك في العمل بعد قيام الإجماع، وثبوت السنة النبوية.. وليست هذه هي الآية الوحيدة التي يترك ظاهرها بالإجماع.
6. تجمل الاشارة الى انه يجب ذكر الله تعالى حين الذبح، فمن تركه عامدا حرمت الذبيحة، سواء أكان الترك عن علم بالوجوب أو جهل به.. أجل لو نسي الذابح ذكر الله لم تحرم الذبيحة.. ويكفي من الذكر قول: الله أكبر، أو الحمد لله، أو بسم الله، أو لا إله الا الله، وما أشبه.
7. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، المضطر هو الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم، أو يخشى حدوث مرض، أو زيادته، أو يخاف الضرر والأذى على نفس محترمة، كالحامل تخاف على حملها، والمرضعة على رضيعها، أو أكرهه قوي على أكل أو شرب المحرم، بحيث إذا لم يفعل أوذي في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه ـ كل هذه، وما اليها من المسوغات لتناول المحرم ولكن بمقدار ما يرتفع به الضرر، ومن هنا اشتهر بين الفقهاء الضرورة تقدر بقدرها، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، فالباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة، والعادي من يتجاوز مقدار الحاجة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/264.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح ولا يصغي إلى القول، والتفات إلى من يستجيب الداعي لإيمانه به، والتفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ من قوله: ﴿طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، وكان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، ولذلك بعينه قيل: ﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ولم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض ونحوه، لما فيه من الإيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رَؤُوفا بهم.
2. الظاهر أن يكون قوله: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، وهو المناسب لمعنى التقرب والتحنن الذي يلوح من المقام، والمعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، وهو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، والنهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه تشريعا من عند أنفسهم وقولا بغير علم.
3. ﴿وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، لم يقل واشكروا لنا بل اشكروا لله ليكون أدل على الأمر بالتوحيد، ولذلك أيضا قيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فدل على الحصر والقصر ولم يقل إن كنتم تعبدونه.
4. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾، الإهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالأصنام.
5. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾، أي غير ظالم ولا متجاوز حده، وهما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه وعدم عدوه فلا ذنب له في الأكل، وأما لو اضطر في حال البغي والعدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك.
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، دليل على أن التجوز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين وإلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/426.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله﴾ الأمر بالأكل من الطيبات إما بمعنى لا تجتنبوا الأكل من بعضها لأجل تحريم الجاهلية له، بل كلوا مما كانوا يحرمونه ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ تحقيقاً لاستحلاله، أو بمعنى وجوب الأكل من كل نوع رزقه المكلف، أو بمعنى ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة:87] أو لأجل المعاني كلها، واشكروا لله نعمته عليكم بالطيبات من الرزق وكل نعمه.
2. ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فإن من حق من لا يعبد إلاَّ الله أن يعلم أن الحكم لله فلا حرام إلاَّ ما حرم ولا حلال إلاَّ ما أحل ومن جعل لغير الله حكماً بتحليل أو تحريم فلم يخصه بالعبادة، ولا يبعد دلالة الآية على أن من أسلم لا يكفيه الإقرار بحل ما كان محرِماً له قبل إسلامه إذا ملكه أو أُعطيه بل يجب عليه أن يأكل منه ليحقق استحلاله في نفسه وليخرج نفسه عن اجتنابه، ولعله سبب الأمر في الآية لئلا يبقوا على اجتناب شيء من طيبات الرزق، فهي على عمومها في حقه في كل ما كان محرِّماً له.
3. يلحق به من يتجنب بعض المأكولات اللذيذة ظنّاً منه أن ذلك من الزهد في الدنيا، وهنا تفصيل:
أ. فليس من هذا تجنب بعض المأكولات اقتصاداً، وهذا على أحد وجهين، الأول، أن يكون لا يحصل له إلاَّ بأن يشتريه فلا يشتريه ويتركه اقتصاداً، أو يكون معه موجوداً لكنه يحتاج إلى بيعه لحاجته إلى ثمنه حاجة يستدعيها الاقتصاد،
ب. وكذلك ليس من هذا تجنب بعض المأكولات اللذيذة أو نحوها من اللذات لئلا تتعودها نفسه، فتقوى رغبتها فيها وتطالبه فيما بعد بتحصيلها في حين لا تحصل له إلاَّ بالاشتغال عن العمل الصالح من طلب العلم أو غيره أو لا تحصل له إلاَّ بتقصير في الاقتصاد.
ج. وكذلك ليس من هذا تجنب بعض المأكولات لئلا يشتغل بها عن عمل صالح من بحث في الكتاب أو درس على الشيخ أو تدريس أو نحو ذلك، أو لئلا تسبب له كسلاً أو نوماً يشغله عن البحث في كتب العلم أو عن أي نوع من أنواع العبادة، فهذه طرائق محمودة، وكذلك تركه ليقتدي به في ترك الاشتغال باتباع الشهوات، والأعمال بالنيات.
د. وكذلك ليس من هذا ترك بعض المشتهيات إيثاراً لغيره، فذلك من الإحسان وثوابه مع النية الصالحة خير من أكله، ويعظم ثوابه إذا آثر به يتيماً أو مسكيناً أو نحو ذلك.
هـ. وكذلك ليس من المذموم تركها فراراً من الدَّين ـ بفتح الدال ـ لأنه خطر إذا لم يقضه لأنه من أكْل أموال الناس بالباطل، ولأن غمّ الدين من الضر (ولا ضر ولا ضرار في الإسلام) كما في الحديث رواه القاسم عليه السلام، والهادي عليه السلام، والأصل: تحريم الضر حيث لا إذن فيه خاص.
4. من هنا يتبين حسن الاقتصاد الذي يؤدي تركه إلى تحمل الدَّين، فتحصّل جواز ترك الأكل لوجوه:
أ. الأول: الاقتصاد.
ب. الثاني: خوف التعود.
ج. الثالث: الاشتغال بما هو أهم من الأكل.
د. الرابع: للاقتداء به.
هـ. الخامس: الفرار من الكسل والنوم.
و. السادس: الإيثار.
ز. السابع: الفرار من الدَّين.
ح. الثامن: الفرار من الضر في حق من يضره بعض المأكولات كالتمر في حق النَّاقِهِ ونحو ذلك.
5. هذا وما سوى هذه الأحوال المذكورة فلعله يحصل الامتثال بأكل الكل من الكل، ولا يجب على كل فرد أن يأكل من كل الطيبات، بل يكفي أن يأكل كل فرد من نوع، وقد قيل: يكفي الأكل من بعض أنواع الطيبات؛ لأن ﴿مِنَ﴾ للتبعيض، ولم يترجح لي؛ لأنك لا تقول إذا أكلت من نوع واحد: أكلت من كل شيء، أعني ليس هذا معروفاً في استعمال العرب، ولهذا كان قوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل:23] يفيد: تكثير أنواع ما ملكت، ولو كان يكفي في حصول المعنى ملكها الشيء من نوع واحد، لما كان هذا الكلام يفيد المقصود، ولا يبطل بقولنا: يحصل الامتثال بأكل الكل من الكل ما قدمنا من إيجاب الأكل على من كان يحرم الشيء؛ لأن القرائن تفيد أنه مقصود فلا يسقط عنه بأكل الآخرين منه.
6. بقي وجه تخصيص في هذه الآية الكريمة، وهو أنه تعالى قال ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ومن لم يملك المطعوم ولا صار له بوجه استحقاق ولا أُعطيه فلم يُرزَقه، فلم يدخل في عموم هذه الآية، فلا يجب عليه أن يشتري من نوع ليأكل منه أو يصطاده أو نحو ذلك، لأجل هذه الآية الكريمة، بل لا يجب عليه أن يأكل إلاَّ مما رزقه الله وأعطاه، وما ذكرته في هذه الآية هو أوضح في تفسير (آية المائدة)
7. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ هذه التي كان الكفار يستحلونها وهي المحرمة لا ما يحرمونه من البحيرة والوصيلة والحامي وغيرها، والحصر هنا إضافي يرشد إليه السياق فلا ينافي تحريم غير هذه كالربا والرشوة وغيرها من أكل أموال الناس بالباطل، وكذا ما يضر الآكل ضرراً أرجح من النفع، كالطين، والقات في حق من يضره ضرراً واضحاً راجحاً على لذته وفائدته، بحيث يكون معيباً في العقل كمن يسبب له الجنون، أو يسبب له القولنج الذي يحدث به نوبات وجعٍ شديدٍ في البطن يكاد يقتله.
8. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ الإهلال: أصله رفع الصوت، قال لأهلّوا واستهلوا فرحاً والإهلال بما يذبح أو ينحر: رفع الصوت عليه بكلمة التقرب به، فإن كانت الكلمة ذكر اسم الله عليه أو التلبية فلا إشكال، وإن كانت ذكر غير الله لإفادة التقرب إليه فهي محرمة وهي المحرمة في الآية.
9. سؤال وإشكال: هل يدخل في ذلك ما يسمى في (اليَمن) المقصد أو الهَجَر ـ بفتح الهاء والجيم ـ وهو ما يذبح لتطييب نفس المذبوح له، أو لطلب مساعدته على أمر لم يكن يرضاه؟ والجواب: الأرجح: أنه لا يطلق تحريمه ولا تحليله، فما أهل به لغير الله حرم بظاهر الآية ـ وإن لم يكن شركاً، وما لم يهل به لغير الله كما هو المعتاد عند أهل المعرفة فلا يحرم، وذلك بأن يقول الذابح: (باسم الله) ولا يقترن ذلك بالإهلال لغير الله، ويتأخر الكلام الآخر بمهلة أو يتقدم بمهلة بحيث لا يكون في العرف مقارناً للذبح، والأحوط: أن يتقدم الكلام ولا يذبح في المجلس؛ لأنه ما دام الذبح عند الكلام قبل الاعراض ولو تأخر فهو يعتبر مقارناً، وليس في الآية ذكر المقارنة فلا فائدة في التعلق بلفظ المقارنة، وما دام رفع الصوت أي الجهر بالكلام ورفعه عند الذبح فقد دخل في عموم الآية، وهو عند الذبح ما دام الذبح في المجلس قبل الإعراض والمراد بالكلام قولهم: هذا جاهنا عندك في طيبة النفس أو في أن توافقنا على ما طلبنا أو نحو هذا؛ لأنهم قد أعلنوا التقرب به إليه ولا يقال: إنهم إنما تقربوا بالمذبوح لا بالذبح؛ لأنا نقول ليس في الآية إلاَّ الإهلال بالمذبوح، فما دام المذبوح ذبح لتطييب نفسه وجهروا بذكره عند ذبحه لهذا الغرض فقد حصل الإهلال به له، فظهر: أنه لا يطلق تحليله ولا تحريمه ـ أعني المقصد ـ وللسيد إبراهيم بن محمد الوزير كتاب في تحريمه وأنه شرك، وقد رددت على جعله شركاً بـ (رسالة)
10. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى أكل ما حرم الله في هذه الآية ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ بأكل ما حرم الله ﴿وَلَا عَادٍ﴾ ولا متجاوز لما أحل الله كمن رخص له فتجاوز في الأكل ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
11. يدخل في الباغي:
أ. من يأكل المحرم في حال الاضطرار مصراً على أكله في غير الضرورة، أي يأكله لا للاضطرار، فهو يأكله في حالة الاضطرار كما يأكله في حال عدم الاضطرار.
ب. ويدخل فيه: من بغى على من يحرم قتله ليأكل منه أو ليشرب من دمه أو على حيوان محترم لا للضرورة بل بغياً عليه وجرأة، فلا تبيحه الضرورة في حقه.
12. يدخل في العادي كل من عدل عن الحلال، وهو متمكن من تحصيله، وهذا وإن كان خارجاً عن الاضطرار إلى المحرم، فإن الشرط هذا محقق للاضطرار، وفائدته: أن لا يتوهم أنه مضطر إذا اشتد به الجوع ولم يكن يملك طعاماً ولا يباح له، فهو عادٍ ما دام يتمكن من تحصيله حلالاً بأي وسيلة.
13. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تشجيع للمضطر إذا كان من أهل التقى لما يحدث من خاطر احتمال عدم الاضطرار، وأنه يتحمل الصبر، واحتمال أن ما قد أكله من الميتة مثلاً يمسك روحه ويقوى به على المشي إلى حيث يجد الأكل أو يقوى به على العمل بالأجرة ليشتري طعاماً أو نحو ذلك، فليأكل ما دام لا يثق بحصول الكفاية لإمساك الروح وإنقاذه من الاضطرار إن كان الأكل ينقذه، وما دام يخاف على نفسه فليأكل راجياً مغفرة الله إن أخطأ ورحمته، فأما حمل الميتة معه لئلا يضطر في المستقبل فليس بغياً ولا عدواً ما لم يكن غيره مضطراً إليها في الحال، وليس كافراً حربيّاً، فعليه أن يترك له ما يحتاجه في الحال وينقذه من الموت.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/232.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآية نداء للمؤمنين بإباحة طيبات الرزق، والدعوة إلى شكر الله على ذلك، وتحريم بعض الأشياء عليهم، لأن ذلك كله من نتائج الإيمان بالله، فإن المؤمنين بالله هم الذين يقبلون على ما رزقهم الله من طيبات الحياة إقبال الواعين لمصدر الرزق، العارفين بما يشتمل عليه من نعمة وافرة وفضل عظيم بما توفره له من رخاء الحياة ولذتها وسعادتها، فيندفعون ـ من عمق إيمانهم ـ إلى الشكر العظيم لله، باعتبار أن الشكر العملي يمثل التجسيد الحي للشعور العميق بعبوديتهم لله وخضوعهم له، وإيمانهم بأنه أهل للعبادة، لأنه مصدر الخير كله للإنسان في وجوده الممتد بكل النعم والألطاف.
2. قد يوحي أسلوب الآية الأولى بضميمة الآية الثانية، بأن الله قد أباح للإنسان كل الطيبات، فلم يحرّم عليه شيئا منها مما اعتاد الناس أن يأكلوه ويستطيبوه ويتلذذوا به، فكأنه يقول لهم إن بإمكانهم أن يمارسوا حريتهم في الأكل من هذه الطّيبات فلا يحرموا أنفسهم شيئا منها، لأنها من رزق الله الذي أراد منه أن يبني للإنسان حياته، ثم عدد المحرّمات وحصرها في هذه الأربع انطلاقا من الأضرار الجسدية والروحية المترتبة عليها، كما ذكر المختصون بأن في الثلاثة الأولى: ﴿الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ أضرارا صحية تفسد على الإنسان سلامة بدنه، أما الرابعة منها، والمقصود منه ما ذبح على غير اسم الله، كالمذبوح على الأصنام، أو لها، فهو لا يتناسب مع المعنى الروحي الذي يريد الإسلام للإنسان أن يعيشه في مأكولاته التي يريدها أن تكون على اسم الله ولا تكون على غير اسمه، لأن في ذلك تأثيرا على جانب الإحساس الروحي بالانتماء إلى الله في ما يأكل الإنسان أو يشرب، ممّا يوجب أن يكون في الذبيحة معنى روحي ينطلق من حصول الذبح على اسم الله.
3. إذا كان التحريم والتحليل يتحركان في خط مصلحة الإنسان الروحية والمادية ومراعاة حاجاته الأساسية في ما يجلب له الراحة في حياته، فمن الطبيعي أن يكون للتشريع في حالات التحريم حدّ يقف عنده، وذلك في حالة الاضطرار التي لا يملك الإنسان معها سدّ رمقه بالمحلّل من المأكولات لعدم وجودها أو لتعذر حصوله عليها، فكانت الإباحة في هذه الحالة منسجمة مع خط السماحة والسهولة في الشريعة الإسلامية، ولكنها ليست لكل مضطر، بل هي للمضطر الذي لا يكون باغيا ولا عاديا.
4. اختلف المفسرون في ما هو المراد من هاتين الكلمتين: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾:
أ. فاختار بعضهم أن تكون حدا للمدى الذي يحل فيه الأكل وهو أن لا يتجاوز حالة الضرورة فيكتفي بسدّ رمقه، فلا يزيد على ذلك انطلاقا من القاعدة المعروفة (الضرورات تقدّر بقدرها).
ب. واختار بعضهم أن تكون تمييزا بين نوعين من المضطر، فهناك النوع الذي يحصل له الاضطرار في الحالات الطبيعية التي يعيشها الناس في أوضاع اليسر والعسر من دون أن يكون الاضطرار ناشئا من حالة بغي أو عدوان ضد الآخرين، وهناك النوع الذي يضطر إلى ذلك في ظروف البغي والعدوان التي سعى إليها بنفسه، وذلك كما في اللص والظالم والغاصب والخارج على الإمام وغير ذلك.
5. النوع الأول هو الذي لا يكون آثما في تناوله للمحرم، بينما يظل الإثم ثابتا في فعل الثاني لأن مقدماته غير شرعية، فلا يتناول العذر في ما لو توقفت الحياة على ذلك.
6. لعل الوجه الثاني أقرب إلى جو الآية، لأن طبيعة الاضطرار لا توحي بتناول الزائد عن مقدار الحاجة، ولا سيما في مثل هذه الأمور التي لا تهش لها نفس المؤمن، كما أن الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت قد ركّزت على المعنى الثاني.
7. جاء ختام الآية بصفة الغفور الرحيم للتدليل على أن علاقة الله بعباده في ما يحله لهم أو يحرمه عليهم وفي ما يرتكبونه منها في ظروف طبيعية أو غير طبيعية، هي علاقة المغفرة والرحمة التي تشمل العاصين والمطيعين لأنه الغفور الرحيم.
8. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فقد أحلّ الله لكم كلّ طيب تستلذونه وتنتفعون به من اللحوم وغيرها، مما يشتمل على اللذة في المذاق والطيب في خصائصه وعناصره بما تستطيبه حياتكم في نموّها وقوّتها.
9. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ على هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى مما يبني لكم أجسادكم وعقولكم ويسهّل لكم حياتكم ويكفل لكم الاستقرار ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ لأن من وسائل العبادة التعبير عن الشكر للنعم الإلهية بمختلف الوسائل التي تمثل الاعتراف بالمنّة الإلهية في ما أعطاه سبحانه.
10. ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ أي: أكلها، والظاهر أن المراد بالميتة ما مات حتف أنفه بقرينة مقابلته ـ في هذه الآية ـ بما أهلّ به لغير الله مما هو داخل في التذكية غير الشرعية لفقدانه للتسمية، أو للتسمية عليه بغير اسم الله، كما أن الميتة ذكرت في سورة المائدة ـ في مقابل ما أهل لغير الله به، والمنخنقة ـ وهي التي ماتت بالخنق ـ والموقوذة ـ وهي المضروبة بخشب أو حجر ـ والمتردّية ـ أي: التي تردت من علوّ إلى بئر فماتت ـ والنطيحة ـ وهي التي تنطحها أخرى فتموت ـ وذلك هو قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 3] وهذا هو ما يستفاد من الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في تحليل السرّ في تحريم الميتة قال ـ في ما روي عنه: (أما الميتة فإنه لم ينل منها أحد إلا ضعف بدنه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة)، فإن هذه الخصائص السلبية من مستلزمات الموت حتف الأنف لا من خصائص الفاقد لبعض شروط التذكية الشرعية، أما إلحاق غير المذكى بالميتة في الحرمة، فهو من خلال ما قد يستفاد من آية المائدة، أو من الأحاديث الواردة في السنة الشريفة.
11. ﴿وَالدَّمَ﴾ وقد ذكر البعض أن الدم وسط مستعد لتكاثر أنواع الميكروبات، فالميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم، وتتخذه مركزا لنشاطها، ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم، وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنشل الحياة فيه، يتوقف نشاط الكريات البيض أيضا، ويصبح الدم بذلك وسطا صالحا لتكاثر الميكروبات من دون أن تواجه عقبة في التكاثر، ولذلك نستطيع أن نقول: إن الدم حين يتوقف عن الحركة يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوّثا، ومن جهة أخرى، ثبت اليوم في علم الأغذية، أن الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهرمونات، ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم على تشديد قسوة الإنسان، وقد جاءت الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال (أما الدم فإنه يورث أكله الماء الأصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخلق، ويورث الكلب والقسوة في القلب، وقلة الرأفة والرحمة، حتى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من يصحبه)
12. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ وقد ذكر أنه يشتمل على بعض الديدان الخطرة على الصحة العامة للإنسان من خلال طبيعتها الضارة، ومنها (دودة التريشي التي تعيش في لحم هذا الحيوان وتتكاثر بسرعة مدهشة، وتضع في الشهر خمسة عشر ألف بيضة وتسبب للإنسان أمراضا متنوعة كفقر الدم، والغثيان، والحمى خاصة، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب، والحكة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه والتنفس و..)، وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير مليون دودة من هذه الديدان، ويضيفون إلى مضاره تأثيره في التحلل الجنسي للإنسان.
13. ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ وهو الحيوان الذي يذبح على اسم غير اسم الله، كالأصنام ونحوها مما يعبده المشركون، ولعلّ التحريم في هذا النوع ناشئ من العناصر الروحية التربوية، لأن الله يريد للإنسان أن ينطلق في استحلاله للحيوانات من خلال اسم الله ليعيش في نفسه أن الانطلاق من اسم الله تعالى هو الأساس في كل حركته الغذائية في الحياة.
14. ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ بأن توقفت حياته على أكل هذه المحرمات، أو استلزم تركها الوقوع في حرج شديد لا يتحمّل عادة في الواقع الطبيعي للإنسان مما يصدق عليه مفهوم الاضطرار عرفا، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي ظالم سائر في طريق البغي، أو متجاوز للحدود المرسومة له في حركته في سفره أو حضره، أو باغ على السلطة الشرعية، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ أي غاصب أو سارق أو عاص آخذ بالمعصية أو معتد على العباد، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لأن الله أحل الحرام للمضطر، ولم يجعل في دينه حرجا على الناس.
15. الوجه في استثناء الباغي والعادي هو أن الإباحة للمضطر تمثل لطفا من الله بعباده ورحمة لهم، فلا ينالها إلا الإنسان الذي لا يحارب الله ورسوله، ولا يتعدى حدوده في طريق اضطراره، فلو كان اضطراره في خط البغي والعدوان لم يكن معذورا، بل يزداد إثما، وهذا كما في وجوب الإتمام في السفر على من كان عاصيا في سفره، لأنه لا يستحق اللطف بالتخفيف في الصلاة بالقصر في السفر.
16. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فالرخصة فيه مظهر لعفوه ومغفرته من باب رفع موضوع الذنب بالطريقة التي تلتقي فيها بالمغفرة، والله العالم.
17. سؤال وإشكال: ما معنى هذا الحصر للمحرمات في هذه الآية، التي تلتقي بالآية الأخرى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الانعام: 145]، مع أن المحرمات ـ ولا سيما في اللحوم ـ كثيرة جدا، كما في الكلب والحشرات والسباع، وغيرها، والجواب: أن القضية قد تكون واردة في مورد الحصر الإضافي الذي ينظر إلى بعض الأمور التي كان يثيرها أهل الكتاب مما هو حلال في شرع الله، فيحكمون بتحريمها، غير مستندين في ذلك إلى حجة صحيحة، فهي واردة في مجال نفي تحريم ما حرّموه وإثبات تحريم هذه الأمور التي كانوا يأكلونها عند قلة الطعام، كما قيل: فكأنه يقول إن المحرمات هي هذه لا ما حرّموه من اللحوم الطيبة، وليس المقصود أن هذه المحرمات هي وحدها التي تعلق بها التحريم لا غيرها، مطلقا، كما هو الحصر الحقيقي، فكانت هاتان الآيتان من أجل إيضاح الحق في ما هو حلال وحرام مما أوحى الله به إلى نبيّه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا لا ينفي أن تكون هناك محرمات أخرى لم تقع موضوع النزاع والخلاف بينهم، فلذلك لا مجال للدخول في عملية النفي والإثبات من جهتها، ولعلّ هذا الجواب أفضل مما ذهب إليه البعض من المفسرين الذين اعتبروا الأسلوب القرآني واردا في مورد العام والخاص، حيث يأتي المتكلم بلفظ عام مثبت أو منفي، ثم يتبعه بالتخصيص في دليل آخر، لأن طبيعة الجو في هذه الآية أو تلك لا توحي بوجود حالة منتظرة في ما بعد ذلك، والله العالم بحقائق آياته.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/186.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. القرآن ينهج أسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للانحرافات المزمنة، وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل، مع فارق هو أن الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع النّاس.
2. تقول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، هذه النعم الطيبة المحللة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها!؟ هذه الأطعمة تمنحكم القوة على أداء مهامكم، وتذكركم بشكر خالقكم وعبادته.
3. لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ لفهمنا نكتتين:
أ. تقول الآية هنا: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾، بينما تقول تلك ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾، ولعل هذا الاختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أصلا للمؤمنين، وغير المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضا الأعشاب والنباتات الطفيلية.
ب. والأخرى، أن الآية تقول لعامة النّاس: ﴿كُلُوا﴾.. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: ﴿كُلُوا﴾.. ﴿وَاشْكُرُوا لله﴾ أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الاستفادة من هذه النعم، بل تحثهم على حسن الاستفادة منها، فالمتوقع من النّاس العاديين أن لا يذنبوا في استهلاك هذه النعم، بينما المتوقع من المؤمنين أن يستثمروها في أفضل طريق.
4. قد يثير تكرار التأكيد في القرآن الكريم على الاستفادة من الأطعمة الطيبة تساؤلا عن سبب هذا التكرار، أمّا لو عدنا إلى تاريخ العصر الجاهلي لفهمنا السبب، فالجاهليون قد حرّموا على أنفسهم بعض الأطعمة دونما دليل، وتناقلت أجيالهم هذا التحريم وكأنّه وحي منزل، ونسبوه أحيانا بصراحة إلى الله، والقرآن استهدف اقتلاع جذور هذه الأفكار الخرافية من أذهانهم.
5. التركيز على كلمة (طيب) يتضمن أيضا دعوة إلى اجتناب ما خبث من الأطعمة، كالميتة والوحوش والحشرات، وكالمسكرات السائدة بين النّاس بشدّة آنذاك.
6. الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾، وهي تذكر ثلاثة أنواع من اللحوم المحرمة إضافة إلى الدم، وهي من أكثر المحرمات انتشارا في ذلك العصر، في بعضها خبث ظاهر لا يخفى على أحد كالميتة والدم ولحم الخنزير، وفي بعضها خبث معنوي كالتي ذبحت من أجل الأصنام.
7. الحصر في الآية بكلمة ﴿إِنَّمَا﴾ هو (حصر إضافي) لا يستهدف منه بيان جميع المحرمات، بل نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحللة، بعبارة أخرى، هؤلاء الجاهليون حرّموا بعض الأطعمة الطيبة استنادا إلى ما توارثوه من خرافات وأوهام، لكنهم بدلا من ذلك كانوا يعمدون عند قلة الطعام إلى أكل الميتة أو الخنزير أو الدم.. القرآن يقول لهؤلاء إن هذه هي الأطعمة المحرمة لا تلك (وهذا هو معنى الحصر الإضافي)
8. لمّا كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظا لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾.
9. ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالاضطرار، أكدت على كون المضطر (غير باغ) و(لا عاد)، والباغي هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة والعادي هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حدّ الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت.
10. لأن معنى البغي الظلم أيضا ذهب بعض المفسرين إلى أن الرخصة ممنوحة لأولئك الذين يضطرون خلال سفر محلل، لا خلال سفر المعصية، فالمسافرون لهدف غير مشروع قد يجب عليهم تناول الأطعمة المحرمة لحفظ النفس من التلف، إلّا أن هذا العمل يكتب في صحيفة أعماله من الذنوب، بعبارة أخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عقلا في أسفارهم المحرمة أن يتناولوا شيئا من الأطعمة المحرمة لدى الاضطرار، لكن هذا الوجوب لا يرفع عنهم المسؤولية، لأنهم أجبروا على ذلك وهم على مسير خاطئ.
11. هناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على طريق الخروج على إمام المسلمين، فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة، وهذه الروايات تشير في الواقع إلى نفس الحقيقة المذكورة، وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر، فالمسافر يقصر الصلاة في السفر إلّا ما كان سفرا حراما، ولذلك يستدلّ بعبارة (غير باغ ولا عاد) للحكمين معا، حكم صلاة المسافر، وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرمة وفي الختام تقول الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فإن الله الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.
12. الأغذية المحرمة التي ذكرتها الآية الكريمة لها ـ كسائر المحرمات الإلهية ـ فلسفتها الخاصة، وقد شرّعت انطلاقا من خصائص الإنسان جسميا روي عن الإمام الصادق عليه السّلام: (أنّ (الباغي) هو الذّاهب للصّيد على سبيل التّنزّه، و(العادي) هو السّارق، وهذان مستثنيان من رخصة أكل الميتة وقصر الصّلاة)، وروحيا، والروايات الإسلامية ذكرت علل بعض هذه الأحكام، والعلوم الحديثة أماطت اللثام أيضا عن بعض هذه العلل.
13. على سبيل المثال، روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: (أمّا الميتة فإنّه لم ينل منها أحد إلّا ضعف بدنه، وذهبت قوّته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة)، ولعل هذه المفاسد تعود إلى أن جهاز الهضم لا يستطيع أن يصنع من الميتة دما سالما حيا، إضافة إلى أن الميتة مرتع أنواع الميكروبات، والإسلام اعتبر الميتة نجسة، كي يبتعد عنها المسلم فضلا عن عدم تناولها.
14. المحرّم الثاني في هذه الآية (الدم)، وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسمية، فهو وسط مستعد تماما لتكاثر أنواع الميكروبات، الميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم، وتتخذه مركزا لنشاطهم، ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم، وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه، يتوقف نشاط الكريات البيض أيضا، ويصبح الدم على بذلك وسطا صالحا لتكاثر الميكروبات دون أن تواجه عقبة في التكاثر، ولذلك نستطيع القول إن الدم ـ حين يتوقف عن الحركة ـ يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوثا، ومن جهة أخرى ثبت اليوم في علم الأغذية، أن الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهورمونات، ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم على تشديد قسوة الإنسان، وأصبح ذلك مضرب الأمثال، لذلك نرى الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد عليه السّلام تقول: (أمّا الدم فإنه يورث القسوة في القلب وقلّة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه ولا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من يصحبه).
15. ثالث: المحرمات المذكورة في الآية (لحم الخنزير)، الخنزير ـ حتى عند الأوروبيين المولعين بأكل لحمه ـ رمز التحلل الجنسي، وهو حيوان قذر للغاية، وتأثير تناول لحمه على التحلل الجنسي لدى الإنسان مشهود، حرمة تناول لحمه صرحت بها شريعة موسى عليه السّلام أيضا، وفي الأناجيل شبّه المذنبون بالخنزير، كما أن هذا الحيوان مظهر الشيطان في القصص، ومن العجيب أن أناسا يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنه يأكل عذرته، ويعلمون احتواء لحمه على نوعين خطرين من الديدان، ومع ذلك يصرّون على أكله.
16. دودة (التريشين) التي تعيش في لحم هذا الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة، وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرة، وتسبب للإنسان أمراضا متنوعة كفقر الدم، والغثيان، وحمّى خاصة، والإسهال، وآلام المفاصل، وتوتر الأعصاب، والحكّة، وتجمع الشحوم داخل البدن، والإحساس بالتعب، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه، والتنفس و.. وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير مليون دودة من هذه الديدان! ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات الماضية على منع تناول لحم هذا الحيوان.
17. هكذا تتجلى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيّام أكثر فأكثر، يقول البعض أن العلم تطور بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا الحيوان، ولكن على فرض اننا استطعنا بواسطة العقاقير، أو بالاستفادة من الحرارة الشديدة في طبخه، إلّا أن أضراره الأخرى ستبقى، وقد ذكرنا أن للأطعمة تأثيرا على أخلاق الإنسان عن طريق تأثيرها على الغدد والهورمونات وذلك الأصل علمي مسلّم، وهو أن لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان أيضا، من هنا تبقى للحم الخنزير خطورته في التأثير على التحلل الجنسي للآكلين، وهي صفة بارزة في هذا الحيوان، ولعل تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلّل الجنسي في أوربا.
18. رابع المحرمات في الآية ﴿ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾، وهي الحيوانات التي تذبح على غير اسم الله، كالتي كانت تقدم للأصنام في الجاهلية، وتحريم لحوم هذه الحيوانات لا يلزم بالضرورة أن تكون لها إضرار صحية حتى؟ يقال: إن ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لا ربط له بالأمور الصّحيحة، فليس من الحتم أن تكون للحم آثار صحية حتى تكون محرمة، لان المحرمات في الإسلام لها أبعاد مختلفة، فتارة بسبب الصحة وحفظ البدن وأخرى يكون للتحريم جانب معنوي وأخلاقي وتربوي، فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله، ولها تأثير نفسي وتربوي سلبي على الآكل، لأنها من سنن الشرك والوثنية وتعيد إلى الذهن تلك التقاليد الخرافية.
19. تحريم المواد الأربع المذكورة تكرر في أربع سور من القرآن، سورتين مكيتين (الأنعام، 145 والنحل، 115) وسورتين مدنيتين (البقرة، 173 والمائدة، 3)، يبدو أن تحريم هذه اللحوم أعلن أولا في أوائل البعثة، ثم أعلن ثانية في أواخر إقامة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكة، وتكرر الإعلان ثالثة في أوائل الهجرة إلى المدينة، ثم أعيد التأكيد رابعة في أواخر عمر الرّسول في سورة المائدة وهي آخر سور القرآن، كل هذا التأكيد يعود إلى أهمية الموضوع وإلى ما في هذه المواد من أخطار جسمية وروحية، وإلى اتساع نطاق تلوث النّاس آنئذ بها.
20. واضح أن تحريم تناول الدم في الآية لا يشمل موارد الاستفادة المعقولة من هذه المادة مثل حقن الدم لإنقاذ الجرحى والمرضى، كما لا يتوفر لدينا دليل على حرمة بيع الدم وشرائه في هذه الموارد، لأنها موارد استفادة عقلائية مشروعة عامة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/485.