...
29. القسوة والحجارة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈29⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 67 ـ 74]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾، يعني به: بني إسرائيل(1).
2. روي أنّه قال: ثم عذر الله الحجارة، فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ﴾ الآية، أي: إن من الحجارة لألين من قلوبكم مما تدعون إليه من الحق(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ إن الحجر ليقع على الأرض، ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه، وإنه ليهبط من خشية الله(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٤٦.
(2) ابن جرير: ٢/١٣٦.
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٤٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ إلى قوله: ﴿لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ فعذر الله الحجارة، ولم يعذر القاسية قلوبهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٤٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فمن خشية الله، نزل بذلك القرآن(1).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٠٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم، ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ثم عذر الله الحجارة، ولم يعذر شقي ابن آدم، فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٣٠.
(2) ابن جرير: ٢/١٣٦ وأخرج عبد الرزاق: ١/٥٠.
زيد:
الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ معناه جفّت، فصارت جافية صلبة.. من بعد ذلك: من بعدما آراهم الآية(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 85.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ يعني: من بعد حياة المقتول، ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ فشبه قلوبهم حين لم تلن بالحجارة في الشدة، ثم عذر الحجارة وعاب قلوبهم، فقال: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في القسوة، ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾(1).
2. روي أنّه قال: ثم عذر الحجارة وعاب قلوبهم، فقال: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في القسوة، ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، ثم قال ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ﴾ ما هي ألين من قلوبهم، فمنها ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا﴾ يعني ما ﴿يَشَّقَّقُ﴾ يعني: يتصدع ﴿فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾ يقول: من بعض الحجارة الذي يهبط من أعلاه، فهؤلاء جميعا ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ يفعلون ذلك، وبنو إسرائيل لا يخشون الله، ولا ترق قلوبهم كفعل الحجارة، ولا يقبلون إلى طاعة ربهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١١٦.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ عست وجفت ويبست من الخير والرحمة قلوبكم، معاشر اليهود ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ من بعد ما بينت من الآيات الباهرات في زمان موسى، ومن الآيات المعجزات التي شاهدتموها من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ اليابسة لا ترشح برطوبة، ولا ينتفض منها ما ينتفع به، أي أنكم لا حق لله تردون، ولا من أموالكم، ولا من حواشيها تتصدقون، ولا بالمعروف تتكرمون وتجودون، ولا الضيف تقرون ولا مكروبا تغيثون، ولا بشي ء من الإنسانية تعاشرون، وتعاملون، ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ إنما هي في قساوة الأحجار، أو أشد قسوة، أبهم على السامعين، ولم يبين لهم، كما قال القائل: أكلت خبزا أو لحما، وهو لا يريد به: أني لا أدري ما أكلت، بل يريد أن يبهم على السامع حتى لا يعلم ما أكل، وإن كان يعلم أنه قد أكل، وليس معناه بل أشد قسوة، لأن هذا استدراك غلط، وهو عز وجل يرتفع عن أن يغلط في خبر، ثم يستدرك على نفسه الغلط، لأنه العالم بما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وإنما يستدرك الغلط على نفسه المخلوق المنقوص، ولا يريد به أيضا فهي كالحجارة أو أشد، أي وأشد قسوة، لأن هذا تكذيب الأول بالثاني، لأنه قال ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في الشدة لا أشد منها ولا ألين، فإذا قال بعد ذلك: ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ فقد رجع عن قوله الأول: إنها ليست بأشد، وهو مثل أن يقول: لا يجي ء من قلوبكم خير، لا قليل ولا كثير، فأبهم عز وجل في الأول حيث قال ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ وبين في الثاني أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، لا بقوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ولكن بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ أي فهي في القساوة بحيث لا يجي ء منها الخير، يا يهود، وفي الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، فيجي ء بالخير والغياث لبني آدم، ﴿وَإِنَّ مِنْهَا﴾ من الحجارة ﴿لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ وهو ما يقطر منه الماء، فهو خير منها، دون الأنهار التي تتفجر من بعضها، وقلوبهم لا يتفجر منها الخيرات، ولا تشقق فيخرج منها قليل من الخيرات، وإن لم يكن كثيرا(1).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص283/141.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى أخبر عن قسوة قلوبهم، وقلة رجوعه إلى الحق، حتى أنها في ذلك أشد قسوة من الحجارة، لو كان من الحجارة من الفهم والتمييز ما في قلوبهم.
2. ثم أخبر أن الحجارة ما يشقق فيخرج منه الماء، وليس في قلوب هؤلاء المشركين قلب يلين إلى شيء من الحق، فالحجارة يعمل فيها الماء حتى يشققها ويفلقها، ويخرج الماء منها، وقلوبهم لا تعمل فيها الفكرة، ولا العظة ولا التذكرة، ولا التخويف ولا الترغيب، فهي على ما يعمل فيها من التذكير، والوعظ والتخويف، أقسا وأشد من الحجارة، على ما يعمل فيها الماء الخارج منها، المشقًق لها.
3. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ يقول: لو كان فيها من العقل والتمييز والفهم، لما يراد منها ما فيكم هبطت من خشية الله، وهبوطها فهو تهدمها وتقلعها وسقوطها، وأنتم فيكم من ذلك ما قد جعل، وليس يصدكم عن معاصي الله، ولا يردكم إلى طاعة الله.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/149.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ضرب الله لقلوبهم مثلا بالحجارة، وشبهها بها:
أ. لتساويها، وشدة صلابتها، وأنها أشدّ قسوة من الحجارة، وذلك: أن من الحجارة ـ مع صلابتها وشدتها، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها، وزوال الخطاب منها ـ ما تخضع له، وتتصدع؛ كقوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]، وقوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ الآية [الأعراف: 143]، وقلب الكافر ـ مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة سببية القبول ـ لا يخضع له، ولا يلين.. وكذلك أخبر الله عزّ وجل عن الجبال أنها تلين، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: 5]، وقلب الكافر لا يلين أبدا.
ب. أو أن يقال: إنّ الله عزّ وجل جعل من الجبال منافع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأنهار والمياه، وقلب الكافر ـ مع احتمال ذلك وإمكانه ـ لا منفعة منه لأحد.
2. وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة، وتشبيهها بها، دون غيرها من الأشياء الصّلبة؛ من الحديد، والصّفر، وغيرهما، وذلك أن الحديد تلينه النار، وكذلك الصّفر حتى تضرب منهما الأواني والحجر لا تلينه النار ولا شيء لذلك شبه قلب الكافر بها، وهذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا.
3. قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ خرج على الوعيد ـ أبلغ الوعيد ـ والوعظ؛ حين ذكرهم علمه بما يعملون.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/496.
العياني:
الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله في ذكره للحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي لو ركب فيها ما ركب فيكم من العقول لهبطت من خشية الله.
2. ليس يريد أنها اليوم تخشى الله في هذه الدنيا، لأنه لا يخاف إلا مَن غَيّر وتحرك وتألم، والحجارة موات لا تنعم ولا تألم، قال الشاعر:
قد امتلأ الحوض وقال قطني... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
يريد أن الحوض قد امتلأ من الماء، حتى لو كان يتكلم أو يعقل إذن قال: بطني وحسبي، فعبر عن حوض الماء بما لا يقوله إلا عاقل شاعر.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 275.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ هذا الخطاب عام في اللفظ خاص في المعنى، وذلك أنه توجه إلى ابن أخي المقتول الذي أنكر المعجزة بعدما رآها ودفع البرهان الذي بينه الله تعالى من انتفاء المقتول، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون الخطاب لبني إسرائيل حين أنكروا بعدما رأوا من آيات الله سبحانه.
2. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ يعني القلوب التي قست، وأما (أو) في هذا الموضع ففيه خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنه إبهام على المخاطبين وإن كان الله عالماً بذلك كما قال أبو الأسود الديلي:
أحب محمداً حباً شديداً... وعباساً وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشداً أصبه... ولست بمخطي إن كان غيا
فلا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكاً في حبهم، ولكن أبهم على من خاطبه، وقيل: لأبي الأسود: أشككت في قولك؟ فقال: كلا، واستشهد بقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ]، وقال: أوَكان شاكاً من أخبر بهذا؟
ب. الثاني: بمعنى الواو، ومثله قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدراً... كما أتى ربه موسى على قدر
ج. الثالث: أو) بمعنى (بل) وتقديره: بل قست قلوبكم، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات]، بمعنى بل يزيدون.
د. الرابع: أن معناه الإباحة وتقديره فإن شبهتموها بالحجارة كانت مثلها، وإن شبهتموها بما هو أشد منها كانت مثلها.
3. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: إنه الجبل الذي سأل الله عليه موسى الرؤية فصار دكاً.
ب. وفيه وجه آخر وهو أن من عظم أمر الله سبحانه يرى كأنه هابط خاشع كما قال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشع
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/66.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في المشار إليه بالقسوة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: بنو أخي الميت حين أنكروا قتله، بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله له، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه أشار إلى بني إسرائيل كلهم، ومن قال بهذا قال من بعد ذلك: أي من بعد آياته كلها التي أظهرها على موسى.
2. في قسوتها وجهان:
أ. أحدهما: صلابتها حتى لا تلين.
ب. الثاني: عنفها حتى لا ترأف.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: من بعد إحياء الموتى، ويكون هذا الخطاب راجعا إلى جماعتهم.
ب. الثاني: من بعد كلام القتيل، ويكون الخطاب راجعا إلى بني أخيه.
4. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ يعني القلوب التي قست، واختلف العلماء في معنى ﴿أَوْ﴾ في هذا الموضع وأشباهه كقوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 9] على خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنه إبهام على المخاطبين، وإن كان الله تعالى عالما، أي ذلك هو.
ب. الثاني: أن ﴿أَوْ﴾ هاهنا بمعنى الواو، وتقديره فهو كالحجارة وأشد قسوة.
ج. الثالث: أن ﴿أَوْ﴾ في هذا الموضع، بمعنى بل أشد قسوة، كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] يعني بل يزيدون.
د. الرابع: أن معناها الإباحة وتقديره، فإن شبهتموها بالحجارة كانت مثلها، وإن شبهتموها بما هو أشد، كانت مثلها.
هـ. الخامس: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
5. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ يعني أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية، لتفجّر الأنهار منها.
6. اختلفوا في ضمير الهاء في ﴿مِنْهَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ إلى ماذا يرجع على قولين:
أ. أحدهما: إلى القلوب لا إلى الحجارة، فيكون معنى الكلام: وإن من القلوب لما يخضع من خشية الله، ذكره ابن بحر.
ب. الثاني: أنها ترجع إلى الحجارة، لأنها أقرب مذكور، واختلف من قال بهذا، في هذه الحجارة على قولين:
• أحدهما: أنها البرد الهابط من السّحاب، وهذا قول تفرد به بعض المتكلمين.
• الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: أنها حجارة الجبال الصلدة، لأنها أشد صلابة، واختلف من قال بهذا على قولين: أحدهما: أنه الجبل الذي جعله الله دكّا، حين كلم موسى.. والثاني: أنه عام في جميع الجبال.
7. اختلف من قال بهذا، في تأويل هبوطها:
أ. قيل: إن هبوط ما هبط من خشية الله، نزل في ذلك القرآن.
ب. وقيل: أن من عظّم من أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع، كما قال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشّع
ج. قيل: أن الله أعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله، فأطاعه، كالذي روي عن الجذع، الذي كان يستند إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما تحول عنه حنّ، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نه قال: إنّ حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة إنّي لأعرفه الآن)، ويكون معنى الكلام، إنّ من الجبال ما لو نزل عليه القرآن، لهبط من خشية الله تذللا وخضوعا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/145.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. فيمن يتوجه اليه الخطاب في قوله تعالى: ﴿قُلُوبِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ انه أريد بنو اخي المقتول حين أنكروا قتله بعد ان سمعوه منه عند احياء الله تعالى له، انه قتله فلان. هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني ـ أنه متوجه الى بني إسرائيل كلهم.
2. معنى ﴿قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ اي: غلظت ويبست وعتت، والقسوة: ذهاب اللين، والرحمة والخشوع، والخضوع، ومنه يقال: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة.
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ :
أ. أي من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة بعد ان تدارأوا فيه، وأخبرهم بقاتله، والسبب الذي من اجله قتله، وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهد هذا ان يخضع ويلين قلبه.
ب. ويحتمل ان يكون من بعد احياء الميت، والآيات الأخرى التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجر وانفراق البحر وغير ذلك، وإنما جاز ذلك وان كانوا جماعة، ولم يقل ذلكم، لان الجماعة: في معنى الجمع والفريق. فالخطاب في لفظ الواحد ومعناه جماعة.
4. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ يعني قلوبهم، فشبهها بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة: اي أشد صلابة، لامتناعهم بالإقرار اللازم من حقه الواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات.
5. معنى (أو) في الآية يحتمل امورا:
أ. أحدها، ذكره الزجاج: فقال: هي بمعنى التخيير كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين أيهما جالست جائز، فكأنه قال ان شبهت قلوبهم بالحجارة جاز، وان شبهتها بما هو أصلب كان جائزاً.
ب. الثاني أن تكون (او) بمعنى الواو، وتقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كما قال ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ ومثله قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا... كما اتى ربه موسى على قدر
وقال توبة ابن الحمر:
وقد زعمت ليلى باني فاجر... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
اي وعليها، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ الآية.
ج. الثالث، ان يكون المراد الإبهام على المخاطبين، كما قال ابو الأسود الدؤلي:
أحب محمداً حباً شديداً... وعباساً وحمزة والوصيا
فان يك حبهم رشداً أصبه... ولست بمخطئ إن كان غيا
وأبو الأسود لم يكن شاكا في حبهم ولكن أبهم على من خاطبه، وقيل: لابي الأسود حين قال ذلك: شككت قال كلا ثم استشهد بقوله تعالى: قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) افتراه كان شاكا حين اخبر بذلك.
د. الرابع ـ ان يكون أراد بل أشد قسوة، ومثله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) اي بل يزيدون، ولا تكون بل للإضراب عن الاول بل مجرد العطف.
هـ. الخامس ـ انها كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
و. السادس: ان يكون أراد مثل قول القائل أطعمتك حلواً وحامضاً وقد أطعمه النوعين جميعاً، وهو انه لم يشك انه أطعمه الطعمين معاً فكأنه قال فهي كالحجارة أو أشد قسوة، ومعناه ان قلوبهم لا تخرج من احد هذين المثلين. اما أن تكون مثلا للحجارة القسوة، واما أن تكون أشد منها، ويكون معناه على هذا بعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
6. كل هذه الأوجه محتملة وأحسنها الإبهام على المخاطبين، ولا يجوز ان يكون المعنى الشك، لان الله تعالى عالم لنفسه لا يخفى عليه خافية، وكذلك في أمثال ذلك نحو قوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ وغير ذلك وانشدوا في معنى أو يراد به، بل قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى... فصورتها أو انت في العين أملح
يريد بل انت.
7. الرفع في قوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ان يكون عطفاً على معنى الكاف التي في قوله: كالحجارة، لان معناها، فهي مثل الحجارة.
ب. الآخر: ان يكون عطفاً على تكرير هي، فيكون التقدير فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
8. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ معناه ان من الحجارة ما هو انفع من قلوبهم القاسية، يتفجر منها انهار، وان منها لما يهبط من خشية الله، والتقدير ان من الحجارة حجارة يتفجر منها انهار الماء فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء، وكرر قوله منه للفظ ما.
9. التفجر: التفعل من فجر الماء: وذلك إذا نزل خارجاً من منبعه وكل سائل شُخص خارجاً من موضعه، ومكانه فقد انفجر. ماء كان أو دماء أو حديد أو غير ذلك.
10. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ تشقق الحجارة انصداعها وأصله يتشقق، لكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة، ﴿فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾، يعني فيخرج منه الماء، فيكون عينا نابعة لا انها جارية حتى يكون مخالفا للأول، وقال الحسين بن علي المغربي: الحجارة الاولى حجارة الجبال تخرج منها الأنهار، والثانية حجر موسى الذي ضربه فانفجر منه عيون، فلا يكون تكراراً.
11. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ . قال ابو علي والمغربي: معناه بخشية الله، كما قال يحفظونه من امر الله اي بأمر الله، قال وهي حجارة الصواعق والبرد، والكناية في قوله منها قيل فيها قولان:
أ. أحدهما: انها ترجع الى الحجارة، لأنها اقرب مذكور، واختلفوا فيه:
• فمنهم من قال إن المراد بالحجارة الهابطة البرد النازل من السحاب، وهذا شاذ، لم يذكره غير أبي علي الجبائي.
• وقال الأكثر: إن المراد بذلك الحجارة الصلبة، لأنها أشد صلابة.
ب. وقال قوم: انها ترجع الى القلوب لا الى الحجارة. فيلون معنى الكلام، وان من القلوب لما يخضع من خشية الله، ذكره ابن بحر وهو احسن عن الأول.
12. قالوا في هبوطها وجوهاً:
أ. أحدها ـ ان هبوط ما يهبط من خشية الله تفيؤ ظلاله.
ب. ثانيها ـ انه الجبل الذي صار دكا لما تجلى له ربه.
ج. ثالثها ـ قاله مجاهد: إن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله.
د. رابعها ـ ان الله تعالى اعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله تعالى، فأطاعه كالذي روي في حنين الجذع، وما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال إن حجراً كان يسلم عليّ في الجاهلية إني لا أعرفه الآن.. وهذا الوجه فيه ضعف:
• لأن الجبل ان كان جماداً، فمحال ان يكون فيه معرفة الله، وان كان عارفا بالله وبنيته بنية الحي فإنه لا يكون جبلا.
• أما الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو خبر واحد، ولو صح، لكان معناه ان الله تعالى احيا الحجر، فسلم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون ذلك معجزاً له عليه السلام.
• اما حنين الجذع فان الله تعالى خلق فيه الحنين، فكان بذلك خارقا للعادة، لأنه إذا استند اليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سكن وإذا تنحى عنه، حنّ وقال قوم: يجوز ان يكون الله تعالى بنى داخله بنية حي، فصح منه الحنين.
هـ. وقال قوم: معنى (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) إنه يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل ناقة تاجرة إذا كانت من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس الى الرغبة فيها: كما قال جرير بن عطية:
واعور من نبهان اما نهاره... فأعمى، واما ليله فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من اجل انه كان فيهما على ما وصفه به.
13. معنى الآية الابانة عن قساوة قلوب الكفار، وان الحجارة ألين منها، لو كانت تلين لشيء، للانت وتفجرت منها الأنهار، وتشققت منها المياه، وهبطت من خشية الله، وهذه القلوب لا تلين مع مشاهدتها الآيات التي شاهدتها بنو إسرائيل، جرى ذلك مجرى ما يقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، ومعناه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، وكانت الجبال مما تخشع لشيء ما، لرأيته خاشعاً متصدعاً وكقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾ الى آخرها سواء، وادخلت هذه اللامات فيها تأكيداً للخبر.
14. المعنى في الآية: انه تعالى لما اخبر عن بني إسرائيل وما أنعم عليهم به، وأراهم من الآيات، وغير ذلك، فقال مخبراً عن عصيانهم، وطغيانهم ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ثم اخبر تعالى انه لا امتناع عند الحجارة مما يحدث فيها من أمره، وان كانت قاسية، بل هي متصرفة على مراده لا يعدم شيء مما قدر فيها، وبنو إسرائيل مع كثرة نعمه عليهم وكثرة ما أراهم من الآيات، يمتنعون من طاعته، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه، بل تقسو وتمتنع من ذلك.
15. قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي عندما يحدث فيها من الآية الهائلة: كالزلازل وغيرها، وأضاف الخشية الى الحجارة، وان كانت جماداً على مجاز اللغة والتشبيه، والمعنى في خشوع الحجارة انه يظهر فيها ما لو ظهر في حي مختار قادر، لكان بذلك خاشعاً، وهو ما يرى من حالها، وانها منصرفة لامتناع عندها مما يراد بها، وهو كقوله: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ لأن ما ظهر فيه من الميلان، لو ظهر من حي لدل على انه يريد أن ينقض، ليس ان الجدار يريد شيئاً في الحقيقة، ومثله ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ وقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ وقوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ وقال زيد الخيل:
بجمع تظل البلق في حجراته... ترى الاكم فيه سجداً للحوافر
فجعل ما ظهر في الاكم من آثار الحوافر، وقلة امتناعها عليها، ومدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلب الحديد الصلب سجوداً لها، ولو أن الاكم كانت في صلابة الحديد حتى يمتنع من الحوافر، ولا تؤثر فيها، ولا تذهب يميناً ولا شمالا، ولا تظاهر بكثرة تزداد الحوافر عليها، ما جاز ان يقال: انها تسجد للحوافر، وقال ابن حمزة:
وعرفت من شرفات مسجدها... حجرين طال عليهما القصر
ركب الخلاء فقلت إذ بكيا... ما بعد مثل بكاهما صبر
وقال جرير:
لما اتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشع
فصيرها متواضعة، والعرب يفهم بعضها مراد بعض بهذه الأشياء. فمن تعلق بشيء من هذا ليطعن به، فإنما يطعن على لغة العرب بل على لغة نفسه من اهل أي لغة كان. فان هذا موجود متعارف في كل لغة، وعند كل جيل.
16. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الخطاب متوجه الى بني إسرائيل فكأنه قال: وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عما تعملون.. والغفلة عن الشيء تركه على وجه السهو والنسيان فأخبرهم الله تعالى انه غير غافل عن أعمالهم السيئة ولا ساه عنها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/306.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القسوة والغلظة والفظاظة نظائر، ونقيضه الرقة، والقسوة الصلابة: في كل شيء.
ب. الشدة: القوة في الجسم، والشدة: صعوبة الأمر، والشد لِلْعَقْدِ.
ج. النهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، والجدول السري دون ذلك، وسمي نهرًا لسعته، قال الشاعر:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا.. يَرَى قَائِم مِنْ دُونهَا مَا وَراءَهَا
يعني أوسعت، يقال: نَهْرٌ، ونَهَرٌ، بفتح الهاء وسكونها لغتان، والفتح أفصح، وجمعه نهُر وأنهار.
د. الشق: الصدع، قال الزجاج: وأصله قطع الشيء وجعله ذا نواح.
هـ. الغفلة: السهو عن الشيء، وهو ذهاب المعنى عن النفس، والتغافل: التعمد لأن يعمل عمل الساهي.
2. لما تقدم ذكر الآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة، وبين ما أتوا به بَعْدُ من العصيان، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ :
أ. قيل: اشتدت ويبست، عن الكلبي.
ب. وقيل: غلظت.
ج. وقيل: اسودت.
د. وقيل: ذهب منها اللين والرحمة والخشوع، عن الزجاج.
3. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿قُلُوبِكُمْ﴾ :
أ. قيل: هو خطاب للقائلين؛ لأنهم بعد أن حَيِيَ وَذَكَرَ أنهم قتلوه ومات أنكروا وحلفوا ما قتلوه.
ب. وقيل: خطاب لأحبار اليهود؛ لأنهم لأجل طلب الدنيا والاستكبار لا يقبلون الحق، ولا تَنْجَع فيهم العظة، عن الأصم.
ج. وقيل: خطاب لجميع اليهود.
د. وقيل: خطاب لمن كان في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود، عن أبي مسلم.
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ :
أ. قيل: من بعد إحياء الميت، قال ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس حيًّا، وقال: قتلني بنو أخي، ثم قبض فأنكروا، وحلفوا ما قتلوه، والمعنى من بعد أن أحيا القتيل حتى أخبرهم كذبوا.
ب. وقيل: بعد تلك الآيات المتقدمة من إحياء الميت، والمسخ، ورفع الجبل، وغير ذلك، عن الأصم.
5. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ شبه قلوبهم بالحجارة لصلابتها، يعني لا تلين لموعظة وآية، فهي كالحجر ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
أ. قيل: لأن الحجارة تتصرف على مراد الله تعالى، وقلوبهم تنفر من ذلك.
ب. وقيل: أراد ما يظهر منهم من الأفعال القبيحة، ولا يظهر من الحجر، ثم بين منافع الحجارة، وأن قلوبهم لا منفعة فيها، فهي أقسى من الحجارة، فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ يعني يتشقق عن الماء، فيسيل منه الأنهار.
ج. وقيل: المراد به الحجر الذي كان مع موسى إذا وضعه يتفجر منه اثنتا عشرة عينًا.
د. وقيل: هو عام.
6. اختلف في الضمير في ﴿مِنْهَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: يرجع إلى الحجارة، يعني: وفي الحجارة ما يهبط من خشية الله، وعليه أكثر أهل التفسير.
ب. وقيل: يرجع على القلوب، وتقديره: من القلوب ما يهبط من خشية الله تعالى، يعني يخضع فيكون مستثنى من قلوب الفاسقين، وهم من آمن من أهل الكتاب، عن أبي مسلم.
7. من قال إنه يرجع إلى الحجارة اختلفوا في معناه:
أ. قيل: هو البرد يهبط لخشية الله، كقوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي بأمر الله، عن أبي علي.
ب. وقيل: بل هو على جهة الميل، كأنه يهبط من خشية الله لما فيه من الانقياد لأمر الله، الذي لو كان من حَيٍّ قَادِرٍ لَدَلَّ على أنه خَاشٍ لله، وهذا معنى قول أبي القاسم.
ج. وقيل: أراد الجبل الذي تجلى له وجعله دكًّا.
د. وقيل: يدعو ما فيه من الآية من جهة الهبوط وغيره إلى خشية الله.
هـ. وقيل: هو سبب الخشية لما يوجد فيه من الزلازل والآيات، فيخافون عندها.
8. ما روي عن مجاهد وابن جريج أن كل حجر تردى عن رأس جبل فهو من خشية الله فغير صحيح على ظاهره؛ لأن الخشية على الجماد لا تجوز إلا أن تحمل على بعض ما ذكرنا، وما روي عن الزجاج: أن المراد مَنْ جعل فيه التمييز، ففاسد؛ لأنه ليس بحجر إذا بقي إنسانًا، ولأنه يعطل معنى التعجيب؛ إذ لا يستبعد ذلك ممن له التمييز.
9. أصح الأقوال ما ذكره أبو القاسم: أنه على طريق التمثيل، وله شواهد، قال تعالى: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ أي كأنه يريد، وقال زيد الخيل:
بِجَيْشٍ تَضِلُّ البُلْقُ فِي حُجَرَاتِهِ.. تَرَى الأُكمَ فِيهَا سُجَّدًا لْلِحَوَافِرِ
وقال آخر:
لَمَّاَ أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَهَدَّمَتْ.. سُوُر المَدِينَةِ وَالجِبَالُ الخُشَّعُ
أي كأنه كذلك، وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة.. تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال تعالى: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ يعني لو كان له تمييز لكان هكذا، يدل عليه أنه قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾
10. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء يجوز أن يكون خطابًا لبني إسرائيل في زمن موسى، ويجوز أن يكون خطابًا لمن كان في زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالياء كناية عن الماضين، والمعنى: إن كنتم غافلين عن الآيات، والله تعالى لا يغفل عنكم، فيجازيكم بسوء صنيعكم.
11. مسائل نحوية:
أ. في ﴿أَوْ﴾ في قوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ خمسة أقوال:
• قيل: ذلك على شك المخاطب، كأنه قيل: أو أشد قسوة عندكم.
• وقيل: معناه الإيهام على العباد، أي هي على إحدى الحالتين.
• وقيل: معناه الإباحة، أي إنْ شبهتهم بالحجارة فهي تشبههم، وإن شبهتهم بما هو أشد منها فهو شبههم.
• وقيل: معناه بل أشد قسوة، كقوله تعالى: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ عن أبي علي.
• وقيل: أو بمعنى الواو، والاختيار الإباحة؛ لأنه مشهور عندهم ظاهر في مفهوم الآية، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.
ب. في سبب رفع (أَوْ أَشَدُّ) وجهان:
• أحدهما: أن يكون عطفًا على موضع الكاف، كأنه قال فهي كمثل الحجارة أو أشد قسوة.
• الثاني: على (أو هي أشد قسوة)
12. تدل الآية الكريمة:
أ. على قلة الخير في قلوب أولئك، فإنها أقسى من الحجر لما في الحجر من المنافع، ولا منفعة في قلوبهم.
ب. على أن تلك القسوة ليست من خلق الله فيها، بل هي فعلهم؛ لذلك ذمهم.
ج. قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ﴾ يدل على وعيد عظيم لهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/438.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القسوة ذهاب اللين والرحمة من القلب، يقال: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة، والقسوة: الصلابة في كل شيء، ونقيضه الرقة.
ب. الشدة: القوة في الجسم، والشدة صعوبة الأمر، والشد العقد.
ج. النهر: المجرى الواسع من مجاري الماء: والجدول والسري دون ذلك: يقال نهر ونهر والفتح أفصح قال سبحانه ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ : وجمعه نهر وأنهار.
د. التفجر: التفعل من فجر الماء، وذلك إذا أنزل خارجا من منبعه، وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان أو دما أو غير ذلك قال عمر بن لجأ:
ولما أن قرنت إلى جرير... أبى ذو بطنه إلا انفجارا
أي خروجا وسيلانا.
هـ. أصل يشقق: يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهو أن ينقطع من غير أن يبين.
و. الغفلة: السهو عن الشيء وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره، ويقال: تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي.
2. لما قدم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة والأعلام الظاهرة بين ما فعلوا بعدها من العصيان والطغيان، فقال عز اسمه ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي غلظت ويبست وعتت وقشت.
3. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ :
أ. قيل: أي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى عليه السلام.
ب. وقيل: إنه أراد بني أخي المقتول حين أنكروا قتله بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله تعالى إياه أنه قتله فلان عن ابن عباس، فيكون ذلك إشارة إلى الإحياء، أي من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة بعد أن تدارأتم فيه فأخبركم بقاتله، والسبب الذي من أجله قتله وكان يجب ممن شاهد هذه الآية العجيبة والمعجزة الخارقة للعادة أن يخضع، ويلين قلبه.
ج. ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى الآيات الآخر التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من الحجر، وانفراق البحر، وغير ذلك.
4. إنما جاز أن يقول ذلك، وأن كانوا جماعة، ولم يقل ذلكم لأن الجماعة في معنى الجمع والفريق فلفظ الخطاب مفرد في معنى الجمع، ولو قال ذلكم لجاز.
5. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة، وقد ورد الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب، وإن أبعد الناس من الله القاسي القلب.
6. ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ أي أو هي أشد قسوة، ويجوز أن يكون عطفا على موضع الكاف، وكأنه قال: فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة، أي أشد صلابة لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته والعمل بالواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات.
7. في تأويل ﴿أَوْ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ وجوه:
أ. أحدها، ما ذكره الزجاج أن معناها الإباحة كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، فإن جالست أحدهما، أو جمعت بينهما فأنت مصيب، فيكون معنى الآية على هذا أن قلوبهم قاسية، فإن شبهت قسوتها بالحجر أصبت، وإن شبهتها بما هو أشد أصبت، وإن شبهتها بهما جميعا أصبت، كما في قوله سبحانه: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾
ب. ثانيها، أن يكون أو دخلت للتفصيل والتمييز، فيكون معنى الآية: إن قلوبهم قاسية، فبعضها كالحجارة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
ج. وقد يحتمل قوله تعالى ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ هذا الوجه أيضا ثالثها، أن يكون أو دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب، وإن كان تعالى عالما بذلك غير شاك فيه، فأخبر أن قسوة قلوب هؤلاء كالحجارة أو أشد قسوة، والمعنى أنها كأحد هذين لا يخرج عنهما كما يقال: أكلت بسرة أو تمرة، وهو يعلم ما أكله على التفصيل إلا أنه أبهم على المخاطب وكما قال لبيد:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أراد: وهل أنا إلا من أحد هذين الجنسين، فسبيلي أن أفنى كما فنيا، وإنما حسن ذلك لأن غرضه الذي نحاه هو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى ولم يخل بقصده الذي أجري إليه إجمال ما أجمل من كلامه، فكذلك هنا: الغرض الإخبار عن شدة قسوة قلوبهم، وأنها مما لا يصغي إلى وعظ، ولا يعرج على خير، فسواء كانت كالحجارة أو أشد منها في أنه لا يحتاج إلى ذكر تفصيله.
د. رابعها، أن يكون (أو) بمعنى (بل) كما قال الله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾، ومعناه: بل يزيدون، وروي عن ابن عباس أنه قال: كانوا مائة ألف وبعضا وأربعين ألف، وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى... وصورتها أو أنت في العين أملح
كما تكون (أم) المنقطعة في الاستفهام بمعنى (بل) يقول القائل: أضربت عبد الله أم أنت متعنت أي بل أنت، وقال الشاعر:
فو الله ما أدري أسلمى تغولت... أم النوم أم كل إلى حبيب
معناه: بل كل، وقد طعن على هذا الجواب فقيل: كيف يجوز أن يخاطبنا الله عز اسمه بلفظة (بل)، وهي تقتضي الاستدراك والنقض للكلام الماضي والإضراب عنه، وهذا غير سديد لأن الاستدراك إن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما، فلا يصح، وإن أريد به الأخذ في الكلام الماضي، واستئناف زيادة عليه، فهو صحيح، فالقائل إذا قال: أعطيته ألفا، بل ألفين، لم ينقض الأول، وكيف ينقضه والأول داخل في الثاني، وإنما أراد عليه، وإنما يكون ناقضا للثاني لو قال لقيت رجلا، بل حمارا، لأن الأول لا يدخل في الثاني على وجه، وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ غير ناقض للأول لأنها لا تزيد على الحجارة إلا بأن يساويها، وإنما تزيد عليها بعد المساواة.
هـ. خامسها، أن يكون بمعنى الواو كقوله تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ معناه وبيوت آبائكم قال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا... عدلت بهم طهية والخشابا
أراد ورياحا وقال أيضا:
نال الخلافة أو كانت له قدرا... كما أتى ربه موسى على قدر
وقال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فإن قيل: كيف يكون أو في الآية بمعنى الواو والواو للجمع، والشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها أجيب عنه:
• بأنه ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حالة وأشد من الحجارة في حالة أخرى فيصح المعنى، ولا يتنافى، وفائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء مع قساوتها ربما لانت بعض اللين، وكادت تصغي إلى الحق، فتكون في هذا الحال كالحجارة التي ربما لانت، وتكون في حال أخرى في نهاية البعد عن الخير فتكون أشد من الحجارة.
• وجواب آخر وهو أن قلوبهم لا تكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة لأن قولنا فلان أعلم من فلان إخبار بأنه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه، فلا بد من الاشتراك ثم الزيادة فلا تنافي هاهنا.
8. فضّل سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ :
أ. قيل: معناه أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية فيتفجر منه أنهار الماء، واستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء.
ب. وقيل: المراد منه الحجر الذي كان ينفجر منه اثنتا عشرة عينا.
ج. وقيل: هو عام ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾، يعني ومن الحجارة ما يخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا أنهارا جارية حتى يكون مخالفا للأول.
د. وقيل: الحجارة الأولى حجارة الجبال منها تتفجر الأنهار، والثانية حجر موسى عليه السلام الذي كان يضربه فيخرج منه العيون فلا يكون تكرارا، قاله الحسين بن علي المغربي.
9. اختلف في الضمير في (منها) في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ :
قيل: يرجع إلى الحجارة أي ومن الحجارة ما يهبط من خشية الله، وعليه أكثر أهل التفسير.
وقيل: يرجع إلى القلوب أي ومن القلوب ما يهبط من خشية الله، أي تخشع، وهي قلوب من آمن من أهل الكتاب، فيكونون مستثنين من القاسية قلوبهم، عن أبي مسلم.
10. اختلف من قال إن الضمير يرجع إلى الحجارة في تأويله على وجوه:
أ. أحدها، ما روي عن مجاهد وابن جريج أن كل حجر تردى من رأس جبل، فهو من خشية الله، فمعناه أن الحجارة قد تصير إلى الحال التي ذكرها من خشية الله، وقلوب اليهود لا تخشى ولا تخشع، ولا تلين لأنهم عارفون بصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم لا يؤمنون به، فقلوبهم أقسى من الحجارة.
ب. ثانيها، ما قاله الزجاج إن الله تعالى أعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله نحو الجبل الذي تجلى الله عز وجل له حين كلم موسى، فصار دكا، وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية، وإني لأعرفه الآن، وهذا الوجه ضعيف:
• لأن الجبل إذا كان جمادا، فمحال أن يكون فيه معرفة الله، وإن كان بنيته بنية الحي، فإنه لا يكون جبلا.
• وأما الخبر فإن صح فإن معناه أنه سبحانه أحياه، فسلم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أعاده حجرا، ويكون معجزا له صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. ثالثها، أنه يدعو المتفكر فيه إلى خشية الله، أو يوجب الخشية له بدلالته على صانعه لما يرى فيه من الدلالات والعجائب، وأضاف الخشية إليه لأن التفكر فيه هو الداعي إلى الخشية، كما قال جرير بن عطية:
وأعور من نبهان أما نهاره... فأعمى وأما ليلة فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من أجل أنه كان فيهما على ما وصفه به.
د. رابعها، أنه إنما ذكر ذلك على سبيل ضرب المثل، أي كأنه يخشى الله سبحانه في المثل لانقياده لأمره ووجد منه ما لو وجد من حي عاقل لكان دليلا على خشية، كقوله سبحانه: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾، أي كأنه يريد لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إرادته الانقضاض، ومثله قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، وكما قال زيد الخيل:
بجمع تضل البلق في حجراته... ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
فجعل ما ظهر في الأكم من آثار الحوافر وقلة مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلد سجودا لها، ولو كانت الأكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر لم يقل أنها تسجد للحوافر قال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشع
أي كأنها كذلك وقال جرير أيضا:
والشمس طالعة ليست بكاسفة... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وكما قال سبحانه ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، أي لو كانت الجبال مما يخشع لشيء ما لرأيته خاشعا، ويؤيد هذا الوجه قوله سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾
هـ. خامسها، أن هبط يجوز أن يكون متعديا قال الشاعر:
ما راعني إلا جناح هابطا... على البيوت قوطه العلابطا
فاعمله بالقوط كما ترى، ويكون على هبطت الشيء فهبط، فمعناه يهبط غيره من خشية الله، أي إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه إلا أنه حذف المفعول تخفيفا، ولدلالة الكلام عليه، ونسب الفعل إلى الحجر، لأن طاعة رائية لخالقه سببها النظر إليه، أي منها ما يهبط الناظر إليه أي يخضعه ويخشعه.
11. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أيها المكذبون بآياته الجاحدون نبوة نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/279.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، قال إبراهيم بن السّريّ: قست في اللغة: غلظت ويبست وعست، فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه، والقاسي: والعاسي: الشديد الصلابة.. وقال ابن قتيبة: قست وعست وعتت واحد، أي: يبست.
2. في المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: جميع بني إسرائيل.
ب. الثاني: القاتل، قال ابن عباس: قال الذين قتلوه بعد أن سمّى قاتله: والله ما قتلناه.
3. في كاف (ذلك) ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه إشارة إلى إحياء الموتى، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل.
ب. الثاني: إلى كلام القتيل، فيكون الخطاب للقاتل، ذكرهما المفسّرون.
ج. الثالث: إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، ذكره الزّجّاج.
4. في (أو) أقوال، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾
5. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾، قال مجاهد: كل حجر ينفجر منه الماء، وينشقّ عن ماء، أو يتردّى من رأس جبل، فمن خشية الله.
__________
(1) زاد المسير: 1/80.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر، ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر، فيقال لذلك القابل: إنه صار صلباً غليظاً قاسياً، فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل، وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر، وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع لله والخوف من الله تعالى، فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيهاً بالحجر، فيقال: قسا القلب وغلظ، ولذلك كان الله تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزمر: 23]، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾
2. المخاطبون بقوله تعالى: ﴿قُلُوبِكُمْ﴾ :
أ. يجوز أن يكون المخاطبون به أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم، والأمور التي جرت عليهم، والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم، فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب، وهذا أولى لأن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ خطاب مشافهة، فحمله على الحاضرين أولى:
ب. ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً، ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم.
3. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ :
أ. يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه بعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل، فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار، بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع، فعنده قال تعالى واصفاً لهم: إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم، أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة.
ب. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ إشارة إلى جميع ما عدد الله سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها.
4. اتفق على أن كلمة (أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ليس المراد بها في الآية الكريمة الترديد، لأن ذلك لا يليق بعلام الغيوب، واختلفوا في التأويل من وجوه:
أ. أحدها: أنها بمعنى الواو:
• كقوله تعالى: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] بمعنى ويزيدون.
• وكقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ﴾ [النور: 31] والمعنى وآبائهن.
• وكقوله: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ [النور: 61] يعني وبيوت آبائكم.
• ومن نظائره قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ [المرسلات: 5، 6]
ب. ثانيها: أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد، فقال ذلك كما يقول المرء لغيره: أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه.
ج. ثالثها: أن يكون المراد، فهي كالحجارة، ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.
د. رابعها: أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا: إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة، وهو المراد في قوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 9] أي في نظركم واعتقادكم.
هـ. خامسها: أن كلمة (أو) بمعنى بل وأنشدوا:
فو الله ما أدري أسلمى تغولت... أم القوم أو كل إلي حبيب
قالوا: أراد بل كل.
و. سادسها: أنه على حد قولك ما آكل إلا حلواً أو حامضاً أي طعامي لا يخرج عن هذين، بل يتردد عليهما، وبالجملة: فليس الغرض إيقاع التردد بينهما، بل نفي غيرهما.
ز. سابعها: أن (أو) حرف إباحة، كأنه قيل: بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقاً كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي أيهما جالست كنت مصيباً ولو جالستهما معاً كنت مصيباً أيضاً.
5. إنما وصف الله تعالى القلوب بأنها أشد قسوة لوجوه:
أ. أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلتها كما قال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]
ب. ثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية، بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره، وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم، يمتنعون من طاعته، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه، وهو كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38] إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: 39] كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء، وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم.
ج. ثالثها: أو أشد قسوة، لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه.
6. في هذه الآية الكريمة رد على المجبرة، ذلك:(2). إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر، فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له: إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة، والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم.
7. إنما قال ﴿أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ولم يقل أقسى:
أ. لأن ذلك أدل على فرط القسوة.
ب. ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة.
8. بين الله سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.
9. أول المنافع ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾، والتفجر التفتح بالسعة والكثرة، أي إن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار، قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجرياً اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهاراً(3).
10. ثاني المنافع ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾، أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عيناً لا نهراً جارياً، أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل، وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء.
11. قوله تعالى: ﴿يَشَّقَّقُ﴾ أي يتشقق، فأدغم التاء كقوله: ﴿يَذَّكَّرُ﴾ أي يتذكر وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1]
12. ثالث المنافع ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، وبسبب كون الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء، والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه، فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوهاً:
أ. أحدها: قول أبي مسلم خاصة، وهو أن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا﴾ راجع إلى القلوب، فإنه يجوز عليها الخشية، والحجارة لا يجوز عليها الخشية، وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين، إلا أن هذا الوصف لما كان لائقاً بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة، واعترضوا عليه من وجهين:
• الأول: أن قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ جملة تامة، ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ فيجب في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أن يكون راجعاً إليها.
• الثاني: أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب، فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية.
ب. ثانيها: قول جمع من المفسرين: إن الضمير عائد إلى الحجارة، لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاقلة، بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك، وهذا غير مستبعد في قدرة الله، ونظيره:
• قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: 21]، فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجبل وصفه بالخشية.
• وقال أيضاً: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]، والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك.
• وروي أنه حن الجزع لصعود رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المنبر.
• وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار، فكلها كانت تقول: السلام عليك يا رسول الله
وبناء على هذا؛ فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه عقب على هذا بقوله: وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد، فوجب أن لا يلتفت إليهم، تفسير الفخر الرازي: 3/558.>..
ج. ثالثها: قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة، وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم، وذكروا على هذا القول أنواعاً من التأويل، سنذكرها في المسألة التالية.
13. التأويلات التي ذكرها من رأى أن الضمير في الآية الكريمة عائد إلى الحجارة، وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم:
أ. الأول: أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل، وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر، فكأن الهبوط من العلو جعل مثلًا للانقياد، وقوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشياً لله، وهو كقوله: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف: 77]، أي جداراً قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريداً للانقضاض، ونحو هذا قول بعضهم:
بخيل تضل البلق من حجراته... ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وقول جرير:
لما أتى خبر الزبير تضعضعت... سور المدينة والجبال الخشع
فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر، وكذلك الثاني: جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع، وعلى هذا الوجه تأول أهل النظر قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النحل: 49] الآية، وقوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6].
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض، عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة، وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط، فكلمة (من) لابتداء الغاية فقوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب.
ج. الثالث: ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده ليزجرهم به، قال: وقوله تعالى: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي خشية الله، أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال: نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس، قال القاضي: هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة، لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية.
14. معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64] وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا.
15. سؤال وإشكال: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟ والجواب: فيه قولان:
أ. قيل: لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه.
ب. وقيل: ليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه، بدليل قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/556.
(2) نسبه للقاضي، تفسير الفخر الرازي: 3/557.
(3) ذلك بحسب ما كان عليه العلم في عصره، والحديث عن هذه المسألة بتفصيل في محالها من هذه السلسلة.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)، وفى مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا)
2. اختلف في المخاطب بقساوة القلب:
أ. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل.
ب. قال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله.
3. اختلف في (أو) في قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ :
أ. قيل: هي بمعنى الواو كما قال تعالى: ﴿آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24]، ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ وقال الشاعر: نال الخلافة أو كانت له قدرا.. أي وكانت.
ب. وقيل: هي بمعنى (بل)، كقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون، وقال الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى... وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت.
ج. وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا... وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه... ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام، وقد قيل لابي الأسود حين قال ذلك: شككت! قال كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا!
د. وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو.
هـ. وقيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147]
و. وقيل: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر،، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى هم فرقتان.
4. قوله تعالى: ﴿أَشَدُّ﴾ مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله ﴿كَالْحِجَارَةِ﴾، لان المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد، ويجوز ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ بالفتح عطف على الحجارة، و ﴿قَسْوَةً﴾ نصب على التمييز.
5. يشقق أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح.. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم.
6. ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. ﴿مِنْهُ﴾ على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾
7. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ يقول: إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها:
أ. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم، ومثله عن ابن جريج.
ب. وقال بعض المتكلمين في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ : البرد الهابط من السحاب.
ج. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها.
د. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشع
هـ. وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا﴾ راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
8. وكل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول ـ وهو أنه ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله ـ صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل:
أ. كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خطب، فلما تحول عنه حن.
ب. وثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن)
ج. وكما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله، فناداه حراء: إلي يا رسول الله)
د. وفى التنزيل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ [الأحزاب: 72] الآية، وقال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21] يعني تذللا وخضوعا.
9. ﴿بِغَافِلٍ﴾ في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع، والياء توكيد ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، ولا تحتاج (ما) إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/463.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الإشارة بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها.
2. اختلف في ﴿أَوْ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ : قيل: بمعنى الواو كما في قوله تعالى: ﴿آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ .. وقيل: هي بمعنى بل، وعلى أن (أو) على أصلها أو بمعنى الواو، فالعطف على قوله: ﴿كَالْحِجَارَةِ﴾ أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها، فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه.
3. الشق: واحد الشقوق، وهو يكون بالطول أو بالعرض، بخلاف الانفجار، فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق، والمراد: أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: من الحجارة ما يهبط: أي ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل به.
ب. وقيل: إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها، والتواضع الكائن فيها انقيادا لله عزّ وجل، فهو مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
ج. وقد حكى ابن جرير عن فرقة: أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار، وكما قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت... سور المدينة والجبال الخشّع
د. وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا﴾ راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، وهو فاسد، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة، التي هي أشدّ الأجسام صلابة وأعظمها صلادة، فإنها ترجع إلى نوع من اللين، وهي تفجرها بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب.
5. في قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه مطلعا عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/119.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المخاطبون في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ :
أ. إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم، والأمور التي جرت عليهم، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم، فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب، وهذا أولى ـ لأن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، خطاب مشافهة. فحمله على الحاضرين أولى.
ب. وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا، أو من قبل المخاطبين من سلفهم.
2. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في القساوة ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ منها ﴿قَسْوَةً﴾ أي هي في القسوة مثل الحجارة أو زائد عليها فيها، و ﴿أَوْ﴾ للتخيير أو للترديد، بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس.
3. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ أي يتفتح بالسعة والكثرة ﴿مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة، ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ﴾ أي يتشقق ﴿فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ أي العيون الي هي دون الأنهار.
4. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي يتردّى من رأس الجبل من خشية الله، انقيادا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة، قاله القاشانيّ.. وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح، والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ، وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة، لا سيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها، كما بسط في مطولات البيان.
5. ردّ ابن حزم، في أول كتابه (الفصل) على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزا، ردا مسهبا، وقال: من ادعى ذلك أكذبه العيان، ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام.. ولعل معترضا يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبيّ. فإذ لا شك في هذا، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن يكون الضمير في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾ راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى، وهذا أمر يشاهد بالعيان، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى، ويخشى العاصي، وقد أخبر عز وجلّ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: 199]، وكما أخبر تعالى أن ﴿ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ﴾ [التوبة: 99] من بعد أن أخبر أن ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ [التوبة: 97]، فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة.
ب. الثاني: أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11].
ج. الثالث: أن يكون الله تعالى عنى بقوله ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ الجبل الذي صار دكّا، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة، ويكون ﴿يَهْبِطُ﴾ بمعنى (هبط) كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: 30] معناه: وإذ مكر، وبين قوله تعالى، مصدقا إبراهيم خليله صلّى الله عليه وآله وسلّم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ [مريم: 42] وقوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزمر: 43] فصح بهذا، صحة لا مجال للشك فيها، أن الحجارة لا تعقل، وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية، المعهود كل ذلك ـ عنده وعند أصحابه ـ.
6. ردّ ابن حزم، في أول كتابه (الفصل) على ما روي من الأحاديث المأثورة في هذا، مثل أن الحجر له لسان وشفتان، والكعبة كذلك، وأن الجبال تطاولت، وخشع جبل كذا، واعتبرها خرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا، ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث، أو ما يستجاز روايته، مما يقارب الصحة.
7. ذكر ابن جرير اختلاف أهل النحو في معنى هبوط الأحجار من خشية الله:
أ. قال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله.
ب. وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه.
ج. وقال آخرون: قوله ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ كقوله ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف: 77] ولا إرادة له. قالوا: وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله.
د. وقال آخرون: معنى قوله ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل: ناقة تاجرة إذا كانت، من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس إلى الرغبة فيها.
ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية.
8. حاول الراغب تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله، وعبارته: قال مجاهد وابن جريج: كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، ويدل على ذلك قوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الحج: 18]، إلى قوله: ﴿وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج: 18]، وقد روي مثل هذا عن السلف، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته، فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة، وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال: إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب:
أ. الأول: المعرفة التامة التي هي العلم التام، وذلك لعلّام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما.
ب. الثاني: معرفة متزايدة، وهي للإنسان، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعريف كثير مما لم يعرفه، وليس ذلك إلا للإنسان.
ج. الثالث: معرفة دون ذلك، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها، واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها، ودفع مضار عن أنفسها.
د. الرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها.
هـ. الخامس: معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل، والنار في طلب العلوّ، وذلك بتسخير الله تعالى، بلا اختيار منه، والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا، أبى إلا العود إليه طوعا، ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه، ويأبى الماء الذي يطفيه، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره، هذا ما حكوه.
فعلى هذا إذا قيل: لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول.
9. ما قاله الراغب تأويل حسن، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف، وهو مسلم في كثير من الإطلاقات.
10. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه، مطلعا عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/330.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ انتفت عن الاتِّعاظ بالمعجزات واللين لها، وأشبهت في ذلك الجسم الصلب الذي لا يتأثَّر بانغماز، ففيه استعارة تبعيَّة، أو في الكلام استعارة تمثيليَّة، ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ في الحال وما قبلها قسوة بعيدة عن شأن من شاهد من المعجزات ما شاهدتم بُعدًا، تشبيهًا في الامتداد بتراخي الزمان، أو بعد مدَّة من الزمان زادت قسوة، ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، وقد زادوا سوءًا بعد نزول الآيات، وأكَّد البعد بقوله: ﴿مِّن بَعْدِ ذَالِكَ﴾ بعد ما ذكر من الآيات كإحياء القتيل.
2. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ في عدم الانفعال كما لا يطاوعك الحجر في الانغماز والتـثنِّي، لا تتأثَّر قلوبهم في الوعظ بما شاهدوا من الآيات، ﴿أَوَ اَشَدُّ قَسْوَةً﴾ من الحجارة، أي: بل أشدُّ قسوة، كقوله: ﴿إِنْ هُمُ إلَّا كَالَانْعَامِ بَلْ هُمُ أضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 44]، أو يشكُّ الناظر أهي كالحجارة أم أشدُّ، أو يخيَّر بين أن تشبه بها وأن يقال: أشدُّ، على جواز التخيير بـ (أوْ) في غير الأمر والنهي؛ أو نوَّعهم إلى قلوب كالحجارة وقلوب أشدَّ، والحديد ولو كان أقوى من الحجر لكن قد يلين بالنار، وقد وقع لينه لداود عليه السلام خارجًا بلا نار، وأيضًا الحديد لا يخرج منه الماء فلا يناسب ذكر خروج الماء من الحجر وهبوطه من الخشية بعده، ولا سيما أنَّ الحديد إنَّما قد يلين بانضمام النار لا بمجرَّده، ولينه لداود معجزة لا مسيس لها هنا، ولم يقل: أو أقسى لأنَّه يدلُّ على حصول الشدَّة لا على زيادتها؛ وأشدُّ قسوة يدلُّ على زيادتها فهو أبلغ.
3. ﴿وَإنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ ينبع نبعًا واسعًا ﴿مِنْهُ الَانْهَارُ﴾ المياه، سمَّاها أنهارًا تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ، والكلام تعليل جمليٌّ لـ (أَشَدُّ قَسْوَةً)، وزعم بعض وتبعهم الشيخ عمرو التلاتي أنَّ الواو تكون للتعليل ولا يصحُّ، ولو صحَّ لحملنا عليه الآية، أي: لأنَّ من الحجارة ما يتفجَّر منه الأنهار، وهو مطلق الحجارة، وزعم بعض أنَّه أراد حجر موسى الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، والأوَّل أصحُّ للإطلاق، ولأنَّ حجر موسى حجر خارق للعادة معجزة.
4. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ﴾ بعد أن لم يكن منشقًّا، أصله يتشقَّق أبدلت التاء شينًا وأدغمت، ﴿فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ﴾ قليلا دون الانفجار، ﴿وَإنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾ يسقط من الجبل على الاستقلال ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ لا بحيوان أو مطر أو صاعقة أو رعد أو نحو ذلك، خلق الله فيه التمييز والعقل، فيخشع فيسقط، ومن خلْق العقل في الحجر قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنِّي لأعرف حجرًا كان يسلِّم عليَّ قبل أن أبعث)، وأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد مبعثه ما مرَّ بحجر أو مدر إلَّا سلَّم عليه، وأنَّ الحصى سبَّح في كفِّه وكفِّ بعض الصحابة، وأنَّ الحجر الأسود يشهد لمن استلمه، وليس المراد هنا الانقياد لما يريد الله فإنَّ الخلق كلَّه كذلك، حتَّى قلوب الكفرة، فإنَّها منقادة لما يريد الله منها من هزال وسمن وصحَّة ومرض وزوال وبقاء وفرح وحزن وغير ذلك.. ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهو عالم بما تعملون فيعاقبكم على مساوئكم المحبطة لمحاسنكم في الآخرة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/140.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وصفهم الله تعالى بأنه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما زال أثرها من قلوبهم، وذهب بعبرتها من عقولهم، فقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، فالعطف بثم يفيد أن الأولين منهم قد خشعت قلوبهم لما رأوا في زمن موسى عليه السّلام ما رأوا، ثم خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه عز وجل.
2. القسوة الصلابة وهى من صفات الأجسام، ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه مما يسمونه الاستعارة بالكناية.
3. ﴿أَوْ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ :
أ. يصح فيها الترديد والتشكيك، وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلم باعتبار ما يعهد في التخاطب العربي كأن عربيا يحدث آخر ويقول له: إن هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها.
ب. ويصح فيها التقسيم، أي إن القسوة عمت قلوبكم، فأقلها قسوة يشبه الحجر الصلد، ومنها ما هو أشد منه قسوة.
ج. وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة، أي بل هي أشد قسوة من الحجارة، إذ لا شعور فيها يأتي بخير، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة، والحجارة ليست كذلك، لأن منها ما يفيض بالخيرات، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات.
4. وصف الحجارة بالثلاث الصفات الآتية بعد أن شبه القلوب بها في الصلابة المطلقة، وفرق بين القلوب وبينها بالإضراب والانتقال إلى أن القلوب أشد صلابة، وأراد أن يبين بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدتها في القلوب مكان الكلام يشبه أن يكون عذرا عن الحجارة دون القلوب.
5. المراد بالقلوب ما اعتبرت عنوانا له وهو الوجدان والعقل، وأكثر ما تستعمل في الأول لأنه سائق الإقناع والإذعان، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة لأن من شأن القلب أن يتأثر مما يتأثر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقا.
6. في الكلام من المبالغة أن هذه القلوب فقدت خاصة التأثر والانفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات التي هي من خواص الروح الإنساني حتى كأن أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركة الجماد كالحجارة، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضا، وذلك ما أفاده قوله تعالى ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
7. التفجر تفعل من الفجر، وهو الشق الواسع يكون للمطاوعة كفجرته فتفجر (بالتشديد فيهما) ويكون لتكرر الفعل وحصوله مرة بعد أخرى، ومثله التشقق إلا أنه أعم، ولما في التفجر من معنى السعة عبر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار وهو معهود في الجبال، وعبر بالتشقق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه.
8. المعنى أن هذه الحجارة على صلابتها وقسوتها تتأثر بالماء الرقيق اللطيف فيشقها وينفذ منها بقلة أو كثرة، فيحيى الأرض وينفع النبات والحيوان، وأما هذه القلوب فلم تعد تتأثر بالحكم والنذر ولا بالعظات والعبر، فالحكم لا تقوى على شقها والنفوذ منها إلى أعماق الوجدان، وأنوار الفطرة قد انطفأت فيها فلا يظهر شعاعها على انسان:
أ. ومن الحجارة ما يشقه الماء القليل كماء العيون والينابيع الحجرية.
ب. ومنها مالا يفجره إلا الماء القوى الغمر الذي يسمى نهرا.
ج. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وهو ما ينحط من أعلى الجبل ومن أثنائه بسبب أثر من آثار القهر الإلهي كالبراكين والصواعق التي تهبط بها الصخور وتندك الجبال، وقد جعل هذا شبها للآيات الإلهية التي أظهرها على يد عبده ونبيه موسى عليه السّلام فهي حوادث عظيمة في الكون تفزع بها نفوس المؤمنين إلى الله، وتخشع لأمره ونهيه، لعظمتها وخفاء سر إيجادها كما تفزع النفوس من حوادث البراكين والصواعق التي تدك الصخور وتدمر الحصون، وقد أصبحت تلك القلوب بعد مشاهدة الآيات لا تتأثر بها ولا تزداد إيمانا.
9. ملخص التشبيه أن قلوبكم تشبه الحجارة في القسوة، بل قد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارة الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع، وبعضها بالقوى منه، وبعضها بالضعيف؛ ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شأنها التأثير في الوجدان، والنفوذ إلى الجنان.. والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخلية ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجاز، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوة.
10. ثم هددهم بقوله ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعم.
__________
(1) تفسير المنار: 1/352.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وصف الله حال بنى إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي آتاها موسى عليه السلام ما رأوا، كانفجار الماء ورفع الجبل، ومسخهم قردة وخنازير، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك ـ وصفهم بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصبحت كالصمّ الصلاد، بل أشدّ منها قسوة، فلا أثر فيها لعاطفة عبرة، ولا شعور لها بعظة، فقد فقدت التأثر والانفعال، وكأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركات الجماد كالحجارة، بل نزلوا إلى ما دونها؛ فإن من الحجارة ما يتأثر فيشقّه الماء العذب الزّلال الذي يسيل أنهارا وجداول وعيونا يستقى منها الإنسان والحيوان، ويحيى الأرض، وينفع النبات؛ ومنها ما ينحطّ من أعلى الجبل، أو من أثنائه بحادث من حوادث الكون الهائلة كالبراكين والزلازل والصواعق التي تدكّ الصخور وتدمّر الحصون، أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر، ولم تستطع تلك النذر أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزّها الآيات الكونية الرهيبة التي أظهرها الله على يد نبيه، فقد كانوا مع كل ما يرونه لا يزدادون إلا عنادا، وعتوّا في الأرض وفسادا.
2. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشد منها.
3. السر في تشبيه القلوب بالحجارة دون غيرها من نحو الحديد والصّفر، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر.
4. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس؛ وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدى فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.
5. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي إن الله لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها، وهو يربّيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/146.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تعقيبا على هذا المشهد الأخير من القصة، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد والأحداث والعبر والعظات، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
2. الحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى.. هي حجارة لهم بها سابق عهد. فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى.. قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة.
3. ومن ثم هذا التهديد: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .. وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/81.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ﴾ هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له (ثم) إذا عطفت الجمل، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وكان من البعيد قسوتها.
2. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي:
أكفرا بعد ردّ الموت عني... وبعد عطائك المائة الرّتاعا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت.
3. وجه استعمال (بعد) في هذا المعنى أنها مجاز في معنى (مع) لأن شأن المسبب، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى (مع) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
4. القسوة والقساوة توصف بها الأجسام، وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب، فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها.. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي ـ وهو احتمال ضعيف ـ أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع، وقد دل على ذلك العطف في قوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
5. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست، لأن القسوة هي وجه الشبه، ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر، فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر، ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة، كقول النابغة يصف الحجيج:
عليهن شعث عامدون لربهم... فهنّ كأطراف الحنيّ خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة، فلذلك شبه بها.
6. يمكن تسميه هذا الأسلوب تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه، وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا، والعطف بالفاء في مثله حسن جدا، وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك يعد مذموما.
7. ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾
8. اختلف في معنى (أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ :
أ. قيل: بمعنى (بل) الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة، وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له (أو) لأن الانتقال ينشأ عن التخيير، فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة، وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر، ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى... وصورتها أو أنت في العين أملح
فليست (أو) للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع ما إذا كرر المشبه به كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 19]
ب. ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو ﴿كَالْحِجَارَةِ﴾ أي فهي مثل الحجارة، أو هي أقوى من الحجارة، والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا، ولا يذمهم تحاملا، بل هو متثبت متحر في شأنهم، فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي، فإنه ساواهم بالحجارة في وصف، ثم تقصّى فرأى أنهم فيه أقوى، فكأنه يقول للمخاطب: إن شئت فسوّهم بالحجارة في القسوة، ولك أن تقول هم أشد منها، وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه (بل)، وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا، وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق:
فقالت لنا أهلا وسهلا وزوّدت... جنى النّحل بل ما زوّدت منه أطيب
9. وجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول، فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة.
10. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ﴾ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب.
11. موقع هذه الواو الأولى في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ﴾ عسير:
أ. قيل: هي للحال من الحجارة المقدّرة بعد (أشد) أي أشد من الحجارة قسوة، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال،.
ب. وقيل: هي الواو للعطف على قوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ قاله التفتازانيّ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطّل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها.
ج. وقيل: الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعد كما صرح به ابن عرفة.
د. والظاهر أنها الواو الاعتراضية، وأن جملة ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ﴾ وما عطف عليها معترضات بين قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وبين جملة الحال منها وهي قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .
12. التوكيد بـ (إنّ) للاهتمام بالخبر، وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: 61]
13. من بديع التخلص تأخّر قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، والتعبير عن التسخّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وقوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: 75].
14. أشارت الآية الكريمة إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين، وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية، فإذا أضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك، فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي، فإن له قوة على تحليل الكلس، فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون، وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء، ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار، وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة، وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها، وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلّب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل(2).
15. الخشية في الحقيقة: الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره، وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال، وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني، إما مرسلا بالإطلاق والتقييد، وإما تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها، وقد قيل إن إسناد ﴿يَهْبِطُ﴾ للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على المساومة فيها.
16. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم، وما الله بغافل عن كل صنعكم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/545.
(2) الحديث عن هذه المسألة بتفصيل في محالها من هذه السلسلة.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، والإرشادات الكثيرة لم ترق قلوبهم للحق، بل زادت قساوة ونفرة منه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
2. ﴿ثُمَّ﴾ هنا للتراخي لبعد ما بين هذه الآيات البينات، والمعجزات الباهرة، وما انتهت إليه من قسوة القلوب وصلابتها، حتى كأنها الحجارة أو أشد من هذه الحجارة، فقد توالت عليهم البينات، من إنقاذ من فرعون، وإغراقه وآله، ومن المن والسلوى، ومن أخذه الميثاق، ومن أنهم طلبوا أن يروا الله فصعقوا ثم أفاقوا.. إلخ، فقسوا من بعد ذلك فكان الفارق كبيرا، فما جاءهم من البينات، وما انتهوا إليه من قسوة في القلوب، فجمدت حتى لا يكون فيها ينبوع لرحمة.
3. الخطاب للذين حضروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم باعتبارهم مع من كانوا قبلهم أمة واحدة يرضى حاضرهم بماضيهم وأخلافهم بأعمال أسلافهم، ولذا صح أن يوجه الخطاب إليهم على أساس أنهم مشتركون معهم، إن لم يكن بالفعل فبالرضا والتأييد والسير على منهاجهم.
4. وصف سبحانه وتعالى حال قلوبهم بأنها كالحجارة، بل إنها أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة قد يكون فيها رحمة أو يجعلها الله تعالى سببا للرحمة، أما هؤلاء فلا رجاء للرحمة فيهم قط، لأن القلوب إذا جفت فيها ينابيع الرحمة لا تخرج رحمة من بعد ذلك.
5. قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ خبر بعد خبر، فالمعنى فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة.
6. رشح الله تعالى لمعنى أن قلوبهم أشد قسوة، فذكر خواص بعض الحجارة، أو ما يكون منها أنهارا فقال تعالت كلماته: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ أي:
أ. إن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار وهى الحجارة التي تهطل عليها الأمطار وابلا، فيتفجر منها ومن صخورها أنهار تجرى كأنهار جبال الحبشة وغيرها من الجبال التي تنحدر السيول من فوقها فتتفجر خلالها أنهارا تجري فيها المياه.
ب. وإن من الأحجار الذي يتشقق منه الماء أي ينبع الماء من عيونها بتشقق منها فتجرى منها عيون يكون فيها أنهار ماء عذب فرات.
ج. وإن من هذه الحجارة الذي ترجف فيه الرجفة خشية من الله تعالى أو أنه يرى كذلك كما قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر].
7. إذا كانت الحجارة منها ما هو مصدر خير عام، فقلوبهم أشد قسوة منها، لأنهم لا خير فيهم قط، ولا تنبع منهم رحمة، كما تنبع العيون من هذه الأحجار وكما تتفجر فتجرى فيها الأنهار.
8. ختم الله سبحانه وتعالى مهددا منذرا من عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ نفى مؤكدا غفلة الله تعالى عن أعمالهم، وأنها لأعمال خارجة من تلك القلوب القاسية التي نماها كرّ الأيام واستمرت سارية، حتى كاد منهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. أكد سبحانه وتعالى بالباء في قوله تعالى: ﴿بِغَافِلٍ﴾ وبالجملة الاسمية، وإذا كان تبارك وتعالى غير غافل عما يعملون، فإنه لا محالة مجازيهم به، آخذهم من نواصيهم فهذه الجملة السامية إنذار شديد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/274.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ . أي كان الواجب على أسلافكم ـ يا يهود المدينة ـ أن يعتبروا، وتلين قلوبهم بعد أن شاهدوا ما شاهدوا من الخوارق والمعجزات، ومنها احياء القتيل.. ولكنهم لخبثهم فعلوا عكس ما تستدعيه هذه الخوارق، فأفسدوا وقست قلوبهم، حتى كأنها قدّت من صخر، بل ان بعضها أشد قساوة وصلابة، ذلك: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾
2. سؤال وإشكال: إن الأنهار ماء ما في ذلك ريب، فكيف صح تقسيم الماء إلى أنهار وماء؟ وهل هذا الا كتقسيم البناء الى بيت وبناء؟ والجواب: أن الآية الكريمة قسمت الماء الى قسمين: كثير، وهو الأنهار، وقليل وهو العيون والآبار، وقد عبرت عن هذا القسم القليل بلفظ الماء.. ولذا أسندت التفجير الى الكثير، لأنه يشعر بالكثرة، والتشقق الى الماء، لأنه يشعر بالقلة.
3. فضل الله تعالى الصخور والحجارة بشتى أقسامها وأنواعها على قلوب اليهود، لأن الصخر قد يتصدع، فيخرج منه الماء، وان الحجر قد يتخلخل ويتحرك عن موضعه، أما قلوب اليهود فإنها لا تندى بخير، ولا يحركها جمال، ولا تتجه الى هداية.
4. سؤال وإشكال: إن الحجارة لا حياة فيها ولا ادراك، حتى تخشى الله، فما الوجه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾؟ والجواب: أجيب على ذلك بأجوبة كثيرة، أقربها جوابان:
أ. الأول، ان هذا مبني على الافتراض، أي لو كان في الحجارة فهم وعقل كاليهود لهبطت من خشية الله، ومثل هذا كثير في كلام العرب.
ب. الثاني: ان الحجارة من شأنها أن تخشع وتخضع لله الذي تنتهي اليه جميع الأسباب الطبيعية وغيرها، قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/128.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر، وكلمة أو بمعنى بل، والمراد بكونها بمعنى (بل) انطباق معناه على موردها.
2. بين الله تعالى شدة قسوة قلوبهم بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾، وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين، فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها، وتشقق، فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع.
3. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، هبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء ماء في فصل الربيع إلى غير ذلك.
4. عُد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه، فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها انفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، وهي شاعرة لأمر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾، والانفعال الشعوري هو الخشية، فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد وعد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.
5. قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ﴾، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/203.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ المذكور كله من الإحياء للقتيل وما كان فيه من الموعظة لكم والتذكير بإحيائكم بعد موتكم، والدلالة على قدرة الله عليه بما شاهدتم، وما تقدم تعديده من النعم والآيات من قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾
2. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ لأن قلوبكم لا تلين لآية ولا لموعظة ولا تتأثر لتخويف ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ لأنها تلين له حتى يخرج منها بقوة وكثرة.
3. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ تضعف عن التماسك مع ضغط الماء فتشقق له ليخرج منها، أما قلوبكم فلا تلين لتكون مصدراً للخير ولا تتأثر بالمواعظ والآيات لتسمح بأن يخرج منها شيء من الخير خضوعاً للحق ورقّةً.
4. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا﴾ أي من الحجارة ﴿لَمَا يَهْبِطُ﴾ يسقط وينزل ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ لضعفه عن الاستمساك في مكانه الذي أذن الله بهبوطه منه حيث لم يبق له ما يحفظه في مكانه، وذلك إمّا لأنه قد يكون بسبب استمساكه مكانه وكان ضعيفاً مع ثقله فسقط لغير سبب ظاهر، وإما أن سبب استمساكه وإن كان قوياً فلم تكن قوته تكفيه لحفظه عند عارض غالب من رجفة أو مطر، ولما كان سقوطه ونزوله من مكانه يشعر بعجزه عن الاستمساك في مكانه وضعفه عن مخالفة أمر الله فيه وإذنه بهبوطه بما هيأ له من السبب الأصلي أو العارض قيل فيه: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ :
أ. إما على المجاز كأنه هبط من خشية الله؛ لأنه انقاد لقضائه فيه ذليلاً.
ب. وإما على الحقيقة إذا كان له حياة مخالفة للحياة المعهودة من حيث أنا لا نرى لها حركة اختيارية، وإنما احتمل الكلام هذا؛ لأنه كلام الله القادر على كل شيء العليم بكل شيء، فهو يعلم ما لا نعلم، وليس في تجويز ذلك فتح لباب الجهالة، إنما ذلك لو جوزنا لها حياة مثل هذه الحياة المعهودة في الحيوان المتحرك بالحركات الاختيارية، فأما حياة مخصوصة خلافها لتعرف الله وتخضع له فلا مانع منها في العقل.
5. يؤكد هذا قوله: ﴿مِنْهَا﴾ ولم يقل: وإنها لَتَسَّاقط، حتى نقول: المراد أن شأنها ذلك ومن حقها أن تتساقط لو جعل الله لها عقولاً وأراها آياته، وقد يكون هذا إشارة إلى الجبل في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف: 143] والظاهر فيه: أنه جعله دكاً بتجليه له، وفي كلام القاسم عليه السلام في (الرد على من زعم أن الله يُرى بالأبصار): أحدث في الجبل عقلاً يدرك به ما يتجلى له، وإن الله تبارك وتعالى أحدث آية فتجلّى الله للجبل بها وجعلها آية سماوية ولم تكن أرضية)، يعني أن الجبل عرف الله معرفة تامة قوية، فعظّم الله وبلغ من تعظيمه أن تقطع وساخ وذهب، فلا مانع من حمل الآية الكريمة على هذا، فهو معنى حقيقي معهود عند السامعين المخاطبين من بني إسرائيل، ومثله ممكن عندهم، فلا حاجة معه إلى صرف الكلام إلى المعنى المجازي.
6. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فلا بد أن يحاسبكم عليه ويجازيكم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/133.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. جاءت مرحلة جديدة من تاريخ بني إسرائيل، ولكنها تختلف عن المراحل السابقة؛ فقد كانت تلك المراحل تمثل جانب التمرد الذي يلين بعد ذلك إلى التوبة والإنابة والطاعة، وتعيش طبيعة المشاغبة التي تثور ثم تتطامن وتهدأ وتفيء إلى الاستقامة.
2. هذه المرحلة الجديدة تمثل التحجر الذي أصاب عقولهم وأرواحهم، فأغلقها عن الانفتاح على كل وحي إلهي، أو فكر إنساني، أو شعور روحي، فليس هناك مجال للحق، لأن النوافذ كلّها مشرعة على الباطل، وليس هناك مجال للرحمة، لأن الآفاق كلها قد امتلأت بالحقد والعداوة والبغضاء، وبالأنانية التي لا تعرف غير الذات في أطماعها وشهواتها مجالا للتفكير وللتعاطف.
3. يتصاعد الأسلوب القرآني في تصوير المدى الذي بلغته القسوة التي تطبع شخصيتهم بطابعها، فلا يجد في الحجارة مثلا صالحا لإعطاء الصورة الصارخة، بعد أن بدأ الموضوع من هذا الجانب، لأن التشبيه يفرض أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أقوى من المشبّه، كما تقول: زيد كالأسد، باعتبار أن الشجاعة التي هي وجه الشبه في الأسد أقوى منها في زيد، مما يعطي التشبيه دورا في إيضاح صورة الشجاعة في زيد بشكل أقوى.. أمّا هؤلاء، فإن قلوبهم أقسى من الحجارة.
4. ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ فينتشر منها الخصب والجمال في كل مكان.. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ أي الينابيع الصغيرة، التي تسقي من حولها وما حولها.
5. ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، وهي تعبير عن انفعال هذه الحجارة التي تتساقط بفعل العوامل الطبيعية، بالخضوع التكويني لإرادة الله في إطار العظمة الكونية الخاضعة له، نظير التعبير بالطاعة في السماء والأرض، والسجود والتسبيح في سائر المخلوقات الحيّة والجامدة.
6. هذه هي قصة الحجارة التي تبدو قاسية في ملامحها، صلبة في تكوينها.. أمّا هؤلاء، فإن قلوبهم لا تنفتح للرحمة ولا للعطاء، فهم يقتلون الأنبياء بغير حق، ويبخلون بأموالهم وعلومهم وقواهم على المستضعفين، ولا يعيشون الخشوع الروحي الذي تستسلم فيه القلوب والأرواح والعقول لله استسلام الخاشعين.
7. لعل هذه المرحلة هي مرحلة قتل الأنبياء وتكذيبهم واضطهادهم، وتحويل تاريخهم الديني إلى واجهة لاستغلال المستضعفين باسم الدين، وهو ما يحدثنا القرآن عنه فيما نستقبل من حديث.
8. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ في انحرافكم العملي عن خط الاستقامة، وفي تمردكم على الرسالة والرسول، وفي وحشيتكم القاسية في قتل الأنبياء بغير حق.
9. قد نستوحي من هذه الصورة القاتمة القاسية لهؤلاء، أن علينا أن نتطلع في مسارنا العملي إلى النماذج الحية المتمثلة في واقعنا المعاصر، ممن يقفون ضد المؤمنين والمصلحين الذين يدعون الناس إلى السير في الحياة على الخط المستقيم، وضد الشعوب التي تطالب بالعدل والحق والحرية، فيضطهدونهم ويواجهونهم بالقتل والتشريد والسجن والتعذيب، لا لشيء إلا لأنهم يخافون على امتيازاتهم وأطماعهم واستغلالهم من الدعوات الإصلاحية والثورية، سواء في ذلك الفئات الحاكمة الطاغية التي تقف في مراكز الحكم، أو الفئات المترفة التي تملك زمام الثروة في المجتمع فتمنعها عن الطبقات المحرومة الضعيفة، أو الفئات الكافرة الضالّة التي تملك قوّة النفوذ والسلاح.. إننا نستطيع أن نجد في كل أساليبهم وتصرفاتهم هذه الصورة التي يقدمها القرآن لبني إسرائيل، وبهذا لا يعود التاريخ الإسرائيلي الذي قصه علينا القرآن مجرد مرحلة من مراحل الماضي، بل يتحول ـ في وعينا ـ إلى صورة حيّة للإنسان القاسي الموجود في كل زمان ومكان.
10. سبيلنا إلى استحضار هذه الصورة في وعي الناس، هو التركيز على طبيعة السلوك الإسرائيلي في المرحلة التي تحدث عنها القرآن، ودراسة الخصائص الذاتية والعملية في شخصية أولئك الناس، ثم البدء في عملية مقارنة مع النماذج المعاصرة المشابهة لها في طبيعتها وخصائصها وتصرفاتها، لتتعمق الصورة القرآنية من خلال الخطوط العامة، لا من خلال الحالة الخاصة، لئلا نقع فيما يقع فيه الكثيرون ممن يلعنون التاريخ في نماذجه الشريرة، ثم يباركون النماذج نفسها التي تأخذ في الحاضر صورة أشخاص ذلك التاريخ، انطلاقا من الاستغراق في الشخص بعيدا عن العوامل الذاتية التي تثير فينا الشعور معه أو ضدّه.
11. إنها قصة الوعي القرآني المتحرك الذي يجعل الآية تتحرك في مدى الزمن في صورها الحيّة، وتطلعاتها الواسعة، وخطواتها التي تطبع الخير والرحمة والبركة في كل مكان وزمان.
12. يقف القرآن مع النبي والمؤمنين معه، في معالجة قضية الدعوة أمام اليهود؛ فقد كان النبي والمؤمنون معه يستشيرون مختلف الأساليب الفكرية والعاطفية في إقناعهم بالإسلام، من أجل أن يؤمن اليهود المعاصرون للدعوة الإسلامية، لأنهم كانوا يرون بعض ملامح الأمل في بعض كلماتهم وأوضاعهم العامة، وكانوا يبذلون في ذلك جهدا كبيرا، لما يمثله اليهود في المدينة من قوة روحية ومادية، ممّا يجعل من إيمانهم بالإسلام قفزة كبيرة إلى الأمام في مجال القوة الإسلامية المتقدمة.
13. يمكن أن نخرج من هذا الموقف القلق بانطباعين:
أ. الأول: أنهم كانوا يبحثون عن الحجة التي تبرر لهم الامتناع عن أداء الأوامر وامتثالها، وذلك بإثارة الفضول أمام النبي مما يدخل القضية في نطاق المناقشات الجدلية التي تفقد الموقف روحانيته وحيويته وجديته، وتؤدي بالنتيجة ـ في زعمهم ـ إلى انسحاب النبي من الساحة وإلغاء الأمر من خلال الحالة النفسية التي تثيرها هذه الأجواء في نفسه.
ب. الثاني: أن يأخذ القادة درسا عمليا في المسؤوليات العادية الموجهة إلى الأشخاص، التي لا تنطلق من حكم شرعي محدّد، بل من مهمّات عمليّة عامة تدخل في حركة العمل، فإذا واجهتهم مثل هذه النماذج، فإن عليهم أن يواجهوها بطريقة تأديبية هادئة، كدرس عملي لهؤلاء بأن يمتنعوا عن الأسئلة التي لا معنى لها، لئلا يعودوا إلى مثلها في المستقبل عندما يشعرون بأن ذلك قد كلفهم مسئوليات ثقيلة لم تكن واردة في الحساب، وهذا ما نستوحيه من الحديث المأثور عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب أصحابه فقال: إن الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة (ويروى سراقة بن مالك) فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله ولو قلت نعم لوجبت؛ ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم كفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/92.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1455 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عطف المذكور هنا على ما قبله بـ ﴿ثُمَّ﴾ لإفادة المهملة الرتبية التي كثيرا ما تفيدها هذه الأداة العاطفة في عطف الجمل بعضها على بعض، وذلك أن من شأن الآيات الجلية والمعجزات الحسية أن ترق لها القلوب وتتأثر بها النفوس فإذا كانت آثارها عكس ذلك فهي حرية بأن يعجب منها ويستغرب من شأنها.
2. مع ما ذكر من الآيات لا يبقى في نفوس السامعين شك في أن الذين خصوا بها سيقلعون عن كل غي ويرجعون عن كل شطط إلا أن الواقع لما كان خلاف ذلك عطف بيانه بـ ﴿ثُمَّ﴾ للانتقال بهم من النتيجة التي كانوا يرجونها إلى النتيجة التي صاروا يرونها.
3. المشار إليه بذلك:
أ. قيل: هو هذه الآية وحدها وهي إحياء قتيل بضربه ببعض حيوان أُميت.
ب. وقيل: هو جميع الآيات والنعم والعقوبات التي تتابع ذكرها.. لأن كلا من ذلك من دواعي الرشد والإقلاع عن كل غي، وكلا الأمرين محتمل.
4. في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ تأكيد للتعجيب من حالهم، وذهب محمد عبده إلى أن الذين نودي عليهم بالقسوة هنا هم الذين جاؤوا بعد سلفهم الأولين الذين شاهدوا تلك الآيات، واستدل لما ذهب إليه بهذا العطف المقتضي للمهلة، وهو قول غير سديد، فإن (ثم) كما تفيد المهملة الزمنية تفيد المهملة الرتبية، بل ذهب كثير من علماء الإعراب إلى أنها إن عطفت جملة على أخرى لا تفيد إلا المهملة الرتبية، والتأريخ الإسرائيلي المستفاد من القرآن ومما بأيدي اليهود أنفسهم من كتب يعتبرونها سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة يدل على مدى قسوة قلوب الذين عاصرهم موسى عليه السلام منهم، وغلظ أكبادهم، والتواء مسلكهم، وهذا الذي أدى بهم إلى تحريم الأرض المقدسة عليهم، فبقوا في التيه يترددون أربعين سنة حتى انقرض ذلك الجيل، وعقبه جيل له خصائص إيمانية ففتح الله على أيديهم الأرض واستخلفهم فيها، وجعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا، وآتاهم من فضله ما فضلهم به على عالمي زمانهم، حتى نشأ فيهم مرة أخرى الداء العضال الذي كان في آبائهم الأقدمين، فأبدلهم الله بقوتهم ضعفا، وباجتماعهم تشتتا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله.
5. على قول محمد عبده فالبعدية الواردة في الجملة المعطوفة ـ وهي قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ ـ واضحة لأنها بعدية زمانية، وأما على القول الآخر، فقد يتبادر منها إشكال، ذلك لأن القسوة حاصلة فيهم قبل القصة وأثناءها، وبعدها إن قلنا إن الإشارة بذلك خاصة بهذه القصة بالذات، كما أنها حاصلة فيهم في جميع أحوالهم وهم يرون آيات الله تعالى، وينعمون تارة بلطف آلائه، ويتململون أخرى تحت وطأة بلائه، إن قلنا إن الإشارة شاملة لكل ما سبق ذكره عنهم من إنجائهم من عدوهم، وابتلائهم مرة بالنعم وأخرى بالنقم، وينجلي غيم هذا الإشكال عندما تعلمون أن البعدية لا يلزم أن تكون زمانية، بل تكون أيضا باعتبار بعد الوصف الذي يليها في الذكر في درجات الخير أو دركات الشر، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾، فإن كونه عتلا وزنيما سابق في الوجود على الأوصاف المتقدمة في الذكر، لأنهما صفتا ذات، وتلك صفات فعل، وإنما ذكرا إثر ﴿بَعْدِ﴾ للاعتبار الذي ذكرته.
6. القسوة: الشدة والصلابة، وهي وضعا خاصة بالأجسام كالصخر والحديد، ثم استعملت في المعاني كالعقل والوجدان، وهما المعبر عنهما بالقلوب هنا، وفي كثير من آيات القرآن، وطريقة هذا الاستعمال ما يسمى الاستعارة بالكناية، فإن من شأن الأجسام القاسية كالصلد والحديد أن لا يتخللها الماء ولا الهواء، وكذا القلوب المراد بها العقل والوجدان، فإن الموعظة والتذكير لا يجدان سبيلا، فأشبهت الأجسام الصامتة وقد شاع هذا الاستعمال وصار مجازا مشهورا لا يحتاج إلى قرينة حتى عده بعضهم حقيقة عرفية.
7. بعد هذا الوصف الموحى بالتشبيه صرح به قوله: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ لتجلية المفهوم المعنوي في صورة المشاهد الحسي، فإن الناس أدرى بما يحسونه منهم بما يفعمونه، وقد بني هذا التشبيه على ما قبله بالفاء للإشعار بأنه مفرع عنه.
8. ﴿أَوْ﴾ موضوعة للشك، وهو مستحيل في جانب من يعلم الخفايا كالظاهر:
أ. قيل: إنما روعي المخاطبون وما هم به أحرياء من الشك في مدى قسوة أولئك المعنيين، هل هي كقسوة الحجارة ـ التي اشتهرت بشدة القسوة في أوساط الناس، خصوصا في جزيرة العرب حيث تنزل القرآن، لما فيها من الجبال الغليظة ذات الصخور الصلدة ـ أو أشد منها كالأجسام المتلاحمة ذراتها الحديد.
ب. وقيل: إن (أو) للإضراب كما هي في قوله تعالى: ﴿ أو أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ﴾، أي بل يزيدون، وعليه فإن قلوب هؤلاء جديرة بتشبيهها بما هو أقسى من الحجارة، وإنما ذكرت الحجارة في التشبيه لمعرفة الناس بها، وكونها عندهم مثلا في الغلظة.
ج. وقيل: هي بمعنى الواو نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾، أي وكفورا، لأن الكفر لا يكون إلا آثما،.
د. وقيل: هي للتخيير نحو قوله تعالى: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، ومقتضى هذا التخيير أن السامع مخير بين تشبيه قسوتهم بالحجارة وتشبيهها بما هو أغلظ منها.
هـ. وقيل: هي للتنويع، فبعض قلوبهم كالحجارة، وبعضها أقسى منها لأن القساة متفاوتون في إظلام عقولهم، وغلظة أحاسيسهم، وتعنتهم على الحق، ومقاومتهم لأهله، وسائر أوصاف الشر، كما أن ذوي العقول النيرة والمشاعر الرقيقة متفاوتون أيضا في أوصاف الخير، هو رأي سائغ.
9. بعد هذا التأكيد على تفوق قلوبهم في القسوة ذكر سبحانه وتعالى ما للحجارة من مزايا خيرية لسيت في هذه القلوب ليكون في ذلك دليل على التفاوت بين قلوبهم المشبهة، والحجارة المشبه بها وتفرق قلوبهم في وجه الشبه وهو القسوة، وصُدر ذلك بأنّ التوكيدية المفيدة لأهمية خبرها والمؤذنة بالتعليل.
10. من لطائف التعبير إتباع أداة التأكيد المصدر بها بمن المفيدة للتبعيض للإيذان بأن الأحجار ليست كلها مشتركة في هذه المزية، وإنما هي لنوع خاص منها، وهو ما يفيده علم طبقات الأرض الحديث.. وهذه الدقة في التعبير كما تعد أسلوبا بيانيا بليغا صالحة لأن تعد من وجوه الإعجاز العلمي في هذا الكتاب المنزل في وقت لم يدرس فيه علم طبقات الأرض.
11. اختلف في المراد بالخشية من قوله سبحانه: ﴿ وإن منها لما تهبط من خشية الله ﴾:
أ. أكثر مفسري السلف ومن تبعهم يرونها خشية حقيقية تكون في الأحجار وغيرها من مخلوقات الله نعجز عن تصور كيفيتها.
ب. ذهب بعض السلف وكثير من الخلف إلى أنها ليست حقيقة لأنها في الأصل خوف باعث على اتقاء الخائف سخط المخوف، وحقيقتها الشرعية امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال، ولما تعذر ذلك في الجمادات ـ حسب رأيهم ـ حملوه على قبول الأمر التكويني، وجعلوه من باب المجاز المرسل بعلاقة التقييد والإطلاق، أو تمثيلا للهيئة الحاصلة من الجماد عند التكوين بهيئة المكلف حال الامتثال.
12. بالغ ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على أصحاب القول الأول مستندا في ذلك إلى أن الخشية ليست إلا نتيجة الإدراك ولا إدراك للجماد، وأن الحجارة ـ وغيرها من الجمادات ـ لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها رسول، وكذب من قال إن للحيوان والجماد تمييزا، وادعى أن العيان يكذب قائل ذلك.. وهذا كله عناء فيما لا جدوى منه، وفرار من الحقيقة إلى الوهم.
13. كتاب الله تعالى يصرح لنا بأوضح عبارة أن الكائنات على اختلافها خاشعة لله، مسبحة بحمده، ساجدة لجلاله، وهذا لا ينافي كون الجمادات لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر لأنه من غير المستحيل أن يكون لها إدراك خاص لعظمة الله يختلف عن إدراك أجناس العقلاء:
أ. ومن النصوص الواضحة في ذلك قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾
ب. وأخبرنا في آيات كثيرة وفي سور متعددة أن الكائنات بأسرها تسبح بحمده، ومن تلك قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، ولا عبرة بقول من زعم أن هذا التسبيح هو مجرد الدلالة على وجود الله وعلى تنزيهه من النقائص، فإن هذه الدلالة آية بينة لكل أحد تتجلى لجميع الأبصار ويقرع صوتها جميع الأسماع إلا من تعامى عنها وتصامم، فلو كانت هي المراد بالتسبيح لم يكن معنى لما في الآية من استدراك وهو قوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فإن واضح وضوح الشمس أنه تسبيح غامض ليس في وسع الأفهام إدراكه.
ج. ومثل ذلك إخباره عز وجل بسجود الجمادات له في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾
14. إنكار ابن حزم ورود شيء من الأحاديث الصحيحة بما يفيد خلاف قوله مردود بما في صحيح مسلم مرفوعا: إني لأعرف حجرا كان يسلم عليّ قيل أن أبعث)، ونحوه أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه.
15. حمل الخشية في الآية على أي وجه من الوجوه التي اختارها ضعيف(2).:
أ. أما الأول ففيه خروج عما يقتضيه السياق بغير قرينة، ولبس فيما تعود إليه الضمائر، وما استشهد به له من قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآية، ليس شاهدا على ما ذهب إليه، فإن الآية في طائفة خاصة من أهل الكتاب ليسوا من ضمن هؤلاء القساة المعنيين في هذه الآية وإنما هم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾، وقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾، ويكفي أن الله وصفهم في آخر الآية التي استشهد بها بقوله: ﴿ خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قيلا ﴾، فأين هذه الصفات من أولئك القساة الذين حرفوا الكلم عن موضعه ونسوا حظا مما ذكروا به؟ وحكى الألوسي هذا الوجه قولا لأبي مسلم، ووصفه بأنه أكثف من الحجر، وقرنه بقول آخر لم ينسبه إلى أحد، وهو أن الخشية هنا حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البَردُ، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله، ووصف هذا القول بأنه أبرد من الثلج.
ب. وأما الثاني فهو ينافي ما أريد به من تأكيد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لأنها مشتركة معها في هذا الوصف وهو قبول الأمر التكويني، فإن الإنسان مهما كانت قسوته لا يخرج عن السنن الكونية العامة في ذلك، وليست أنفاسه المتلاحقة ونبضاته المتتابعة وسائر حركاته الفطرية إلا مظهرا من مظاهر هذا القبول للأمر التكويني والانسجام مع نواميس الوجود.
ج. وأما الثالث فالتكلف فيه واضح لأن المتبادر من قوله: ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أن هذه حالة مستمرة في بعض الأحجار، فحرصوه في حالة مضت دون غيرها حمل للكلام على ما لا يدل عليه، والفعل المضارع موضوع للحال والاستقبال، ولا يحمل على الأحداث الماضية إلا بقرينة، وما من قرينة على ذلك هنا، وأما قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقرينته المضي هنا واضحة وهي ﴿إِذِ﴾ التي لا تدل إلا على ظرف زماني مضى.
16. القول الصحيح في الآية هو القول بأن المراد بالخشية خشية حقيقية تكون في الأحجار وغيرها من مخلوقات الله نعجز عن تصور كيفيتها مع سكوتنا عن كيفية هذه الخشية وتفويض علم ذلك إلى الله عز وجل.
17. لا يشكل كون هذا الهبوط ناشئا عن أسباب طبيعية كالزلازل والانفجارات البركانية، والعواصف والأمطار والسيول، إذ لا يبعد أن تكون وراء الأسباب الطبيعية الظاهرة حقائق روحية خفية، وذلك كتسبيح الرعد بحمد الله الذي نص عليه القرآن مع أن كلا من الرعد والبرق ظاهرة كونية ناشئة عن أسباب طبيعية معلومة.
18. ذهب جماعة من المفسرين إلى أن مفاد قوله: من خشية الله) مفاد من أجلك في قولهم: فعلت هذا من أجلك، ومحصله أن هبوط الحجارة لأجل إثارة الخشية في نفوس العباد لما يقترن به من أمور مزعجة كالزلازل والبراكين.
19. حكى القاسمي عن الراغب أنه حاول التوسط في تفسيره للآية بين آراء السلف والخلف بعبارة تقارب بينها، فقسم المعارف إلى خمسة أقسام(3)... واستحسن هذا التأويل منه العلامة القاسمي، وفي هذا التقسيم خلط بين المعرفة ـ التي هي الإدراك ـ والقوى الطبيعية، والاضطرارية مع أن الفارق بينهما واضح، والخشية المعنية هنا ليست من باب ما أشار إليه، وإنما هي من باب عرض الأمانة المذكور في آخر الأحزاب، والسجود المذكور في سورة الحج والتسبيح المذكور في كثير من السور.
20. جملة: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ حال من فاعل ﴿قَسَتْ﴾ وتذييل للآية الكريمة ينطوي على تهديد لأولئك القساة بأن الله يحصى أعمالهم ويتولى جزاءهم فلا مفر لهم من بطشه، ولا مناص لهم من حكمه.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/388.
(2) ذكرنا هذه الوجوه عند الحديث عن تفسير القاسمي لهذه الآيات الكريمة، ولم نشأ إعادة ذكرها هنا.
(3) ذكرناها عند الحديث عن تفسير القاسمي للآية الكريمة.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد هذه الآيات البينات، لم تلن قلوب بني إسرائيل، بل بقيت على قسوتها وغلظتها وجفافها. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
2. إنها أشد قسوة من الحجارة، لأن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع منها المياه أو تسقط من خوف الله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، لكن قلوب بني إسرائيل أشدّ قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم، ولا تنبع منها قطرة حبّ، ولا تخفق من خوف الله.
3. والله عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/268.
30. بنو إسرائيل والتحريف والكتمان
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈30⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: 75 ـ 80]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما قضى لكم وعليكم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٥١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال الله لنبيه ومن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: وصف الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حسده أحبار اليهود، فغيروا صفته في كتابهم، وقالوا: لا نجد نعته عندنا، وقالوا للسفلة: ليس هذا نعت النبي الذي يحرم كذا وكذا ـ كما كتبوه، وغيروا ـ، ونعت هذا كذا كما وصف، فلبسوا على الناس، وإنما فعلوا ذلك لأن الأحبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إياها السفلة؛ لقيامهم على التوراة، فخافوا أن تؤمن السفلة، فتنقطع تلك المأكلة(2).
3. روي أنّه قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه أحدث أخبار الله، تعرفونه غضا محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلهم؟ ولا والله، ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ الآية: هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكتوبة في التوراة؛ أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا، فأتاهم نفر من قريش فقالوا: تجدون في التوراة نبيا أميا؟ فقالوا: نعم، نجده طويلا، أزرق، سبط الشعر، فأنكرت قريش، وقالوا: ليس هذا منا(4).
5. روي أنّه قال: إنهم غيروا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم، وجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان ربعة أسمر، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء مأكلة من سائر اليهود، فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن بينوا الصفة، فمن ثم غيروا(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾، أي: بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية يعني: المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: آمنا(6).
8. روي أنّه قال: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: بما أمركم به، فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك(7).
9. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا، اجحدوه، ولا تقروا لهم به، يقول الله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾(7).
10. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم(6).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٤٨.
(2) البيهقي في الدلائل: ٢/٥٣٧.
(3) عبد الرزاق في المصنف: ١٩٢١٥.
(4) ابن أبي حاتم: ١/١٥٤.
(5) الواحدي في أسباب النزول: ص ١١٨.
(6) ابن جرير: ٢/١٤٥.
(7) ابن جرير: ٢/١٤٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي: بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ يعني: ما أسروا من كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ حين قالوا للمؤمنين: آمنا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٤٧.
(2) ابن جرير: ٢/١٥٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ الآية: فالذين يحرفونه والذين يكتبونه هم العلماء منهم، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود(1).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٠٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وكان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد، وخلا بعضهم إلى بعض؛ تناهوا أن يخبر أحدهم منهم أصحاب محمد بما فتح الله عليهم في كتابهم؛ خشية أن يحاجهم أصحاب محمد بما في كتابهم عند ربهم ليخاصموهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعضهم قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصمونكم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٥١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ الآية: هم اليهود، كانوا يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما سمعوه ووعوه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ هم اليهود، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، فصانعوهم بذلك؛ ليرضوا عنهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ نهى بعضهم بعضا أن يحدثوا بما فتح الله عليهم وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونعته، ونبوته، وقالوا: إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا عليكم بذلك عند ربكم، أفلا تعقلون!(3).
4. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ما يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الذين آمنوا، وما يسرون إذا خلا بعضهم إلى بعض؛ من كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٣٩.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) ابن جرير: ٢/١٤٧.
(4) ابن جرير: ٢/١٥٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ : معناه بما منّ الله عليكم؛ فيحتجوا عليكم به(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 85.
السّدّيّ:
إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: وأما ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فيعلمون أنهم قد أذنبوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٤٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ يعني: أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود!؟(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٣٩.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما بين الله لكم في كتابكم من أمر نبيهم، ثم لا تتبعونهم ولا تدخلون في دينهم!؟ هذه حجة لهم عليكم(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٥٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم حرفوا الكلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾، يعني: صدقنا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ بأنه نبي(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ يعني: ليخاصموكم ﴿بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ باعترافكم أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبي ثم لا تتابعونه(2).
4. روي أنّه قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، يعني: أفلا ترون أن هذه حجة لهم عليكم، فقال الله تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾(2).
5. روي أنّه قال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ في الخلاء، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ في الملأ، فيقول بعضهم لبعض: أتحدثونهم بأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم!؟ أو لا يعلمون حين قالوا: إنا نجد محمدا في كتابنا، وإنا لنعرفه(2).
6. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾، وذلك أن الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو أخاه من الرضاعة، فيسأله: أتجدون محمدا في كتابكم؟، فيقولون: نعم، إن نبوة صاحبكم حق، وإنا نعرفه، فسمع كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وجدي بن أخطب، فقالوا لليهود في السر: أتحدثون أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما فتح الله لكم!؟ يعني: بما بين لكم في التوراة من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٨٩.
(2) تفسير مقاتل: ١/١١٧.
الواقدي:
روي عن الواقدي (ت 159 هـ) أنّه قال: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما أنزل الله عليكم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ التوراة التي أنزلها عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا، والحق فيها باطلا، والباطل فيها حقا، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال لهم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤](1).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن)، فقال رؤساء اليهود: اذهبوا فقولوا: آمنا، واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر، ويرجعون إليهم بعد العصر، وهو قوله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: ٧٢]، وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون، ليعلموا خبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمره، فكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال لكم في التوراة كذا وكذا؟ فيقولون: بلى، فإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٤١.
(2) ابن جرير: ٢/١٤٩.
الكسائي:
روي عن الكسائي (ت 189 هـ): ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما بينه الله لكم من العلم بصفة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونعته(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ :
أ. قيل: الآية ـ وإن خرجت على عموم الخطاب ـ فالمراد منها الخصوص، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى هذا يذهب أكثر أهل التفسير.
ب. وقيل: المراد منها ـ بعموم الخطاب ـ العموم؛ يعنى: النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه؛ وكأنها خرجت على النهى عن طمع الإيمان منهم، كأنه قال لا تطمعوا في إيمانهم، كقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [الزمر: 19]؛ أي لا تنقذ، وكقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ [الزخرف: 40]؛ أي لا تسمع الصم.
2. سؤال وإشكال: أليس فيما كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه ما يجب أن يدفع الطمع عن إيمان هؤلاء؟ والجواب: هو لوجهين:
أ. أحدهما: أنهم كانوا أصحاب تقليد؛ كقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]، فأخبر ـ عزّ وجل ـ أن هؤلاء ـ وإن رأوا الآيات العجيبة ـ فإنهم لا يؤمنون أبدا؛ لأنهم أصحاب تقليد، لا ينظرون إلى الحجج والآيات.
ب. الثاني: أنهم ـ مع كثرة ما عاينوا من الآيات، وشاهدوا من العجائب في عهد رسول الله موسى عليه السلام لم يطمع في إيمانهم، فكيف طمعتم أنتم في إيمان هؤلاء، وهم أتباعهم؟ ولهذا وجهان آخران:
• أحدهما: كأنه قال لا تطمع في إيمانهم؛ لأنهم ـ في علم الله على ما عليه من ذكر.
• الثاني: لأن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء، وأرغب في الحق منهم، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج، وما يجب به الإيمان، فكيف تطمع في إيمان هؤلاء؟
3. ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه من عند الله، ويعلمون أنه رسول الله، وأنه حقّ.
4. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ يحتمل وجهين:
أ. خلا بعض المنافقين إلى بعض، قالوا: أتحدثونهم بكذا.
ب. خلاء المنافقين إلى اليهود.
5. اختلف في معنى ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، وكله يرجع إلى واحد:
أ. قيل: فتح الله؛ قصّ الله.
ب. وقيل: فتح الله؛ بيّن الله.
ج. وقيل: فتح الله؛ قضى الله.
د. وقيل: منّ الله عليكم في التوراة.
6. اختلف في معنى ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ :
أ. يحتمل: أي باعترافكم عند هؤلاء.
ب. ويحتمل: على إضمار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كأنه قال ليحاجوكم بإقراركم عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. ويحتمل: على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أي في ربكم؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.
د. ويحتمل: عند ربكم، أي يوم القيامة، ويكون ليحاجوكم بما عند الله؛ أي بالذي جاءكم من عند الله.
7. سؤال وإشكال: ما معنى ذكر المحاجّة عند ربكم، والمحاجة يومئذ لا تكون إلا عنده، ولا تكون ليحاجوكم بها عند الله؛ أي بالذي جاءكم من عند الله؟ والجواب: لأن ذلك أشد إظهارا، وأقلّ كتمانا؛ لما سبق منهم الإقرار بذلك؛ لذلك نهوا عن ذلك، لأنهم كانوا ينهون أولئك عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين، وإظهار ما في التوراة من بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته.
8. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. أنّ هذه حجة لهم عليكم، حيث تعترفون به، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه.
ب. ويحتمل: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنه حق.
9. اختلف في معنى ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ :
أ. قيل: ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾ في الخلوة؛ من الكفر به والتكذيب له ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ لأصحابه؛ من التصديق له والإيمان به.
ب. وقيل: ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾ من كتمان نعته وصفته، ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من إظهار نعته وصفته الذي في التوراة.
ج. ويحتمل: ما يسرّ هؤلاء لهم من النهى عن إظهار ما في التوراة، وما يعلن هؤلاء للمؤمنين من إظهار نعته وصفته.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/497.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا خبر من الله عز وجل عن نفاق اليهود في ظاهر قولهم، وحسدهم للمسلمين في باطن أمرهم، وقول بعضهم لبعض لا تحدثوا المسلمين بما فتح الله عليكم من العلم في صفة محمد، فتحتجوا بذلك عليه عند ربكم.
2. ويحتمل: أن يكون حسدوهم على المعرفة خوفاً من أن يحتجوا عليهم في ربهم، فقامت عند مقام في.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 275.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قولان:
أ. قيل: الذين يحرفونه علماء اليهود ويجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً اتباعاً لأهوائهم.
ب. والثاني: هم القوم الذين اختارهم موسى من قومه وسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم.
1. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ :
أ. أي ذكركم به.
ب. ويجوز وجه ثان، وهو أتحدثونهم بما في التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ﴾ أي ليجعلوا ذلك حجة عليكم.
ج. وفيه وجه ثالث وهو أنه أراد به يهود بني قريظة حين شبههم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنهم أخوة القردة وأرسل إليهم أمير المؤمنين فقالوا: من حدثك بهذا.
2. الفتح عند العرب القضاء والحكم ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا... بأني عن فتاحتكم غني
ويقال الحاكم الفتاح، ومنه قوله: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/67.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم علماء اليهود والذين يحرفونه التوراة فيجعلون الحلال حراما والحرام حلالا اتباعا لأهوائهم وإعانة لراشيهم، وهذا قول مجاهد والسدي.
ب. الثاني: أنهم الذين اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم، وهذا قول الربيع بن أنس وابن إسحاق.
2. في كلام الله الذي يسمعونه قولان:
أ. أحدهما: أنها التوراة التي علمها علماء اليهود.
ب. الثاني: الوحي الذي كانوا يسمعونه كما تسمعه الأنبياء.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: من بعد ما سمعوه، وهم يعلمون أنهم يحرفونه.
ب. الثاني: من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، ما في تحريفه من العقاب.
4. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم اليهود، إذا خلوا مع المنافقين، قال لهم المنافقون: أتحدثون المسلمين، بما فتح الله عليكم.
ب. الثاني: أنهم اليهود، قال بعضهم لبعض: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾
5. في قوله تعالى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: بما فتح الله عليكم، أي مما أذكركم الله به، رواه الضحاك عن ابن عباس.
ب. الثاني: بما أنزل الله عليكم في التوراة، من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعثه، ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول أبي العالية وقتادة.
ج. الثالث: أنهم أرادوا قول يهود بني قريظة، حين شبههم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بأنهم إخوة القردة، فقالوا: من حدثك بهذا؟ وذلك حين أرسل إليهم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهذا قول مجاهد.
د. الرابع: أن ناسا من اليهود أسلموا، ثم نافقوا فكانوا يحدثون المسلمين من العرب، بما عذّب به (آباؤهم)، فقال بعضهم لبعض، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، وهذا قول السدي.
6. في ﴿فَتَحَ اللَّهُ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: بما علمكم الله.
ب. الثاني: بما قضاه الله، والفتح عند العرب القضاء والحكم، ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا... بأني عن فتاحكم غنيّ
ويقال للقاضي: الفتّاح، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 89].
7. في قوله تعالى: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾، فحذف ذكر الكتاب إيجازا.
ب. الثاني: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ فتظهر له الحجّة عليكم، فيكونوا أولى بالله منكم، وهذا قول الحسن.
ج. الثالث: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ . [الزمر: 31]
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/148.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الألف في قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ ألف استفهام، والمراد به الإنكار، كقوله:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا... ابو مكنف قد شد عقد الدوابر
وقوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى﴾، فإذا كان في الاول نفياً، كان الجواب بلى، وإذا لم يكن نفياً كان الجواب لا.
2. هذا خطاب لأمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكأنه قال: أفتطمعون أيها المؤمنون أن يؤمنوا لكم من طريق النظر والاعتبار، ونفي التشبيه، والانقياد للحق وقد كان فريق منهم: أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم يسمعون كلام الله ثم يعلمون انه الحق، ويعاندون فيحرّفونه ويتأولونه، على غير تأويله.
3. الفريق: جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه، وهو فعيل من الفرق، سمي به الجمع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب قال اعشى بن تغلبة:
أخذوا فلما خفت ان يتفرقوا... فريقين منهم مصعد ومصوب
4. ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني من بني إسرائيل، وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعد: من بني إسرائيل من اليهود الذين قال الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، لأنهم كانوا آباؤهم وأسلافهم، فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرقهم وأسلافهم.
5. اختلف في قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ :
أ. قال قوم منهم مجاهد والسدي: إنهم علماء اليهود يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراماً والحرام حلالا، ابتغاء لأهوائهم واعانة لمن يرشوهم.
ب. وقال ابن عباس والربيع وابن إسحاق والبلخي: انهم الذين اختارهم موسى عليه السلام من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في اخبارهم لقومهم حتى رجعوا اليهم وهم يعلمون انهم قد حرفوا، وهذا أقوى التأويلين: لأنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله بلا واسطة هم الذين كانوا مع موسى، فأما هؤلاء فإنما سمعوا ما يضاف الى كلامه بضرب من العرف دون حقيقة الوضع، ومن قال بهذا قال: هم الذين سمعوا كلام الله الذي اوحى الله الى موسى، وقال قوم: هو التوراة التي علمها علماء اليهود.
6. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما ـ وهم يعلمون انهم يحرفونه.
ب. الثاني ـ من بعد ما تحققوه وهم يعلمون ما في تحريفه من العقاب.
والصحيح في الموافاة أن نقول: إن معناه وهم يعلمون انهم يحرفونه.
7. سؤال وإشكال: لما ذا أخبر الله عن قوم بأنهم حرفوا، وفعلوا ما فعلوا من المعاندة ما يجب أن يؤيس من ايمان من هو في هذا الوقت، وأي علاقة بين الموضوعين والحالين؟ والجواب: ليس كلما يطمع فيه يؤيس منه على وجه الاستيقان بانه لا يكون، لأن الواحد من افناء العامة لا يطمع ان يصير ملكا، ومع ذلك لا يمكن القطع على كل حال ان ذلك لا يكون ابداً، ولكن لا يطمع فيه لبعده، والله تعالى نفى عنهم الطمع ولم يؤيسهم على القطع والثبات، وإنما لم يطمع فيهم لبعد ذلك من الوهم منهم مع أحوالهم التي كانوا عليها، وشبههم بأسلافهم المعاندين، وقد كانوا قادرين على ان يؤمنوا وكان ذلك منه جائزاً، وهؤلاء الذين عاندوا ـ وهم يعلمون ـ كان قليلا عددهم، يجوز على مثلهم التواطؤ والاتفاق وكتمان الحق، وإنما يمتنع ذلك في الجمع العظيم والخلق الكثير، لأمر يرجع الى اختلاف الدواعي. فأما على وجه التواطؤ والعمد فلا يمتنع فيهم ايضاً، فيبطل بذلك قول من نسب فريقاً الى المعاندة دون جميعهم وان كانوا بأجمعهم كفاراً.
8. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ : أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم، الى بعض منهم فصاروا في خلاء الناس، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم، قالوا ـ يعني بعضهم لبعض ـ: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾
9. في قوله تعالى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أقوال:
أ. قال ابن عباس بما فتح الله عليكم أي بما ألزمكم الله به، فيقول له آخرون انما نستهزئ بهم ونضحك، وروى سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن معناه قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فانزل الله هذه الآية: أي تقرون بانه نبي، وقد علمتم انه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبركم بانه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به لهم.
ب. وقال ابو العالية: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم: اي بما أنزله في كتابكم من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبه قال قتادة.
ج. وقال مجاهد: ذلك قول يهود بني قريظة حين سبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا من حدثك بهذا ـ حين أرسل اليهم علياً عليه السلام فآذوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فقال: يا اخوة القردة والخنازير قال بعضهم لبعض: ما أخبره بهذا إلا منكم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة عليكم؟
د. وقال السدي: هؤلاء ناس آمنوا من اليهود، ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به، ليقولوا نحن أحب الى الله منكم وأكرم عليه منكم؟ ومثله روي عن أبي جعفر عليه السلام.
10. الفتح في لغة العرب: القضاء والنصرة والحكم.. يقال اللهم افتح بيني وبين فلان: أي احكم بيني وبينه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ﴾ يعني هذا القضاء، فقال تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ يعني يوم القضاء، وقال الشاعر:
ألا ابلغ بنى عصم رسولا... فاني عن فُتاحتكم غنيّ
ويقال للقاضي الفتاح، قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ يعني احكم به، ويقال: فتح بمعنى علم، فقال: افتح على هذا، أي اعلمني بما عندك فيه.
11. إذا كان معنى الفتح ما وصف فقد بان أن معنى الآية: أتحدثونهم بما حكم الله عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه ما أخذ به ميثاقهم من الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما بينه في التوراة ومن قضائه أنه جعل منهم القردة والخنازير، فإذا ثبت ذلك، فان أقوى التأويلات: قول من قال أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته في التوراة، وأنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الى خلقه، وروي عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين المتواطئين، إذا لقوا المسلمين، حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيحاجوكم به عند ربكم، فنزلت الآية.
12. معنى قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أفلا تفهمون ايها القوم أن اخباركم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، بما تحدثونهم به وإقراركم لهم بما تقرون لهم من وجودكم بعث محمد في كتبكم وانه نبي مبعوث حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم.
13. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ معناه: أولا يعلمون ان الله يعلم سرهم وعلانيتهم، فكيف يستخيرون أن يسروا الى إخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق، وليسوا كسائر المنافقين، وان كانوا يسرون الكفر فإنهم غير عالمين بان الله يعلم سرهم وجهرهم، لأنهم جاحدون له.. وهؤلاء مقرون، فهم من هذه الجهة ألوم واعجب شأناً وأشد جزاءً، وقال قتادة في ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ من كفرهم وتكذيبهم محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خلا بعضهم الى بعض. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ إذا لقوا اصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا آمنا يغرونهم بذلك، ومثله روي عن أبي العالية.
14. هذه الآية فيها اخبار عمن رفع الله الطمع في ايمانهم من يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهرهم فقال: أفتطمعون ايها المؤمنون ان يؤمنوا لكم، وهم القوم الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا: أي صدقنا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما صدقتم به وأقررنا بذلك، فأخبر الله بأنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين وسلكوا منهاجهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/313.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطمع: تعلق النفس بما تظنه من النفع، ونظيره الأمل والرجاء، ونقيضه اليأس، طمع يطمع طمعًا.
ب. التحريف في الكلام: تغيير الكلمة عن معناها.
ج. العقل والعلم من النظائر، وسمي عقلا؛ لأنه يمنع المرء من الإقدام على القبيح، تشبيهًا بالعقال، والعقول علوم مجموعة بها يصح التكليف.
د. الحديث والإخبار والإنباء نظائر، وأصله الحدوث، سمي به لأنه إخبار عن حوادث الزمان.
هـ. الفتح: نقيض الإغلاق، والفتح: افتتاح دار الحرب، والفتح: أن تفتح على من يستنفرك، والفتح: أن تفتح بين قوم يختصمون إليك، ومنه: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ وسُمِّيَ القاضي الفتاح، من ذلك؛ لأنه يفتح القضية.
و. المحاجة: أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه، والحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، يقال: حَاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ، وأصله من القصد، ومنه الحج، فالحجة: النكتة المقصودة في تصحيح الأمر.
2. أخبر تعالى عن ضمائر القوم الَّذِينَ تقدم ذكرهم، وبَيَّنَ أنهم لا يؤمنون فقال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، عن الأصم وأبي مسلم وجماعة.
ب. وقيل: خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة خاطبه على وجه الجمع تعظيمًا له.
ج. وقيل: خطاب للمسلمين؛ لأنهم كانوا يدعون اليهود إلى الإيمان، ومعناه أفترجون.
3. ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أي يصدقوا لكم، ويستجيبوا لكم بالتصديق بما أتى به نبيكم، والضمير في قوله: ﴿يُؤْمِنُوا﴾ :
أ. قيل: يرجع إلى اليهود، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: على علمائهم لأن العوام تبع لهم، وهم على هذه الصفة فمن أين الطمع في إيمانهم؟
5. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ :
أ. قيل: أي جماعة من اليهود.
ب. وقيل: هم علماء السوء، عن مجاهد.
ج. وقيل: هم السبعون الَّذِينَ سمعوا كلام الله وقت المناجاة، عن ابن عباس.
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: التوراة تقرأ عليهم ويحرفونه، عن الحسن ومجاهد والأصم وجماعة.
ب. وقيل: هو كلام الله لموسى وقت المناجاة سمعه الَّذِينَ اختارهم موسى عليه السلام لسماعه، فلما رجعوا إلى قومهم حرفوه، وهم السبعون، عن ابن عباس.
ج. وقيل: هو صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المذكورة في التوراة.
5. ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ يعني يغيرونه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ يعني علموه فأنكروه عنادًا.
6. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: تعمدهم للتحريف، وتركهم الحق.
ب. وقيل: يعلمون أنهم كاذبون في ذلك.
ج. وقيل: يعلمون ما عليهم في ذلك.
7. سؤال وإشكال: ما في ترك فريق الإيمان ما يوجب الإياس عن إيمان فريق آخر؟ والجواب: لأنهم جروا على طريقتهم في العناد، وعلم تعالى من حالهم أنهم لا يؤمنون، وغلب على ظن المسلمين ذلك.
8. سؤال وإشكال: مع وقوع الإياس كيف دعاهم النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم وهل يحسن ذلك؟ والجواب: بلى، وتحسن الدعوة لقدرتهم على الإيمان.
9. سؤال وإشكال: إذا كان الكتاب حجة فلِمَ لَمْ يمنعهم من تحريفه؟ والجواب:
أ. قيل: يحتمل أنهم حرفوا المعنى دون اللفظ، كما يفعله المبتدعة في هذه الأمة في تأويل الآيات المتشابهة.
ب. وقيل: ذلك عوامهم، ويحتمل أنهم حرفوا اللفظ، وكان ذلك من العلماء، وتبعهم العوام للشبهة؛ إذ لا يجوز على الجمع الكثير التواطؤ.
10. هذا التحريف على ضربين:
أ. إن أثَّرَ ذلك في كونه حجة على المكلفين فلا بد أن يمنعهم منه.
ب. وإن لم يؤثر فيجوز ألا يمنعهم.
11. ذكر الله تعالى خصلة أخرى من خصال أولئك الكفرة فقال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ يعني هَؤُلَاءِ المنافقين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ :
أ. قيل: المراد باللقاء إذا رأوهم.
ب. وقيل: أراد بلقائهم مناظرتهم، كما يقال: لقي العلماء، ولقي الخصوم.
12. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ قيل: خلوا برؤسائهم وأحبارهم نحو كعب بن الأشرف وأمثاله ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ أتخبرونهم.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ :
أ. قيل: بما حكم الله عليكم من اتباع النبي الأمي، والعلم بصفته، والبشارة به، عن أبي علي وقتادة وأبي العالية والكلبي.
ب. وقيل: بما حكم الله عليكم من العذاب، عن السدي.
ج. وقيل: بأن جعل منكم قردة وخنازير، عن مجاهد.
د. وقيل: بما حكم.
هـ. وقيل: بما فتح الله عليكم من النصر في مغازي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ترون من معجزاته، وما أخبر ببدر عن حال القوم فأراهم ـ مصارع القوم، فكان كذلك، عن أبي علي، وإنما حمل عليه لأنه يحمل الآية على المنافقين من غير اليهود.
و. وقيل: بما بينه لكم، عن الكسائي.
ز. وقيل: بما أنزل عليكم، ونظيره ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ عن الواقدي.
ح. وقيل: بما مَنَّ عليكم وأعطاكم، عن أبي عبيدة والأخفش.
ط. وقيل: بما عَلَّمَكُمْ، يقال: أحب أن تفتح علي في أمري، أي تعلمني، عن أبي مسلم.
14. اختلف في معنى ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ :
أ. قيل: لتكون لهم حجة عليكم، عند الله في الدنيا والآخرة، وهو أقرب؛ لأنه أظهر من غير تخصيص.
ب. وقيل: ليكون لهم حجة عند الله يوم القيامة.
ج. وقيل: عند ربكم، فيكون أولى به منكم، إذا قامت حجة عليكم، عن الحسن.
د. وقيل: عند ذكر ربكم.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قيل: أفلا تعلمون.
ب. وقيل: أليس لكم ذهن الإنسانية.
ج. وقيل: أفلا تعلمون أن الأمر على ما نقول، فاتركوا الإخبار به، عن أبي علي.
د. وقيل: أفلا تعلمون أن كتمانهم كفر، وأن من فعل فِعْلَهُمْ فليس بعاقل، عن الأصم.
16. واختلفوا أن الخطاب لمن؟
أ. قيل: هو خطاب من اللائمين لمن لاموه على الإخبار بآيات الله، عن قتادة وأبي علي وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: يرجع القول إلى المؤمنين، يعني أفلا تعقلون أنهم لا يؤمنون، فلا تطمعوا في ذلك، عن الحسن، والأول أوجه؛ لأنه على سنن الكلام.
ج. وقيل: إنه خطاب من الله تعالى لليهود، يعني أفلا تعقلون حتى تقبلوا من رؤسائكم مثل هذا، فحذرهم عن الرجوع إليهم.
17. اختلف في قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: يعني اليهود عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: يعني المنافقين، عن أبي علي (أَنَّ الله يَعْلُ مَا يُسِرُّونَ) من كفرهم بمحمد (وَمَا يعلنُونَ) يظهرون للمؤمنين من قولهم: إنا آمنا، عن الحسن وقتادة وجماعة.
ج. وقيل: هو عام، يعني: يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون، عن أبي علي وأبي مسلم.
د. وقيل: أولا يعلمون أن مثل هذه المخاريق لا تروج على من يعلم السر والعلانية.
هـ. وقيل: معناه أولم يعلموا بالآيات والدلالة التي أقامها الله تعالى، أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، عن أبي مسلم.
و. وقيل: أولم يعلموا أن الله الذي أقروا به يعلم سرهم وجهرهم، عن أبي علي، وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين مقرين بِاللهِ.
18. مسائل نحوية:
أ. الألف في قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ ألف استفهام، دخلها معنى الإنكار، وإذا جاءت مع النفي صار بمعنى الاستدعاء إلى الإقرار كقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ .
ب. الألف في قوله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ ألف استفهام صارت بمعنى التوبيخ، ونظيره قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾
19. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن جميعهم لم يعلموا ذلك(2).، وإلا لم يكن لتخصيص فريق بذلك معنى؛ فيبطل به قول أصحاب المعارف.
ب. أن من لا يعرف الدين، ويتمكن من معرفته يكون محجوجًا به.
ج. على جواز التحريف منهم، والأقرب أنه تحريف المعنى دون صورة التنزيل، وتقدير الكلام: أفتطمعون أن يعترفوا، ومن علم الحق منهم لا يعترف، بل غَيَّرَ.
د. على أن التحريف والكفر ليس بخلق لله؛ لذلك ذمهم عليها، ولو كانت خلقًا له لم يكن للطمع وزوال الطمع لأجل التحريف معنى.
هـ. على عظيم الذنب في تحريف الدين، وذلك عام في إظهار البدع والفتاوى والقضايا، وجميع ما يدخل في أمور الدين.
و. أن القوم حافظوا على أمر الدنيا، وتركوا أمر الدين؛ لذلك أنكروا إظهار الحق، وفيه تحذير من مثل حالهم.
ز. أن القوم كانوا مكابرين معاندين، علموا الحق وتركوه.
ح. معجزة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبرهم عن سرائر أخبارهم.
ط. في الآية زجر عن المعاصي حيث يعلم السر والعلن، وفيه لطف؛ لأن مَنْ تفكر فيه وعلم ذلك امتنع عن ارتكاب القبيح.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/443.
(2) نسبه لأبي علي، التهذيب في التفسير: 1/444.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطمع: تعليق النفس بما تظنه من النفع، ونظيره الأمل والرجاء، ونقيضه اليأس.
ب. الفريق: جمع كالطائفة، لا واحد له من لفظه، وهو فعيل من التفرق، كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب، قال الأعشى بن ثعلبة:
أجدوا فلما خفت أن يتفرقوا... فريقين منهم مصعد ومصوب
ج. التحريف في الكلام: تغيير الكلمة عن معناها.
د. الحديث، والخبر، والنبأ: نظائر مشتقة من الحدوث، وكأنه إخبار عن حوادث الزمان.
هـ. الفتح: في الأصل فتح المغلق، وقد يُستعمل في مواضع كثيرة:
• منها الحكم: يقال: اللهم افتح بيني وبين فلان)، أي احكم.. ﴿ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ ﴾: أي متى هذا القضاء، يوم الفتح: يوم القضاء، قال الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا... فإني عن فتاحتكم غني
• التعليم: يقال: افتح علي هذا)، أي علمني ما عندك فيه.
• النصرة: يقال: استفتحه)، أي أطلب منه النصر، ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾
• فتح البلدان: يقال: فتح المسلمون أرض كذا).
و. المحاجة، والمجادلة، والمناظرة: نظائر.. والمحاجة: أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه.. والحجة: الوجه الذي به يكون الظفر عند الحجاج، يقال: حاججته فحججته)، وفي الحديث: فحج آدم موسى)، أي: غلبه في الحجة، وأصل الحجة من القصد، ومنه الحج، وهو القصد إلى بيت الله الحرام على وجه مخصوص، فالحجة هي النكتة المقصودة في تصحيح الأمور.
2. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ : ألف استخبار تجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار إذا لم يكن معها نفي، فإذا جاءت مع النفي، فإنكار النفي تثبيت، ويكون بمعنى الاستدعاء إلى الإقرار، نحو قوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾، فجوابه (بلى)، كقوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى﴾، وجواب (أفتطمعون) هو (لا)، على هذا.
3. هذا خطاب لأمة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ : أيها المؤمنون ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ من طريق النظر والاعتبار، والانقياد للحق بالاختيار.
4. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ :
أ. قيل: أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾، ويعلمون أنه حق، ويعاندون، فيحرفونه ويتأولونه على غير تأويله.
ب. وقيل: إنهم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، اتباعاً لأهوائهم، وإعانة لمن يرشوهم (عن مجاهد والسدي).
ج. وقيل: إنهم السبعون رجلاً الذين اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم (عن ابن عباس والربيع)، فيكون على هذا (كلام الله) معناه: كلام الله لموسى وقت المناجاة.
د. وقيل: المراد بـ (كلام الله) صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة.
5. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ وجهان:
أ. أن يكون معناه: أنهم غيروه من بعد ما فهموه فأنكروه عناداً، وهو أليق بمذهبنا في الموافاة.
ب. أن معناه: من بعد ما تحققوه، وهم يعلمون ما عليهم في تحريفه من العقاب.
6. إنما أراد الله سبحانه بالآية أن هؤلاء اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إن لم يؤمنوا به وكذبوه وجحدوا نبوته، فلهم بآبائهم وأسلافهم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام أسوة، إذا جروا على طريقتهم في الجحد والعناد، وهؤلاء الذين عاندوا وحرفوا كانوا معدودين، يجوز على مثلهم التواطؤ والاتفاق في كتمان الحق، وإن كان يمتنع ذلك على الجمع الكثير والجم الغفير لأمر يرجع إلى اختلاف الدواعي، وهذا ويبطل قول من قال إنهم كانوا كلهم عارفين معاندين، لأن الله سبحانه إنما نسب فريقاً منهم إلى المعاندة، وإن كانوا بأجمعهم كافرين.
7. في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع، وهو عام في إظهار البدع في الفتاوى والقضايا وجميع أمور الدين.
8. ذكر الله سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة، فقال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أي: إذا رأوهم، ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾، أي: صدقنا بأن محمدًا نبي صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته، وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك.. أخبر الله تعالى عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وتحلوا بحليتهم، واستنوا بسنتهم.
9. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصفهم الله إلى بعض منهم فصاروا في خلاء، وهو الموضع الذي ليس فيه غيرهم.
10. ﴿قَالُوا﴾ : يعني قال بعضهم لبعض: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ :
أ. قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدًا حق وقوله صدق.
ب. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن معناه: قالوا لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، أي لا تقروا بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وأنه النبي الذي كنا ننتظره ونجد صفته في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا لهم به.
ج. وقال الكسائي: أتحدثونهم بما بينه الله لكم في كتابكم من العلم ببعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والبشارة به).
11. أقوى التأويلات قول من قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي: حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم، ومن حكمه عليكم ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصفته الموصوفة لكم في التوراة، ومن قضائه فيكم أنه جعل منكم القردة والخنازير.
12. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ :
أ. قيل: أي: ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة في إيمانهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ كنتم مقرين به ومخبرين بصحة أمره من كتابكم، فهذا يبين حجتهم عليكم عند الله.
ب. وقيل: معناه ليجادلوكم ويقولوا لكم: قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه)
﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ : قال ابن الأنباري: معناه (في حكم ربكم)، كما يقال: هذا حلال عند الشافعي)، أي (في حكمه)، و(هذا يحل عند الله)، أي (في حكمه)
13. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قيل: أي: أفلا تفقهون أيها القوم أن إخباركم محمداً وأصحابه بما تخبرونهم به من وجود نعت محمد في كتبكم حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم.
ب. وقيل: معناه أفلا تعقلون أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون، فلا تسمعوا في ذلك (عن الحسن).
ج. وقيل: إنه خطاب لليهود، أي: فلا تعقلون أيها اليهود إذ تقبلون من رؤسائكم مثل هذا)، وهذا تحذير لهم عن الرجوع إلى قول رؤسائهم.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: يعني اليهود أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، فكيف يستجيزون أن يسروا إلى إخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق، وهم مقرون بذلك غير جاحدين بأن الله يعلم سرهم وجهرهم، كالكفار والمنافقين. فهم من هذه الجهة ألوم، والمذمة لهم ألزم (عن أكثر المفسرين)
ب. وقيل: معناه: أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفرهم وتكذيبهم محمدًا إذا خلا بعضهم إلى بعض، وما يعلنون من قولهم (آمنا) إذا لقوا أصحاب محمد ليرضوهم بذلك (عن قتادة وأبي العالية)
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/285.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في المخاطبين بقوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. والثاني: أنهم المؤمنون، تقديره: أفتطمعون أن تصدّقوا نبيّكم، قاله أبو العالية وقتادة.
ج. والثالث: أنهم الأنصار، فإنهم لما أسلموا أحبّوا إسلام اليهود للرّضاعة التي كانت بينهم، ذكره النّقّاش.
2. ألف (أفتطمعون) ألف استخبار، كأنه آيسهم من الطّمع في إيمانهم.
3. في سماعهم لكلام الله قولان:
أ. أحدهما: أنهم قرؤوا التوراة فحرّفوها، هذا قول مجاهد والسّدّيّ في آخرين، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيّهم، وتحريفهم: تغيير ما فيها.. وهو الأصحّ.
ب. والثاني: أنهم التّسعون رجلا الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام الله كفاحا عند الجبل، فلمّا جاؤوا إلى قومهم قالوا: قال لنا: كذا وكذا، وقال في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه؛ فافعلوا ما تستطيعون، هذا قول مقاتل.. وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم التّرمذيّ صاحب (النوادر) هذا القول إنكارا شديدا، وقال: إنما خصّ بالكلام موسى عليه السلام وحده، وإلا فأي ميزة؟ وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبيّ وكان كذّابا.
4. معنى ﴿عَقَلُوهُ﴾ : سمعوه ووعوه، وفي قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: وهم يعلمون أنهم حرّفوه.
ب. والثاني: وهم يعلمون عقاب تحريفه.
5. في معنى قوله تعالى: ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: بما قضى الله عليكم، والفتح: القضاء، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾، قال السّدّيّ عن أشياخه: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدّثون المؤمنين بما عذّبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا: نحن أحبّ إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم.
ب. الثاني: أن معناه: بما علّمكم الله. قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة: الذي فتحه عليهم، ما أنزله من التوراة في صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال مقاتل: كان المسلم يلقى حليفه، أو أخاه من الرّضاعة من اليهود، فيسأله: أتجدون محمّدا في كتابكم؟ فيقولون: نعم، إنه لحقّ. فسمع كعب بن الأشرف وغيره، فقال لليهود في السّر: أتحدّثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم؟ أي: بما بيّن لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبيّ، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم!؟
6. في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه بمعنى: في حكم ربكم، كقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾
ب. والثاني: أنه أراد به يوم القيامة.
7. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نزلت في نفر من اليهود، كانوا إذا لقوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين قالوا: آمنّا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قالوا: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم، هذا قول ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وقتادة وعطاء الخراسانيّ وابن زيد ومقاتل.
__________
(1) زاد المسير: 1/81.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: وهو قول ابن عباس أنه خطاب مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة، واللفظ وإن كان للعموم، لكنه حمل على الخصوص لهذه القرينة، روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. الثاني: وهو قول الحسن أنه خطاب مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، قال القاضي: وهذا أليق بالظاهر لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ويظهر لهم الدلائل وينبههم عليها، فصح أن يقول تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ ويريد به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحاً فلا وجه لترك الظاهر.
2. المراد بقوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع.
3. في سبب الاستبعاد الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه السلام، وكان هو السبب في أن الله خلصهم من الذل وفضلهم على الكل، ومع ظهور المعجزات المتوالية على يده وظهور أنواع العذاب على المتمردين.
ب. الثاني: أفتطمعون أن يؤمنوا ويظهروا التصديق ومن علم منهم الحق لم يعترف بذلك، بل غيره وبدله.
ج. الثالث: أفتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء من طريق النظر والاستدلال، وكيف وقد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ويعلمون أنه حق ثم يعاندونه.
4. سؤال وإشكال: القوم مكلفون بأن يؤمنوا بالله، فما الفائدة في قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [العنكبوت: 26]؟ والجواب:
أ. أنه يكون إقراراً لهم بما دعوا إليه، ولو كان الإيمان لله، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ لما أقر بنبوته وبتصديقه.
ب. ويجوز أن يراد بذلك أن يؤمنوا لأجلكم، ولأجل تشددكم في دعائهم إليه، فيكون هذا معنى الإضافة.
5. يدل قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ ـ بحسب ما استنبط بعضهم ـ على:
أ. أن إيمانهم من قبلهم، لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدم ذكرهم، ولما صح كون ذلك تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين لأن على هذا القول أمرهم في الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك، وزواله موقوف على أن لا يخلقه فيهم ومن وجه آخر وهو إعظامه تعالى لذنبهم في التحريف من حيث فعلوه وهم يعلمون صحته، ولو كان ذلك من خلقه لكان بأن يعلموا أو لا يعلموا لا يتغير ذلك، وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم تدل على ذلك(2)..
ب. أن العالم المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل، لأن قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به(3)..
6. اختلف في الفريق المقصود في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ :
أ. قيل: المراد بالفريق من كان في أيام موسى عليه السلام لأنه تعالى وصف هذا الفريق بأنهم يسمعون كلام الله، والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات.
ب. وقيل: المراد بالفريق من كان في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا أقرب لأن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ راجع إلى ما تقدم وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾، وهو يدل على أن الذين تعلق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. لا يشترط أن يكون الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات، لأنه قد يجوز فيمن سمع التوراة أن يقال: إنه سمع كلام الله كما يقال لأحدنا سمع كلام الله إذا قرئ عليه القرآن.
8. التحريف: التغيير والتبديل وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه، قال تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ [الأنفال: 16] والتحريف هو إمالة الشيء عن حقه، يقال: قلم محرف إذا كان رأسه قط مائلًا غير مستقيم.
9. التحريف(4).: إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، وحمل التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى، لأن كلام الله تعالى إذا كان باقياً على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام المسموع، فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه ونقصوا فهو أولى، وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل ثابتاً، وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن، فأما قبل أن يصير كذلك، فغير ممتنع تحريف نفس كلامه، لكن ذلك ينظر فيه:
أ. فإن كان تغييرهم له يؤثر في قيام الحجة به، فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه.
ب. وإن لم يؤثر في ذلك صح وقوعه.
فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه، فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما، لم يعلم قصد الرسول فيه باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها.
10. إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، روي أن قوماً من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس)
11. إن قلنا: المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع، وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا.
12. سؤال وإشكال: كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عند البعض لا ينافي إقرار الباقين؟ والجواب(5).: يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل: كيف تفلح وأستاذك فلان! أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره.
13. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ :
أ. قيل: آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم، لأن قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة، فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع.
ب. وقيل: لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد، وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا، ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك.
14. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾، المراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه، فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد، فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم، وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: 187]، وقال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة: 146] [الأنعام: 20]، ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد.
15. سؤال وإشكال: أليس قوله تعالى: ﴿عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تكرارا لا فائدة فيه؟ والجواب من وجهين(6).:
أ. الأول: من بعد ما عقلوه مراد الله، فأولوه تأويلًا فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.
ب. الثاني: أنهم عقلوا مراد الله تعالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم الوزر والعقوبة من الله تعالى، ومتى تعمدوا التحريف مع العلم بما فيه من الوزر كانت قسوتهم أشد وجراءتهم أعظم، ولما كان المقصود من ذلك تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى.
16. لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى هاهنا، شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد(7).:
أ. أحدها: الدلالة بها على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه أخبر عنها من غير تعلم، وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب، أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلًا، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي، وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار.
ب. ثانيها: تعديد النعم على بني إسرائيل وما من الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعد ما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكاً وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة، ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام، فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة.
ج. ثالثها: إخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة، فدل على بلادتهم، ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا، ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى، ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا، ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: 67]، ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة، فكأن الله تعالى يقول: إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه السلام، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق.
د. رابعها: تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.
هـ. خامسها: تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود.
و. سادسها: أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 73]
17. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه، وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم، فقص الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية له فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة، فقال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾
18. هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمروي عن ابن عباس أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا، ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به، فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة، واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلا حجة أقوى من ذلك، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك عند محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه.
19. في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنهم جعلوا محاجتهم به، وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله، ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا، وهو عند الله هكذا بمعنى واحد.
ب. ثانيها: قال الحسن: أي ليحاجوكم في ربكم، لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه.
ج. ثالثها: قال الأصم: المراد يحاجوكم يوم القيامة، وعند التساؤل، فيكون ذلك زائداً في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف، لأنه ليس من اعتراف بالحق، ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة.
د. رابعها: قال القاضي أبو بكر: إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم، وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة، فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه، فقال القوم عند الخلوة: قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة، فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله، وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب.
هـ. خامسها: قال القفال: يقال: فلان عندي عالم، أي في اعتقادي وحكمي، وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام، أي في حكمهما.
20. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله، وتأول بعض العلماء قوله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13] أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً.
21. في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال: أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم)، وهو قول الحسن.
ب. ثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عندما خلا بعضهم ببعض، قالوا لهم: أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه)، وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم، فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم.
22. في قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله، ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به.
ب. الثاني: أنهم ما علموا بذلك، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم رباً يعلم سرهم وعلانيتهم، وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم.
23. على القولين جميعاً، هذا الكلام زجر لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد، والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك، لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر: أولا يعلم كيت وكيت) إلا وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك الشيء زاجراً له عن ذلك الفعل.
24. قال بعضهم: هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم ليسوا كالمنافقين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالماً بالسر والعلانية، فشأنهم من هذه الجهة أعجب.
25. ذكر بعضهم أن الآية الكريمة تدل على أمور(8).:
أ. أحدها: أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال؟
ب. ثانيها: أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين، وأن ذلك كان ظاهراً عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه.
ج. ثالثها: أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة، وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة، ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة.
د. رابعها: أنها تدل على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً ووزراً.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/560.
(2) نسبه للقاضي، تفسير الفخر الرازي: 3/562.
(3) نسبه لأبي بكر الرازي، تفسير الفخر الرازي: 3/562.
(4) الكلام في هذه المسألة كله نسبه للقاضي، ولم يعقب عليه، تفسير الفخر الرازي: 3/561.
(5) هذا الجواب نسبه للقفال، ولم يعقب عليه، تفسير الفخر الرازي: 3/562.
(6) هذا الجواب نسبه للقفال، ولم يعقب عليه،<تفسير الفخر الرازي: 3/562.
(7) هذه الوجوه نسبها للقفال، ولم يعقب عليها<تفسير الفخر الرازي: 3/560.
(8) الكلام في هذه المسألة كله نسبه للقاضي، ولم يعقب عليه، تفسير الفخر الرازي: 3/563.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه إياسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك، والخطاب:
أ. لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم.
ب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا.
2. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقه، وفي الكثير أفرقاء.
3. ﴿يَسْمَعُونَ﴾ في موضع نصب خبر ﴿كَانَ﴾، ويجوز أن يكون الخبر ﴿مِنْهُمْ﴾، ويكون ﴿يَسْمَعُونَ﴾ نعتا لفريق، وفية بعد.
4. ﴿كَلَامَ اللَّهِ﴾ مفعول بـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾، والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام:
أ. فسمعوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم، هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف، ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم
ب. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾
5. ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة)، فهو حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به.
6. الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾، وهذا واضح.
7. اختلف الناس بما ذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه:
أ. قيل: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر، وإنما هو كلام رب العالمين.
ب. وقيل: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر.
ج. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله.
د. وقيل: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ هو الله عز وجل.
هـ. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز.
8. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أي عرفوه وعلموه، وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد، فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم، ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.
9. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ هذا المنافقين، ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ الآية في اليهود، وذلك:
أ. أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي.
ب. وقيل: إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال: أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك) ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.
10. معنى ﴿فَتْحٌ﴾ حكم، والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ أي الحاكمين، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، يقال: بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم، والفتح: النصر، ومنه قوله: ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾،، وقوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾، ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.
11. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي، قال الأخفش: لان الفتح الأصل، قال خلف الأحمر: هي لغة بني العنبر، ومعنى ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ :
أ. قيل: ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم.
ب. وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه.
ج. وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقي صديقه من المسلمين فيقول له: تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا.
12. ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ :
أ. قيل في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ .
ب. وقيل: عند ذكر ربكم.
ج. وقيل: ﴿عِنْدَ﴾ بمعنى (في) أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن.
13. الحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجة الطريق، وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة، ومنه الحديث: فحج آدم موسى)
14. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ :
أ. قيل: هو من قول الأحبار للاتباع.
ب. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال.
15. ثم وبخهم الله تعالى توبيخا يتلى فقال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾، فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع.. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/2.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، والخطاب لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوله ولهم، و ﴿يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أي لأجلكم، أو على تضمين آمن معنى استجاب: أي أتطمعون أن يستجيبوا لكم، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، و ﴿كَلَامَ اللَّهِ﴾ أي التوراة، وقيل: إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى.
2. المراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة، فجعلوا حلاله حراما أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم، كتحريفهم صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال: أي ولهم سلف حرّفوا كلام الله وغيّروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم.
3. معنى قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها، وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم.
4. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا ﴿قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي حكم عليكم من العذاب، وذلك أن ناسا من اليهود أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذّب به آباؤهم، وقيل: إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. الفتح عند العرب: القضاء والحكم، والفتّاح: القاضي بلغة اليمن، والفتح: النصر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ ومن الأوّل ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ أي الحاكمين، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين.
6. المحاجّة: إبراز الحجة، أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون: نحن أكرم على الله منكم وأحقّ بالخير منه، والحجّة، الكلام المستقيم، وحاججت فلانا فحججته أي غلبته بالحجة.
7. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم.
8. ثم وبّخهم الله سبحانه، فقال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان، ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/121.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ إنكار للياقة الطمع، العطف على قست والهمزة من جملة المعطوف، أو على مقدَّر بعد الهمزة، والخطاب للمؤمنين، قيل: وللنبيء أيضًا، أي: أتحسبون أنَّ قلوبهم صالحة للإيمان فتطمعون؛ وقيل: للأنصار، وفي ذلك تشديد العتاب، ويقال: الخطاب للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين لأنَّهم يطمعون فلا حاجة، ولا دليل على أنَّ الخطاب للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بصيغة الجمع تعظيمًا كما هو قول ابن عبَّاس.
2. ﴿أَنْ يُّومِنُواْ﴾ أي: في أن يؤمن اليهود، أي: ينقادون ﴿لَكُمْ﴾ أو يؤمنوا لأجلكم؛ والواو لليهود في المدينة وما قرب منها، كيف تطمعون في إيمانهم مع ما فيهم من موانع الإيمان: تحريف الحقِّ مع العلم به في طائفة من الأحبار، ونفاقهم إليكم بظاهر الإيمان، وإخلاص الكفر إذا خلا بعضهم ببعض في طائفة، وتحذير بعض بعضًا عن التحدُّث برسالة سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم المذكورة في التوراة في طائفة، واعتقاد الباطل توراةً في طائفة، وكتابة كلام يقولون: إنَّه من التوراة وليس منها في طائفة، وأشار إلى ذلك كلِّه بقوله: ﴿وَقَدْ كَانَ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الآية: 78] أي: طمعكم في إيمانهم بعيد والحال أنَّه قد كان ﴿فَرِيقٌ﴾ أحبار تفرَّقوا طوائف، ﴿مِّنْهُمْ﴾ مِمَّن حضروا وأسلافهم، ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ﴾ في التوراة مِمَّن قرأ من كتاب الله، أو رآه بعينه، وفهمه أو لم يفهمه، والمراد هنا الفهم فقد سمعه ولو لم يسمعه بأذنه من غيرهم، أو من لسان نفسه، وقيل: المراد القرآن، ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ يردُّونه في طرف غير ما هو فيه، بمحوه أو إسقاط بعضه، أو زيادة ما يفسد به، أو تفسيره بخلاف ما هو عليه.
3. ﴿مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ فهموه ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّه حقٌّ وأنَّهم مبطلون، وأنَّه من الله، ولا حاجة إلى جعلها تأكيدًا في المعنى لقوله: ﴿عَقَلُوهُ﴾، ومن ذلك تبديل ما في التوراة من الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه، وما فيها من أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أبيض ربعة بأنَّه أسمر طويل، وأنَّهم طلبوا أن يسمعوا كلام الله تعالى كموسى فأمرهم أن يتطهَّروا ويلبسوا ثيابًا نظيفة، فأسمعهم، فزادوا أنَّه قال لهم: إن شئتم فلا تفعلوا؛ وهم السبعون الذين اختارهم.
4. ﴿وَإِذَا لَقُواْ﴾ أي: اليهود، إذ القائل منهم لا كلُّ فردٍ، أو إذا لقي منافقوهم، والمراد: أشرار علمائهم ومن معهم من العرب، كعبد الله بن أبي ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا﴾ بمحمَّد رسولا مبشَّرًا به في التوراة، وأنَّكم على الحقِّ في اتِّباعه، وهذا إلى قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ داخل في توبيخ المؤمنين على الطمع في إيمانهم، أتطمعون أن يؤمنوا مع أنَّهم ﴿إِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالوُا﴾، وإنَّما وبَّخهم على ذلك الطمع لأنَّ الطمع هو تعلُّق النفس بإدراك المطلوب تعلُّقًا قويًّا، وهو أشدُّ من الرجاء، فشدَّد عليهم فيه؛ لأنَّه ربَّما يؤدِّي إلى ملاينة لا تجوز.
5. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمُ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ﴾ أي: رؤساؤهم الذين يصرِّحون بالكفر ولم ينافقوا، أي: قالوا لمن نافق منهم، قام النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: (يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت)، فقالوا: ما أخبر بذلك محمَّدا إلَّا أحد منكم، أتحدِّثونهم.. إلخ، كما قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ أتحدِّثون المؤمنين؟ وهذا توبيخ على ماضٍ مستمرٍّ، فهو موجود في الحال إذا اعتقدوا أنَّ منافقيهم لم يقطعوا نياتهم عن التحديث؛ والتوبيخ يقع على ماض وحاضر، أو صوَّروا حالهم الماضية من التحديث بصورة الحاضر.
6. ﴿بِمَا فَتَحَ﴾ به ﴿اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ أنعم به عليكم من العلم برسالة محمَّد في التوراة وصفاته، والإيجاب على الأنبياء أن يؤمنوا به، أو قضى عليكم به، أو أنزله عليكم بوساطة موسى، أو بيَّنه لكم، كما يقال: فتح على الإمام إذا ذكر له ما توقَّف عنه، وذلك أنَّ الأمر قبل بيانه كالشيء المغلق عليه، وبعد بيانه كالشيء المفتوح، وذلك إقرار منهم بأنَّ الله قضى عليهم أن يؤمنوا بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنزل عليهم رسالته؛ وتفسيره بالإنزال معنويٌّ.
7. ﴿لِيُحَآجُّوكُمْ﴾ حجًّا عظيمًا، والمفاعلة مبالغة لا على بابها ـ من أنَّها تفيد المشاركة ـ ﴿بِهِ﴾ بما فتح الله عليكم فيغلبوكم، واللام لام العاقبة مجاز على التعليل، أي: فيكون المآل أن يخاصموكم به ﴿عِندَ رَبِّكُمُ﴾ في الآخرة بأن يشهدوا عليكم بإقراركم بأنَّ الله حكم علينا، أي: قضى بأن نؤمن بمحمَّد وكتابه، فتقام عليكم الحجَّة بترك اتِّباعه مع إقراركم بصدقه، وهو متعلَّق (لِيُحَاجُّوا).
8. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ عطف على ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾، أو يقدَّر: ألا تتأمَّلون فلا تعقلون أنَّكم يحاجُّونكم يوم القيامة بأنَّ محمَّدا رسول الله في التوراة، وذلك من جهلهم فإنَّهم يوم القيامة محجوجون بما في التوراة، حدَّثوا المؤمنين به أم لم يحدِّثوا؛ وإن رجعنا هاء (به) للتحديث، أي: ليحاجُّوكم بتحديثكم بأنْ يقول المؤمنون: ألم تقولوا لنا بأنَّ محمَّدا رسول الله في التوراة؟ كأنَّ المعنى أنَّه اشتدَّ عليهم أن يحاجُّوكم بالتحديث، ولو كانوا لا ينجون من قطع العذر، ولو لم يحدِّثوهم، إلَّا أنَّه يضعف ردُّ الهاء للتحديث بقوله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ عطف على ما قبل، أو يقدَّر: أيلومونكم ولا يعلمون ﴿أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ مطلقًا، ومنه إسرارهم الكفر ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ مطلقًا، ومنه إظهارهم الإيمان، فإنَّه أنسب بردِّ (مَا) إلى (مَا فَتَحَ اللهُ)، وأيضًا قد يمكنهم إنكار التحديث لا ما فتح عليهم؛ والمشركون قد يخفون ما علموا أنَّ الله عالم به لفرط دهشهم، وذلك في الآخرة، كقوله تعالى: ﴿وَاللهِ رَبِّـنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]، وقوله: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: 107] وقد علموا أنَّهم لا يخرجون، فينكرون التحديث، ولو علموا أنَّ الله عالم به، ويجوز أن يكون ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ من كلام الله للمؤمنين، لا من كلام اليهود، كما أنَّ ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ من كلام الله، أي: أفلا تعقلون أن لا مطمع في إيمانهم، وممَّا أسرُّوه من صفات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/142.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم، والتبكيت لهم، منكرا للطمع في إيمانهم.
2. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ أي هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلافهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم.
3. اللام في قوله: ﴿لَكُمْ﴾ :
أ. لتضمين معنى الاستجابة، كما في قوله عز وجل ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: 26]، أي في إيمانهم مستجيبين لكم.
ب. أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم.
4. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أي طائفة فيمن سلف منهم ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ وهو ما يتلونه من التوراة.
5. ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قال ابن كثير: أي يتأولونه على غير تأويله، وقال ابن جرير: يعني بقوله ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها.. فكذلك قوله ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ أي يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره.
6. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أي فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
7. قال ابن جرير: هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السّلام، وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغيا وحسدا، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 13]، والظاهر أن المراد، بالفريق منهم، أحبارهم، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى، من بعد، في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران: 187]، وقال ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة: 146]
8. سؤال وإشكال: كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟ والجواب:
أ. أجاب القفال عنه فقال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق، وهو قولك للرجل كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي وأنت عنه تأخذ، ولا تأخذ عن غيره)
ب. ونحوه قول الراغب: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم، فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك، إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا.. وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط، بل يكون عنادا وغلبة شهوة)
9. ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة، فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه، وأوّلوا بعضا منها بغير المراد منه، وكذا يقال في الإنجيل، ويشهد لذلك كلام أحبارهم:
أ. فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهنديّ في كتابه (إظهار الحق): أن أهل الكتاب سلفا وخلفا، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم، ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام، الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة. ثم ساق بعضا منها فانظره.
ب. وفي ذخيرة الألباب، لأحد علماء النصارى، ما مثاله: إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات، وفيه أيضا: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ، فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن، وفيه أيضا في الفصل: أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ. انتهى. فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها، وهو المقصود.
10. القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، فهو إفراط، قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ﴾ [البروج: 21]: إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157] الآية)
11. أخبر الله تعالى عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين وسلوكهم منهاجهم، بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
12. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أي بأنكم على الحق، وأن محمدا هو الرسول المبشر به، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها.
13. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ﴾ يعني الذين لم ينافقوا ﴿إِلَى بَعْضِ﴾ أي الذين نافقوا ﴿قَالُوا﴾ أي عاتبين عليهم ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي بما بيّن لكم في التوراة من البشارة بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإيمان بالنبيّ الذي يجيئكم مصدقا لما معكم، ونصره، قال ابن إسحاق: أي أتقرّون بأنه نبيّ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتّباعه، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي نجده في كتابنا، اجحدوه ولا تقرّوا به.
14. قال ابن جرير: أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم، والمعنى: أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به في التوراة.
15. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ متعلقة بالتحديث، دون الفتح، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة ﴿بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة، فيقولون: ألم تحدثونا بما في كتابكم، في الدنيا، من حقيّة ديننا، وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق، في الموقف، لأنه ليس من اعترف بالحق، ثم كتم، كمن ثبت على الإنكار.
16. تأول الراغب الأصفهانيّ قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13] أي في حكم الله وقضائه، وهو وجه جيد.
17. قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ من تمام التوبيخ والعتاب، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض. قال الراغب: ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل، على سبيل ما يسمى في البلاغة (الالتفات)، ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون.
18. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ أي يخفون من قولهم لأصحابهم، ومن غيره ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي يظهرون من ذلك، فيخبر به أولياءه. قال الراغب: هذا تبكيت لهم، وإنكار لما يتعاطونه، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/335.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود لأنهم موحدون ومصدقون بالوحى والبعث في الجملة، ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة ومجل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
2. كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعها بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بنى اسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفى في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب؛ ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا، وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم، وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بنى اسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين، وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الانكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحصة فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا
3. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، ولكن خاطب المؤمنين معه لأنهم كانوا يشاركونه في الألم من ايذائهم والطمع بهدايتهم، فأشركهم بالتسلية، ولأن طمع بعض المؤمنين بإيمانهم كان يحملهم على الانبساط معهم في المعاشرة إلى حد الافضاء إليهم ببعض الشؤون الملية المحضة واتخاذهم بطانة، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب حتى نهاهم الله تعالى عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء، وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ والآية الآتية تدل على هذا الافضاء أيضا.
4. الحجة التي وصلها بإنكار الطمع بإيمانهم للدلالة على أنه طمع في غير مطمع فهي تعمد تحريف كلام الله ممن سمعه منهم، وذلك أن موسى عليه السلام اختار بأمر الله سبعين رجلا من قومه لسماع الوحى ومشاهدة الحال التي يكلمه الله تعالى بها، وقد سمعوا كلام الله تعالى على الوجه الذي لا نعرفه، وإنما نعرف أنهم صحبوه إلى حيث كان يناجى الله تعالى، وكان من شأن الله تعالى معهم أن صدقوا بأن ما جاء به موسى عليه السّلام هو وحى من الله تعالى، والتصديق بذلك لا يتوقف على معرفة كيفيته وكنهه فان أكثر ما نصدق به تصديق يقين لا نعرف حقيقته وكنهه ولا كيفية تكوينه وإيجاده، وقد كان من أولئك المختارين أنهم لما رجعوا إلى قومهم حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وأذعنوا له بأن صرفوه عن وجهه بالتأويل ـ كما حققه ابن جرير الطبري وغيره وهذا التحريف ثابت عندهم منصوص في التوراة والتاريخ الديني الذي يسمى التاريخ المقدس.
5. دل هذا وما سبقه على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبر، ومكابرة الحق والتفصي من عقال الشريعة، كان شنشنة قديمة فيهم، ثم تأصل فصار غريزة مطبوعة، فإعراضهم عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه، ولا القول بجواز تسلق شيء من الريب إليه، فانهم قد حرفوا وبدلوا، وعاندوا وجاحدوا، وهم يشاهدون الآيات الحسية، ويؤخذون بالعقوبات المعاشية، فكيف يستنكر بعد هذا أن يعرضوا عن دين دلائله عقلية، وآيته الكبرى معنوية، وهى القرآن المعجز بما فيه من علوم الهداية، ودقائق البلاغة، وأنباء الغيب على أنه من أمي عاش أربعين سنة لم يؤثر عنه فيها شيء من العلم، ولم يزاحم فحول البلاغة في نثر ولا نظم، وفهم تلك الدلائل انما يكون من ذوى العقول الحرة والقلوب السليمة، الذين لطف شعورهم، ورق وجدانهم وصحت أذواقهم.
6. قال ابن جرير: لو كان المراد بما هنا تحريف كلام التوراة المكتوب لما قال: يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه فزيادة ﴿يَسْمَعُونَ﴾ هنا لا بد لها من حكمة، ولولا ذلك لجاء الكلام على نسق الآيات الأخرى التي ذكر فيها التحريف كأن يقول: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ نص في التعمد وسوء القصد، وإبطال لما عساه يعتذر لهم به من سوء الفهم، ثم قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي كانوا يفعلون فعلتهم الشنعاء في حال العلم بالصواب واستحضاره لا أنهم كانوا على نسيان أو ذهول، وفى هذين القيدين من النعي والتشنيع عليهم مالا مزيد عليه، وكيف وقد بطل بهما عذر الخطأ والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
7. بعد هذا الاحتجاج انتقل إلى بيان بعض أحوال الذين كانوا في زمن التنزيل وقد غير الأسلوب هنا، فإنه كان يحكى سيئاتهم مبتدئا بكلمة (وإذ) لأنه تذكير بما كان في الزمان الماضي والابتداء بكلمة (إذا) هنا هو المناسب في الحكاية عن حال واقعة في الحال، مستمرة في الاستقبال.
8. المراد من حكاية أحوال الحاضرين، بيان أنها مساوية لأحوال سلفهم الغابرين، وأنه لا يرجى من هؤلاء أفضل مما كان من أولئك.
9. ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح، وهى أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة لا ينظرون إلى الحق، فيتحروا اتباعه أين كان، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة. يقولون: نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله، فنكون من الخاسرين، ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله، ويذل أهله، فنكون مع الضالين، فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين: فيكونون هكذا مذبذبين كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾
10. الضمير في ﴿قَالُوا﴾ الثانية غير الضمير في ﴿قَالُوا﴾ الأولى كما هو ظاهر من السياق، ولا لبس فيه ولا اشتباه، ومثله مستفيض في كلام البلغاء وفى التنزيل أيضا كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، فان المنهى عن العضل الأولياء لا المطلقون، والكلام في القرآن للمكلفين كافة فيوجه كل كلام إلى صاحبه الذي يتعين أن يكون له بقرينة الحال أو المقال، فاذا وجه الخطاب بالطلاق إلى الأزواج لأنه لا يكون إلا منهم، فكذلك يوجه الخطاب بالنهى عن العضل ـ وهو منع المرأة من التزوج ـ إلى الأولياء لأنه لا يكون إلا منهم، وعلى هذه الطريقة يتخرج قوله: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾، وقوله: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ فالكلام في مجموع اليهود، ويوجه الأول إلى الذين يلاقون المؤمنين، والثاني إلى الذين يلاقيهم هؤلاء من قومهم ويعدلونهم على الافضاء إلى المؤمنين بما فتح الله عليهم.
11. المراد بالفتح هنا الانعام بالشريعة والأحكام؛ والبشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، شبه الذي يعطى الشريعة بالمحصور يفتح عليه فيخرج من الضيق، أو معنى ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الايمان بالنبى الذى يجيئكم مصدقا لما معكم ونصره.
12. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ :
أ. معناه يقيمون به عليكم الحجة من كتاب ربكم، وهو التوراة من حيث إن ما تحدثونهم به موافق لما في القرآن، فلهم أن يقولوا: لولا أن محمدا نبيّ لما علم بهذا الذي حكاه عنكم، وقد كان مثلنا لا يعرف من أمر الكتاب شيئا: هذا ما جرى عليه المحققون في تفسير ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ وهو أنه بمعنى في كتابه، فهو كقوله في أهل الافك: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي في حكمه المبين في كتابه.
ب. وذهب آخرون إلى أن معناه المحاجة في الآخرة والنظم لا يأباه، ولكن فيه اعترافا من اللائمين المؤنبين بأن المسلمين على الحق الذي لا ينجى عند الله سواه، ومن اعتقد هذا لا يجعله تعليلا للإنكار على من يراه من قومه يحدث المؤمنين بما يوافقهم ويقوى حجتهم، بل فيه أيضا ان ترك تحديثهم لا يمنعها في الآخرة.
13. مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الارادة والعلم، ولو كان لأولئك القوم ارادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة، وقد وبخهم الله تعالى وأنكر عليهم هذا التلون والدهان في الدين ولقاء كل فريق بوجه يظهرون له ما يسرون من أمر الآخر فقال: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، يعنى أيقول اللائمون أو المنافقون كلهم ما قالوا، ويكتمون من صفات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كتموا، ويحرفون من كتابهم ما حرفوا، ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من اظهار ايمان ورد، فان كانوا مؤمنين بإحاطة علمه تعالى فلم لا يحفلون باطلاعه على ظواهرهم، واحاطته بما يجول في أطواء ضمائرهم، وبما يترتب على علمه من خزى في الدنيا وعذاب في الآخرة.
__________
(1) تفسير المنار: 1/355.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّق لما معهم، فقصّ الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحلّ بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين.
2. قد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته إياك، فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحى، ومصاحبته إلى حيث يناجى ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه ـ ثم كان منهم أن حرّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهى كتابهم المقدس.
3. لا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرّفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدى موسى عليه السلام، فأحر بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهى القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجئوا إلى السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان.
4. ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة.
5. أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان.
6. الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه: أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله: وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.
7. خلاصة المعنى: استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك.
8. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.
9. ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد.
10. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ﴾ أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي في حكمه وكتابه، وقوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.
11. أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجيء مصدقا لما معهم كي يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن، ولولا أن محمدا نبيّ لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.
12. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كتموا، ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟ ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شيء علما، فلم لا يخشون بأسه، وهو المطّلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة؟
__________
(1) تفسير المراغي: 1/149.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي.. صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة، ولا يلين لها ممس، ولا تنبض فيها حياة.. وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية.
2. في ظل هذا التصوير، وظل هذا الإيحاء، يلتفت السياق إلى المؤمنين، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان، وأن يفيضوا عليها النور.. يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة، وبالقنوط من الطمع: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
3. ألا إنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان طبيعة أخرى، واستعداد آخر.. إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة، مفتحة المنافذ للأضواء، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء، وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى.. هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله، ثم تحرفه من بعد تعقله.. تحرفه عن علم وإصرار.. فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة، تتحرج من هذا التحريف والالتواء.
4. الفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته.. لا عن جهل بحقيقة مواضعه، ولكن عن تعمد للتحريف، وعلم بهذا التحريف.
5. يدفعهم الهوى، وتقودهم المصلحة، ويحدوهم الغرض المريض! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى عليه السلام ومن باب أولى ـ وهذا خراب ذممهم، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه ـ أن يعارضوا دعوة الإسلام، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب!
6. أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وهم يضيفون إلى خراب الذمة، وكتمان الحق، وتحريف الكلم عن مراضعه.. وقد كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا.. أي آمنا بأن محمدا مرسل، بحكم ما عندهم في التوراة من البشارة به، وبحكم أنهم كانوا ينتظرون بعثته، ويطلبون أن ينصرهم الله به على من عداهم، وهو معنى قوله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
7. ولكن: ﴿ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ﴾.. عاتبوهم على ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معرفتهم بحقيقة بعثته من كتابهم، فقال بعضهم لبعض: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ .. فتكون لهم الحجة عليكم؟
8. وهنا تدركهم طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه؛ فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين.. أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة!
9. وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .. فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون عنه مثل هذا الحديث!
10. من ثم يعجب السياق من تصورهم هذا قبل أن يمضي في استعراض ما يقولون وما يفعلون: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/84.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. فيما عرض الله سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل، ما قد يدخل منه على الشعور بأن القوم أهل لهذه النعم، وأن الله قد اصطفاهم دون عباده، إذ ساق إليهم تلك النعم وغمرهم بها، ولكن الأمر على خلاف هذا، فإنه ما ذكر القرآن نعمة أنعمها الله على بنى إسرائيل إلّا جاء بعدها التنديد بهم والوعيد لهم، واللعنة عليهم، بسبب مكرهم بآيات الله، وكفرهم بنعمه، وما زالت نعم الله تتوالى عليهم، وما زالت نقمه تنصبّ عليهم، حتى خرجوا من عالم الإنسان إلى عالم القردة والخنازير.. وهكذا، على قدر النعم يكون الابتلاء، فمن حفظها حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله!
2. في أعقاب قصة البقرة ذكر الله ما في قلوبهم من قسوة دونها قسوة الحجارة وبلادتها، وإنها لقسوة وبلادة أصبحت جبلّة وطبيعة فيهم، بحيث تنقلت في أجيالهم إلى أن التقت بعض ذراريهم بالدعوة الإسلامية، وبصاحب الدعوة، النبيّ الأمي|، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. وإذا هؤلاء الأبناء ليسوا خيرا من آبائهم، وإنه لا مطمع في استجابتهم للدعوة الإسلامية، ولا رجاء في انتفاعهم بها.. إنهم يمكرون بآيات الله كما مكر آباؤهم بها.. يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، أي إنهم يحرفون عن عمد ويضلون على علم، وتلك هي قاصمة الظهر، فلو أنهم حرّفوا عن سهو أو أخطئوا عن جهل، لكان لهم وجه من العذر، ولكنهم عن عمد حرفوا، وعلى علم ضلّوا وأضلوا.
3. ثم إن لهم مكرا آخر مع الدعوة الإسلامية، عدا التحريف فيها، والتشويش عليها.. إنهم يلقون المؤمنين بوجه المنافقين، يقولون لهم آمنا بما تؤمنون به، وذلك منهم على سبيل الاستهزاء المتستر وراء نفاقهم المفضوح.
4. ثم إن لهم مكرا غير هذا المكر أيضا، حين يخيل إليهم جهلهم أن دعوة الإسلام قائمة على خواء، وأنها تتلمس من خارج محيطها القوى التي تسندها وتشدّها، ولهذا فهم يتناجون ويتناصحون: ألا يتحدثوا إلى المسلمين بما عندهم من علم التوراة وأخبارها، حتى لا يتخذ المسلمون من ذلك حججا يقيمونها في وجه اليهود! وكذبوا وضلوا، فما قامت الدعوة الإسلامية إلا على الحق، فمن الحق منزلها، وبالحق نزلت، رحمة وهدى للناس!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/100.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الطمع: ترقب حصول شيء محبوب، وهو يرادف الرجاء، وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل (أن)
2. إنما نهينا عن الطمع في إيمانهم، لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان، وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم، وفي الآخرة أيضا، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانه حكم على غالبهم وجمهرتهم، أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم.
3. لا علاقة لهذا بمسألة التكليف بالمحال؛ فالله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال: كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال.
4. اللام في قوله: ﴿لَكُمْ﴾ لتضمين ﴿يُؤْمِنُوا﴾ معنى يقرّوا وكأنّ فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل، ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة: 146] الآية فما أبدع نسج القرآن.
5. يجوز حمل اللام على التعليل، وجعل ﴿يُؤْمِنُوا﴾ منزّلا منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم، وهم أخص الناس بهم، أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.
6. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم، فيكون قد علل هذا الإنكار بعلتين: إحداهما بالتفريع على ما علمناه، والثانية بالتقييد بما علّمناه.
7. ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أومن الحاضرين في زمن نزول الآية.. وسماعهم كلام الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى، أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاؤوا من بعده.. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام، وأيّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم.
8. التحريف: أصله مصدر حرّف الشيء إذا مال به إلى الحرف، وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، ولمّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببينات الطريق. قال الأشتر:
بقّيت وفرى وانحرفت عن العلى... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
ومن فروع هذا التشبيه قولهم: زاغ، وحاد ومرق، وألحد، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: 11]، فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به، إما بتبديل، وهو قليل، وإما بكتمان بعض وتناسيه، وإما بالتأويل البعيد، وهو أكثر أنواع التحريف.
9. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ حال من ﴿فَرِيقٌ﴾ وهو قيد في القيد يعني يسمعونه، ثم يعقلونه، ثم يحرفونه، وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا:
أ. إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم، فالغالب أن يكون خلقهم واحدا، وطباعهم متقاربة، كما قال نوح عليه السلام: ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 27]، وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها.
ب. أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم، فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها، فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا، فاعلم أن العامة أفظع وأشنع، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
10. الأظهر أن الضمير في ﴿لَقُوا﴾ عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة: 75] وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاق أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله: ﴿آمَنَّا﴾ وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: 232] لأن ضمير ﴿طَلَّقْتُمُ﴾ للمطلقين، وضمير تعضلوا للأولياء، لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة، وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول: لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك)، وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم، ويكون الضمير في قوله: ﴿بَعْضُهُمْ﴾ عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر، ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في ﴿يَعْلَمُونَ﴾ و ﴿يُسِرُّونَ﴾ و ﴿يُعْلِنُونَ﴾ بلا كلفة.
11. جملة ﴿ إِذا لَقُوا ﴾ معطوفة على جملة ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 75] على أنهم حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا.
12. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ﴾ معطوف على ﴿ إِذا لَقُوا ﴾ وهم المقصود من الحالية أي والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير ﴿بَعْضُهُمْ﴾ راجع إلى ما رجع إليه ﴿لَقُوا﴾ وهم عموم اليهود.
13. ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ﴾ استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث فيما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم، والظاهر أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم، وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن، فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار: أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا، وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله:
واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن... يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا
فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية، ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير، وأنهم ذهبوا يتجسسون، فكشفوا أحوال قومهم، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين: إن النبي مذكور في التوراة، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.
14. المراد ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ﴾ :
أ. إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب، فإن الفتح بمعنى القضاء، وعليه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 89]، والفتاح القاضي بلغة اليمن.
ب. وإما بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 89] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين، فالمعنى بما علمكم الله من الدين.
15. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين، بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.
16. اللام في قوله تعالى: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ لام التعليل، لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا لاستعمال الاستفهام في الإنكار، أو التقرير مجازا، فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار، والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة، وكانت المحاجة به عند الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسئول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم، وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة، فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام، ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضا.
17. الأظهر أن قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ وذلك يوم القيامة لا محالة، أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به، وذلك جار على حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه، وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية، فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم، وتجد كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا، وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون، وكقولهم في سفر التكوين: وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر)، وقال فيه: ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته) وجاء في التكوين أيضا: لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له: إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت (رفقة) أمهما ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت: اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال: يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة فقالت: اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال: يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه (أي جعله نبيئا) وجاء عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه: باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك..)، فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة، وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام، ففسروا (عند) بمعنى الكتاب، أو على حذف مضاف، أو حذف موصول، ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب.
18. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: 75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.
19. سؤال وإشكال: لم لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ والجواب: ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك، وإنما يحكي منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم، فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾، وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ فلأن فيه التسجيل عليهم في قولهم فيه: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾
20. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾ الاستفهام فيه على غير حقيقته، فهو:
أ. إما مجاز في التقرير، أي ليسوا يعلمون ذلك، والمراد التقرير بلازمه، وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله، وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي.
ب. أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو هو.
ج. أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية، وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/550.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الفاء مؤخرة عن تقدم، لأن الاستفهام له الصدارة، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم، وكفر متوال بأنعم الله تعالى، والاستفهام إنكاري بمعنى النهى، لأنه إنكار للواقع، إذ الواقع أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم، فينكر الله تعالى عليه ذلك، ويكون الاستنكار بمعنى النهى، أي لا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء، فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم، بل إنه يلقى باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم، ويخلصون في دعوتهم.
2. ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ التعدية باللام؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم، وآمنوا:
أ. تتعدى بالباء إذا كان ما بعدها هو الذي يؤمن به كقولك: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
ب. وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي، ومن ذلك: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾، ومثل قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾
ولذلك كان التعدي هنا باللام، إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة، وإما لأن اللام للتعليل، أي لا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتكم، فهم ميئوس من إيمانهم لما كان منهم في الماضي وما يكون منهم في الحاضر.
3. بين الله تعالى سبب الغواية في جملة حالية وهى ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة:
أ. قال كثير من مفسري السلف: إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام، ولكن ذلك بعيد، إنهم سمعوا كلام الله تعالى من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وعقلوه، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا، وإفساد الحقائق وقد فهموها.
ب. وبعض المفسرين يرون أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعقلوه، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه، ثم بعد ذلك يحرفونه، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا، غير دال على حقيقة ما يريد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم فريقان: سامع محرف، ومعرض ابتداء لا يحضر في المجلس النبوي.
4. التحريف في الكلام له معنيان:
أ. أحدهما التغيير في معناه، بأن يحرفوه على طرف من المعنى، بأن يخرجوه عن لب معناه إلى طرف من أطرافه؛ لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول.
ب. والتحريف إمالة القول إلى غير معناه، وهذا هو النوع الثاني، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه (تحريف الكلام) أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عزّ وجل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ .
5. التعريض ب ﴿ثُمَّ﴾ يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.
6. أخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها.
7. أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم، وغاية عملهم، فقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه، ويعرفون مرماه ومقصده، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين.
8. سؤال وإشكال: تذكر هذه الآية أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعهم، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق؟ والجواب:
أ. أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا عن سماع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له، فهم كانوا على سواء.
ب. وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى، سمعوا من موسى وحرفوه، فقبله الآخرون وهم راضون، فكانوا مع غيرهم على سواء، ولا فرق بينهم.
9. إذا كان الفريق الذي حرّف في عهد موسى عليه السلام أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح.. وقد أثبت كتّاب النصارى أن التحريف لا يزال يجرى في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد، وفي كتاب (ذخيرة الألباب) لأحد كتاب النصارى، بين بطريق لا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) أن التغيير والتبديل لا يزال يجرى إلى الآن في كتبهم.. ورغم ذلك، فإن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير.
10. كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف.
11. ذكر الله تعالى أحوال بنى إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم وإن لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاؤوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكّم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا، وإذا كانت تلك حالهم في الماضي والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم: ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لا مطمع في إيمانهم؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لا مطمع في إيمانه.
12. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق.. وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة، فحفظوا المظهر بما أظهروه، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر.
13. ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم، وهى أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾
14. هذ وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ إلى آخر الآيات التي ساقها القرآن الكريم، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم.
15. وهذه الآية أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لا يعلم خفى أمرهم، فهو نوع من النفاق أضلهم، فإذا خلا بعضهم إلى بعض، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا، والذين لم يلقوا الرسول، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي بما حكم الله تعالى به عليكم، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾
16. ما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاءهم، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم.
17. عللوا لوم إخوانهم بقولهم: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي ليكون حجة عليكم عند ربكم، يحاجونكم به، والاعتراف حجة ظاهرة، وهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل:
أ. أولهما ـ أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم، وهو عالم الغيب والشهادة، وعالم السر والجهر، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه، وبالحق الذي أمرهم باتباعه.
ب. وثانيهما ـ أنهم يحسبون أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند اليهود إلا بإقرارهم أمام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمؤمنون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
18. بيّن الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن المعقول، فقال تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة، والفاء للإفصاح، والاستفهام داخل على نفى، فهو من قبيل نفي النفي، وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا، ويتفكروا ويتدبروا، ويدركوا ما يؤدى إليه كلامهم، وهو بعده عن كل معقول، فهم يتصورون أن الله تعالى لا يعلم حالهم، وما أخذ عليهم من مواثيق، وما وضع من إشارات إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجونهم عند الله بهذا الاعتراف، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم.
19. قد يفسر قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ على أنه من كلام بعضهم، ويكون معناه على أنه من لسانهم، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته.. وإنهم ممعنون في الجهل بالله سبحانه وتعالى، وظنهم أن الله تعالى لا يعلم ما يخفون وما يبدون، وإنه لا فائدة في أن يحدثوا النبيّ والمؤمنين، لأن الله تعالى بكل شيء عليم.
20. ولذلك قال تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ هذا استفهام إنكاري لجهلهم، وتوبيخ لهم على عدم علمهم، فالاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه عطف ما بعده والمعنى أيقولون ما يقولون من ذلك القول، ولا يعلمون أن الله ـ جل جلاله ـ وقد أحاط بكل شيء علما ويعلم ما يسرونه وما يجهرون به، وما يعلنونه للناس، يعلم ما تخفى صدورهم، ويعلم ما يجهرون، وفى بيان ذلك العلم تهديد بالجزاء الذي ينتظرهم، فهو سبحانه يعلم ما يفعلون، وما يخالفون به مواثيقهم وعهودهم، وما ينكثون به في أيمانهم، ومؤاخذهم به.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/276.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كل صاحب رسالة يحرص كل الحرص على أن يؤمن الناس بها، فيبث الدعوة لها في الأوساط أملا أن يكثر أتباعها وأنصارها، ويتحمل في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب، وهكذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه.. بثوا الدعوة الى الإسلام في كل وسط رجوا أن يكون لها فيه أتباع وأنصار، وكان بين الأنصار ويهود المدينة علاقة جوار ورضاعة وتجارة، فدعوهم الى الإسلام بأمر النبي، وناظروهم بالحجة الدامغة، والمنطق السليم، وطمعوا أن تتحرك فيهم العاطفة الانسانية، بخاصة وانهم أهل كتاب، وبوجه أخص ان أوصاف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وردت في توراتهم تصريحا أو تلميحا.
2. لما أصر اليهود على رفض الدعوة، والاستمرار في الكفر ومعاندة الحق خاطب الله نبيه الكريم وأصحابه بقوله: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾، وقد كان أسلاف هؤلاء اليهود يسمعون كلام الله من موسى عليه السلام مقترنا بالآيات والمعجزات، فيحرفونه ويتأولونه حسب أهوائهم، على علم منهم بالحق، وتصميم على مخالفته، وما حال يهود المدينة إلا كحال أسلافهم.. حرّف السلف، وجعل الحلال حراما، والحرام حلالا تبعا لهواه، وحرف الخلف أوصاف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الواردة في التوراة، كي لا تقوم عليهم الحجة.
3. في هذه الآية دلالة أيضا على ان من اتّبع الضلال لا يسيء الى نفسه فقط، بل يمتد أثر إساءته الى الأجيال، ويتحمل وزر عمله، وعمل من اتبعه على الغواية والضلالة، كما جاء في الحديث الشريف.
4. كان بعض يهود المدينة ينافقون ويكذبون على المسلمين، ويقولون لهم: نحن مؤمنون بالذي آمنتم به، ونشهد ان محمدا صادق في قوله، فلقد وجدناه في التوراة بنعته وصفته، وإذا خلا هؤلاء المنافقون برؤسائهم أخذ الرؤساء في لومهم وتوبيخهم، وقالوا لهم فيما قالوا: كيف تحدثون المسلمين بما حكم الله به عليكم من أتباع محمد؟.. ألا تفقهون بأن هذا اقرار منكم على أنفسكم بأنكم المبطلون، وهم المحقون؟
5. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ . أي مهما حرص المنافقون على إخفاء نفاقهم، والرؤساء الضالون على توجيه أتباعهم فان الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.. فأنتم أيها اليهود تكتمون في دسائسكم ومؤامراتكم، والله سبحانه يعلم بها رسوله الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويذهب كيدكم هباء.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/132.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السياق وخاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، وخاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعندهم علم الدين والكتاب، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، وكان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا، فيتأيد بذلك، ويظهر نوره، وينتشر دعوته، ولما هاجر النبي إلى المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، والطمع يأسا، ولذلك يقول سبحانه: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾، يعني أن كتمان الحقائق وتحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا ونقضهم ما أبرموا.
2. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي والذين آمنوا، ووضعهم موضع الغيبة، وكان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مر، أريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى، فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.
3. لا تقابل بين الشرطين، وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم:
أ. أحدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صونا لأنفسهم من الإيذاء والطعن والقتل.
ب. وثانيهما: أنهم يريدون تعمية الأمر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم.
4. ذلك أن العامة منهم، وهم أولو بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشي للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه، فلم يؤاخذهم بذلك، ولازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الأمر، دون سره وباطنه وهذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ ) الآية فإن هذا النوع من العلم ـ وهو ما يتعلق بظاهر الأمر دون باطنه ـ إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل أخرى مادية وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.
5. هذا من شواهد أن بني إسرائيل لإذعانهم بأصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الأحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة، مستعليا قاهرا عليه، ولكن بعين ما تفعل علة مادية وتستعلي وتقهر على معلول مادي.
6. هذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن بأصالة المادة من المليين وغيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحياة والعلم والقدرة والاختيار والإرادة والقضاء والحكم وتدبير الأمر وإبرام القضاء إلى غير ذلك، وهذا داء لا ينجع معه دواء، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق ولا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا: إن المسلمين يروون عن نبيهم أن الله خلق آدم على صورته وهم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع أحكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلا إن ما يبين أوصافه تعالى من الألفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي فلقولنا: إنه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها ولا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، ولا زائل، ولا جاهل، ولا عاجز ولا ميت، فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بأنهم يؤمنون بما لا يدرون، ويعبدون ما لا يفهمون، ويدعون إلى ما لا يعقلون، ولا يعقله أحد من الناس، وقد كفتهم الدعوة الدينية مئونة هذه الأباطيل بالحق، فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول ولب الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شيء لا كالأشياء وإن له علما لا كعلومنا، وقدرة لا كقدرتنا، وحياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، وعلى الخاصة أن يتدبروا في آياته ويتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ : الزمر ـ 9، والخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/213.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ مع قسوتهم هذه ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه كلام الله.
2. يصنعون ذلك بكلام الله من التوراة التي هي كتابهم، لا يتحرجون منه، ولا يخافون لقسوة قلوبهم، ومن كان كذلك لا يرجى منه إيمان لكم وقبول منكم.
3. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ خداعاً ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يوم القيامة يحتجون عليكم بما أقررتم به في الدنيا ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ لأن من شأن العاقل أن لا يعين على نفسه.
4. ﴿ أَ ﴾ يقولون هذا ﴿ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ كما هو اللائق بمن يقول ذلك، فهم حينئذ أحق أن يعاب عليهم وينكر عليهم مخالفة العقول، فإن كانوا يعلمون ذلك، فكيف لا يعلمون أنه سواء في علم الله حدثوهم أم لم يحدثوهم حاجوهم به أم لم يحاجوهم به!؟ وأين عقولهم حين ينكرون على أصحابهم التحديث ويعتبرونه مخالفة للعقول!؟ أما إذا أنكروا عليهم التحديث وهم لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، فهم أجهل وأجهل ممن يعيبون عليهم التحديث!
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/135.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ هذا خطاب للنبي وللمؤمنين معه الذين كانوا يطمعون في إيمان اليهود في المدينة لأنهم أهل كتاب، فقد اطلعوا على ما في التوراة من حقائق العقيدة والشريعة والبشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مما جاء القرآن مصدّقا له، الأمر الذي يجعل الحقيقة الإسلامية واضحة أمامهم بحيث لا مجال فيها لأية شبهة، بل قد تكون المسألة في الوجدان الإسلامي للمسلمين في علاقتهم باليهود أنهم قد يتحولون إلى دعاة للإسلام من موقع الوعي العقيدي المرتكز على العلم الذي حصلوا عليه من التوراة.
2. لكن القرآن يؤكد للمسلمين أن المشكلة لدى هؤلاء ليست كالمشكلة لدى غيرهم من الكافرين، وهي مسألة جهلهم بالإسلام وبالحقائق الكامنة فيه، ليحتاج النبي إلى جهد كبير في تعليمهم الكتاب والحكمة والدخول معهم في حوار طويل، بل المشكلة مشكلة عناد مع سبق الإصرار، انطلاقا من أن قضية الدين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي، بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعا اجتماعيا متقدما، وربحا ماديا كبيرا، مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق، ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم، ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف، ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم، كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: 51] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان، والهدى الإسلامي في توحيد الله في العقيدة والعبادة.
3. لذلك فإن قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد، بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات، وهذا هو النموذج الذي تمثله القوى المتقدمة فيهم.
4. ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحق في الدين الجديد والصدق في النبي المرسل.
5. ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ ويؤوّلونه، ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر، لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ وعرفوه في عمقه وامتداده بحيث لم تكن هناك شبهة، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ويجعلون الحرام حلالا والحلال حراما، ويقولون: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين، بحجة أن التوراة تبيح لهم ذلك.. فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك، لأن الإيمان لا بد من أن يتحرك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحق، وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر.
6. كان هذا الاتجاه المتحرك من موقع الأمل الكبير يشكّل خطورة على مسار العمل الإسلامي:
أ. لأن ذلك يضيّع كثيرا من الجهود الفكرية والعملية التي يحتاج الإسلام إلى بذلها في مجال آخر نافع، باعتبار أن إيمانهم ليس واردا في حسابهم في واقع الحال.
ب. ولأن ذلك يسلم المسلمين إلى السذاجة الروحية، وفقدان الحذر اللازم، عندما يدخل بعض اليهود في الإسلام، فيحصلون على الثقة التي تمنحهم حرية التحرك في تخريب الإسلام من الداخل، انطلاقا من صفة الإيمان التي حصلوا عليها.
ج. ولأن إغفال المعرفة الحقيقية لما هم عليه، يعطّل على المسيرة الإسلامية التحرك الفعلي ضد المخططات التي كانوا يرسمونها في الخفاء للقضاء على الإسلام والمسلمين.
7. على ضوء ذلك، نشعر بأن عملية تعرية الواقع الحاضر، بعد عملية تعرية التاريخ، ضرورة لحفظ الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي من أخطار السذاجة والتضليل؛ وذلك بالالتفات إلى أن هداية أيّ شخص لأية فكرة تتوقف على شرط الاستعداد النفسي لتقبّل هذه الفكرة أو الإيمان بها، وخاصة في الحالات التي يعيش فيها البساطة الذهنية والقلق الروحي إزاء معرفة المجهول، فعندها يكون مستعدا للأخذ والرد والدخول في عمليات الحوار في مختلف الجوانب.. أمّا هؤلاء، فقد أغلقوا نوافذ أفكارهم عن كل شيء جديد، لأنهم لا يتعاملون مع الحق بروحية الإيمان الذي يبحث عن الفكرة ليرتبط بها، بل بعقلية التاجر الذي يريد أن يحقق لنفسه الربح المادي الوفير من خلاله، فإذا فقد هذه الفرصة اتجه إلى التحريف، ليستطيع أن يحقق لنفسه رغباتها على أساس ذلك، وهذا ما عرفوه من آيات الله في التوراة، فقد عرفوا الحق من خلالها كأوضح ما يكون، ولكنهم حرفوه عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يحققوا لأنفسهم فيه مكسبا ومطمعا ذاتيا.. وفي ضوء ذلك، لا مجال لأي تفكير أو طمع رسالي بهدايتهم أمام هذه الروح الغارقة في الضلال.
8. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ بما جاء به النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأننا نجد صدقه فيما لدينا من التوراة التي بشرت به، كما نجد فيها الكثير من تفاصيل الشريعة الإسلامية التي تلتقي مع الكثير من أحكام شريعتنا، ولذلك فإننا لا نجد أي مبرر لإنكار الإسلام.
9. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ وتحادثوا بما قالوه للمسلمين من حقائق الإسلام في حقائق التوراة، ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ من العلم الذي يمكن أن يكون حجة عليكم، إذا انفتح الصراع بينكم وبينهم في ساحاته، كما يكون حجة لهم عليكم عند ربكم، من خلال إقراركم بأنهم على الحق، على أساس ما تملكونه من حقائق التوراة المصدّقة لما يدعون إليه أو يؤمنون به
10. ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ إذا لم تلتزموا الدين الذي يلتزمونه، بعد إقراركم به؛ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وتفكرون بالنتائج السلبية التي تحصل لكم من ذلك كله.
11. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، فليست المسألة في قيام الحجة عليهم عند الله أنهم يحدثون المسلمين بما في التوراة، بل المسألة هي المعرفة التي يملكونها، فيتحملون مسئولياتها تجاه أنفسهم وتجاه الناس الآخرين في الإقرار بالحق، والإيمان به، والدعوة إليه في كل مكان وزمان.
12. يمكن للبعض أن يدخل في الإيمان ظاهرا من أجل التوصل إلى مكاسب ذاتية أو تحقيق مخططات تخريبية ضد الإسلام والمسلمين، وقد يدفعه ذلك إلى إبراز ما تشتمل عليه التوراة من دلائل وبراهين على صدق النبي في رسالته للتدليل بذلك على إخلاصه للإسلام، حتى إذا خلا بعضهم إلى بعض، وأفاضوا في الحديث عمّا قالوه للمسلمين وما قاله المسلمون لهم في نطاق الخطط المرسومة لديهم، وقف أصحابهم للتنديد بهم على هذا الاسترسال في الحديث بما فتح الله عليهم من التوراة، لأن ذلك سيكون حجة للمسلمين عليهم أمام الله يوم القيامة، انطلاقا من إقرارهم بأحقية الإسلام، وذلك خلاف الحكمة والعقل، ولكن الله يواجههم بسذاجة تفكيرهم فيما يخافونه من الاحتجاج عليهم بذلك، لأنهم إذا كانوا يؤمنون بالله، فينبغي أن يدفعهم إيمانهم إلى الشعور بأن الله مطّلع على سرهم وعلانيتهم، فلا يحتاج إلى إقرارهم ليقيم الحجّة عليهم.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/97.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1455 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بما أن أهل الكتاب على بقية من علم النبوات لما بقى في أيديهم، على أصله من الكتاب الذي أوتوه، كان المؤمنون يرجون منهم المسارعة إلى الإيمان بالنبي الخاتم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، إذ ليس شأنهم في ذلك كشأن العرب الأميين الذين طال بهم العهد في ظلمات الجاهلية، فلم يبق لهم شيء من نور الوحي يهتدون به، فعداوتهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ناشئة عن جهلهم الذي يشامله أحيانا الحسد الناشئ عن تنافس البيوتات في الشرف والرفعة.
2. أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن خفيا عند أهل الكتاب، فإن الله قد أودع ما عندهم من الكتاب من نعوته الكاشفة عن حقيقة أمره وآياته الدالة على صدق نبوته ما لا يدع لهم مجالا للشك فيه، ولا عذرا في ترك تصديقه ومناصرته على ما جاء به من الحق، كيف وهم أقرب الناس عهدا بالنبوات والوحي؟ وقد أخذ الله عليهم الميثاق بألسنة أنبيائهم أن يؤمنوا به ويناصروه: ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾
3. هذا العهد وإن كان في ظاهره مأخوذا على النبيين فهو حقيقته، مأخوذا على أممهم لأن الله علم أن أولئك النبيين لن يدركوا عهد نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما تدركه أعقاب أممهم، فكان هذا الواجب حتما عليهم، وهذا العهد لازما في رقابهم، وما كونه على ألسنة النبيين دونهم إلا إمعان في توكيده، فإن الهدى لم يأتهم إلا من طريقهم، والحق لم يدركوه إلا ببيانهم، فنكثهم لهذا العهد ما هو إلا رد لما جاءهم به أنبياؤهم من الحق والهدى.
4. ظل صوت البشارة الإلهية بمبعث خاتم النبيين يتردد في أسماع أهل الكتاب من تلاوة الكتاب الذي أوتوه لم يخفته التحريف الذي شوه وجه ذلك الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، متطلعين إلى مبعثه بكل لهفة وشوق، غير أن الحسد بأن كان من ولد إسماعيل ولم يكن من ولد إسرائيل هو الذي حال بينهم وبين إتباعه عندما منّ الله به على الإنسانية.
5. نظرا إلى ما كان بأيديهم من الحق الذي أنزله الله على النبيين وقرب عهدهم بالرسالات كان المسلمون يميلون إليهم بأفئدتهم، ويتعاطفون معهم في محنتهم، فلذلك حزن المسلمون عندما ارتد الجيش الرومي النصراني القهقري أمام الزحف الساساني المجوسي، لأن المجوس ـ وإن قال من قال بأن أصولهم الدينية ترجع إلى وحي سماوي ـ هم أبعد عهدا بالنبوات وأشد كفرانا من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ ولكن المسلمين أصيبوا بصدمة مؤلمة عندما وجدوا أهل الكتاب ـ وخصوصا اليهود ـ يقفون في وجه دعوة الحق وقفة عداء لا يقل عن عداء المجوس ومشركي العرب ولم يكتفوا بتجاهل ما عندهم من العلم بنبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنكاره، بل أخذوا يؤلبون عليه المشركين، وعندما سألتهم قريش هل نحن أهدى أو محمد وأصحابه؟ قالوا: بل أنتم أهدى منهم، ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾
6. بعد سرد مناكرهم المتنوعة في قصتهم الطويلة المذكورة من قبل جاءت تسلية المؤمنين في هذه الآية عما كانوا يطمعون فيه من إيمانهم بأسلوب الاستفهام التعجيبي المشوب بالإنكار، أي إذا كانت هذه قصتهم مع النبي الذي أنجاهم الله تعالى به من أشرس عدو، وأراهم على يديه أعجب الآيات، وأسبغ عليهم في ظل دعوته صنوف الآلاء، فكيف تطمعون مع ذلك في إيمانهم؟ وهذا كما تحدث أحدا بمساوئ أحد وبعد استطرادك في تعدادها تخاطب كليمك بقولك: أفتطمع مع هذا كله في استقامته وإقلاعه عن غيه.
7. الطمع: المبالغة في الرجاء الناشئ عن تعلق القلب بالمرجو، فهو أخص من مطلق الرجاء، لأن الرجاء كثيرا ما يكون مقترنا بسبب، وأما الطمع فهو مقطوع عن الأسباب ما عدا الشغف بالمطلوب.
8. ما ذكره الله تعالى عنهم لا ينافي وجوب دعوتهم إلى الإيمان لأن هذه هي مهمة المرسلين وأتباعهم، وذلك كما قال الحق تعالى: ﴿ ثم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، فما على المرسلين وأتباعهم إلا إبلاغ الدعوة وإقامة الحجة، والأعذار بالبشارة والإنار، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾، وإنما يستفاد من الآية الكريمة نهي المؤمنين عن الاسترسال في رجاء إيمانهم إلى حد أن يتخذوا منهم بطانة لما يترتب على ذلك من المفاسد في الدنيا والدين.
9. اختلف في المراد بكلام الله الذي سمعه هذا الفريق ثم حرفه من بعد ما عقله:
أ. قيل المراد به كلام تعالى لموسى عليه السلام في الطور، والفريق هم السبعون الذين صحبوه إلى ميقات ربه، وسألوه رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة، ولك أنهم قالوا لموسى عليه السلام قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا فأسمعنا كلامه حين يكلمك.. وهو يقتضي أن السبعين سمعوا كلام الله كما سمعه موسى عليه السلام، واختار هذا القول أبو السعود وعضده بأن اسم الكلام أدل على المذكور منه على التوراة، لأنها باسم الكتاب أشهر، ووصف اليهود بتلاوتها أكثر، لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف، فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع، فكان الأنسب لو كانت هي المقصودة بالكلام أن يقال يتلون كتاب الله.. وضعّف كل من ابن عطية والقرطبي هذا القول وقالا بتخطئة من قال: إن السبعين سمعوا ما سمعه موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، ونحوه ما قاله ابن عاشور وصححه الألوسي وهو أن سماع الكلام كان خاصا بموسى عليه السلام، وذهب الأئمة في الهيميان إلى جواز سماعهم كلام الله مع موسى عليه السلام، وأن ذلك لا يبطل خصوصية موسى بالتكليم لأن الخطاب إنما كان لموسى لا لهم معه، ولو كان بصيغة خطابهم، وإنما خاطبه بما يفعل ويفعلون، وما يترك وما يتركون، ووجه الكلام إليه وهم يسمعون بإذن الله تعالى.
ب. وقيل المراد به التوراة لأنها من وحي الله وتنزيله، ويصدق عليها أنها كلامه تعالى، كما قال الله في القرآن: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾، وعليه فهذا الفريق من أحبارهم الذين كانوا يتلون التوراة، وكانت ألفاظها ترن على أسماعهم بتلاوة كل منهم لها، وبسماع بعضهم إياها من تلاوة بعض، ثم يحرفونها بعدما وعوا مقاصدها، وأدركوا مراشدها بتبديل كلمها وتوجيه تأويلها إلى غير مراد الله، كما حرفوا نعوت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حسدا له ولقومه، وكان صدور لك منهم بعد عقلهم للمراد بها، ومع علمهم أنها عهد الله إليهم، وبما يترتب على قطع العهد من سخط الله الموجب لعقوبته.
10. القول بأن المراد به التوراة أظهر مما قبله، فإن الخطاب موجه إلى المؤمنين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين كانوا يطمعون في إيمان معاصريهم من أهل الكتاب، والمراد به بيان أن هذا الطمع ليس في محله لأن إعراض أهل الكتاب عن الإيمان ليس ناتجا عن جهلهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدقه فيما يقوله عن ربه، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما يجدونه من صفاته فيما أنزل إلى أنبيائهم واتمنوه من كتاب ربهم، وإنما هو ناشئ عن الحسد الذي أدى بهم إلى تحريف ما بأيديهم من الكتاب، وطمس ما فيه من البشائر ببعثه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الوصف على من كان في عهد الرسالة من أهل الكتاب، ولا ينطبق عليهم أنهم سمعوا كلام الله لموسى في الطور ثم حرفوه.
11. بعد الكلام في اليهود عامة عُطف عليه ما يخص طائفة منهم، وهم الذين تقمصوا الإسلام ليمكنوا من حربه من الداخل باطلاعهم على أسرار أبنائه بما يكون بينهم من الاختلاط، وهم المنافقون الذين تحدثت عنهم هذه السورة حديثا مسهبا في فاتحتها.
12. معظم المنافقين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا من العنصر اليهودي، ولا إشكال في عطف حديث يخص البعض على ما يشملهم مع غيرهم من مجموعتهم لأن القرائن هي التي تبين ما يقصد بكل جانب من الحديث، وهذا كمخاطبة مجموعة من الناس بخطاب واحد له وجوه من المقاصد لكل طائفة من تلك المجموعة وجه منها، ولأن القرائن هي التي تعين المعنيين بكل وجه، ومثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، فإن صدر الخطاب موجه إلى الأزواج لأنهم هم الذين يصدر منهم الطلاق، وآخره موجه إلى الأولياء لأنهم هم الذين يمكنهم العضل.
13. يستفاد من الآية أن منافقي اليهود كانوا يسترسلون في حديثهم مع المسلمين إذا اختصوا بهم وادعوا أنهم مثلهم في إيمانهم بالحق الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن الاسترسال يؤدي بهم إلى كشف بعض الحقائق التي يبطلونها من علم الكتاب الذي بأيديهم، كالعهود التي أخذها الله عليهم، والأحكام التي حكم بها تعالى عليهم فإذا خلوا بأنفسهم أو مع أوليائهم، ـ وهم الذين سماهم الله شياطين في صدر السورة ـ تلاوموا على ذلك وأنكر بعضهم على بعض كشف الأسرار.
14. قيل: إن مرادهم بقولهم عند لقاء المؤمنين ﴿آمَنَّا﴾ أنهم آمنوا بصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم غير أنهم يدعون أن نبوته لا تتعدى العرب وحدهم، فلا تشمل بني إسرائيل وغيرهم من شعوب الأرض، وفي أثناء هذا الاعتراف بنبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم المحصورة في العرب ـ حسب زعمهم ـ كانت تتساقط من أفواههم كلمات عما يجدونه من وصفه فيما عندهم من الكتاب، وهي قاضية بضد ما يدعون من انحصار نبوته بين قومه لدلالتها على شمول رسالته التي يأتي بها للعالمين على أن الاعتراف بصدقه يقتضي تصديقه في كل شيء، ومن ذلك أن رسالته موجهة إلى جميع الناس كافة لدلالة الكتاب الحق الذي جاء به على لك في نصوص شتى، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، فلذلك يتلاومون في خلوتهم على هذا الاعتراف الصادر منهم لئلا يكون حجة للمؤمنين عليهم عند ربهم.
15. اختلف في معنى الفتح:
أ. قيل: هو الحكم في لغة أهل اليمن، ومنه تسميتهم القاضي فتاحا، وقد روي عن ابن عباس أنه قال ما كنت أعرف معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾، حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفتحك أي أحاكمك، ومن إعجاز القرآن نزوله جامعا لخلاصة لغات العرب ومحاسنها، وعليه فالمراد بما فتح عليهم ما ابتلاهم به من صنوف العذاب وضروب المحن نكالا من عند الله لكفرهم بآياته وتعنتهم على رسله، أو ما أوجبه عليهم من الإيمان بنبوة خاتم النبيين عند بعثته.
ب. وقيل: الفتح هنا على أصله المعروف عند سائر العرب، وهو ضد الإغلاق، وعليه فالمقصود في الآية ما أفاضه الله عليهم من المعارف الإلهية التي من بينها علم نبوة الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وشمول وعموم دعوته.
16. العندية هنا:
أ. قيل: بمعنى الحكم، كما يقول الفقه هذه المسألة عندي كذا، أو هذا القول عندي صحيح أو راجح أو مرجوح، ومنه قوله تعالى: ﴿ فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾، أي في حكمه تعالى.
ب. وقيل: هي بمعنى في.
ج. وقيل: بأن العندية هنا على بابها من الظرفية، ومرادهم بها عندية، التحكم إلى الله، وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى بيعتهم في عدم الإيمان به، وأيد هذا ابن عاشور، وعده المناسب لقوله: ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ .. وبهذا الذي كره من معتقدات اليهود في ربهم تظهر صحة هذا التأويل، ويسقط اعتراض الذين اعترضوه ـ من علماء التفسير كالبيضاوي ـ بدعوى أنهم كانوا يعرفون ربهم فما كان لهم أن يظنوا خفاء شيء عن علمه.
17. ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ استفهام إنكاري مراد به التحديث بما فتح الله عليهم، فهو في مقولتهم المحكية، وإن قال بعض أهل التفسير بأنه من مقول الله تعالى الموجه إلى المؤمنين إنكارا لطمعهم في إيمان أولئك، وهو غير سائغ لأنه لم يؤلف في خطاب الله سبحانه لعباده المؤمنين إلا لطف العبارة، ورقة الأسلوب، ولو في مقام العتاب، فلا يتفق ذلك مع تقريعهم بمثل هذا الخطاب العنيف الموحى بأنهم نزلوا منزلة غير العقلاء، كيف ومن بين المخاطبين ـ لو صح أن الخطاب لهم ـ سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي بلغ ذروة الكمال العقلي والسمو النفسي؟ على أن المؤمنين لم يدفعهم إلى هذا الطمع في إيمان أهل الكتاب، غير ما هم مجبلون عليه من حب هداية البشر مع ما يعرفونه عن أهل الكتاب من مزايا اختصوا بها كعلم النبوات وتوفر البشائر عندهم بمبعث خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وفي اختتام الآية بقوله: أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) تأييد ظاهر لهذا القول.
18. الحجة: الدليل الواضح مأخوذة من محجة الطريق، لأن كلا منهما موصل إلى القصد، وإنما يفرق بينهما أن الوضوح والإيصال في الحجة معنوي، وفي المحجة حسي، والمفاعلة المصوغة منا ليست هنا على بابها من المشاركة، وإنما هي للمبالغة، كما في خادع بمعنى خدع، وقد سبق بيان ذلك.
19. ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ إنكار لما ذكر عنهم من التلون في حال ملاقاة المؤمنين وخلوهم إلى لإخوانهم من الكافرين بحيث يلقون هؤلاء بوجه وأولئك بآخر، فإن هذا التصرف من شأنه أن لا يصدر إلا ممن يظن أن حيلته ومكره يحولان بين ما هم آتوه وعلم الله سبحانه، وإذا كانوا من ضلال الفكر وزيغ العقيدة بحيث يحسبون أن الله سبحانه تخفى عليه الخوافي من أعمالهم بسبب تحريفهم للكتاب، ووصفهم الحق تعالى بما لا يليق بعظم جلاله وعلو شأنه، فإن آيات الله في أنفسهم وفيما حولهم من مخلوقاته تنادي عليهم بالإفك، وتشهد عليهم بالضلال، فلو ألقوا نظرة إلى شيء منها لأدركوا أن الله سبحانه يعلم السريرة كالعلانية، ويحيط بالجزئيات كالكليات، فلا مفر لهم منه، ولا مناص لهم عن عقابه، فهو سبحانه يعلم ما يسرونه من الكفر كما يعلم ما يظهرونه من دعاوى الإيمان.
20. قدّم هنا ذكر ما يسر على ما يعلن، بخلافه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، لأجل التأكيد هنا بأن الله يعلم السريرة والعلانية عكس ما يتوهمون، ولأن قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ في معرض ذكر الحساب، والحساب يبدأ بالأعمال الظاهرة، ثم بالخفايا.
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/398.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود، فهم مصرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾! وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.
2. الآيتان الكريمتان توضحان أن السبب في عدم استسلام هؤلاء القوم أمام المعجزة القرآنية وسائر المعاجز النبوية الأخرى، إنما يعود لعناد متأصل في هؤلاء ورثوه عن آبائهم الذين سمعوا كلام الله عند جبل الطور، ثم ما لبثوا أن حرّفوه بعد عودتهم.
3. من عبارة ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ نفهم أن بني إسرائيل لم يكونوا بأجمعهم محرفين، بل إن فريقا منهم ـ ومن المحتمل أن يشكل عددهم أكثرية بني إسرائيل ـ كانوا هم المحرفين.
4. روي أن مجموعة من بني إسرائيل حين عادوا من جبل الطور قالوا: سمعنا أن الله قال لموسى: اعملوا بأوامري قدر استطاعتكم، واتركوها متى تعذر عليكم العمل بها)! وكان ذلك أول تحريف في بني إسرائيل.
5. كان من المتوقع أن يكون اليهود أول من يؤمن بالرسالة الإسلامية بعد إعلانها لأنهم أهل كتاب، خلافا للمشركين، ولأنهم قرؤوا صفات النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم، لكن القرآن يوجه أنظار المسلمين إلى سوء السابقة لدى هؤلاء القوم، ويوضح لهم أن الانحراف النفسي يدفع إلى الإعراض عن الحقيقة، مهما كانت هذه الحقيقة واضحة بيّنة.
6. الآية الكريمة تلقي الضوء على حقيقة مرّة أخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة وتقول: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾!؟ من المحتمل أن تتحدث هذه الآية في صدرها عن المنافقين من اليهود الذين يتظاهرون بالإيمان لدى لقائهم بالمسلمين، ويبرزون إنكارهم عند لقائهم بأصحابهم، بل يلومون أولئك اليهود الذين يكشفون للمسلمين عمّا في التوراة من أسرار.. وهي تأييد للآية السابقة، التي نهت المسلمين عن عقد الأمل على إيمان مثل هؤلاء القوم.
7. عبارة ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قد تعني الميثاق الإلهي الذي كان محفوظا لدى بني إسرائيل، وقد تشير إلى الأسرار الإلهية المرتبطة بالشريعة الجديدة.
8. يتضح من الآية أن إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود، كان ضعيفا إلى درجة أنهم تصوروا الله مثل إنسان عاديّ، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئا عن المسلمين فسيخفى عن الله أيضا، لذلك تقول الآية التالية بصراحة: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾!؟
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/274.
31. بنو إسرائيل والأماني والتحريف
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈31⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 79 ـ 80]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الربيع:
روي عن الربيع بن خثيم (ت 61 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٣/٣٩٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله، وقال: قد أخبرهم أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ إلا قولا يقولون بأفواههم كذبا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ وهم يجحدون نبوتك بالظن(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ عرضا من عرض الدنيا، ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ قال فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم(4).
5. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(5).
6. روي أنّه قال: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي: خالدون أبدا(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، أي: من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا، لا انقطاع له أبدا(7).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٥٣.
(2) ابن جرير: ٢/١٥٦.
(3) ابن جرير: ٢/١٥٥.
(4) ابن جرير: ٢/١٧٠.
(5) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٨.
(6) ابن جرير: ٢/١٨٦.
(7) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٩.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ يتمنون على الله ما ليس لهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ يظنون الظنون بغير الحق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ الكبيرة الموجبة(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٥٧.
(2) ابن جرير: ٢/١٦٣.
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٥٩.
إبراهيم النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ منهم من لا يحسن أن يكتب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٥٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ أناس من يهود(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ إلا كذبا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ ناس من يهود، لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أماني يتمنونها(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ إلا يكذبون(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ الذنوب تحيط بالقلب، فكلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب، حتى يكون هكذا، وقبض كفه، ثم قال هو الران، قال والخطيئة: كل ذنب وعد الله عليه النار(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٥٧.
(2) تفسير مجاهد: ص٢٠٧.
(3) تفسير مجاهد: ص٢٠٨.
(4) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ هؤلاء ناس من اليهود(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ هؤلاء ناس من اليهود، لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا كما قال الله، فكانوا يتكلمون بالظنون بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أماني يتمنونها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ كذبا وفجورا، وما هو من عند الله: ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون(3).
4. روي أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾، ما الخطيئة؟ فقال: اقرؤوا القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٥٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٥٣ .
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٥٥.
(4) ابن أبي حاتم: ١/١٥٨ وابن جرير: ٢/١٨٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ يتمنون على الله الباطل، وما ليس لهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ يظنون الظنون بغير الحق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار(3).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٥٠.
(2) ابن جرير: ٢/١٦٢.
(3) ابن جرير: ٢/١٨٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ : معناه إنّما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا إلّا أن يتمنوا على الله تعالى الباطل، وما ليس لهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ : فالويل واد في جهنم من قيح(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ معناه أربعون يوما، قدر ما عبدوا العجل(1).
4. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ معناه من مات بذنبه ولم يتب منه.. ويقال السّيئة: الشّرك.. والخطيئة: الكبائر(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 85.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان ناس من اليهود يكتبون كتابا من عندهم، ويبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، فيأخذون ثمنا قليلا(1).
2. روي أنّه قال: كان ناس من اليهود يكتبون كتابا من عندهم، ويبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، فيأخذون ثمنا قليلا(1).
3. روي أنّه قال: كان ناس من اليهود يكتبون كتابا من عندهم، ويبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، فيأخذون ثمنا قليلا(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار، فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقينا نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختتن، قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه(2).
5. روي أنّه قال: لما قالت اليهود ما قالت قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾، وقال في مكان آخر: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: ٢٤]، ثم أخبر الخبر، فقال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾(3).
6. روي أنّه قال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ فمات ولم يتب(4).
7. روي أنّه قال: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منها أبدا(5).
8. روي أنّه قال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أما السيئة فهي الذنوب التي وعد عليها النار(6).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٦٥.
(2) ابن جرير: ٢/١٧١.
(3) ابن جرير: ٢/١٧٧.
(4) ابن جرير: ٢/١٨٥.
(5) ابن جرير: ٢/١٨٦.
(6) ابن جرير: ٢/١٨٠.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ لا يحسنون قراءة الكتاب، ولا كتابته(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ إلا ما تحدثهم بهم علماؤهم(1).
3. روي أنّه قال: هم أحبار اليهود وعلماؤهم، عمدوا إلى نعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم، فزادوا فيه ونقصوا، ثم أخرجوه لسفلتهم، فقالوا: هذا نعت النبي الذي يبعثه الله في آخر الزمان، ليس كنعت هذا الرجل، فإذا نظرت السفلة إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يروا فيه النعت الذي في كتابهم الذي كتبت أحبارهم، وكانت للأحبار مأكلة، فقال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، يعني: تلك المأكلة ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٣.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٥٢.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: إذا كان هؤلاء القوم لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لعوامنا القبول من علمائهم؟ فقال: بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة، وتسوية من جهة، أما من حيث إنهم استووا، فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما قد ذم عوامهم، وأما من حيث أنهم افترقوا فلا)، قال بين لي ذلك، يا ابن رسول الله، قال: إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام والرشا، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله تعالى، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوا، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم، وكذلك عوام أمتنا، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه، وإن كان لإصلاح أمره مستحقا، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنه من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها، فيتقبله المسلمون المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوا، وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ـ عليه اللعنة والعذابـ على الحسين بن الإمام علي وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وللمسلوبين عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، يدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب، لا جرم أن من علم الله من قلبه من هؤلاء العوام أنه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيمه وليه، لم يتركه في يد هذا الملبس الكافر، ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب، ثم يوفقه الله للقبول منه، فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضله لعن الدنيا وعذاب الآخرة، ثم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: شرار علماء أمتنا المضلون عنا، القاطعون للطرق إلينا، المسمون أضدادنا بأسمائنا، الملقبون بألقابنا، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون، ويلعنوننا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا، عن صلواتهم علينا مستغنون)
ثم قال قيل للإمام علي: من خير الخلق بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا)، قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود، وبعد المتسمين بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا، وإنهم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ الآية(1).
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص 326.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾، قال الشرك، ثم تلا: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ [النمل: ٩٠](1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٨٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ سوى نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أن رؤوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من التوراة، وكتبوا سوى نعته، وقالوا لليهود سوى نعت محمد، ثم يقولون: هذا النعت من عند الله، ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، يعني: عرضا يسيرا مما يعطيهم سفلة اليهود كل سنة من زروعهم وثمارهم، يقول: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني: في التوراة من تغيير نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من تلك المآكل على التكذيب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو تابعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا لحبست عنهم تلك المآكل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: اليهود: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ لأنا أبناء الله وأحباؤه، يعني: ولد أنبياء الله، إلا أربعين يوما التي عبد آباؤنا فيها العجل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ فعلتم بما عهد إليكم في التوراة، فإن كنتم فعلتم فلن يخلف الله عهده، ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ يعني: بل تقولون ﴿عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فإنه ليس بمعذبكم إلا تلك الأيام، فإذا مضت تلك الأيام مقدار كل يوم ألف سنة قالت الخزنة: يا أعداء الله، ذهب الأجل، وبقي الأبد، وأيقنوا بالخلود(2).
4. روي أنّه قال: ثم بين مستقر المؤمنين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يموتون(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١١٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/١١٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أميون لا يقرؤون الكتاب من اليهود(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ لا يعلمون شيئا، لا يقرؤون التوراة، ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا، فإذا لم يكتب أحدهم لم يستطع أن يقرأ(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب، وليسوا منهم(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٥٣.
(2) ابن جرير: ٢/١٥٥.
(3) ابن جرير: ٢/١٥٧.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال الله عز وجل: يا محمد، ومن هؤلاء اليهود أُمِّيُّونَ لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون، فالأمي منسوب إلى أمه، أي هو كما خرج من بطن أمه لا يقرأ ولا يكتب لا ﴿يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ المنزل من السماء ولا المكذب به، ولا يميزون بينهما ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أي إلا أن يقرأ عليهم، وي قال لهم: إن هذا كتاب الله وكلامه، ولا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما فيه ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أي ما يقول لهم رؤساؤهم من تكذيب محمد في نبوته، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم(1).
2. روي أنه قال قال الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني اليهود المصرون للشقاوة، المظهرون للإيمان، المسرون للنفاق، المدبرون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وذويه بما يظنون أن فيه عطبهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وذلك أنه كان لهم أصهار وإخوة رضاع من المسلمين، يسترون كفرهم عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحبه، وإن كانوا به عارفين، صيانة لهم لأرحامهم وأصهارهم، قال لهم هؤلاء: لم تفعلون هذا النفاق الذي تعلمون أنكم به عند الله مسخوط عليكم معذبون؟ أجابهم هؤلاء اليهود: بأن مدة ذلك العقاب الذي نعذب به لهذه الذنوب ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ تنقضي، ثم نصير بعد في النعمة في الجنان، فلا نتعجل المكروه في الدنيا للعذاب الذي هو بقدر أيام ذنوبنا، فإنها تفنى وتنقضي، ونكون قد حصلنا لذات الحرية من الخدمة، ولذات نعم الدنيا، ثم لا نبالي بما يصيبنا بعد، فإنه إذا لم يكن دائما فكأنه قد فنى، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أن عذابكم على كفركم بمحمد ودفعكم لآياته في نفسه، منقطع غير دائم؟ بل ما هو إلا عذاب دائم لا نفاد له، فلا تجترئوا على الآثام والقبائح من الكفر بالله وبرسوله، ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ فكذلك أنتم بما تدعون من فناء عذاب ذنوبكم هذه في حرز ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أتخذتم عهدا، أم تقولون؟ بل أنتم ـ في أيهما ادعيتم ـ كاذبون(2).
3. روي أنه قال: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ السيئة المحيطة به هي التي تخرجه عن جملة دين الله، وتنزعه عن ولاية الله، وترميه في سخط الله، وهي الشرك بالله، والكفر به، والكفر بنبوة محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. كل واحدة من هذه سيئة تحيط به، أي تحيط بأعماله فتبطلها وتمحقها ﴿فَأُولَئِكَ﴾ عاملو هذه السيئة المحيطة ﴿أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(2).
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص 326.
(2) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص 331.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ : هذه الأيام المعدودة التي ذكرت اليهود فزعموا أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن الله يعذبهم بكل ألف يوما، ثم يخرجون إلى الرضى والرضوان، ويصيرون إلى محل الكرامة والأبرار، فكان هذا كذبا من قولهم، وافتراء وجراءة على خالقهم.
2. سؤال وإشكال: هل قال هذا الكلام اليهود الذين في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم اليهود الذين كانوا قبلهم؟ فإن كان القول من اليهود الذين كانوا في سالف الدهر، كيف نسب فعل أولئك إلى من بعدهم؟ والجواب: الذي قال هذا الكلام ـ يرحمك الله ـ هم اليهود الأولون والآخرون، مقالتهم واحدة، متفقون على الباطل والمحال، ويصيرون بكفرهم إلى شر حال، ولو لم يقل هذه المقالة الآخرون، وهم على منهاج الأولين ـ لانتظمهم من الذم ما انتظم الأولين، ويكونون جميعا عند الله من المذمومين؛ لأنهم إذا رضوا بفعلهم، وكانوا قدوة لهم، فهم داخلون في دينهم، منتسبون إلى ما ينتسب إليه أولئك من فعلهم؛ ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ﴾ ـ كما تقولون ـ ﴿مُؤْمِنِينَ﴾، وهم لم يقتلوا أنبياء الله عز وجل؛ ولكن رضوا بقتل آبائهم لأنبياء الله، وصوبوا فعلهم، فكانوا برضائهم من القاتلين، وبتصويبهم لفعل من مضى من المشاركين؛ ألا تسمع كيف قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنه سيدخل في حربنا هذه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء)، وإنما أراد بذلك رحمة الله عليه: الرضا والسخط، وما يكون ممن بعدهم، من التصويب لفعلهم، والتخطئة لهم؛ فيكونوا بالتصويب والرضا من المؤمنين الأولياء، وبالتخطئة لهم من أهل العداوة والبغضاء.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/50.
الماتريدي:
قال أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ يقول: من اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها، إلا أن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها.
2. اختلف في معنى الأمّي:
أ. قيل: الذي لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة، لكنه يقرأ لا عن كتابة، كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة؛ كقوله: ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت: 48]
ب. ويقال أيضا: الذي لا يقرأ ولا يكتب، لا عن كتابة، ولا؛ غير كتابة.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ :
أ. قيل: أحاديث باطلة يحدث لهم، وهو قول ابن عباس.
ب. وقيل: إلا أماني، يعنى إلا كذبا.
ج. وقال الكسائى: إلا أماني: إلا تلاوة؛ كقوله: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52] يعنى: في تلاوته.
4. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، يقول: ما هم إلا ظن يظنون في غير يقين، وأصله: أي لا يعلمون علم الكتاب، إنما عندهم أماني النفس وشهواتها؛ كقوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 123]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/500.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أجمع أهل التفسير والكلام على صرف الأيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أيام عبادة العجل، وذلك لا معنى له؛ لوجهين:
أ. أحدهما: أن هؤلاء لم يعبدوا العجل، وإنما عبد آباؤهم؛ فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء.
ب. الثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضا؛ لأنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله؛ كقوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38].
2. تصرف الأيام المعدودة إلى:
أ. العمر الذي عصوا فيه؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب.
ب. أو لما لم يكونوا يرون التخليد في النار أبدا.
ج. أو لما هم عند أنفسهم، كما أخبر الله عنهم، بقوله: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، وكقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، يقولون: إنا لا نعذّب أبدا، إنما نعذّب تعذيب الأب ابنه أو الحبيب حبيبه؛ يعذّب في وقت قليل، ثم يرضى، ويدخل الجنة.
3. عقوبة الكفر أبدا، والتخليد فيها لا لوقت، وكذلك ثواب الإيمان للأبد لا لوقت؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده للأبد لا لوقت؛ فعلى ذلك جزاؤه للأبد لا لوقت.. وأما من ارتكب ذنبا من المسلمين؛ بشهوة تغلبه في وقت، فيرتكبه، ثم يتركه ـ فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب في وقت؛ لأنه لم يرتكبه للأبد؛ لذلك افترقا.
4. العهد في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ يحتمل:
أ. هل عندكم خبر عن الله تعالى بأنكم لا تعذبون أبدا، ولكن أياما معدودة؟ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.
ب. أتخذتم عند الله عهدا، أي لكم أعمال صالحة عند الله فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده، أي ليس لكم واحد من هذين، لا خبر عن الله بأنه لا يعذبكم، ولا أعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.
5. هذا إكذاب من الله ـ عزّ وجل ـ إياهم بذلك القول، كأنه قال بل تقولون على الله ما لا تعلمون؛ ألا ترى أنه قال ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾!؟
6. يقول: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ يعنى: شركا ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ﴾، أي مات عليها، ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.. وقيل: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ﴾ : بقلبه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/501.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾، أي من اليهود ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾، أي إلا ما سمعوا من الأماني: وهي التلاوة التي يأخذونها تقليداً لرؤسائهم وشياطينهم، الذين يظنون أنهم على الصواب، ويتلون منهم ما تمنوا وقرؤوا عليهم من الكتاب، تفريطاً منهم وقلة خوف من العذاب، ولو خافوا الله لاجتهدوا، ولما رضوا بقول أحد ولا قلدوا.
2. أنا أرى أن الأمي في غير رحمة الله إذا كان راضياً بأميته، مجمعا على الرضا بجهله وخبرته، وينبغي للأمي أن يتوب عن الرضى بالأمية، كما يتوب عن الكفر والخطية.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 275.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الأمي الذي كان لا يكتب ولا يقرأ.
ب. الثاني: أن الأميين كانوا قوماً لم يصدقوا رسولاً أرسله الله إليهم، ولا كتاباً أنزله عليهم، وكتبوا كتاباً بأيديهم، وقالوا لجهال قومهم: هذا من عند الله.
2. في تسمية الذي لا يكتب بالأمي قولان:
أ. أحدهما: أنه مأخوذ من الأمة، أي هو على أصل ما عليه الأمة من أنه لا يكتب لأنه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب.
ب. الثاني: أنه مأخوذ من الأم.
3. في أخذ الأمي من الأم تأويلان:
أ. أحدهما أنه على ما ولدته أمه.
ب. الثاني: أن الكتابة منسوبة إلى الرجال دون النساء، فلما لم يكتب سمي أمياً، ونسب إلى أمه لجهله بالكتابة دون أبيه.
﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أي إنهم يتمنون على الله ما ليس لهم، وقد ورد في اللغة أن الأماني التلاوة كـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52]، وإلا في هذا الموضع بمعنى لكن، وهو من الاستثناء المنقطع كـ ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157]، قال النابغة:
حلفت يميناً غير ذي ثبوته... ولا علم إلا حسن ظن بصاحبي
4. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ والفرق بين المس واللمس أن مع اللمس إحساساً، وليس مع المس.
5. قوله: ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ :
أ. قيل: لأنهم ذكروا أن النار لا تمسهم إلا في المدة التي عبدوا فيها العجل، وهي أربعون يوماً.
ب. وقيل: إنهم قالوا إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ولا يعذبون على كل ألف سنة إلا يوماً.
6. ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أما بلى فجواب النفي، وأما نعم فجواب الإيجاب، ومثله إذا قال الرجل لصاحبه: مالك علي شيء فقال الآخر: نعم كان ذلك تصديقاً أنه لا شيء له، ولو قال بلى كان رداً لقوله وتقديره بلى لك عليه.
7. السيئة: فيها قولان:
أ. أحدهما: الشرك بالله تعالى.
ب. الثاني: الذنوب التي وعد الله عليها النار بقوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي مات عليها ولم يتب منها.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/68.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الأمّي: الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو قول مجاهد وأظهر تأويله.
ب. الثاني: أنّ الأمّيين: قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، وكتبوا كتابا بأيديهم، وقال الجهال لقومهم: هذا من عند الله، وهذا قول ابن عباس.
2. في تسمية الذي لا يكتب بالأمي قولان:
أ. أحدها: أنه مأخوذ من الأمة، أي على أصل ما عليه الأمّة، لأنه باق على خلقته من أنه لا يكتب، ومنه قول الأعشى:
وإنّ معاوية الأكرمين... حسان الوجوه طوال الأمم
ب. الثاني: أنه مأخوذ من الأم.
3. في أخذه من الأم تأويلان:
أ. أحدهما: أنه مأخوذ منها، لأنه على ما ولدته أمّه من أنه لا يكتب.
ب. الثاني: أنه نسب إلى أمّه، لأن الكتاب في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب من الرجال إلى أمه، لجهلها بالكتاب دونه أبيه.
4. في قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أربعة تأويلات:
أ. أحدها: إلّا أمانيّ: يعني: إلا كذبا، قاله ابن عباس ومجاهد، قال الشاعر:
ولكنما ذاك الذي كان منكما... أمانيّ ما لاقت سماء ولا أرضا
ب. الثاني: إلّا أمانيّ، يعني، أنهم يتمنّون على الله ما ليس لهم، قاله قتادة.
ج. الثالث: إلّا أمانيّ، يعني إلا تلاوة من غير فهم قاله الفراء والكسائي ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [سورة الحج] يعني ألقى الشيطان في أمنيّته، وقال كعب بن مالك:
تمنّى كتاب الله أول ليله... وآخره لاقي حمام المقادر
د. الرابع: أنّ الأمانيّ: التقدير، حكاه ابن بحر وأنشد قول الشاعر:
ولا تقولن لشيء سوف أفعله... حتى تبيّن ما يمني لك الماني
5. (إلا): في هذا الموضع بمعنى (لكن) وهو عندهم من الاستثناء المنقطع، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157] قال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
6. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: يكذبون، قاله مجاهد.
ب. الثاني: يحدثون، قاله البصريون.
7. في الويل في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ستة أقاويل:
أ. أحدها: أنه العذاب، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه التقبيح، وهو قول الأصمعي، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 18]، وقال الشاعر:
كسا اللؤم سهما خضرة في جلودها... فويل لسهم من سرابيلها الخضر
ج. الثالث: أنه الحزن، قاله المفضل.
د. الرابع: أنه الخزي والهوان.
هـ. الخامس: أن الويل واد في جهنم، وهذا قول أبي سعيد الخدري.
و. السادس: أنه جبل في النار، وهو قول عثمان بن عفان.
8. ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي يغيرون ما في الكتاب من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته.
9. في قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنه أراد بذلك تحقيق الإضافة، وإن كانت الكتابة لا تكون إلا باليد، كقوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ .
ب. الثاني: أن معنى ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي من تلقاء أنفسهم، قاله ابن السراج.
10. في قوله تعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: ليأخذوا به عرض الدنيا، لأنه قليل المدة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ وهذا قول أبي العالية.
ب. الثاني: أنه قليل لأنه حرام.
11. في قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: من تحريف كتبهم.
ب. الثاني: من أيام معاصيهم.
12. الفرق بين اللمس والمس، أن مع اللمس إحساسا.
13. في الأيام المعدودة قولان:
أ. أحدهما: أنها أربعون يوما، وهذا قول قتادة، والسدي، وعكرمة، وأبي العالية، ورواه الضحاك عن ابن عباس، ومن قال بهذا اختلفوا في تقديرهم لها بالأربعين:
• فقال بعضهم: لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل.
• وقال ابن عباس: أن اليهود يزعمون أنهم، وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم، فإذا انقطع المسير انقضى العذاب، وهلكت النار، وهذا قول من قدر (المعدودة) بالأربعين.
ب. الثاني: أن المعدودة التي تمسهم فيها النار سبعة أيام، لأنهم زعموا، أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنهم يعذّبون عن كل ألف سنة يوما، وهذا قول مجاهد، ورواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/150.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ يعني هؤلاء اليهود الذين قص الله قصتهم في هذه الآيات وقطع الطمع في ايمانهم.
2. اختلف في معنى الأميين:
أ. قال اكثر المفسرين: أنهم سموا أميين لأنهم لا يحسنون الكتابة، ولا القراءة، يقال منه: رجل أمي بين الامية، ومنه قوله عليه السلام أما أمة أميون لا يكتب ولا يحسب،، وهذا الوجه أوضح في اللغة.
ب. قال ابو عبيدة: الأميون هم الأمم الذين لم ينزل عليهم كتاب، والنبي الامي: الذي لا يكتب، وانشد لتبع:
له أمة سميت بالزبو... ر امية هي خير الأمم
ج. روي عن ابن عباس: ان الأميين قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله عز وجل ولا كتاباً أنزله، وكتبوا كتاباً بأيديهم، وقالوا: لقوم جهال هذا من عند الله، وقال: قد اخبر انهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميون لجحودهم كتاب الله عز وجل ورسله.
3. تسميتهم أميين لأنهم لا يحسنون الكتابة، ولا القراءة، وهذا الوجه مليح لقوله في الآية الثانية ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾، فأثبت انهم يكتبون ومن قال بالأول يحتاج، ان يجعل هذا مستأنفاً لغير من تقدم ذكره، أو لبعضهم.
4. إنما سمي من لا يحسن الكتابة امياً لأحد أمور:
أ. قيل: هو مأخوذ من الامة أي هو على اصل ما عليه الامة من انه لا يكتب. لا يستفيد الكتابة بعد إذ لم يكن يكتب.
ب. وقيل: ان الامة: الخلقة. فسمي امياً لأنه باق على خلقته، ومنه قول الأعشى:
وان معاوية الا كرمي... ن حسان الوجوه طوال الأمم
ج. وقيل: انه مأخوذ من الام، وإنما أخذ منه، لاحد أمرين:
• أحدهما ـ لأنه على ما ولدته امه من انه لا يكتب.
• الثاني ـ نسب الى امه، لأن الكتابة كانت في الرجال دون النساء فنسب من لا يكتب من الرجال الى امه، لجهلها دون أبيه.
5. ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ : أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله عز وجل، ولا يدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم، وانما هم مقلدة لا يعرفون ما يقولون.
6. الكتاب: المعني به التوراة، وإنما ادخل عليه لام التعريف، لأنه قصد به قصد كتاب معروف بعينه.
7. معنى الآية: فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه، والذي هو عندكم، وهم ينتحلونه، ويدعون الإقرار به من احكام الله عز وجل وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه إلا اماني.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ :
أ. قال ابن عباس ومجاهد: إلا قولا يقولون بأفواههم كذباً.
ب. قال قتادة: الاماني انهم يتمنون على الله ما ليس لهم.
ج. قال آخرون: الاماني أحاديث.
د. قال الكسائي والفراء وغيرهما: معناه إلا تلاوة، وهو المحكي عن أبي عبيدة على ما رواه عنه عبد الملك بن هشام، وكان ثقة، وضعف هذا الوجه الحسين بن علي المغربي، وقال هذا لا يعرف في اللغة، ومن صححه استدلّ بقوله تعالى: ﴿إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ . قال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليلة... واخره لا في حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله بالليل خالياً... تمني داوود الزبور على رسل
هـ. وقال ابو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: الاماني التقدير. قال الشاعر:
ولا تقولن لشيء سوف افعله... حتى يبين ما يمني لك الماني
أي ما يقدر لك المقدر.
9. أولى التأويلات قول ابن عباس ومجاهد: من ان الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، وانهم لا يفقهون من الكتاب الذي انزل اليه على موسى شيئاً لكنهم متخرصون الكذب، ويقولون: الباطل، والتمني في الموضوع تخلق الكذب وتخرصه، يقال منه تمنيت إذا افتعلته وتخلقته، ومنه ما روي عن بعض الصحابة انه قال ما تعنيت ولا تمنيت أي ما تخرصت الباطل، ولا تخلقت الكذب والافك، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ فبين أنهم يتمنون ما يتمنون من الكذب ظناً لا يقيناً، ولو كان المعنى انهم يتلونه لما كانوا ظانين، وكذلك لو كانوا يتمنونه، لأن الذي يتلوه إذا تدبر علمه، ولا يقال فيمن يقرأ كتاباً لم يتدبره، وتركه انه ظان لما يتلوه إلا ان يكون شاكا فيما يتلوه ولا يدري أحق هو ام باطل، ولم يكن القوم الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود شاكين في التوراة انها من عند الله، وكذلك التمني، لا يجوز ان يقال: هو ظان بتمنيه، لأن التمني من المتمني إذا وجد لا يقال فيه شاك فيما هو عالم به، لأنه ينافي العلم، والمتمني في حال وجود تمنيه لا يجوز ان يقال هو يظن تمنيه.
10. (إلا) ها هنا استثناء منقطع، ومعناه لكن اماني، وكل موضوع يعلم ان ما بعد إلا خارج عن الاول فهو بمعنى لكن، كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، وكقولهم ما في الدار واحد إلا حماراً، والا وتداً قال الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب... غير طعن الكلى وضرب الرقاب
معناه لكن حسن ظني بصاحبي، ومثله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، ومثله ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾، ولولا ولو ما وهلا وإلا الثقيلة بمعنى واحد، قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفخر مجدكم... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
يعني هلا، وقال آخر:
أتيت بعبد الله في القيد موثقاً... فهلا سعيداً ذا الجناية والعذر
ثم قال آخر:
وما شيخوني غير اني ابن غالب... واني من الاثرين عند الزغايف
واحدهم زغيف: وهو التابع، وكل موضوع حسن ان يوضع فيه مكان إلا (لكن) فاعلم انه مكان استثناء منقطع، ولو قيل هاهنا ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون لكان صحيحاً.
11. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ : قال جميع المفسرين معناه يشكّون، والذي أقوله ان المراد بذلك نفي العلم عنهم، وقد ينتفي العلم تارة بالشك وتارة بالظن، واما في الحقيقة فالظن غير الشك، غير ان المعنى متفق عليه ها هنا.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ :
أ. قيل: أي انه عرض الدنيا لأنه قليل المدة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، ذهب اليه ابو العالية.
ب. وقيل: إنه قليل لأنه حرام، وروي عن أبي جعفر عليه السلام، وذكره ايضاً جماعة من اهل التأويل أن أحبار اليهود كانت غيرت صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليوقعوا الشك للمستضعفين من اليهود.
13. ﴿ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ يقولون مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم، واصل الكسب:
أ. قيل: العمل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل، ومعناه ها هنا الاحتراف فهو كاسب لما عمل. قال لبيد ابن ربيعة:
لمعفر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب لا يمنّ طعامها
ب. وقيل: الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة ومنه قيل للجوارح من الطير: كواسب.
14. ﴿وَقَالُوا﴾ يعني اليهود الذين قالوا لن تمسنا النار، ولن ندخلها إلا اياماً معدودة، وإنما لم يبين عددها في التنزيل، لأنه تعالى اخبر عنهم بذلك، وهم عارفون بعدد الأيام التي يوقتونها في النار، فلذلك نزل تسمية عدد الأيام
15. اختلف في الأيام المعدودة:
أ. قال ابو العالية وعكرمة والسدي وقتادة: هي أربعون يوماً، ورواه الضحاك عن ابن عباس، قال ابن عباس: إن اليهود تزعم انهم وجدوا في التوراة مكتوباً ان ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم واحد، فإذا انقطع المسير، انقطع العذاب وهلكت النار.
ب. ومنهم قال: انها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل.
ج. وقال مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس: إنها سبعة ايام، لأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وانهم يعذبون بعدد كل ألف سنة يوماً واحداً من ايام الآخرة، وهو كألف سنة من ايام الدنيا.
16. لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لن تمسنا النار إلا اياماً معدودة قال الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ بما تقولون من ذلك أو ميثاقاً، فالله لا ينقض عهده ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من الباطل جهلًا وجراءة عليه.
17. قوله (بلى) جواب لقوله: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ فرد الله عليهم بأن قال بلى من أحاطت به خطيئته، ابداً، وبلى:
أ. تكون جواباً للاستفهام الذي اوله جحود.
ب. وتكون جواباً للجحد، وان لم تكن استفهاماً، كقوله: ﴿تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ الى قوله ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾، ويقول القائل لم افعل كذا وكذا، فيقول له غيره: بلى قد فعلت.
18. بلى ونعم جوابان: أحدهما يدخل فيما لا يدخل فيه الآخر، لأن بلى تدخل في باب الجحود، وقال الفراء: انما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد، لأنه إذا قال لغيره مالك علي شيء فقال له نعم، فكأنه قد صدقه، وكأنه قال نعم ليس لي عليك شيء، فلهذا اختلف نعم وبلى.
19. اختلف في معنى (السيئة) هنا:
أ. قال مجاهد، وابن عباس وابو وائل، وقتادة وابن جريح: السيئة) هاهنا الشرك، والذي يليق بمذهبنا ها هنا قول مجاهد، لأن ما عدا الشرك لا يستحق عندنا عليه الخلود في النار.
ب. وقال السدي: الذنوب التي وعد الله عليها النار.
20. اختلف في معنى ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ :
أ. قال ابن عباس ومجاهد: انها الشرك.
ب. وقال الربيع ابن خيثم: من مات عليها.
ج. وقال ابن السراج: هي التي سدت عليه مسالك النجاة.
د. وقال جميع المعتزلة: انه إذا كان ثوابه اكثر من عقابه.
21. المراد بذلك(2).: الشرك والكفر، لأنه الذي يستحق به الدخول مؤبداً، ولا يجوز ان يكون مراداً بالآية، وقوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ يقوي ذلك، لأن المعنى فيه أن تكون خطاياه كلها اشتملت عليه ولا يكون معه طاعة يستحق بها الثواب، تشبيهاً بما أحاط بالشيء من كل وجه، ولو كان معه شيء من الطاعات، لكان مستحقاً للثواب فلا تكون السيئة محيطة به، لأن الإحباط باطل.
22. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذه الآية متناولة لمن آمن بالله وصدق به، وصدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعمل الصالحات التي أوجبها الله تعالى عليه، فإنه يستحق بها الجنة خالداً ابداً، وظاهرها يمنع من ان مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لأنه إذا كان مؤمناً مستحقاً للثواب الدائم، فلا يجوز ان يستحق مع ذلك عقاباً دائماً، لأن ذلك خلاف ما اجمع المسلمون عليه ومتى عادوا الى الإحباط، كلموا فيه بينهم وبين بطلان قولهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/318.
(2) قدم لهذا الكلام بقوله: الذي نقوله: الذي يليق بمذهبنا)، يقصد الإمامية، تفسير الطوسي: 1/326.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأمي: الذي لا يكتب من الناس، والأمة: الجماعة من كل شيء، ومنه أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصله الاجتماع، وقيل: سمي الأمي؛ لأنه نسب إلى الأمة، وما عليه العامة من أنه لا يحسن الكتابة، وقيل: أخذ من الأم، أي هو على ما ولدته أمه من أنه لا يكتب.
ب. الأمنية: التلاوة، ويُقال: تمنى كتاب اللَّه: قرأ وتلا، قال الشاعر:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّه أَوَّل لَيْلِهِ... وَآخِرَهُ لاَقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
وأصله التقدير، وسمي التلاوة لأنه حكاية على مقدار المحكي.
ج. الظن: قيل: اعتقاد، وقيل: شك يقوي أحد النقيضين على الآخر، وقيل: إنه جنس برأسه، سوى الاعتقاد، عن أبي علي والقاضي.
د. المس: مسك الشيء بيدك، ونظيره اللمس، وأصله اللصوق، وحده: الجمع بين الشيئين على نهاية القرب.
هـ. العهد: العقد الموثق.
و. الإخلاف: نقيض ما تقدم من العهد بالفعل.
ز. السيئة والخطيئة والمعصية نظائر، ونقيض السيئة الحسنة، وحَدُّ السيئة الخطأ الذي يزجر عنه العقل.
ح. الإحاطة: الإدارة حول الشيء.
ط. الخلود: الدوام.
ي. المصاحبة: الملازمة.
ك. الإيمان في اللغة: التصديق، والمؤمن: المصدق، وقد صار في الشرع اسمًا لأداء الواجبات، والمؤمن اسم مدح، يقال: رجل مؤمن، فالاسم منقول.
ل. الصلاح: الفعل الحسن، والصالحات: هي الخصال الصالحات من الطاعة لله تعالى.
م. الجنة: البستان الذي فيه الشجر، أخذ من الستر؛ لأنه يستر الأرض.
2. ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني يأخذون بدلا، وهو ما يأخذونه من عوامهم، ولفظ الشراء توسع، والمراد تركوا الدين والحق، وأظهروا الباطل؛ ليأخذوا شيئًا، كمن يشتري السلعة بما يعطيه.
3. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي عذاب لهم بسبب ما فعلوا من تحريف الكتاب، ووضع الأخبار.
4. كرر ﴿وَيْلٌ﴾ :
أ. قيل: توكيدًا وإيعادًا.
ب. وقيل: لأنه بَيَّنَ أولاً أن كتابته حرام، وبين ثانيًا أن الكسب به حرام، وعلق الوعيد بكل واحد منهما.
5. ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ :
أ. قيل: من الخطيئة، عن أبي العالية.
ب. وقيل: مما يجمعون من المال الحرام والرشا، وهو ما كانوا يأخذون من عوامهم، عن أبي علي.
ج. وقيل: ما يكسبون من الخط مالاً أو جاهًا أو رئاسة، عن أبي مسلم.
6. ﴿وَقَالُوا﴾ يعني علماء اليهود ورؤساؤهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا﴾ :
أ. قيل: لن يصيبنا عذاب النار ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾
ب. قيل: معناه أيامًا قليلة، كقوله: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾
ج. وقيل: أراد أيامًا معدودة مُحْصَاة، ثم اختلفوا في تلك الأيام:
• فقيل: سبعة أيام تقابل سبعة آلاف سنة من سني الدنيا عن ابن عباس ومجاهد.
• وقيل: أربعين يومًا بمقدار ما عبدوا فيها العجل، عن قتادة والأصم.
• وقيل: أربعين تحلة القسم، عن الحسن.
• وقيل: أربعين سنة، وذلك أن اليهود وجدوا في كتابهم أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين عامًا إلى أن ينتهى إلى شجرة الزقوم، فزعموا أنه إذا خلا العدد وانقضى الأجل فلا عقاب، عن ابن عباس.
• وقيل: أيامًا بقدر الجرائم ثم يخرج إلى الحياة، كما هو مذهب المرجئة، عن أبي علي.
• وقيل: أيامًا معدودة، يعني: قلائل، ثم يشفع لنا آباؤنا، وهم الأنبياء.
7. كذبهم الله تعالى وقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أي موثقًا أنه لا يعذبكم إلا هذه المدة ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ يعني وعده بذلك ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ صحته، أي تكذبون عليه.
8. لما تقدم ذكر اليهود وأفعالهم وأحوالهم في الكفر بَيَّنَ تعالى الذي أغراهم به، وحملهم على ذلك، وهو اعتقادهم أنه يعذب أيامًا ثم ينقطع، وقال: إنهم ألقوا إلى عوامهم ذلك تطييبًا لقلوبهم، واجتراء على المعاصي.. وقيل: سمعوا من المسلمين الوعيد، فأظهروا لعوامهم ذلك خلافًا، كما يفعله علماء السوء من المرجئة في زماننا.
9. سؤال وإشكال: هل يدل الإنكار عليهم في هذه الآية أنه ليس عندهم عهد في أَجَلِ مَنْ يوافي بكبيرة؟ والجواب: قال أبو علي: نعم؛ لأنهم لم يقروا بأنهم كفار، والكلام خرج على جهة الإنكار العام.
10. كذب الله تعالى اليهود في قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وقال تعالى: ﴿بَلَى﴾ ليس الأمر كما قالوا، ولكن ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ بمعنى اقترف معصية.
11. اختلفوا في السيئة:
أ. قيل: من الشرك، عن مجاهد.
ب. وقيل: الذنوب التي وعد عليها النار، عن السدي، وهو الوجه؛ لعموم اللفظ.
ج. وقيل: الكبيرة الموجبة، عن الحسن وقتادة
12. ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ﴾ يعني أحدقت به من كل جانب، واختلفوا في معناه:
أ. قيل: سدت عليهم مسالك النجاة، وذلك دلالة على ما لا يغفر من الذنوب، عن ابن السراج.
ب. وقيل: دل بالإحاطة على معنى الكبيرة، عن أبي علي.
ج. وقيل: ﴿ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ أي أوبقته ذنوبه، يعني أهلكته، عن الكلبي.
د. وقيل: أحاطت بما له من حسنة فأحبطتها، عن ابن عباس.
13. اختلف في معنى ﴿خَطِيئَتُهُ﴾ :
أ. قيل: هي الشرك، عن ابن عباس وأبي العالية وابن زيد والضحاك.
ب. وقيل: الذنوب الكبيرة، عن الحسن وأبي علي.
ج. وقيل: هو الإصرار على الذنب، عن عكرمة ومقاتل وأبي مسلم.
14. سؤال وإشكال: أليس السيئة والخطيئة بمعنى، فلماذا كرر؟ والجواب: تقدير الآية: بلى من كسب سيئة وأحاطت به تلك السيئة، وخولف بين اللفظين؛ لأنه أحسن وأفصح.
15. سؤال وإشكال: أليس كل كبيرة محبطة، فما معنى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾؟ والجواب: لأن الصغيرة سيئة، فشرط في استحقاق النار كونها كبيرة.
16. ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يعني يصحبون النار ويلازمونها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يعني دائمون أبدًا، عن ابن عباس والحسن وجماعة.
17. سؤال وإشكال: الآية نزلت في اليهود، فلا يصح الاستدلال بها على الوعيد، والمراد بالخطيئة الشرك، ولأنها تدل على استحقاق الوعيد، ولا تدل على أنه يفعل بهم ذلك، ولأن التائب خرج منها، فيبقى الباقي محتملا؟ والجواب عن هذه الإشكالات:
أ. عن الأول: أن العلماء مختلفون فيه، فمنهم من قال إنه عام، ومنهم من قال إنه خاص في اليهود، ولكن حالنا في باب الوعيد كحالهم، وعلى أنه إنما يعتبر عموم اللفظ.
ب. عن الثاني: أن اللفظ عام في كل كبير، شركًا كان أو غيره.
ج. عن الثالث: إن الظاهر يُنْبِئُ عن بطلانه؛ لأنه لا يقال للمستحق: إنه مصاحب لها خالد فيها.
د. عن الرابع: أن التائب لم تُحِطْ خطيئته به؛ لأن التوبة أزالتها، فكيف تحيط بغيرها، على أنا خصصنا التائب بدليل، فبقي الباقي على ظاهره.
18. لما تقدم ذكر الوعيد أعقبه بذكر الوعد، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ :
أ. قيل: صدقوا، وهو أوجه؛ لأنه عطف عليه ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يعني الطاعات.
ب. وقيل: عملوا خصال الإيمان.
19. سؤال وإشكال: لِم ذكر العمل الصالح، وهو داخل في الإيمان؟ والجواب:
أ. على المعنى الأول: أنه التصديق السؤال زائل.
ب. على المعنى الثاني: جَمَعَ بين الصفتين ليدل على أنهم لم يضموا إلى الإيمان عمل الفساد؛ لأنه يقال: مؤمن في الظاهر، ومؤمن في الحكم، فأزال الإشكال، وبالغ في الوصف.
20. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ يعني: يصحبونها ويلازمونها بالسكون فيها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون.
21. سؤال وإشكال: هل يلزم من أجاز الاستثناء في الوعيد أن يجيزه في الوعد؟ والجواب: نعم؛ لأنه خبر كالوعيد، وذلك يؤدي إلى بطلان جميع دلالات القرآن؛ لتجويز التخصيص من غير دليل.
22. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الكتابة فعل العبد؛ لذلك وبخهم وأوعدهم، ولو كان خلقًا لكان إضافته إليه أولى، ولأن الكتابة متولدة عنهم، وعندهم أنه ليس بكسب للعبد، فكيف إضافتها إليه.
ب. أنه لا يجوز قبول كل رواية، بل يجب التمييز بين الحق والباطل، فدل من هذا الوجه على أنه لا يجوز قبول أخبار الآحاد التي يرويها المبتدعة والمشبهة لرئاسة أو جر نفع.
ج. عظيم ذنب مَنْ حَرَّفَ الكتاب والدين أو دعا إلى باطل زجرًا عن سلوك طريقتهم.
د. ذم من آثر الدنيا على الدين، نهيًا عن مثل ما فعلوا، وكل ذلك ظاهر.
هـ. أن الجبر والإلجاء من دين اليهود.
و. أن العذاب دائم؛ لأن نعمة الله لما عظمت عظم الكفران فتأبد العقاب.
ز. أنه لا دليل على الإرجاء، وأنه ليس في كتاب الله الخبر بانقطاع العذاب، فلذلك طالبهم بذلك، ولو كان ثابتًا لما طالبهم به.
ح. حسن الجدال في الدين لذلك قال: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾
ط. على عظيم ذنب من يقول على الله ما لا يعلم.
ي. أن الكبيرة يستحق فاعلها النار.
ك. على الإحباط؛ لأن الإحاطة إذا لم يمكن حمله على الإحاطة بالجسم كان معناه الإحاطة بطاعاته، وأنه يحبطها.
ل. يدل قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ على أنه لا يدخلها سواهم، وذلك يبطل قولهم في أطفال المشركين.
م. يدل قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ على دوام العقاب، فيبطل قول المرجئة.
ن. على أن الجنة تُسْتَحَقُّ بالعمل الصالح، فيبطل قول من يقول: لا اعتبار بالعمل، والثواب والعقاب ليس بجزاء على الأعمال.
س. على أن الجنة وثوابها تُنَالُ بالأعمال الصالحة مع الأنبياء، خلاف قول المرجئة: إنها تنال مع المعاصي والإخلال بالواجبات، وخلاف قول الْمُجْبِرَةِ: إنها تنال من غير طاعة.
ع. على أن نعيم الجنة دائم، فيبطل قول من يجوز انقطاعها.
ح. على أن الخلود عبارة عن الدوام، فيبطل قول المرجئة: إنه عبارة عن غير الدوام.
23. مسائل نحوية:
أ. حقيقة ﴿بَلَى﴾ : الرد للنفي استفهامًا كان أو خبرًا أو نهيًا، فالاستفهام كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ﴾ الآية، وكقوله: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ جوابه ﴿بَلَى﴾، ولفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقرير، وأما الخبر كقوله: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ جوابه (بلى)، والنهي: لا تلق زيدا؟، جوابه: بلى لقيته.
ب. الفرق بين (بلى) و(نعم): أن (بلى) جواب النفي، و(نعم) جواب الإيجاب، واختلفوا في أصله فقيل: أصله بل زيدت الألف ليصلح عليه الوقوف، ويخرج عن معنى الظرف، والمحققون من النحاة ينكرون ذلك؛ لأنه لا يحكى بزيادة الألف حتى يجاوز الثلاثة، و(بلى) تقوم مقام الخبر، وتدل على الجواب، وتختص بالحجة، وليس كذلك (بل).. وقيل: بل) تنفي الخبر الماضي، وتثبت الخبر في المستقبل.
ج. (من) ههنا بمعنى (الذي)، وهي تكون على أربعة أوجه: استفهام، وجزاء، وبمعنى (الذي)، وموصوفة، والموصوفة كقول الشاعر:
فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرَنَا.. حب النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
د. سؤال وإشكال: هل تختص (من) بمن يعقل؟ والجواب: نعم، و(ما): لما لا يعقل، وهذا تقريب، وحقيقتها أنها لمن يعلم القبح والحسن؛ لأنا نقول في جواب (من خلقكم؟): الله، وفي التنزيل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾
هـ. سؤال وإشكال: لِم دخل في خبر (من) و(ما) الفاء، وأنت لا تقول: زيد فقائم؟ والجواب: إنه جاء في (من) و(ما) و(الذي)؛ ليدل على أن الخبر يجب بوجوب معنى الصلة كقولك: الذي في الدار فله درهم، قال ابن السراج: طلب أنه أوجب الدرهم من أجل الكون في الدار.
و. سؤال وإشكال: لِم جاءت الجملتان بغير واو حرف العطف في قوله: أولئك)؟ والجواب:
• قيل: قال ابن السراج: لأنهما خبران عن شيء واحد.
• وقيل: لأن الضمير يربط الكلام الثاني بالأول، كما أن حرف العطف يربطه به: ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد والناس يتراءون الهلال، جاز إسقاطه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/453.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الظن: هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لأمارة صحيحة، وليس هو من قبيل الاعتقادات على الصحيح من المذهب، وفي الناس من قال: هو اعتقاد.
ب. الويل في اللغة: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصله العذاب والهلاك، ومثله الويح والويس، وقال الأصمعي: هو القبيح، ومنه ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾، وقال المفضل: معناه الحزن، وقال قوم: هو الهوان والخزي، ومنه قول الشاعر: يا زبرقان أخا بني خلف... ما أنت، ويل أبيك، والفخر.
ج. أصل الكسب: العمل الذي يجلب به نفع، أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا لمباشرة منه له، ومعاناة، فهو كاسب له، قال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب ما يمن طعامها
وقيل: الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة، يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة، ومنه يقال للجوارح من الطير: كواسب.
2. الأمي الذي لا يحسن الكتابة، وسُمي أميًا لأحد وجوه:
أ. أولها: أنه الأمة الخلقة، فسُمي أميًا لأنه باقٍ على خلقته، ومنه قول الأعشى:
وإن معاوية الأكرمين... حسان الوجوه طوال الأمم
ب. ثانيها: أنه مأخوذ من الأمة التي هي الجماعة، أي هو على أصل ما عليه الأمة في أنه لا يكتب؛ لأنه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب.
ج. ثالثها: أنه مأخوذ من الأم، أي هو على ما ولدته أمه في أنه لا يكتب، وقيل: إنما نسب إلى أمه لأن الكتابة إنما تكون في الرجال دون النساء.
3. ذكر في معنى الأمنية وجوه:
أ. أن معناها التلاوة، يُقال: تمنى كتاب الله) أي قرأ وتلا، وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليلة... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله بالليل خاليًا... تمني داوود الزبور على رسل
ب. أن المراد بالأماني الأحاديث المختلفة، عن الفراء، والعرب تقول: أنت إنما تتمنى هذا القول)، أي تختلقه. وقال بعضهم: ما تمنيت مذ أسلمت)، أي ما كذبت.
ج. أن المراد بالأماني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم، مثل قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وقال الزجاج: إذا قال القائل ما لا يعلمه، فكأنه إنما يتمناه، وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حقيقة له وهو يحبه: هذا أمنيتي)، وهذه (أمنيته)
4. ﴿وَمِنْهُمْ﴾، يعني من هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات وقطع الطمع عن إيمانهم ﴿أُمِّيُّونَ﴾ :
أ. قيل: أي غير عالمين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظًا وتلاوة لا رعاية ودراية وفهمًا لما فيه، عن ابن عباس وقتادة.
ب. وقال أبو عبيدة: الأميون هم الأمم الذين لم يُنزل عليهم كتاب، والنبي الأمي هو الذي لا يكتب، كما أنشد تُبّع:
له أمة سُميت في الزبور... أمية هي خير الأمم
5. ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ : أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزل الله عز وجل ولا يدرون ما أودعه الله فيه من الحدود والأحكام والفرائض، فهم كهيئة البهائم، مقلدون لا يعرفون ما يقولون، والكتاب المعني هنا هو التوراة ﴿إِلَّا﴾ بمعنى (لكن)
6. اختلف في معنى ﴿أَمَانِيِّ﴾ :
أ. قيل: أي قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أحاديث يحدثهم بها علماؤهم، عن الكلبي.
ج. وقيل: تلاوة يتلونها ولا يدرونها، عن الكسائي والفراء.
د. وقيل: أماني يتمنون على الله الرحمة ويخطر الشيطان ببالهم أن لهم عند الله خيرًا، ويتمنون ذهاب الإسلام بموت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعودة الرياسة إليهم.
هـ. وقيل: أماني يتخرصون الكذب ويقولون الباطل.
7. التمني هنا هو تخرص الكذب، ويُقوي ذلك قوله: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، فبين أنهم يختلقون الكذب ظنًا لا يقينًا.
8. في هذه الآية دلالة على أن:
أ. التقليد في معاني الكتاب وفيما طريقه العلم غير جائز.
ب. الاقتصار على الظن في أبواب الديانات لا يجوز.
ج. الحجة بالكتاب قائمة على جميع الخلق، وإن لم يكونوا عالمين به إذا تمكنوا من العلم.
د. الواجب هو التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرد تلاوته.
9. ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ : يريد ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامهم من الأموال، وإنما ذُكر لفظ الاشتراء توسعًا، والمراد أنهم تركوا الحق وأظهروا الباطل ليأخذوا على ذلك شيئًا، كمن يشتري السلعة بما يعطيه.
10. الفائدة في قوله: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ :
أ. قيل: أن كل ثمنٍ له لا يكون إلا قليلًا، وللعرب في ذلك طريقة معروفة يعرفها من تصفح كلامهم.
ب. قيل: إنما وصفه بالقلة لأنه عرض الدنيا، وهو قليل المدة، كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، عن أبي العالية.
ج. وقيل: إنما قال: (قليل) لأنه حرام.
11. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ : أي عذاب لهم وخزي مما فعلوا من تحريف الكتاب، وفي اللغة كلمة (ويل) يستعملها كل واقع في هلكة، أصله:
أ. قيل: العذاب والهلاك، ومثله الوَيْح والوَيْس.
ب. قال الأصمعي: هو التقبيح، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾
ج. قال المفضل: معناه الحزن.
د. وقال قوم: هو الهوان والخزي. ومنه قول الشاعر:
يا زبرقان أخا بني خلف... ما أنت ويل أبيك والفخر
12. عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ :
أ. قال ابن عباس: الويل في الآية يعني العذاب.
ب. وقيل: جبل في النار، روى الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره.
13. ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ :
أ. قيل: أي يتولون كتابته ثم يضيفونه إلى الله سبحانه، كقوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾، أي نحن توليناه، وهو أوجه لأنه أليق بنسق الكلام.
ب. وقيل: معناه أنهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، كمن يخترع مذهبًا أو قولًا لم يُسبق إليه.
ج. وقيل: كتابتهم بأيديهم تعني أنهم عمدوا إلى التوراة وحرّفوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليوقعوا الشك في نفوس المستضعفين من اليهود، رُوي عن أبي جعفر الباقر أن أحبار اليهود محوا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المكتوبة في التوراة حسدًا وبغيًا، قال عكرمة عن ابن عباس: وجدوا صفته مكتوبة: أكحل أعين، ربعة، حسن الوجه. فمحوه حسدًا.
د. وقيل: المراد بالآية كاتب كان يكتب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فغيّر ما يُملى عليه، ثم ارتد ومات، فلفظته الأرض.
14. ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ :
أ. قيل: من المعاصي.
ب. وقيل: مما يجمعون من المال الحرام والرشا التي يأخذونها من العوام.
7. أصل الكسب:
أ. قيل: العمل الذي يجلب به نفعًا أو يدفع به ضررًا. وكل عامل عملًا بمباشرة منه ومعاناة فهو كاسب له، قال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب ما يمن طعامها
ب. وقيل: الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفعًا أو يدفع به ضررًا، ومنه يُقال للجوارح من الطير (كواسب)
15. ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ : نصب على الاستثناء المنقطع، كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، وقال الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب... غير طعن الكلى وضرب الرقاب
16. بلى: جواب لقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، والفرق بين (بلى) و(نعم) أن (بلى) جواب النفي، و(نعم) جواب الإيجاب، قال الفراء: إنما امتنعوا من استعمال (نعم) في جواب الجحد، لأنه إذا قال لغيره: ما لك علي شيء)، فقال له: نعم)، فقد صدقه، وكأنه قال: نعم، ليس لي عليك شيء)، وإذا قال: بلى)، فإنما هو رد لكلامه، أي (لي عليك شيء)
17. ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ : عطف هذه الجملة على الأولى بغير حرف العطف، لأن في الجملة الثانية ذكراً ممن في الأولى، والضمير يربط الكلام الثاني بالأول، كما أن حرف العطف يربطه به، مثل قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ﴾ بالواو، وقال: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ . فحذفت الواو من قوله: رابعهم) و(سادسهم)، استغناءً عنها بما في الجملة من ذكر ما في الأول، لأن الحرف يدل على الاتصال، وما في الجملة من ذكر ما تقدمها اتصال أيضاً، فاستُغني به عنه.
18. رد الله تعالى على اليهود قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، فقال: ﴿بَلَى﴾، أي ليس الأمر كما قالوا، ولكن: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ .
19. اختلف في السيئة:
أ. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: السيئة هنا الشرك.
ب. قال الحسن: هي الكبيرة الموجبة للنار.
ج. قال السدي: هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار.
والقول الأول هو الصحيح، لأن ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا.
20. ﴿ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أنها أحدقت به من كل جانب، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
ب. أن المعنى أهلكته، من قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾، وقوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾، وهذا كله بمعنى البوار والهلكة، فالمراد أنها سدت عليهم طريق النجاة.
21. اختلف في معنى ﴿خَطِيئَتُهُ﴾ :
أ. روي عن ابن عباس والضحاك وأبي العالية أن المراد بالخطيئة: الشرك.
ب. عن الحسن: إنها الكبيرة.
ج. عن عكرمة ومقاتل: إنها الإصرار على الذنب.
22. إنما قال: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ ولم يقل (وأحاطت به سيئته)، خالف بين اللفظين ليكون أبلغ وأفصح.
23. ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ : أي يصحبون النار ويلازمونها، ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ : أي دائمون أبداً، عن ابن عباس وغيره.
24. الصحيح(2). من تفسير هذه الآية قول ابن عباس، لأن أهل الإيمان لا يدخلون في حكم هذه الآية، وقوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ يقوي ذلك، لأن المعنى أن خطاياه قد اشتملت عليه وأحدقت به حتى لا يجد عنها مخلصاً ولا مخرجاً، ولو كان معه شيء من الطاعات، لم تكن السيئة محيطة به من كل وجه، وقد دل الدليل على بطلان التحابط، ولأن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فيه وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب الدائم، فكيف يجتمع الثواب الدائم مع العقاب الدائم؟ ويدل أيضاً على أن المراد بالسيئة في الآية الشرك، فيبطل الاحتجاج بالآية على دخول العمل في الإيمان.. على ما ذكره أهل التفسير، أن سيئة واحدة لا تحبط جميع الأعمال عند أكثر الخصوم، فلا يمكن إذاً إجراء الآية على العموم، فيجب أن تحمل على أكبر السيئات وأعظم الخطيئات وهو الشرك، ليمكن الجمع بين الآيتين.
__________
(1) زاد المسير: 1/82.
(2) عبر هنا بقوله: الذي يليق بمذهبنا)، يقصد المذهب الإمامي، تفسير الطبرسي: 1/296.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾، يعني: اليهود، والأمّيّ: الذي لا يكتب ولا يقرأ، قاله مجاهد، وفي تسميته بالأمّيّ قولان:
أ. أحدهما: لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلّم الكتاب، فهو على جبلّته، قاله الزّجّاج.
ب. والثاني: أنه ينسب إلى أمّه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء.. وقيل: لأنه على ما ولدته أمّه.
2. ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾، قال قتادة: لا يدرون ما فيه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ على ثلاثة أقوال: أحدها:
أ. أنها الأكاذيب، قال ابن عباس: إلا أمانيّ: يريد إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا، وهذا قول مجاهد واختيار الفرّاء، وذكر الفرّاء أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدّث: أهذا شيء رويته، أم شيء تمنّيته؟ يريد: افتعلته.
ب. الثاني: أن الأماني: التلاوة، فمعناه: لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قال الشاعر:
تمنّى كتاب الله أول ليلة... تمنّي داوود الزّبور على رسل
وهذا قول الكسائيّ والزّجّاج.
ج. الثالث: أنها أمانيهم على الله، قاله قتادة.
4. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، قال مقاتل: ليسوا على يقين، فإن كذب الرؤساء أو صدقوا تابعوهم.
5. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وهم: اليهود، وفيما عنوا بهذه الأيام قولان:
أ. القول الأول: أنهم أرادوا أربعين يوما، قاله ابن عباس وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، والسّدّيّ، ولما ذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنهم قالوا: بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، ونحن نقطع مسيرة كلّ سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس.
• والثاني: أنهم قالوا: عتب علينا ربّنا في أمر، فأقسم ليعذّبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنّة، فلن تمسّنا النار إلا أربعين يوما تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية.
• الثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل.
ب. القول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذّبون لكل ألف سنة يوما من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس.
6. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾، أي: عهد إليكم أنه لا يعذّبكم إلا هذا المقدار!؟
7. قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ بلى: بمنزلة (نعم) إلا أن (بلى) جواب النهي، و(نعم) جواب الإيجاب، قال الفرّاء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك عليّ شيء، فقال الآخر: نعم، كان تصديقا أن لا شيء له عليه، ولو قال بلى؛ كان ردّا لقوله.
8. قال ابن الأنباريّ: وإنما صارت (بلى) تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة (بل)، و(بل) سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك، وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له: بلى؛ أراد: بل أقوم، فزاد الألف على (بل) ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال بل، كان يتوقع كلاما بعد بل، فزاد الألف ليزول هذا التوهّم عن المخاطب.
9. معنى ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ : بل من كسب، ردّ لقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾
10. السّيئة هاهنا: الشّرك في قول ابن عباس وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل.
11. ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ﴾، أي: أحدقت به ﴿خَطِيئَتُهُ﴾ :
أ. قال عكرمة: مات ولم يتب منها.
ب. قال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك.
ج. قال أبو عليّ: إما أن يكون المعنى:
• أحاطت بحسنته خطيئته، أي: أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾
• أو يكون معنى أحاطت به: أهلكته، كقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/82.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المراد بقوله: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ اليهود، لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم:
أ. فالفرقة الأولى: هي الفرقة الضالة المضلة، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
ب. والفرقة الثانية: المنافقون.
ج. والفرقة الثالثة: الذين يجادلون المنافقين.
د. والفرقة الرابعة: هم المذكورون في هذه الآية، وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة، وطريقتهم التقليد، وقبول ما يقال لهم.
2. بين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحداً، بل لكل قسم منهم سبب آخر، ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطاً، وفيهم من يكون عاماً محضاً مقلداً.
3. اختلفوا في الأمي:
أ. قال بعضهم: هو من لا يقر بكتاب ولا برسول.
ب. وقال آخرون: من لا يحسن الكتابة والقراءة، وهذا الثاني أصوب لأن:
• الآية في اليهود، وكانوا مقرين بالكتاب والرسول.
• ولأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، وذلك يدل على هذا القول.
• ولأن قوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ لا يليق إلا بذلك.
4. ﴿أَمَانِيِّ﴾ : جمع أمنية، ولها معان مشتركة في أصل واحد:
أ. أحدها: ما تخيله الإنسان، فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه، ومن هذا قولهم: فلان يعد فلاناً ويمنيه، ومنه قوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120]، فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، قال أبو مسلم: حمله على تمني القلب أولى بدليل:
• قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ [البقرة: 111] أي تمنيهم.
• وقال الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123]
• وقال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ [البقرة: 111]
• وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24] بمعنى يقدرون ويخرصون.
ب. ثانيها: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم، فقبلوها على التقليد، قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته.
ج. ثالثها: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أي إلا ما يقرؤون من قوله: تمنى كتاب الله أول ليلة، قال صاحب (الكشاف) والاشتقاق منى من، إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، وقال الأكثرون: حمله على القراءة أولى كقوله تعالى: ﴿إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52] ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً.
4. ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ من الاستثناء المنقطع، قال النابغة:
حلفت يميناً غير ذي مثنوية... ولا علم إلا حسن ظن بغائب
إذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه، فكأنه تعالى قال: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه، وإلا بان يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون، وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق.
5. دلت الآية الكريمة على أمور:
أ. أحدها: أن المعارف كسبية لا ضرورية، فلذلك ذم من لا يعلم ويظن.
ب. ثانيها: بطلان التقليد مطلقاً، وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
ج. ثالثها: أن المضل وإن كان مذموماً، فالمغتر بإضلال المضل أيضاً مذموم، لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة.
د. رابعها: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ﴾ :
أ. قالوا: الويل كلمة يقولها كل مكروب.
ب. وقال ابن عباس: إنه العذاب الأليم.
ج. وعن سفيان الثوري: إنه مسيل صديد أهل جهنم، وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)
د. قال القاضي: ويل) يتضمن نهاية الوعيد والتهديد.
هذا القدر لا شبهة فيه سواء كان الويل عبارة عن واد في جهنم أو عن العذاب العظيم.
7. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ المراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده، وكذلك أخذهم المال عليه، فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب، ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال: إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما، فأزال الله تعالى هذه الشبهة.
8. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط، أو المراد بذلك سائر معاصيهم، والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه، وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل، لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه، لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام، فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره.
9. ذكر القاضي أن الآية الكريمة تدل على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى، لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: ﴿ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ ﴾ ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم، فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها أنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى.. والجواب على ما ذكره: أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضاً تكون كذلك.
10. ذكر بعضهم أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها، ولا تضاف إلى ما فوقها، فيقال: أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر، إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183، 184] هي أيام الشهر كله، وهي أزيد من العشرة.
11. اختلف في معنى (معدودة):
أ. جماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام، وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام، وهذان الوجهان ضعيفان:
• أما الأول: فلأنه ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة ألبتة.
• أما الثاني: فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك، أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية، وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو.
ب. روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين، وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها، والكلام عليه أيضاً كالكلام على السبعة.
ج. قيل في معنى (معدودة) قليلة، كقوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: 20] والله أعلم.
12. سؤال وإشكال: أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية؟ والجواب: إن المعصية تزداد بقدر النعمة، فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جداً.
13. سؤال وإشكال: ذكر هاهنا: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وفي آل عمران: ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: 24] لم كانت الأولى معدودة، والثانية معدودات، والموصوف في المكانين موصوف واحد، وهو (أياماً)؟ والجواب: أن الاسم إن كان مذكراً فالأصل في صفة جمعه التاء، يقال: كوز وكيزان مكسورة، وثياب مقطوعة، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء، يقال: جرة وجرار مكسورات، وخابية وخوابي مكسورات.. إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادراً نحو حمام وحمامات، وجمل سبطر وسبطرات، وعلى هذا ورد قوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ و ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وفي آل عمران بما هو الفرع.
14. العهد في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ يجري مجرى الوعد والخبر، وإنما سمى خبره سبحانه عهداً لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر، فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه.
15. قوله تعالى: ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾ ليس باستفهام، بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم، بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير.
16. قوله تعالى: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده:
أ. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: لأن الكذب صفة نقص، والنقص على الله محال.
ب. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنياً عنه، والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنياً عنه يستحيل أن يفعله، فدل على أن الكذب منه محال، فلهذا قال: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾
17. سؤال وإشكال: العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه، فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز، ثم العقل يطابق ذلك، لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم، والجواب: الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب.
18. قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هو بيان لتمام الحجة المذكورة، فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع، وثبت أنه لم يوجد السمع، كان الجزم بذلك التقدير قولًا على الله تعالى بما لا يكون معلوماً لا محالة.
19. تدل هذه الآية الكريمة على فوائد:
أ. أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل.
ب. أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلًا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي.
ج. أن منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية، قالوا: لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم، فوجب أن لا يكون التمسك به جائزاً لقوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذكر ذلك في معرض الإنكار، والجواب: أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوماً، فكان القول به قولًا بالمعلوم لا بغير المعلوم.
د. أن هذا من قبائح أقوال اليهود وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً قليلة، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل ألبتة:
• على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: لأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله، فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي.
• على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: لأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم، فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك.
فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي، وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بدلك.
20. ﴿بَلَى﴾ إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله تعالى: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾، أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
21. ذكر الوعيدية(2).، ولم يعقب عليه، أن السيئة تتناول هنا جميع المعاصي، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار لا جرم بين تعالى أن الذي يستحق به الخلود أن يكون سيئة محيطة به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد والكوز بالماء، وذلك هاهنا ممتنع فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين:
أ. أحدهما: أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالساترة لتلك الطاعات، فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة.
ب. الثاني: أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات، فكأنها استولت على تلك الطاعات، وأحاطت بها كما يحيط عسكر العدو بالإنسان، بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه، فكأنه تعالى قال بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فإن قيل: هذه الآية وردت في حق اليهود، قلنا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
22. ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد:
أ. أحدها: ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان.
ب. ثانيها: أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
ج. ثالثها: أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان، وهاهنا مسائل:
23. العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً، وقد ذكر الوعيدية بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة، إلا أن قوله: آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلًا واحداً من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، والجواب: أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى، والإيمان هو المصدر، فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله: آمن دليلًا على صدور كل تلك الأعمال منه.
24. ذكر المرجئة أن هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة، لأنه أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها، فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/564.
(2) نقلنا مباحث الرازي المرتبطة بهذه المسألة إلى محلها الخاص في السلسلة.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ :
أ. قيل: أي من اليهود، وهو أظهر.
ب. وقيل: من اليهود والمنافقين.
ج. عن عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب.
د. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين.
هـ. عن علي: هم المجوس.
2. أميون: أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الامة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) الحديث، وقد قيل لهم إنهم أميون:
أ. قيل: لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس.
ب. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب)
3. ﴿إِلَّا﴾ ها هنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾، وقال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
4. الأماني: جمع أمنية وهي:
أ. التلاوة، واصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليلة... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله... تمني داوود الزبور على رسل
ب. والأماني أيضا الأكاذيب، ومنه قول عثمان: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت، وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شي رويته أم شي تمنيته؟ أي افتعلته، وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد ﴿أَمَانِيِّ﴾ في الآية.
ج. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه، قال قتادة: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ يعني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم.
د. وقيل: الأماني التقدير، يقال: مني له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر.
5. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ : ﴿إِنَّ﴾ بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾، و ﴿يَظُنُّونَ﴾ يكذبون ويحدثون، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيها يقرؤون به. قال أبو بكر الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أراد إلا يكذبون.
6. اختلف في الويل في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ﴾ :
أ. روى عثمان بن عفان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه جبل من نار.
ب. وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين جبلين يهوى فيه الهاوي أربعين خريفا.
ج. وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الآية واد يجرى بفناء جهنم من صديد أهل النار.
د. وقيل: صهريج في جهنم.
هـ. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم.
و. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب.
ز. وقال الخليل: الويل شدة الشر.
ح. وقال الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم.
ط. وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة.
ي. وقال ابن عرفة: الويل الحزن، يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله، ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ .
7. اختلف في أصل الويل:
أ. قيل: الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾، وهى الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات.
ب. وقال الفراء: الأصل في الويل (وي) أي حزن، كما تقول: وي لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها، والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع، لأنه يقتضى الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء.
8. ارتفع ﴿فَوَيْلٌ﴾ بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لان فيه معنى الدعاء، قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا.
9. ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ﴾ الكتابة معروفة، وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبى ذر، خرجه الآجري وغيره، وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطى الخط فصار وراثة في ولده.
10. قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾، وقوله ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾
11. فائدة قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج: ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.
12. في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: ألا من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) الحديث، فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حدره وشاع،. كثر وذاع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
13. قوله تعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لان الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله، قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رئاسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورئاستهم، فمن ثم غيروا.
14. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ قيل من المآكل، وقيل: من المعاصي، وكرر الويل تغليظا لفعلهم.
15. ﴿وَقَالُوا﴾ يعني اليهود، ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ اختلف، في سبب نزولها:
أ. قيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لليهود: من أهل النار). قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم، فقال: كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية.
ب. قال ابن زيد، وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الآية، وهذا قول مجاهد.
ج. قالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم، ورواه الضحاك عن ابن عباس، وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك، وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله.
16. في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: دعي الصلاة أيام أقرائك) في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لان ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾، ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾، ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾، فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يعني جميع الشهر، وقال: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يعني أربعين يوما، وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج الكلام عليه.
17. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم تستوجبون بذلك الخروج من النار، أو هل عرفتم ذلك بويح الذي عهده إليكم ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ توبيخ وتقريع.
18. قوله تعالى: ﴿سَيِّئَةٌ﴾ السيئة الشرك، قال ابن جريج قلت لعطاء: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾؟ قال الشرك، وتلا ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾، وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.
19. لما قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم)
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/6.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ :
أ. قيل: أي من اليهود، وهو الراجح.
ب. وقيل: هم نصارى العرب.
ج. وقيل: هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها.
د. وقيل: هم المجوس.
هـ. وقيل غير ذلك.
2. الأميّ: منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث (إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)، وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال ومنهم أهل الكتاب.
3. ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأمانيّ التي يتمنونها ويعلّلون بها أنفسهم.
4. الأماني: جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون ولا يقرؤون المكتوب، والاستثناء منقطع، أي:
أ. لكن الأمانيّ ثابتة لهم من كونهم مغفورا لهم بما يدّعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم.
ب. وقيل: الأمانيّ الأكاذيب، عن ابن عباس، ومنه قول عثمان بن عفان: ما تمنيت منذ أسلمت: أي ما كذبت، حكاه عنه القرطبي في تفسيره.
ج. وقيل: الأمانيّ: التلاوة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، ومنه قول كعب بن مالك:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنّى كتاب الله آخر ليله... تمنّى داوود الزّبور على رسل
د. وقيل: الأماني: التقدير، قال الجوهري: يقال: منّى له: أي قدّر، ومنه قول الشاعر:
لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم... حتّى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر، قال في الكشاف: والاشتقاق من منى إذا قدّر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدران كلمة كذا بعد كذا.
5. ﴿وَإِنَّ﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ نافية: أي ما هم، والظنّ: هو:
أ. قيل: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم، كذا في القاموس، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين.
ب. وقيل: الظن هنا بمعنى الكذب.
ج. وقيل: هو مجرد الحدس.
6. لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين، بل يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأمانيّ ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/123.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمِنْهُم﴾ من اليهود ﴿أُمِّيُّونَ﴾ لا يكتبون ولا يقرؤون الكتابة، كأنَّهم في حينهم ولدتهم أمَّهاتهم، وأنَّهم باقون على أصل خلقتهم، أو من العرب الذين لا يكتبون ولا يقرؤون المكتوب، أو من أمِّ القرى مكَّة وأهلها لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون.
2. ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعرفون ﴿الْكِتَابَ﴾ التوراة أو الكتابة، فهم عوامٌّ رسخ التقليد في قلوبهم، فكيف تطمعون أن يؤمنوا؟ ﴿إلَّآ أَمَانِيَ﴾ أي: لكن يعتقدون أماني، أي: أكاذيب، فالاستثناء منقطع؛ أولا يعلمون المكتوب إلَّا مكتوبًا مكذوبًا فيه، أو إلَّا مكتوبًا يقرؤونه بلا معرفة معنًى؛ لأنَّ الأماني ـ بالشدِّ والتخفيف ـ بمعنى ما يُقَدَّر في النفس ولو كذبًا، بمعنى ما يُتمنَّى، وبمعنى ما يُقرأ، فالاستثناء متَّصل، وذلك أنَّهم تلقَّوا من رؤسائهم المحرِّفين أكاذيب أو كتبًا كتبوها لهم مكذوبًا فيها، مثل أنَّ النبيء محمَّدا الموعود به أسود أحول قَطَط الشعر قصير أو طويل بدل ربعة، وغير ذلك مِمَّا هو ضدّ صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنَّ الجنَّة لا يدخلها إلَّا من كان هودًا، وأنَّ النار لا تمسُّهم إلَّا أيَّامًا معدودة، ونحن أبناء الله وأحبَّاؤه.
3. ﴿وَإِنْ هُمُ﴾ ما هم ﴿إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ في جحود محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته وكتابه، والمراد بالظنِّ خلاف العلم، فتناوَلَ الاعتقاد الجازمَ غير المطابق، لا الظنَّ المشهور الذي هو الاعتقاد الراجح مع تجويز النقيض، طابق الواقع أو لم يطابق؛ لأنَّ بعضهم جازمون بالاعتقاد الفاسد، وجاهلون جهلا مركَّبًا، وبعضهم جاهل أمِّيٌّ مقلِّد للجاهل جهلاً مركَّبًا، فالضمير لليهود مطلقًا، والقسم الثالث العارف بالحقِّ داخل في ذلك؛ لأنَّ لفظه لفظ الجازم بالإنكار، وهو ظانٌّ، أي: غير قائل بالعلم، ويجوز عوده للأمِّيِّين.
4. ﴿فَوَيْلٌ﴾ هلاك أو واد في جهنَّم، لو وقع فيه جبل لذاب وسال، أو واد في جهنَّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره ـ كما ذكرتُه في وفاء الضمانة ـ ، ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ذكر الأيدي مع أنَّ الكتابة لا تقع إلَّا باليد، تأكيدًا لقبح فعلهم، كما أكَّد في قوله تعالى: ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: 167]، وأيضًا قد يقال: كتب فلان وهو لم يكتب بيده بل كتب له غيره، ووجه آخر أنَّ معناه نفي أن يكتبه كاتب قبلهم، فهو مختَلَق من عند أنفسهم.
5. ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا﴾ أي: هذا الكتاب ﴿مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ﴾ يستبدلون به ﴿ثَمَنًا﴾ ما به الشراء، أو الشراء على ظاهره، والثمن: المثمَّن، أي: مثمَّنًا ﴿قَلِيلاً﴾ بالنسبة إلى ما باعوا من دينهم ومن الجنَّة.
6. خاف رؤساء اليهود على زوال ملكهم حين قدم النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، فبدَّلوا صفة النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بضدِّها إثباتًا لرئاستهم، ولِمَا يعطيهم سفلتهم وعامَّتهم، ﴿فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتَ﴾ أي: كتبته ﴿اَيْدِيهِمْ﴾ أو من كتابة أيديهم ﴿وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من سائر شركهم وبدعهم وكبائرهم وصغائرهم، ومن كبائرهم أخذ الرِّشى، وهم أربع فرق: محرِّفون، ومنافقون، ومانعون من إظهار الحقِّ، وجاهلون مقلِّدون.
7. ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ كناية عن دخولها ﴿إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ أي: قليلة، وكان الحساب في العرب عزيزًا، فصاروا يعبِّرون عن القليل بالعداد، لا يألفون عدَّ الكثير وقوانين الحساب، والقائلون: ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ يهود المدينة، وهم نشَؤُوا على العربيَّة، وكلامهم فيها حجَّة فقالوا: (مَعْدُودَة) مكان (قليلة)، وهي مقدار عبادة آبائهم العجل أربعين، زعموا أنَّ الأربعين مدَّة جعلها الله عذابًا لآبائهم ولهم، وقال من قال: نعذَّب سبعة أيَّام عدد الأسبوع، وأنَّه سبعة آلاف سنة، رجع إلى سبعة أيَّام، يومٌ مكانَ ألفِ سنة.
8. ﴿قُلَ اَتَّخَذتُّمْ﴾ بهمزة مفتوحة ثابتة وصلاً ـ حتَّى إنَّه نُقل فتحها للَّام فيه ـ ووقفًا، للاستفهام الإنكاريِّ، أو التقريريِّ على معنى التخطئة، فهو في معنى التوبيخ، أو نزَّله منزلة الاستفهام الحقيقيِّ.
9. ﴿عِندَ اللهِ عَهْدًا﴾ علمًا يوثَق به أنَّكم تعذَّبون أيَّامًا معدودة، ﴿فَلَن يُّخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ﴾ عطف على مدخول الهمزة كقوله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبـِّهِ﴾ [الزمر: 22]، وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ وَّعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ [القصص: 61] وذلك بمرتبة المضارع المنصوب في جواب الاستفهام، إلَّا أنَّ النصب هنا بـ (لن)، كأنَّه قيل: (أتَّخذتم عند الله عهدًا فيُوفِيَ لكم به)؟، بنصب يوفي، ولا حاجة إلى تقدير الشرط هكذا: (إن اتَّخذتم عند الله العهد فلن يخلف الله عهده)، بمعنى: أيُّ هذين واقِع؟ أتِّخاذُكم العهد أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ خرج ذلك مخرج المتردِّد في تعيينه على سبيل التقرير، والنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم عالم بوقوع أحدهما، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين.
10. ﴿أَمْ﴾ متَّصلةٌ عَطَفَت جملة؛ لأنَّها تعطف المفردَ والجملة، أو حرف ابتداء منقطعة بمعنى (بل) وهمزة الإنكار، وهكذا ما أشبهه، والمنقطعة حرف ابتداء وإضرابٌ، وتقدَّر بـ (بل) والهمزة، أو بـ (بل)، أو بالهمزة، وإذا كان الاستفهام بعدها فبمعنى (بل) فقط، وإذا لم تصلح (بل) وحدها حُمِل الكلام على التهكُّم إن قدِّرت، كقوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ [البقرة: 133]، أي: بل كنتم شهداء، فإنَّهم لم يكونوا شهداء، أو يقدَّر: بل تقولون، على مقتضى دعواكم أنَّكم كنتم شهداء.
11. ﴿تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ بل أنتم فيه جاهلون من دعوى الخروج من النار، وتقليل المدَّة ﴿بَلَى﴾ تَمَسُّكُم النار مع الخلود فيها، واحتجَّ عليهم بما قُضي في الأزل، وكُتب في اللوح المحفوظ من قوله: ﴿مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ ذنبًا كبيرًا أو صغيرًا أصرَّ عليه، فالسيِّئة تشمل الشرك وما دونه.
12. ولا دليل على تخصيص الشرك، ويدلُّ على ما قلت في أهل الجنَّة: ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، وقومنا مجتمعون معنا على أنَّ الإصرار محبط للأعمال الصالحات، ودعوى أنَّه يحبط ثواب الأعمال ويبقى ثواب التوحيد بدخول الجنَّة لا دليل عليها، والله يقول: ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، ومن أين لهم أن يقولوا: بلا عمل للصالحات!؟ وحديث دخول الجنَّة بمجرَّد التوحيد محمول على ما قبل أن تفرض الفرائض، وقد قال بهذا بعض سلفهم كما بيَّنته في (وفاء الضمانة بأداء الأمانة)، ومن شأن السيِّئة غير المتوب منها أن تجرَّ سيِّئات، وهو قوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ﴾ سيِّئاته، أو أشار إلى أنَّه لَمَّا لم يتب عن السيِّئة لم تغفر له صغائره لإصراره، أحدَقَت به من كلِّ جانب إذ لم يتب منها كلِّها، ولو تاب من بعضها، وقيل: لا يعاقب على ما تاب منه، وهو قول لا بأس به، فيحيط به ما لم يتب منه ولو واحدة.
13. ﴿فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون منها، المشركون والفاسقون، والأصل في الخلود: الدوام، وحمله على المكث الطويل إنَّما يصحُّ لدليل، ولا خلاف في دوام المشرك في النار، ومعنى إحاطة الخطيئة به أنَّها أهلكته إذ لم يتخلَّص منها بالتوبة، وليس المراد أنَّها به معنى أنَّها في قلبه وجوارحه، فلا دليل في الآية على أنَّ الخلود إنَّما هو لمن عمَّت قلْبَه بالشرك؛ لأنَّا إذا صرنا إلى تعميم البدن بالمعصية وردَ علينا أنَّ من جسد الكافر ما لم تصدر منه معصية مثل عنقه وأعلى صدره إذا لم تصدر منهما.
14. ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ أتى هنا بالواو، وفيما مرَّ بالفاء؛ لأنَّ وعيد الكريم مظنَّة الخلف، حاشاه تعالى عن الخلف، بخلاف وعده، فأكَّد الوعيد بربط الفاء وتعقيبها، أو لسبق الرحمة، ولأنَّ خلودهم في النار بسبب أعمالهم، وَأَمَّا الجنَّة فبفضل الله تعالى ، فإنَّهم يحاسبون يوم القيامة بنعم الله فتستغرق أعمالهم، فيقول الله تعالى : (ادخلوا الجنَّة بفضلي).
15. ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ شاملٌ للتقوى، إذْ تَرْكُ المعاصي من الأعمال الصالحات، وهكذا حيث لم يَذكُر التقوى مع العمل الصالح، وذلك أولى من حمل المطلق على المقيَّد بالتقوى في الآي الأُخر، أو يقدَّر: وعملوا الصالحات واتَّقوا، وكذا في سائر القرآن، فلا دليل في الآية على أنَّ العمل الصالح قد ينجو صاحبه مع عدم التوبة من الذنوب.
16. ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون، وخلود أهل النار وأهل الجنَّة فيها دوام.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/145.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادّعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلّا مدة يسيرة، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها، لأن كل معدود منقض.
2. بين تعالى إفكهم، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى، وهو منتف.
3. ﴿قُلْ﴾ منكرا لقولهم وموبّخا لهم ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ أي فتقولوا لن يخلف الله عهده، وجعل بعضهم الفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر. أي: إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه
4. ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ أي: أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين ﴿عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي وقوعه جهلا وجراءة، وقولهم المحكيّ، وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه، لكنه مستلزم له، لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.
5. ﴿بَلَى﴾ إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي عملها.
6. أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن يكون سببه محيطا به فقال: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة، وسدت عليه مسالك النجاة بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود، وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
7. ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنّ الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة، تواترا، من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة، في هذه الآية، بالكفر والشرك، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود.
8. من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد، وذلك لفوائد:
أ. منها، ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان، ومنها، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه، وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
ب. ومنها، أنه يظهر بوعده كمال رحمته، وبوعيده كمال حكمته، فيصير ذلك سببا للعرفان.
9. أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، فإذا عطف عليه العمل، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام، أو يقال: لم يدخل فيه ولكن مع العطف، كما في اسم الفقير والمسكين.
10. قال الراغب: في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به، الأعمال السيئة، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/341.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم: يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل، وهذا هو شأن عامتهم: لا علم لهم بشيء من الكتاب، ولا معرفة لهم بالأحكام، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم، وما هم على بينة منها، وإنما هي ظنون يلهون بها، وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين، فان الأمى قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا وهؤلاء لم يكونوا كذلك.
2. سؤال وإشكال: لم سمى ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما؟ والجواب: إنما العلم بالدليل، ولا يسمى مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم، على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم، ولو أورد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء: إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم، وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ، ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا.
3. هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة، وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها، وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس.. هكذا كان اليهود في زمن التنزيل وقد اتبعنا سننهم وتلونا تلوهم فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع)، وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ونحن غارقون فيها.
4. تدل الآية الكريمة على بطلان التقليد، وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة، وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان.
5. فسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء، ومنهم من فسرها بالقراءات أي أنهم لاحظ لهم من الكتاب الا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل، فهو على حد قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، وقد ورد التمني بمعنى القراءة ومنه قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله... تمنىّ داوود الزبور على رسل
وهذا النوع من التمني قد برّز فيه المسلمون حتى سبقوا من قبلهم فقد أمسوا أكثر الأمم تلاوة لكتابهم، وأقلهم فهما له واهتداء به.
6. إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن.. كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق، وان كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان، فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام.
7. قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ استثناء منقطع، والعلم المنفى قاصر لا يشمل الأماني، ويصح أن يكون معتديا، والآية على حد قولهم: ما علمت فلانا الا فاضلا)، ويكون المعنى أنهم إنما يعلمون من الكتاب أنه مجموعة أماني يمنونها أنفسهم، فهم لا يأخذون منه الا ما هو لهم ويمدهم في غرورهم، وأما ما ينبههم على سيئات أعمالهم فكأنه غير معروف لهم من الكتاب.
8. هذا ضرب من ضروب غرورهم عطفه على ما قبله، فقال ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ قيل: هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، والذى عليه أكثر اليهود أنها سبعة أيام لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فالإسرائيلي الذي لا تدركه الشفاعة يمكث في النار سبعة أيام عن كل الف سنة يوم، ومثل هذا الحكم لا يمكن القول به إلا بعهد من الله تعالى مالك يوم الدين والجزاء وإلا كان افتئاتا عليه سبحانه وقولا عليه بغير علم.
9. هذا ما رد به عليهم ولله الحجة البالغة وأمر رسوله أن يخاطبهم به بقوله: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ أي هل عهد الله إليكم ذلك ووعد به فكان حقا لكم عنده، لأن الله لا يخلف عهده؟ وقال ابن جرير وبعض المفسرين معناه هل اتخذتم عند الله عهدا باتباع شريعته اعتقادا وائتمارا وانتهاء وتخلقا، فأنتم واثقون بعهد الله في كتابه لمن كان كذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة ومغفرة ما عساه يفرط منه من السيئات أو العقوبة عليه مدة قصيرة؟
10. الاستفهام للإنكار، أي لستم على عهد من الله تعالى، ولذلك كذبهم بقوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، أي أم تقولون على الله شيئا ليس لكم به علم، إذ العلم بمثله لا يكون إلا بوحى منه يبلغه عنه رسله، والقول على الله بغير علم جرأة وافتيات عليه وكفر به، والمعنى أنه لا بد من أحد الأمرين إذ لا واسطة بينهما: إما اتخاذ عهد عند الله، وإما القول على الله بغير علم، وإذا كان اتخاذ العهد لم يحصل تعين أنكم تكذبون على الله بجهلكم وغروركم.
11. للسيئة هنا اطلاقها وخصها بعض المفسرين بالشرك، ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ معنى، فان الشرك أكبر السيئات، وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيفما كان.
12. معنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها. يرى نفسه حرا مطلقا وهو أسير الشهوات، وسجين الموبقات، ورهين الظلمات؟
13. إنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الاصرار، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي من الخطايا والسيئات ففي كلمة ﴿يَكْسِبُونَ﴾ معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه غطاه وستره أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه.
14. من أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا وإقلاعا صحيحا لا تحيط به الخطايا ولا ترين على قلبه السيئات، روي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ لمثل هذا كان السلف يقولون: المعاصي يريد الكفر.
15. ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ خبر ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي هم أصحاب دار العذاب في الآخرة الاحقاء بها دون من لم يصل إلى درجتهم في الدنيا، وهو من في قلبه شيء من نور الإيمان وتوحيد الله تعالى وما يتبعه من الخير.
16. من المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها، فلم يؤولها بالشرك، ولكنهم أولو جزاءها فقالوا: إن المراد بالخلود طول مدة المكث، لأن المؤمن لا يخلد في النار، وان استغرقت المعاصي عمره، وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته.. أولو هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وتأييدا لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة، والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
17. فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه، والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذابا لا نهاية له لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفتهم لا لمنفعته، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة، وإذا كان التقليد مقبولا عند الله كما يرى فاتحو الباب فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم ـ ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر فإن هذه المسألة قديمة وهى أكبر مشكلات الدين. نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالاجماع ولو سكوتيا ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء.
18. ذكر الله تعالى في مقابلة أهل النار أضدادهم أهل الجنة على سنته في كتابه فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وأما الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح وما يلزمه من الأعمال الصالحات فأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.. أي أولئك دون غيرهم أصحابها الحقيقون بها بحسب وعد الله تعالى وفضله هم خالدون فيها، وفيه دليل على أن الوعد على الإيمان والعمل معا إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا من آمن فمات ولم يتسع له الوقت للعمل فهو من أهله بمقتضى إيمانه الصحيح وما حال دونه من الآجال عذر لأنه لا ذنب له فيه.
__________
(1) تفسير المنار: 1/359.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ الأميون واحدهم أمي، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه الحديث: إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب)
2. الأماني: واحدها أمنية وهى التلاوة كما قال كعب ابن زهير:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة... وآخره لاقى حمام المقادر
أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ .
3. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبنى على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه، وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بيّنا ظاهرا، وأشدّهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغشّ وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.
4. كرر الوعيد فقال: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.
5. جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهدّدوا على كل جناية بالويل والثبور.
6. قال محمد عبده: من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه اليهود من قبل فلينظر فيما بين يديه فإنه يراها واضحة جلية، يرى كتبا ألّفت في عقائد الدين وأحكامه، حرّفت فيها مقاصده وحوّلت إلى ما يغرّ الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله، وإنما هي صادّة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به ـ ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين: رجل مارق من الدين يتعمد إفساده، ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح، يخادع الناس بذلك ليقبلوا ما يكتب ويقول، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل، ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه.
7. ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
8. أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم، وقيل: إنها تمسهم أربعين يوما، وهى المدة التي عبدوا فيها العجل.
9. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.
10. ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.
11. إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
12. أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرا طويلا، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب.
13. المراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصي مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان، ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
14. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالح الأعمال فأدّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن، وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، كما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له يا رسول الله. قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم)
15. جرت سنة الله في القرآن أن يشفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد من الترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر، إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله وحسن توفيقه ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 1/151.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل، إنهم فريقان:
أ. فريق أمي جاهل، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا، وإلا أماني في النجاة من العذاب، بما أنهم شعب الله المختار، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام!
ب. وفريق يستغل هذا الجهل، وهذه الأمية فيزوّر على كتاب الله، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة، ويكتم منه ما يشاء، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله.. كل هذا ليربح ويكسب، ويحتفظ بالرئاسة والقيادة.
2. كيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق، وأن يستقيموا على الهدى، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين، وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم. الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق!
3. من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله، ولا تتفق مع سنته، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء.. أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم.
4. علام يعتمدون في هذه الأمنية؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال، وأكاذيب المحتالين العلماء!
5. الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة، حين يطول بهم الأمد، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله.
6. هذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ .. فأين هو هذا العهد؟
7. ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .. وهذا هو الواقع. فالاستفهام هنا للتقرير، ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ!
8. هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان: إن الجزاء من جنس العمل، ووفق هذا العمل.
9. لا بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ .. الخطيئة كسب؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة، ولكن التعبير يومئ إلى حالة نفسية معروفة.. إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها؛ ويحسبها كسبا له ـ على معنى من المعاني ـ ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا، وما تركها تملأ عليه نفسه، وتحيط بعالمه؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها ـ حتى لو اندفع لارتكابها ـ وأن يستغفر منها، ويلوذ إلى كنف غير كنفها، وفي هذه الحالة لا تحيط به، ولا تملأ عليه عالمه، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير.. وفي التعبير: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ .. تجسيم لهذا المعنى، وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني، وسمة واضحة من سماته؛ تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة، وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوها، ويحيا معها ولها.
10. عندئذ.. عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة.. عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .
11. ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .. فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح.. وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان.
12. ما أحوجنا ـ نحن الذين نقول إنا مسلمون ـ أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح. فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض، وشريعته في الحياة، وأخلاقه في المجتمع، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأمانيّ كأمانيّ اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/102.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. القوم فريقان: عامة، وخاصة، أو أميون، وعلماء.
2. الأميون ـ شأنهم في كل أمة ـ مقودون لمقولات العلماء وأصحاب الفتيا فيهم، فإن ضلّ العلماء أو انحرف المفتون، عظم البلاء، وعمّ الخطب، فشمل الأمة كلها، ولهذا أخذ الله الميثاق على العلماء أن يؤدّوا أمانة ما حملوا من علم، فيفتحوا للناس طرق الهداية، ويكشفوا لهم سبل الرشاد: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾
3. وعلماء بنى إسرائيل هم دعاة غواية وضلال فيهم، لا يؤدّون أمانة العلماء بينهم، بل يجيئون إليهم بالحق متلبّسا بالباطل، وبالهدى مختلطا بالضلال.
4. لا يقف سفه اليهود عند حدّ، فهم يفترون على الله الكذب، إذ يتخذون لأنفسهم مكانا عنده، تمليه عليهم أهواؤهم، حتى لكأنهم بحيث لهم سلطان على الله، ومشيئة فوق مشيئته:
أ. قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، فكان قول الحق لهم: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
ب. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ فكان إنكار الحق عليهم بقوله: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
5. هذا القول من اليهود ليس بلسان المذنبين منهم، ليهوّنوا على أنفسهم اقتراف المنكر، واستساغة تعاطيه وإدمانه، وإنما هو على لسان الشريعة التي افتروها على الله، وخصّوا بها أنفسهم.. إن أشرارهم وعصاتهم لن يعاقبوا كما يعاقب سائر الناس، وإنما ـ إذ كانوا يهودا ـ لهم حكم خاص، فلا تنالهم النار إلا مسّا، ولأيام معدودة.. هذا هو حكم العصاة والمجرمين والملحدين منهم، الذين غرقوا إلى أذقانهم في الإثم والضلال!
6. بهذا التفكير الآثم، الذي أدخلوه مدخل الشريعة. استطاعوا أن يترضّوا أهواءهم، وأن يشبعوا أطماعهم، وأن يركبوا كل منكر، ويأتوا كل قبيح، في جانب الله، وفى حق الناس!
7. كلّا، فإن المحسنين منهم ـ وقليل ما هم ـ يلقون جزاء الإحسان بالإحسان، وإن المسيئين منهم ـ وما أكثرهم ـ فالنار مثوى لهم: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
8. هذا هو حكم الله، يقضى به بين عباده: يهودا كانوا أو غير يهود، والخطيئة التي تحيط بالإنسان وتحبط عمله هي الكفر بالله، نعوذ بالله منه، ولكن اليهود لا يرون في اليهوديّ إذا كفر بالله أن يلقى مصير الكافرين.. لا لشيء إلّا لأنه يهودي وهذا هو الذي جعل اليهود يعزلون أنفسهم عن الناس، ويحجزون أنفسهم عن الاختلاط بهم، حتى يحتفظوا بهذا الامتياز المفترى، الذي يرجع أولا وآخرا إلى النسب، لا إلى الإيمان والتقوى! ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/102.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأمي: من لا يعرف القراءة والكتابة:
أ. والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي.
ب. وقيل: منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه، فلم يكتسب علما جديدا، ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها، وقد قالوا في جمع الأم: أمهات فردّوا المفرد إلى أصله، فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها.
2. اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب، فلذلك قيل هنا: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أي ليس جميعهم أهل كتاب، ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75] وقال ابن صيّاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أشهد أنك رسول)، وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة، ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أمّيّا قبل النبوءة.
3. قال أبو الوليد الباجي: إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب (المدارك) لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.
4. الكتاب: إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب، وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده: ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ :
أ. فعلى الوجه الأول يكون قوله: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ أثرا من آثار الأمية، أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه.
ب. وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظ... ن كأن قد رأى وقد سمعا
5. الأمانيّ: بالتشديد جمع أمنيّة على وزن أفاعيل، وقد جاء بالتخفيف، فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح، والأمنية كأثفيّة وأضحية أفعولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدّر الأمر، ولذلك قيل: تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومنّاه أي جعله مانيا أي مقدّرا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا، وهكذا كما قال كعب بن زهير:
فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت... إن الأماني والأحلام تضليل
6. لأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره، فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني:
أ. هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا، وليست بحق.
ب. أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين، وليست منه، بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد ما لها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا.
ج. أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا، وهذا أظهر الوجوه.
د. وقيل: الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين.
هـ. وقيل: الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله... وآخره لاقى حمام المقادر
أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل في آخره.
7. الصحيح أن الأماني هنا التمنيات، وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب، أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب، وهم أميون لا يعلمونه، ولكنهم يدّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء، فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلا، فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالما، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب.
8. قوله تعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو كقوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]، والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم، أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتبا تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح، وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية، وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح، ثم أشاعوها، ونسبوها إلى الله ودينه، وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.
9. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ تفصيل لجنس الويل إلى ويلين، وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه، وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك، فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد، وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك.
10. كأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر، ثم في زمن طيطس القائد الروماني.
11. اختلف في الواو:
أ. قيل: الواو لعطف الجملة على جملة: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 75] فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ .
ب. والأظهر أن الواو عطف على قوله ﴿يَكْتُبُونَ﴾ [البقرة: 79]، أي فعلوا ذلك، وقالوا لن تمسنا النار، ووجه المناسبة أن قولهم ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم، وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.
12. ﴿وَقَالُوا﴾ أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد، كما في قوله ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14]، ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم: قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب: علام تقول الرمح يثقل عاتقي.
13. المسّ: حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام، وكذلك اللمس، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ ﴾ [الأنعام: 49]
14. عبر عن نفيهم بحرف (لن) الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة (لن) على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله: ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية.
15. الوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا.
16. تأنيث (معدودة) وهو صفة (أياما) مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات.
17. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ جواب لكلامهم، ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30]، والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده ﴿بَلَى﴾ فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين، وليس إنكاري لوجود المعادل وهو ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
18. المراد بالعهد الوعد المؤكد:
أ. فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد.
ب. ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك.
19. ذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد، و(عند) لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان.
20. ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء، والتقدير: فإن كان ذلك، فلكم العذر في قولكم، لأن الله لا يخلف عهده.. ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن (لن) للاستقبال.
21. (أم) في قوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في (الإيضاح) وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم، فما قاله صاحب (المفتاح) من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير.
22. قوله: ﴿بَلَى﴾ إبطال لقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها، فمعنى بلى: بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.
23. قوله: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ سند لما تضمنته (بلى) من إبطال قولهم، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة، ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته، فأولئك أصحاب النار، فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد:
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر.
24. من في قوله: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها، وهي في الشرط من صيغ العموم، فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب (بلى) بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا، ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله: ﴿بَلَى﴾ .
25. المراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة، وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾
26. ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ : الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك، قال تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22]، وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرّئ على جميع الخطايا، ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17]، فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات، بل هو لا يخلو من عمل صالح، وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
27. القصر المستفاد من التعريف في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ قصر إضافي لقلب اعتقادهم.
28. قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.. والمراد بالخلود هنا حقيقته.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/556.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان: أحبار أو علماء، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب؛ ولأن الآخرين لا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ .
2. الأمى: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لا يسودها العلم، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران]، وقد ينسب الأمى إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه، فهو لم يزد علما عما ولدته عليه أمه.
3. هؤلاء الأميون لا يقرؤون الكتاب، ولا يعرفون أحكامه، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم.
4. الأماني: جمع أمنية، وهى ما يتمناه القلب ويحبه، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولقد قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ أي ما يتمنونه ويقول تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
5. الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثواب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوامّ المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، ولو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
6. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ :
أ. قالوا: إن الاستثناء منقطع، فيكون المعنى لا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه، ولكن يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها، ولا يدركون التكليفات والأحكام، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم.
ب. ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا، ويكون المعنى أنهم لا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضى أمانيهم، ويشبع أهواءهم، ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أي إن علمهم ظن، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا، وإنما تنتج ظنا، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا، فعلمهم أوهام في أوهام، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا؟.
7. قال بعض العلماء: إن الأماني من التمني، وهو لا يكون إلا كاذبا، ولقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أي ليس علمهم إلا ما يظنونه علما، وما هم بمتيقنين، وقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنا بعد آن، فنفى عنهم العلم وقصره على الظن، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها، وظنونا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم.
8. ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هنا نجد النص الكريم يفرض معاوضة قامت بين أحبار اليهود في أفعالهم:
أ. اشتروا بالبضاعة الثمينة الغالية التي في أيديهم بأن دفعوها في نظير ثمن ضئيل هو أعراض الدنيا.
ب. أو نقول أن اشترى هنا معناها باع أي باعوا ما في أيديهم من حقائق اؤتمنوا عليها وأخذوا ثمنا قليلا مهما حسبوه كثيرا.
9. أكد سبحانه وتعالى الهلاك النازل بهم يوم القيامة فقال تعالت كلماته: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، ومعناها ويل لهم أي هلاك بسبب ما كتبت أيديهم، لأنها بهذه الكتابة حرفت وبدلت وسجلت في الكتاب هراء وأباطيل، فكانت في ذاتها إثما، وهذا يرجح أن موضع إفكهم الكتابة الباطلة نفسها لا تأويلاتهم فقط.
10. ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ الذي كسبوه من أعراض الدنيا، لأنه سحت في ذاته، إذ إن ما دفع في سبيله كان باطلا، وهو أخذ لمال الله بالباطل، وما يكسبونه من جاه أو سلطان أو رئاسة أمر باطل؛ لأنه دفع الحق عن سبيله.
11. إن الله تعالى لا يبارك شيئا أخذ بغير حله، فهو كالاغتصاب لا يطيب لنفسه، وكذلك عد سبحانه وتعالى الكتابة سببا للعقاب الشديد، والكسب الذي كسبوه بالتضليل سببا للويل.
12. قال تعالى: ﴿يَكْسِبُونَ﴾ بالمضارع للدلالة على تجدد ما يكسبون، وكذلك الويل يكون متجددا مثله.
13. هذا القول من التأويلات الفاسدة، وهو مبنى على قولهم نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه، وأنهم لا يعذبون، ولكن يمتّعون ولا يؤثّمون.
14. ما قالوا: لن تعذبنا النار إلا أياما معدودة، بل قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾، كأنهم لا يدخلونها حتى في هذه الأيام، بل تمسهم ريحها أو نحو ذلك مما يفترى المفترون كما تقول أنت تهديدا بالضرب أو نحو ذلك: لن تلمسنا بيدك قط إلا مسا خفيفا.
15. هم نفوا نفيا مؤكدا ـ بلن ـ أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة تمسهم مسا، ذلك قولهم، وتلك أمانيهم ومعنى معدودة أنها عدد قليل يعد وليس عددا كبيرا تجاوز الحسبة، وهذا القول يدل على أمرين:
أ. أولهما ـ بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسبون ويعاقبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.
ب. ثانيهما ـ الاستهانة بأوامر الله تعالى، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب.
16. يبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لا عهد لهم بذلك فقال سبحانه: ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام يتضمن النفي ويتضمن التوبيخ لهم على ما هم عليه، ويتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والمواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة.
17. بين سبحانه وتعالى أن العقاب يكون على قدر العمل، والثواب يكون على قدر العمل، فلا ينظر فيه إلى الذات، بل الجميع خلق الله تعالى، ولا يريد سبحانه إلا العمل الصالح، والامتناع عن الشر ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]
18. قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ تضمن الإجابة على قولهم ورده، والإضراب عنه، فالمعنى: تبين كلامكم، وهو باطل مخالف لما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقاب وثواب أنه للأعمال من غير نظر إلى الذوات، بل الجميع على سواء أمام الله سبحانه وتعالى، في الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
19. ذكر العقاب في الرد دون الثواب، لأنهم اجترؤوا على الله تعالى فخالفوه، وكفروا بنعمه، وعصوه ظاهرا وباطنا فقال: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾
20. الكسب: العمل الذي يصير حالا ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثما عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لا يقال إنه كسبه، إنما يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدا مستمرا، حتى يكون له مجرى في قلبه، وينكت فيه نكتا سوداء، فهذا هو الذي يقال له كسب السيئة.
21. السيئة: كل فعل يكون أثره سيئا في الناس أو في الجماعة أو في النفس، فيفسد التقدير، ويكون وبالا، فيظلم نفسه، والناس، ومن حوله.
22. الخطيئة: فعيلة من الخطأ، ولكن هناك فرقا بينهما، فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لا يتكرر، أما الخطيئة فهي الفعل المقصود الآثم المتكرر الذي يخط في النفس خطوطا، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفى الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاسا، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التي تمرست بالإثم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها.. وفى هذا إشارة إلى أحوال بنى إسرائيل، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم.
23. ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبنى إسرائيل، فقال: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الإشارة إلى الذين كان منهم كسب العمل الخبيث، وأحاطت بهم خطيئاتهم، واستغرق الشر نفوسهم، فالإشارة إلى الذين فيهم هذه الحال، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنهم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
24. أكد خلودهم في النار بأنهم أصحابها أي الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل هم، وكان تأكيد خلودهم وملازمتهم بالصحبة ردا على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم غير مخلدين بل هم أصحابها الخالدون فيها.
25. الرد على أولئك الذين دلاهم الشيطان بالغرور فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ينتهي إلى هنا إن كانوا يتدبرون ويعقلون.. لكن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن يقرن ببيان العقاب لأهله، وبيان الثواب لمن عمل الخير وداوم عليه لتكون العظة كاملة، فيها جزاء الخير وجزاء الشر، وكل بما كسب رهين.
26. الإيمان: هو الإذعان للحق بالإيمان بالله وحده، ورسوله محمد الأمين والرسل أجمعين، والملائكة والجن والغيب كله، وإن الإيمان يستكن في القلب، والعمل ينميه ويزكيه.
27. الإيمان كالبذر الطيب الذي يلقى في الأرض لا بد له من سقى ورعى وجو صالح ينمو فيه ويزكو، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بموجب الإيمان، والإيمان من غير عمل كالبذر من غير إنتاج، وإنه يجف بل يموت إن لم يسق بالعمل، ولذلك لا يؤكد القرآن على الإيمان وحده، بل يكون معه العمل الصالح، وهو العمل الذي يكون صالحا مصلحا للنفس وللناس، فيه استجابة لداعى الإيمان.
28. كثيرا ما ذكر العمل بوصف الصالح من غير أن يبين ما هو العمل الصالح، وذلك ليضمن كل ما فيه خير للإنسان في الآحاد، والجماعات والأقاليم، والإنسانية كلها، وذلك مع القيام بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة، وتعاون اجتماعي في الأسرة والجماعة والدولة، والإنسانية عامة.
29. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الإشارة إلى الذين آمنوا وعملوا صالحا أي أنهم متصفون بهذه الصفات، وقد أكد سبحانه وتعالى استحقاقهم للجنة وأنهم خالدون فيها بعدة مؤكدات:
أ. أولها ـ الجملة الاسمية لأنها تدل على قوة الحكم، وبقائه.
ب. وثانيها ـ بالملازمة بينهم وبين الجنة بأنهم أصحابها الملازمون، وأكد سبحانه وتعالى الخلود بضمير الفصل الذي يدل على القصر، والله سبحانه وتعالى يجزى الإحسان بإحسان، وجزاء سيئة سيئة مثلها.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/282.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأميّون: واحده أمي، ومعناه معروف، وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب، أما وجه النسبة الى الأم فلأنه في الجهل كما ولدته امه.
2. الأماني: واحدها امنية، ومن معانيها تمني القلب، وهو أظهرها وأكثرها استعمالا، وتستعمل في التلاوة أيضا، والمراد بها هنا التخرص بلا دليل، والذي يؤيد هذا المعنى ويقويه قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾
3. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ﴾ أي ان من اليهود جماعة أميين لا يعرفون شيئا من دين الله، وان قصارى أمرهم التخرص والظن دون أن يعتمدوا على علم، وبديهة ان هذا الوصف وان ورد في حق أولئك اليهود، ولكن الذم عام يشمل كل جاهل يتسم بسمة أهل العلم، ويتصدى الى ما ليس له بأهل، لأن المورد لا يخصص الوارد، كما قيل.
4. في هذه الآية دلالة واضحة على أن تفسير الكتاب والسنة لا يجوز بالتخرص والظن، بل لا بد قبل كل شيء من العلم بقواعد التفسير وأصوله، ومراعاة هذه القواعد في بيان مراد الله ورسوله حذرا من الكذب عليهما، والنسبة اليهما دون مبرر شرعي.
5. أول الشروط لصحة التفسير القراءة والكتابة، ثم العلوم العربية بشتى أقسامها من معرفة مفردات اللغة، والصرف والنحو، وعلم البيان، والفقه وأصوله، وعلم الكلام، والإلمام ببعض العلوم الأخرى التي يتصل بها تفسير بعض الآيات، على ان هذه يمكن للمفسر أن يرجع في معرفتها لأهل الاختصاص.
6. يزعم اليهود انهم أبناء الله، وشعبه المختار، وان الناس، كل الناس ـ غيرهم ـ أبناء الشيطان، وشعبه المنبوذ، فالله لا يخلد اليهود في النار، ولا يقسو عليهم، بل يعذبهم عذابا خفيفا، ووقتا قصيرا، ثم يرضى عنهم، اي انه سبحانه يدللهم، تماما كما يدلل اليوم الاستعمار عصابة الصهاينة التي احتلت أرض فلسطين.
7. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ . أي قل لهم يا محمد: ان زعمكم هذا جرأة وافتئات على الله بغير علم.. والا فأين العهد والوعد الذي أخذتموه من الله سبحانه على ذلك؟ وان دل زعمهم هذا على شيء فإنما يدل على استهتارهم واستخفافهم بالذنوب وارتكاب القبائح، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ان المؤمن ليرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه، وان الكافر ليرى ذنبه كأنه ذباب مرّ على أنفه).. وقال علي أمير المؤمنين عليه السلام: أشد الذنوب ما استهان به صاحبه)، وقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: كأن الذنب ذبابة تمر على أنف المذنب) ينطبق كل الانطباق على اليهود الذين يزعمون انهم أبناء الله المدللون.. وعسى ان يتعظ بهذا من يستهين بذنوبه اتكالا على شرف الأنساب.
8. من يثق بنفسه، ولا يتحسس خطاياها، ولا يقبل النصح من غيره محال أن يهتدي الى خير.. ان العاقل لا ينظر الى نفسه من خلال غرورها وأوهامها، بل يقف منها دائما موقف الناقد لعيوبها وانحرافها، ويميز بين ما هي عليه، وبين ما ينبغي أن تكون عليه، ويحررها من الأفكار الصبيانية، والنزوات الشيطانية، وبهذا وحده ينطبق عليه اسم الإنسان بمعناه الواقعي الصحيح.. وفي الحديث الشريف: من رأى انه مسيء فهو محسن)
9. السيئة: تعم الشرك وغيره من الذنوب، ولكن المراد منها هنا خصوص الشرك، بقرينة قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، قال صاحب مجمع البيان: ان ارادة الشرك من السيئة يوافق مذهبنا ـ أي مذهب الامامية ـ لأن غيره لا يوجب الخلود في النار.
10. تدل هذه الآية الكريمة على ان النجاء من عذاب الله غدا منوط بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح معا، وقد جاء في الحديث الشريف: أن سفيان الثقفي قال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. فقال: قل: آمنت بالله، ثم استقم.
11. يشير الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله هذا الى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، والمراد بالاستقامة في الحديث الشريف والآية الكريمة، العمل بكتاب الله، وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
12. ينقسم المسلم بالنظر الى معاملته، وترتب الآثار على إسلامه الى قسمين:
أ. الأول: أن يقر لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة بغضّ النظر عن اعتقاده وأعماله.. بشرط أن لا ينكر ما ثبت بضرورة الدين، كوجوب الصلاة، وتحريم الزنا والخمر، وهذا المقر المعترف له عند المسلمين ما لهم، وعليه ما عليهم، من حيث الإرث والزواج والطهارة وواجبات الميت، كتغسيله، وتحنيطه، وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، لأن هذه الآثار تلحق نفس الإقرار بالشهادتين، وتترتب على مجرد اظهار الإسلام، سواء أوافق الواقع، أو لم يوافقه.
ب. الثاني: أن يؤمن ويلتزم بالإسلام أصولا وفروعا، فلا يجحد أصلا من أصول العقيدة الاسلامية، ولا يعصي حكما من أحكام شريعتها، وهذا هو المسلم حقا وواقعا عند الله والناس، بل هو المسلم العادل الذي تترتب عليه جميع آثار العدالة الاسلامية في الدنيا والآخرة، ومن الآثار الدنيوية قبول شهادته، وجواز الائتمام به في الصلاة، ونفوذ حكمه، وتقليد الجاهل له في الأحكام الشرعية، ان كان مجتهدا، أما الآثار الاخروية فعلو المنزلة والثواب.
13. المؤمن: هو من أقر بلسانه وصدق بجنانه الشهادتين، ولا يكفي مجرد الإقرار باللسان، ولا مجرد التصديق بالجنان، بل لا بد منهما معا، وعليه يكون كل مؤمن مسلما، ولا عكس.
14. بهذا يتبين معنا ان العمل الصالح خارج عن مسمى الايمان ومفهومه بدليل ان الله سبحانه عطف الذين عملوا الصالحات على الذين آمنوا، والعطف يستدعي التعدد والتغاير.. أجل، ان العمل الصالح يدخل في مفهوم العدالة.
15. فقهاء الإمامية يطلقون في كتب الفقه لفظ المؤمن على خصوص الاثني عشري، فإذا قالوا: تعطى الزكاة للمؤمن، ويقتدى في الصلاة بالمؤمن، وما الى هذا فإنهم يريدون بالمؤمن الاثني عشري فقط، وهذا اصطلاح خاص بالفقهاء وحدهم، حتى الفقيه الإمامي نفسه إذا تكلم عن المؤمن في غير المسائل الفقهية فإنما يريد كل من أقر وصدق بالشهادتين، حتى ولو لم يكن اثني عشريا.
16. كلا من الإسلام والايمان بالمعنى الذي بيناه لا يستلزم حتما النجاة من عذاب الله غدا، بل لا بد معه من الاستقامة التي هي العمل بكتاب الله، وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/134.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأمي: من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الأم لأن عطوفة الأم وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم وتسلمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الأم.
2. الأماني: جمع أمنية، وهي الأكاذيب.
3. محصل المعنى أنهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرفه، وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب إلا أكاذيب المحرفين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/216.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ أي من قوم موسى ﴿أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ ﴿أُمِّيُّونَ﴾ لا يحسنون القراءة ولا الكتابة، فهم جاهلون بما في الكتاب.
2. ﴿إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ استثناء منقطع؛ لأن الأماني غير معلومة لهم، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ والأمنية: ما يرغب فيه ويرجى من الخير، وقد يكون الرجاء صادقاً، وقد يكون خطأ، وفي شعر محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه السلام الذي رواه في (أمالي أبي طالب):
متى أرى للحق نوراً.. وقد أسلمني ظلم إلى ظلم
أمنيّة طال عذابي بها.. كأنني فيها أخو حلم
3. فسر أمانيهم القرآن، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾، فهؤلاء الذين لا يعلمون الكتاب وإنما يظنون أماني قد اتكلوا على الأماني فأعرضوا عن الدين وعن التعليم وتفرغوا للدنيا.
4. ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إما الرشوة وإما ما هم عليه من الثروة بسبب رئاستهم في أهل دينهم، وإما كل ذلك يشترونه بالكذب على الله.
5. ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ﴾ وعيد بالعذاب ﴿مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الزور ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من الرشا وما يشبهها من الهدايا المحرمة وغيرها.
6. بنو إسرائيل والأماني والافتراء
المقطع 7 من سورة البقرة هو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 80]
8. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ منتهية يحصرها العدد.
9. ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ بذلك ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ لأنه أصدق القائلين.
10. ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فقد جمعتم بين باطلين، القول على الله بغير علم والتمني الباطل الذي يُجرِّؤكم على الباطل، وهذا هو الواقع؛ لأن الله سبحانه لو كان وعدهم ذلك ما عاب عليهم القول به.
11. حقق هذا بقوله: ﴿بَلَى﴾ كلمة نفي لما قالوا به في قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ ثم فَصَّل معنى هذا، فقال تعالى: ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ لم يكن له من شرها منجى، كقوله تعالى: ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22] وقوله تعالى: ﴿ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ [يوسف: 66] أي تغلبوا وتُقهروا ولا تجدوا لإنقاذه سبيلاً، فالمعنى لم يكن له ما ينقذه من شر خطيئته من عذر صحيح كالخطأ والنسيان والإكراه أو توبة تمحو السيئة، بل تورط في العذاب بسببها ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ باقون فيها لا يموتون سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم.
12. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ باقون، سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم، فالجنة جزاء على الأعمال الصالحة، والنار جزاء على الأعمال السيئة، ولا فرق في ذلك بين أهل الكتاب وغيرهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/136.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ لا يملكون المعرفة الواسعة العميقة التي تربطهم بالحقائق التي يحتويها الكتاب، لأنهم يقفون عند المعاني الساذجة للكلمات، ولا ينفذون إلى أعماقها.
2. ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ :
أ. ربما يراد من كلمة الأماني التلاوة، يقال: تمنى كتاب الله أي قرأه وتلاه، وبذلك يكون المراد بالكلمة أنهم لا يعلمونه إلّا ألفاظا يتلونها من دون وعي المعاني.
ب. وربما يراد منها الأحاديث المختلقة المتضمنة للتحريف، يقال: أنت تتمنى هذا القول أي تختلقه، فيكون المقصود أنهم لا يعلمون الكتاب إلا بنحو التحريف الذي هو مجموعة من الأكاذيب التي قد تطرح كما لو كانت مدلولا للكلمات.
ج. وقد يقصد بها الأماني جمع أمنية وذلك على أساس أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم، كقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ أو ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] ليكون المعنى أنهم لا يعلمونه إلا بما يتفق مع تخيلاتهم وأحلامهم وأمنياتهم الخيالية التي لا واقع لها.
3. في جميع الحالات فهم لا يملكون اليقين الذي يتحرك في دائرة وضوح الرؤية الذي تسكن إليه النفس وتطمئن إليه الروح؛ ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ من خلال تخرصاتهم وتخميناتهم التي لا ترتكز على أساس المعرفة اليقينية الحقة.
4. هذه هي القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى الناس من الموقع الفوقي، باعتبار أنهم شعب الله المختار، وأن الناس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدما لهم يلبّون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة.
5. ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ فلن يخلّدنا الله في عذاب النار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار، فلا يعاقبنا إلا كما يعاقب الأب أولاده، والمحب حبيبه، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحب بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلا، لأن الرحمة تسبق الغضب عندما يتحرك في مثل هذه المواقع، وتلك هي التخيّلات النفسية التي تحوّل الأمنية إلى حقيقة في الواقع.
6. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء اليهود، في حوار جدي يناقش القضية من منطق الحجة، ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ بأن لا يعذبكم إلا أياما معدودة؟ لتكون القضية قضية التزام إلهي بالعهد الذي قطعه على نفسه ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ ولكن أين هو العهد؟ وما مضمونه، وما الحجة فيه؟ ولا نجد لديكم شيئا من ذلك كله، ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؟ فتكذبون على الله وتنسبون إليه ما لم ينزل به سلطانا، وتلك هي الجريمة الكبرى.
7. ﴿بَلَى﴾ ليس الأمر كما قالوا وزعموا زعما بعيدا عن كل حقيقة، بل المسألة خاضعة لقاعدة ثابتة في ثواب الله وعقابه، مما لا يرجع إلى امتيازات ذاتية لإنسان معين أو شعب معين.
8. ﴿مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ عميقة الجذور في ذاته بحيث كان لها الدور الكبير في تغيير كل فكره وعمله في الاتجاه السلبي، ليكون إنسانا محاصرا من كل جهة، فلا ينفذ إلى عقله شيء من الحق، ولا إلى حياته شيء من الخير، فقد أطبقت عليه ضلالته.. ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ من كل جانب، فأينما يتوجه ويتحرك فهناك خطيئة في فكره وفي عمله.
9. لعل الشرك الذي لا يغفره الله هو التجسيد الحيّ لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن الله في توحيد العقيدة والعبادة، ويستغرق في الصنمية التي تحوّل حياته إلى جدار مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع، وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة، فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشرّ والفساد في واقعة الداخلي والخارجي.
10. ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن مثل هؤلاء لا يرتبطون بالله بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه، مما يجعل الخلود في النار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها.
11. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ التي أراد الله لعباده أن يأخذوا بها في حياتهم الفردية والاجتماعية وفي علاقاتهم العامة والخاصة، فكانوا التجسيد الفكري للحق، والواقع المتحرك للخير، الأمر الذي يجعلهم في موقع القرب من الله، فلا يزدادون إلا خيرا وطاعة ومحبة وانقيادا له
12. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فهم أهلها ومجتمعها وهم الذين يمثلون أخلاقيتها المنفتحة على الروح والرضوان، ويجددون لها حيويتها وحركيتها في إنسانيتهم الخيّرة التي عاشت مع الله وانتهت إليه في مواقع القرب عنده.
13. يؤكد القرآن في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنة أو في النار، بعيدا عن كل الامتيازات، أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم، فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى الناس في الدنيا، لأن الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز ماديّ أو معنويّ، يتميز به عن غيره، فيجعل له قيمة متميزة لدى سائر الناس؛ أمّا في الآخرة، فالجميع متساوون أمام الله؛ فلا علاقة لأحد بالله أكثر من غيره، من ناحية ذاتية، لأنهم مخلوقون له، ومن ناحية الصفات، لأنها هبة من الله، فلا مجال هناك إلا للعمل وحده، فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند الله، ولهذا كانت قضية الجنة والنار خاضعة للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب.
14. أمّا الخالدون في النار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية، فهي محيطة بهم من كل جانب وليست شيئا طارئا مما يحدث للإنسان، كنتيجة لنزوة سريعة.. إنهم يعتقدونها ثم يعيشونها فكرا وشعورا وعملا، وهؤلاء هم المجرمون المتمردون الذين يواجهون الحق من موقع الوضوح في الرؤية، ولكنّهم يصرّون على الابتعاد عنه والتمرد عليه، والمتاجرة بكلماته بعيدا عن روحه، والتحريف لآياته؛ وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان بالله بروحية منفتحة تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته، وتستسلم لأوامره ونواهيه، بل يمرون مرورا سريعا، تماما كأية فكرة طارئة، أو وهم زائل، وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحق، وينازعون الله سلطانه وكبرياءه، عندما يخيّل إليهم أنهم آلهة صغار، من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية، التي توحي بها السلطة في مظاهر القوة والسلطان، أو الذين يشركون بعبادة الله غيره، مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما ممّا يصنع منه الأصنام، أو ممّا يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة، ولولاهم ما كانوا شيئا مذكورا.
15. هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة، هم أصحاب الخلود في النار، وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلا ومارسوها بكل قوة وعزم وتصميم، من التمرد على الأنبياء، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتحريف كلام الله، والمتاجرة بالأكاذيب والبدع.. وغير ذلك، مما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرد والطغيان، أو يوحي بأن علاقتهم بالله لا تمثل شيئا كثيرا في حياتهم ليندفعوا ـ من خلاله ـ في طريق الطاعة والتوبة؛ فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النار؟
16. أما الخالدون في الجنة، فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكرا وشعورا وروحانية، فهم يقفون أمام الله موقف المؤمن الذي يحس وجوده بمشاعره، كما يتعلقه بفكره، وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام لله في أعمالهم، ولكنهم قد يخطئون ويتمردون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان، من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه، ولهذا نجدهم يتراجعون عند أوّل حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير، كما حدثنا الله عنهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] فهؤلاء هم أصحاب الجنة المتقون، الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم، وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها.
17. ينبغي للعالمين في حقل التوعية والدعوة الإسلامية، أن يركزوا على هذا الجانب في المفهوم الإسلامي الأصيل للقرب من الله والبعد عنه، فلا يسمحوا للامتيازات الطارئة التي توزع الجنة والنار بين الناس على أساس أنسابهم ـ حتى ولو كان النسب مرتبطا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو على أساس انتماءاتهم المذهبية من دون أن يكون لذلك أيّ أثر في سلوكهم العملي وتطلعاتهم الروحية، لأن ذلك يتنافى مع المفهوم القرآني، الذي يعتبر الأساس في صحة أيّ مفهوم وفساده، فإذا كان القرآن يطرح القضية في موقع الإيمان والعمل، فكيف يمكن أن نجرد المقياس من العمل فنعتبره ثانويا ونبقي على جانب الإيمان وحده!؟ ثم هل يمكن أن نكتشف الإيمان الحق إلا من خلال العمل!؟ أمّا ما يخيّل وجوده لدى بعض الناس من عاطفة إيمانية، إزاء بعض المقدسات أو الروحيات، فإنها قد تدخل في نطاق التربية العاطفية، التي يعيشها الإنسان في طفولته أو في بيئته، بعيدا عن جانب العقيدة عنده.
18. يحاول البعض أن يدخل قضية الاستثناءات المطروحة في باب العام والخاص أو المطلق والمقيد، ممّا اعتاد الفقهاء والأصوليون إثارته في كل قضية من القضايا الشرعية التي يقف فيها الإنسان بين أمرين، أحدهما يدل على الإطلاق، والآخر يدل على التحديد، فيحملون المطلق على المحدود، فيركزون بذلك الاستثناءات في القاعدة، ونحن لا نمانع في القضية من ناحية المبدأ، فإن هذه القاعدة اللغوية تعتبر من بين القواعد المسلّمة في أساليب اللغة العربية، لأن أي متكلم قد يجري في أسلوبه على إصدار القاعدة من دون قيود لتكون أساسا عاما يرجع إليه في حالات الشك، ثمّ يتبعها بالاستثناءات في أدلة مستقلة لتكون دليلا على التقييد، ولكن هذا لا يجري في الحالات التي تدخل في نطاق الضوابط العامة التي يراد منها التحديد المطلق من أجل إعطاء المفاهيم الأساسية العامة، فقد يدخل ذلك في سياق العموميات أو المطلقات الآبية عن التخصيص أو التقييد ـ كما يقول الأصوليون ـ ولا سيما في أمثال هذه القضايا التي يشعر معها الإنسان، بأن المفهوم المطروح في الآية ينسجم مع طبيعة العلاقة التي تربط الله بعباده حيث لا أساس لأيّ شيء ذاتي في هذا المجال، لما ذكرناه من تساوي الخلق أمام الله في كل الامتيازات المتوهمة، فلا يبقى إلا العمل المستند إلى الإيمان.
19. أما حديث المغفرة في غير حالة الإشراك بالله، فهذا لا يدخل في نطاق حديثنا، لأن حديثنا يرتكز على أساس الاستحقاق. أمّا المغفرة وعدمها، فإنها تدخل في نطاق التنفيذ، فقد أخذ الله على نفسه ـ برحمته ولطفه ـ أن يعفو عن المذنبين الذين يستحقون دخول النار أو الخلود فيها، وذلك بلحاظ بعض الأعمال أو النيّات التي تجعل الإنسان موضعا لرحمة الله.
20. خلاصة الحديث، أن من الضروري التركيز على هذا المقياس في الثواب والعقاب في التربية الإسلامية للمؤمنين، ليكون ذلك حافزا لهم على تنمية الإيمان والعمل في حياتهم، ليتقربوا بذلك إلى الله طمعا في نيل رضاه، ولا يستسلموا للامتيازات الطارئة، بحيث يتركون العمل، أو يتهاونون فيه اعتمادا على ما يخيّل إليهم من أسباب الأمان.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/101.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأمي هو ـ كما قال ابن جرير ـ من لا يكتب منسوب إلى الأم لبقائه على الحالة التي ولدته فيها أمه.. وقيل: منسوب إلى الأمة لأن هذه هي صفة جمهرة الناس عادة، وهذا كما يقال عامي نسبة إلى العامة، ويعضد ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، وجاء وصفه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالأمية في القرآن، وبين معناه في قوله تعالى: ﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون ﴾، وهذه الصفة مدح في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دون غيره لأنها معدودة في معجزاته حيث أنزل الله عليه الكتاب فيه تبيان كل شيء وهو بهذه الحالة.
2. من الأقوال الشاذة:
أ. ما روى عن أبي عبيدة من أنهم قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب، فإنه تأويل ينقض آخره أوله.
ب. وأشذ منه ما روي عن ابن عباس أنهم قيل أنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، فإن المعهود في النسب أن ينسب الشيء إلى ما لا بسه لا إلى ما باينه.
3. الأماني: جمع أمنية، وهي ما يتعلق به القلب مع عدم وجود وسائل إليه أو عدم تعاطي أسباب الوصول إليه، وأصلها منى بمعنى قدر، والتفعيل يفيد التكلف، فكأن التمني يتكلف تقدير حصول أمر متعذر أو متعسر، والمراد بالأماني ما ذكرته في صدر تفسير الآية وهو ما يتعلقون به من الأوهام التي تثبطهم عن الأعمال الصالحة، وتجرئهم على انتهاك الحرمات، وليس ذلك من الكتاب ـ أي التوراة المنزلة ـ في شيء، فلاستثناء منقطع، وهو ما يقتضيه تفسير ابن عباس في رواية ابن جرير عنه (لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله)
4. تطلق الأماني على الأكاذيب، لأن الكتاب يتكلف تقدير ما يخطر بباله من الخيالات النفسية حتى يخرجها للسامعين في صورة حقائق واقعية، ومن شواهد ذلك ما روي عن بعض الصحابة أنه قال: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت، وقول بعض العرب لابن دأب ـ وهو يحدث ـ أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته، وبه فسر ابن عباس ومجاهد الأماني هنا، وجنح إليه ابن جرير، وهو مع التحقيق موافق للقول الأول وليس الخلف بينهما إلا لفظيا فإن ما سبق ذكره من أمانيهم الخادعة ما هو إلا إفك اصطنعته ألسنتهم من غير أن يفقهوا لها معنى، أو تترك في نفوسهم أثر، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾، وفي الاستشهاد بالآية نظر لأنه مبني على اسطورة الغرانيق الداحضة.
5. مهما يكن المراد بالأماني فإن الآية الكريمة تنادي بالضلال والخسران على الذين يسعون وراء الأوهام متنكبين عن الصراط السوي المؤدي إلى الحقيقة الواضحة، وهم الذين رضوا بالجهل بديلا عن العلم، وبالتقاليد الموروثة، والزور المتداول بدلا عن الحق الذي أنزله الله وأقام عليهم حجته، ورفع لهم مناره، وما أكثر هؤلاء في كل أمة، آذانهم خشية أن تنجذب نفوسهم إلى صوته، وإذا لاح لهم نور الحق غمضوا أعينهم وولوا معرضين لئلا يكتشفوا شيئا من عوارهم، فمثلهم كمثل الخفافيش تأنس بالظلمة، وتستوحش من الضياء.
6. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ تأكيد لما وصفهم به من عدم العلم فإن العقائد تبنى على القواطع لا على الظنون، فكثيرا ما يكون الظن ناشئا عن هوى متبع أو حب أو بغض، فيكون أقرب إلى الكذب منه إلى الصدق، ولذلك حذر الله تعالى من إتباع الظن بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ .
__________
(1) تفسير الخليلي: 3/411.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد الحديث عن انحرافات اليهود في الآيات السابقة، قسّمت هاتان الآيتان اليهود على مجموعتين: أميين وعلماء ماكرين، وهناك طبعا أقلية من علمائهم آمنت والتحقت بصفوف المسلمين.
2. عن المجموعة الاولى يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، والأميّون جمع أمّيّ، والأمّيّ غير الدارس، وسمّوا بذلك لأنهم في معلوماتهم كما ولدتهم أمهاتهم، أو لشدّة تعلق امّهاتهم بهم، صعب عليهنّ فراقهم جهلا، ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة.
3. الأماني: جمع امنية، ولعل الآية تشير هنا إلى الامتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وكقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ .. ومن المحتمل أيضا أن يكون المقصود من الأماني الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الأميين من الناس، وهذا المعنى ينسجم أكثر مع قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾
4. قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ دلالة واضحة على بطلان اتّباع الظن في فهم أصول الدين ومعرفة مدرسة الوحي، ولا بدّ من التتبع والتحقيق في هذا الأمر.
5. غرور وادعاء فارغ يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من ادعاءات اليهود الدالة على غرورهم، هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من انحرافات هؤلاء القوم: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، تجيبهم الآية بأسلوب مفحم: قل ﴿أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
6. اعتقاد اليهود بأنّهم شعب الله المختار، وأن عنصرهم متفوق على سائر الأجناس البشرية، وأن مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيّام قليلة ليتنعموا بعدها بالجنّة، من مظاهر أنانية هؤلاء واستفحال ذاتياتهم.
7. ادعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق، إذ لا يمكن أن يكون بين أفراد البشر أي تفاوت في نيل الثواب والعقاب أمام الله سبحانه وتعالى.
8. بم استحق اليهود أن يكونوا مستثنين من القانون العام للعقاب الإلهي!؟ الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي، وتفهمهم أن مزاعمهم هذه إمّا أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند الله، ولا يوجد مثل هذا العهد، أو أن تكون من افترائهم الكذب على الله.
9. نفهم من الآيات الكريمة أن روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك الأيّام، وكانوا يعتقدون بوجود تفوّق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر الأجناس البشرية الأخرى، ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم، وهذا التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.
10. هؤلاء يعتقدون بأن عنصرهم متميز عن سائر البشر لا في هذه الدنيا فحسب، بل في الاخرة أيضا، حيث لا ينال المجرم منهم ـ على رأيهم ـ سوى عقوبة خفيفة قصيرة، وهذه التصورات المغلوطة هي التي دفعتهم إلى أن يرتكبوا ألوان الجرائم والموبقات.
11. تبيّن الآية الكريمة قانونا عاما يقوم على أساس المنطق وتقول: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.
12. وبشأن المؤمنين الأتقياء، فهناك قانون عام شامل تبيّنه الآية التالية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
13. الكسب والاكتساب: الحصول على الشيء عن إرادة واختيار، من هنا عبارة ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ إشارة إلى أولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب، وتعبير الآية بكلمة (كسب) قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظانا أنه يكسب بارتكاب الذنب نفعا، ويتحمل بتركه خسارة! وإلى مثل هؤلاء المذنبين يشير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾
14. الخطيئة تستعمل غالبا في الذنوب التي لا يرتكبها صاحبها عن عمد، لكنها وردت في هذه الآية بمعنى الذنوب الكبيرة.
15. إحاطة الخطيئة: يعني انغماس الفرد في الذنب إلى درجة يصبح ذلك الفرد سجين ذنبه، بعبارة أوضح، الذنوب الكبيرة والصغيرة تبدأ على شكل (فعل) ثم تتحول إلى (حالة) ومع الاستمرار والإصرار تتحول إلى (ملكة)، وعند اشتدادها تغمر وجود الإنسان وتصبح عين وجوده. عندئذ لا تجدي مع هذا الفرد موعظة ولا يؤثر فيه توجيه ولا نصح، إذ أنه عمل عن اختيار على قلب ماهيته فمثلهم مثل دودة القز التي تلف حولها من نسيج الحرير حتى تمسي سجينة عملها.
16. الآية الكريمة تتحدث عن خلود مثل هؤلاء الأفراد في النار، وهذا يعني أن هؤلاء يغادرون الدنيا وهم مشركون. لأن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/277.
32. بنو إسرائيل ومواثيق العبودية والأخلاق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈32⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال يؤنبهم: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أي: ميثاقكم(1).
2. روي أنّه قال: الميثاق: العهد الشديد(2).
3. روي أنه سئل عن اليتيم متى ينقضي يتمه، فقال: إذا أونس منه رشدا(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أمرهم أيضا بعد هذا الخلق أن يقولوا للناس حسنا؛ أن يأمروا بـ (لا إله إلا الله) من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله ـ جل ثناؤه ـ، وقال: والحسن أيضا لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، أي: صدقا وحقا في شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سألكم عنه فاصدقوه، وبينوا صفته، ولا تكتموا أمره(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، يعني بالزكاة: طاعة الله تعالى ذكره، والإخلاص(7).
8. روي أنه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وإقامة الصلاة: تمام الركوع والسجود والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها، ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ قال إيتاء الزكاة: ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، [كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل؟]، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له(8).. نرى أن الزكاة في جميع الأمم حق للفقراء والمحتاجين، وليس كما يرد في الروايات.
9. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، أي: تركتم ذلك كله(1).
10. روي أنّه قال: لما فرض الله تعالى عليهم ـ يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل ـ هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم، إلا قليلا منهم، وهم الذين استثنى الله، فقال: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، يقول: أعرضتم عن طاعتي ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ قال القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها، يقول: تركها استخفافا بها(7).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٩.
(2) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٦٠.
(4) ابن جرير: ٢/١٩٦.
(5) ابن أبي حاتم: ١/١٦١.
(6) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٨.
(7) ابن جرير: ٢/١٩٩.
(8) ابن جرير: ١/٢٤٨.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الآية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ قولوا للناس معروفا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/١٩٠.
(2) ابن جرير: ٢/١٩٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ فالحسن من القول تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحلم وتعفو وتصفح، وتقول للناس حسنا كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ : قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجل يبغض اللعان السباب، الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف(1).
__________
(1) الأمالي: ص210/4.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ميثاق أخذه الله على بني إسرائيل، فاسمعوا على ما أخذ ميثاق القوم: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الآية(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل: أطعم رجلا سائلا لا أعرفه مسلما؟ قال: نعم، أطعمه ما لم تعرفه بولاية ولا بعداوة، إن الله يقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ولا تطعم من نصب لشي ء من الحق، أو دعا إلى شي ء من الباطل(1).
2. روي أنّه قال: اتقوا الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم، إن الله يقول في كتابه ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ـ قال ـ: وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلوا معهم في مساجدهم حتى ينقطع النفس، وحتى تكون المباينة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ﴾ كلهم ﴿حَسَنًا﴾ مؤمنهم ومخالفهم: أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإن ييأس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه، وعن إخوانه المؤمنين(3).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/48/64.
(2) تفسير العيّاشي: 1/48/65.
(3) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص353/240.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قول الله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ فيما أمركم به من حق الوالدين، وذي القربى، واليتامى، والمساكين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾، يعني: القرابة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ قولوا في محمد صدقا أنه نبي، ولا تكتموا أمره، وقولوا صدقا فيما أمركم به من عبادته وطاعته وحدوده(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٠.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٦١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ﴾ يعني: ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، يعني: برا بهما(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالْيَتَامَى﴾، واليتيم أن تصدق عليه(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني: أتموا الصلاة لمواقيتها، ﴿وَآتُوا﴾ وأعطوا الزكاة(2).
5. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ يعني: أعرضتم عن الإيمان، فلم تقروا ببعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ يعني: ابن سلام، وسلام بن قيس، وثعلبة بن سلام، وقيس بن أخت عبد الله بن سلام، وأسيد وأسد ابني كعب ويامين، وابن يامين، وهم مؤمنو أهل التوراة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١١٩.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٢٠.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله، حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول: هذا كتابي فخذوه!؟ قال فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، قال ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، قال أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا، قال خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ حتى بلغ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، قال ولو كانوا أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٤٧.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أقيموا الصلاة بتمام ركوعها وسجودها ومواقيتها، وأداء حقوقها التي إذا لم تؤد لم يتقبلها رب الخلائق(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ من المال والجاه وقوة البدن: فمن المال مواساة إخوانك المؤمنين، ومن الجاه إيصالهم إلى ما يتقاعسون عنه لضعفهم عن حوائجهم المترددة في صدورهم، وبالقوة معونة أخ لك قد سقط حماره أو جمله في صحراء أو طريق، وهو يستغيث فلا يغاث، تعينه حتى يحمل عليه متاعه، وتركبه وتنهضه حتى يلحق القافلة(2).
3. روي أنه قال: قال الله عز وجل لبني إسرائيل: واذكروا ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: 83] عهدهم المؤكد عليهم: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ أي بأن لا تعبدوا إلا الله، أي لا تشبهوه بخلقه، ولا تجوروه في حكمه، ولا تعملوا بما يراد به وجهه تريدون به وجه غيره، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وأخذنا ميثاقهم بأن يعملوا بوالديهم إحسانا، مكافأة عن إنعامهما عليهم، وإحسانهما إليهم، واحتمال المكروه الغليظ فيهم، لترفيههما وتوديعهما ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ قرابات الوالدين بأن يحسنوا إليهم لكرامة الوالدين ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أي وأن يحسنوا إلى اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين لهم أمورهم، السائقين لهم غذاءهم وقوتهم، المصلحين لهم معاشهم، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ﴾ الذين لا مؤونة لهم عليكم ﴿حَسَنًا﴾ عاملوهم بخلق جميل ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الصلوات الخمس، وأقيموا أيضا الصلاة على محمد وآل محمد الطيبين عند أحوال غضبكم ورضاكم، وشدتكم ورخائكم، وهمومكم المعلقة بقلوبكم، ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أيها اليهود عن الوفاء بما قد نقل إليكم من العهد الذي أداه أسلافكم إليكم ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن ذلك العهد، تاركون له، غافلون عنه(3).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص364/253.
(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص364/254.
(3) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص326/174.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عهد الله وميثاقه أنه يكون على وجهين: عهد خلقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.
2. قوله تعالى: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: لا تجعلون الألوهية إلا لله.
ب. ويحتمل: نفس العبادة، أي لا تعبدون غير الله، من الأصنام والأوثان وغيرهما.
3. قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى﴾ برّا بهما، وعطفا عليهما، وإلطافا لهما، وخفض الجناح، ولين القول لهما؛ كقوله: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ الآية [الإسراء: 23، 24]، وكقوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]
4. الأمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع، لا على الوجوب، واللزوم، غير أن الإحسان يجوز أن يكون الفعل الحسن نفسه؛ كقوله: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56] استوجبوا هذا بالفعل الحسن، لا بالإحسان إلى الله تعالى، وفعل الحسن فرض واجب على كل أحد.
5. الإحسان إليهم يجوز أن يكون من حق الله عليهم، وحقّ الله عليهم لازم، وعلى ذلك صلة القرابة والمحارم، والإنفاق عليهم من حق الله عليهم، وهو لازم.. هذا ينقض على الشافعى قوله: إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم؛ فدل: أنه أراد به غير الوالدين.
6. قوله تعالى: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ يحتمل: على النفل من الصدقة والفرض جميعا.
7. قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: لا تكتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته ولكن أظهروها.
ب. ويحتمل: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
ج. ويحتمل: المراد به الكلّ، كل شيء وكل قول؛ أي لا تقولوا إلا حسنا.
8. قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: الإقرار بها، والقبول لها.
ب. ويحتمل: إقامتها في مواقيتها، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.
ج. ويحتمل: أن كونوا في حال تكون لكم الصلاة والتزكية.
9. قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ يحتمل الوجوه التي ذكرت في الصلاة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/503.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ فيه عدول الى الخطاب بعد الخبر، واختلف اهل اللغة في الفرق بين حَسنا وحُسنا، فقال بعض البصريين هو على احد وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون أراد بالحُسن الحَسن، ويكون لمعنيين مثل البُخل والبَخل واما ان يكون جعل الحَسن هو الحُسن في التشبيه، لأن الحسْن مصدر والحسن هو الشيء الحسن، فيكون ذلك: كقول القائل: انما انت أكل وشرب قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل... تحية بينهم ضرب وجيع
فجعل التحية ضربا.
ب. وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحَسن، ولذلك قال تعالى إذ وصى بالوالدين ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ يعني بذلك انه وصاه بجميع معاني الحسن: وقرئ في الشواذ: حسنى. لا يقرأ بها لشذوذها حكاها الأخفش، وذلك لا يجوز لأن فعلى، وافعل لا يستعمل إلا بالألف واللام. نحو الأحسن والحسنى والأفضل والفضلى قال الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾
2. اختلف في ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. روي عن أبي جعفر محمد ابن علي الباقر عليه السلام وعن عطاء انهما قالا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ للناس كلهم.. وعن الربيع بن انس قولوا للناس حسنا: أي معروفا، وعن ابن الحنفية انه قال ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ هي مسجلة للبر والفاجر. يريد بمسجلها انها مرسلة.
ب. ومنهم من قال أمروا بان يقولوا لبني إسرائيل حسنا.
3. اختلف في معنى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. قال ابن عباس: يأمرون بألّا اله الا الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها: كما قالوها، فان ذلك قربة لهم من الله.
ب. قال ابن عباس والحسن: من لين القول ـ من الأدب الحسن الجميل ـ والخلق الكريم وهو مما ارتضاه الله تعالى وأحبه.
ج. قال ابن جريج: قولوا للناس حسنا: أي صدقا في شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. قال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر.
4. اختلف في نسخ ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. روي عن ابن عباس انه قال: قوله ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ نسخ بقوله: قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية.
ب. وقال آخرون: ليست منسوخة، لكن أمروا بأن يقولوا حسناً في الاحتجاج عليهم، إذا دعوا الى الايمان، وبين ذلك لهم.
ج. وقال قتادة: نسختها آية السيف.
5. الصحيح انها ليست منسوخة، وإنما امر الله تعال بالقول الحسن في الدعاء اليه والاحتجاج عليه، كما قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وبيّن في آية أخرى، فقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، وليس الامر بالقتال ناسخاً لذلك، لأن كل واحد منهما ثابت في موضعه.
6. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أدوها بحدودها الواجبة عليكم.
7. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ معناه وأعطوها أهلها كما أوجبها عليكم، والزكاة: التي فرضها الله على بني إسرائيل:
أ. قال ابن عباس: كان فرض في أموالهم قربانا تهبط اليه نار فتحملها، وكان ذلك تقبله، ومن لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل.
ب. وروي عنه أيضاً ان المعني به طاعة الله والإخلاص.
8. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ خبر من الله تعالى عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه بعد ما أخذ ميثاقهم على الوفاء له، بان لا يعبدوا غيره، وبان يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويردوا حقوق المساكين، ويأمروا عباد الله بما أمرهم به، ويقيموا الصلاة بحدودها، ويؤتوا زكاة أموالهم، فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده، وميثاقه، ووصف هؤلاء بأنهم قليل بالإضافة الى من لم يؤمن.
9. اختلف في المقصود بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ :
أ. قال بعضهم: أراد اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعنى بسائر الآية أسلافهم، كأنه ذهب الى ان معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلًا منكم، ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ثم قال: وأنتم معاشر بقاياهم معرضون ايضاً عن الميثاق الذي أخذ عليكم.
ب. وقال قوم: هو خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من يهود بنى إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق، الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم امر الله وركوبهم معاصيه.
10. معنى الآية الكريمة: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وحده، دون ما سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا وبذي القربى ان يصلوا رحمه، ويعرفوا حقه، وباليتامى ان يتعطفوا عليهم بالرأفة، والرحمة، وبالمساكين أن يوفوهم حقوقهم التي ألزمها الله في أموالهم.
11. المسكين: هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة وهو مفعيل من المسكنة وهي ذل الحاجة والفاقة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/330.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأخذ: مصدر أخذ يأخذ، وهو ضد الإعطاء، وأصله نقل الشيء من المعطِي إلى المعطَى، فكأن بني إسرائيل أعطوا الميثاق، وأخذ منهم.
ب. الميثاق: العقد المؤكد بيمين أو وعيد، أخذ من الوثيقة، وقيل: العقد على غاية الإحكام.
ج. الوالد الأب، والولد الابن، والوليد الصبي، وأصل الولادة، واللِّدَةُ هو الذي مثلك في السن.
د. الإحسان: النفع الحسن.
هـ. القربى: المصدر كالحسنى، وهو من القرابة.
و. اليتيم: الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم، وجمعه أيتام، ويتامى، كقوله: نديم وندامى. ولا يقال لمن ماتت أمه: يتيم، قال الزجاج: هذا في الإنسان، فأما في غير الإنسان فَيُتْمُهُ من قبل أمه.
ز. المسكين: الفقير الذي لا شيء له، أخذ من السكون، كأن الفقرَ قد سكنه، فهو أشد فقرًا من الفقير عند أكثر أهل اللغة، وهو قول أبي حنيفة، وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً، وهو قول ابن الأنباري.
ح. التولي عن الشيء والإعراض عنه نظائر، والإعراض أُخِذَ من الذهاب عن المواجهة إلى جهة العَرْضِ، مأخوذ من العرض، خلاف الطول.
2. عاد الكلام بعد الوعد والوعيد إلى ذكر بني إسرائيل، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ :
أ. قيل: يعني عهدهم.
ب. وقيل: الميثاق هو الأدلة من جهة العقل والشرع.
ج. وقيل: الوعيد المقرون بالأوامر والنواهي.
د. وقيل: هو مواثيق الأنبياء على أممهم.
هـ. وقيل: أخذنا عهدهم في التوراة، والميثاق العهد الشديد، عن ابن عباس.
و. وقيل: إقرارهم لأنبيائهم، وقبولهم ما في كتابهم، عن الأصم وأبي علي.
ز. وقيل: العهد والميثاق لا يكون إلا بالقول، كأنه قال أمرناهم ووصيناهم، وقلنا لهم، وأكدنا عليهم، ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ أي توحدونه وتخلصون له العبادة
3. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ﴾ جاء على الحكاية، لأن الحكاية على ثلاثة أوجه:
أ. الأول: حكاية اللفظ والمعنى، كقولك: قال زيد: عمرو عالم.
ب. الثاني: على المعنى بلفظ يقوم مقام المحكي لا بصورته بعينها، كقولك: قال زيد: عمرو عارف، وَكَانَ قَالَ: عالم.
ج. الثالث: الحكاية على المعنى بما ليس بمنزلة الأول، لكن يفهم منه معناه، كقولك: قال زيد: عمرو من العلماء، وَكَانَ قَالَ عَارِفُ، وهذه الآية من هذا القبيل، لأنه يفهم منها معنى لا تعبدوا إلا الله، كأنه قيل: والله لا تعبدوا إلا الله.
4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ يعني: ووصيناهم بالوالدين، برًا بهما وعطفًا عليهما ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ ذوي القرابات ﴿وَالْيَتَامَى﴾ الأطفال الَّذِينَ ماتت آباؤهم ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ يعني الفقراء.
5. اختلفوا في معنى ﴿حَسَنًا﴾ :
أ. قيل: يعني صدقًا وحقًا في شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سألكم، فاصدقوا وبينوا صفته، ولا تكتموا أمره، عن ابن عباس وابن جريج وسعيد بن جبير ومقاتل.
ب. وقيل: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، عن سفيان.
ج. وقيل: الدعاء إلى الله تعالى كما قال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ عن الأصم وجعفر بن مبشر.
د. وقيل: قولوا لهم قولاً حسنًا، ثم اختلف هَؤُلَاءِ:
• قيل: هو عام في المؤمنين والكفار، عن محمد بن علي وأبي عبيدة.
• وقيل: خاص في المؤمنين.
6. اختلف من قال إن الأمر بحسن القول عام هل هي ثابتة أم منسوخة:
أ. قال ابن عباس وقتادة: نسختها آية السيف.
ب. وقال أكثر أهل العلم: ليست بمنسوخة؛ لأنه يمكن قتاله مع حسن القول، وما هذا حاله فلا ينسخ أحدهما الآخر.
7. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني أديموها وأدوها بتمامها.
8. اختلف في معنى ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ :
أ. قيل: يعني أعطوا زكاة أموالكم.
ب. وقيل: كان زكاة أموالهم قربانًا تنزل نار من السماء فيحرقه، عن ابن عباس.
9. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود، يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم.
ب. وقيل: إنه خطاب لأسلافهم المذكورين في أول الآية.
10. اختلف في معنى ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ وكل متقارب:
أ. قيل: عما أخذ عليهم من الميثاق.
ب. وقيل: من القبول والاستماع.
ج. وقيل: عن العمل بذلك.
11. إنما جمع بين التولي والإعراض وإن كان معناهما واحدًا:
أ. قيل: تأكيدًا، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: تولوا أعرضوا، أي فعلوا الإعراض ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي استمروا على ذلك.
12. تدل الآية الكريمة على:
أ. ترتيب الحقوق، فحق الله تعالى مقدم على كل حق؛ لأنه الخالق المنعم، ثم للوالدين مزية لكونهما سببًا لكونه، وتربيتهما إياه، فثنى بذكرهما، ثم ذكر ذوي القربى لأنهم أقرب إليه، ثم اليتامى لضعفهم، ثم الفقراء لفقرهم.
ب. وجوب حق هَؤُلَاءِ لأن أَخْذَ الميثاق به فَاقْتِرَانُهُ بعبادته يدل على ذلك، والآية تدل على وجوب الإحسان إليهم، ثم كيفيته، وتفصيله موقوف على الدليل، فمرة يكون بوجوب النفقة، ومرة بغيره.
ج. وجوب حقهما، وإن كانا كافرين لأنه عام، ولأن وجوب الحق لكونهما والدين، والكفر لا يمنع من ذلك، ولا خلاف أن نفقة الوالدين تجب مع الكفر، فأما نفقة ذوي الرحم المحرم فلا تجب مع الكفر، وإنما تجب عند اتفاق الدين.
د. البر والتعظيم للوالدين عند اتفاق الدين، فأما النفقة والمصاحبة بالمعروف فتجب في الحالين، والآية تدل عليه، فتدل على وجوب حق ذوي القربى لتميزهم من الأجانب، واختلفوا في نفقتهم، فعند أبي حنيفة تجب، وقال الشافعي: لا تجب.
هـ. وجوب حق اليتامى والمساكين، وهو ما يسد خَلَّتَهُمْ.
و. وجوب القول الحسن للناس، فيدخل فيه الدعاء إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والقول فيهم بالخير، ويتناول أمور الدين والدنيا.
ز. يدل قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ على أنهم تولوا بعد قبول العهد.
ح. أن التولي فعل العبد، لولا ذلك لما ذمهم عليه.
13. مسائل نحوية:
أ. اختلف في موضع ﴿تَعْبُدُونَ﴾ من الإعراب على أربعة أقوال:
• الأول: قال الكسائي: رفعه على: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾، كأنه قيل: أخذ ميثاقهم بألا تعبدوا، إلا أنه لما أسقطت (أنْ) رفع الفعل كما قال طرفة:
أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضَرَ الوَغَى.. وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي
أراد أن أحضر، وكذلك عطف عليه (أَنْ)، وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب، وهو قول علي بن عيسى وأبي مسلم، وَحَذْفُ (أنْ) معنى قول أبي العالية، لأنه قال أخذ ميثاقكم أن تخلصوا له، وألا تعبدوا غيره.
• الثاني: موضعه رفع على أنه جواب القسم، كقولك: حَلَّفْتُهُ لا يقوم، وهذا حكاية على المعنى، وقد أجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج، وهو أحد قولي الأخفش.
• الثالث: قول قطرب، يكون في موضع الحال، فيكون موضعه نصبًا، كأنه قال أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله.
• الرابع: قول الفراء أن يكون في موضع لا تعبدوا على النهي، إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ فالرفع، والمعنى على النهي، قال الفراء: ويدل على أنه نهي قوله: وَقُولُوا) (وَأَقِيمُوا).
ب. في اتصال الباء في قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وعلامة انتصابها ثلاثة أقوال:
• الأول: قال الزجاج: انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحسانًا.
• الثاني: على معنى وصيناهم بالوالدين إحسانا؛ لأن اتصال الباء به أحسن، ولو كان على الأول لكان ﴿ وإلى الوالدين ﴾، كأنه قيل: وأحسنوا إلى الوالدين.
• الثالث: قيل: بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول، يعني بألا تعبدوا وتحسنوا.
ج. قال ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾، وأحدهما والدة لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غُلِّبَ المذكر.
د. خوطبوا ب ﴿قُولُوا﴾ بعد الإخبار، لأن من شأن العرب إذا أرادت التصرف في الكلام، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ قال عنترة:
شَطَّتْ مَزَارُ العَاشِقِينَ فَأَصْبَحَتْ.. عَسِرًا عَلَيَّ طِلاَبُكِ ابْنَةَ مَخْرَمِ
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/465.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
2. الأخذ: ضد الإعطاء.
3. القربى: مصدر قولهم قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا.
4. اليتامى: جمع يتيم، مثل نديم وندامى، واليتيم الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم، ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم، يقال لمن يتم ييتم يتما: إذا فقد أباه، هذا في الانسان، فأما في غير الانسان فيتمه من قبل أمه، قال الأصمعي: إن اليتم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم.
5. المسكين: هو المتخشع المتذلل من الحاجة، مأخوذ من السكون كأنه قد أسكنه الفقر.
6. عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل فقال: ﴿ و﴾ اذكروا ﴿ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ﴾:
أ. قيل: أي عهدهم.
ب. وقيل: الميثاق الأدلة من جهة العقل والشرع.
ج. وقيل: هو مواثيق الأنبياء على أممهم.
7. العهد والميثاق لا يكون إلا بالقول، فكأنه قال: أمرناهم ووصيناهم، وأكدنا عليهم، وقلنا لهم: والله ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ إذا حملناه على جواب القسم.. وإذا حملناه على الحال أو على أن معناه الأمر فكما قلناه قبل وإذا حملناه على حذف أن فتقديره وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ وحده دون ما سواه من الأنداد.
8. الإحسان الذي أخذ عليهم الميثاق بأن يفعلوه إلى الوالدين هو ما فرض على أمتنا أيضا من فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل لهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك.
9. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ أي وبذي القربى أن تصلوا قرابته ورحمه ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أي وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالرأفة والرحمة ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ أي وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليهم في أموالهم
10. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. قيل: فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر، وإنما استجازت العرب ذلك لأن الخبر إنما كان عمن خاطبوه بعينه، لا عن غيره، وقد يخاطبون أيضا، ثم يصيرون بعد الخطاب إلى الخبر، فمثال الأول قول عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت... عسرا علي طلابك ابنة مخرم
ومثال الثاني قول كثير عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة... لدينا ولا مقلية إن تقلت
ب. وقيل: معناه قلنا لهم قولوا.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. قيل: هو القول الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه عن ابن عباس.
ب. وقيل: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن سفيان الثوري.
ج. وقال الربيع بن أنس ﴿ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ أي معروفا.
د. وروى جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف.
12. اختلف في عموم قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. قيل: هو عام في المؤمن والكافر على ما روي عن الباقر عليه السلام.
ب. وقيل: هو خاص في المؤمن.
13. اختلف من قال بعموم قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ في نسخه:
أ. قال ابن عباس وقتادة: أنه منسوخ بآية السيف، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية، وقد روي ذلك أيضا عن الصادق عليه السلام.
ب. وقال الأكثرون: إنها ليست بمنسوخة، لأنه يمكن قتالهم مع حسن القول في دعائهم إلى الإيمان كما قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
14. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي أدوها بحدودها الواجبة عليكم.
15. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ :
أ. قيل: أي أعطوها أهلها كما أوجبها الله عليكم.
ب. روي عن ابن عباس: أن الزكاة التي فرضها الله على بني إسرائيل كانت قربانا تهبط إليه نار من السماء، فتحمله، فكان ذلك تقبله، ومتى لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل.
ج. وروي عنه أيضا أن المعني به طاعة الله والإخلاص.
16. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه، وخالفوا أمره، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمة الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، ووصف هؤلاء بأنهم قليل بالإضافة إلى أولئك.. ومعنى تولوا: فعلوا الإعراض وهم معرضون أي مستمرون على ذلك.
17. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وتبديلهم أمر الله وركوبهم معاصيه.
ب. وقيل: إنه خطاب لأسلافهم المذكورين في أول الآية، وإنما جمع بين التولي والإعراض، وإن كان معناهما واحدا تأكيدا.
18. تدل الآية الكريمة على ترتيب الحقوق:
أ. فبدأ الله سبحانه بذكر حقه وقدمه على كل حق لأنه الخالق المنعم بأصول النعم.
ب. ثم ثنى بحق الوالدين، وخصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود وإنعامهما بالتربية.
ج. ثم ذكر ذوي القربى لأنهم أقرب إلى المكلف من غيرهم.
د. ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم والفقراء لفقرهم.
19. مسائل نحوية:
20. ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ : لا يخلو إما أن يكون حالا، أو يكون تلقي القسم، أو يكون على لفظ الخبر، والمعنى معنى الأمر، أو يكون على تقدير أن لا تعبدوا، فتحذف أن، فيرتفع الفعل:
• فإن جعلته حالا، فالأولى أن يكون بالياء، ليكون في الحال ذكر من ذي الحال، وكأنه قال أخذنا ميثاقهم موحدين.
• وإن جعلته تلقي قسم، وعطفت عليه الأمر، وهو قوله وقولوا، كنت قد جمعت بين أمرين لا يجمع بينهما.
• فإن لم تحمل الأمر على القسم، وأضمرت القول كأنه قال وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وقلنا وأحسنوا بالوالدين إحسانا، فيكون وقلنا على هذا معطوفا على أخذنا جاز، لأن أخذ الميثاق قول، فكأنه قال: قلنا هم كذا وكذا.
• وإن حملته على أن اللفظ لفظ خبر، والمعنى معنى الأمر، يكون مثل قوله ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ويدل على ذلك قوله ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ﴿وَقُولُوا﴾، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ .
• وإن حملته على أن المعنى أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فلما حذف ﴿إِنَّ﴾ ارتفع الفعل، كما قال طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى... وان أشهد اللذات، هل أنت مخلدي
فإن هذا قول إن حملته عليه، كان فيه حذف بعد حذف، وزعم سيبويه أن حذف أن من هذا النحو قليل.
21. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الحرف الجار يتعلق بفعل مضمر، ولا يجوز أن يتعلق بقوله ﴿إِحْسَانًا﴾، لأن ما تعلق بالمصدر لا يجوز أن يتقدم عليه، وأحسن يصل إلى المفعول بالباء، كما يصل بإلى، يدلك على ذلك قوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ فتعدى بالباء كما تعدى بإلى في قوله (وأحسن كما أحسن الله إليه).
22. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ قال الزجاج: نصب قليلا على الاستثناء، والمعنى أستثني قليلا منكم، قال أبو علي: إن في هذا التمثيل إيهاما أن الاسم المستثنى ينتصب على معنى أستثني، أو بإلا، وليس كذلك بل ينتصب الاسم المستثنى عن الجملة التي قبل إلا بتوسط إلا، كما ينتصب الطيالسة ونحوها في قولك جاء البرد والطيالسة، وما صنعت وأباك، عن الجملة التي قبل الواو بتوسط الواو، ويدل على ذلك قولهم ما جاءني إلا زيد، فلو كان لإلا، أو لما يدل عليه عمل في المستثنى، لجاز نصب هذا، كما أنك لو قلت: أستثني زيدا، لنصبته.. فإن قيل: لا يجوز النصب هنا لأن الفعل يبقى فارغا بلا فاعل؟ قيل: فهلا ذلك امتناع هذا من الجواز على أن ما بعد ﴿إِلَّا﴾ متصل بما قبلها، وأنه ليس لإلا فيه عمل، ولا أثر، إلا ما يدل عليه من معنى الاستثناء!
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/299.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة.
2. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، أي: ووصّيناهم بآبائهم وأمّهاتهم خيرا، قال الفرّاء: والعرب تقول: أوصيك به خيرا، وآمرك به خيرا، والمعنى: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف (أن) فيوصل الخير بالوصية والأمر.
3. الإحسان إلى الوالدين: هو برّهما. قال ابن عبّاس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار، وقالت عائشة: ما برّ والده من شدّ النظر إليه، وقال عروة: لا تمتنع عن شيء أحبّاه.
4. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾، أي: ووصّيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم.
5. اليتامى: جمع: يتيم. قال الأصمعيّ: اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير النّاس: من قبل الأمّ، وقال ابن الأنباريّ: قال ثعلب: اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد: فمعنى صبيّ يتيم: منفرد عن أبيه.. وإذا بلغ الصبي، زال عنه اسم اليتم، يقال منه: يتم ييتم يتما ويتما، وجمع اليتيم: يتامى، وأيتام، وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وبه سمّي اليتيم، لأنه يتغافل عن برّه، والمرأة تدعى: يتيمة ما لم تزوج، فإذا تزوّجت زال عنها اسم اليتم.. وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبدا، وقال أبو عمرو، اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البرّ يبطئ عنه.
6. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ : جمع مساكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المساكين قد أسكنه الفقر.
7. اختلفوا في المخاطب بقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج، ومعناه: اصدقوا وبيّنوا صفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنهم أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال أبو العالية: قولوا للناس معروفا، وقال محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم، وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إلى الإسلام، فعلى هذا، تكون منسوخة بآية السيف.
8. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، أي: أعرضتم إلا قليلا منكم، وفيهم قولان:
أ. أحدهما: أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا.
ب. الثاني: أنهم الذين آمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في زمانه.
__________
(1) زاد المسير: 1/84.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة، والموصل إلى النعمة نعمة، فهذا التكليف لا محالة من النعم.
2. اختلفوا في موضع ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ من الأعراب على خمسة أقوال:
أ. الأول: قال الكسائي: رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل: أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت (أن (رفع الفعل كما قال طرفة:
ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه (أن) وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.
ب. الثاني: موضعه رفع على أنه جواب القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا يعبدون، وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش.
ج. الثالث: قول قطرب: أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصباً كأنه قال أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله.
د. الرابع: قول الفراء أن موضع ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ [البقرة: 233] بالرفع والمعنى على النهي، والذي يؤكد كونه نهياً أمور:
• أحدها: قوله: ﴿أَقِيمُوا﴾
• ثانيها: أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي: لا تعبدوا.
• ثالثها: أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.
هـ. الخامس: التقدير أن لا تعبدوا تكون (أن) مع الفعل بدلًا عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم.
3. هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين، لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره، ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة، فقوله: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها.
4. اختلف في اتصال الباء في قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وعلامة الانتصاب على ثلاثة أقوال:
أ. الأول: قال الزجاج: انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحساناً.
ب. الثاني: قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً، لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان وإلى الوالدين كأنه قيل: وأحسنوا إلى الوالدين.
ج. الثالث: قيل: بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا.
5. إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه:
أ. أحدها: أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم، فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية، وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود، بل بالتربية فقط، فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى.
ب. ثانيها: أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر، فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر.
ج. ثالثها: أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضاً ألبتة، بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً مالياً ولا ثواباً، فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه، فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى.
د. الرابع: أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما، وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين.
هـ. الخامس: كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد كما قال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: 261]
و. السادس: أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين، ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال، ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة، إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى.
6. اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين، ويدل عليه وجوه:
أ. أحدها: أن قوله في هذه الآية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا، ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف، فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين، وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ الآية، وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما، ثم إنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾
7. في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الأخفش: معناه قولًا ذا حسن.
ب. الثاني: يجوز أن يكون حسناً في موضع حسناً كما تقول: رجل عدل.
ج. الثالث: أن يكون معنى قوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي ليحسن قولكم، نصب على مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام الأول.
د. الرابع: حسناً أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه.
8. خوطبوا بـ ﴿وَقُولُوا﴾ بعد الإخبار؟ لثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22].
ب. ثانيها: فيه حذف أي قلنا لهم قولوا.
ج. ثالثها: الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل: قلت لا تعبدوا وقولوا.
9. المخاطب بقوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ :
أ. يحتمل أن يقال: إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسناً.
ب. ويحتمل أن يقال: إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله، ثم قال لموسى وأمته: قولوا للناس حسناً.
والكل ممكن بحسب اللفظ، وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه.
10. من قال إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكفار والفساق فلا، واستدل لذلك بوجهين:
أ. الأول: أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً.
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء: 148] فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم.
11. اختلف القائلون بتخصيص القول الحسن بالمؤمنين، أما مع الكفار والفساق فلا:
أ. منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القتال.
ب. ومنهم من قال إنه دخله التخصيص، وعلى هذا التقدير يحصل هاهنا احتمالان:
• أحدهما: أن يكون التخصيص واقعاً بحسب المخاطب، وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسناً، وعلى هذا الوجه: يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب.
• الثاني: أن يقع بحسب المخاطب، وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف، وعلى هذا الوجه: يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب.
12. ذهب أبو جعفر محمد بن علي الباقر إلى أن هذا العموم باق على ظاهره، وأنه لا حاجة الي التخصيص، وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهارون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون، وكذلك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مأمور بالرفق وترك الغلظة، وكذلك قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] وقوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وقوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]
13. جواب من ذهب إلى أنه يجب لعنهم وذمهم، ورأى أنه لا يمكن القول الحسن معهم من وجوه:
أ. لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 108]
ب. إن سلمنا أنه يجب لعنهم لكن لا نسلم أن اللعن ليس قولًا حسناً، ذلك أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به، ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعاً في حقهم، فكان ذلك اللعن قولًا حسناً ونافعاً، كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسناً ونافعاً من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح.
ج. إن سلمنا أن لعنهم ليس قولًا حسناً، ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن، ذلك أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقاً للتعظيم بسبب إحسانه إلينا، ومستحقاً للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم.
14. جواب الذين تمسكوا بقوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء: 148] هو أنه لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه؟ وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس)
15. كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية، فإن كان في الأمور الدينية، فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار، أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق:
أ. أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44] أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى، وقال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159] الآية
ب. أما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125] وقال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]
ج. وأما في الأمور الدنيوية، فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾
16. اختلف المفسرون في المخاطبين بقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] على قولين:
أ. الأول: أنهم اليهود، والتقدير: من سألكم عن شأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج، ومقاتل.
ب. الثاني: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم اختلف أصحاب هذا القول:
أ. قال الحسن: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر.
ب. قال أبو العالية: وقولوا للناس معروفا.
ج. قال محمد بن علي بن الحسين: كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم.
17. ذهب قوم إلى أن المراد بذلك: مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف، وهذا قول بعيد؛ لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل، ولا دليل هاهنا، ثم إن إنذار الكفار من الحسنى.
18. لما شرح الله تعالى أنه أخذ الميثاق عليهم في هذه التكاليف الثمانية، بين أنه مع إنعامه عليهم بأخذ الميثاق عليهم بكل ذلك ليقبلوا فتحصل لهم المنزلة العظمى عند ربهم، تولوا وأساؤوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الدلائل والمواثيق عليهم، وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي، لأن الإقدام على مخالفة الله تعالى بعد أن بلغ الغاية في البيان والتوثق يكون أعظم من المخالفة مع الجهالة.
19. اختلفوا فيمن المراد بقوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه من تقدم من بني إسرائيل، لأنه إذا كان الكلام الأول في المتقدمين منهم، فظاهر الخطاب يقتضي أن آخره فيهم أيضاً إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر، يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم، ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلًا منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه.
ب. ثانيها: أنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود، يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم، لأن قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق، وما تقدم حكاية، وهو بسلفهم الغائبين أليق، فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها، فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحة نبوته، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم، وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلًا منكم، وهم الذين آمنوا وأسلموا، فهذا محتمل.
ج. ثالثها: المراد بقوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ من تقدم بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ومن تأخر، لأنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم، ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالًا على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مختصاً بمن في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أعرضتم عنه وكفرتم به، فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي.
20. ظاهر الآية يدل على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً عليهم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ولأنه تعالى ذمهم على التولي عنه، وذلك يفيد الوجوب والأمر في شرعنا أيضاً، كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق، وهذا ضعيف لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزكاة كان التصدق واجباً ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون به.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/586.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الميثاق هنا:
أ. قال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر.
ب. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
2. ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه.
3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا، وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لان النشأة الاولى من عند الله، والنشأ الثاني ـ وهو التربية ـ من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾، والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما.
4. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ عطف ذي القربى على الوالدين، والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم.
5. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندامى جمع نديم، واليتم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الام، وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الام، والأول المعروف، وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه، وبئت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شي من الشعر، ودرة يتيمة: ليس لها نظير.. وقيل: أصله الإبطاء، فسمي به اليتيم، لان البر يبطئ عنه، ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم، ويتم ييتم يتما ويتما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء، وقد أيتمه الله، ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة)
6. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء، روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ـ وأحسبه قال ـ وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)، قال ابن المنذر: وكان طاووس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
7. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ﴿حَسَنًا﴾ نصب على المصدر على المعنى، لان المعنى ليحسن قولكم، وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى:
أ. ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها.
ب. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتغيروا نعته.
ج. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
د. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به.
8. قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قول للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لان الله تعالى قال لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لعائشة: لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء).
9. هناك من ذهب إلى أن المراد بالناس محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، كقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، فكأنه قال قولوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حسنا.
10. هناك من ذهب إلى أن الآية منسوخة، حكى المهدوي عن قتادة أن قوله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ منسوخ بآية السيف، وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف، قال ابن عطية: وهذا يدل على أن هذه الامة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه.
11. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل، ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وما ذكره يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم، وقد روي عن ابن عباس أنه قال الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.
12. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ الخطاب لمعاصري محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال: شنشنة أعرفها من أخزم)
13. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه، و ﴿قَلِيلًا﴾ نصب على الاستثناء، والمستثنى عند سيبويه منصوب، لأنه مشبه بالمفعول، وقال محمد ابن يزيد: هو مفعول على الحقيقة، المعنى استثنيت قليلا.
14. ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ابتداء وخبر، والاعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ.. وقيل: التولي بالجسم، والاعراض بالقلب. قال المهدوي: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ حال، لان التولي فيه دلالة على الاعراض.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/13.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال مكّي: إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو: ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم، وهو قوله: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ وعبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه.
2. الإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال أمرهما، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق.
3. القربى: مصدر كالرجعى والعقبى، هم القرابة ـ والإحسان بهم: صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة.
4. اليتامى: جمع يتيم، واليتيم في بني آدم: من فقد أبوه، وفي سائر الحيوانات: من فقدت أمه، وأصله الانفراد ـ يقال: صبيّ يتيم: أي منفرد من أبيه.
5. المساكين: جمع مسكين، وهو من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشد فقرا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه، وروي عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها.
6. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي قولوا لهم قولا حسنا، فهو صفة مصدر محذوف، وهو مصدر كبشرى.. والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر:
أ. وقد قيل: إن ذلك هو كلمة التوحيد.
ب. وقيل: الصدق.
ج. وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د. وقيل: غير ذلك.
7. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ هو خطاب لبني إسرائيل، والمراد الصلاة التي كانوا يصلّونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل، ولا تنزل على ما لا يقبل.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/127.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرع، سبحانه، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ وهو إخبار في معنى النهي، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [البقرة: 282]، وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي.
2. بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى. أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]
3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما، بعبادته التي هي توحيده، والبراءة عن الشرك، اهتماما به وتعظيما له.
4. ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ اليتامى جمع يتيم، وهو من مات أبوه وهو صغير. قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة. فعلم أنها مقصودة لذاتها، وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم، وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا، وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا، والسرّ في ذلك هو كون اليتيم لا يجد، في الغالب، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه والعناية بأموره الدينية والدنيوية، فإن الأم، إن وجدت، تكون في الأغلب عاجزة. لا سيما إذا تزوجت بعد أبيه. فأراد الله تعالى، وهو أرحم الراحمين، بما أكد من الوصية بالأيتام، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم. يربونهم تربية دينية دنيوية، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا. فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد، والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة. فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة، وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا. إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس، ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه.
5. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي قولا حسنا، أي: كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا، وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، كرجل عدل وصوم وفطر.
6. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ خطاب لبني إسرائيل، فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها.
7. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم عن المضيّ على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه، وقوله ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام، أو في كل زمن، فإنه لا تخلو أمة من الأمم، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم.
8. الحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر، وقلّ المعروف.
9. ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/343.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَ اَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللهَ﴾ إمَّا مفعول لـ (أَخَذْنَا) لتضمُّنه معنى قلنا، واللفظ نفيٌ والمعنى نهي، وحكمته الحثُّ على المسارعة للامتثال، حتَّى كأنَّه قد امتثل فأخبر عنه، وصونًا للكلام عن الكذب إن كان بصيغة الإخبار فلم يمتثل، فلا حاجة إلى تقدير: قلنا، ووجه ذلك أنَّ أَمْرَ الله تعالى بشيء أو نهيه عنه أخذٌ للميثاق، ولو لم يقل المأمور والمنهيُّ: نَعَم، وإمَّا جواب القسَم الذي هو الميثاق، ومقتضى الظاهر على هذا: (لا يَعبدون) ـ بالتحتيَّة ـ ، وإمَّا تفسير لأخذ الميثاق، وهكذا فيما يأتي من القرآن تتصوَّر فيه هذه الأوجه.
2. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي: أحسنوا، أو تحسنون بالوالدين إحسانًا، أي: أحسنوا، أو استوصوا بالوالدين، أي: بالوالد والوالدة، فغلِّب المذكَّر، ويبعد تفسير الميثاق هنا بميثاق يوم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، والآية مفصحة بعظم الإحسان إلى الوالدين إذ قرن بطاعة الله تعالى.
3. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ القرابةِ، كالرُّجعى بمعنى الرجوع، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ أحسنوا إلى هؤلاء بالمال والخدمة والنفع بالجاه والبدن والرفق، وتعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على ذلك الترتيب، فالله أحقُّ لأنَّه الخالق المنعم، وحقُّه أعظم من كلِّ حقٍّ، ثمَّ الوالدان لأنَّهما سبب وجود الولد، ومتلقِّيان المشاقَّ في الولد، ثمَّ ذو القربى لأنَّه بواسطتهما، و(الرضاع لحمة كلحمة النسب)، ثمَّ اليتيم لأنَّه أضعف لصغره من المسكين.
4. اليتيم: مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد، كدرَّة يتيمة؛ وهو من بني آدم: من مات أبوه قبل بلوغه، و(لا يُتْمَ بعد البلوغ)، ومن الدوابِّ: من ماتت أمُّه، وفي الطير: من ماتا عنه، وقد يطلق على من ماتت أمُّه من الآدميِّين، وأفرد القريب لأنَّ القربى مصدر يصلح للأكثر فتَبِعه المضاف وهو (ذي)؛ والإشارة إلى أنَّهم كواحد ولو كثروا، فلا تقصِّروا في حقِّهم.
5. ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ بضمٍّ فإسكان، أي: حَسَنًا بفتحهما، أو ذا حُسْنٍ، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، والصدق في شأن محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، والدعاء إلى التوحيد، والرفق بهم بما يحبُّونه مِمَّا لا معصية فيه ليذعنوا، وحين يكون التغليظ هو النافع فالتغليظ حسن، وذلك قبل الأمر بالقتال وبعده، وليس مِمَّا ينسخ.
6. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة عليكم في التوراة، ﴿وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ﴾ على ما فرض عليكم فيها وهو ربع المال، تنزل النار فتحرقه أو تأخذه، أو شيء كالنار، وذلك علامة قبوله، ولا تحرق الحيوان، وهذا خطاب لأوائلهم المأخوذ عليهم الميثاق ومَن بعدهم، والكلام في ذلك، لا في المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنَّ معاصريه تجب عليهم الصلاة والزكاة على ما فُرض عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أمَرْناكم بما ذكر من إفراد الله بالعبادة وما بعده من إيتاء الزكاة وقَبِلتُم.
7. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُم﴾ عن الوفاء ﴿إِلَّا قَلِيلاً مِّنكُمْ﴾ وهو من اتَّبع التوراة والإنجيل قبل البعثة كعبد الله بن سلام، ﴿وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ﴾ عن الوفاء، والآية ﴿ثُمَّ تَوَلَّيتُم﴾ كقوله: ﴿وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ [لقمان: 7] وقيل: التولِّي: الانصراف بحاجة مع ثبوت العقد، والإعراض: الانصراف بالقلب؛ وقيل: التولِّي: الرجوع إلى ما كان أوَّلاً، والإعراض: أخذ طريق آخر.
8. والخطاب لمن قَبْلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأجيز أن يكون الخطاب بقوله: ﴿وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ﴾ لمعاصريه، أو المعنى: معرضون عن الفكر، فلا تأكيد، أي: وأنتم معرضون عن الوفاء بعهد التوراة والإنجيل قبل البعثة، وقد وجب عليكم اتِّباعهما، وعن الوفاء بالقرآن بعد البعثة وقد وجب عليكم اتِّباعه بعدها، ويضعف أن يقال: معرضون عن الغضب على المتولِّين، أو عن القليل الذين لم يتولَّوا بأن لم توالوهم وتحبُّوهم، والأولى: أنَّ الخطاب للآباء لأنَّ ما قبله وما بعده لهم، نعم ما بعده لهم باعتبار آبائهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/150.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات السابقة كانت تذكيرا بالنعم التاريخية الملية، وبالتقصير في الشكر وعواقبه، وذلك كالتفضيل على العالمين الذي يرفع النفس، والانجاء من آل فرعون ومن الغرق، وإيتاء موسى الكتاب والآيات البينات، وتسهيل المعيشة عليهم في التيه بما ساق الله إليهم من المن والسلوى، ثم ما كان منهم في أثر كل نعمة وما أعقبه كفر النعم من النقم، ولم يذكر فيما سبق من الاحكام العملية إلا ما جاء على سبيل التبع لهذه الأصول، وفى هذه الآية وما بعدها التذكير بأمهات الاحكام في العبادات والمعاملات وما كان من إهمالها وترك العمل بها. هذا هو المراد أولا وبالذات على أن فيما يأتي إعادة الاشارة إلى بعض ما مضى قضى بها ما كان عليه اليهود من سوء الفهم وغلظ القلوب وكثرة المشاغبات والمماراة فالخطاب معهم دائما في باب الاطناب
2. لاحظ بعض البلغاء والمفسرين أن القرآن يطنب ويبدئ ويعيد في خطاب اليهود خاصة، وذلك لما كانت شحنت به أذهانهم مما يسمى علما أو فقها فأبعدهم عن أن يصل شعاع الحق إلى ما وراء ذلك من نفوسهم، ويكتفى بالإيجاز بل بالإشارة الدقيقة في خطاب العرب لما كانوا عليه من سرعة الفهم ورقة الاحساس لقربهم من السذاجة الفطرية، فالإشارة الى البرهان في ضمن تمثيل، يغنى عندهم عن الاسهاب والتطويل، ولذلك خاطبهم بمثل قوله في الأصنام: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾
3. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي واذكر أيها الرسول إذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق عليهم في سياق خطابهم ولم يبينه لعلمهم به، وقوله هنا ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ بيان له أي للميثاق، لا مقول قول محذوف، يقال: أخذت عليك عهدا تفعل كذا: كما تقول: أن تفعل كذا: سواء. وهو خبر بمعنى النهى للمبالغة والتأكيد، يلاحظ فيه أن الأمر والنهى قد امتثل فيخبر بوقوعه، أو إنه لتوثيقه والتشديد في تأكيده سيمتثل حتما فيخبر بأنه كائن لا محالة.
4. هذا النهى عن عبادة غير اللّه مستلزم للأمر بعبادته تعالى، ولم يصرح به لأنهم كانوا يعبدون اللّه، وإنما يخشى عليهم الشرك به كما وقع منهم في بعض الأجيال ومن غيرهم من الشعوب، فالأصل الأول لدين اللّه على ألسنة جميع رسله هو أن يعبد اللّه وحده ولا يشرك به عبادة أحد سواه من ملك ولا بشر ولا ما دونهما بدعاء ولا بغيره من أنواع العبادة كما قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، فالتوحيد لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين.
5. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي وتحسنون بالوالدين إحسانا. والاحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد اللّه الأمر بإكرام الوالدين في التوراة حتى أنه يوجد فيها الآن أن من يسب والديه يقتل، وقد قرن الأمر بالإحسان بالوالدين إلى الأمر بالتوحيد أو النهى عن الشرك فهو كقوله تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
6. ليست هذه العناية بأمر الوالدين في الكتب السماوية لكونهما سبب وجود الولد كما يقول الناس، فانه لا منة لهما على الولد بهذه السببية لأنها لم تكن إكراما له ولا عناية به، كيف وهو لم يكن معروفا أو موجودا فيكرم، وإنما كانت بباعث الشهوة وإرضاء النفس، ومنهم من لم يكن يخطر بباله الولد إلا بعد الزواج بزمن طويل، ومنهم من كان يود أن لا يولد له، أو أن يكون له ولد واحد أو ولدان فقط، فيكون له أكثر، فإذا كان وجوب الإحسان بالوالدين معلولا لإرادتهما الولد فينبغي أن يخص هذا الإحسان بولد لم يكن لهما من الزوجية حظ سواه بعينه، وهو ما لا وجود له، ذلك كلام شعرى، والعلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته، والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا لا يملك لنفسه نفعا، ولا يقدر أن يدفع عنها ضررا، إذ كانا يحوطانه بالعناية والرعاية، ويكفلانه حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه، فهذا هو الإحسان الذى يكون منهما عن علم واختيار، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وإذا وجب على الإنسان أن يشكر لكل من يساعده على أمر عسير فضله، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد وما كانت به المساعدة، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر للّه تعالى وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء، أيام كان يتعذر عليه كل شيء 7. كذلك حب الوالدين للولد ليست علته كما يقول الناس كونه جزءا منهما وفلذة كبدهما، هذا كلام شعرى لا حقيقي أيضا، فان جسم الإنسان مركب من الأغذية النباتية والحيوانية، فلو كانت العلة صحيحة لكان ينبغي أن يحب الحنطة والغنم أكثر مما يحب والديه. وإنما لحب الوالدين الولد منبعان:
أ. أحدهما: حنان فطرى أودعه اللّه تعالى فيهما لإتمام حكمته.
ب. ثانيهما: ماجرت به سنة البشر من التفاخر بالأولاد، ومن الأمل بالاستفادة منهم في المستقبل، وليست الفائدة محصورة في المال والعون على المعيشة، وإنما تتناول الشرف والجاه أيضا:
وكم أب قد علا بابن له شرفا... كما علا برسول اللّه عدنان
8. لما كان حب الوالدين للأولاد بمكانة من القوة لا يخشى زوالها ترك النص على الإحسان بهم وثنى بالإحسان بمن دونهم في النسب فقال ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾
9. الاحسان هو الذى يقوى غرائز الفطرة ويوثق الروابط الطبيعية بين الأقربين حتى تبلغ البيوت في وحدة المصلحة درجة الكمال.
10. الأمة تتألف من البيوت (العائلات) فصلاحها صلاحها، ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد، ثم بين سائر الأقربين، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمة، لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم يسره ما يسرهم، ويؤلمه ما يؤلمهم، ويرى منفعتهم عين منفعته، ومضرتهم عين مضرته، وهو ما يجب على كل شخص لأمته.
11. قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة وصلتها أمتن من كل صلة، فجاء الدين يقدم حقوق الأقربين على سائر الحقوق، وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص.
12. ثم ذكر الله تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾، واليتيم هو من مات أبوه وهو صغير، وقد قدم الوصية به على الوصية بالمسكين ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة فعلم أنها مقصودة لذاتها.
13. أكد اللّه تعالى الوصية باليتيم، وفى القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا، وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم، وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا، ولو كان السر في ذلك غلبة المسكنة على اليتامى لا كتفي هنا بذكر المساكين.. كلا إن السر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه، والعناية بأموره الدينية والدنيوية، فان الأم إن وجدت تكون في الأغلب عاجزة ولا سيما إذا تزوجت بعد أبيه فأراد اللّه تعالى ـ وهو أرحم الراحمين ـ بما أكد من الوصية بالأيتام أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم يربونهم تربية دينية دنيوية لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا. فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد. والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة، فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة.
14. أما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفى بحاجاتهم أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا إلا أنهم اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس، ولكن المسكين من يعجز عن كسب يكفيه
15. أما قوله عز وجل ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ فهو كلام جديد له شأن مخصوص، ولذلك تغير فيه الأسلوب، فلم يرد على النسق الذى قبله مع دخوله في الميثاق، فانه بين فيما سبق الحقوق العملية وعبر عنها بالإحسان، ويستحيل أن يحسن الانسان بالفعل إلى جميع الناس لأنه لا يمكن أن يعامل جميع الناس، فالذين لا بد له من معاملتهم هم أهل بيته وأقار به الذين ينشأ فيهم ويتربي بينهم، فجاء النص بوجوب الاحسان في معاملتهم لتصلح بذلك حال البيوت، ثم إن اليتامى والمساكين من قومه هم الذين لا يستغنون عن إحسانه وإحسان أمثاله بالفعل، لأنه لا قيم للأولين، ولا غناء عند الآخرين ففرض عليه أن يجعل لهم حظا منه، ثم بعد بيان ما به إصلاح البيوت من إعانة الأقربين وما به صلاح بعض العامة من معونة اليتامى والمساكين على إصلاح بيوتهم بقى بيان حقوق سائر الأمة وهى النصيحة لهم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيهم، فهذا هو معنى قوله تعالى ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب؛ فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا؛ وهو لا يخرج عما ذكرنا، فلما كان هذا النوع من الحقوق مستقلا بذاته جاء بأسلوب آخر.
16. لا شك أن في القيام بهذه الفرائض إصلاح الأمة كلها جاء الأمر بالعبادة مجملا ليعلم الانسان أنه مكلف بكل فرد من أفرادها بحسب الطاقة، ولكن من العبادة ما لا يهتدى إليه الإنسان إلا بهداية إلهية، وأكبر ذلك النوع إقامة الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد، وإيتاء الزكاة لإصلاح شئون الاجتماع، لذلك قال تعالى بعد ما تقدم: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
17. إنما إقامة الصلاة بالإخلاص للّه والصدق في التوجه اليه والخشوع لعظمته وجلاله والاستكانة لعز سلطانه، ولا تكون بمجرد الاتيان بصورة الصلاة ورسومها الظاهرة، ولو كان هذا هو المراد لما وصفهم بالتولي والاعراض عنه، فانهم ما أعرضوا عن صورة الصلاة إلى ذلك اليوم الذى ذكرهم فيه بهذه الآيات وإلى هذا اليوم أيضا.
18. أما الزكاة فقد كان بعض أحبارهم يزعم أنها تلك المحرقات والقرابين المفروضة لتكفير الخطايا أو شكر اللّه تعالى على إخراجهم من مصر وغير ذلك من النعم. وليس الأمر كذلك، فان لهم زكوات مالية، منها مال مخصوص يؤدى لآل هارون وهو إلى الآن في اللاوين. ومنها مال للمساكين. ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض. ومنها سبت الأرض، وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.
19. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ أي ثم كان من أمركم بعد هذا الميثاق الذى فيه سعادتكم أن توليتم عن العمل به، وأنتم في حالة الاعراض عنه وعدم الا كتراث له، وقد يتولى الانسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ لازما لا بد منه وليس تكرارا كما يتوهم، وإنما هو متمم للمعنى ومؤكد للمبالغة في الترك المستفاد من التولي.. ولا حاجة إلى ما زاده المفسرون من قولهم: فقبلتم ذلك، ليعطف عليه ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، فالمقام مقام وعيد وزجر وتوبيخ، وفى كلمة (ثم) نفسها ما يفيد أن التولي لم يكن عقب أخذ الميثاق.
20. كان سبب ذلك التولي مع الاعراض أن اللّه أمرهم أن لا يأخذوا الدين إلا من كتابه، فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون اللّه، يحلون برأيهم ويحرمون، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون، ويزيدون في الأحكام والشرائع، ويضعون ما شاءوا من الاحتفالات والشعائر، فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللّه فان اللّه هو الذى يضع الدين وحده، وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه وما شرع على ألسنة رسله.
21. اتبع سنن اليهود في هذا التشريع جميع من بعدهم من أهل الملل وحكم الجميع عند اللّه تعالى واحد لا يختلف فهو لا يحابى أحدا ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ وكذلك كانوا قد قطعوا صلات القرابة، وبخلوا بالنفقة الواجبة، وتركوا النهى عن المنكر، وفقدوا روح الصلاة، ومنعوا الزكاة، ولكنهم الآن عادوا إلى بعض ما تركوا، ولم يعد الذين تشبهوا بهم، أو اتبعوا بغير شعور سنتهم، والأمر للّه العلى الكبير.
22. ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ هو استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السّلام أو في كل زمن، فانه لا تخلو أمه من الأمم من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم، والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر وقل المعروف.
23. لو تدبر جهالنا هذه الآية لعلموا أنهم مغرورون بالاعتماد على الأقطاب والأوتاد والأبدال في تحمل البلاء عنهم، ومنع العذاب أن ينزل بالأمة ببركتهم، فلو فرض أن هؤلاء الأقطاب موجودون حقيقة فإن وجودهم لا يغنى عن الأمة شيئا، وقد عصى اللّه جماهيرها، ونقضوا ميثاقه الذى واثقهم به، فقد جرت سنته تعالى في خلقه بأن بقاء الأمم عزيزة إنما يكون بمحافظة الجماهير فيها على الأخلاق والأعمال التي تكون بها العزة ويحفظ بها المجد والشرف. ومن لم يعتبر بآيات اللّه في كتابه، لا يعتبر بآياته وسننه في خلقه، فقد فتن المسلمون في دينهم ودنياهم وحل بجميع بلادهم ما حل من البلاء وهم لا يعتبرون: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/363.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي واذكر أيها الرسول حين أخذنا عليهم الميثاق، ثم بين هذا الميثاق فقال: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ يقال أخذت عليك عهدا تفعل كذا، وأن تفعل كذا، ويرد مثل هذا الخبر في كلامهم متضمنا معنى النهى أو الأمر كما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، على معنى اذهب وقل له، وفيه مبالغة وتوكيد كأن المخاطب سيمتثل النهى حتما ويسارع إلى الترك فيخبر به الناهي، أي لا تعبدوا إلا الله.
2. نهوا عن عبادتهم غير الله مع أنهم كانوا يعبدون الله خوفا من أن يشركوا به سواه من ملك أو بشر أو صنم بدعاء أو غيره من أنواع العبادات.. ودين الله على ألسنة الرسل جميعا فيه الحث على عبادة الله وعدم الشرك بعبادة أحد سواه ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ فالتوحيد عماده الأمران معا.
3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي أحسنوا إليهما، بأن تعطفوا عليهما وترعوهما حق الرعاية، وتنزلوا عند أمرهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة أن من يسبّ والديه يقتل.. والحكمة في البرّ بهما أنهما قد بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشئونه، حين كان عاجزا ضعيفا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذ مكافأتهما جزاء وفاقا لما صنعا؟ ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ .
4. لحب الوالدين لولدهما أسباب:
أ. الحنان الفطري الذي أودعه الله فيهما إتماما لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدره في سابق علمه.
ب. التفاخر بالأبناء كما قال ابن الرومي:
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف... كما علت برسول الله عدنان
ج. الأمل في الاستفادة منهما مالا وعونا على المعيشة.
وهذا الحب لا يحتاج إلى ما يقوّيه ويوثّق صلته، ومن ثم ترك القرآن النص عليه.
5. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ لأن الإحسان إليهم مما يقوّى الروابط بينهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم... فطالما استعبد الإنسان إحسان
فما الأمة إلا مجموعة الأسر والبيوت، فصلاحها بصلاحها وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمّة له، ومن قطع لحمة النسب، فكيف يصل ما دونها، وكيف يكون جزاء من الأمة، يسره ما يسرها ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرتها مضرته.
6. نظام الفطرة قاض بأن صلة القرابة أمتن الصلات، وجاء الدين حاثا عليها مؤكدا لأواصرها، مقويا لأركانها، مقدما لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة.
7. ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وأشار بالسبّابة الوسطى.. والسر في هذا أن اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته والقيام بشئونه وحفظ أمواله، والأم وإن وجدت تكون في الغالب عاجزة عن تنشئته وتربيته التربية المثلى، إلى أن الأيتام أعضاء في جسم الأمة، فإذا فسددت أخلاقهم وساءت أحوالهم، تسرّب الفساد إلى الأمة جمعاء، إذ يصبحون قدوة سيئة بين نشئها، فيدبّ فيها الفساد ويتطرّق إليها الانحلال، وتأخذ في الفناء.
8. الإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر)
9. قدّم اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك.
10. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أمر الله أولا بالإحسان بالمال لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأمة، ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم في الدين والدنيا، وفي القيام بهذه الفرائض إصلاح لحال المجتمع وسعى في رقيه وتقدمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف.
11. بعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصّل بعضا من ذلك مما لا يهتدى إليه إلا بهدى إلهى ووحي سماوي فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ لأن الصلاة هي التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورا ورسوما لا تغنى فتيلا، وهم ما تولّوا ولا أعرضوا عن تلك الصور والرسوم إلى عصر التنزيل، بل إلى يومنا هذا.
12. ثم الزكاة لما فيها من إصلاح شئون المجتمع، وقد كان لهم ضروب من الزكاة منها مال خاص يؤدى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللاويين (سبط من أسباطهم) ومنها مال للمساكين، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض، ومنها سبت الأرض وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.
13. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.
14. في قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له، فليس كل من تولّى عن شيء يكون معرضا عنه.
15. كان من توليهم وإعراضهم أن اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا مشرّعين يحلّون ويحرّمون، ويبيحون ويحظرون، ويزيدون ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينية، فكأنهم شركاء لله يشرّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينية كالنفقة على ذوى القربي وأداء الزكاة، وتركوا النهى عن المنكر إلى نحو ذلك مما يدل على الاستهتار بأمور الدين.
16. قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف.. بعد هذا لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين الذين فتنوا في دينهم ودنياهم وهم غافلون لا هون، لا يعتبرون ولا يذّكرون.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/157.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يمضي السياق يحدث الجماعة المسلمة عن حال اليهود، ومواقفهم التي يتجلى فيها العصيان والالتواء، وقد سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه.. فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق.
2. من الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني إسرائيل، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل الجبل، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه.. أن ذلك الميثاق قد تضمن القواعد الثابتة لدين الله، هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضا، فتنكروا لها وأنكروها.
3. لقد تضمن ميثاق الله معهم: ألا يعبدوا إلا الله.. القاعدة الأولى للتوحيد المطلق، وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وتضمن خطاب الناس بالحسنى، وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة، وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه.
4. من ثم تتقرر حقيقتان: الأولى هي وحدة دين الله؛ وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله، والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من هذا الدين، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله عليه، وأعطوا عليه الميثاق.
5. هنا ـ في هذا الموقف المخجل ـ يتحول السياق من الحكاية إلى الخطاب، فيوجه القول إلى بني إسرائيل، وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب المؤمنين، ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى وأنكى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾، وهكذا تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص وغيره في هذا الكتاب العجيب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/87.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو ميثاق الله الذي أخذه على عباده، كما حملته شرائعه، وبلغه رسله، وهو الميثاق الذي أخذه الله على بنى إسرائيل، ولكن للقوم دون عباد الله جميعا موقف لئيم ماكر، يكشفه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾، فهم جميعا يلقون آيات الله معرضين عنها، يلقونها غير آبهين لها، ولا ملتفين بوجودهم كله إليها.
2. ثم إذا هم بعد ذلك فريقان: الفريق الأكثر الذي يكاد ينتظم الجماعة كلها، لا يحتمل حتى هذا الموقف المنحرف مع آيات الله، بل يولّى عنها، معطيا ظهره إياها.. وفئة قليلة هي التي تستطيع أن تمسك نفسها على هذا الموقف المنحرف!
3. إن أحسن اليهود حالا، وأقربهم إلى الله، لا يسكن الإيمان قلوبهم، ولا تجد الخشية مكان الطمأنينة في كيانهم، إنهم على طريق معوج منحرف، لا يستقيم بهم أبدا.
4. ون إعجاز القرآن هنا أنه وصف اليهود الوصف الكاشف الملازم لهم، فما وصفوا في القرآن بوصف ينقض هذا الوصف في أي حال، وفى أي موقف.. علماؤهم يبدّلون ويحرفون ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وجميعهم ـ عامة وعلماء ـ يحملون قلوبا قاسية، هي كالحجارة أو أشد قسوة.. فسبحان من هذا كلامه.. ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/104.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه، أو المراد بلفظ (بني إسرائيل) المتقدمون والمتأخرون، والمراد بالخطاب في ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما، وهو أولى من جعل ما صدق ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هو ما صدق ضمير ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ وأن الكلام التفات.
2. ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ خبر في معنى الأمر، ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه، وجملة ﴿لَا تَعْبُدُونَ﴾ مبدأ بيان للميثاق، فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدّرت أن أو لم تقدّرها أو قدّرت قولا محذوفا.
3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه، وهما ﴿ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ﴾، وأصله وإحسانا بالوالدين، والمصدر بدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا.. وعلى طريقتهم تعلق قوله: ﴿ بِالْوالِدَيْنِ ﴾ بفعل محذوف تقديره وأحسنوا.
4. جعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به، وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: 10] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره... مع الصفاء ويخيفها مع الكدر
5. على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور، وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال.
6. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أطلقت الزكاة فيه على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال: وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام.
7. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ خطاب للحاضرين، وليس بالتفات، والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعا اتبعتموه، والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه، وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.
8. يجوز أن يكون المراد بالخطاب في ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيليين، فيكون ضمير الخطاب تغليبا، نكتته إظهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ، وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية، ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفري الملوك الأول والثاني من التوراة.
9. (ثم) للترتيبين الترتبي والخارجي، وقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد.
10. ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الإعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في (الكشاف) وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقا من فعل منزل منزلة اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف متعلقه تعويلا على القرينة أي وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/565.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يذكر الله تعالى نبيه والمؤمنين بالميثاق الذي أخذ الله تعالى عليهم، وهو ميثاق يصلح نفوسهم، ويهذب جماعتهم ويجعلهم يتآلفون فيما بينهم، ويألفهم الناس، ويأتلفون، ولكن رضوا النفور بدل الائتلاف، والمنازعة بدل الالتقاء في ظل الرحمة والمودة الجامعة، وإن ذلك الميثاق الذي يذكره الله تعالى لهم هو ميثاق كل الأنبياء.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي اذكروا أيها المؤمنون الميثاق الذي أخذناه على بنى إسرائيل، فـ (إذ) تدل على الوقت الماضي، فاذكروا وقت ذلك الميثاق الذي أخذناه عليهم، وذكر الوقت ذكر ما يقع فيه واضحا بينا يتصور وجوده، كأنه موجود قائم وليس متخيلا غير واقع.
3. هذا ميثاق بنى إسرائيل، وهو محكم يشتمل على تهذيب النفس والجماعة الإنسانية كلها، وهو ميثاق النبيين في كل العصور، وأول ما اشتمل عليه ـ وهو لبّها ـ عبادة الله تعالى وحده لا يشرك به شيئا، وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ أي لا تعبدوا غير الله، فالله وحده هو المعبود ولا يعبد سواه، والصيغة في ظاهرها خبرية وهى طلبية بمعنى النهى عن عبادة غير الله تعالى كقوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، والتعبير عن الجملة الطلبية بصيغة الجملة الخبرية فيه إشارة إلى أن الإجابة أمر فطرى طبيعي، وأنه كان الطلب وكانت الاجابة، فعبر بما هو دال على الإجابة.
4. التوحيد دعوة النبيين أجمعين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
5. الأمر الثاني: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾، وهو يتعلق بالأسرة لأن الأسرة قوام المجتمع يقوم عليها بناؤه، فلا يمكن أن يتكون مجتمع فاضل إلا من أسر قوية متماسكة برباط المودة، والمحبة والإحسان الذي هو غاية المحبة.
6. أول رباط في الأسرة هو رباط الولد بأبويه، بالإحسان إليهما؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بعبادة الله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، والإحسان زيادة في المعاملة عن المعاملة بالمثل أو بالعدل، وإنه زيادة عن العدل، بل فيه المحبة والرحمة؛ ولذا يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
7. الإحسان أصله مصدر أحسن، وهو الإتقان والإجادة، وبلوغ أقصى الغاية في الإجادة، فالإحسان في العبادة أن تبلغ أقصى درجات التجرد لله تعالى بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى الأبوين أن تبلغ أقصى درجات الوفاء لهما في البر والمكافأة، وأن تزيد في المعاملة الحسنة، عما كان يكون منهما، احتياطا للرعاية والشفقة، والإحسان إلى الناس أن تعاملهم بالمودة الظاهرة، وإفشاء السلام بينهم فخير الإسلام أن تقرأ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، وإحسان العمل إتقانه ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾
8. ابتدأ بالإحسان إلى الوالدين لأنهما رأس الأسرة، وهما أصل تكوينها، فمنهما تتشعب، وتمتد من الأصول إلى الفروع ثم إلى الحواشي ولذلك كان الإحسان واجبا لكل من يربطهم بهما رحم، وذكر الإحسان إلى ذوى القربى، فكان الميثاق الإنساني العالي الذي أخذه الله تعالى على بنى إسرائيل فقال تعالى: ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ والقربى مؤنث أقرب، والمعنى أن بعد الوالدين ذو القربى، صاحب القرابة الأقرب مترتبة الأقرب فالأقرب، وذلك يتفق مع ما روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك) ثم الأقرب فالأقرب، فمعنى ذي القربى، القريب الأقرب ثم يتوالى الأقرب فالأقرب.
9. الأسرة في الإسلام ممتدة، ليست مقصورة على الأبوين أو الزوجين، بل إنها ممتدة تشمل الأقرباء أجمعين، يحسن إليهم الأقرب فالأقرب حتى يعمهم ويبرهم جميعا، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أراد أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)، وإن ذلك كله تقوية لبناء الأسرة على التواصل والمودة والرحمة فإن المجتمع الكامل يتكون من أسر قوية وهى لبنة البناء، ولا يتكون بناء قوى إلا من لبنات قوية.
10. العناية بالأسرة عناية بالجماعة، وإن الوطن لا تتربى محبته إلا في بناء الأسرة، والنزوع الجماعي، والتربية الاجتماعية هي التي تودع النفس الإنسانية محبة الجماعة وحسن التبادل العادل بينها وإنما يبدأ ذلك بالأسرة، وقد أراد بعض الفلاسفة ـ وسارت وراءهم بعض النظم ـ أن يمحو الأسرة ويربى الأطفال مع غير آبائهم ليكونوا جميعا منتمين للجماعة.. فنمت أجسامهم، ولكن من غير عواطف إنسانية فمحوا الأسرة، والجماعة معا.
11. ثم اتجه الميثاق الإنساني الذي أخذ على بنى إسرائيل إلى الإحسان إلى الضعفاء، فقال تعالى: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾، واليتيم هو من فقد أباه، فإن الأب هو العائل الكالئ الحامي، ومن فقده انفرد في هذا الوجود، والأم وإن كانت هي الحانية العاطفة التي تغذيه بأنبل العواطف، لا تحميه، وبالفطرة الأولى لا تعوله؛ ولذلك لا تعوض حماية الأب، وكلاءته.
12. المسكين هو الذي أسكنته الحاجة، أو المرض المزمن، وإن كلمة المسكين بعمومها تشمل الفقير، لأن الفقير أسكنته الحاجة وأذلته، وهؤلاء جميعا الضعفاء، وإنه قد يشمل ابن السبيل أيضا، وهو الذي ينقطع عن ماله، ويكون في بلد بعيد عن بلده فهو قد أذلته الحاجة أيضا.
13. اليتامى والمساكين بهذا العموم هم الضعاف في الجماعة، ورعاية الضعفاء وقاية لبناء الأمة من الانهيار، وإلا كانوا أشتاتا غير متراحمين، يأكل بعضهم بعضا، وقدم الإحسان على اليتامى وإن كانوا أغنياء على المساكين؛ لأن اليتيم ضعيف، وإن كان كثير المال وهو ذو حاجة وإن كان غنيا، والإحسان إليه أن يقوم القائم عليه بتربيته، وألا يقهره ولا يذله، وأن يضمه إلى عياله، فإنه إن لم يحط بالعطف والرعاية والمحبة تربى على النفرة من الجماعة فيكون الشذّاذ والكارهون للمجتمعات؛ ولذلك كانت النصوص الكثيرة الداعية إلى إكرام اليتيم، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشرّ بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم)، فاليتامى إكرامهم فيه تقوية للأمة بإنشاء نشء على الخلق القويم.
14. بعد إقامة الأسرة ومراعاة الضعفاء في هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بنى إسرائيل وليس خاصا بهم دعا سبحانه وتعالى إلى بناء مجتمع إنساني سليم يعم الإقليم والجنس والناس أجمعين فقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا﴾ معطوف على لا تعبدون إلا الله، لأنها مرادف هذا الميثاق الإنساني الذي أخذ على بنى إسرائيل، وهو يحمل في نفسه موجب تنفيذه، لأنه حقيقة الدين، وهو في أعلى درجات المعاملات.
15. هل استجاب بنو إسرائيل، وأقروا به، وقد أخذ عليهم بقوة، ورفع الجبل فوقهم ليخضعوا للحق ويذعنوا له؟ إنهم أعرضوا عنه؛ ولذا قال تعالى في حالهم بعد أخذه عليهم: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾، والتولي الإعراض الذي تدل عليه مظاهر حسّية، ومنه قوله تعالى: ﴿أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ [الإسراء] فالأصل فيه أنه إعراض يدل عليه مظهر حسى.
16. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ معناه أنهم تولوا بأجسامهم ونأوا عنه بحسهم، والمعنى أنهم معرضون مقاطعون لمبادئه وهذا تأكيد للإعراض وأنهم تركوه جملة وتفصيلا من غير أن يقبلوا منه شيئا، وقد أكد سبحانه الإعراض بالتصريح بالإعراض مع أن التولي يتضمن معناه، وأكده بالجملة الاسمية، أي أنه مع أنه ميثاق مؤكد، ومعناه قويم ترتضيه العقول وتطلبه ـ أعرضوا عنه.
17. الخطاب للذين كانوا في عهد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن سبقوهم؛ لأنهم شاركوهم في ملتهم، واتبعوهم في توليهم، فكانوا صالحين لأن يخاطبوا بما خوطب به أسلافهم، وبيان حالهم وأمرهم.
18. الله تعالى حكم عدل يحصى عمل الفاسدين، ويسجل خير الأخيار؛ ولذلك استثنى في الإعراض فقال: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ﴾ فهم استجابوا لمقتضى الميثاق ولم يعرضوا وكان الحكم بالتولي ابتداء عليهم جميعا، ثم استثنى سبحانه الذين استجابوا ولكن لقتلهم كان الخطاب لهم جميعا.
19. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ التعبير بثم في موضعه من البعد بين الميثاق وما اشتمل عليه من أمور معقولة مطلوبة في حكم الشرع والعقل، ثم يكون من بعد ذلك الإعراض الجافي الشديد منكم، إنه لأمر غريب لو كان من غيرهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/290.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قرن الله تعالى شكر الوالدين بشكره، وأوجب البر بهما، والإحسان اليهما، تماما كما أوجب التعبد له، ومن هنا أجمع الفقهاء قولا واحدا على ان عقوق الوالدين من أعظم الكبائر، وان العاق بهما فاسق لا تقبل له شهادة، وفي الحديث الشريف: ان العاق بوالديه لا يجد ريح الجنة)، والمراد بالإحسان للوالدين طاعتهما، والرفق بهما قولا وعملا.. حكي ان امرأة حملت أباها من اليمن الى مكة على ظهرها، وطافت في البيت العتيق، فقال لها قائل: جزاك الله خيرا، فلقد وفيت بحقه. فقالت: كلا، ما أنصفته، لقد كان يحملني، وهو يود حياتي، وأنا أحمله الآن، وأود موته.
2. أوجبت الآية صلة الرحم، لصلته بالوالدين، كما أوجبت الحرص والمحافظة على اليتيم وأمواله على من كان وليا أو وصيا عليه، وأيضا أوجبت للفقير نصيبا في أموال الأغنياء.
3. إذا صدر من الإنسان عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال يمكن حمله على وجه صحيح، وعلى وجه فاسد، فهل يحمل على الصحة، أو على الفساد، أو يجب التوقف وعدم الحكم بشيء إلا بدليل قاطع، ومثال ذلك أن ترى رجلا مع امرأة لا تدري: هل هي زوجته أو أجنبية عنه، أو تسمع كلاما، وأنت لا تدري: هل أراد به المتكلم النيل منك، أو لم يرد ذلك؟ وقد اتفق الفقهاء على وجوب الحمل على الصحة في ذلك وأمثاله، واستدلوا فيما استدلوا بقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ وبقول علي أمير المؤمنين: ضع أمر أخيك على أحسنه.. وبقول الإمام جعفر الصادق: كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قامة انه قال وقال هو لك: اني لم أقل، فصدقه وكذبهم.
4. هذا مبدأ انساني بحت، لأنه يكرس كرامة الإنسان، ويؤكد علاقة التعاون والتعاطف بين الناس، ويبتعد بهم عما يثير الكراهية والنفور.. وبهذا يتبين ان الإسلام لا يقتصر على العقيدة والعبادة، وانه يهتم بالإنسانية وخيرها، ويرسم لها الطرق التي تؤدي بها الى الحياة المثمرة الناجحة.. لكن الذين باعوا دينهم للشيطان استغلوا هذا المبدأ الانساني، وانحرفوا به عن هدفه النبيل، وبرروا به أعمال القراصنة والمرابين.. وبديهة ـ كما أشرنا ـ ان مبدأ الحمل على الصحة لا ينطبق على أعمال السلب والنهب، والاحتيال والتضليل، وما الى ذلك مما نعلم علم اليقين انه من المحرمات والموبقات.. وإنما ينطبق على ما نحتمل فيه الصدق والكذب، والصحة والفساد.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/142.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، الآية في بديع نظمها تبتدئ أولا بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾، ثم إنها تذكر أولا الميثاق وهو أخذ للعهد، ولا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدئ، فيه بالخبر، حيث تقول: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾، وتختتم بالإنشاء حيث تقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ .. ولعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان اشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب، ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول وبني على حكايته حكي بالخطاب فقيل: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾، وهو نهي في صورة الخبر، وإنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كان الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا وكذا قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾، كل ذلك أمر في صورة الخبر.
2. الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ إلخ وانتظم بذلك السياق.
3. قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، أمر أو خبر بمعنى الأمر والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحسانا.
4. رتب موارد الإحسان أخذا من الأهم والأقرب، إلى المهم والأبعد، فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الأصل الذي تتكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام، وفي غير القرابة أيضا اليتامى أحق بالإحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين.
5. ﴿وَالْيَتَامَى﴾، اليتيم من مات أبوه، ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم، وقيل: اليتيم في الإنسان إنما تكون من جهة الأب وفي غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الأم.
6. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل.
7. ﴿حَسَنًا﴾ مصدر بمعنى الصفة جيء به للمبالغة، والمعنى قولوا للناس قولا حسنا، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة، فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/220.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ و﴾ اذكروا ﴿ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ أي تحسنون بالوالدين إحساناً، والمعنى ـ فيما أعتقد والله أعلم ـ أن الله أخذ منهم ميثاقاً، أي كلاماً موثقاً مثل أن أقسموا بالله لا يعبدون إلاَّ الله ويحسنون بالوالدين أو أخذ ميثاقهم، فأقسموا لا يعبدون إلا الله، وأمرهم أن: أحسنوا بالوالدين إحسانا.
2. ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ القريب في النسب ﴿وَالْيَتَامَى﴾ اليتيم: الصغير الفاقد لأبيه ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ المسكين: الفقير الشديد الحاجة، بحيث يحتاج إلى السؤال، سواء سأل أم لم يسأل، وأما الحديث: ليس المسكين هذا الذي ترده اللقمة واللقمتان..) إلى آخره، فإنه من المجاز كقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت.. إنما الميت ميت الإحياء
لأن المقصود بالحديث التنبيه، والحث على التصدق على المحتاج الذي لا يسأل، وبيان أنه أشد في معنى المسكنة، وليس المقصود تعليم اللغة ولا وضعاً جديداً.
3. الفرق بين الوالدين وسائر الناس في هذه الآية: أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين غير خاص بالقول، وكذا ذو القربى واليتامى والمساكين، فيعم الإحسان ببذل المال وبالأفعال للنفع والدفع، ويفهم منه قبح الإساءة إليهم.
4. ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ يدل على تحريم الشرك الأكبر، وعلى تحريم الشرك بالعبادة الذي هو الرياء، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ دليل على أنه لا يدل على ضعف المذهب قلة القائلين به، وأنه قد يكون هو الحق.
5. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أي حسناً بالفتحتين، وفيه مبالغة في وصف الكلام بالحسن، حتى كأنه حُسْن ـ بضم الحاء وسكون السين ـ أو المقصود الأمر بحسن القول لا القول نفسه، فليس المقصود إلاَّ تبعاً للأمر بالحُسن، وفائدة هذا ترجيح الصمت، حيث لا يكون المقصود حُسن القول، والحُسن ضد القبح، فيعم الإحسان الطبيعي الجائز الذي ليس معه وجه قبح، والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.
6. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ قد مر تفسيره ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن أمر الله ونهيه وما أخذ عليكم الميثاق به، والتولي ضد الإقبال إلى الشيء، وتوليهم: هو توليهم عن الله بترك عبادته وإقبالهم إلى الدنيا، وترك طاعة الله في أمره ونهيه.
7. قال الشرفي في (المصابيح): قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على تحريم الشرك بالله، وعلى وجوب الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وعلى أن يقولوا للناس حسناً، من أمرٍ بمعروفٍ ونهي عن منكر، وإرشاد ضال، وابتداء بالسلام وردّه، وتشميت العاطس، واجتناب الفاحش من القول، والسب والمراء، وعلى تحريم التولّي والإعراض عما ذكره الله وشرعه في هذه الآية)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/138.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذا الفصل من حديث بني إسرائيل، عودة معهم إلى الأصول التي ارتكز عليها التشريع الإلهي في التوراة، مما كان يدخل في حساب تنظيم الحياة الاجتماعية المرتكز على أساس التوحيد الذي تلتقي عليه كل التشريعات.. ثم يبدأ بالمقارنة بين الصورة كما أرادها الله، وبين الواقع المتمثل في ممارساتهم العملية وفي علاقاتهم الاجتماعية، فنكتشف من خلال ذلك الفرق الشاسع بين مستلزمات الإيمان وبين واقع الممارسة.
2. فقد أراد الله من بني إسرائيل أن يوحّدوه فلا يعبدوا غيره، وأن تكون علاقاتهم بوالديهم وبأقربائهم وبأيتامهم ومساكينهم مبنيّة على الإحسان الطيب، باعتبارهم من الفئات التي تحتاج إلى ذلك، إمّا من موقع الحاجة الذاتية، وإمّا من موقع ارتباطها بالجانب الإنساني للعلاقات.. ثم طلب منهم أن يقولوا للناس حسنا في مجال المعاشرة والمحاورة، لأن للكلمة الطيبة أثرها الكبير في انفتاح القلوب على الخير والمحبة والإخلاص، وفي انطلاق العقول مع الفكرة بعيدا عن التعصب والتعقيد والعناد والمكابرة، مما يجعل من الكلمة رسولا حبيبا إلى القلب والعقل، فترتكز الحياة الاجتماعية ـ من أجل ذلك ـ على قاعدة متينة من التفاهم والتحابب والتعاون.
3. وجاء بعد ذلك دور إقامة الصلاة، باعتبارها معراجا لروح المؤمن إلى الله، حيث ينفتح الإنسان من خلالها يوميا على المعاني الروحية الواسعة الممتدة، التي لا تضيق بالأعباء الكبيرة التي تفرضها الطاعة أو يوحي بها الجهاد، ولا ترتبط بالحياة إلا باعتبارها مجالا من مجالات العمل والمسؤولية، لأن هذا اللقاء بالله يملأ النفس شعورا عميقا بجديّة الحياة وبارتباطها بالحكمة في كل ظواهرها وبواطنها من خلال حكمة الخالق، مما يجعل من السير في طريق الحق هدفا كبيرا لحياة الإنسان.
4. أما إيتاء الزكاة، فإنه يحقق للنفس إنسانية العطاء عندما لا تختنق في دائرة حاجاتها الذاتية ومطامعها الشخصية فيما أنعم الله عليها من نعم المال، بل تعيش الشعور بآلام الآخرين وحاجاتهم ومطامحهم، فتعمل على تلبية حاجات الآخرين، باعتبار أن المال الذي يملكه الإنسان ليس شرفا وامتيازا له، بل هو وظيفة ومسئولية فيما يحتاجه أو يحتاجه الآخرون، وبذلك كانت الزكاة عبادة اجتماعية يشترط في صحتها ما يشترط في كل عبادة من نيّة التقرب بها إلى الله، كما كانت الصلاة عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله في خضوعه لذاته المقدسة.
5. وتنتهي هذه المجموعة من التشريعات في هذه الآية لتبدأ عملية المحاكمة والمحاسبة والمقارنة، وذلك في لفتة سريعة للواقع الذين يعيشونه، فنلتقي بهم وهم معرضون عن ذلك إلا القليلين منهم ممن آمنوا إيمان الوعي والإخلاص، فثبتوا على خط الإيمان واستقاموا فكرا وعملا في جانب المعاملة، أو في نطاق العلاقة العامة والخاصة.
6. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الذي أردناه الأساس لعلاقتهم بالله في سلوكهم العملي في الحياة، ليعرفوا أن وجودهم فيها يساوي التزامهم بالتعاليم الإلهية كعهد وثيق بينهم وبين الله.
7. ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾، وهذا هو التوحيد الذي يمثل قاعدة الفكر في العقل وحركة الإحساس في القلب، لتكون حياتهم خط استقامة في خط التوحيد، بحيث يصدرون في كل مجالاتها عن النظرة التي تجعل كل تطلعاتهم وخطواتهم ومشاريعهم وأهدافهم من خلال الطاعة المطلقة للإله الواحد، فلا شرك في العقيدة ولا تعددية في العبادة والطاعة.
8. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فهما السبب المباشر لوجود الإنسان، وعليه مبادلتهما إحسانا بإحسان، ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ الذين يمثلون الرحم القريب الذي هو المجتمع الأقرب للمجتمع الإنساني الأول الذي يتحمل الإنسان مسئولية رعاية أفراده بالإحسان.
9. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ الذين فقدوا الآباء الذين يقومون برعاية شؤونهم وحمايتهم من كل خطر أو سوء وتوجيههم للحياة الطيبة الكريمة، مما يفرض على المجتمع أن يقوم بسدّ هذا الفراغ وتعويض هذا النقص النفسي والواقعي.
10. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الذين يعانون من الحاجة المادية ويسقطون تحت تأثيرها في دائرة المستكبرين، ليفقدوا إنسانيتهم أمام ذلك، الأمر الذي يريد الله فيه للناس تدبير أمرهم، والإقامة بإعالتهم، وسدّ حاجتهم، بالطريقة التي تحفظ لهم كرامتهم.
11. ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ وهذا هو خط التعامل مع الآخرين على مستوى حركة العلاقات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل، عناوين إنسانية في انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر، لأن القول الحسن في اللفظ والمعنى يفتح القلب، وينعش الروح، ويقرب الإحساس، ويقوي الروابط بين الناس.. وقد جاء عن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير هذه الفقرة قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجلّ يبغض السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المفحش، السائل؛ ويحبّ الحليم العفيف المتعفف
12. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ التي هي وسيلة القرب إلى الله.
13. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ والزكاة هي المضمون الإنساني للتكافل الاجتماعي في حركة العطاء في الشخصية المتفاعلة مع الواقع الاجتماعي في الحاجات الإنسانية العامة.
14. وهذه هي المفردات التي تتضمن الأوامر الإلهية في حركة الإيجاب في السلوك الإنساني التي أراد الله لكم إطاعتها والالتزام بمضمونها. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن الوفاء بالعهد والاستجابة للأمر الإلهي في ذلك كله.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/115.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 ه.) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، ولكن الآيات السابقة لم تتعرض إلى تفاصيل هذا الميثاق على النحو المذكور في هذه الآيات.. يشير سبحانه في هذه الآيات إلى مواد هذا الميثاق، وهي بأجمعها. أو معظمها. من المبادئ الثابتة في الأديان الإلهية، وموجودة بشكل من الأشكال في كل الأديان السماوية.
2. القرآن يندّد في هذه الآيات بشدّة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة.
3. بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:
أ. التوحيد وإخلاص العبودية لله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾
ب. الإحسان إلى الوالدين: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾
ج. الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: ﴿وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾
د. التعامل الصحيح مع الآخرين: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾
هـ. إقامة الصلاة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
و. إيتاء الزكاة: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
4. ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾
5. الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سننا كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها، فأهم عامل لبقاء الامّة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الامّة على قوّة الله وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ .
6. ومن عوامل البقاء أيضا التلاحم الاجتماعي بين أفراد الامّة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبار هما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من النّاس.
7. ومن عوامل البقاء أيضا إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضا ورفعته.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/284.
33. الميثاق وحرمة النفس
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈33⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 84 ـ 86]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ فكفرهم أنهم كانوا يقتلون أبناءهم وأنفسهم، وإيمانهم أنهم كانوا يرون حقا عليهم أن يفادوا من وجدوا منهم أسيرا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُم﴾ معناه: لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَان﴾ ابتلاهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما ولا حلالا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة، وأخذا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج ـ فيما بلغني ـ نزلت هذه القصة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَان﴾، أي: أهل الشرك، حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم، قال أنبهم الله على ذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَان﴾، فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة(3).
5. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون﴾ على أن هذا حق من ميثاقي عليكم(3).
6. روي أنّه قال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، أي: تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه ـ وفي حكم التوراة: أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ـ ابتغاء عرض من عرض الدنيا(4).
7. روي أنّه قال: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَاب﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُون﴾ فأنبهم بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فداء أسراهم(5).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٢٩.
(2) ابن جرير: ٢/٢٠٧.
(3) سيرة ابن هشام: ١/٥٤٠.
(4) ابن إسحاق ـ كما جاء في سيرة ابن هشام: ١/٥٤٠.
(5) ابن أبي حاتم: ١/١٦٧.
السلمي:
روي عن أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) أنّه قال: يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا، وقرأ هذه الآية: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٤/٩٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُم﴾ لا يخرج بعضكم بعضا من الديار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُم﴾ بهذا الميثاق ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون﴾ يقول: وأنتم شهود(2).
3. روي أنّه قال: كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض؛ آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٠٢.
(2) ابن جرير: ٢/٢٠٤.
(3) ابن جرير: ٢/٢١١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿بِالْإِثْم﴾ بعد المعصية، ﴿وَالْعُدْوَان﴾ بعض الظلم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُم﴾ إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك!(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢١١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُم﴾ يقتل بعضكم بعضا، ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِم﴾ أي: يخرجونهم من ديارهم معهم(1).
2. روي أنّه قال: نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا، وكان الفداء مفروضا عليهم أيضا، فاختلفت أحكامهم، فقال الله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب﴾ يعني: الفداء ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ يعني: القتل، والإخراج من الدور(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٤.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٥٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُم﴾ لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُم﴾ ونفسك يا ابن آدم: أهل ملتك(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُم﴾ فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك(1).
4. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَة﴾ استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٠٢.
(2) ابن جرير: ٢/٢١٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ معناه لا تهرقونها)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 85.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ فكان إيمانهم ببعض الكتاب حين فدوا الأسارى، وكفرهم حين قتل بعضهم بعضا، ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون﴾ إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم!؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم تعالى فقال: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَان﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٦.
(2) ابن جرير: ٢/٢٠٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُم﴾، يعني: لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تُظَاهِرُون﴾ يعني: تعاونون عليهم ﴿بِالْإِثْم﴾ يعني: بالمعصية، ﴿وَالْعُدْوَان﴾ يعني: بالظلم(1).
3. روي أنّه قال: ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾، يعني: اختاروا الحياة الدنيا بالآخرة، يقول: باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَاب﴾ في الآخرة، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُون﴾ يعني: ولا هم يمنعون من العذاب(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٠.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٢١.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): نزلت في اليهود، وذلك أن بني القينقاع كانوا حلفا مع الخزرج، وكان بنو النظير وقريضة حلفاء للأوس، وكان كل يقاتل مع حلفائه، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدت اليهود ما في أيدي الأنصار من أُساراها، وكان في التوراة واجب فرض عليهم أن يفتدوا أساراهم حيث كانوا، وأن لا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يخرجه من دياره، فقبلوا بعض الفرض من الافتداء، وسفكوا الدماء وأخرجوا من الديار، فأنزل الله سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85](1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/152.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي لا تسفكون دماء غيركم، فيسفك دماءكم؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءكم.
ب. ويحتمل: لا يسفك بعضكم دماء بعض؛ كقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61]، أي يسلم بعضكم على بعض.
2. ذكر نقض العهد في هؤلاء وإن كان في أوائلهم؛ لوجهين:
أ. أحدهما: لما رضى هؤلاء بفعل آبائهم.
ب. الثاني: بقولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ الآية [الزخرف: 22، 23].
3. قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ولا يخرج بعضكم بعضا.
ب. ويحتمل: لا تخرجوا غيركم من ديارهم، فتخرجون من دياركم؛ مثلما هو في قوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾
4. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ يحتمل: ثم أقررتم وأنتم تشهدون بالعهد والميثاق، وتشهدون أنه في التوراة.
5. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعنى: يا هؤلاء ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يحتمل الوجهين مثلما في قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾
6. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾، أي تعاونون عليهم، يعاون بعضكم بعضا بالإخراج، وهو الظلم والعدوان.
7. ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ أي ذلك الإخراج محرم عليكم.
8. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ وإن كانت مؤخرة في الذكر ـ فهي مقدمة؛ كأنه قال: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم.
9. قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: آمنوا بالمفاداة من الأسارى، وكفروا بالإخراج وسفك الدماء.
ب. ويحتمل: الإيمان ببعض ما في التوراة، وكفروا ببعضها، وهو نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته؛ إذ لم يكن على موافقة مرادهم.
ج. ويحتمل: أن فادوا أسراهم من غيرهم، وسبوا ذراري غيرهم.
10. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. قيل: الخزي في الدنيا إجلاء بنى النضير من ديارهم، وإخراجهم إلى الشام.
ب. وقيل: مقاتلة بنى قريظة، وسبى ذراريهم، وذلك لحرب وقع بينهم.
ج. ويحتمل قوله: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ولكن لا يعاقبون في الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ﴾ الآية [إبراهيم: 42]
11. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل خروجه وبعثه، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.
ب. ويحتمل: ابتداء اختيار الضلال على الهدى، والحياة الدنيا على الآخرة، من غير أن آمنوا به.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/505.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ : أي تأخذوا منهم فدية، وهي حرام عليكم، لأن الله حرم عليكم إخراجهم وأموالهم(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ أما النفس فمأخوذ من النفس وهي الجلالة فنفس الإنسان أنفس ما فيه، وأما الدار:
أ. فهي المنزلة التي بها أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال.
ب. وقيل: إن كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن لهم فيه أبنية.
2. سؤال وإشكال: كيف يسفك الإنسان دمه ويخرج نفسه من داره؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: يعني لا بقتل بعضهم بعضاً ولا يخرجه من دياره.
ب. والثاني: أنه القصاص الذي يقتص منه ممن قتلوه.
3. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ أي تعاونون، والإثم هو الفعل الذي يستحق عليه الذم، وفي العدوان قولان:
أ. أحدهما: أنه مجاوزة الحق.
ب. الثاني أنه الإفراط في الظلم.
4. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ وقرئ أسرى، والفرق بينهما أن أسرى جمع أسير، والأسارى جمع أسير أيضاً الذي في وثاق، والأسرى الذين في اليد وإن لم يكونوا في وثاق.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/70.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. النفس: مأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة، فنفس الإنسان أنفس ما فيه، وأما الديار فالمنزل، الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل: كل موضع حلّه قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية.
2. سؤال وإشكال: هل يسفك أحد دمه، ويخرج نفسه من داره؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. أحدهما: معناه لا يقتل بعضكم بعضا، ولا يخرجه من داره، وهذا قول قتادة، وأبي العالية.
ب. الثاني: أنه القصاص الذي يقتص منهم بمن قتلوه.
ج. الثالث: أن قوله ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ أي إخوانكم فهو كنفس واحدة.
3. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يعني تتعاونون، والإثم هو الفعل الذي يستحق عليه الذم، وفي العدوان قولان:
أ. أحدهما: أنه مجاوزة الحق.
ب. الثاني: أنه في الإفراط في الظلم.
4. في الفرق بين أسرى وأسارى قولان:
أ. أحدهما: أن أسرى جمع أسير، وأسارى جمع أسرى.
ب. الثاني: أن الأسرى الذين في اليد وإن لم يكونوا في وثاق، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، والأسارى: الذين في وثاق.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/155.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المعنى في الآية: واذكروا إذ أخذنا ميثاق اسلافكم الذين كانوا في زمن موسى، والأنبياء الماضين عليه السلام، وإنما أضاف اليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما مضى القول فيه.
2. قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: النهي عن أن يقتل بعضهم بعضاً، وكان في قتل الرجل منهم قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد، وكان اهل الدين الواحد في ولاية بعضهم بعضاً بمنزلة رجل واحد، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (انما المؤمنون في تعاطفهم وتراحمهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر)، هذا قول قتادة وأبي العالية.
ب. ويحتمل: ان يكون المراد لا يقتل الرجل منكم غيره، فيقاد به قصاصاً، فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كالسبب فيه، وأضيف قتل الولي إياه قصاصاً اليه بذلك، كما يقال لرجل يعاقب لجناية جناها على نفسه: انت جنيت على نفسك.
ج. ويحتمل: ان قوله: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ أراد به إخوانكم، لأنهم كنفس واحدة.
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. قيل: أي أقررتم بذلك ايضاً، وبذلتموه من أنفسكم، وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق، وما بذلوه من أنفسهم.. ذكر تعالى إقرارهم وشهادتهم، لأن أخذ الميثاق كان على أسلافهم، وإن كان لازماً للجميع، لتوكيد الحجة عليهم.
ب. وقيل: إن معنى قوله: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ ان إقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه: كما قال الشاعر:
الست كليبياً إذ سيم خطة... اقرّ كاقرار الحليلة للبعل
4. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ وأنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار.
ب. الثاني ـ وأنتم تحضرون دماءكم وتخرجون أنفسكم من دياركم.
5. اختلف في المخاطب في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. حكي عن ابن عباس انه قال: ذلك خطاب من الله تعالى لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجري رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أيام هجرته اليهم موبخاً لهم على تضييعهم احكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ يعني بذلك أقر أوّلكم وسلفكم وأنتم تشهدون على إقرارهم، بأخذ الميثاق عليهم بان لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقوا بان ذلك حق من ميثاقي عليكم.
ب. وقال ابو العالية: ذلك خبر من الله عن أوائلهم، ولكنه اخرج الخبر مخرج المخاطبة عنهم على النحو الذي وصفناه في سائر الآيات.
6. ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ اي وأنتم شهود.
7. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما ـ ان يكون أريد به (ثم أنتم يا هؤلاء)، فترك (يا) استغناء، لدلالة الكلام عليه، كما قال ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾، ومعنى الكلام: (ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: ألّا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على أنفسكم بذلك انه حق لازم لكم الوفاء به تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم بالإثم، والعدوان)
ب. الوجه الآخر أن يكون معناه: ثم أنتم القوم تقتلون أنفسكم فيرجع الى الخبر عن (أنتم) وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم (هؤلاء) كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وانا ذا أجلس، ولو قيل أنا هذا يجلس لكان صحيحاً، وكذلك انت ذاك تقوم.. وقال بعض النحويين: ان هؤلاء في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ تنبيه، وتوكيد لأنتم، وزعم أن أنتم: وان كان كناية عن اسماء جميع المخاطبين فإنما جاز ان يؤكد بهؤلاء، وأولاء يكنى بها عن المخاطبين كما قال خُفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يأطر متنه... تبيّن خفافا انني أنا ذلكا
يريد أنا هو، وكما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾
8. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ : التعاون هو التظاهر، وإنما قيل للتعاون: التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض، فهو تفاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره الى ظهر بعض. قال الشاعر:
تظاهرتم أشباه نيب تجمعت... على واحد لا زلتم قرن واحد
ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ وقوله ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ وقوله: ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ وقوله: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ ويقال: اتخذ معك نفراً ونفرين ظهيرين يعني عدة.
9. اختلف في معنى الإثم:
أ. قيل: معناه: هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن اليه القلب، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والإثم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (البر ما اطمأنت اليه نفسك والإثم ما حك في صدرك.
ب. وقيل: معنى الإثم ما يستحق عليه الذم، وهو الأصح.
10. اختلف في معنى العدوان:
أ. قيل: مجاوزة الحق.
ب. وقيل: هو الافراط في الظلم.
11. ﴿أُسَارَى﴾، جمع أسير، كما قالوا: مريض ومرضى وجريح وجرحى وكسير وكسرى، هذا قول المفضل بن سلمة، قال ابو عمرو بن العلاء: الأسارى هم الذين في الوثاق، والأسرى الذين في اليد، وان لم يكونوا في الوثاق.
12. ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ معنى تفادوهم أو تفدوهم:
أ. قيل: طلب الفدية من الأسير الذي في أيديهم من أعدائهم قال الشاعر:
قفي فادي أسيرك إن قومي... وقومك ما أرى لهم اجتماعا
ب. وقيل: الفرق بين تفدوهم وتفادوهم، ان تفدوهم هو افتكاك بمال، وتفادوهم هو افتكاك الأسرى بالأسرى.
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ :
أ. قيل: كان هذا محرما عليهم ـ وان كان مباحا لنا ـ فذكر الله تعالى توبيخا لهم في فعل ما حرم عليهم.
ب. وقيل: انه افتداء الأسير منهم إذا اسره أعداؤهم، وهذا مدح لهم ذكره من بعد ذمهم انهم خالفوه في سفك الدماء، وتابعوه في افتداء الأسرى استشهاداً على هذا الباطل بقوله: (أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)
14. القصد من قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ توبيخهم وتعنيفهم على سوء أفعالهم.. فالحكم فيهم سواء، لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم اسرى في ايدي عدوهم.
15. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي، فتصدقون به فتفادون اسراكم من ايدي عدوكم، وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله، من اهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم، وقد علمتم ان في الكفر منكم ببعضه نقضاً منكم في عهدي وميثاقي.
16. ﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾ الخزي: الذل، والصغار يقال خزي الرجل يخزى خزياً، ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة، واختلفوا في الخزي الذي خزاهم الله بما سلف منهم من المعصية:
أ. قيل: ذلك حكم الله الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من أخذ القاتل بما قتل، والفود به قصاصاً، والانتقام من الظالم للمظلوم.
ب. وقيل: بل ذلك هو الجزية منهم ـ ما أقاموا على دينهم ـ ذلة لهم وصغاراً.
ج. وقيل: الخزي الذي خزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بني النضير من ديارهم لأول الحشر.
د. وقيل: مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم، وكان ذلك خزياً في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ﴾:
أ. قيل: أي أسوء العذاب، يعني بعد الخزي الذي يحل بهم في الدنيا يردهم الله الى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه، وهو أقوى: لأنه من أشد العذاب يعني أشد جنس العذاب، وذلك يقتضي العموم ولا يخص إلا بدليل.
ب. وقيل: يردهم يوم القيامة الى أشد العذاب، يعني أشد من عذاب الدنيا.
18. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، منهم من قرأ بالياء، رده الى من أخبر عنهم.. ومن قرأ بالتاء، رده الى المواجهين بالخطاب، والياء أقوى، لقوله: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾، وقوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ﴾ فالرد الى هذا أقرب من قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ فاتباع الأقرب أولى من إلحاقه بالأول، والكل حسن، والمعنى: وما الله بساهٍ عن أعمالهم الخبيثة بل هو محص لها وحافظ لها حتى يجازي عليها.
19. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يقتضي ان يصح الايمان ببعض الأشياء، وان كفروا بالبعض الآخر، وذلك مناف لمذهبكم في الارجاء والموافاة، والجواب: أن المعنى في ذلك إظهار التصديق بالبعض، والمنع بالتصديق بالبعض الآخر، ويحتمل ان يكون المراد ان ذلك على ما يعتقدونه، لأنكم إذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض، فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض.
20. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ إشارة الى الذين اخبر عنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أساراهم من اليهود، ويكفرون ببعض فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من اهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله إخراجه، هم الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا، ومعناه ابتاعوها على الضعفاء واهل الجهل والغباء منهم.
21. إنما وصفهم بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله عز وجل فيها عوضاً من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين، فجعل تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمناً لما ابتاعوه من خسيس الدنيا بما اخبر الله انه لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وان لهم في الآخرة عذاباً غير مخفف عنهم فيها العقاب.
22. ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي لا ينصرهم احد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/332.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ ﴾ ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الميثاق: العهد المؤكد.
ب. السفك: صب الدم.
ج. الدار: المنزل الذي فيه أبنية للمقام، وهو اسم جامع للعرصة والبناء والمحلة، وكل موضع حل به قوم فهو دارهم، ومنه ديار بكر وربيعة.
د. النفس: والذات واحد، أُخِذَ من النفاسة.
هـ. الإقرار: الاعتراف، وهو إلإيجاب ب (نعم)
و. الظهير: العون، وهما يتظاهران: يتعاونان، والظهور: الظفر بالشيء، والأصل في الباب الظهور الذي هو البروز، ومنه سمي الظهر لبروزه، خلاف البطن، ومنه المعاونة، أي قَوَّى كل واحد منهما صاحبه، حتى ظهر.
ز. الحرام: المحظور، وأصله من المنع، فالحرام كل ممنوع، ومنه النبت الحرام؛ لأنه يمنع فيه ما هو مباح في غيره من القتال ونحوه، والجزاء: المقابلة على الخير والشر بالثواب والعقاب.
ح. الخزي: السوء والذل، يقال: أخزاه الله إذا مقته وأبعده، وأصل الخزي المقت.. وقيل: أصله الاستحياء كأنه قيل: أخزاه الله أي أوقعه موقعًا يستحيا منه.
ط. الرد: اسم لما رُدَّ بعد أخذه، ومنه المرتد، كأنه رجع عما كان عليه من الإسلام.
ي. العذاب: الألم الشديد.
2. الشهادة: أخذ من المشاهدة، وهو الإخبار عن الشيء بما يقوم مقام المشاهدة في سماع المعرفة، والشهادة تختلف:
أ. فشهادة عن سماع كالإقرار ونحوه.
ب. وشهادة عن معاينة كالغصوب ونحوها.
ج. وشهادة عن استفاضة، كما في النكاح والنسب والولاء، واختلفوا في الوقف.
د. وشهادة عن ضرورة كمن يشهد أن في الدنيا مكة.
هـ. وشهادة عن استدلال كمن يشهد بالتوحيد والنبوات.
3. اختلف في نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في بني قريظة والنضير، وكان بينهما السيف.
ب. وقيل: هو عام في اليهود وأسلافهم.
4. الآية خطاب لبني إسرائيل، واقتصاص لما سبق من أسلافهم عطفًا على ما تقدم من أخبارهم، ونقض مواثيقهم.
5. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن أخذ الميثاق إنما يصح ممن يقرأ الكتاب، ويعلم ما فيه.
ب. وقيل: إنه خطاب لهم، وحكاية عن أسلافهم، وتقديره: وإذ أخذنا ميثاق آبائكم.
ج. وقيل: إنه خطاب للأسلاف، وتقريع للأخلاف الَّذِينَ يقتدون بهم، ويجرون على طريقتهم، ومعنى أخذنا ميثاقكم أي أمرناكم، وأكدنا الأمر، وقبلتم، وأقررتم بلزومه، ووجوبه.
6. في قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. الأول: أنه محمول على حقيقته، وأنه مَنْعٌ لهم من سفك دمائهم، قال القاضي: وهو الظاهر والحقيقة.
ب. الثاني: لا يقتل بعضكم بعضًا، عن ابن عباس وقتادة وأبي علي.
ج. الثالث: معناه لا يَقْتُلْ فَيُقْتَلَ قودًا فيصير كأنه قتل نفسه.
د. الرابع: لا تتعرضوا للقتل.
7. سؤال وإشكال: كيف يكلف ألا يقتل نفسه، وهو مُلْجَأ إلى ذلك؟ والجواب: هذا الإلجاء قد يتغير بالاعتقاد كما يثبت في أهل الهند أنهمْ يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد، واللحوق بعالم النور والصلاح، فإذا صح عند هذه الشبهة هذا التكليف زال الإلجاء، وكما يصح ذلك يصح أن يتعرض للقتل بتقحم الحرب ونحوه، فثبت أن حمله على الوجه الأول لا مانع منه، وإن كان الوجوه الأخر جائزة.
8. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾، والمراد بعضكم بعضًا؟ والجواب:
أ. للقرابة أجراهم مجرى النفس الواحدة، أي كما لا يقتل نفسه، كذلك من يحل محل نفسه.
ب. ولأنه جَمَعَهُمْ دين واحد، فصاروا كنفس واحدة.
9. اختلف في معنى ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ :
أ. قيل: لا يخرج بعضكم بعضًا من ديارهم، بأن يغلبوا على الدار.
ب. وقيل: لا تفعلوا ما تستحقون الإخراج من دياركم كما فُعِلَ ببني النَّضِير.
10. اختلف في معنى ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. قيل: اعترفتم على أنفسكم بقبوله ولزومه وأنفسكم شاهدة بصحته.
ب. وقيل: اعترفتم ويشهد بعضكم على بعض حتى اشتهر (وَأَنْتُمْ تشْهَدُونَ) ذلك اليوم.
ج. وقيل: أقمتم على الرضاء والصبر، معناه أن الله أمركم به ورضيتم به، وأقمتم عليه، وشهدتم بصحته، فالإقرار على هذا توسع، كما يقال: فلان لا يقر على الضيم، عن أبي مسلم، قال الشاعر:
أَلسْتَ كُلَيْبِيًّا إِذَا سِيَم خُطَّةً... أَقَرَّ كَإِقْرَارِ الحَلِيلَةِ لِلْبَعْلل
د. وقيل: أخذ الله ميثاق أسلافكم زمن موسى، وأنتم الآن تقرون بصحته، وتشهدون به، وأراد: هذا الشرع دخل في حد التواتر حتى لا يمكن إنكاره.
11. اختلف في المقر به في قوله: ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ :
أ. قيل: أقررتم بالميثاق.
ب. وقيل: أقررتم بلزوم الموثوق.
12. اختلف في المخاطب بقوله: ﴿تَشْهَدُونِ ﴾ :
أ. قيل: اليهود الَّذِينَ كانوا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقديره: وأنتم تشهدون على إقرار أسلافكم، وعلى صحة هذا الميثاق.
ب. وقيل: أنه خطاب لأسلافهم، فالكلام على سياقة واحدة.
13. اختلف في سبب قوله: ﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾، وهما بمعنى:
أ. قيل: أقررتم يعني أسلافكم، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم.
ب. وقيل: أقررتم في وقت الميثاق ومضى، وأنتم بعد ذلك تشهدون به.
ج. وقيل: ذكر ذلك تأكيدًا.
14. الأسر: الأخذ بالقهر، وأصله الشد والحبس، والأسير: المحبوس، وأسره إذا شده، وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى، فالأسارى الذي في وثاق، والأسرى الذي في اليد، كان يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة، وأنكر ثعلب ذلك، وقال علي بن عيسى: الاختيار أسارى بالألف؛ لأن عليه أكثر الأئمة، ولأنه أدل على معنى الجمع؛ إذ كان فعل يكثر فيه فهو قليل في الواحد، ولأنها لغة الحجاز، والاختيار، وفي ﴿أُسَارَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى.
ب. الثاني: أنه جمع أسير على التشبيه، بجمع فعلان كسكران وسكارى.
15. اختلف في معنى الإثم:
أ. قيل: الفعل القبيح، الذي يستحق به الذم، ونظيره الوزر والذنب، أثم الرجل: وقع في الإثم، وتأثم تحرج من الإثم، والعدوان: مجاوزة الحد.
ب. وقيل: الإفراط في الظلم.
16. لَمَّا تقدم أخذ الميثاق من بني إسرائيل بَيَّنَ كيف نقضوا ذلك، وخالفوا، فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني بني إسرائيل ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني يقتل بعضكم بعضًا، قيل: تتعرضون للقتل ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ﴾ تعاونون ﴿عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ تجاوز الحد ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾
17. سؤال وإشكال: الَّذِينَ فدوا من الأسارى هم الَّذِينَ أخرجوا أم غيرهم؟ وما معنى ﴿تُفَادُوهُمْ﴾؟ والجواب: للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أ. قيل: هم فريق واحد، وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج، وقريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها، فعابهم العرب بذلك، وهذا معنى قول ابن عباس وابن زيد.
ب. وقيل: كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، فيتوجه على هذا أن يفادوا غيرهم، وهو قول أبي العالية والمبرد، وقال: ليس الَّذِينَ أخرجوهم الَّذِينَ فودوا، ولكنهم قوم آخرون على ملتهم، فأنبههم الله تعالى على ذلك.
ج. وقيل: ليس معنى تفادوهم تعطوا الفداء، ولكن معناه تأخذ الفداء، يعني يقاتل بعضكم بعضًا، فإذا أخذه أسيرًا أخذ الفداء، وتقديره: ثم أنتم تقتلون بعضكم بعضًا، وتخرجونهم من ديارهم، وتأخذون من الأسارى الفداء، وقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ ليس معناه أنهم يُخْرِجُونَهم وهو محرم، ويفدونهم، وهو واجب، وإنما يرجع ذلك إلى ما تقدم من بيان صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره، عن أبي مسلم، ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ يعني الإخراج محرم عليكم.
18. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ يعني كفروا ببعض ما في الكتاب ولم يظهروه، ولم يعملوا به، وآمنوا ببعضه، واختلف العلماء فيه:
أ. قيل: إخراجهم كفر، وفداؤهم إيمان، عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.
ب. وقيل: يلزمكم الكفر ببعض الكتاب بهذا الصنيع.
ج. وقيل: أخذ الله عليهم العهد بترك القتل، وترك الإخراج، وترك التظاهر عليهم، وَأَمَرَهُمْ بفداء أُسَرَائِهِمْ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء، فقال مجاهد: إن وجدته في يد غيرك فديته، ثم تقتله بيدك.
د. وقيل: يكفرون ببعض ما كتموا من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغير ذلك، عن أبي مسلم.
19. اختلف في معنى ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ﴾ :
أ. قيل: القتل والإخراج.
ب. وقيل: الكفر والإيمان الذي معهم، عن أبي القاسم.
ج. وقيل: القتل والإخراج والفداء، عن أبي مسلم.
20. ﴿مِنْكُمْ﴾ يعني من اليهود ﴿إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
أ. قيل: يعني ذلاً وصغارا.
ب. وقيل: إخراج بني النضير عن ديارهم.
ج. وقيل: قتل بني قريظة وسبي ذواويهم.
21. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ﴾ يعني يرجعون ﴿إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ :
أ. قيل: عذاب لا رَوْحَ فيه مع اليأس في التخلص.
ب. وقيل: أشد من عذاب الدنيا، عن الأصم، والأول أظهر وأزجر وأعم في الفائدة.
ج. وقيل: أشد منه لدوامه، عن أبي علي.
22. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تهديد لهم، بأنه عالم بسرائرهم، فيجازيهم على ذلك.
23. ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ الخفة: خفة الوزن، وهو نقصانه، ونقيضه الثقل، والتخفيف والتسهيل والتهوين نظائر، وتخفيف العذاب النقصان منه، واختلفوا في الخفة والثقل:
أ. قيل: يرجع إلى الأجزاء، عن أبي علي.
ب. قيل: إلى الاعتمادات اللازمة فيه، عن أبي هاشم، وهو الصحيح، ولذلك تستوي الأجزاء ويختلف الثقل.
24. النصرة: المعونة على الأعداء، واختلفوا فيها:
أ. قيل: نصرة الله تكون للمؤمنين لأنه ثواب، عن أبي علي، وهو الصحيح.
ب. وقيل: قد يكون ثوابًا، وقد لا يكون ثوابًا، ويجوز أن ينصر الفاسق، وقد أمرنا به، عن أبي بكر أحمد بن علي.
25. بَيَّنَ الوعيد على فعلهم فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني اليهود الَّذِينَ تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ يعني استبدلوا وأخذوا الحياة بدلاً من الآخرة وليس ههنا بيع ولا شراء، وإنما هو توسع، أي تركوا الدين وما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتمسكوا بالكفر إيثارًا للدنيا، وطلبًا لزينتها تشبيهًا بمن يدفع السلعة، ويأخذ الثمن.
26. ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ أي لا ينقص، والنقصان بوجهين: بانقطاعه، أو بتخفيف أجزائه ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي لا يجدون ناصرًا يخلصهم من العذاب.
27. قوله: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ﴾ إثبات لشدة العقاب، وإن كان له طريقًا ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ نفي للنصرة.
28. سؤال وإشكال: إذا وجب عليهم الطاعة مع إقامتهم على المعصية، فلماذا ذمهم على ذلك؟ والجواب: ذمهم على المناقضة، ولأن المعصية أفحش؛ إذ الزواجر أكثر.
29. سؤال وإشكال: أليس هو تعالى مكنهم من ذلك؟ والجواب: التمكين من المحسَّنات تمكين من المقبَّحات، ولا يصح التكليف إلا بذلك، إلا أنه تعالى أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، ووعد وأوعد، وأزاح العلة.
30. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه يجوز أن يكلف ألا يقتل نفسه.
ب. عظم نقض الميثاق واستحقاق العقوبة، وفيه لطف للمكلفين كيلا تسْلَكَ طريقتهم، ولا يجري علىِ سننهم.
ج. أنه لا شافع لهم؛ إذ لو كان يخفف عنهم لنصرهم.
د. ذم من آثر الدنيا على الدين.
هـ. أن عذاب الله لا تخفيف فيه ولا إنظار، ولا ناصر يخلص منه، وجميع ذلك لطف للمكلف، وتحذير أن يعمل ما يستحق به ذلك.
و. على أن عذاب الدنيا لا يُسْقِطُ عذاب الآخرة.
ز. أن الإيمان ببعض الكتاب لا ينفع مع الكفر ببعضه.
ح. معجزة لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عن سرائر أخبارهم من غير أن قرأ كتابًا، ولا سمع منهم حديثًا، أو اختلط بهم.
ط. أن الإقدام على المعصية مع العلم بالتحريم أعظم، وفي الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن اليهود كيف تقبل قولك وهم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به، وأنه من عند الله.
ي. أن ذلك القتل والإخراج فِعْلُهُمْ لذلك ذمهم، ولو كان خَلْقًا له لما توجه عليهم الذم، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في خلق الأفعال.
31. مسائل نحوية:
أ. موضع ﴿هُوَ﴾ من الإعراب في قوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾، والمكني به عنه، فيه قولان:
• الأول: أنه كناية عن الإخراج عند ذكره توكيدًا؛ لأنه فصل بينهما بكلام، فموضعه على هذا رفع، كأنه قيل: وإخراجهم محرم عليكم، ثم أعيد ذكر إخراجهم مبينًا للأول.
• الثاني: أن يكون ﴿هُوَ﴾ عمادًا عند الكوفيين، وإضمارا على شريطة التفسير عند البصريين، كأنه قيل: والقصة محرم عليكم إخراجهم، ومثله ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾
ب. معنى ﴿هَؤُلَاءِ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾، وموضعه من الإعراب، فيه ثلاثة أقوال:
• قيل: معناه النداء، تقديره: يا هَؤُلَاءِ.
• وقيل: معناه التوكيد: لأنتم والخبر تقتلون.
• وقيل: هو بمعنى (الَّذِينَ)، وصلته تقتلون.
ج. موضع ﴿تَقْتُلُونَ﴾ رفع إذا كان خبرًا، ولا موضع له إذا كان صلة، قال الزجاج: ومثله في الصلة قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ يعني: وما التي بيمينك، و ﴿هَؤُلَاءِ﴾ مبني على الكسر كَأَمْسِ.
د. في دخول الفاء في قوله تعالى: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ﴾ قولان:
• أحدهما: العطف على ﴿اشْتَرَوْا﴾، فتكون في صلة ﴿الَّذِينَ﴾
• الآخر: بمعنى جواب الأمر كقولك: أولئك الضُّلَّالُ فلا خير فيهم، كأنك قلت: أتيتهم فلا خير فيهم، والأول أوجه؛ لأنه على سياقة الكلام من غير حذف ولا إخلال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/468.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السفك: الصب، سفكت الدم أسفكه سفكا.
ب. واحد الدماء: دم، وأصله دمي في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر: فلو أنا على حجر ذبحنا... جرى الدميان بالخبر اليقين وقال قوم: أصله دمي إلا أنه لما حذف ورد إليه ما حذف منه، حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
ج. النفس: مأخوذة من النفاسة وهي الجلالة، فنفس الانسان: أنفس ما فيه.
د. الدار: هي المنزل الذي في أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل: كل موضع حله قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية.
هـ. الإقرار: الاعتراف.
و. الشهادة: أخذ من المشاهدة وهو الإخبار عن الشيء بما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة.
ز. تظاهرون: تعاونون، والظهير: المعين، وقوله ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ التقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد، ومثله قول رؤبة: (دعها فما النحوي من صديقها) أي: من أصدقائها، وظاهر بين درعين: لبس إحداهما فوق الأخرى.
ح. الإثم: الفعل القبيح الذي يستحق به اللوم، ونظيره: الوزر، وقال قوم: معنى الإثم هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال: (البر ما اطمأنت إليه نفسك، والإثم ما حك في صدرك).
ط. العدوان: الإفراط في الظلم، يقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، وقيل: العدوان مجاوزة الحد.
ي. الأسر: الأخذ بالقهر، وأصله الشد والحبس، وأسره: إذا شده، وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسارى الذين هم في الوثاق، والأسرى الذين هم في اليد، وإن لم يكونوا في الوثاق.
ك. الخزي: السوء والذل، يقال: خزي الرجل خزيا، ويقال: في الحياء خزي خزاية.
ل. الخفة: نقيض الثقل، والتخفيف، والتسهيل، والتهوين، نظائر، واختلف في الخفة والثقل، فقيل: إنه يرجع إلى تناقض الجواهر وتزايدها، وقيل: إن الاعتماد اللازم سفلا، يسمى ثقلا، والاعتماد اللازم المختص بجهة العلو، يسمى خفة.
2. ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الأخبار عن اليهود بنقض المواثيق والعهود بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى والأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين، وإنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما سبق الكلام فيه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ :
أ. قيل: معناه لا يقتل بعضكم بعضا، لأن في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد، أو أهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضا، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، هذا قول قتادة وأبي العالية.
ب. وقيل: معناه لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاربه قصاصا فيكون بذلك قاتلا لنفسه، لأنه كالسبب فيه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ :
أ. قيل: معناه لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم بأن تغلبوا على الدار.
ب. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تستحقون به الإخراج من دياركم كما فعله بنو النضير.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. قيل: أي أقررتم بذلك، وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق وبما بذلوه من أنفسهم من القبول والالتزام.
ب. وقيل: معنى إقرارهم هو الرضاء به والصبر عليه كما قال الشاعر:
ألست كليبيا إذا سيم خطة... أقر كإقرار الحليلة للبعل
5. اختلف في المخاطب بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. قيل: اليهود الذين بين ظهراني مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أيام هجرته إليهم، وبخهم الله تعالى على تضييعهم أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، وقال لهم: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ يعني أقر أولكم وسلفكم، وأنتم تشهدون على إقرارهم بأخذي الميثاق عليهم بأن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم وتصدقون بذلك، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إنه خبر من الله عز وجل عن أوائلهم، ولكنه أخرج الخبر بذلك مخرج المخاطبة لهم على النحو الذي تقدم في الآيات، وأنتم تشهدون أي وأنتم شهود عن أبي العالية.
6. يحتمل قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أمرين:
أ. أن معناه وأنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار.
ب. أن معناه وأنتم تحضرون سفك دمائكم وإخراج أنفسكم من دياركم.
6. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ﴾ يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على أنفسكم بذلك أنه واجب عليكم ولازم لكم الوفاء به ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ :
أ. قيل: أي يقتل بعضكم بعضا، كقوله سبحانه ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي ليسلم بعضكم على بعض.
ب. وقيل: معناه تتعرضون للقتل.
7. ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ﴾ أي متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم ﴿بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
8. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ أي وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم أسيرا في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونهم، وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم، كما أن تركهم أسرى في أيدي عدوهم حرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم، وهما جميعا في حكم اللازم لكم فيهم سواء، لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم.
9. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدقون به فتفادون أسراكم من أيدي عدوهم ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ وتكفرون ببعضه، فتجحدونه فتقتلون، من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم وقومكم، وتخرجونهم من ديارهم، وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم لعهدي وميثاقي.
10. اختلف فيمن عنى بهذه الآية:
أ. روى عكرمة عن ابن عباس: أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا ولا قيامة ولا كتابا فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه.
ب. وقال أبو العالية: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق أن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم فآمنوا بالفداء، ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم.
ج. وقيل: ليس الذين أخرجوهم الذين فودوا، ولكنهم قوم آخرون على ملتهم، فأنبهم الله تعالى على ذلك، وقال أبو مسلم الأصبهاني ليس المراد بقوله ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ الآية أنهم يخرجون وهو محرم ويفدون وهو واجب وإنما يرجع ذلك إلى بيان صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره.
11. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ اختلف في الخزي الذي خزاهم الله إياه بما سلف منهم من المعصية:
أ. قيل: هو حكم الله الذي أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أخذ القاتل بمن قتل والقود به قصاصا والانتقام من الظالم للمظلوم.
ب. وقيل: بل هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على ذمتهم على وجه الذل والصغار.
ج. وقيل: الخزي الذي خزوا به في الدنيا هو إخراج رسول الله ص بني النضير من ديارهم لأول الحشر وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وكان ذلك خزيا لهم في الدنيا.
12. ثم أعلم الله سبحانه أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم وأنهم صائرون بعده إلى عذاب عظيم فقال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ أي إلى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه وهو العذاب الذي لا روح فيه مع اليأس من التخلص.
13. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة بل هو حافظ لها ومجاز عليها، ومن قرأه بالتاء رده إلى المواجهين بالخطاب في قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾
14. ظاهر الآية الكريمة يقتضي صحة اجتماع الإيمان والكفر، وذلك مناف للصحيح من المذهب، والقول فيه أن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب، والإنكار للبعض دون بعض، وهذا يدل على أنهم لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر.
15. في هذه الآية تسلية لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم في ترك قبول اليهود قوله، وانحيازهم عن الإيمان به، فكأنه يقول: كيف يقبلون قولك، ويسلمون لأمرك ويؤمنون بك وهم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به، وبأنه من عند الله تعالى.
16. ثم أشار الله تعالى إلى الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي ابتاعوا رياسة الدنيا ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ أي رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين جعل سبحانه تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا.
17. ثم أخبر أنهم لا حظ لهم في نعيم الآخرة بقوله: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ أي لا ينقص من عذابهم ولا يهون عنهم ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي لا ينصرهم أحد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى.
18. مسائل نحوية:
أ. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ فيه ثلاثة أقوال:
• أحدها أن ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، و ﴿هَؤُلَاءِ﴾ منادى مفرد تقديره: يا هؤلاء، و ﴿تَقْتُلُونَ﴾ خبر المبتدأ.
• ثانيها أن ﴿هَؤُلَاءِ﴾ تأكيد لأنتم.
• وثالثها أنه بمعنى الذين، وتقتلون صلة له أي: أنتم الذين تقتلون أنفسكم، فعلى هذا يكون تقتلون لا موضع له من الإعراب، ومثله في الصلة، وقوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ أي: وما التي بيمينك؟ وأنشد النحويون في ذلك:
عدس ما لعباد عليك إمارة... نجوت وهذا تحملين طليق
ب. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ﴾ في موضع نصب على الحال من ﴿تُخْرَجُونَ﴾
ج. ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ هو على ضربين:
• أحدهما: أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ﴾، ثم بين ذلك بقوله ﴿إِخْرَاجُهُمْ﴾ تأكيدا لتراخي الكلام.
• والآخر: أن يكون هو ضمير القصة والحديث، فكأنه قال: والحديث محرم عليكم إخراجهم، كما قال الله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أي الأمر الذي هو الحق الله أحد.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/300.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾، أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره، قال ابن عباس: ثم أقررتم يومئذ بالعهد، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك، فالإقرار على هذا متوجّه إلى سلفهم، والشهادة متوجّهة إلى خلفهم.
2. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: يقتل بعضكم بعضا، روى السّدّيّ عن أشياخه قال كانت قريظة حلفاء الأوس، والنّضير حلفاء الخزرج؛ فكانوا يقاتلون في حرب سمير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النّضير، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم فيقتلون ويخربون الديار ويخرجون منها، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيّرهم العرب بذلك؛ فتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم!؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتلهم، فتقول العرب: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: نستحيي أن يستذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله عزّ وجلّ، فقال: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، فكان إيمانهم ببعضه فداءهم الأسارى، وكفرهم قتل بعضهم بعضا.
3. قوله تعالى: ﴿تُظْهِرُونَ ﴾، التّظاهر: التعاون، قال ابن قتيبة: وأصله من الظّهر، فكأن التّظاهر: أن يجعل كل واحد من الرجلين الآخر ظهرا له يتقوّى به، ويستند إليه.
4. قال مقاتل: والإثم: المعصية، والعدوان: الظلم.
5. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾، أصل الأسر: الشّدّ، قال الفرّاء: أهل الحجاز يجمعون الأسير: (أسارى) وأهل نجد أكثر كلامهم (أسرى) وهو أجود الوجهين في العربية، لأنه بمنزلة قولهم: جريح وجرحى، وصريع وصرعى، وروى الأصمعيّ عن أبي عمرو قال الأسارى: ما شدّوا، والأسرى: في أيديهم، إلا أنهم لم يشدّوا، قال الزّجّاج: (فعلى) جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم، يقال هالك وهلكى، ومريض ومرضى، وأحمق وحمقى، وسكران وسكرى، فمن قرأ: ﴿أُسَارَى﴾، فهي جمع الجمع، يقال: أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى.
6. ﴿تُفَادُوهُمْ﴾، المفادة: إعطاء شيء، وأخذ شيء مكانه.
7. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾، وهو: فكاك الأسرى، ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ وهو: الإخراج والقتل، وقال مجاهد: تفديه في يد غيرك، وتقتله أنت بيدك!؟
8. في المراد بالخزي قولان:
أ. أحدهما: أنه الجزية، قاله ابن عبّاس.
ب. الثاني: قتل قريظة ونفي النّضير، قاله مقاتل.
9. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾، قال ابن عباس: هم اليهود، وقال مقاتل: باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا.
__________
(1) زاد المسير: 1/86.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم، وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه.
2. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. ثانيها: أنه خطاب مع أسلافهم، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم.
ج. ثالثها: أنه خطاب للأسلاف وتقريع للاخلاف.
3. معنى: ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أمرناكم، وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه.
4. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه، والجواب: من أوجه:
أ. أحدها: أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفاً به.
ب. ثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسباً وديناً، وهو كقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54]
ج. ثالثها: أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه.
د. رابعها: لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
هـ. خامسها: لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم.
5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم.
ب. الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك.
6. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ وجوه:
أ. أحدها: وهو الأقوى، أي: ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها.
ب. ثانيها: اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً.
ج. ثالثها: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
د. رابعها: الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال: فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته.
7. في سبب قوله: ﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ والمعنى واحد ثلاثة أقوال:
أ. الأول: أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم.
ب. الثاني: أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون، الثالث: أنه للتأكيد.
8. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ إشكال لأن قوله: ﴿أَنْتُمْ﴾ للحاضرين و ﴿هَؤُلَاءِ﴾ للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: تقديره ثم أنتم يا هؤلاء.
ب. ثانيها: تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين.
ج. ثالثها: أنه بمعنى الذين وصلته (تقتلون) وموضع تقتلون رفع إذا كان خبراً ولا موضع له إذا كان صلة، قال الزجاج: ومثله في الصلة قوله تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 17] يعني وما تلك التي بيمينك.
د. رابعها: هؤلاء تأكيد لأنتم، والخبر ﴿تَقْتُلُونَ﴾
9. أصح الوجوه في قوله تعالى: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أن المراد يقتل بعضكم بعضاً، وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو.
10. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ : التظاهر هو التعاون، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان.
11. تدل الآية الكريمة على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة.
12. سؤال وإشكال: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى، والجواب: أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك، فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر، بخلاف المعين للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق.
13. لا تدل الآية الكريمة على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر، بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم، فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة.
14. الأسرى: جمع أسير كجريح وجرحى، وفي أسارى قولان:
أ. أحدهما: أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى.
ب. الثاني: جمع أسير، وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى، وقال: الأسارى الذين في وثاق، والأسرى الذين في اليد، كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة، وأنكر ثعلب ذلك، وقال علي بن عيسى: الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه، وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز.
15. ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له، يقال: فداه فدية وتفادوهم من المفاداة، واختلف المفسّرون في هذا الفداء:
أ. جمهور المفسرين قالوا: المراد من قوله: ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم.
ب. ذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك، والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال، وإن كان ذلك محرماً عليكم، ثم عنده تخرجونه من الأسر، قال أبو مسلم: والمفسرون إنما أتوا من جهة قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل عليهم، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض.
16. كلا القولين يحتمل لفظ المفاداة، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه، والأخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك، إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب، لأن عود قوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات.
17. اختلف في الذين أخرجوا والذين فودوا، هل هم فريق واحد أم لا:
أ. قال بعضهم: الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد، وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالوا: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا.
ب. وقال آخرون: ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه.
18. في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ﴾ في قوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه ضمير القصة والشأن، كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم.
ب. الثاني: أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيداً لأنه فصل بينهما بكلام، فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم، ثم أعيد ذكر إخراجهم مبيناً للأول.
19. اختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ على وجهين:
أ. أحدهما: إخراجهم كفر، وفداؤهم إيمان، وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج، ولم يذمهم على الفداء، وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب، وتركوا البعض، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية، فلم سماها كفراً مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر، لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب مع أن صريح التوراة كان دالًا على وجوبه.
ب. ثانيهما: المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء.
20. اختلف في أصل الخزي:
أ. قيل: الذل والمقت، يقال: أخزاه الله، إذا مقته وأبعده.
ب. وقيل: أصله الاستحياء، فإذا قيل: أخزاه الله كأنه قيل: أوقعه موقعاً يستحيا منه، وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم
21. اختلفوا في هذا الخزي على وجوه:
أ. أحدها: قال الحسن: المراد الجزية والصغار، وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صح هذا الوجه، لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم.
ب. ثانيها: إخراج بني النضير من ديارهم، وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. ثالثها: وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله: ﴿خِزْيٌ﴾ يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى.
22. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود، فكيف قال في حق اليهود: ﴿يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ والجواب: المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا، فلفظ (الأشد) وإن كان مطلقاً إلا أن المراد أشد من هذه الجهة.
23. في قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة، لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها.
24. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ : الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن، والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد، فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه، فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء، وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى.
25. في دخول الفاء في قوله: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: العطف على ﴿اشْتَرَوْا﴾، وهو أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار.
ب. القول الآخر: بمعنى جواب الأمر، كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم.
26. بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع، بل يدوم، لأنه لو انقطع لكان قد خف، وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال: إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات، فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.
27. في قوله تعالى: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ وجهان:
أ. الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة، يعني أن أحداً لا يدفع هذا العذاب عنهم، ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم، هو أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم، ولذلك قال: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾، وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة، لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر، ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.
ب. ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/591.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ المراد بنو إسرائيل، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم.
2. ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ : النفس مأخوذة من النفاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه.
3. الدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية، وقيل: سميت دارا لدورها على سكانها، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه.
4. ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ من الإقرار، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم.
5. اختلف في معنى ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ :
أ. قيل: من الشهادة، أي شهداء بقلوبكم على هذا.
ب. وقيل: الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم.
6. سؤال وإشكال: هل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره؟ والجواب:
أ. قيل: لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد، وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها.
ب. وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه، وكذلك لا يزني ولا يرتد، فإن ذلك يبيح الدم، ولا يفسد فينفي، فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى.
ج. وقيل: إنما كان الامر أن الله تعالى قد أخذ على بنى إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه ولا يسترقه، ولا يدعه يسرق، إلى غير ذلك من الطاعات، وهذا كله محتوم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفى التنزيل: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
د. قال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسانية نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كما تقتل الهند أنفسها، أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه: فهو عموم في جميع ذلك، وقد روى أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت: ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: (ما حديث بلغني عن عثمان)؟ وكرهت أن تفشى سر زوجها، وأن تكذب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شي فهو كما بلغك، فقال: (قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي إني أصلى وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء واوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس منى) فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.
7. هذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الأسلاف، نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فعيرهم الله بذلك، فقال: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾
8. معنى ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ تتعاونون، مشتق من الظهر، لان بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتم أستاه بيت تجمعت... على واحد لا زلتم قرن واحد
9. الإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم، والعدوان: الافراط في الظلم والتجاوز فيه.
10. الفداء: طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم، قال الجوهري: (الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبى، ومن العرب من يكسر) فداء) بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول: فداء لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء، وأنشد الأصمعي للنابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم... وـ ما أثمر من مال ومن ولد
ويقال: فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه، وفداه بنفسه، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك، وتفادوا، أي فدى بعضهم بعضا)، والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد.
11. ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ ﴿هُوَ﴾ مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و ﴿مُحَرَّمٌ﴾ خبره، و ﴿إِخْرَاجُهُمْ﴾ بدل من ﴿هُوَ﴾ وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، والجملة التي بعده خبره، أي والامر محرم عليكم إخراجهم، فـ ﴿إِخْرَاجُهُمْ﴾ مبتدأ ثان، و ﴿مُحَرَّمٌ﴾ خبره، والجملة خبر عن ﴿هُوَ﴾، وفي ﴿مُحَرَّمٌ﴾ ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج، ويجوز أن يكون ﴿مُحَرَّمٌ﴾ مبتدأ، و ﴿إِخْرَاجُهُمْ﴾ مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر ﴿مُحَرَّمٌ﴾، والجملة خبر عن ﴿هُوَ﴾، وزعم الفراء أن ﴿هُوَ﴾ عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له، لان العماد لا يكون في أول الكلام، ويقرأ) وهو) بسكون الهاء لثقل الضمة.
12. كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى، فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ وهو التوراة ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ .
13. لعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
14. فداء الأسارى واجب، وإن لم يبق درهم واحد، قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الإثار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع، ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين .
15. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ابتداء وخبر، والخزي الهوان، قال الجوهري: وخزي ـ بالكسر ـ يخزي خزيا إذا ذل وهان، قال ابن السكيت: وقع في بلية، وأخزاه الله، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان، وقوم خزايا وامرأة خزيا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/19.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ قيل: الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا ﴾ منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام وأصحابه.
2. ﴿وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ في موضع النصب على الحال، والإعراض والتولّي بمعنى واحد.. وقيل: التولّي بالجسم، والإعراض بالقلب.
3. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك؛ قيل: الشهادة هنا بالقلوب وقيل: هي بمعنى الحضور، أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه.
4. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية؛ وقيل: إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني؛ ويمكن أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أذمّ أو أخص، وقال القتبي: إن التقدير يا هؤلاء، قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز، وقال الزجّاج: هؤلاء بمعنى الذين، أي ثم أنتم الذين تقتلون.
5. أصل المظاهرة: المعاونة، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتم من كلّ أوب ووجهة... على واحد لا زلتم قرن واحد
ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ وقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/128.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَ اَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي: اُذكروا وقت أخذ العهد على آبائكم، ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ﴾ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، أو لا تقتلون أمثالكم، وجاءت العبارة بذلك لأنَّهم كنفس واحدة نَسَبًا ودينًا، فمن قتل غيره كأنَّه قتل نفسه، وأيضًا هو كمن قتل نفسه بالقصاص؛ لأنَّه تعرَّض لأن يُقتصَّ منه، وكذا فيما أشبه هذا.
2. ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ لا يخرج بعضكم أنفُسَ بعض، ومن أخرج أخاه كمن أخرج نفسه؛ لأنَّهم إخوة دينًا ونسَبًا، أو لا تفعلون ما يوجب سفك دمائكم أو إخراجكم من دياركم، أو لا تهلكون أنفسكم بالمعاصي كمن قتل نفسه بحيث لا يلتذُّ كميِّت، إذا كان لا ينال لذَّات الجنَّة، ولا تصرفونها عن دياركم في الجنَّة.
3. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ اعترفتم بأنَّ ذلك الميثاق حقٌّ فقبلتموه، ومِن لَازِمِ ما يُقَرُّ به أنَّه حقٌّ أَن يُقْبَل، و(ثُمَّ) لترتيب الأخبار باتِّصال، أو في الرتبة بالتراخي؛ لأنَّ رتبة الإقرار أقوى، ﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ على أنفسكم، تأكيدٌ لـ (أَقْرَرْتُمْ) في المعنى، أو أَقْرَرْتُمْ: قبلتم وأنتم تشهدون على القبول، أو أنتم معشر المعاصرين له صلّى الله عليه وآله وسلّم تشهدون على إقرار أسلافكم لتوسُّط الأنبياء والرواة إليكم بينكم وبينهم، وضعِّف بأنَّه يكون حينئذٍ استبعاد الإجلاء والقتل منهم، مع أنَّ أخذ العهد والميثاق كان من أسلافهم.
4. ﴿ثُمَّ أَنتُمْ﴾ يا معاصري محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿هَؤُلَآءِ﴾ أَخُصُّ هؤلاء، أو يا هؤلاء، أو أنتم المشار إليهم المعهودون، وكأنَّه قيل: بماذا؟ فأجيب بما بعدُ، وأجاز الكوفيُّون أنَّ (هَؤُلَاءِ) بمعنى الذين، فتكون صلته هي قوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ﴾ وذلك الإخراج بالاستعانة عليهم، كما قال: ﴿تَظَّاهَرُونَ﴾ تتعاونون ﴿عَلَيْهِم بِالاِثْمِ﴾ فعل ما يُستحَقُّ به الذمَّ، أو نفس هذا الذي يُستحَقُّ به الذمَّ، أو ما يُنفَرُ عنه ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلم الشديد.
5. ﴿وَإِنْ يَّاتُوكُم﴾ ذلك الفريق الذين تخرجونهم من ديارهم وقت الحرب ﴿أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ بالمال أو بغيره كالرجال، العرب في المدينة وأعمالها: الأوس والخزرج، واليهود: قريظة والنضير وبني قينقاع، وكان بين الأوس والخزرج حروب، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، ولم يكن بين اليهود مخالفة ولا قتال، وإنَّما يقاتلون لحلفائهم، فإذا أسرت الأوس أو الخزرج يهوديًّا فداه النضير وقريظة جميعًا، وفي الحرب يقتل القرظيُّ النضيريَّ والنضيريُّ القرظيَّ، ويخرب بعضهم دار بعض، ويخرجه منها معاونة لحلفائهم، يقال لهم: ما هذا؟ فيقولون: القتل والإخراب لأجل حلفائنا لا نستذلُّهم، وهو مخالف لما عُهد في التوراة، ولذلك نفاديهم لأنَّا أمرنا بالفداء، فأحلُّوا بعضًا وحرَّموا بعضًا، فكأنَّهم حرَّموا جميعًا، وَأَمَّا بنو قنيقاع فلم يقتلوا ولم يخرجوا أحدًا من داره، ولم يظاهروا، وضرب الجزية عليهم؛ لأنَّهم لم يؤمنوا وبقوا في ديارهم.
6. ﴿وَهُوَ﴾ أي: الشأن ﴿مُحَرَّمٌ﴾ خبر مقدَّم ﴿عَلَيْكُمُ إِخْرَاجُهُم﴾ مبتدأ، أي: الشأن أنَّ إخراجهم من ديارهم محرَّم عليكم، كما عاتبهم بقوله: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ﴾، حرَّم الله عليهم إخراج إخوانهم وقتلهم في التوراة، وفيها بعد ذلك: (وأيُّما عبد أو أمَة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بكلِّ ما وجدتم، وأعتقوه).
7. ﴿أَفَتُومِنُونَ﴾ أتتعدَّون الحدود فتؤمنون ﴿بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ التوراة، وبعضُها هو فداء من وجدوه منهم أسيرًا عند الأوس أو الخزرج، ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ بعض الكتاب، وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة، وهم لم يتركوا القتل إذ يقتلون بعضهم بعضًا في الحرب معاونة لحلفائهم، ولم يتركوا الإخراج ولا المظاهرة.
8. وفي الآية تنزيل ترك العمل بالكتاب منزلة الكفر، أي: الشرك، فإنَّهم آمنوا بالتوراة كلِّها لكن نافقوا، ومِنْ لازِمِ الإيمانِ بالشيء العمل بمقتضاه بذلك، ويحتمل أنَّ ذلك في دينهم شرك، وفيه أنَّ الشرك لا تختلف الشرائع فيه، قيل: أو سمِّي ذلك شركًا مبالغة، أو المراد: بالكفر كفر الجارحة وهي الفسق.
9. وقيل عن ابن عبَّاس : عادة قريظة القتل، وعادة النضير الإخراج، فأجلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم النضير وقتل قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم، جازى كلًّا بما كان يفعل.
10. ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَّفْعَلُ ذَالِكَ مِنكُمُ إِلَّا خِزْيٌ﴾ ذلٌّ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بقتل سبعمائة من قريظة في السنة الثالثة عقب الأحزاب، وأَسَرَ نساءهم وأطفالهم، وضَرَبَ الجزية على باقيهم، وضَرَبَ الجزية على بني النضير ثمَّ أجلاهم إلى الشام، ولا جزية عليهم بعد الإجلاء لأنَّ الشام فُتح بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولو كان قد تصرَّف في بعضه بالتمليك.
11. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىآ أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ هو أشدُّ مِمَّا لقوا في الدنيا وفي القبر، فلا يرد أنَّ المنكر لله وعبدة الأصنام أشدُّ منهم عذابًا إلَّا من كان منافقًا بإضمار نوع من الشرك، أو بإسرار إلى بعض فإنَّ عذابه في الدرك الأسفل، والمراد التصيير إلى عذاب أشدَّ لا إلى عذاب كانوا فيه؛ ولا شكَّ أنَّ عذاب النار أشدُّ من عذاب القبر وعذاب الدنيا، وزاد أيضًا بالدوام، ولا يتصوَّر أنَّ عذاب النافي لله دون عذابِ اليهودِ والنصارى والفاسقِ، بل أعظم، ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فهو لعلمه بما عملوا يجازيهم على صغيره وكبيره، وصغائر المشرك كلُّها كبائر.
12. ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اَشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنيَا﴾ لذَّتها ومتاعها ﴿بِالَاخِرَةِ﴾ فباعوا ما لهم فيها من الخير بالدنيا، بأن ضيَّعوا دينهم لأجل تحصيل الدنيا ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ في الآخرة، أو فيها وفي الدنيا؛ ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ يُمنعون عنه البتَّة؛ أو لا يُنصرون بترك الجزية.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/153.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم نعى عليهم أيضا إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾
2. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ إخبار في معنى النهي، والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء، أن لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله، ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ أي أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور، ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ بلزومه، فهو توكيد للإقرار، كقولك: أقر فلان، شاهدا على نفسه.
3. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ خطاب خاص للحاضرين، فيه توبيخ شديد ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ﴾ أي تتعاونون عليهم ﴿بِالْإِثْمِ﴾ وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ وهو التجاوز في الظلم.
4. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ﴾ أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم ﴿أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾، أي تخلصوهم بالمال من الفداء، وهو الفكاك بعوض ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ الجملة حال من الضمير في ﴿تُخْرَجُونَ ﴾ أو من ﴿فَرِيقًا﴾ أو منهما، وتخصيص بيان الحرمة هاهنا بالإخراج، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق، لكونه مظنة للمساهلة في أمره، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا، وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص، وهو السرّ في تخصيص التظاهر به فيما سبق.
5. ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ أي: التوراة وهو الموجب للمفاداة ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ وهو المحرّم للقتل والإخراج.
6. ما ذكرناه في قوله تعالى ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ و﴿ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ ﴾ هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره، والإيمان بذلك، وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك، والمراد أنكم، مع القتل والإخراج، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرما عليكم، ثم عنده تخرجونه من الأسر.. وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه، والآخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك، إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب، لأن عود قوله ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية، أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات.
7. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى ﴿إِلَّا خِزْيٌ﴾ ذلّ وهوان مع الفضيحة، والتنكير للتفخيم ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وقد فعل سبحانه ذلك، فقتلت بنو قريظة وأجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ يعني النار ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
8. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ أي آثروا ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ على خساستها، واستبدلوها ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ مع نفاستها، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ في واحدة من الدارين، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾
9. وفي الآية تفسير آخر، أي لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكّين أو خنق أو بارتكاب ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنى بعد الإحصان، وقتل النفس بغير الحق نحو ذلك، ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم، أو: لا تفسدوا فتكونوا سببا لإخراجكم أنفسكم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/346.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بنى اسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفى هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ الله تعالى الميثاق عليهم باجتنابها، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ وقال هنا: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ تماديا في سياق الالتفات وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم، وجروا على طريقتهم، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية، وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره؛ يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.
2. أورد النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم بعبارة تؤكد معنى وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر، فقال ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ على هذا النسق.
3. هذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن، فهذه الأحكام لا تزال محفوظة عند الاسرائيليين في الكتاب وإن لم يجروا عليها في العمل، ولكن العبارة عنها عندهم لا تطاول هذه العبارة التي تدهش صاحب الذوق السليم، والوجدان الرقيق، فهذا إرشاد حكيم طلع من ثنايا الأحكام يهدى إلى أسرارها، ويومئ إلى مشرق أنوارها؛ من تدبره علم أنه لا قوام للأمم، إلا بالتحقق بما تضمنته هذه الحكم، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم.. لا فرق في الاحترام بين الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجرى في عروقه وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه الذين وحدت بينه وبينهم الشريعة العادلة والمصالح العامة، هذا هو الوجه الوجيه في الآية، وقيل: معناها لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل والإخراج من الديار.
4. يقال في قوله ﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾ كما قيل قبله في قوله: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ من تضمن صيغة الخبر للتأكيد.
5. في قوله تعالى ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ وجهان:
أ. (أحدهما) أنه يخاطبهم بما كان من اعتراف سلفهم بالميثاق وقبوله وشهودهم الوحى الذي نزل به على موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. (ثانيهما) أن المراد الحاضرون أنفسهم، أي أنكم أيها المخاطبون بالقرآن قد أقررتم بهذا الميثاق وتعتقدونه في قلوبكم، ولا تنكرونه بألسنتكم، بل تشهدون به وتعلنونه، فالحجة ناهضة عليكم به.
6. بعد بيان هذا الميثاق وتسجيله عليهم بأنهم يعرفونه لا ينكرون منه شيئا ذكر نقضهم إياه فقال ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ الحاضرون الشاهدون المشاهدون ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي يقتل بعضكم بعضا، كما كان يفعل من قبلكم مع اعترافكم بأن الميثاق مأخوذ عليكم كما كان مأخوذا عليهم.
7. هذا ما احتج الله تعالى على بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم في عصر التنزيل، ويتبع هذا القتال الأسر، ومن لوازمه الاخراج من الديار، ولذلك قال: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
8. التظاهر التعاون، وتظاهرون أصله تتظاهرون، كان كل فريق من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، وبالعدوان كالإخراج من الديار.
9. من مثارات العجب أنهم كانوا إذا اتفقوا على فداء الاسرى يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه ويعتذرون عن هذا بأنهم مأمورون في الكتاب بفداء أسرى شعب إسرائيل، فان كانوا مستمسكين بالكتاب، فلم قاتلوا شعب إسرائيل، وأخرجوهم من ديارهم وهم منهيون عن ذلك في الكتاب؟ هذا لعب بالكتاب واستهزاء بالدين ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ بعد أن كنتم أسرتموهم وأخرجتموهم بالتظاهر عليهم مع العرب ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ بميثاق أغلظ من طلب مفاداتهم.
10. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ وهو فداء الأسرى ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ آخر منه وهو النهى عن القتل والاخراج؟ أليس من الحماقة والهزء والسخرية أن يدعى مدع مثل هذا الايمان بأهون الأمور مع الكفر بأعظمها؟ والإيمان لا يتجزأ فالكفر بالبعض كالكفر بالكل.
11. في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله تعالى ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾، فالقرآن يصرح هنا وفى آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله تعالى تائبا، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهى الله تعالى عنه وتحريمه له، فهو كافر به، لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله تعالى، المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته، لا يمكن أن لا يكون لايمان قلبه أثر في نفسه، فان من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس، ولكل أثر في النفس تأثيرا في الأعمال، وهذا هو الوجه في الاحاديث الصحيحة الناطقة بأنه (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن؛ ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن)
12. سمى الله الذنب ههنا كفرا لما تقدم وتوعد عليه بوعيد الكفر، فقال: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين الذي يجمعهم، والشريعة التي هي مناط وحدتهم، ورباط جنسيتهم؛ بالخزي العاجل، والعذاب الآجل، وقد دل المعقول، وشهد الوجود، بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها؛ واعتدت حدود شريعتها، إلا وانتكث فتلها، وتفرق شملها، ونزل بها الذل والهوان، وهو الخزي المراد في القرآن، وهذه هي سنة الخليقة ذكرها ليعتبر بها من صرفته الغفلة عنها.
13. أما العذاب الآجل الذي عبر عنه بقوله ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾، فهو على كونه من عالم الغيب معقول المعنى، وهاد إلى حكمة عليا، ذلك أن النفوس البشرية إذا سحل مريرها، واختلت بفساد الأخلاق أمورها وكثرت في هذا العالم شرورها، حتى سلبت ما أعده الله تعالى لمن حافظوا على الحقيقة، واستقاموا على الطريقة، تكون جديرة بأن تسلب في الآخرة ما أعده الله تعالى للأرواح العالية، وما وعد به أصحاب النفوس الزاكية، فان سعادة الدار الدنيا لم تكن أجرا على أعمال بدنية، لا تتعلق بصلاح النفس في خلق ولا نية، وإنما هي ثمرة تزكية النفس، التي يتوسل إليها بعمل الحس، فاذا كان هذا شأن سعادة الدنيا فكيف يكون نعيم الآخرة جزاء حركات جسدية، وهى الدار التي تغلب فيها الروحانية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
14. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ بل هو محيط به لا يخفى عليه منه شيء.
15. ثم أكد الله تعالى ذلك الوعيد الشديد وبين سببه بقوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ أي جعلوا حظوظهم من الحياة الدنيا بدلا من الآخرة بما فرطوا في جنب الله، وأهملوا من شريعته حتى لم يتبعوا منها إلا ما يوافق أهواءهم ولا يعارض شهواتهم كالحمية التي حملت كل حليف على الانتصار لمحالفه المشرك، ومظاهرته إياه على قومه الذين تجمعه بهم رابطة الدين والنسب، ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ لأن علته ذاتية فيهم وهى ظلمة أرواحهم وفساد أخلاقهم، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ بشفاعة شافع أو ولاية ولى من دون الله ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وأنى يأذن بالشفاعة لمن سجلت عليهم الشقاء أعمالهم بإحاطة الخطايا بهم من كل جانب، حتى أخذت عليهم طريق الرحمة، وقطعت عليهم باختيارهم سبيل الرضوان الالهي فمن الجهل إهمالهم الأمر والنهى، ونقضهم ميثاق الله تعالى في أهم ما واثقهم به، واعتمادهم مع هذا كله على الشفعاء: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾
16. من مباحث الالفاظ في قوله ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أن الضمير للشأن عند المفسر والجماهير، وقال محمد عبده: إن المعهود في كلام العرب أن الجملة التي تقضى الحال فيها بتقدم الاسم وتأخر الفعل أو ما يشتق منه لا بدّ أن تصدر بضمير تعتمد عليه، ولهذا شواهد في كلام البلغاء يتفق فيها ذوقهم، وإن اختلف النحاة في اعرابها.
__________
(1) تفسير المنار: 1/373.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكّر الله بنى إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك، وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث: (إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
3. يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة: أنت الذي جنى على نفسه.
4. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة عليكم قائمة ـ وقد يراد ـ وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحى الذي نزل به على موسى عليه السلام.
5. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم: أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم.
6. من حديث ذلك أن بنى قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم في الدين بنى قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون، ومع كل حلفاؤه، وهذا ما نعاه الله على اليهود بقوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾
7. ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، والعدوان كالإخراج من الديار.
8. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم، واتفقوا على فداء الأسرى، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟
9. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ وذلك أن الله أخذ على بنى إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وقال: أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه ـ لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب، وكفرا ببعضه الآخر؟ وذلك منتهى ما يكون من الحماقة، فإن الإيمان لا يتجزأ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله.
10. في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة، نحو: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن)
11. ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة، ذات شريعة هي رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة فقال: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريّا يتفرق شملها، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها.. أما من استقاموا على الطريقة، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم، يرشد إلى ذلك قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ .
12. ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد، فقال: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات.
13. ثم أكد عظيم حماقتهم وسيئ إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته.
14. ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ يوم القيامة ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/161.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن؛ وهو يسألهم في استنكار: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ .. وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الأشد في الآخرة، مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
2. ثم يلتفت إلى المسلمين وإلى البشرية جميعا، وهو يعلن حقيقتهم وحقيقة عملهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ .. وكذبوا إذن في دعواهم أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة.. فهؤلاء هم هناك: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ ..
3. وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة هنا في هذه المناسبة: هي أن الدافع لهم على مخالفة ميثاقهم مع الله، هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم، فإن انقسامهم فريقين، وانضمامهم إلى حلفين، هي هي خطة إسرائيل التقليدية، في إمساك العصا من الوسط؛ والانضمام إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من باب الاحتياط، لتحقيق بعض المغانم على أية حال؛ وضمان صوالح اليهود في النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك! وهي خطة من لا يثق بالله، ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كله على الدهاء، ومواثيق الأرض، والاستنصار بالعباد لا برب العباد، والإيمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة إلا في اتباع دينهم، ولا وقاية إلا بحفظ عهدهم مع ربهم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/88.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا ميثاق آخر أخذه الله على بنى إسرائيل: أن يحترموا حرمات الدماء والأموال، فلا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يعتدى بعضهم على ما بيد بعض من أموال وديار.. وإذ كان هذا الميثاق عاملا ماديا يحرس أمنهم وسلامتهم، فقد أقروا به، وشهدوا آثاره حين استجابوا له، وعملوا به، فهو قانون يعطى ثماره عاجلة غير مؤجّلة.
2. جاءت فاصلة الآية هنا: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ حيث يقتضى الأمر تسليما ورضى به من كل إنسان، إذ فيه أمنه وسلامته.. على حين جاءت الفاصلة في الآية التي قبلها، وهى التي تحمل الميثاق بالإيمان بالله واليوم الآخر، والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى والمساكين وابن السبيل، والإحسان إلى الناس بالقول مع الإحسان إليهم بالعمل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ـ جاءت الفاصلة هناك هكذا: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ حيث لا تلقى هذه الدعوة استجابة ورضى إلا من قلوب متفتحة للحق، ونفوس متقبلة للخير.
3. حظ القوم ـ أعنى اليهود ـ من هذا وذاك قليل، فلا يهشّون لمثل هذه الدعوة، التي لا تضع بين أيديهم كسبا عاجلا، وثمرا ناضجا! ومع أن القوم أقروا بهذا الميثاق الذي يضمن لهم صيانة دمائهم وأموالهم، وشهدوا آثاره الطيبة العاجلة فيهم ـ مع هذا، فإنّهم سرعان ما تغلب عليهم شقوتهم، وتقهرهم نزواتهم الشريرة الكامنة فيهم، فينقضون هذا الميثاق: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ .
4. من عجب هؤلاء القوم أنهم إذ يخرجون فريقا منهم من ديارهم ظلما وعدوانا، فإنهم إذا وقع إخوانهم هؤلاء ليد أعدائهم وعرض عليهم فداؤهم من الأسر، قبلوا ذلك، وبذلوا لهم من أموالهم.. فكيف يلتقى هذا العمل الطيب، مع العمل الرديء الذي سبقه؟ كيف يضربون إخوانهم بأيديهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، ثم يعودون فيحررونهم من الرق، إذا أسروا؟
5. الأمر وإن بدأ متناقضا، إلا أنه مستقيم مع طبيعة هؤلاء القوم، التي تتحكم فيها الأنانية وحب الذات.. فالأخوّة عندهم ليست أخوة على إطلاقها، في السرّاء والضراء، وإنما هي أخوّة ما جلبت نفعا ذاتيا، وحققت مصلحة خاصة، أما إذا لم يكن ذلك من معطياتها فهي أخوّة ذئاب، إذا جرح ذئب فيها لم يحملوه، بل أكلوه! هذا شأنهم مع وصايا الرسل والأنبياء، ومع كل ما يحمل إليهم من أمر أو نهى.. يتخيرون ما يرضيهم، ويعرضون عما لا يقع منهم موقع الرضا والقبول، على المستوي المادي، وفى حدود الدائرة الذاتية، التي يعيش كل منهم فيها بنفسه ولنفسه! ولهذا أنكر الله عليهم هذا الموقف اللئيم، وتوعدهم عليه بقوله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
6. الخزي الذي ينالهم في هذه الدنيا، هو من تبدل مواقفهم في الأمر الواحد، حسب ما تمليه أحوالهم، وتقتضيه ظروفهم.. يأخذ أحدهم بالأمر اليوم، ثم إذا هو يردّه غدا، ثم يعود إليه، ثم يرده، وهكذا.. وليس من ضابط لهذا إلا المصلحة الخاصّة، والهوى الذاتي.. وهذا من شأنه أن يخزى الإنسان أمام نفسه، إن كان على شيء من الإحساس والشعور، وإلا فهو الخزي الذي ترميه به العيون الراصدة، لتقلّبه مع كل ريح.. وهذا هو أصل النفاق، ذلك الداء المتمكن في اليهود، إنهم يتحركون دائما مع الريح المواتية لأهوائهم، المشبعة لنهمهم، دون التزام بمبدإ أو خلق، ودون رعاية لشريعة أو دين!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/106.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.
2. القول في ﴿لَا تَسْفِكُونَ﴾ كالقول في ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [البقرة: 83] والسفك الصب، وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل ﴿تَسْفِكُونَ﴾ اقتضت أن مفعول ﴿تَسْفِكُونَ﴾ هو دماء السافكين، وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61] أي فليسلم بعضكم على بعض.
3. وجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع، وهذا كثير في استعمال القرآن، ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية، وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أميم أخي... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرّ بنفسه، وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية، وسماه اللف في القول، أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب الزمخشري إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا، فكأنما قتل نفسه، وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله: ﴿دِمَاءَكُمْ﴾ و ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾
4. من المعاني التي فسرت بها الآية الكريمة: لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير، فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في ﴿تَسْفِكُونَ﴾ و ﴿تُخْرَجُونَ ﴾ بعلاقة التسبب.
5. أشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله: (لا تقتل، لا تشته بيت قريبك)، فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب، وعليه فإضافة (ميثاق) إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.
6. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في ﴿أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ راجعان لما رجع له ضمير ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم، وجملة ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديّن به.
7. العطف بثم في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله، وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ لأن الإشارة لا تكون إلى غائب، وذلك نحو قولهم: ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب، وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج، وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
8. قد تقصد العرب من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو (أنت أبا جهل) قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال: (أنا ذلك) إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة: تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا.. فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك، وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب:
أ. الأولى ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ﴾
ب. الثانية: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ [آل عمران: 119]، ومنه (ها أنا ذا لديكما) قاله أمية بن أبي الصلت.
ج. الثالثة ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النساء: 109] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما رأيت في الأمثلة.
9. وجعل في (الكشاف) المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ﴾ مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد، وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.
10. أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع، وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بعاث القائمة بين الأوس والخزرج.
11. الواو في قوله: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى﴾ يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ﴾ فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات، ولك أن تجعل الواو للحال من قوله: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا﴾ أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم، وكيفما قدرت فقوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ جملة حالية من قوله: ﴿يَأْتُوكُمْ﴾ إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ حالية من ضمير ﴿تُفَادُوهُمْ﴾، وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ﴾ وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾
12. في قوله: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟.
13. في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.
14. ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الاتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع ﴿ فَتُؤْمِنُونَ ﴾ في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.
15. الفاء عاطفة على ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام.. والفاء في قوله: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ﴾ فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ، وقال عبد الحكيم: إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.
16. الخزي: بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
17. دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.
18. وقع اسم الإشارة وهو قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ موقع نظيره في قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5]، والقول في ﴿اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ كالقول في: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16]، والقول في ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ قريب من القول في ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾
19. موقع الفاء في قوله: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/568.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان الميثاق ألا يسفك بعضهم دماء بعض فلا يتقاتلوا ولا ينضموا إلى قوم يقاتلون أحدا منهم، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ بصيغة الخبر الدالة على النهى وعبر عن التقاتل بينهم بقوله: ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ فنسب السفك المنهى عنه إليهم والدماء إليهم للإشارة إلى الفعل ليعود على جميعهم بسفك الدماء، وإهدار الأنفس، لأنه إذا كان القاتل والمقتول من أسرة واحدة، فقد قتلت نفسها، وسفكت دمها، وأهدرت أهلها.
2. منع سبحانه وتعالى أن يخرج بعضهم من دياره، وعبر عن ذلك المنع بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ فالخبر هنا في معنى النهى عن ذلك، والتعبير عن إخراج البعض بأنه إخراج لأنفسهم بيان الاجتماع على أن يكونوا أمة واحدة متآزرة بحيث تكون إصابة عضو منها إصابة لجميعها، فإخراج بعضهم لبعض إخراج لكلهم إذ يفرق جمعهم، ولأنه يطمع فيهم أعداؤهم، فيخرجهم جميعا، فإخراج بعضهم يسهل إخراج كلهم.
3. هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى عليهم وأقروا به وشهدوه؛ ولذا قال تعالى موثقا ذلك الميثاق بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أي أنتم الحاضرون أقررتم ما أخذ على أسلافكم من هذا الميثاق، وأنتم تشهدون مؤمنين بصدقه.
4. كان الخطاب في الإقرار والشهادة للذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم الذين نقضوا العهد ظاهرا، وهم الذين سفكوا دماءهم، وهم الذين أخرجوا فريقا منهم، وإن كان الاحتمال بأن ذلك حصل من بعضهم في الماضي ليس ببعيد فقد تشابه في مخالفة الميثاق الخلف مع السلف، وهم جميعا في إثم مبين، وعدوان ظاهر.
5. إذا كان ذلك الميثاق حفظا لوحدتهم ولجمعهم فقد نقضوه، وقتل بعضهم بعضا، وأخرج فريق منهم الآخر من داره، ولقد قال تعالى في ذلك: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ العطف هنا بثم للبعد المعنوي بين الميثاق الذي أخذ عليهم وأقروه بألسنتهم وشهدوا عليه بقلوبهم، وبين الحال التي وجدوا فيها من أنهم قتلوا أنفسهم بأن تقاتلوا فيما بينهم سواء أكان قتالهم لأنفسهم بأنفسهم، أم كانوا قد انضم فريق إلى قوم عدو لقوم آخر وتقاتل الإسرائيليون مع أنفسهم في ظل آخرين، وكان كل فريق من اليهود يعاون من يظاهره من أهل الشرك على قومه بالإثم والعدوان، وفى ذلك سفك لدمائهم.
6. ذلك التعاون مع آخرين متعادين اقتضى أن يخرج فريق منهم من ديارهم، وذلك لأجل القتال الذي انضم فيه كل فريق من اليهود إلى فريق المشركين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالت كلماته: ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
7. خلاصة ما روى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ : أن سفك اليهود لدمائهم كان في العصر القريب للهجرة عندما كانت الحرب مشبوبة بين الأوس والخزرج، وكانوا على شفا حفرة من النار، كما أخبر القرآن العزيز، وأن اليهود لم يقفوا محايدين كما هو واجب الجوار بل تدخلوا ليوسعوا شقة الخلاف ويورثوا نيران الحرب لتستمر مستعرة فكان مع الخزرج بنو قينقاع، وكانوا حلفاء لهم، ومع الأوس النضير وقريظة، فتقاتل الفريقان كل في صفّه، وأخرج كل فريق الآخر من داره، فكان هذا نقضا للعهد الذي أقروه وصدقوه وشهدوه.
8. على ذلك يكون الخطاب في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ لليهود الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والإشارة إليهم، وكانت الإشارة مع الخطاب لبيان الصفات القائمة فيهم، فالمعنى أنتم ترون أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم.
9. من الغريب أنهم كانوا يتقاتلون غير متأثمين، ولا متحرجين من أن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج فريق الآخر من داره ومع ذلك إذا وقع أحدهم في أسر من أي الفريقين فادوه؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾ إنهم يظاهرون على إخوانهم بالإثم والعدوان، ومع ذلك إذا جاءوكم مأسورين دفعتم فديتهم لتفكوا عانيهم، للذين كانوا سببا في أسرهم، وشدّوا الوثاق عليهم، فلو أن الفريق الذي تحاربون معه أسر أسرى من اليهود الذين يعاونون خصمه، وجاء إليكم هؤلاء الأسرى فإنكم تدفعون فديتهم لحليفكم الذي أسرهم، وهذا غريب متناقض.. أولا: لأنكم جعلتموهم مقاتلين وسفكتم دماءهم وقتلتموهم فكيف تحمون حريتهم وأنتم الذين أخرجتموهم للقتال بسبب مناصرتكم لحلفائهم، ومناصرتهم لحلفائهم؛ ولذلك يقول تعالى تنديدا بحالهم وتناقضهم: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾
10. معنى ﴿تُفَادُوهُمْ﴾ أي تدفعون دياتهم؛ لأن فدى ويفادى تدل على أحد معنيين إما أخذ الفدية ممن يدفعها أو دفعها، وتفسر هنا بمعنى دفعها؛ لأنه المناسب للمقام من حيث وقوعهم في التناقض في أوامر دينهم وميثاقهم فهم قد أخرجوا إخوانهم للقتال ومع ذلك إذا وقعوا في الأسر قدموا فديتهم اعتمادا على نص عندهم يقول: (إذا رأيت أخاك الآخر مملوكا فأخرجه من رقه) وبالتالي إذا رآه مأسورا أخرجه من أسره وإنه كان عليه ألا يكون سببا في إخراجه، وإنه محرم عليه إخراجه فلا يكون سبب الرق لذا قال تعالى: ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ والحال والحكم الثابت المبين أنه محرم عليكم أن تخرجوهم، فإذا كان محرما عليكم ألا تتركوهم أسرى، فإنه من المحرم عليكم قبل ذلك ألا تخرجوهم فيكون ذلك سبب الأسر.
11. لذلك قال تعالى مستنكرا حالهم: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كانت هذه حالكم فأنتم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، والهمزة للاستفهام قدمت على الفاء لأن الاستفهام له الصدارة دائما.
12. الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لأنهم بعملهم هذا يؤمنون ببعض الكتاب وهو تحريم البقاء على الأسر، ويكفرون ببعضه الآخر، وهو تحريم سفك دمهم، وإخراجهم من ديارهم للقتال، فهو استفهام لإنكار الواقع، ولومهم عليه، وبيان أنه تناقض في إيمانهم ينفذون ما يكون هواهم في تنفيذه، ويجحدون بما لا يكون لهم هوى في تنفيذه فاتخذوا إلههم هواهم.
13. هذا يؤدى إلى هوانهم وذلهم ووصفهم بالعار الدائم؛ ولذا قال سبحانه ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الخزي: الهوان والعار والذلة، والفاء للترتيب، فإن الأمر الذي يترتب على تسليم أنفسهم لسفك دمائهم وإخراجهم من ديارهم يترتب عليه خزيهم بتسليم أنفسهم، وعار لخيانتهم لأقوامهم، ووراء ذلك كله الذلة وهوان أمرهم بين الناس، وإن ذلك جزاء مأخوذ من العمل في ذاته، ولذلك بين القرآن الكريم أنه لا جزاء سواه، وذلك بالنفي والإثبات بالاستثناء، أي أن الذين يفعلون ذلك الفعل لا جزاء لهم إلا العار والذلة والمهانة، وإذا كان ذلك هو المتعين جزاء فهو من العفل في ذاته؛ ولذلك كانت الإشارة إليه في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة أن الفعل ذاته هو العلة.
14. الحياة الدنيا هي الحياة الحاضرة، وسميت الدنيا، فهي مؤنث أدنى؛ لأنها القريبة المرئية المحسوسة، والحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي تكون سعادة دائمة، أو شقوة مستمرة.
15. وإذا كان ذلك في الدنيا، فجزاء الآخرة أشد وأبقى؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ ويوم القيامة هو يوم الحساب والعقاب أو الثواب، بعد البعث والنشور، وقوله تعالى: ﴿يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ يفيد بإشارة اللفظ إلى أنه مرجعه إلى عذاب سابق، فالخزي عذاب دنيوي نتيجة لفعلهم، وهذه هي الدفعة الأولى، ويردون بعد ذلك إلى أخرى يوم القيامة فيها أشد العذاب وأنكله.
16. بين سبحانه وتعالى أن حسابهم عند الحكيم العليم الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يغفل عن شيء ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ نفى الله تعالى بهذا النص السامي نفيا مؤكدا أن الله غافل عما يفعلون، فإذا كانوا هم ينسون ما يفعلون من آثام لاستمرائهم لها، واستمرارهم عليها، فالله تعالى لا ينساها، وقد أكد سبحانه نفى ذلك بالباء في قوله تعالى: ﴿بِغَافِلٍ﴾ وبنفي وصف الغفلة عن ذاته العلية، بأن الغفلة ليست من شئونه، وقوله تعالى: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ إشارة إلى إحصائه سبحانه وتعالى أعمالهم حال عملها وحال تلبسهم بآثامها.
17. أولئك الذين يسفكون دماءهم، ويخرجون أنفسهم من ديارهم باعوا آخرتهم بدنياهم، وكانت الحياة الآخرة هي الثمن للدنيا التي اشتروها؛ ولذلك قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ الإشارة إلى الذين سفكوا دماءهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضوا مواثيق الله التي جاءتهم بالأحكام التكليفية، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تشير إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم الذي يقترن باسم الإشارة، أي أن هؤلاء بسبب أوصافهم قد اشتروا الحياة الدنيا بثمن هو أغلى الأثمان، وهو الآخرة، ولكننا نجد أنهم خسروا في الدنيا؛ لأنهم لحقهم الخزي والعار، وفسدت نفوسهم، حتى صارت كالقردة والخنازير، وإن ذلك حق، ولكنهم فهموا الدنيا متاعا يستمتعون به كالحيوان فاشتروا هذه الدنيا التي زعموها، وتركوا الآخرة فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
18. مع أنهم طلبوا الحياة، وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها، قال الله تعالى فيهم: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة، ولا مسوغ للتخفيف قط، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾، فلا ترى من نبيّ ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشفعاء، وقتلوا النبيين.
19. اليهود أصابهم ما أصاب الأمم من تفكك في وحدتهم، فكانوا يتسافكون دماءهم ويمالئ بعضهم جماعات أخرى بينهم وبينهم حرب، فينضم فريق منهم إلى بعض المتقاتلين، وآخرون إلى غيرهم فيقاتل بعضهم بعضا، في ظل العدوين المتقاتلين، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد بمنع سفك دمائهم، وأخذ عليهم العهد بألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، ومع أن ذلك العهد حفظ لجميعهم وحقن لدمائهم ويفرض التعاون بينهم ـ خالفوه.
20. هذه الآيات نزلت في بنى إسرائيل، والخطاب لهم ابتداء، ولكنه شامل عام في عبرته بالنسبة للأمم جميعها، وخصوصا الأمم التي تقوم على مبادئ رسالة إلهية من السماء، فإنها يجب أن تكون بناء واحدا قائما لا تتداعى لبناته فيهوى، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في أمته: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وأوجب الإسلام على المسلم أن يعين أخاه المسلم في شدته وكربته، فقال: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه)، ومع ذلك فعلنا الكثير نحن المسلمين في عصرنا، وهو امتداد لعصور قبلنا من العصر العباسي الثاني إلى اليوم، سفكنا دماءنا بأيدينا لهوى الملوك، وفساد الحكام، فكانت الحرب بين المسلمين شديدة لحيّة، وصار كل فريق يرى في الآخر عدوه الذي ينتهز الفرص للقضاء عليه، وصار بعضهم يغرى أعداء الإسلام من الوثنيين وغيرهم بالمسلمين، حتى وقعوا بالمسلمين وحاربوهم حرب إفناء.
21. كانت الأرض الإسلامية تلتهم قطعة قطعة، وفى المسلمين أقوياء لا يرون للدين حقا عليهم يوجب أن ينقذوا إخوانهم من المؤمنين، فقد كان النصارى يعذبون المسلمين حتى أفنوهم فيها، والأتراك من النظارة الذين ينظرون ولا يتحركون.
22. وجاء العصر الأخير، فرأينا أعداء الله وأعداء الإسلام يجندون من المسلمين من يحاربون المسلمين، ووجدنا من الذين يتمسحون باسم علماء الدين من يؤيدون محاربة المسلم، للمسلم، ووجدنا في السنين الأخيرة من الحكام من يقتل المقاتل العظيمة في المسلمين من رعيته، حتى يلجئهم إلى الوثنيين لينقذوهم، وتذهب جماعات إسلامية، وقتا بعد آخر ووجدنا بيت المقدس يخربه اليهود ويستولون عليه، ووجدنا من الملوك من يؤيدونهم.. اللهم لا حول ولا قوة إلا بك وأنه ينطبق علينا قولك الحكيم: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/295.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لم ينته الحديث عن اليهود ومشاكلهم، والآتي كثير.. والصورة التي نستخلصها لليهود من آيات القرآن انهم يضاعفون النشاط لنشر الفساد في الأرض، ويتمادون في الغي كلما دعاهم داع الى الهداية والاستقامة، حتى كأنهم فطروا على معصية الله، ومخالفة الحق.. تأمرهم توراتهم بعبادة الله، فيعبدون العجل، ويقول لهم موسى: هذه التوراة من عند الله، فيقولون له: أرنا الله جهرة.. ويقول لهم: اذكروا نعمة الله عليكم، واسألوه العفو والصفح، فيسخرون ويهزؤون..
2. من جملة المواثيق التي أخذها الله على اليهود في التوراة أن لا يقتلوا أنفسهم، أي لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرجوا أحدا من دياره، واليهود لا ينكرون هذه المواثيق، بل ليس في وسعهم أن ينكروها، لأنها موجودة في التوراة التي يؤمنون بصدقها، وبأنها وحي من الله.. ومع ذلك خالفوها عن عمد وتصميم، فقامت الحجة عليهم؛ وناقضوا أنفسهم.
3. عاد سبحانه الى بني إسرائيل، يذكرهم بالعهود والمواثيق التي قطعت على لسان موسى والأنبياء من بعده، ومن هذه المواثيق ان لا يريق بعضهم دم بعض، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم.
4. قوله تعالى دماءكم ودياركم تماما كقوله: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، أي ليسلم بعضكم على بعض.
5. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾، أي أقررتم بالميثاق، وشهدتم بأنفسكم على أنفسكم.
6. سؤال وإشكال: الإقرار والشهادة على النفس شيء واحد، فكيف صح عطف الشيء على نفسه؟ والجواب: يجوز من باب التأكيد، وأيضا يجوز أن يكون المراد بالإقرار اقرار السلف من اليهود، وبالشهادة شهادة الخلف بأن السلف قد أقر، واعترف بالميثاق.
7. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أي انكم بعد أن أقررتم بالميثاق نقضتموه، وقتل القوي منكم الضعيف، وأخرجه من دياره.
8. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، أي تتظاهرون، والتظاهر هو التعاون، وتشير الآية الى انقسام اليهود، وتعاون كل فريق منهم مع العرب ضد الفريق الآخر من اليهود.
9. اليهودي لا يرى مانعا أن يقتل يهوديا مثله، بل ويتعاون مع العرب على قتله، ولكن إذا أسر العرب يهوديا تحركت عاطفة اليهودي الآخر، ودفع فدية للآسر، وفك الأسير، وهو من ألد أعدائه.. فاليهودي يحل قتل أخيه اليهودي، وتشريده، ولكنه يحرم أسره.. وكان اليهود يعتذرون عن هذا التهافت بأن التوراة أمرتهم بفداء أسرى اليهود إذا أسروا، فرد الله عليهم بأن التوراة أيضا أمرتهم بأن لا يقتل بعضكم بعضا، ولا يخرجه من دياره، فكيف عصيتم التوراة في القتل، واطعتموها بالفداء من الأسر؟
10. بهذا تجد تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، والذي كفروا به هو النهي عن القتل، والتظاهر بالإثم والعدوان، والإخراج من الديار، والذي آمنوا به هو الفداء من الأسر.. وهذا عين اللعب والاستهزاء بالدين.
11. سؤال وإشكال: ان المحرم عليهم هو القتل والتظاهر والإخراج، فلما ذا ذكر الله سبحانه خصوص الإخراج في هذه الآية؟ والجواب: هي جميعا محرمة، ولكن الله خص الإخراج بالذكر ثانية لتأكيد التحريم لأن شر الإخراج من الديار يطول ويمتد بخلاف القتل.
12. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، يطلق الجزاء على الخير والشر، ومن الأول قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ .. ومن الثاني: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ .. والخزي الفضيحة والعقوبة.
13. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾، ان الله سبحانه لم يحرم بهذه الآية ولا بغيرها الطعام الطيب، واللباس الفاخر، وإنما هدد من باع دينه بدنياه، وعاش على البغي والاستغلال.. ان الله ينهى عن الفساد في الأرض، ولا ينهى عن زينة الحياة ونعيمها.. بل انه جل وعز أنكر أشد الإنكار على من حرم التنعم والتلذذ في هذه الحياة: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، أي انها حلال لمن اكتسبها من حل، وحرام لمن ابتغاها عوجا من السلب والنهب، والغش والاحتيال.
14. المبدأ الاسلامي القرآني هو ان يعيش الناس، كل الناس، متعاونين على ما فيه سعادة الجميع، أما المبدأ الصهيوني الاستعماري فهو (ما دمت أعيش أنا فليهلك العالم).. وكل من سار على هذا المبدأ فهو صهيوني لعين، شعر بذلك أو لم يشعر، ولا بد أن تلاحقه عدالة السماء والأرض، وتنزل به النكال والوبال.
15. يظهر من آيات الذكر الحكيم ان انقسام اليهود الى فريقين، وانضمام كل فريق الى حلف خطة قديمة وموروثة عن الآباء والأجداد، ليزيدوا النار تأججا من جهة، ويضمنوا مصالحهم من جهة ثانية، كما ان تقلبهم بين الخصمين من خططهم التاريخية، وعاداتهم التقليدية.. فقبل نصف قرن كانوا من دعاة الشيوعية، وهم اليوم يمالئون الرأسمالية، ولا هدف لهم إلا تقسيم العالم، واثارة الحروب والفتن، لتنفيذ سياستهم الجهنمية، ونجاحهم في امتصاص دماء الشعوب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/145.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ و﴾ اذكروا يا بني إسرائيل ﴿ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ لما كانوا جماعة واحدة في نسبها وملتها نسب إلى جملتهم دماء بعضهم وإخراج بعضهم من ديارهم كما ينسب إلى جملة البدن ما يقع على عضو منه، وفيه إشارة إلى أن ضر البعض ضر للجملة، كما يقال في المثل العرفي: (القُدّ في الثوب والكسر في الصَّبَح) أي في الساق.
2. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ بهذا الميثاق ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ به على الدوام، لم تنسوه ولم ترجعوا عن الإقرار به.
3. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ كلمة احتجاج، ومثلها واقع في لغتنا، يقول القائل منا لصاحبه ـ محتجّاً عليه ـ: أنت ذا فعلت كذا وكذا، والمفروض أن لا يقع منك هذا، أو نحو هذا الكلام، ولعل الأصل في هذه الإشارة أنه يؤتى بها للتسجيل على المخاطب بأنه هو يفعل الجريمة كما تقول: أنت يا هذا فعلت كذا وكذا.
4. ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يفيد تكراره منهم وإصرارهم عليه، فهم باقون عليه في الحال، وهذا أبلغ في التشنيع عليهم، وذكر في (الكشاف) أن قوله: ﴿ثُمَّ﴾ هو استبعاد لما أسند إليهم.. يعني أنه مثل قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف: 57] وقول الشاعر:
ولا يكشف الغماء إلاَّ ابن حرةٍ.. يرى غمرات الموت ثم يزورها
وهو قريب، قال في (الكشاف): ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ استبعاد لما أسند إليهم، وتشنيع عليهم بما فعلوا من القتل والإجلاء من الدور بعد أخذ المواثيق عليهم)
5. ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ تتعاونون، والإثم: الباطل ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلم، وهكذا أهل الباطل يتعاونون من أجل باطلهم على ظلم أهل الحق، وفي هذه الآية دليل على أن المتعاونين يكونون شركاء في القتل والإخراج من الديار كما في ذبح البقرة؛ لأنه تعالى قال ﴿تَقْتُلُونَ﴾ ﴿وَتُخْرِجُونَ﴾ فنسب ذلك كله إليهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/140.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هناك مفردات تتصل بالجانب السلبي في الحياة، بحيث لا يريد الله صدورها من الإنسان، لأنها تفسد عليه حياته العامة والخاصة، وتحطم له نظامه الاجتماعي الذي به يسعد ويتقدم، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ في الجانب السلبي من السلوك ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾، لأن الله جعل للدماء حرمتها وللنفوس قداستها في الواقع الإنساني، فلا حق لإنسان في إزهاق روح إنسان آخر وسفك دمه، إلا بالحق الذي يمثل التشريع الإلهي في موارد الرخصة في ذلك.
2. ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ لأن الله أراد للإنسان أن يكون آمنا في بيته، حرّا في اختيار البقاء فيه، فلا سلطة لأحد في إخراجه منه إلا بالحق في دائرة التشريع الإلهي. ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ على أنفسكم بذلك ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ على ما أخذه الله من الميثاق على آبائكم وعليكم من خلالهم، مما يفرض عليكم الالتزام به كما هو الأمر بالنسبة إليهم.
3. ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ فيقتل بعضكم بعضا، وهو نقض للعهد المأخوذ عليكم، وفي التعبير ب (أنفسكم) إيحاء بأن المجتمع يمثل وحدة قائمة بذاتها، مما يجعل الاعتداء على أيّ فرد منه اعتداء على النفس كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61] أي ليسلم بعضكم على بعض. ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ أي تتعاونون فيما بينكم في تجمع عدواني لإخراج بعض الناس في مجتمعكم من ديارهم لتشردوهم، وهذا ما يوحي بأنكم لا تلتزمون الوحدة المجتمعية القائمة على أساس التضامن والتعاون والاحترام المتبادل.
4. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ﴾، فإذا رأيتموهم أسارى لدى جماعة أخرى من غير اليهود من أعدائكم، فإنكم تفادونهم وتتحملون مسئولية تحريرهم منهم، وهذا ما يوحي بالتزامكم بهم كجماعة منكم تحملون مسئوليتها الأمنية.
5. ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ فقد جاء التحريم من الله في مسألة إخراجهم، فكيف تجمعون بين العدوان الذاتي عليهم في داخل مجتمعكم، ومفاداتهم وتحريرهم من غيركم!؟ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ مما لا ينسجم مع الالتزام الإيماني بالكتاب كله، الذي يفرض الإيمان به في جميع أحكامه، باعتبار أنه الوحي الصادر من الله سبحانه.
6. ثم يعقّب الله على ذلك ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، لأن هذا الواقع سيؤدي ـ حتما ـ إلى اختلال الأسس العامة التي ترتكز عليها بناء المجتمع، فإذا أصيب بالتحلل والانهيار وضعف عن الامتداد والتماسك، وقع تحت سيطرة المجتمعات الأخرى، حيث يعاني في ذلك الخزي والهوان، فيسقطون تحت تأثير مفاهيمها الكافرة أو الضالة، ويندمجون في الاستغراق في خطوطها الفكرية والعملية، فلا يؤمنون بالجهاد لأنه يؤدي إلى تعقيد علاقاتهم بها، ولا يدعون إلى تحكيم الله في برامجه وشريعته في الحياة، ولا يعملون على صنع القوة، فيفقدون الإحساس بوجودهم الحي المتحرك الفاعل الذي يتحول ـ تدريجيا ـ إلى هامش من هوامش وجود الآخرين.
7. أما في الآخرة، فإنهم سيردون إلى أشدّ العذاب، لأن سلوكهم يمثل التمرد والطغيان على إرادة الله، وهو ما يعني الاستهانة به ـ تعالى ـ والانحراف عن خط العبودية له.
8. يختم الفصل بإعطاء القاعدة العامة التي تحكم مثل هذه النماذج، فهم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلم يعتبروا الآخرة شيئا كبيرا في حياتهم ليواجهوا مسئوليتهم من خلالها، وأخلدوا إلى الأرض وارتبطوا بمقاييسها ومفاهيمها من اللذة والطمع والبغي والعدوان.. وهكذا، فإنهم لا يواجهون إلا العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
9. ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مما يفرضه هذا الواقع من هزيمتكم وانقسامكم وتعرضكم للإذلال من قبل الآخرين من المسلمين وغيرهم، عندما تتعرضون للإخراج من دياركم أو لفرض الجزية عليكم. ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ جزاء لانحرافكم عن الحق، وعدوانكم على أهله بعد إقامة الحجة عليكم من خلال رسوله ورسالته. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ فهو المطّلع عليكم في كل سركم وعلانيتكم، والحافظ لكل نشاطاتكم ليحاسبكم عليها ويجازيكم بها.
10. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ فاستبدلوا الباقي بالفاني، ورضوا بالعرض المحدود الزائل من المال والجاه واللذات الصغيرة، بدلا من النعم الكبيرة الواسعة الخالدة والرضوان الإلهي العظيم.
11. ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ لأنهم أصروا على العناد والاستكبار على الحق، ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ لأن الآخرة ليست فرصة الذين ينتصرون لأنفسهم من عذاب الله بعلاقاتهم البشرية الدنيوية، لأنه اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله.
12. أخذ الله عليهم الميثاق باحترام النفس، فلا يعتدى عليها بالقتل، واحترام حرية الإنسان في بقائه في داره، فلا يخرج منها قهرا بدون حق.. والسرّ في التركيز على هذين الجانبين، فلأنهما يمثلان ـ في الظن الغالبـ العنصرين الأساسيين من عناصر الحريات الإنسانية، وهما عنصر حرية الحياة في امتدادها إلى ما يشاء الله من دون اعتداء، وحرية بقاء الإنسان في أرضه وداره، لأن الحريات الأخرى متفرعة عنهما كما يظهر بالتأمل، لقد أخذ الله عليهم الميثاق بالالتزام بهاتين الحرّيتين فيما بينهم، فماذا كانت النتيجة؟
13. إنها تماما كالنتيجة في الميثاق الأول، فلقد انطبعت حياتهم بالعدوان على النفس، وبدأت سياسة الغلبة والقوة تتحكم بهم، فضيّقوا على حرية الضعفاء الذين لا يخضعون لطغيانهم وبغيهم، فأخرجوهم من ديارهم بالإثم والعدوان، وهنا تأتي المفارقة التي تمثل ازدواجية المواقف إزاء علاقاتهم العامة، فهم في الوقت الذي يستبيحون قتلهم وإخراجهم من ديارهم، نراهم في موقف آخر يمارسون سلوكا يوحي باحترام الإنسان، وذلك عندما يقع هؤلاء الضعفاء أسرى في يد أعدائهم، فإنهم يعملون على دفع الفداء عنهم لينقذوهم من الأسر، إنها مفارقة تلفت النظر؛ فإذا كانوا يؤمنون باحترام الإنسان في نفسه وأرضه، فما معنى السلوك الأول؟ وإذا كانوا لا يؤمنون بذلك، فما معنى السلوك الثاني؟ إنه السلوك الذي لا يرتكز على قاعدة فكرية ثابتة، بل يخضع للعوامل الطارئة من العصبية والحميّة وغيرهما من حالات الانفعال الإنساني في العلاقات العامة، ولهذا ينطلق القرآن ليشجب هذا الواقع، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، فإن الالتزام بالكتاب يفرض الالتزام بمفاهيمه ومواقفه وتشريعاته، باعتباره القاعدة الأساسية للتفكير والموقف والعمل.
14. هذا بالإضافة إلى أن الأخذ ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر، يشوّه الصورة الحقيقية للفكرة، وذلك كما يفعله بعض الحكام الذين يأخذون بقوانين العقوبات في الإسلام كالحدود، فيجلدون شارب الخمر، ويقطعون يد السارق، ولكنهم لا يأخذون بالتشريعات الإسلامية في العدالة الاجتماعية، والنظام الأخلاقي، والتخطيط الاقتصادي، بحيث لا ينطلق السارق من حاجة اقتصادية ضاغطة بل من عقدة ذاتية مستعصية، الأمر الذي يعطي الصورة المشوّهة القاسية عن الإسلام من خلال الواقع الضاغط أمام التشريع الصعب.
15. ربما كانت المسألة تمثل الازدواجية بين العقدة الذاتية المتحكمة في علاقات بعضهم ببعض، في خلافاتهم العميقة الشديدة التي يمثلها قوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14] وبين الهيكلية الاجتماعية في موقفهم الموحد أمام الآخر الذي يهدد وجودهم فينتصرون لبعضهم البعض في مواجهته.
16. فائدة هذا لواقعنا العملي حاضرا ومستقبلا أن لكل شريعة من الشرائع خطة متماسكة، تحكم ربط أحكامها وتوزيع مواقعها، فلا تجزئة ولا انفصال، بل هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة يكمّل بعضها بعضا، مما يجعل الالتزام الكلي بها أساسا لتحقيق الغاية التي أرادها الله منها، ولعلنا نستوحي ذلك من الحديث المأثور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا)، والحديث الآخر المرويّ في نهج البلاغة: (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم..)
17.. نستفيد منهما أن قيمة الطاعة تتحدّد بمقدار ما تحقق من هدف الأمر والنهي، سواء كانت الغاية مربوطة بكيفية أداء الطاعة كما في الصلاة والصوم، أو كانت متصلة بالواجبات أو المحرمات المرتبطة بهدف واحد، من حيث علاقتها بتكوين الشخصية الإنسانية على قاعدة واحدة، ولعل الآية التي تحدثنا عنها أبلغ شاهد على الفكرة، لأن احترام حرية الإنسان في نفسه وفي أرضه ينطلق من فكرة الإيمان بحرية الإنسان المنطلقة من الإيمان بالله في رسالته وشريعته، فلا معنى لأن يؤمن الإنسان بهذه الحرية في جانب ويكفر بها في جانب آخر، لارتباط المواقف بعضها ببعض في تحقيق هذا المعنى الكبير في الحياة.
18. من الممكن أن نستوحي من الآيات الكريمة الفكرة التي ترفض ما تعارف عليه بعض المسلمين من المتأثرين بالمبادئ والأفكار الأوروبية، سواء منها الأفكار الرأسمالية أو الماركسية أو غيرها من الأفكار غير الإسلامية المتعلقة ببعض الجوانب العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخلاصة ما يثيره هؤلاء أن بإمكاننا أن نأخذ من الإسلام الجانب الروحي والأخلاقي في المفاهيم والتشريعات المتعلقة بالحياة، ولا سيما ما يتعلق منها بالجانب العبادي أو الأحوال الشخصية، أمّا التنظيم الاقتصادي والسياسي والتخطيط الاجتماعي، فلا بد لنا فيه من الرجوع إلى الفكر الأوروبي، لأن هذا الفكر يرتكز على قواعد علمية مبنية على دراسة الواقع من خلال المعطيات العامة التي أفرزها التطور، ويقررون ـ في هذا المجال ـ أن التشريعات الإسلامية التي تتصل بهذه الجوانب لا تفي بحاجة الحياة إلى التنظيم والتخطيط، ولكننا نلاحظ أن هذا اللون من التفكير محكوم بعقلية الانبهار بالفكر الأوروبي الذي قد يعتبره فوق مستوى النقد، بل هو باعث الحياة المتطورة على صورته.. وربما كان من الأجدر بهم ـ من وجهة الإخلاص للتفكير العلمي ـ أن يدققوا في القواعد العامة الإسلامية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنّة، وفصّلتها أبحاث الفقهاء المسلمين المستمدة من المصادر الأصيلة للتشريع، ليطّلعوا على الإمكانات الفكرية والقانونية التي تستطيع أن تدفع بحياة المجتمع إلى الأمام، وقد لا يكفينا ـ في إهمال هذه الجوانب من التشريع الإسلامي ـ أن نلاحظ عدم انسجام الشكل العملي للأوضاع الإدارية والسياسية والاقتصادية التي كانت في الماضي ـ عندما كان الإسلام يحكم الحياة ـ مع الشكل الموجود الآن، لأن من الممكن للاجتهاد الإسلامي أن يلاحظ وجود بدائل من قلب التشريع مما يملأ هذا الفراغ.
19. المسلم يحمل في وعيه الإسلامي فكرة إجمالية عن الحقيقة الإسلامية التالية: وهي أن لله في كل واقعة من وقائع الحياة حكما شرعيا محدّدا يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه، وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة إجمالا، فهي لا تتعارض وإمكان وجود فراغ يمارس فيه ولي الأمر حرية التحرك في بعض المجالات العملية العامة؛ كما يفرض على المفكرين المسلمين متابعة البحث عن الأحكام الشرعية، في كل ما استحدثه الإنسان من أوضاع الحياة وشؤونها وأساليبها، في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لئلا يبقى الإنسان المسلم في حيرة أمام حركة التطور العام في الحياة، إذ يبقى هذا البحث خاضعا للمبادئ العامة والتصورات الكلية للشريعة، لا مجرد اجتهاد آخر خال من أي ضوابط مقررة، من هنا، فإننا لا نبرر اختيار أساليب الفكر المضادّ في بعض الجوانب، والأخذ بالإسلام في البعض الآخر، لأننا نكون مصداقا لقول الله في حديثه عن اليهود: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾
20. مما نستوحيه من الآيات الكريمة أن الله تعالى يعتبر الشريعة ميثاقا بين الله وبين عباده، لأن الالتزام بها يمثل الإقرار بمضمونها، تماما كما هو الالتزام ضمن أيّ عهد من العهود، وبذلك يتحول العصيان والتمرد والانحراف إلى عملية خيانة للعهد ونقض له، مما يجعل الصورة قاتمة في داخل الذات، فتوحي للإنسان باحتقار نفسه، كما في أيّة حالة من حالات الخيانة، وقد يكون من الخير لنا العمل على إثارة هذا الجانب في أساليب التربية الدينية، لأن الإنسان قد يقبل لنفسه صفة العاصي، ولكنه لن يقبل لها صفة الخائن، لما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات مسيئة تثقل وجود الإنسان وضميره.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/116.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 ه.) في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ ﴾ ما يلي(1).:
1. بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:
أ. عدم سفك الدماء: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾
ب. عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: ﴿وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾
ج. إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من
2. يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد بعضهم الآخر: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر: ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ .
3. ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ فهم يفادونهم استنادا إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافا لما أخذ الله عليهم من ميثاق: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾!؟ ومن الطبيعي أن يكون هذا الانحراف سببا لانحطاط الإنسان في الدنيا والآخرة:
4. وانحرافات أيّة أمة من الأمم لا بدّ أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقّة: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ .
5. الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ .
6. في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر.
7. القرآن الكريم يوبّخ اليهود بشدّة على التزامهم ببعض الأحكام الإلهية وتركهم لبعضها الآخر، وينذرهم بخزي الدنيا وبعذاب الآخرة وخاصة في عملهم بالاحكام الجزئية، ومخالفتهم لأهم الأحكام الشرعية، أي قانون حرمة إراقة الدماء، وتهجير من يشاركهم في العقيدة من ديارهم وأوطانهم.
8. هؤلاء في الواقع التزموا بالاحكام التي تنسجم مع مصالحهم الدنيوية من الأحكام، أما حين تقتضي مصلحتهم أن يريقوا دم الآخرين ويستضعفوهم، فلا يألون جهدا في ارتكاب كل ذلك مخالفين بذلك أهم أحكام ربّ العالمين.
9. التزامهم بفداء الأسرى لا ينطلق من روح تعبّدية، بل من روح مصلحية ترى أنّ من مصلحتها أن تفدي الأسرى اليوم، كي تفدى هي حين تقع بالأسر في المستقبل.
10. العمل بالأحكام المنسجمة مع مصالح الإنسان الدنيوية، ليس دلالة على طاعة الله وعبادته، لأن الدافع لم يكن الاستجابة إلى دعوة الله بقدر ما كان استجابة لنداء الذات والمصالح الذاتية، روح الطاعة تبرز لدى التزام الإنسان بما لا ينسجم مع مصالحه الآنية الذاتية، وهذا هو المعيار الذي يميّز به المؤمن عن العاصي، فالازدواجية في الالتزام بأحكام الله تعالى، تدلّ على روح العصيان، بل أحيانا على عدم الإيمان وبعبارة أخرى، إن الايمان يظهر أثره فيما لو كان القانون على خلاف مصالح الفرد ومع ذلك يلتزم به الفرد، وإلّا فان العمل بالاحكام الشرعية، إذا اتفقت مع المصالح الشخصيّة لا يعتبر افتخارا ولا علامة على الايمان ولهذا يمكن تمييز المؤمنين عن المنافقين من هذا الطريق فالمؤمنون يلتزمون بجميع الأحكام، والمنافقون يذهبون إلى التبعيض.
11. مصير هذه الامّة ـ بالتعبير القرآني ـ الخزي في الدنيا وأشدّ العذاب في الآخرة.. ولا خزي أكبر من سقوط هذه الأمّة السائرة على خط الازدواجية بيد الغزاة الأجانب، وهبوطها في مستنقع الذلة على الساحة العالمية.
12. هذه السنّة الكونية لا تقتصر على بني إسرائيل، بل هي سارية في كل زمان ومكان، وتشملنا نحن المسلمين أيضا، وما أكثر الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض في مجتمعاتنا اليوم! وما أشقى هؤلاء في الدنيا والآخرة!
13. عوامل السقوط هي عبارة عن تفكّك البنية الاجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضا. ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ .. ثم الازدواجية في الالتزام بأحكام الله تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ .. هذه هي الأسباب والعلل في تكامل وانحطاط الأمم والحضارات في منظور القرآن.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/284.
34. بنو إسرائيل والتكبر على الأنبياء والهداة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈34⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 87 ـ 88]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب﴾ يعني: به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة، ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُل﴾ يعني: رسولا يدعى: أشمويل بن بابل، ورسولا يدعى: منشائيل، ورسولا يدعى: شعيا بن أمضيا، ورسولا يدعى: حزقيل، ورسولا يدعى: أرميا بن حلقيا وهو الخضر، ورسولا يدعى: داوود بن إيشا وهو أبو سليمان، ورسولا يدعى: المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم للأمة بعد موسى بن عمران، وأخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفة أمته(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَات﴾ هي الآيات التي وضع على يديه؛ من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَيَّدْنَاه﴾ قويناه(3).
4. روي أنّه قال: روح القدس: الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى(4).
5. روي أنه كان يقرأ: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾؛ مثقلة، كيف تتعلم؟ وإنما قلوبنا غلف للحكمة، أي: أوعية للحكمة(5).
6. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ مملوءة علما، لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره(6).
7. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ في غطاء(7).
8. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ : في أكنة(8).
9. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ هي القلوب المطبوع عليها(7).
10. روي أنّه قال: إنما سمي القلب لتقلبه(9).
__________
(1) ابن عساكر: ٨/٣٣.
(2) ابن جرير: ٢/٢٢٠.
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٦٨.
(4) ابن جرير: ٢/٢٢٣.
(5) الطبراني في الأوسط: ٤٦٣٦.
(6) ابن جرير: ٢/٢٣١.
(7) ابن جرير: ٢/٢٢٨.
(8) سيرة ابن هشام: ١/٥٤١.
(9) ابن أبي حاتم: ١/١٧٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي: لا تفقه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٢٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم، به كان يحيي الموتى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٩.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَقَفَّيْنَا﴾، يعني: أتبعنا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٦٨.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَيَّدْنَاه﴾ نصرناه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٢١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ عليها غشاوة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٢٨ وابن أبي حاتم: ١/١٧٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ عليها طابع: هو كقوله: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ [فصلت: ٥](1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون﴾ لا يؤمن منهم إلا قليل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون﴾ فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير(3).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٥١ مختصرًا: وابن جرير: ٢/٢٢٩.
(2) عبد الرزاق: ١/٥١.
(3) ابن جرير: ٢/٢٣٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ( ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ معناه أتبعنا)(1).
2. روي أنّه قال: ( ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ معناه قوينا.. يقال رجل ذو أيد، وذوو ايد.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ وروح القدس: جبريل عليه السلام، والقدس: الله عزوجل.. ويقال القدس: الملائكة)(2).
3. روي أنّه قال: ( ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ معناه مغطّىّ عليها.. واحدها أغلف)(2).
4. روي أنّه قال: ( ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ معناه أغطية.. واحدها كن)(2).
5. روي أنّه قال: ( ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ معناه باعدهم الله تعالى من رحمته)(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 85.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 86.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: معناه: أوعية لكل علم، فلا تسمع حديثا إلا تعيه، إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه، ولو كان فيه خير لوعته وفهمته(1).
2. روي أنّه قال: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم، ويكفرون بما وراءه(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٣٤.
(2) عبد الرزاق: ١/٥٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: وقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، يعني: في غطاء، ويعنون: في أكنة عليها الغطاء، فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمد ـ كراهية لما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله: إنكم كذبتم فريقا من الأنبياء وفريقا قتلتم ـ، فإن كنت صادقا فأفهمنا ما تقول(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢١.
الواقدي:
روي عن الواقدي (ت 159 هـ) أنّه قال: معناه: لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٣٣.
ابن زيد:
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بِرُوحِ الْقُدُس﴾ : [أيد الله عيسى بالإنجيل روحا، كما جعل القرآن روحا لله؟]، كلاهما روح الله، كما قال الله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢](1).، ما ورد في القرآن الكريم يدل على أن روح القدس غير الإنجيل وغير القرآن.. وإن كان كلاهما روحا.
2. روي أنّه قال: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ قال يقول: قلبي في غلاف، فلا يخلص إليه ما تقول، وقرأ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْه﴾ [فصلت: ٥](2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٢٣.
(2) ابن جرير: ٢/٢٣٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعنى: التوراة، وهو ظاهر.
2. اختلف في معنى ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ :
أ. قيل: وقفينا: أردفنا، وهو من القفا، قفا يقفو.
ب. وقيل: أتبعنا رسولا على أثر رسول؛ كقوله: ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾ [المؤمنون: 44] واحدا على أثر واحد.
3. اختلف في معنى ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ :
أ. قيل: البينات: الحجج.
ب. وقيل: العجائب التي كانت تجرى على يديه، من خلق الطين، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإنباء ما يأكلون وما يدخرون.
ج. وقيل: البينات: الحلال والحرام.
4. 5. الرسل في أنفسهم حفظوا حججا؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبا بدليل وبيان على صدقهم؛ لأنهم في أنفسهم حجة، وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أنفسهم، فلا بد لكل قول يقولون أن يأتوا بدليل يدل على صدقهم، وبيان يظهر الحقّ من الباطل، والصواب من الخطأ، والصدق من الكذب.
6. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ : قويناه، واختلف في معنى ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ :
أ. قيل: روح القدس: جبريل، وفى الأصل: القدوس، لكن طرحت الواو للتخفيف، وتأييده: هو أن عصمه على حفظه؛ حتى لم يدن منه شيطان، فضلا أن يدنو بشيء.
ب. وقيل: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ يعنى بالروح: روح الله.
7. وجه إضافة روح عيسى إلى الله ـ عزّ وجل ـ: أن تكون أضيفت تعظيما له وتفضيلا، وذلك أن كل خاص أضيف إلى الله ـ عزّ وجل ـ أضيف؛ تعظيما لذلك الشيء، وتفضيلا له، كما يقال لموسى: كليم الله، ولعيسى: روح الله، ولإبراهيم: خليل الله، على التعظيم والتفضيل.. وإذا أضيفت الجمل إلى الله ـ عزّ وجل ـ فإنما تضاف؛ تعظيما له ـ عزّ وجل ـ وتنزيها؛ كقوله: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرعد: 16] أضيف ذلك إليه؛ تعظيما وتنزيها.. والأصل في ذلك: أن خاصية الأشياء إذا أضيف ذلك إليه أضيف تعظيما لتلك الخاصية، وإذا أضيف جمل الأشياء إلى الله، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له.
8. اختلف في معنى ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ :
أ. في ظاهر هذه الآية أنهم كذبوا فريقا من الرسل، وقتلوا فريقا منهم.
ب. ويقول بعض الناس: إنهم قتلوا الأنبياء ولم يقتلوا الرسل؛ لقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر: 51]، ولقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ﴾ [الصافات: 172] أخبر أنه ينصرهم، ومن كان الله ناصره فهو لا يقتل.
ج. ومنهم من يقول: إنهم قتلوا الرسل والأنبياء.
9. يحتمل قوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ في رسول دون رسول، فمن نصره الله فهو لم يقتل، أو كان ما ذكر من النّصرة لهم كان بالحجج والآيات.
10. في الآية دلالة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته؛ لأنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل، وقتل بعضهم، فسكتوا عن ذلك، فلولا أنهم عرفوا أنه رسول ـ عرف ذلك بالله ـ وإلا لم يسكتوا عن ذلك.
11. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ يعنى: في أكنة عليها الغطاء؛ فلا نفهم ما تقول، ولا نفقه ما تحدّث.. يدّعون زوال الخطاب عن أنفسهم؛ كراهية لما سمعوا.
12. أكذبهم الله تعالى بقوله: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي طردهم الله؛ بكفرهم، وعتوهم، وتفريطهم في تكذيب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، واعتنادهم إياه، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئا مما يخاطبون به ـ على ما يزعمون ـ ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها.
13. قيل في قوله تعالى: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ : يعنى: أوعية، تفهم وتعي ما يقال، ويخاطب، ولكن لا تفهم ما تقول، ولا تفقه ما تحدث، فلو كان حقّا وصدقا لفهمت ولفقهت عليه.. يدّعون إبطال ما يقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم، وذلك نحو ما قالوا لشعيب: ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ [هود: 91]
14. قيل في قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ بوجهين:
أ. قيل: فقليلا أي بقليل ما يؤمنون من التوراة؛ لأنهم عرفوا نعته وصفته، وحرفوه، فلم يؤمنوا به.
ب. وقيل: فقليلا، أي قليل منهم يؤمنون بالرسل صلى الله عليهم وسلم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/507.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة، ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾، والتقفية الاتباع يقال: استقفيته إذا جئته من غير جهة، وسميت قافية العشر قافية لأنها خالفة.
2. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أراد بها الحجج، ويحتمل وجهين آخرين:
أ. أحدهما: الإنجيل وما فيه.
ب. الثاني: خلقه من الطين كهيئة الطير وكإحيائه الموتى وإبرائه الأسقام.
3. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي بجبريل، وإنما سمي روحاً:
أ. لغلبة الروحانية على جسمه، وكذلك سائر الملائكة، وإنما خص بذلك تشريفاً.
ب. ويجوز وجه ثان، وهو أنه سمي روحاً لانتفاع الناس به كانتفاع الأبدان بالأرواح وذلك لما يأتي به من البيان عن الله عز وجل.
4. معنى القدس:
أ. المطهر كأنه دل به على التطهير من الذنوب.
ب. وقيل: القدس التزكية.
5. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ في تغطية وأوعية لا تفقه، والثاني أوعية للعلم.
6. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ واللعن الطرد والإبعاد ومنه قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونأيت عنه... مكان الذيب كالرجل اللعين
وجه الكلام مكان الذيب اللعين كالرجل.
7. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ معناه فقليلاً منهم من يؤمن لأن من آمن من أهل الشرك أكثر ممن آمن من أهل الكتاب ومعنى ما هاهنا الصلة كما قال مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها... رُمِّل ما أنف خاطب بدم
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/71.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة.
2. ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ والتّقفية: الاتباع، ومعناه: وأتبعنا، يقال استقفيته إذا جئت من خلفه، وسميت قافية الشعر قافية لأنها خلفه.
3. في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن البينات الحجج.
ب. الثاني: أنها الإنجيل.
ج. الثالث: وهو قول ابن عباس، أن البينات التي أوتيها عيسى إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأسقام.
4. في قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن روح القدس الاسم الذي يحيي به عيسى الموتى، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه الإنجيل، سماه روحا، كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ .
ج. الثالث: وهو الأظهر، أنه جبريل عليه السّلام، وهذا قول الحسن وقتادة، والربيع، والسدي، والضحاك.
5. اختلفوا في تسمية جبريل بروح القدس، على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه سمّي روحا، لأنّه بمنزلة الأرواح للأبدان، يحيي بما يأتي به من البينات من الله عزّ وجل.
ب. الثاني: أنه سمي روحا، لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وإنما يختص به جبريل تشريفا.
ج. الثالث: أنه سمي روحا، لأنه كان بتكوين الله تعالى له روحا من عنده من غير ولادة.
6. في القدس ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: هو الله تعالى، ولذلك سمّي عيسى عليه السّلام روح القدس، لأن الله تعالى كوّنه من غير أب، وهذا قول الحسن والربيع وابن زيد، قال ابن زيد: القدس والقدوس واحد.
ب. الثاني: هو الطهر، كأنه دل به على التطهر من الذنوب.
ج. الثالث: أن القدس البركة، وهو قول السدي.
7. في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ تأويلات:
أ. أحدهما: يعني في أغطية وأكنّة لا تفقه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والسدي.
ب. الثاني: يعني أوعية للعلم، وهذا قول عطية، ورواية الضحاك عن ابن عباس.
8. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ اللّعن: الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه... مقام الذئبـ كالرجل ـ اللعين
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل.
9. في قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه فقليل منهم من يؤمن، وهذا قول قتادة، لأن من آمن من أهل الشرك أكثر ممن آمن من أهل الكتاب.
ب. الثاني: معناه فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم، وهو مروي عن قتادة.
10. معنى ﴿مَا﴾ هنا الصلة للتوكيد كما قال مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها... خضّب ما أنف خاضب بدم
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/156.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ أنزلناه اليه وأعطيناه، والكتاب المراد به التوراة.
2. قوله ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ معناه واردفنا، واتبعنا بعضه خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في اثره من ورائه وأصله من القفا، يقال فيه قفوت فلاناً إذا صرت خلف قفاه، كما يقال دبرته إذا صرت في دبره قال امرؤ القيس:
وقفى على اثارهن بحاصب... فمرّ العشى البارد المتحصب
3. معنى قوله: ﴿بِالرُّسُلِ﴾ من بعد موسى، والمراد بالرسل الأنبياء، وهم جمع رسول يقال: رسول ورسل، كما يقال: رجل صبور وقوم صبر، ورجل شكور، وقوم شكر، والمعنى في ﴿قَفَّيْنَا﴾ اتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى الى زمن عيسى بن مريم عليه السلام فإنما بعثه بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء الى ما فيها، فلذلك، قال: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ يعني على منهاجه وشريعته.
4. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أعطينا عيسى بن مريم الحجج والدلالات على نبوته من احياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك من الآيات التي دلت على صدقه وصحة نبوته.
5. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي قويناه وأعناه، يقال منه ايدك الله، أي قواك الله، وهو رجل ذو أيد وذو إياد أي ذو قوة ومنه قول الشاعر:
ان القداح إذا اجتمعن فرامها... بالكسر ذو جلد وبطش أيّد
يعنى بالأيد القوي.
6. اختلف في معنى ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ :
أ. قال قتادة والسدي والضحاك والربيع: روح القدس هو جبرائيل عليه السلام، قال ابن زيد أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله، كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾
ب. روى الضحاك عن ابن عباس ان الروح: الاسم الذي كان يحيي بن الموتى.
7. أقوى الأقوال قول من قال هو جبرائيل عليه السلام لأن الله تعالى أيد عيسى به كما قال تعالى ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ فأخبر انه أيده به، فلو كان المراد به الإنجيل لكان ذلك تكراراً.
8. إنما سمي الله تعالى جبرائيل روحاً واضافه الى القدس:
أ. لأنه كان بتكوين الله روحاً من عنده من غير ولادة والدٍ ولده.
ب. وقال قوم: سمي روحاً لأنه كان بمنزلة الأرواح للأبدان تحيى بما يأتي به من البينات.
ج. وقال آخرون: سمي بذلك، لأن الغالب على جسمه الروحانية لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وإنما خص به تشريفا.
9. التقديس والتطهير والقدس:
أ. الطهر.. وروي عن ابن عباس ان القدس الطاهر وقال الراجز: الحمد لله العلى القادس.. وقال رؤبة: دعوت رب القوة القدوسا.
ب. قال السدي: القدس ها هنا البركة يقال: قدس عليه: برك عليه، ويكون اضافته الى نفسه كقوله ﴿حَقُّ الْيَقِينِ ﴾
ج. قال الربيع: القدس الرب.
د. قال ابن زيد القدس هو الله، وأيده بروحه، واحتج بقوله ﴿الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ﴾، وقال القدوس والقدس واحد.
10. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ الخطاب بذلك متوجه الى يهود بني إسرائيل، وكأنه قال: يا معشر يهود بني إسرائيل، لقد أتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده الرسل إليكم، وأتينا عيسى ابن مريم الحجج والبينات، إذ بعثناه إليكم، وأيدناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم استكبرتم عليكم تجبراً وبغياً، وكذبتم منهم بعضاً وقتلتم بعضا، وظاهر الخطاب وان كان خرج مخرج التقدير فهو بمعنى الخبر.
11. ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ اغلف وغلف: مثل احمر وحمر:
أ. كأنهم قالوا: قلوبنا أوعية فلم لا تعي ما تأتينا به قالوا كما ﴿ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ﴾ أي لا تفقه لأنها في حجاب، ومنه يقال للرجل الذي لم يختن اغلف والمرأة غلفاء، ويقال للسيف إذا كان في غلاف اغلف وقوس غلفاء: وجمعها غلف.
ب. وقال عكرمة غلف: أي عليها طابع.
12. معنى قوله تعالى: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ عندنا ان الله اخبر ان هؤلاء الكفار ادعوا ان قلوبهم ممنوعة من القبول، وذهبوا الى ان الله منعهم من ذلك، فقال الله رداً عليهم ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي انهم لما كفروا فألفوا كفرهم، واشتد إعجابهم به ومحبتهم إياه، منعهم الله، من الالطاف والفوائد ـ ما يؤتيه المؤمنين ثواباً على ايمانهم وترغيباً لهم في طاعتهم، وزجر الكافرين عن كفرهم، لأن من سوى بين المطيع والعاصي له، فقد أساء اليهما.
13. في الآية ردّ على المجبرة ايضاً، لأنهم قالوا: مثل ما يقول اليهود من أن على قلوبهم ما يمنع من الايمان ويحول بينهم وبينه، وكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم، فدل على أنهم كانوا مخطئين، كما هم مخطئون.
14. قال ابو علي الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها، إذ اذكر بانه لا يعلم وصف بان عليه مانعاً كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾، فان الفعل لما كان مانعاً من الدخول الى المقفل عليه شبه القلوب به، ومثله قوله: ﴿سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ وقوله: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ ومثله ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ وقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾، لأن العين إذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها فلا يقع بها ادراك، فكأن شدة عنادهم يحملهم على رفع المعلومات.
15. اللعن هو الإقصاء والابعاد، يقال: لعن الله فلاناً يلعنه لعناً، فهو ملعون، ثم يصرف مفعول الى فعيل، فيقال: هو لعين، كما قال الشماخ بن ضرار:
ذعرت به القطا ونفيت عنه... مقام الذئب كالرجل اللعين
أي المبعد.
16. صار معنى الآية: قالت اليهود: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال الله: ليس ذلك كما زعموا، ولكنه تعالى أقصاهم وأبعدهم عن رحمته وطردهم عنها، لجحودهم به وبرسله.
17. اختلف في معنى ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ :
أ. قال قتادة: قيل منهم من يؤمن.
ب. وقال قوم: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
18. الذي نقوله ان معنى الآية: ان هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى قليلو الايمان بما أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولذلك نصب قوله: ﴿قَلِيلًا﴾ لأنه نصب على نعت المصدر المتروك، وتقديره لعنهم الله بكفرهم، فإيماناً قليلًا يؤمنون، ولو كان الامر على ما قال قتادة، لكان القليل مرفوعاً، وكان تقديره فقليل ايمانهم.
19. في الناس من قال ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾، لأنه كان معهم بعض الايمان من التصديق بالله وبصفاته، وغير ذلك مما كان فرضاً عليهم، وذلك هو القليل بالإضافة الى ما جحدوا به من التصديق بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به، والذي يليق بمذهبنا ان نقول: إنه لم يكن معهم ايمان اصلًا، وإنما قال ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ كما يقول القائل: قلما رأيت هذا قط، وروي عنهم سماعاً: ـ اعني العرب ـ مررت ببلد قلما ينبت إلا الكراث والبصل، يريدون ما ينبت إلا الكراث والبصل.
20. اختلف في ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ :
أ. قال قوم من اهل العربية: ان ما زائدة لا معنى لها، كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وتقدير الكلام: قليلًا يؤمنون، وانشد بيت مهلهل:
لو بأبانين جاء يخطبها... ضرج ما انف خاطب بدم
يعني ضرج انف خاطب، وما زائدة.
ب. وقال قوم: ذلك خطأ في الآية وفي البيت، وان ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء إذا كانت (ما) كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص بعض ما عمته، فإنها تذكر بعدها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/340.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القَفْوُ: مصدر قفا يقفو، أي اتبعه، والتقفية الاتباع.
ب. الرسل: جمع رسول، والإرسال البعث في الأمر، ورسل الله من بعثهم لتبليغ رسالته.
ج. والتأييد: التقوية، والأَيْدُ القوة، أيده تأييدًا.
د. القدس: الطهر، قدسه تقديسًا، أي طهره.
هـ. الهوى ـ مقصور ـ والشهوة من النظائر، هوي هَوًى، والهواء بالمد الجو.
و. الاستكبار: التكبر، وهو الأنفة عن قبول الحق.
ز. الغلاف: غلاف السكين، وجمعه غُلُفُ، وغلام أغلف، مثل أقلف كأنه في غلاف، وَقَلْبٌ أغلف: كأنما غشي غلافًا، فهو لا يَعِي.
ح. اللعن: الطرد والإبعاد، ومنه ذئب لعين أي طريد، ورجل لُعَنَة بفتح العين يَلْعَنُ الناسَ، ولُعْنَةٌ بسكون العين يلعنه الناسُ، قال الخليل: اللعنة في القرآن والملاعنة اسم شرعي بحكم مخصوص بين الرجل وامرأته إذا قذفها.
2. الروح: النفس الذي يحيا به البدن، والجمع الأرواح، وأصله الريح، ومنه الريح الهوى إذا تحرك، واختلفوا في الروح:
أ. قيل: النفس في مخارق الإنسان، ولذلك يصح فيه النفخ، عن أبي علي وأبي هاشم وأبي القاسم.
ب. وقيل: جزء في القلب.
ج. وقيل: هو الحياة.
3. ذكر تعالى ما أنعم عليهم من بعثة الأنبياء، وما سلكوا من طريقة التكذيب، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ لقد تأكيد في الكلام، وآتينا أعطينا ﴿مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا من بعد موسى ﴿بِالرُّسُلِ﴾ أي أرسلنا رسلاً بعد رسل.
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾
أ. قيل: أعطيناه المعجزات من إحياء الموتى، وغيرها، عن ابن عباس.
ب. وقيل: العجائب التي أراه، عن الحسن.
ج. وقيل: الإنجيل وما آتاه من أحكام هو وحيه، عن أبي علي.
5. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ اختلفوا في الروح:
أ. قيل: هو جبريل، لقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ عن الحسن وقتادة والربيع والضحاك والسدي، وإنما سمي جبريل: روحًا لوجهين:
• أحدهما: أنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح.
• الثاني: أن الغالب عليه هو الروحانية، وكذلك سائر الملائكة غير أنه خصه به تشريفًا.
وذكروا أن عيسى خص بأنه مؤيد بجبريل، وكل نبي مؤيد به لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره، فكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء، وكان تمثل لمريم عند حملها به، وبشر به، ونفخ فيها.
ب. قيل: هو الإنجيل، سمي روحًا، كما سمي القرآن روحًا في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، وسمي به؛ لأن الدين يحيا به، عن أبي زيد.
ج. وقيل: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
د. وقيل: هو الروح الذي نفخ فيه، فأضافه إلى نفسه تشريفًا، كما يقال: نبت الله، وناقة الله، عن الربيع، وعلى هذا: المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان، وذلك يصحح أن الروح هو النفس؛ لأنه يصح فيه النفخ.
6. من الناس من قال لا يتكلم في الروح؛ لأن الله أبهمه، وقد أخطأ؛ لأنه تعالى إذا علم أن الصلاح أن يكلهم فيه إلى عقولهم وكلهم، كما فعل ذلك في الأمانة وبيان وقت الساعة، وكثير من مسائل الشرائع.
7. اختلفوا في القدس:
أ. قيل: الطهر، كأنه دل على التطهير من الذنوب.
ب. وقيل: القدس هو الله، عن الحسن والربيع وابن زيد، قال ابن زيد: القدس والقدوس واحد.
ج. وقيل: القدوس، عن السدي.
د. وقيل: سمي جبريل الروح الطاهر؛ لأنه لم يتضمنه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات، بل كان أمرًا من الله تعالى.
8. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ خطاب لليهود، أي يا معشر اليهود كلما جاءكم رسول ﴿بِمَا لَا تَهْوَى﴾ أي لا تحب ولا توافق ﴿أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أي تعظمتم وتكبرتم من قبوله ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ يعني طائفة وجماعة كذبت الرسل كعيسى ومحمد، وطائفة يقتلون الرسل كيحيى وزكرياء وغيرهما.
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
9. رجع الكلام بعد مخاطبة اليهود إلى الحكاية عن سوء أفعالهم ومقالهم، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني اليهود ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي في غلاف؛ لأنه جمع أغلف، وأراد ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ فمنعت بذلك من درك ما دعوا إليه، وأنهم كذبوا في ذلك، فيبطل قول الجبرية: إنه كذلك؛ إذ لو كانوا صادقين لما بعثهم، ولكن كلفهم ما يطيقون، عن أبي علي وجماعة.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه لا مانع لهم من الإيمان من جهة الله، وأنهم من قبل أنفسهم أُتوا.
ب. أن أفعال العباد فعلهم كذلك أضاف القول والإيمان إليهم.
ج. يدل قوله: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أن معهم إيمانًا خلاف ما قاله الواقدي والكسائي؛ لأنه الأصل في الكلام والحقيقة.
د. يدل قوله: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ على أن العقاب يستحق بالعمل، وفي الآية زجر عن سلوك طريقتهم في القول في الجبر.
هـ. تدل على أن الرسول والكتاب لا يرد بما تهوى الأنفس، وإنما يرد بما يكون مصلحة.
و. على تقريع من اتبع الهوى وترك الدين، وفيها زجر عن سلوك طريقة اليهود، حيث فعلوا ذلك.
ز. على أن اليهود لم يفعلوا ما فعلوا من التكذيب محاماة على الدين، ولا تمسكًا بالكتاب، ولكن اتباعًا للهوى، وإيثارًا للدنيا، وفيه زجر لعلماء السوء الَّذِينَ يسلكون طريقتهم في ذلك.
ح. يدل قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ على أن كل واحد منهم على طريقة صاحبه، في القول والعمل، والتصديق لصاحبه، والدعاء إلى الله، وإن اختلفت شرائعهم؛ لأنه لا بد لكل نبي من شريعة، أو زيادة على شريعة، أو إحياء شريعة.. وقيل: في تصديق موسى، وموافقته والعمل بالتوراة والدعاء إلى التوحيد.
11. مسائل نحوية:
أ. اختلف بِمَا انتصب ﴿قَلِيلًا﴾ :
• قيل: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم كأنه قيل: فإيمانًا قليلاً لا يؤمنون، فنصبه؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، وقد قام مقامه ودل عليه.
• وقيل: انتصب بنزع حرف الصفة، أي بقليل يؤمنون، وقال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل، فنصبه على هذا، فيما قاله بعض أهل العلم، فصاروا قليلاً ما يؤمنون.
• وقيل: نصب على الحال.
ب. معنى (ما) ههنا هي صلة، أدخلها للتوكيد كقوله: ﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾، عن أكثر النحويين.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/478.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. قفينا أي: أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، وأصله من القفا، يقال: قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال دبرته، قال امرؤ القيس:
وقفى على آثارهن بحاصب... وغيبة شؤبوب من الشد ملهب
ب. الرسل: جمع رسول، كالصبر والشكر في جمع صبور وشكور.
ج. أيدناه: قويناه من الأيد والآد، وهما القوة، ومثلهما في البناء على فعل وفعل: الذيم والذام، والعيب والعاب، قال العجاج: (من أن تبدلت بآدي آدا) أي: بقوة شبابي قوة الشيب.
د. القدس: الطهر، والتقديس: التطهير، وقولنا في صفة الله تعالى القدوس أي: الطاهر المنزه عن أن يكون له ولد، أو يكون في فعله وحكمه ما ليس بعدل، وبيت المقدس: لا يخلو المقدس فيه إما أن يكون مصدرا، أو مكانا، فإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك، كما جاء: ﴿ أن طهر بيتي للطائفين ﴾ وتطهيره: إخلاؤه من الصنم، وإبعاده منه، فعلى هذا يكون معناه بيت مكان الطهارة، وإن كان مصدرا، كان كقوله: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال.
هـ. الهوى مقصورا والشهوة نظيران هوى يهوى هوى.
و. اللعن: هو الإقصاء والإبعاد، يقال: لعن فلان فهو ملعون، ثم يصرف مفعول منه إلى فعيل، فقيل: لعين، قال الشماخ:
وماء قد وردت لوصل أروى... عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا، ونفيت عنه... مقام الذئب كالرجل اللعين
2. ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإرسال رسله إليهم، وما قابلوه به من تكذيبهم، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾، أي أعطيناه التوراة، وأنزلنا إليه.
3. ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي أتبعنا من بعد موسى ﴿بِالرُّسُلِ﴾ رسولا بعد رسول، يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى وحدانية الله تعالى، والقيام بشرائعه على منهاج واحد، لأن كل من بعثه الله تعالى نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى عليه السلام، فإنما بعثه بإقامة التوراة، والعمل بما فيها والدعاء إلى ذلك.
4. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ :
أ. قيل: أي أعطيناه المعجزات، والدلالات على نبوته من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته.
ب. وقيل: أراد بالبينات الإنجيل وما فيه من الأحكام والآيات الفاصلة بين الحلال والحرام.
5. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي قويناه، وأعناه:
أ. بجبريل عليه السلام عن قتادة والسدي والضحاك والربيع، واختلف في سبب تسمية جبرائيل عليه السلام روحا على وجوه:
• أحدها، أنه يحيي بما يأتي به من البينات الأديان كما تحيى بالأرواح الأبدان.
• ثانيها، أنه سمي بذلك لأن الغالب عليه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، وإنما خص بهذا الاسم تشريفا له.
• ثالثها، أنه سمي به وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله تعالى إياه روحا من عنده من غير ولادة والد ولده.
ب. وقال ابن زيد: المراد بروح القدس الإنجيل، كما سمى الله تعالى القرآن روحا فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ فكذلك سمي الإنجيل روحا.
ج. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الروح الاسم الذي كان عيسى عليه السلام يحيي به الموتى.
د. وقال الربيع: هو الروح الذي نفخ فيه، فأضافه إلى نفسه تشريفا، كما قال: بيت الله و ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾
6. أقوى الأقوال والوجوه قول من قال هو جبرائيل عليه السلام، وخُص عيسى عليه السلام من بين الأنبياء بأنه مؤيد بجبرائيل، وكل نبي مؤيد به: لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره، فكان يسير معه حيث سار، ولما هم اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء، وكان تمثل لمريم عند حملها به، وبشرها به، ونفخ فيها.
7. اختلف في معنى القدس:
أ. قيل: هو الطهر.
ب. وقيل: هو البركة: عن السدي، وحكى قطرب أنهم يقولون قدس عليه الأنبياء، أي بركوا، وعلى هذا، فإنه كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، وكقول زكريا: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾
ج. وقيل: القدس هو الله تعالى عن الحسن والربيع وابن زيد وقالوا: القدوس والقدس واحد.
8. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ خطاب لليهود، فكأنه قال: يا معشر يهود بني إسرائيل، أكلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم تعظمتم وتجبرتم وأنفتم من قبول قوله.
9. ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ أي فكذبتم منهم بعضا ممن لم تقدروا على قتله مثل عيسى عليه السلام ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقتلتم بعضا مثل يحيى وزكريا وغيرهما، وظاهر الخطاب، وإن خرج مخرج التقرير، فهو بمعنى الخبر، وإنما أضاف هذا الفعل إليهم، وإن لم يباشروه بنفوسهم لأنهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم، وإن فعله أسلافهم.
10. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود وعن سوء مقالهم وفعالهم، فالمعنى: أنهم ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول، فقالوا: أي فائدة في إنذارك لنا، ونحن لا نفهم ما تقول، إذ ما تقوله ليس مما يفهم، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾
11. قال أبو علي الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنه لا يعلم وصف بأن عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا فمن ذلك قوله تعالى ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ لما كان القفل حاجزا بين المقفل عليه وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا جعل مثالا للقلوب بأنها لا تعي ولا تفقه، وكذلك قوله ﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾، و ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾، وقوله ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ كان شدة عنادهم تحملهم على الشك في المشاهدات ودفع المعلومات.
12. معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ على القراءة الثانية، وهي تحريك العين في غلف:
أ. قيل: هو على أن المراد أن قلوبنا أوعية للعلم، ونحن علماء، ولو كان ما تقوله شيئا يفهم أوله طائل لفهمناه.
ب. وقيل: المراد ليس في قلوبنا ما تذكره، فلو كان علما لكان فيها.
13. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ رد الله سبحانه عليهم قولهم، أي ليس ذلك كما زعموا، لكن الله سبحانه قد أقصاهم وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها بجحودهم به وبرسله.. وقيل: معنى لعنهم طبع على قلوبهم على سبيل المجازاة لهم بكفرهم.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
أ. قيل: معناه أن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كان معهم بعض الإيمان من التصديق بالله وبصفاته، وغير ذلك مما كان فرضا عليهم، وذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من التصديق بنبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به، والذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا، وإنما وصفهم بالقليل، كما يقال: قل ما رأيت هذا قط، أي ما رأيت هذا قط.
ب. وقيل: إن جعلت قليلا نصبا على الحال: أي يؤمنون قليلا، فمعناه: لا يؤمن به إلا نفر قليل، كعبد الله بن سلام وأصحابه.
15. في هذه الآية رد على المجبرة لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان، ويحول بينها وبينه، فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم، ولو كانوا صادقين لما استحقوا اللعن والطرد ولكان الله سبحانه قد كلفهم ما لا يطيقونه.
16. مسائل نحوية:
أ. اختلف في إعراب ﴿فَقَلِيلًا﴾، ومعناها هنا:
• قيل: منصوب بأنه صفة لمصدر محذوف وإنما حذف لأن الصفة تقوم مقامه وتدل عليه أي فإيمانا قليلا ما يؤمنون.
• وقيل: أنه منصوب على الحال أي يؤمنون وهم قليل.
• وقيل: وتقديره بقليل ما يؤمنون حذف الجار، فوصل الفعل إليه، فنصبه.
ب. اختلف في ﴿مَا﴾ هاهنا:
• قيل: مزيدة للتوكيد، ولا معنى لها كما في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، وتقدير الكلام فقليلا يؤمنون وكما في قول الشاعر:
• لو بأبانين جاء يخطبها... خضب ما أنف خاطب بدم
• وقيل: إن معنى ما هاهنا، هو أن يدل على غاية التنكير في الاسم، وفرط الإبهام فيه، كما يقال أمر ما وشيء ما إذا أريد المبالغة في الإبهام.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/306.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. قفّينا: أتبعنا، قال ابن قتيبة: وهو مأخوذ من القفا، يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره،
ب. البيّنات: الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى.
ج. أيّدناه: قوّيناه، والأيد: القوة.
2. في روح القدس ثلاثة أقوال:
أ. قيل: أنه جبريل، والقدس: الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ في آخرين، وكان ابن كثير يقرأ: (بروح القدس) ساكنة الدال، قال أبو عليّ: التخفيف والتثقيل فيه حسنان، نحو: العنق والعنق، والطّنب والطنب، وفي تأييده به ثلاثة أقوال؛ ذكرها الزّجّاج:
• أحدها: أنه أيّد به لإظهار حجّته وأمر دينه.
• الثاني: لدفع بني إسرائيل عنه إذا أرادوا قتله.
• الثالث: أنه أيّد به في جميع أحواله.
ب. وقيل: أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
ج. وقيل: أنه الإنجيل، قاله ابن زيد.
3. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ قرأ الجمهور بإسكان اللام، وقرأ قوم؛ منهم الحسن وابن محيصن بضمّها، قال الزّجّاج: من قرأ: ﴿غُلْفٌ﴾ بتسكين اللام، فمعناه: ذوات غلف، فكأنّهم قالوا: قلوبنا في أوعية، ومن قرأ (غلف) بضمّ اللام، فهو جمع (غلاف) فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم!؟ فعلى الأول؛ يقصدون إعراضه عنهم، وكأنهم يقولون: ما نفهم شيئا، وعلى الثاني يقولون: لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا.
4. في قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: فقليل من يؤمن منهم، قاله ابن عباس وقتادة.
ب. الثاني: أن المعنى: قليل ما يؤمنون به، قال معمر: يؤمنون بقليل مما في أيديهم، ويكافرون بأكثره.
ج. الثالث: أن المعنى: فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا، ذكره ابن الأنباريّ، وقال: هذا على لغة قوم من العرب، يقولون: قلّما رأيت مثل هذا الرجل، وهم يريدون: ما رأيت مثله.
د. الرابع: فيؤمنون قليلا من الزمان؛ كقوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾، ذكره ابن الأنباريّ أيضا.
هـ. الخامس: أن المعنى: فإيمانهم قليل، ذكره ابن جرير الطّبريّ.
5. اختلف في (ما) على قولين:
أ. أحدهما: أنها زائدة.
ب. الثاني: أن (ما) تجمع جميع الأشياء ثم تخصّ بعض ما عمّته بما يذكر بعدها.
__________
(1) زاد المسير: 1/87.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة، وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل أنفسهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة، زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية.
2. الكتاب: هو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة، روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها.
3. ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ : قفينا، أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء، أي بعد نحو ذنبه من الذنب، ونظيره قوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ [المؤمنون: 44]، روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض، والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام، فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة، واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها.
4. هناك من ذكر(2). أن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان، مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول، لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولًا لا شريعة معه أصلًا، تبين العقليات لهذه العلة، فكذا القول في مسألتنا: فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى.
5. الصحيح أنه يمكن أن يجوز أن يكون الرسول الثاني على شريعة الأول، لأن المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله.
6. هؤلاء الرسل هم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداوود، وسليمان وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.
7. السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول، ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاؤوا بشريعة موسى، فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأن شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام.
8. قيل عيسى بالسريانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم، وقيل: مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال، وبه فسر قول رؤبة: (قلت لزير لم تصله مريمة)
9. في البينات وجوه:
أ. أحدها: المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس.
ب. ثانيها: أنها الإنجيل.
ج. ثالثها: وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه، لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى.
10. اختلفوا في الروح على وجوه:
أ. أحدها: أنه جبريل عليه السلام، وإنما سمي بذلك لوجوه.
• الأول: أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال: حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل عليه السلام بذلك تشريفاً له وبياناً لعلو مرتبته عند الله تعالى.
• الثاني: سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء، والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم.
• الثالث: أن الغالب عليه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل.
• الرابع: سمي جبريل عليه السلام روحاً، لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات.
ب. ثانيها: المراد بروح القدس الإنجيل، كما قال في القرآن: ﴿رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]، وسمي به لأن الدين يحيا به، ومصالح الدنيا تنتظم لأجله.
ج. ثالثها: أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى، عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
د. رابعها: أنه الروح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله تعالى، فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيماً له وتشريفاً، كما يقال: بيت الله وناقة الله، عن الربيع، وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان.
11. إطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز، لأن الروح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه، ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث إن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل، فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض.
12. المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه:
أ. أحدها: لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراني، لطيف فكانت المشابهة أتم، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى.
ب. ثانيها: أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه.
ج. ثالثها: أن قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ يعني قويناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أولى.
د. رابعها: وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها، وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام، وهو الذي رباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء.
13. قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ فهو نهاية الذم لهم، لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليه ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك، ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم.
14. التعبير بقوله تعالى: ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ ولم يقل (فريقاً قتلتم) لوجهين:
أ. أحدهما: أن يراد الحال الماضية، لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب.
ب. الثاني: أن يراد فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لولا أني أعصمه منكم، ولذلك سممتم له الشاة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم عند موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري)
15. في الغلف ففيه ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها.
ب. ثانيها: روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة، فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. ثالثها: غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك.
16. ذكر بعضهم(3). أن هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان، لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول، فكان لا يكذبهم الله بقوله: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور، وهذا يدل على أن معنى قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الكهف: 57] وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ [يس: 8، 9] ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان، بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر، ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5] ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين في ذلك، ولو كانوا صادقين لما ذمهم، بل كان الذي حكاه عنهم إظهاراً لعذرهم ومسقطاً للومهم، أما قوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ ففيه أجوبة:
أ. أحدها: هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم، أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولًا، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.
ب. ثانيها: المراد من قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية، بل قوية وخواطرنا منيرة، ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم يجد منها شيئاً قوياً، فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول.
ج. ثالثها: لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [الأنعام: 20] [البقرة: 146] إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة، وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن القليل صفة المؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم.
ب. ثانيها: أنه صفة الإيمان، أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله، إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل.
ج. ثالثها: معناه لا يؤمنون أصلًا لا قليلًا ولا كثيراً كما يقال: قليلًا ما يفعل بمعنى لا يفعل ألبتة، قال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قليلًا ما تنبت، يريدون ولا تنبت شيئاً، والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155] ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم.
18. في انتصاب ﴿قَلِيلًا﴾ وجوه:
أ. أحدها: فإيماناً قليلًا ما يؤمنون (وما) مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب.
ب. ثانيها: انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون.
ج. ثالثها: فصاروا قليلًا ما يؤمنون.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/596.
(2) الكلام في هذه المسألة كله نسبه للقاضي، وعقب عليه، الكلام في هذه المسألة كله نسبه للمعتزلة، تفسير الفخر الرازي: 3/598.
(3) الكلام في هذه المسألة كله نسبه للمعتزلة، تفسير الفخر الرازي: 3/598.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أي أتبعنا، والتقفية: الاتباع والإرداف، مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق، تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام، والقافية: القفا، ومنه الحديث: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم)، والقفي والقفاوة: ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بفجور، وفلان قفوتي أي تهمتي، وقفوتي أي خيرتي، قال ابن دريد كأنه من الأضداد.
2. هذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾، وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة، والامر بلزومها إلى عيسى عليه السلام.
3. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أي الحجج والدلالات، وهي التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة.
4. ﴿ أَيَّدْناهُ ﴾ أي قويناه، ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ :
أ. روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام، وهو أظهر، قال حسان:
وجبريل رسول الله فينا... وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا، وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل، وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل.
ب. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير، وهو اسم الله الأعظم.
ج. وقيل: المراد الإنجيل، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾
5. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ﴾ أي بما لا يوافقها ويلائمها، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي بما لا تهواه، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، وبجمع أهواء، كما جاء في التنزيل، ولا يجمع أهوية، على أنهم قد قالوا في ندى أندية، قال الشاعر:
في ليلة من جمادى ذات أندية... لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
قال الجوهري: وهو شاذ، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الآية من ذلك، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عائشة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
6. ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن إجابته احتقارا للرسل، واستبعادا للرسالة، ﴿فَفَرِيقًا﴾ منصوب بـ ﴿كَذَّبْتُمْ﴾، وكذا ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام.
7. ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ بسكون اللام جمع أغلف:
أ. أي عليها أغطية، وهو مثل قول: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ ) أي في أوعية، قال مجاهد: ﴿غُلْفٌ﴾ عليها غشاوة، وقال عكرمة: عليها طابع، وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافا، فقلب أغلف، أي مستور عن الفهم والتمييز.
ب. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا غيره.. وقيل: هو جمع غلاف، مثل خمار وخمر، أي قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علما كثيرا! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ثم بين أن السبب في نفورهم عن الايمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.
9. أصل اللعن في كلام العرب الطرد والابعاد، ويقال للذئب: لعين، وللرجل الطريد: لعين، وقال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه... مقام الذئب كالرجل اللعين
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل، فالمعنى:
أ. قيل: أبعدهم الله من رحمته.
ب. وقيل: من توفيقه وهدايته.
ج. وقيل: من كل خير، وهذا عام.
10. ﴿فَقَلِيلًا﴾ نعت لمصدر محذوف:
أ. قيل: تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون، وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، ويكون ﴿فَقَلِيلًا﴾ منصوب بنزع حرف الصفة، و ﴿مَا﴾ صلة، أي فقليلا يؤمنون.
ب. وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، كما تقول: ما أقل ما يفعل كذا، أي لا يفعله البتة، وقال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/24.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. روح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الروح المقدّسة، والقدس: الطهارة، والمقدّس: المطهر:
أ. قيل: هو جبريل أيّد الله به عيسى، ومنه قول حسان: وجبريل أمين الله، قال النحاس: وسمّي جبريل روحا وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة.
ب. وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل.
ج. وقيل: المراد بروح القدس: الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.
د. وقيل: المراد به الإنجيل.
هـ. وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوّة.
2. ﴿بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ﴾ أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء، قال الجوهري: وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار.
3. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ منكم ﴿بِمَا لَا﴾ يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسل واستبعادا للرسالة، والفاء في قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا﴾ للعطف على مقدّر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول، وفريقا منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذّبين: عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين: يحيى وزكريا.
4. الغلف: جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلّفت السيف: أي جعلت له غلافا، قال في الكشاف: هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ وقيل: إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علما كثيرا.
5. رد الله عليهم ما قالوه فقال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ وأصل اللعن في كلام العرب: الطرد والإبعاد، ومنه قول الشمّاخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه... مقام الذّئب كالرّجل اللّعين
أي كالرجل المطرود، والمعنى: أبعدهم الله من رحمته.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/130.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدَ ـ اتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ المعهود: التوراة، أو الجنس فيشمل الصحف المنزَّلة عليه قبلها ﴿وَقَفَّيْنَا من بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ التشديد للمبالغة، والباء للتعدية، والمفعول محذوف، أي: قَفَوْنا (بتخفيف الفاء) بالرسل، أي: تَبعناه بالرسل، أي: أتبعناه الرسل، وهذا أولى من جعل التشديد للتعدية إلى آخَر، والباء صلة، أي: قفَّيناه الرسل؛ لأنَّ كثرة مجيئه في القرآن تُبعد هذا.
2. والرسل: يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وأشعياء وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكرياء ويحيى وغيرهم، ويقال: عدد الأنبياء بين موسى وعيسى عليهما السلام سبعون ألفًا، وقيل: أربعة آلاف، وكلُّهم على شريعة موسى عليه السلام ، وبينهما ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة، ولا حجَّة لهذه الأعداد والعلم عند الله.
3. ومعنى إتباع الرسل من بعده الإتيان من بعده برسول، وبآخر بعده، وباثنين في زمان وبثلاثة في آخر، وما أشبه ذلك من انفراد رسول بزمان، ومن تعدُّده في زمان ـ كما مرَّ ـ أنَّهم قتلوا سبعين نبيئًا في يوم واحد، وروي أنَّه لم يطق موسى أن يحمل التوراة فأعانه الله على حملها بملائكة عدد حروفها فلم يقدروا فخفَّفها الله بالنقص فحملها، ويبعد ما قيل: إنَّ المراد بإيتاء التوراة إفهامه معانيها له.
4. ﴿وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾، لفظ عيسى سريانيٌّ أو عبرانيٌّ، قولان، كما هو مراد القاموس بـ (أو) على عادته وليس ترديدًا، وهو معرَّب من إيسوع، بهمزة بين بين، أو مكسورة، ومعناه: المبارك أو السيِّد، وقيل: اليشون بالشين المعجمة، أبدلت سينًا.
5. ومريم بالسريانيَّة الخادم، سُميت لأنَّها أريد بجنين هو هي أن يكون خادمًا لبيت المقدس لو كان ذكرًا، أو معنى مريم العابدة، والعابدة خادمة لله تعالى ، وفي لغة العرب: مريم المرأة التي تحبُّ التكلُّم مع الرجال ومخالطتهم، وعليه فمعنى مريم المرأة التي لا تحبُّ ذلك، كقولهم للأسود كافورًا، وقيل: تتحدَّث معهم ولا تفجر، وقيل: من شأن من تخدمها الرجال والنساء أن تتحدَّث معهم فسمِّيت بذلك.
6. ﴿الْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالغيوب، وليس المراد الإنجيل كما قيل؛ لأنَّ اليهود كفروا به، فإنَّما يقمعون بتلك المعجزات، والآية في قمعهم وذكر عيوبهم، إذ لم يستقيموا مع المعجزات، لا بالإنجيل؛ لأنَّه ليس معجزًا، وخصَّ عيسى مع أنَّه من الرسل بعد موسى لأنَّه جاء بالإنجيل ناسخًا لبعض التوراة، فلم يكن كمن قبله من أتباع موسى.
7. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قوَّيناه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل يسير معه حيث سار مقارنًا له من حين ولد إلى أن رفعه الله إلى السماء ابن ثلاث وثلاثين سنة، وسمِّي جبريل روحًا تشبيهًا بروح الإنسان مثلاً في أنَّ كلًّا جسم لطيف نورانيٌّ، وأنَّ كلًّا مادَّة للحياة، فما يجيء به جبريل من الوحي لحياة القلوب كالروح لحياة الأبدان، وأضيف للطهر لطهارته عن مخالفة الله تعالى ، قيل: خصَّ بذلك اللفظ لأنَّه من ولادته كحاله بعد الرسالة، ولا تقلْ: ذلك من إضافة المنعوت إلى النعت، وأنَّ الأصل: الروح المقدَّسة، أو ذات القدس، بل من إضافة الشيء إلى حال من أحواله، ليُخَصَّ به أو يعرف أو يُمدح أو لنحو ذلك، أو روح القدس روحٌ مِن مُلك لله، أو روح عيسى أضيفت للقدس، لعظم شأنه، أو لأنَّه منزَّه عن مسِّ الشيطان، فتنزيهه تنزيه لروحه، أو أضيفت لكرامته على الله، أو لأنَّه لم يكن في رحم حيض، وقيل: حاضت حيضتين، وحملته ذات عشر سنين أو ثلاث عشرة، أو روح القدس: الإنجيل، كما قال الله في شأن القرآن: ﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنَ اَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]، أو اسم الله الأعظم، كما أنَّ القُدُّوس اسمه، وقيل: القدس اسمه والاسم الأعظم غيره، وقيل: إنَّه اسمه الأعظم الذي كان يحيي به الموتى، وقيل: لأنَّه قصده سبعون ألف يهوديٍّ لقتله فظهره الله عنهم.
8. ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ أفعلتم ما فعلتم، أو أكفرتم فكلَّما جاءكم رسول ﴿بِمَا لَا تَهْوَى﴾ تحبُّ ﴿أَنفُسُكُمُ﴾ من الحقِّ ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أي: أتكبَّرتم كلَّ وقت مجيء رسول بما لا يوافق هواكم عن اتِّباعه، ﴿فَفَرِيقًا﴾ منهم ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ كعيسى، وقدَّم التكذيب لأنَّه عامٌّ منهم، لمن لم يقتلوه ولمن قتلوه، ولأنَّه سبب للقتل، ﴿وَفَرِيقًا﴾ منهم ﴿تَقْتُلُونَ﴾ تحقيقًا، كيحيى وزكرياء، وفي قتل زكرياء خلاف، أو حكمًا كما قصدوا قتل عيسى فخابوا، والمراد: قتلتم، ولكنَّ المضارع تنزيل لما مضى من القتل منزلة الحاضر المشاهَد، أو الموجودين الآن منزلة من مضى وحضر؛ لأنَّ مشاهدة الشيء أقوى.
9. وخوطبوا بالقتل والتكذيب لرضاهم عن آبائهم الفاعلين لذلك، ولأنَّهم يحاولون قتل النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بإلقاء الصخرة، وبسمِّ الشاة؛ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما زالت أكلة خيبر تعاديني ـ أو تعاودني ـ فالآن قطعت أبهري) فمات بقتلهم وغير ذلك.
10. والجملتان عطفتا على (اسْتَكْبَرْتُمْ) لا على (أَيَّدْنَا) كما أجازه بعض، وقدَّم (فَرِيقًا) في الموضعين على طريق الاهتمام وللتشويق إلى ما بعد، وكذا تقول بالتشويق في سائر القرآن إذا صلح المقام له؛ وعلى طريق، لأنَّ الله تعالى منزَّه عن الاهتمام، وبدأ بالتكذيب لأنَّه أوَّل ما يفعلونه، ولأنَّه المشترك بين المكذَّب والمقتول.
11. ﴿وَقَالُواْ﴾ للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم استهزاء به صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أَغْلَف، كحُمْرٍ جمع أحمر، طُبعت على أن لا يصل إليها ما يُذكَر من الوعظ والأمر والنهي، كشيء متغطٍّ أغلف بغطاء حسِّيٍّ، فالآية تشبيه أو استعارة كما في: (زيد أسد)، ولا يوجد في اللغة الغلفة بمعنى الرين حقيقة، بل مجاز كما أريد في الآية، والرين واقع في قلوبهم تحقيقا، وكَذَبُوا في قولهم: خُلِقَتْ لا يصل إليها ذلك؛ لأنَّهم متمكِّنون من الفهم وأعرضوا ـ كلُّ مولود يولد على الفطرة ـ فذلك الإعراض كان به الرين، وبعضهم فَهِمَ الحقَّ وجحد، وذلك الجحود رينٌ، والرين غطاء لما بعد ذلك، أو فعلوا ما يورثهم الإعراض والجحود، وذلك الفعل رينٌ مانعٌ عن النظر والقبول وترك الجحود، أو جمع غلاف فأصْله ضمُّ اللَّام، سُكِّن تخفيفا، ككتاب وكتب، أي: أوعية للعلم؛ فلو كان قولك حقّاً لَوَعَتْه، أو استغنينا بما فيها من العلم بالتوراة، أو بسلامة الفطرة عن غيره كما يَمنعُ الغلافُ الزيادة.
12. ﴿بَلْ﴾ أي: ليس كما قالوا من الخلقة على عدم الفهم، أو امتلائها علمًا، ومن عدم حقِّيَّة ما يقول محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿لَّعَنَهُمُ اللهُ﴾ أبعدهم بالخذلان عن القبول، ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: بكفرهم السابق الذي جرَّ إليهم قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، ولم تأبه قلوبهم لعدم كونه حقًّا فإنَّه حقٌّ، ولكن خذلهم الله تعالى ، أو أبعدهم عن رحمته بكفرهم هذا الذي هو قولهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾.
13. ﴿فَقَلِيلاً مَّا﴾ صلة لتأكيد القلَّة ﴿يُومِنُونَ﴾ أي: يؤمنون إيمانًا قليلاً جدًّا لقلَّة ما آمنوا به، أو لقلَّة من آمن، أو زمانًا قليلا، فإنَّ قلَّة ما آمنوا به قلَّة لزمان يوقع فيه الإيمان، ولو كثر ما أومن به لكثر زمان الإيمان، إذ تنزل الآية فيؤمنون بها، وتنزل الأخرى في زمان فيؤمنون وهكذا.. وقلَّة من آمن قلَّة لزمان إيقاع الإيمان، إذ لو كثر من آمن لوقع إيمان هذا في زمان وهذا في زمان آخر، وهكذا.. فتكثر أزمنة إيقاع الإيمان، وَأَمَّا قولهم: ﴿آمِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الآية [آل عمران: 72]، فلا تفسَّر به القلَّة هنا لأنَّها غير حقيقة؛ لأنَّها خدعة وكذب، وهنا حقيقة، أو أراد بالقلَّة النفي، كما جاء أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يقلُّ اللغوَ)، ولا مانع من ذلك؛ وقيل: المراد إيمانهم حال الاحتضار تحقيقًا، لكن لا يُقبل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/156.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ يقال: قفّاه به أتبعه إياه، من التقفية وهي متابعة شيء شيئا، كأنه يتلو قفاه، وقفا الصورة منها، خلفها المقابل للوجه، والمعنى لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى، ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود.
2. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى﴾ اسم معرّب أصله يسوع، لفظة يونانية بمعنى مخلص، ومثله يشوع، بالمعجمة، في اللغة العبرانية ﴿ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
3. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ أي قويناه على ذلك كله ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ بالروح المقدسة كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق، وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه وميزه بها عن غيره ممن خلق، قال تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: 171]، ولذا كان له، صلّى الله عليه وآله وسلّم، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى، وعن الحسن البصري: القدس هو الله، وروحه جبريل، والإضافة للتشريف، والمعنى أعنّاه بجبريل، قال الرازيّ: والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ [النحل: 102]، وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام، ببيان حقيته وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام.
4. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ﴾ من الحق، أي لا تحبه، من هوى كفرح، إذا أحب ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى ﴿فَفَرِيقًا﴾ منهم ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ إذ لم تنل أيديكم مضرّته ﴿وَفَرِيقًا﴾ آخر منهم ﴿تَقْتُلُونَ﴾ غير مكتفين بتكذيبهم.
5. ﴿وَقَالُوا﴾ بيان لنوع آخر من مخازيهم، والقائلون المعاصرون للنبيّ عليه السلام ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ هذا كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: 5]، أي هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها، فلا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن.
6. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق، وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم، وهذا كما قال في سورة النساء: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155]
7. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (ما) مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون، وهو إيمانهم ببعض الكتاب.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/348.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عهد في سيرة البشر أن الأمة توعظ وتنذر، فتتعظ وتتدبر،، فاذا طال عليها الأمد بعد النذير تقسو القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، وتفسق عن أمر ربها، وتنسى ما لم تعمل به مما أنذرت به، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل، وزخرف القال والقيل، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدم وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن.
2. بين الله تعالى هذه السنة الاجتماعية في سورة الحديد بقوله ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في إثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا، ولا يعرف التاريخ شعبا جاءت فيه الرسل تترى كشعب اسرائيل، لذلك كانوا بمعزل عن صحة العذر بطول الأمد على الانذار، وفى ناحية عما يرجى قبوله من التعلل والاعتذار، لهذا قال تعالى بعد كل ما تقدم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ فلم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم إلا وكان فيه نبيّ مرسل أو أنبياء متعددون يأمرون وينهون كأنه يقول اعلموا يا بنى اسرائيل أنه إن كان لطول الأمد على النبوة وبعد العهد بالرسل يدفى تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع، وكان في ذلك وجه لاعتذار بعض المتأخرين، فان ذلك لا يتناولكم، فان الرسل قد جاءتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان.
3. ذكر رسل بنى اسرائيل بالإجمال لبيان ما ذكر، ثم خص بالذكر المسيح عليه السّلام، فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، فأما البينات فهي ما يتبين به الحق من الحجج القيمة والآيات الباهرة، والمراد بها ما دعا إليه من أحكام التوراة.
4. روح القدس: هو روح الوحى الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم؛ وهو هو المراد بقوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾، ويطلق عليه روح القدس لأن التعليم الذي يكون به مقدس أو لأنه يقدس النفوس، كما يطلق عليه (الروح الأمين) لأن النبيّ الموحى إليه يكون على بينة من ربه فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه، قال تعالى في القرآن ﴿نَزَّلَ﴾ 26: 193، 194 ﴿بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾
5. ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بروح القدس الملك المسمى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء، ومنه يستمدون الشرائع عن الله تعالى، وهو على حد قولهم (حاتم الجود)، وذكر بعضهم وجها آخر وهو أن المراد بها روح عيسى نفسه، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه، أو لأنه أنزل عليه الانجيل بالتعاليم التي تقدس النفوس، بل قال بعضهم: إن روح القدس هو الانجيل، والمراد من الكل واحد، وهو أن الله تعالى أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى، وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك الرسل من الوحى أو من قوة الروح، وزكاء النفس ومكارم الاخلاق، ونسخ بعض الأحكام.
6. كان حظه مع ذلك منهم كحظ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتى ماذا كان حظ أولئك الرسل من بنى اسرائيل؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾، فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾
7. كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الاستفهام لتفاجئ النفوس بقوة التشنيع والتقبيح، وتبرز لها في ثوب الانكار والتوبيخ، وفى ذلك الايماء إلى أن هذه المعاملة السوأى مما لا يخفى خبرها، ولا تغيب عن الانكار صورها، فلا ينبغي الالماع إليها، إلا في سياق تقريع مجترحيها، وهذا من إيجاز القرآن، الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان.
8. انظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدل على الحال لاستحضار تلك الصورة الفظيعة وتمثيلها للسامع حتى يمثلها في الخيال، وإن مرت عليها القرون والأحوال لأنها أفاعيل لا تخلق جدتها، ودماء لا تطير رغوتها، وإن مثل هذا التعبير ليمثل تلك الصورة المشوهة لأن الالفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوره بالصورة اللائقة به، فيكون له من التأثير ما يناسبه.. قتلوا من الأنبياء المرسلين زكريا ويحيى عليهما السّلام، ويروى أنهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيا، فان صح هذا فالمراد بأولئك الأنبياء من كانت نبوتهم محصورة في الدعوة إلى إقامة التوراة، ودليلها محصورا في الإنباء ببعض المغيبات، وكان هذا الفريق منتشرا في أسباط بنى اسرائيل وكثيرا بكثرتهم.
9. في هذه الآية حجتان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حجة على بنى إسرائيل وحجة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته، وبيان أن المجاحدة والمعاندة من شأنهم ومما عرف من شنشنتهم، وناسب بعد هذا أن يذكر ما كانوا يعتذرون به عن الايمان به، والاهتداء بكتابه، بعد تقرير الدعوة، وإقامة الحجة، فقال: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ الغلف بضم وسكون وبضمتين جمع أغلف، وهو ما يحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء، والمراد أننا لا نعقل قولك ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك فهو بمعني قوله تعالى ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾
10. رد الله تعالى عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم فقال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي أن قلوبهم ليست غلفا لا تفهم الحق بطبعها، وإنما أبعدهم الله تعالى من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه، فكان ذلك سببا في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيين، هذا هو معنى اللعن وقد ذكرت معه علته ليعلم أنه جرى على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات وأن الله لم يظلمهم بهذا، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان، كما هي السنة في أخلاق الإنسان، ولما ذكر اللعن معللا بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم، وكان مما يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين، بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم، استدرك فقال ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ وإنما القلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان، وتحكيمه في الفكر والوجدان.
11. لقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان، ورسما يلوح في الخيال، تكذبه الأعمال، وتطمسه السجايا الراسخة والخلال، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى، ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة، والأساليب المؤثرة، وأهل القرآن عن ذلك غافلون، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون.
12. من مباحث اللفظ في الآية: أن كثيرا من المفسرين يزعمون أن (ما) زائدة وما هي بزائدة وفاقا لابن جرير الطبري وجل القرآن أن يكون فيه كلم زائدة وإنما تأتى (ما) هذه لإفادة العموم تارة ولتفخيم الشيء تارة، ويقول ابن جرير: إنما يؤتى بها في مثل هذا المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم كأنه قال فإيمانا قليلا ذلك الذي يؤمنون به، وأما التي لتفخيم الشيء فكقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم، وقد بين تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ ﴾، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
13. هذا ما اختاره محمد عبده في تفسير قوله تعالى ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾، وهناك وجه آخر أورده ابن جرير في تفسيره، وهو أنه لا يؤمن بالنبي وما جاء به إلا قليل منهم، والاستدراك على هذا الوجه أظهر، فإنه لما بين أن كفرهم المستقر، وعصيانهم المستمر، كانا سببا في لعنهم وإبعادهم، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم، فجاء قوله تعالى ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه، وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا، وإنما غمر الأكثرين، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل، وكذلك كان، أقول: وفيه من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق مالا يعهد في كلام الناس.
__________
(1) تفسير المنار: 1/377.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل، يرشد إلى هذا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
2. من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذّبوه، ومنهم من قتلوه.
3. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ أي ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهى التوراة، ثم أتبعنا من بعده رسولا بعد رسول مقتفين أثره، فلم يمض زمن إلا كان فيه نبيّ أو أنبياء يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع أو تحريفها وتغيير أوضاعها.
4. ثم خصّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ أي وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدل على صدق نبوته وأنه موحى إليه من ربه، وأيدناه بروح الوحى الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم كما قال ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ الآية، وأرسلناه بعد ظهور كثير من الرسل ولم يكن حظه بينهم أحسن من حظ سابقيه.
5. ثم بيّن ماذا كان حظ الرسل من بنى إسرائيل فقال: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أي أبلغ الأمر بكم أنكم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهوى نفوسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا في الأرض؟
6. ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم.
7. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به، ونحو هذا قولهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ القائلون هم الذين كانوا منهم عصر التنزيل.
8. ثم رد عليهم وكذبهم فيما زعموا فقال: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي ليس الأمر كما يدّعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم.. وقد ذكر اللعن وعلته جريا على سنة الله في ربط المسببات بأسبابها، وبيان أن الله لم يظلمهم بهذا، بل هم ظلموا أنفسهم بالتمادي في الكفر والعصيان.
9. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سبق فقال: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرّك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة.. وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير: إنه لا يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به إلا القليل منهم، فالمخالفة لم تغمر كل الشعب، بل غمرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/166.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام، وإبائهم الدخول فيه، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم.. فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم، ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق، الذي لا يخضع لأهوائهم.
2. وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى عليه السلام وقد آتاه الله الكتاب، ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى، يقفو بعضهم بعضا؛ وكان آخر هم عيسى بن مريم، وقد آتاه الله المعجزات البينات، وأيده بروح القدس جبريل عليه السلام فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم؛ والذي لا يملكون هم إنكاره، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به.
3. محاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلبة، ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته، المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت ـ غير المصدر الإنساني المتقلب ـ مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة، وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى!
4. قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وحكموا أهواءهم وشهواتهم، وقتلوا فريقا من الهداة وكذبوا فريقا، ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل، من الفرقة والضعف، والذلة والهوان، والشقاء والتعاسة.. إلا أن يستجيبوا لله ورسله، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم، وإلا أن يأخذوه بقوة، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون.
5. ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم، يبينه ويقرره، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد، فإذا هم هم، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل.
6. إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد، ويتحول ـ في بعض المواضع ـ إلى صواعق وحمم.. إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة، وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم..
7. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .. قالوا: إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيسا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمسلمين، من دعوتهم إلى هذا الدين؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول..
8. يقول الله ردا على قولتهم: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ .. أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم.. فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى.
9. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .. أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم، أو أن هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم.. وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/90.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قصة بنى إسرائيل مع رسل الله، تكشف عن العناد الصبياني الذي تنطوي عليه طبيعة القوم، فهم مع كل رسول مكرة معاندون، لا يجمعهم إليه رحم، ولا يمسك بهم معه إيمان.. فما لقى منهم أنبياؤهم إلا البهت والتكذيب، أو التطاول بالأذى والقتل..
2. من أساليبهم الخبيثة في قطع الوسائل بينهم وبين حملة الهدى إليهم من أنبيائهم، أنهم إذا أعيتهم الحيل فيهم، وفضحتهم الحجج معهم، وضاقت عليهم سبل الإفلات من الآيات المشرقة التي تطلع عليهم من كل أفق ـ لا يتحرجون من أن يلصقوا بأنفسهم التّهم ويقولون فيما يقولون: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾!
3. هكذا هم حقّا، ولكن القوم يقولونها بألسنتهم لا عن اعتراف بالحق، ولا عن شجاعة في كشف عيوب النفس بغية إصلاحها، ولكن يقولون ذلك تخابثا واحتيالا، ليتخلصوا من يد الحق المستولية عليهم، ولهذا كان ردّ الله زاجرا قاتلا: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي أنهم واقعون تحت لعنة الله، فإذا آمن أحدهم فلا يخالط الإيمان كيانه، وإنما يلمّ به إلماما، وقد أشرنا إلى هذا في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾!
4. إن الحق عند القوم ليس حقّا لأنه حق في ذاته، وإنما يكون حقّا يأخذون به، ويلتزمونه، إذا هو حقق لهم نفعا عاجلا، وكسبا ذاتيا، وإلا فهو باطل الأباطيل، يسلقونه بألسنتهم، ويرمونه بأيديهم.. هكذا هم في قديمهم، وكذلك هم في حديثهم!
5. كان علمهم من التوراة يحدثهم بأن نبيا سيظهر في العرب، وأن الله قد أخذ على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء، الميثاق؛ أن يكونوا مع هذا النبيّ إذا ظهر، وجاءهم بكتاب مصدق لما معهم.. وقد تحدّث اليهود إلى العرب بهذا، وبأنهم سينتصرون لهذا النبيّ ويكونون معه وبه قوة على العرب المشركين.. فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وبدأ دعوته بعشيرته الأقربين امتثالا لقوله تعالى ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾، وحين سبق إلى الإيمان به نفر من قومه، تردد اليهود وتوقفوا، ثم لما أن سبقهم الأنصار من الأوس والخزرج إلى الإيمان، تنمّروا وتنكروا، وأخذوا يمكرون بالدعوة الإسلامية، ويظاهرون مشركي قريش عليها، إذ أن سبق من سبق من المهاجرين والأنصار قد فوّت عليهم الاستيلاء على الدّعوة وحجزها في محيطهم وحدهم دون الناس، لأنهم يريدون أن يستولوا على كل شيء، ويستأثروا بكل شيء، فإن كان أمر لأحد معهم فيه نصيب أعلنوا الحرب عليه، وحاولوا إفساده بكل سبيل، حتى لا ينتفع به!
6. ولهذا تشوه دعوة الإسلام في أعينهم ويتحول الحق الذي عرفوه إلى باطل، يأتمرون به ويحاربونه، سرا وجهرا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/108.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ تمهيد للمعطوف، وهو قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ الذي هو المبني عليه التعجب في قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾، فقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة، فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا، ولكنه ذكر ليبني عليه ما بعده، فكأنه تحصيل لما تقدم، أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب، وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
2. ﴿قَفَّيْنَا﴾ مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه، فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية، وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك، لا من تلقاء نفسه، أي جعلته يقفوه غيره، ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا: قفّى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا: قفى زيدا عمرا، فمعنى ﴿ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول ﴿قَفَّيْنَا﴾ للعلم به وهو ضمير موسى.
3. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
4. الجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس، وهو مراد به التكثير، قاله الزمخشري أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق، فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس، كقولك: لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال، إذا شهده جماعات كثيرة، وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي.
5. سُمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا، وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا، وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر: لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاؤوا بشرع جديد، ولو مع المحافظة على الشرع الأول، أو تجديد ما اندرس منه، وهو قريب مما قلناه قال تعالى: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 123] وقال: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 139]
6. ما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا، وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه، ولذلك أيضا خصه بقوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.
7. عيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع، وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة، وثقل ترتيب حروف الكلمة، فإن حرفي علة في الكلمة وشينا، والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها، فقدموا العين لأنها حلقية، فهي مبدأ النطق، ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة، وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة، فلله فصاحة العربية.. ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.
8. مريم هي أم عيسى، وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته، ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم، إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس، فلذلك يقولون: (امرأة مريم)، أي معرضة عن صفات النساء، كما يقولون: (رجل حاتم)، بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف، ولذلك قال رؤبة: قلت لزير لم تزره مريمة.. فليس هو مشتقا من رام يريم كما قد يتوهم، وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادرا.
9. البينات: صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات.
10. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد، فأيد بمعنى جعله ذا يد، واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل، والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾ [ص: 17] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة، والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية، وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه.
11. الروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: 85] ويطلق على:
أ. قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب، ومنه قوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم: 12]
ب. ويطلق على جبريل عليه السلام كما في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194] وهو المراد في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر: 4] وقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [النبأ: 38]
12. القدس: بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة.. والمقدس المطهر، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30]
13. روح القدس: روح مضاف إلى النزاهة:
أ. يجوز أن يكون المراد به: الروح الذي نفخ الله في بطن مريم، فتكوّن منه عيسى، وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة.
ب. ويجوز أن يكون المراد به جبريل، والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي، وينطق على لسانه في المهد، وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها)
14. على كلا الوجهين فإضافة (روح) إلى (القدس) إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة، ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه، وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف، وإلى هذا قال التفتازانيّ في (شرح الكشاف) وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون في الوصف بالمصدر.
15. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.
16. تقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب، وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف، وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره، ولهم في ذلك طريقتان:
أ. إحداهما طريقة الجمهور قالوا: همزة الاستفهام مقدمة من تأخير، وقد كان موقعها بعد حرف العطف، فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل (أين)، ومنها حرف تحقيق وهو (هل) فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأ كلما جاءكم رسول فقلب.. وقيل: أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.
ب. الطريقة الثانية طريقة الزمخشري، وفي (مغني اللبيب) أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور، وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة، وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ، وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما.
17. الظاهر من كلام الزمخشري في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق.
18. يمكن إضافة طريقة ثالثة، وهي أن يكون الاستفهام عن العطف، والمعنى: أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول.. وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ في سورة يونس [51] وقوله النابغة:
أثم تعذّران إلى منها... فإني قد سمعت وقد رأيت
وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.
19. معنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل، أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم، وجوز الزمخشري كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب.. ففعلتم ثم وبخهم بقوله: ﴿أَفَكُلَّمَا﴾، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها.
20. انتصب (كلما) بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله: ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في (كلما) على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها.
21. ﴿تَهْوَى﴾ مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.
22. الاستكبار: الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم، فالسين والتاء في ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: 34] وقوله: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ مسبب عن الاستكبار، فالفاء للسببية، فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ [هود: 9].
23. تقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: 30]، وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [آل عمران: 159].
24. التفصيل راجع إلى ما في قوله: ﴿رَسُولٌ﴾ من الإجمال لأن ﴿ كلما جاءكم رسول ﴾ أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام، فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساؤوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية، وحملوه على قصد التغرير بهم، والسعي لإهلاكهم، كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر، وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه وأرمياء.
25. جاء في ﴿تَقْتُلُونَ﴾ بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله: ﴿ اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ ﴾ [الروم: 48] مع ما في صيغة ﴿تَقْتُلُونَ﴾ من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
26. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ إما عطف على قوله: ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أو على ﴿كَذَّبْتُمْ﴾، فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع: تكذيب وتقتيل وإعراض.
27. على الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور، فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه، فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية.
28. حسّن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية، وهو غرض جديد، فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شئونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين، وأجرى على اليهود ضمير الغيبة، على أنه يحتمل أن قولهم ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: 92]، والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.
29. الغلف: بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلّفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له.. وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم، وهو كقول المشركين: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5]
30. في الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات، ولذلك قال المفسرون: إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقا لوعته.
31. هذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه، وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون (غلف) جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل.
32. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير، فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق، وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة، وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.
33. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ تفريع على ﴿لَعَنَهُمُ﴾ و ﴿فَقَلِيلًا﴾ :
أ. صفة لمحذوف دل عليه الفعل، والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل، والضمير لمجموع بني إسرائيل.
ب. ويجوز أن يكون (قليلا) صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون.
ج. وقيل: يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة.
د. ويجوز أن يكون (قليلا) هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي:
قليل التشكي للمهم يصيبه... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
ويقولون: فلان قليل الحياء، وذلك كله إما مجاز، لأن القليل شبه بالعدم، وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال، فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون (ما) مصدرية والوجهان أشار إليهما في (الكشاف) باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ في سورة النمل، فقال: (والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي) وكأنّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم، فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له، كيف وخطابهم بقوله: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/576.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بنى إسرائيل، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم، وحمايتهم لأنفسهم، بعد ذلك، ذكر استقبالهم للرسل، وكتبهم فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾
2. الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام هو التوراة، وليس هو الذي يطلقون عليه اسم التوراة:
أ. أولا: لأنه يشتمل على أخبار الأنبياء من بعده داوود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذي جاؤوا من بعده، فلا يمكن بالبداهة أن يكون قد نزل على موسى ما جاء بعده من أخبار نبيين جاؤوا من بعده بمئات السنين.
ب. ثانيا: لأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ونسوا حظا كثيرا مما نقل إليهم، ولا يزالون يحرفون، ويغيرون ويبدلون، ويعبثون، وإن الكتاب الذي نزل على موسى هي الأسفار الخمسة، وقد حرفوها وغيروا وبدّعوا، ولا يزالون يفعلون، أتى الله تعالى موسى عليه السلام الكتاب الصادق، الذي هو حجة عليهم، وليس ما بأيديهم حجة لهم لأنهم كتبوه بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ .
3. أرسل الله تعالى الرسل من بعد موسى، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾، أي جاء بعده رسل تترى، رسولا بعد رسول، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول، وراء رسول، لأن التقفية التتابع، بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه.
4. معنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد، وغاية واحدة، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينته إلى نقطة واحدة، وهى الوحدانية، والتكليفات الإلهية الواحدة، كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾
5. ذكر الله تعالى بعد ذلك عيسى عليه السلام، وقد بعث في اليهود، أي كانت دعوته الأولى في اليهود، ومعه المعجزات الباهرة، فقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى، وقفاهم الله تعالى به، رسولا بعد رسول، فهو رسول من بينهم، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته، ولكنهم كفروا.
6. ذكر الله تعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن، منها ما جاء في سورة آل عمران، فقد قال تعالى مبشرا مريم بولادة المسيح عليه السلام، وهى مستغربة أن يكون من غير أب: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾، هذه بعض البينات، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يردّ الحياة إلى الموتى، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام، وأنه ينادى الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلى القدير، وأنه نزل عليه مائدة من السماء، فكانت آية أخرى.
7. كفر اليهود بهذه الآيات البينات، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم، ولكن الله تعالى حماه منهم، وادعى النصارى الذين جاؤوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوّا مبينا.
8. سؤال وإشكال: لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين؟ وإن كان لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما هو أجل وأعظم، وجاء مثلها على يديه، ولكنه لم يتحدّ بها، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم، والجواب: كانت معجزات عيسى عليه السلام أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع؛ لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابتهم، ولا في أنفسهم، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه، ولا العصر الذي قارنه وسبقه، فكان لا بد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خلق عيسى عليه السلام، وكان أمرا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا، وهو يحيى الموتى، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون منها، كما كان ينزل المن والسلوى على بنى إسرائيل عند خروجهم من مصر، وهم يعيشون في سيناء.
9. هذا بالنسبة لبنى إسرائيل خاصة، أما بالنسبة للعقل البشرى عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام، وكان في القرون التي قبلها، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات، فلكل شيء سبب عادى، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعضه، فالولد يكون من أب وأم، يكوّن من أصلاب الآباء وبطون الأمهات، والأبرص والأكمه لا يشفيان، ولا يمكن أن يعود الميت حيا، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم، وهكذا فكان لا بد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله، الله تعالى أبدعها بديع السموات والأرض، وهو يغيرها، وهو الفعال لما يريد.. لقد تطاولوا حتى قالوا: إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات، فهو وجد منه وجود المعلول من علته، فهو ليس مختارا حتى في وجوده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد.
10. كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها، فتعالى الله، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته.
11. ما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لا يؤيده التاريخ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه.
12. أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة، ولكن بنى إسرائيل كفروا بها، وأيده عليه السلام بروح القدس، فقال تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾، فالرسول الذى يرسله الله تعالى إلى رسله هو الملك جبريل عليه السلام، وقال حسان بن ثابت:
وجبريل رسول الله فينا... وروح القدس ليس به خفاء
وقال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾، وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الوصف، أي الروح القدس أي الطاهر وقد وصف بالأمين، وليس إلها، ولا ثالث ثلاثة كما قال الذين لا يؤمنون إلا بالأوهام، وهم النصارى الذين يتبعون بولس عدو المسيح، ولا يتبعون المسيح رسول الله عليه السلام.
13. كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام، وقد أتى بهذه البينات القاهرة، ولكنهم كفروا استكبارا عن اتباعه عليه السلام، ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم، فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم، والكفر ملازم لكل من جعل إلهه هواه، فهو يدين لكل ما يتبع أهواءهم، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته، وأنه من عند الله؛ ولذلك قال الله تعالى في بنى إسرائيل: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾
14. الهوى: هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوى بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوى إلى الخلق الفاسد، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوى به إلى النار.
15. هم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم، ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه، كأنهم هم وحدهم، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم، لأنهم أبناء الله وأحباؤه؛ ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم.
16. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوال مستمر، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه، وكلما شرطية تدل على تكرار الفعل، وهو الجواب إذا تكرر الشرط، والمعنى يتكرر منكم الاستكبار كلما جاء نبيّ من الأنبياء بما لا تهوى ولا تحب أنفسكم، وإن ذلك توبيخ لهم لحاضرهم وماضيهم على سواء، لأنهم في الباطل أمة واحدة، يتبع خلفهم سلفهم، ويدين آخرهم بما يدين به أولهم، فهم جميعا يستكبرون عن الحق، وحالهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو حال أسلافهم مع أنبيائهم، فهم استكبروا عن إجابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه ليس من بنى إسرائيل ولأنه لم يجئ بما تهوى نفوسهم.
17. إنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء عليهم السلام، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام، إذ حاولوا قتله، فأنجاه الله تعالى منهم، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم؛ ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾، فالفاء للترتيب، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم، وأن زدتم على التكذيب القتل، كما فعلتم مع يحيى وزكريا عليهما السلام، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم.
18. علل اليهود تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، وغلف جمع أغلف، وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾، وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لا يفقهون بها، فهم لا يدركون، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق، وهم يقولون ذلك القول مصرّين على التكذيب؛ ولذا قال تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾، أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته، وهو حكم تقريري، مثبت لغلف قلوبهم، والإضراب في قوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ﴾ إضراب عن قبول اعتذارهم، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية.
19. فسر ابن عباس معنى قولهم في قلوبنا غلف: (إن قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره)، وقرأ ابن عباس غلف جمع غلاف، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم، ويمنع أن يدخل إليه غيره، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم، ويكون معنى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ لعناهم، وطردناهم، فالإضراب في (بل) رد لادعاء العلم بالنبوات، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية، والرسالات الإلهية التي انتهت برسالة خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
20. رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها، فقال تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به.
21. (ما) في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون، والعلة واضح أنها في العدد لا في الإيمان، فالإيمان لا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لا يكون إلا كاملا، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لا يؤمن إلا عدد قليل.
22. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل الكتاب: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾، وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/302.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾، أي أعطينا موسى التوراة، ثم أرسلنا من بعده رسولا بعد رسول.. وقيل: لم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل الا وكان فيه نبي مرسل، أو أنبياء متعددون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وفي تفسير الرازي، وأبي حيان الأندلسي ان من هؤلاء الرسل: يوشع واشمويل وشمعون وداوود وسليمان وشعياء وارمياء وعزير وحزقيل واليسع ويونس وزكريا ويحيى.
2. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، عيسى عليه السلام هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وبينه وبين موسى حوالى أربعة عشر قرنا.. والمراد بالبينات الدلائل والمعجزات التي دلت على صدقه ونبوته، أما روح القدس فقد ذهب جمهور المفسرين الى انه جبرائيل، وإذا لم يوجد نص على التعين، فإن الصحيح هو ان المراد به الروح المقدسة، وان الله سبحانه قد وهب عيسى روحا نقية قوية أهلته للرسالة الإلهية، والتوسط بين الله وعباده، وقيادتهم في طريق الخير والهداية.
3. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾، الخطاب عام لجميع اليهود، لأنهم أمة واحدة، وعلى طبع واحد، ولأن من رضي عن الظالم فقد شاركه في ظلمه.. ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾ كعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ كزكريا ويحيى.
4. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، أي قال اليهود للنبي: ان على قلوبنا غلافا يمنعها من تفهم دعوتك والاستماع اليها، فهو تماما كهذه الآية: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ .
5. جاء في بعض الروايات: (الحكمة ضالة المؤمن)، والمراد بالمؤمن هنا من يؤمن بالحق، ويطلبه لوجه الحق.. وبديهة ان من كان كذلك يقتنع بمجرد قيام الحجة والدليل، وعلى العكس من لا يؤمن بالحق، ولا بالقيم، ولا بشيء إلا بذاته واهوائه وشهواته.. ولا شيء لدى هذا إلا المكابرة والعناد إذا دمغته الحجة، وأفحمه البرهان، وقد يحاول إخفاء عجزه بإظهار الاستخفاف وعدم الاكتراث.. ويقول للمحق: لا أفهم ما تقول، فأنا في شغل شاغل عنك وعن أدلتك، وهو في قوله هذا كاذب عند الله، وعند نفسه، ومستحق للعن والعذاب.
6. هذه الآية الكريمة كما تضمنت التوبيخ لمن يعصي الرسل، ويرفض الحق إذا لم يوافق هواه فإنها أيضا تتضمن التوبيخ لمن يتساهل مع الناس، ولا يجابههم بكلمة الحق تزلفا اليهم، وطمعا في المكانة عندهم.. ان المصلح الصادق يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، لأن هدفه الأول والأخير هو مرضاة الله وحده، ومن أجلها يستشهد ويضحي بالنفس، ويقدم للأجيال مثلا أعلى في اتباع الحق والجهر به، أما المزيف الكاذب فيستهدف مرضاة الناس لتروج بضاعته عندهم، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فان في الله خلفا عن غيره، وليس من الله خلف في غيره)
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/148.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا ﴿مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات الواضحة الدالة على أنه رسول الله إليكم.
2. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قويناه بجبريل عليه السلام الذي هو روح الطهارة من القبائح لعصمته، والواجب الاهتداء بهم، ولكن ما زادوهم إلاَّ نفوراً، فهم يكفرون ببعضهم ويقتلون بعضهم، فأنكر الله ذلك عليهم بقوله تعالى:
3. ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أنفتم من الخضوع للحق ﴿فَفَرِيقًا﴾ من الرسل ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ تبريراً لخلافهم واتباعكم لأهوائكم ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ محاربة للحق ونصراً لباطلكم، فأنتم مصرون على هذه الجرائم إلى الآن حيث تكفرون برسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم استكباراً وأنفة أن يكون الرسول من بني إسماعيل وأنفة من اتباعه.
4. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ عليها أخبية تغطيها فلا تفهم القرآن، وهذا كقول قوم شعيب: ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ [هود: 91] ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ طردهم من رحمته بأن سلبهم التوفيق، وخذلهم كما في آية سورة النساء: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا﴾ .. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ فهو كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5].
5. ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ وقلة إيمانهم إما لقلة ما يؤمنون به، فهم لا يؤمنون إلاَّ ببعض ما في التوراة، وهو ما وافق أهواءهم، وإما لقصر مدته، ففي كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً، ومنه ما يكون عواري بين الصدور والقلوب) أو كما قال.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/143.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآيات، يتابع القرآن الكريم حملة التعرية لتأريخ بني إسرائيل، من أجل مواجهة اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية، فهم يعتبرون امتدادا تاريخيا وعمليا لهم، ولهذا كان الهدف القرآني هو تعرية واقعهم الروحي والفكري والعملي.. وفي ضوء ذلك، تتلاحق الآيات الكريمة لتشرح أساليبهم الملتوية مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولتواجههم بالموقف الذي كانوا يقفونه قبل الرسالة عندما كانوا يستفتحون على الناس في المدينة بالنبي الموعود الذي ينصرهم على الآخرين، حتى إذا جاءت الرسالة التي اصطدموا من خلالها بالواقع، كانوا أوّل المحاربين لها والمقاومين لتقدّمها، وجاء القرآن في أسلوب عقلاني هادئ يفضح واقعهم وينقد المبررات والحجج التي كانوا يبررون من خلالها مواقفهم المعادية للإسلام.
2. القرآن الكريم يجمل القضية في هذه الآية التي يستعرض فيها النبوّات من لدن موسى الذي جاء وبيده كتاب الله، مرورا بالرسل الذين جاؤوا من بعده، وانتهاء بعيسى الذي أرسله الله، ومعه البينات التي تثبت رسالته ونبوّته وأيّده بروح القدس، إن الموقف الذي يحكم سلوكهم من كل نبي هو موافقته لشهواتهم وأطماعهم وأهوائهم أو عدم موافقته لذلك، فإذا لم يحقق لهم ما يريدون ولم يوافق على ما يشتهون، فإنهم يستكبرون عليه بما يملكون من جاه ومال وقوة، ومن تاريخ رسالي، ومن كتاب سماوي يتبجحون بالانتماء إليه.. ويعبرون عن ذلك بالتكذيب تارة لبعض الأنبياء الذين لا يستطيعون قتلهم نتيجة الظروف الموضوعية الخاصة، مما يدخل في حساب القوة الذاتية للنبي لكثرة قومه كما في قوم شعيب، وبالقتل أخرى للأنبياء الذين لا يملكون أيّ نوع من أنواع القوة التي تمنحهم الحصانة في نظر بني إسرائيل، وكأن القرآن يريد أن يعطي الموقف الذي يقفه اليهود من النبي محمد صلّى الله عليه وآله بعدا تاريخيا يدخل في حساب تكوين الشخصية، وفي العقدة المتأصلة التي يعاني منها هذا الشعب بشكل عام من الأنبياء ورسالاتهم.
3. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي مغلقة عن وعي الأفكار والدعوات والتعاليم التي يدعون إليها، وهذا ما كانوا يواجهون به الأنبياء الذين يطلبون منهم الفهم والتأمل فيما يقدم إليهم من براهين وحجج وآيات، فكان ردّ الفعل لديهم تظاهرهم بعدم الفهم أو بعدم القدرة على الإدراك، لأن قلوبهم لا تملك الذكاء الذي تستطيع من خلاله الوصول إلى أبعاد القضية، وقد يكون هذا الزعم هروبا من الدخول في عملية الحوار، وقد يكون استهزاء وسخرية بالنبي عندما يقابلونه بهذا المنطق، الذي يجعله حائرا لا يدري كيف يواجه الموقف الجديد الذي لا يحقق أيّ صدى لصوته، وهذا ما جعل التعليق القرآني عليهم عنيفا قاسيا، لأنهم لا ينطلقون من مواقع صحيحة.
4. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ فقلوبهم كقلوب بقية الناس، وأفكارهم كأفكارهم في إمكان التقائها بالحقيقة ووعيها للمفاهيم التي تقدم إليها، وقدرتها على الدخول في عملية الحوار والمناقشة، ولكنهم فضلوا الكفر على الإيمان، ولمّا لم يجدوا حجة على موقفهم الكافر، لجأوا إلى هذا المنطق ليبرّروا ذلك، فأبعدهم الله عن ساحته، وهذا معنى اللعن لغة؛ ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ لأنهم لا يريدون الإيمان.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/124.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد موسى مثل داوود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى.. ﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾، وتشير إلى بعثة عيسى ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائما على أساس نزعات هوى النفس ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾!؟ وكان موقفهم إمّا اغتيال شخصية النّبي أو شخص النّبي: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾، لو كان اغتيال الشخصية كافيا لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافيا سفكوا دمه!
2. يستفاد من الآية أن القادة الإلهيين لم يكونوا يأبهون بمعارضة أصحاب الأهواء، وهذا هو شأن القائد لمنهج الحق، ولو انساقوا وراء أهواء الآخرين لما كانوا قادة لطلّاب صراط الحق، بل أتباع لطلاب الدنيا.
3. للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:
أ. قالوا إنه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إن الله أيّد عيسى بجبرائيل، وشاهدهم على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أن جبرائيل ملك، والجانب الروحي في الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة (الروح) عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى (القدس) إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.
ب. وقيل: إن (روح القدس) هو القوّة الغيبية التي أيّدت عيسى عليه السّلام، وبهذه القوة الخفية الإلهية كان عيسى يحيي الموتى.. هذه القوّة الغيبية موجودة طبعا بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم، وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات، من هنا، ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله لحسان: (لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا)، وقول بعض أئمة أهل البيت لشاعر قرأ أبياتا ملتزمة: (إنّما نفث روح القدس على لسانك).
ج. من المفسرين من قال إن روح القدس هو (الإنجيل)
ويبدو أن التّفسيرين السابقين أقرب إلى المعنى.
4. مفهوم (روح القدس) لدى المسيحيين، كما ورد في قاموس الكتاب المقدس: (إن روح القدس هو الأقنوم الثالث من الأقانيم الثلاثة الإلهية، ويقال له (الروح)، لأنه مبدع الحياة، ويسمى مقدسا لأن من أعماله تقديس قلوب المؤمنين، ولما له من علاقة بالله والمسيح يسمى أيضا (روح الله) و(روح المسيح)، وورد أيضا في هذه القاموس تفسير آخر هو: (أما روح القدس الذي يؤنسنا فهو الذي يحثنا دوما إلى قبول وفهم الاستقامة والإيمان والطاعة، ويحيي الأشخاص الذين ماتوا في الذنوب والخطايا، ويطهرهم وينزههم ويجعلهم لائقين لتمجيد حضرة واجب الوجود).. وكما يلاحظ، إن عبارات قاموس الكتاب المقدس إشارات إلى معنيين لروح القدس:
أ. الأول، إن روح القدس أحد الأرباب الثلاثة، وهذه هي عقيدة التثليث، وهي عقيدة شرك بالله ومرفوضة.
ب. والثاني يشبه التّفسير الثاني الذي ذكره المفسرون.
5. كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها، ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، ومنها ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ لا ينفذ إليها قول! كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أن القرآن أيّد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم أسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة الله، ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾، وهذه مسألة تطرحها آية أخرى من قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ .
6. ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ : تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم: والغلف جمع أغلف أي مغلّف.. نعم، إنها كذلك مغلّفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأن أصحابها لعنوا بعد التمادي في الكفر ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
7. قد تشير الآية إلى اليهود الذين كذبوا الأنبياء وقتلوهم، وقد تشير إلى اليهود المعاصرين للنبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّن وقف بوجه الرسالة، لكنها على أي حال تبين حقيقة هامّة هي: إن الانغماس في الأهواء يبعد الفرد عن الله، ويسدل الحجب على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقا إلى نفسه.
8. أصحاب الأهواء المنحرفين كانوا يقفون دوما بوجه دعوة الأنبياء، لأنها كانت تهدد مصالحهم الآنيّة التافهة، وتحريف الرسالات الإلهية أحد السبل التي انتهجها هؤلاء المنحرفون لمحاربة الدعوة، لذلك كان لا بدّ من توالي الرسل، ﴿جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا﴾ هذا المفهوم عبّر عنه أمير المؤمنين علي عليه السّلام بقوله: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول)
9. هدف بعثة الأنبياء على مرّ العصور التاريخية إذن هو تذكير البشر بنعم الله سبحانه، ودعوتهم إلى الالتزام بميثاق الفطرة، وإحياء دعوات الأنبياء السابقين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/292.
35. بنو إسرائيل وجحود النبوة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈35⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: 89 ـ 90]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين﴾ كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل(1).
__________
(1) البيهقي في الدلائل: ٢/٥٣٦.
سلمة:
روي عن سلمة بن سلامة بن وقش (ت 45 هـ) ـ وكان من أهل بدر ـ أنّه قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيسير، حتى وقف على مجلس بني الأشهل ـ قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي ـ، فذكر البعث، والقيامة، والحساب، والميزان، والجنة، والنار: ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم! فقال: نعم، والذي يحلف به، يود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا؛ يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطينونه عليه، وإن ينجو من تلك النار غدا، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، فقالوا: ومتى نراه؟ قال فنظر إلي ـ وأنا من أحدثهم سنا ـ إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا!؟ قال بلى، وليس به(1).
__________
(1) أحمد: ٢٥/١٦٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّه﴾، قال بئس ما باعوا به أنفسهم، حيث باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا، قال وهل تعرف ذلك؟، قال نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول(1).:
يعطى بها ثمنا فيمنعها... ويقول صاحبها ألا تشري
2. روي أنّه قال: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه﴾، أي: أن الله جعله من غيرهم(2).
3. روي أنّه قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، وكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا به، فأنزل الله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية يعني: وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد، إلى قوله: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين﴾(3).
4. روي أنّه قال: كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يستفتحون؛ يدعون الله على الذين كفروا، ويقولون: اللهم، إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم، فينصرون، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين﴾ يريد محمدا، ولم يشكوا فيه، كفروا به(4).
5. روي أنّه قال: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء، وداوود بن سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم ـ أحد بني النضير ـ: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ الآية(5).
6. روي أنّه قال: كان يهود أهل المدينة قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم، ويستنصرون، يدعون عليهم باسم نبي الله، فيقولون: اللهم ربنا، انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه، الذي وعدتنا إنك باعثه في آخر الزمان(4).
7. روي أنّه قال: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كانوا يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمدا عليهم، وليسوا كذلك؛ يكذبون(6).
__________
(1) الدرّ المنثور: الطَّسْتِيّ في مسائله، وينظر: الإتقان: ٢/٩٣.
(2) سيرة ابن هشام: ١/٥٤٢.
(3) الحاكم: ٢/٢٨٩.
(4) الدرّ المنثور: أبي نُعَيم في الدلائل.
(5) ابن إسحاق ـ كما في سيرة ابن هشام: ١/٥٤٧.
(6) ابن جرير: ٢/٢٤١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على مشركي العرب، يقولون: اللهم، ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين، ويقتلهم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله؛ فقال الله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِين﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٣٩.
(2) ابن جرير: ٢/٢٥٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه﴾ نزلت في اليهود، عرفوا محمدا أنه نبي، وكفروا به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾، يقول: استوجبوا سخطا على سخط(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٤١.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٧٣.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهم، فله أجران، ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فله أجر، ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب، ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فباء بغضب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٥٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ اليهود، غضب بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ جحودهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكفرهم بما جاء به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٥٢.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تبديلهم وكفرهم، ثم غضب عليهم في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ خرج فكفروا به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٥٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم﴾ وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدق لما معهم، أي: للتوراة والإنجيل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٣٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ( ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معناه يستنصرون)(1).
2. روي أنّه قال: ( ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ معناه إنّ اليهود عرفوا أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّ الله فكفروا به)(1).
3. روي أنّه قال: (﴿ فَباؤُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ معناه بكفر على كفرهم: كفرهم بعيسى عليه السلام، وكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 86.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿بَغْيًا﴾ بغوا على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل!؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٤٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ يعني: قرآن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم﴾ في التوراة بتصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ نزلت في اليهود، منهم: أبو رافع، وابن أبي الحقيق، وأبو نافع، وغرار، وكانوا من قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا يستفتحون على الذين كفروا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : كانت يهود يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله، لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى؛ أحمد، لكان لنا عليكم، وكانوا يظنون أنه منهم، وكانوا بالمدينة والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به، ويستنصرون به، فلما كان من غيرهم أبوا أن يؤمنوا به، وحسدوه، وقرأ قول الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ﴾ [البقرة: ١٠٩]: قد تبين لهم أنه رسول الله، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٤١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾، فلولا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب، غير مخالف له، وإلا لأظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك، ولتكلفوا على إطفاء هذا النّور ودفعه؛ فدل سكوتهم عن ذلك، وترك اشتغالهم بذلك، أنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة؛ ففيه آية نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ : يستنصرون ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولون: اللهم انصرنا بحق نبيّك الذي تبعثه، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به، فلعنة الله على الكافرين.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ :
أ. قيل: يقول: اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم، وذلك أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فكان إيمانهم به نجاتهم في الآخرة، فكفروا به، وذلك هلاكهم.
ب. وقيل: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ﴾ : باعوا به أنفسهم بعرض يسير من الدنيا، بعذاب في الآخرة أبدا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَغْيًا﴾ :
أ. قيل: حسدا منهم؛ وذلك أنهم قد هووا أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أولاد إسرائيل؛ لأنهم كانوا أمّته، فلما بعث من أولاد إسماعيل عليه السلام والعرب كانت من أولاده كفروا به، وكتموا نعته حسدا منهم.
ب. وقيل: ﴿بَغْيًا﴾ أي ظلما، ظلموا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتكذيبهم إياه.
5. ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ يعنى: النبوة والكتاب على محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: استوجبوا الغضب من الله؛ بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، على أثر غضب؛ بكفرهم بعيسى، وبما جاء به.
ب. وقيل: إنما استحقوا اللّعنة على أثر اللّعنة؛ بعصيان بعد عصيان، وبذنب على أثر الذنب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/509.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني القرآن، ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي لما معهم من التوراة والإنجيل وأنهما من عند الله.
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني يستنصرون، قيل إن يهود كانت تستنصر برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله كفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور: اتقوا الله يا معاشر يهود وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث، فقال سلام بن مشكم: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكره لكم فأنزل الله ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي باعوا ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ أي حسداً، والبغي شبه الطلب.
3. وقوله: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ الأول الذي استحقوه بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والثاني يحتمل أن يكون بما تقدم من قولهم عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة.
4. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ : والعذاب المهين هو الذي لا تمحيص فيه للذنوب لأن قطع يد السارق، وحد الزاني فيه تمحيص لذنوب المذنبين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/72.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: مصدق لما في التوراة والإنجيل من الأخبار التي فيهما.
ب. والثاني: مصدق بأن التوراة والإنجيل من عند الله عزّ وجل.
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني يستنصرون، قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله تعالى من العرب كفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: أو ما كنتم تخبروننا أنه مبعوث؟ فقال سلام بن مشكم: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى ذلك.
3. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ اشتروا بمعنى باعوا، ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ يعني حسدا، هكذا قال قتادة والسدي، وأبو العالية، وهم اليهود، والبغي شدة الطلب للتطاول، وأصله الطلب.
4. في قوله تعالى: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الغضب الأول لكفرهم بعيسى، والغضب الثاني لكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول الحسن، وعكرمة، والشعبي، وقتادة، وأبي العالية.
ب. الثاني: أنه ما تقدم من كفرهم في قولهم عزير ابن الله، وقولهم يد الله مغلولة، وتبديلهم كتاب الله، ثم كفرهم بمحمد.
ج. الثالث: أنه لما كان الغضب لازما لهم كان ذلك توكيدا.
5. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ المهين: المذل، والعذاب على ضربين:
أ. الأول: المهين منها عذاب الكافرين لأنه لا يمحص عنهم ذنوبهم.
ب. الثاني: غير مهين وهو ما كان فيه تمحيص عن صاحبه، كقطع يد السارق من المسلمين، وحد الزاني.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/158.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. التقدير: ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله، كتاب من عند الله يعني به القرآن الذي أنزله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، واشتقاق الكتاب من الكتب، وهو جمع كتبة وهي الخرزة، وكلما ضممت بعضه الى بعض، فقد كتبته، والكتيبة من الجيش من هذا الانضمام بعضها الى بعض.
2. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ من الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما، ومعنى ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ لما في التوراة والإنجيل، والاخبار التي فيها، ويحتمل ان يكون المراد: مصدق بان التوراة والإنجيل من عند الله.. ومصدق رفع، لأنه نعت الكتاب، ولو نصب على الحال، لكان جائزاً، لكن لم يقرأ به.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ :
أ. قال ابو عبيدة: معناه يستنصرون، قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستنصرون على الأوس الخزرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله في العرب، فقال لهم معاذ بن جبل وبشير ابن معرور: يا معشر اليهود اتقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله ونحن اهل الشرك، وتخبرونا بانه مبعوث، فقال لهم سلام بن مثكم: ما جاء بشيء، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فانزل الله ذلك.
ب. وقال قوم: معنى ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ يستحكمون ربهم على كفار العرب، كما قال الشاعر:
ألا أبلغ بني عُصم رسولا... فاني عن فُتاحتكم غني
اي محاكمتكم.
ج. وقال قوم: معناه يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب، وكانوا يصفونه، فلما بعث أنكروه.
4. اختلف في جواب قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ :
أ. قال قوم: ترك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين، معناه كما قال: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ فترك الجواب، وكان تقديره: ولو ان قرآناً سوى هذا القرآن سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لسيرت بهذا، ترك ذلك لدلالة الكلام عليه، وكذلك الآية الجواب فيها محذوف لدلالة قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾
ب. وقال آخرون: قوله: ﴿كَفَرُوا﴾ جواب لقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾، ولقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾، ونظيره قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، فصار قوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواباً لقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾، ولقوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾، ومثله في الكلام قولك: ما هو إلا ان جاءني فلان، فلما ان قعد وسعت له، فصار قولك: وسعت له جواباً لقولك: ما هو إلا ان جاءني، ولقولك: فلما ان قعد، وجاء الاول للكتاب وجاء الثاني ـ قيل: إنه ـ للرسول، فلذلك كرر.
5. أصل بئس: بئس من البؤس: فأسكنت الهمزة ونقلت حركتها الى الباء، كما قالوا في ظللت ظلت، وكما قيل لِلكبد كِبد، فنقلت حركة الباء الى الكاف، لما سكنت الباء، ويحتمل أن تكون بئس، وان كان أصلها بئس من لغة من ينقل حركة العين من فعل الى الفاء إذا كانت عين الفعل احد حروف الحلق الستة، كما قالوا في لَعب: لِعب، وفي سئم سيم، وهي لغة تميم، ثم جعلت دلالة على الذم والتوبيخ ووصلت بـ (ما)
6. ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ اي باعوا به أنفسهم ـ على وزن افتعلوا ـ من الشراء وسمي البائع الشاري بهذا، لأنه باع نفسه ودنياه عنده، واكثر الكلام شريت بمعنى بعت، واشتريت بمعنى ابتعت، قال الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري:
وشريت بُرداً ليتني... من قبل بردٍ كنت هامة
ومعنى قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ باعوه، وربما استعملت اشتريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى ابتعت، والأكثر ما قلناه.
7. ﴿بَغْيًا﴾ اي حسداً وتعدياً، ومعنى الشراء والبيع ـ عند العرب ـ هو ازالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضاً ـ خيراً كان أو شراً ـ يقال: نعم ما باع فلان نفسه به، وبئس ما باع به نفسه، بمعنى نعم الكسب كسبها، وبئس الكسب كسبها، وكذلك قوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾، لما ابقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهلكوها.
8. خاطبهم الله بالعرف الذي يعرفونه: فقال: بئس ما اعتاضوا من كفرهم بالله، وتكذيبهم محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كانوا رضوا به عوضاً من ثواب الله، وما اعدّ لهم ـ لو كانوا امنوا بالله وما انزل على أنبيائه ـ بالنار، وما اعدّ لهم بكفرهم بذلك، ونظير هذه الآية قوله: في سورة النساء: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الى قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾، وكان ذلك حسداً منهم لكون النبوة في غيرهم.
9. ﴿بَغْيًا﴾ : نصب لأنه مفعول له، والمعنى فساداً، قال الاصمعي: مأخوذ من قولهم: بغى الجرح إذا فسد، ويجوز ان يكون مأخوذاً من شدة الطلب للمطاول، وأصل البغي الطلب، و ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ﴾ اي لأن ينزل الله، وكذلك كل ما في القرآن، ومثله قول الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودع... وحبل الصفا من عزة المتقطع
10. ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ اي رجعوا، والغضب من الله هو ارادة العقاب بهم، والمراد:
أ. قيل: رجعت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الاستنصار لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الاستفتاح به، وبعد ما كانوا يخبرون الناس من قبل مبعثه انه نبي مبعوث ـ مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبياً ـ بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم به وجحدهم بنبوته، وانكارهم إياه.
ب. وقال السدي: الغضب الاول حين عبدوا العجل، والثاني ـ حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقال عطا وغيره: الغضب الاول ـ حين غيروا التوراة قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والغضب الثاني ـ حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقال عكرمة والحسن: الاول ـ حين كفروا بعيسى عليه السلام، والثاني ـ حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ معناه للجاحدين بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عذاب مهين من الله: إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
12. اختلف في معنى ﴿مَهِينٍ ﴾ :
أ. قيل: هو المذل لصاحبه المخزي لملبسه هواناً وذلة.
ب. وقيل: (المهين) هو الذي لا ينتقل منه الى اعتزاز وإكرام، وقد يكون غير مهين إذا كان تمحيصاً وتكفيراً ينتقل بعده الى اعتزاز وتعظيم: فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار الى الجنة، لا يكون عذابه مهيناً.
13. اختلف في معنى ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ ﴾:
أ. قال المؤرخ: (فباؤوا) استوجبوا اللعنة ـ بلغة جرهم ـ، ولا يقال باء مفردة حتى يقول بكذا وكذا: اما بخير واما بشر.
ب. قال ابو عبيدة: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ ﴾ احتملوه واقرّوا به، واصل البواء التقرير والاستقرار، قال الشاعر:
أصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها... كصرخة حبلى يسرتها قبولها
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/345.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستفتاح: طلب الفتح، وهو طلب النصر ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ والفتح: النصر، والفتح فتح الشيء، وفتحت عليه بينته له، وأصل الفتح ضد الإغلاق.
ب. بِئْسَ: نقيض نِعْمَ، وهما فعلان ماضيان، وبِئْسَ ذم لشدة الفساد، ونقيضه كل شيء صالح، وأصله البأس، وهو الشدة، يقال: بأس يبؤس بؤسًا.
ج. البغي: أصله الطلب، ونظيره التطاول والطغيان، وسمي الباغي لشدة طلبه للتطاول الذي ليس له ذلك.
د. الإهانة: الإذلال، ونقيضه الإكرام.
هـ. اشترى: ابتاع، واشترى باع، وقد يقع افتعل بمعنى فعل، كقولهم: كسب واكتسب.
2. اختلف في سبب نزولها:
أ. قيل: نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعث فلما بعث من العرب، ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك وتصفونه، وتذكرون أنه مبعوث، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية في ذلك، عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية وابن زيد والسدي.
ب. وقيل: نزلت في أحبار اليهود، وكانوا إذا قرؤوا ذكر محمد في التوراة وأنه مبعوث، وأنه من العرب، ووصفوا له العلامات، فيسألون مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا هل ولد فيهم من يوافق حاله ما أنزل إليهم، فلما جاءهم يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا به حسدًا وعنادًا، وإيثارًا لعاجل الدنيا، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: هو عام في جميع اليهود، وذلك غير صحيح؛ لأن الكتمان على الجمع العظيم لا يجوز.
3. ذكر الله تعالى نعمة أخرى عليهم، وما قابلوه من الكفران، فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ يعني اليهود ﴿كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي القرآن أنزل على محمد وسمي كتابًا؛ لأنه يكتب.
4. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ من الكتاب:
أ. قيل: مصدق لما معهم؛ لأنه جاء على ما تقدم به الإخبار في التوراة، فهو مصدق له من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به، وهو الوجه؛ لأن فيه احتجاجًا عليهم.
ب. وقيل: إنه تصديق التوراة والإنجيل أنهما من عند الله.
5. ﴿وَكَانُوا﴾ يعني اليهود ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أي من قبل مبعث محمد ونزول القرآن.
6. ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ أي يسألون الفتح الذي هو النصر، واختلفوا فيه:
أ. قيل: قالوا: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي.
ب. وقيل: كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبي قد أقبل زمانه ينصرنا عليكم، عن ابن عباس.
ج. وقيل: كانوا يسألون العرب عن مولده، ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا، وشفحصون عنه، عن أبي مسلم.
7. ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على مشركي العرب ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ يعني محمدا ﴿مَا عَرَفُوا﴾ يعني صفته ومبعثه ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ حسدًا وبغيًا وطلبًا للرئاسة ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ﴾ غضبه وعقابه ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
8. ثم ذمهم بإيثارهم الدنيا على الدين، فقال تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ :
أ. قيل: يعني بئسما اشتروا الباطل بالحق والكفر بالإيمان.
ب. وقيل: بئس ما باعوا به حظ أنفسهم،
واشتروا بمعنى باعوا، عن السدي ومجاهد.
9. ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن ودين الإسلام المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿بَغْيًا﴾ :
أ. قيل: أي بالبغي، وأصله الفساد.
ب. وقيل: حسدًا وهم اليهود، عن أبي العالية والربيع والسدي.
ج. وقيل: طلبًا لشيء ليس لهم.
10. ثم فسر ذلك بقوله: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ النبوءة والوحي ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ قيل: تمنوا أن تكون النبوءة في ولد إسحاق، وهي تتبع المصلحة، وتتميز بالمعجز.
11. ﴿ فَبَاؤُوا ﴾ قيل: رجعوا.. وقيل: حملوا.
12. اختلف في معنى ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ وما الغضب الأول؟ وما الثاني؟
أ. قيل: غضب عليهم بكفرهم بعيسى، ثم غضبه لكفرهم بمحمد ـ صلى الله عليهما، عن الحسن وعكرمة والشعبي وقتادة وأبي العالية.
ب. قيل: بما تقدم من كفرهم بقولهم: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وتحريفهم الكتاب، ثم كفروا بمحمد وما أنزل عليه، عن عطاء وعبيد بن عمير وأبي علي.
ج. قيل: على التوكيد للمبالغة؛ إذ كان الغضب لازمًا لهم ويتكرر عليهم، عن الأصم وأبي مسلم.
د. قيل: الأول: لعبادتهم العجل.. الثاني: كتمانهم صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحد نبوته، عن السدي.
13. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ يعني يهينهم الله بالعذاب، فأضاف الإهانة إلى العذاب لأنه سبب له توسعًا ومجازًا.
14. تدل الآية الكريمة على:
أ. سوء صنيعهم؛ لأن من حق البشارة أن تقابل بالإيمان، فعملوا بالضد، وكفروا.
ب. أن الكفر ليس هو الجهل فقط؛ لأنهم عرفوا الله وعرفوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم مع ذلك كفار يجحدون ذلك عنادًا.
ج. أن الكفر فعلهم، فيبطل قول الجبرية.
د. أن اللعن والعذاب يستحق بالفعل.
هـ. أن الذنب مع العلم أعظم، وعقوبة فاعله أشد.
و. أنه تعالى يبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث يعلم أن المصلحة فيه، دون التشهي.
ز. ذم من آثر الدنيا على الدين، وأنه قد خسر خسرانًا مبينًا.
ح. أن العاصي يستحق العقاب والغضب بفعله، فتدل أن للعبد فعلاً، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في خلق الأفعال، وقد قال أبو الهذيل لِحَفْصٍ الفَرْد: هل تعلم غير الله وغير خلقه؟ قال لا، قال أفتغضب لأنه الله؟ قال لا، قال أفتغضب لأنه خلق؟ قال لا، قال أفههنا ثالث غيرهما؟ قال لا، قال فغضبك لا لشيء، فانقطع.
15. مسائل نحوية:
أ. سؤال وإشكال: ما الفرق بين (كان) وبين الفعل الحقيقي؟ والجواب: الفعل الحقيقي يدل على وجود معنى مصدره في الزمان بعد أن لم يكن في ماض أو حاضر، أو مستقبل، و(كان) يدل على الزمان الماضي والحاضر والمستقبل في تصريفه فقط، من غير دلالة على وجود معنى مصدره في الزمان بعد أن لم يكن.
ب. ﴿قَبْلِ﴾ : مبني على الضم، وإنما بني لأنه بمعنى الغاية، وذلك أن غاية الاسم الإضافة، فلما قطع عنها صار كبعض الاسم.
ج. في جواب لما ثلاثة أوجه:
• قيل: محذوف كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ فجوابه محذوف، وهو لكان هذا القرآن عن الأخفش والزجاج.
• وقيل: إنه على التكرير لطول الكلام، والجواب (كفروا) ومثل: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ عن المبرد.
• وقيل: أن تكون الفاء جوابًا ل ـ (لما) الأولى، وكفروا جوابا ل ـ (لما) الثانية، وهو قوله: ﴿يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية، عن الفراء.
د. وزن (بئس) أصله بَئِسَ على وزن فَعِلَ مثل حمد، نقلت الحركة لأجل حرف الحلق، كما قالوا: سئم، يدل عليه أنه ليس في أصل بناء الفعل ما هو على هذه الزنة، ولا يتصرف (نعم وبئس) تصرف الأفعال لما تضمنت من الدلالة على معنى المدح والذم، كما أن التعجب لما كان خبرًا كسائر الأخبار إلا أنه زاد عليها بمعنى التعجب ترك تصرفه، ليدل على زيادة المعنى، فكذلك (نعم وبئس) تدل على أن القائل مادح، أو ذام، وهو إخبار باستحقاق المدح، أو الذم.
هـ. في امتناع نعم وبئس من أن تعمل إلا في الجنس قولان:
• قيل: إذا قلت: نعم الرجل، فإنما أردت أن تمدحه بالمدح الذي يكون لسائر جنسه، فلذلك كان لا بد من ذكر الجنس؛ لأنه للمبالغة في المدح والذم.
• وقيل: أنه ذكر الجنس بعدهما للإيهام، كما جاء في التعجب بما دون غيرهما من الأسماء للإيهام الذي فيهما؛ لأن الوهم يذهب إلى كل نوع مما يصلح للمدح به أو الذم.
و. في معنى (ما) في بئسما قولان:
• أحدهما: أنه اسم تام، حكى الكسائي عن العرب: بئسما تَزْوِيجٌ ولا مهر، كأنه قال بئس شيئًا تزويج ولا مهر، كأنه قيل: بئسما اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله.
• الثاني: أن يكون (ما) مع (بئس) بمنزلة اسم واحد، فإذا قلت: بئسما تَزْوِيجٌ ولا مهر، كأنك قلت: المذموم تزوج ولا مهر، وفي الآية المذموم (اشتروا به أنفسهم).
ز. موضع (أَنْ يَكْفُرُوا) قال الفراء: يصلح فيه الخفض والرفع، أما الخفض فعلى موضع الهاء في به، على التكرير عنده، والبدل عند البصريين، وأما الرفع فزعم أنه مكرر على موضع (ما) التي تلي (بئس).. وقيل: يجوز الرفع على قولك: نعم رجلا زيد، كأنه قيل: من الممدوح؟ فقيل: هو زيد.
ح. موضع (أَنْ يُنَزّلَ الله) يجوز فيه النصب والخفض، وأما الخفض فعلى البدل من (ما) في قوله: (بِمَا أَنزَلَ الله) والنصب على حذف حرف الجر، يعنى (أبَغْيًا) لأن ينزل الله، أو بأن ينزل الله.
ط. سبب انتصاب (بَغْيًا) قال الزجاج: لأنه مفعول له، كقولك: جعلته حذار الشر، أي لحذار الشر، ويحتمل أن يكون مصدرًا؛ لأن ما تقدم يدل على بغوا، فكأنه قيل: بغو بغيًا، فنصب على المصدر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/483.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
2. بئس، ونعم: فعلان ماضيان أصلهما على وزن فعل، وفيها أربع لغات نعم وبئس مثل حمد ونعم وبئس بسكون العين، ونعم وبئس بكسر الفاء والعين، ونعم وبئس.
3. اشتروا: افتعلوا من الشراء، وأكثر الكلام شريت بمعنى بعت، واشتريت بمعنى ابتعت، قال يزيد الحميري:
وشريت بردا، ليتني... من بعد برد كنت هامه
وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى ابتعت، والأكثر ما تقدم.
4. البغي: أصله الفساد، مأخوذ من قولهم: بغى الجرح إذا فسد، وقيل: أصله الطلب، لأن الباغي يطلب التطاول الذي ليس له ذلك.
5. الإهانة: الإذلال.
6. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ أي جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله ﴿كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما وفيه وجهان:
أ. (أحدهما) أن معناه إنه مصدق لما تقدم به الأخبار في التوراة والإنجيل، فهو مصدق لذلك من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به.
ب. (والآخر) إنه مصدق لهما أي بأنهما من عند الله تعالى وأنهما حق.
8. ﴿وَكَانُوا﴾ يعني اليهود ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أي من قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزول القرآن، ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ فيه وجوه:
أ. أحدها، أن معناه يستنصرون أي يقولون في الحروب: اللهم افتح علينا، وانصرنا بحق النبي الأمي، اللهم انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا، فهم يسألون عن الفتح الذي هو النصر.
ب. ثانيها، أنهم كانوا يقولون لمن ينابذهم هذا نبي قد أطل زمانه ينصرنا عليكم.
ج. ثالثها، أن معنى يستفتحون يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب، فكانوا يصفونه لهم، فلما بعث أنكروه.
د. رابعها، أن معنى يستفتحون يستحكمون ربهم على كفار العرب كما قال:
ألا أبلغ بني عصم رسولا... فإني عن فتاحتكم غني
أي عن محاكمتكم به.
9. ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي مشركي العرب، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي عرفوا صفته ومبعثه ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ حسدا وبغيا وطلبا للرياسة ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ﴾ أي غضبه وعقابه ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
10. ثم ذم الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين فقال: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم أو بئس الشيء باعوا به أنفسهم ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ أي كفرهم ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن ودين الإسلام المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. والبيع والشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرا، فاليهود لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأهلكوا خاطبهم الله بما كانوا يعرفونه، فقال: بئس الشيء رضوا به عوضا من ثواب الله، وما أعده لهم، لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل الله على نبيه النار، وما أعد لهم بكفرهم، ونظير ذلك الآيات في سورة النساء من قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾
11. اختلف في معنى ﴿بَغْيًا﴾ :
أ. قيل: أي حسدا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان من ولد إسماعيل، وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل.
ب. وقيل: طلبا لشيء ليس لهم، ثم فسر ذلك بقوله: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وهو الوحي والنبوة.
12. ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ معناه رحبت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الانتصار بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والاستفتاح به، والإخبار بأنه نبي مبعوث مرتدين ناكصين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم.
13. اختلف في معنى ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ ﴾:
أ. قيل: استوجبوا اللعنة بلغة جرهم، ولا يقال باء مفردة حتى يقال إما بخير وإما بشر.
ب. وقيل: احتملوه وأقروا به وأصل البوء التقرير والاستقرار.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ :
أ. قيل: أن الغضب الأول حين غيروا التوراة قبل مبعث النبي، والغضب الثاني حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن عطاء وغيره.
ب. وقيل: أن الغضب الأول حين عبدوا العجل، والثاني حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن السدي.
ج. قيل: أن الأول حين كفروا بعيسى عليه السلام، والثاني حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الحسن وعكرمة وقتادة.
د. وقيل: أن ذلك على التوكيد والمبالغة إذ كان الغضب لازما لهم، فيتكرر عليهم، عن أبي مسلم والأصم.
15. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ معناه للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله إما في الدنيا وإما في الآخرة، والمهين:
أ. قيل: هو الذي يذل صاحبه ويخزيه ويلبسه الهوان.
ب. وقيل: المهين الذي لا ينتقل منه إلى إعزاز وإكرام وقد يكون غير مهين إذا كان تحميصا وتكفيرا ينتقل بعده إلى إعزاز تعظيم فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة لا يكون عذابه مهينا.
16. مسائل نحوية:
أ. ﴿مُصَدِّقٌ﴾ : رفع لأنه صفة لكتاب، ولو نصب على الحال لكان جائزا، لكنه لم يقرأ به في المشهور، وقيل: ضم على الغاية، وقد ذكرنا الوجه فيه فيما تقدم من قوله: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾
ب. جواب لما في قوله ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ فعند الزجاج والأخفش محذوف، لأن معناه معروف يدل عليه قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ كما حذف جواب ﴿لَوْ﴾ من نحو قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ وتقديره: ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن، سيرت به الجبال، لسيرت بهذا القرآن، وقيل: إن قوله ﴿كَفَرُوا﴾ جواب لقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، ولقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ وإنما كرر ﴿لَمًّا﴾ لطول الكلام، عن المبرد.
ج. بئس: قال الزجاج: بئس إذا وقعت على ما جعلت معها ما بمنزلة اسم منكور وإنما كان ذلك في نعم وبئس، لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام، يدل على جنس، وإنما كانت كذلك، لأن نعم مستوفية لجميع المدح وبئس مستوفية لجميع الذم، فإذا قلت: نعم الرجل زيد، فقد قلت استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه، وكذا إذا قلت: بئس الرجل زيد، دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل من غير لفظ جنس، فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف ولام، فهو نصب أبدا وإذا كانت فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، نحو: نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، وإنما نصبت رجلا للتمييز، وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير، ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة، لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد في نعم أن يليها اسم منكور، أو اسم جنس، فقوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ تقديره بئس شيئا اشتروا به أنفسهم، قال أبو علي: قوله: (ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة) يدل على أن ﴿مَا﴾ إذا كانت موصولة، لم يجز عنده أن تكون فاعلة نعم وبئس، وذلك عندنا لا يمتنع وجهة جوازه ان ما اسم مبهم يقع على الكثرة، ولا يخصص واحدا بعينه كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة، وذلك في نحو قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، فالقصد به هنا الكثرة، وإن كان في اللفظ مفردا بدلالة قوله ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ﴾، وتكون معرفة ونكرة كما أن، أسماء الأجناس تكون معرفة ونكرة، وقد أجاز أبو العباس المبرد في الذي أن تلي نعم وبئس إذا كان عاما غير مخصوص، كما في قوله: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾، وإذا جاز في الذي كان فيما أجوز، فقوله ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ يجوز عندي أن تكون ما موصولة وموضعها رفع بكونها فاعلة لبئس، ويجوز أن تكون منكورة، فتكون ﴿اشْتَرَوْا﴾ صفة غير صلة، ويدل على صحة ما رأيته قول الشاعر: وكيف أرهب أمرا، أو أراع له... وقد زكأت إلى بشر بن مروان فنعم مزكأ من ضاقت مذاهبه.. ويعم من هو في سر، وإعلان ألا ترى أنه جعل مزكأ فاعل نعم لما كان مضافا إلى من، وهي تكون عامة غير معينة.
د. ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فموضعه رفع، وهو المخصوص بالذم، فإن شئت رفعته على أنه مبتدأ مؤخر، وإن شئت على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الشيء المذموم كفرهم بما أنزل الله.
هـ. ﴿بَغْيًا﴾ : نصب بأنه مفعول له كقول حاتم:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
المعنى أغفر عوراءه لادخاره، وأعرض عن الشتم للتكرم.
و. موضع أن الثانية نصب على حذف حرف الجر، يعني بغيا لأن ينزل الله أي: من أجل أن ينزل الله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/312.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، يعني: القرآن، و ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ : يستنصرون، وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبيّ الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾، بئس: كلمة مستوفية لجميع الذم، ونقيضها: (نعم)، واشتروا، بمعنى: باعوا، والذي باعوها به قليل من الدنيا، ﴿بَغْيًا﴾ قال قتادة: حسدا، ومعنى الكلام: كفروا بغيا، لأن نزّل الله الفضل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. في قوله تعالى: ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل، والثاني: لكفرهم بمحمّد، حكاه السّدّيّ عن ابن مسعود وابن عباس.
ب. الثاني: أن الأول لتكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والثاني: لعداوتهم لجبريل، رواه شهر عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن الأول حين قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، والثاني: حين كذّبوا نبيّ الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفرّاء.
د. الرابع: أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل، والثاني: لتكذيبهم بمحمد والقرآن، قاله الحسن، والشّعبيّ، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل.
هـ. الخامس: أن الأوّل لتبديلهم التّوراة، والثاني: لتكذيبهم محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد.
4. المهين: المذلّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/88.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نوع من قبائح اليهود، أما قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ﴾ فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن.
2. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ : لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في النبوة، واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته، إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع، وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن، لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة، وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات.
3. في جواب ﴿لَمًّا ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه محذوف كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ [الرعد: 31]، فإن جوابه محذوف وهو، لكان هذا القرآن، عن الأخفش والزجاج.
ب. ثانيها: أنه على التكرير لطول الكلام، والجواب: كفروا به كقوله تعالى: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ [المؤمنون: 35] عن المبرد.
ج. ثالثها: أن تكون الفاء جواباً للما الأولى و ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ جواباً للما الثانية، وهو كقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 38] [طه: 133] الآية عن الفراء.
4. في سبب النزول قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن اليهود من قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزول القرآن كانوا يستفتحون، أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي.
ب. ثانيها: كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم، عن ابن عباس.
ج. ثالثها: كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا، ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب، عن أبي مسلم.
د. رابعها: نزلت في بني قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث، عن ابن عباس وقتادة والسدي.
هـ. خامسها: نزلت في أحبار اليهود، كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمداً في التوراة، وأنه مبعوث، وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث.
5. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ : تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته، والوصف المذكور في التوراة كان وصفاً إجمالياً، وأن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار، وفي هذا رد على الذين يذكرون هذه الشبهة: (أن التوراة نقلت نقلًا متواتراً، فإما أن يقال: إنه حصل فيها نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل التفصيل، أعني بيان أن الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظهر في السنة الفلانية في المكان الفلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولًا، فكيف قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾؟)
6. يحتمل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ وجوها:
أ. أحدها: أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل، وكانوا يرغبون الناس في دينه، ويدعونهم إليه، فلما بعث الله تعالى محمداً من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه، عظم ذلك عليهم، فأظهروا التكذيب، وخالفوا طريقهم الأول.
ب. ثانيها: اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رئاساتهم وأموالهم، فأبوا وأصروا على الإنكار.
ج. ثالثها: لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به.
7. تكفير الله تعالى لهم بعد ما بيّن كونهم عالمين بنبوته، يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط.
8. ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ : المراد الإبعاد من خيرات الآخرة، لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعوناً، وهذا لا يتعارض مع ما قاله الله تعالى في الآية المتقدمة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] وقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108] لأن العام قد يتطرق إليه التخصيص على أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن.
9. ﴿بِئْسَمَا﴾ : أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا: (علم) إلا أن ما كان ثانيه حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات:
أ. الأول: على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني.
ب. الثاني: اتباع الأول للثاني، وهو أن يكون بكسر النون والعين، وكذا يقال: فخذ بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه هاهنا لكون الحرف الحلقي مستتبعاً لما يجاوره.
ج. الثالث: إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال: نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال: فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء.
د. الرابع: أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال: نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال: فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء، وهذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازماً لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم، ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون: نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد:
ففداء لبني قيس على... ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم... نعم الساعون في الأمر المبر
10. نعم وبئس: فعلان من نعم ينعم، وبئس ويبأس، والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال: نعمت وبئست، والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء، ويحتج بقول حسان بن ثابت:
ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته... من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابياً بشر بمولودة فقيل له: نعم المولود مولودتك، فقال: والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية.
11. (نعم وبئس): أصلان للصلاح والرداءة، ويكون فاعلهما اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً:
أ. والمظهر على وجهين:
• الأول: نحو قولك، نعم الرجل زيد لا تريد رجلًا دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق.
• الثاني: نحو قولك نعم غلام الرجل زيد، أما قوله:
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم... وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل: كان ذلك لأجل أن قوله: (وصاحب الركب) قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم.
ب. أما المضمر: فكقولك: نعم رجلًا زيد، الأصل: نعم الرجل رجلًا زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه ورجلًا نصب على التمييز، مثله في قولك: عشرون رجلًا والمميز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحداً لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا: نعم الرجل بالنصب لكان نقضاً للغرض، إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار، إذ كان (نعم رجلًا) يدل على الجنس الذي فضل عليه.
12. إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون مبتدأ مؤخراً كأنه قيل: زيد نعم الرجل، أخرت زيداً والنية به التقديم، كما تقول: مررت به المسكين تريد المسكين مررت به، فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلًا تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه.
ب. الآخر: أن يكون زيد في قولك: نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل: نعم الرجل، قيل: من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل: زيد أي هو زيد.
13. المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: 177] محذوفاً وتقديره ساء مثلًا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا.
14. ﴿مَا﴾ نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم (أن يكفروا)
15. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا﴾ في الشراء هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنه بمعنى البيع، وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة، فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته، قيل: نعم ما اشترى، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما، فصح تأويل قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك.
ب. الثاني: وهو الأصح أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب، وتوصلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها، فذمهم الله تعالى، وقال: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول.
16. بيّن الله تعالى تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره، ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال: ﴿بَغْيًا﴾ وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلاناً حسداً تنبيهاً بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلًا لا بغياً.. وهذه الآية تدل على أن الحسد حرام.
17. لما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله: ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، والقصة لا تليق إلا بما ورد من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد.
18. في سبب الغضبين في قوله تعالى: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ وجوه:
أ. أحدهما: ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام، وما أنزل عليه، والآخر تكذيبهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل عليه، فصار ذلك دخولًا في غضب بعد غضب، وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب، وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة.
ب. الثاني: ليس المراد إثبات غضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30]. ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64] ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181] وغير ذلك من أنواع كفرهم، وهو قول عطاء وعبيد بن عمير.
ج. الثالث: أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظم، وهو قول أبي مسلم.
د. الرابع: الأول بعبادتهم العجل، والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي.
19. الغضب: عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى، فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك، ولذلك يصح وصفه تعالى بالغضب، وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.
20. في قوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ مزية على قوله: (ولهم عذاب مهين)، لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم، والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم.
21. العذاب في الحقيقة لا يكون مهيناً لأن معنى ذلك أنه أهان غيره، وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل، فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه.
22. سؤال وإشكال: العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف؟ والجواب: كون العذاب مقروناً بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل، فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلًا عليه.
23. احتج بهذه الآية فريقان، وفساد قولهما لا يخفى.:
أ. أحدهما: الخوارج قالوا: ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب، وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر، فيلزم أن يقال الفاسق كافر.
ب. ثانيها: المرجئة قالوا: ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر، وثبت أن الفاسق ليس بكافر، فوجب القطع بأنه لا يعذب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/599.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ يعني اليهود ﴿كِتَابٌ﴾ يعني القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ﴾ نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما.
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ أي يستنصرون، والاستفتاح الاستنصار، استفتحت: استنصرت، وفي الحديث: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم، ومنه ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾، والنصر: فتح شي مغلق، فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنما نصر الله هذه الامة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)، وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ابغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)، قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي بك يا محمد، إلى قوله: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
3. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ :
أ. جواب ﴿لَمًّا ﴾ الفاء وما بعدها في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ في قول الفراء، وجواب ﴿فَلَمَّا﴾ الثانية ﴿كَفَرُوا﴾
ب. وقال الأخفش سعيد: جواب ﴿لَمًّا ﴾ محذوف لعلم السامع، وقاله الزجاج.
ج. وقال المبرد: جواب ﴿فَلَمَّا﴾ في قوله: ﴿كَفَرُوا﴾، وأعيدت ﴿فَلَمَّا﴾ الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له.
4. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا﴾ بئس في كلام العرب مستوفية للذم، كما أن (نعم) مستوفية للمدح، وفي كل واحدة منها أربع لغات: بئس بئس بئس بئس، نعم نعم نعم نعم، ومذهب سيبويه أن (ما) فاعلة بئس، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات، وكذا نعم، فتقول نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، ونصب رجل على التمييز، وفي نعم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل من الممدوح؟ قلت هو زيد، والآخر على الابتداء وما قبله خبره، وأجاز أبو علي أن تليها (ما) موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا بعينه، والتقدير عند سيبويه: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فـ ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله، كقولك: بئس الرجل زيد، و(ما) على هذا القول موصولة، وقال الأخفش: (ما) في موضع نصب على التمييز، كقولك: بئس رجلا زيد، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا، ف ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ على هذا القول صفة (ما)، وقال الفراء: ﴿بِئْسَمَا﴾ بجملته شي واحد ركب كحبذا، وفي هذا القول اعتراض، لأنه يبقى فعل بلا فاعل، وقال الكسائي: (ما) و ﴿اشْتَرَوْا﴾ بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا، وهذا مردود، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير، قال النحاس: وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه.
5. قال الفراء والكسائي: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ إن شئت كانت (أن) في موضع خفض ردا على الهاء في به، قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله، فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، والمعنى: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان.
6. اختلف في معنى ﴿بَغْيًا﴾ :
أ. قيل: معناه حسدا، قاله قتادة والسدي، وهو مفعول من أجله، وهو على الحقيقة مصدر، الأصمعي: وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد.
ب. وقيل: أصله الطلب.
7. ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ﴾ في موضع نصب، أي لان ينزل، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. ﴿ فباؤوا ﴾ أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر، ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ معنى غضب الله عليهم، وهو عقابه:
أ. قيل: الغضب الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس.
ب. وقال عكرمة: لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد، يعني اليهود.
ج. وروى سعيد عن قتادة: الأول لكفرهم بالإنجيل، والثاني لكفرهم بالقرآن.
د. وقال قوم: المراد التأييد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين.
9. ﴿مَهِينٍ ﴾ مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/27.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ يعني اليهود ﴿كِتَابٌ﴾ يعني القرآن، و ﴿مُصَدِّقٌ﴾ وصف له، وهو في مصحف أبيّ منصوب، ونصبه على الحال وإن كان صاحبها نكرة فقد تخصصت بوصفها بقوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وتصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما ويصدقه ولا يخالفه.
2. الاستفتاح الاستنصار: أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبيّ المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة.. وقيل: الاستفتاح هنا بمعنى الفتح: أي يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرّفونهم بذلك.
3. ما في قوله ﴿بِئْسَمَا﴾ موصولة أو موصوفة؛ أي بئس الشيء أو شيئا ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ قاله سيبويه، وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز كقولك: بئس رجلا زيد، وقال الفرّاء: بئسما بجملته: شيء واحد ركب كحبذا.. وقال الكسائي ما واشْتَرَوْا بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس اشتراؤهم أن يكفروا.
4. ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه وخبره ما قبله، وقال الفرّاء والكسائي: إن شئت كان في موضع خفض بدلا من الهاء في به: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا، وقال في الكشاف: إن ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، بمعنى شيئا اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم أن يكفروا، واشتروا بمعنى باعوا.
5. ﴿بَغْيًا﴾ أي حسدا، قال الأصمعي: البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح: إذا فسد، وقيل: أصله الطلب، وهو علة لقوله: ﴿اشْتَرَوْا﴾ وقوله: ﴿أَنْ يُنَزَّلَ﴾ علة لقوله ﴿بَغْيًا﴾ أي لأن ينزل، والمعنى: أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسدا ومنافسة ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾
6. ﴿ فَباؤُوا ﴾ أي رجعوا وصاروا أحقاء ﴿بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ ومعنى الغضب:
أ. قيل: الغضب الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد..
ب. وقيل: كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد؛.
ج. وقيل: كفرهم بمحمد ثم البغي عليه..
وقيل: غير ذلك.
7. المهين: مأخوذ من الهوان؛ قيل: وهو ما اقتضى الخلود في النار.
8. ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ هو القرآن؛ وقيل: كل كتاب: أي صدّقوا بالقرآن، أو صدّقوا بما أنزل الله من الكتب قالُوا نُؤْمِنُ أي نصدّق بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي التوراة.
9. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ قال الفرّاء: بما سواه، وقال أبو عبيدة: بما بعده، قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد يكون بمعنى قدّام وهي من الأضداد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ أي قدّامهم، وهذه الجملة أعني ويكفرون: في محل النصب على الحال: أي قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق.
10. ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال مؤكدة، وهذه أحوال متداخلة أعني قوله: ﴿وَيَكْفُرُونَ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ وقوله: ﴿مُصَدِّقًا﴾
11. ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قالوا: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ: أي إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم، فكيف تقتلون الأنبياء، وقد نهيتم عن قتلهم فيما أنزل عليكم؟ وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود، فالمراد به أسلافهم، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم.
اللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ﴾ جواب لقسم مقدّر، و ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ ويجوز أن يراد الجميع، ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عنادا بعد قيام الحجة عليكم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/132.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ﴾ أي: اليهود المعاصرين للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿كِتَابٌ﴾ هو القرآن ﴿مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ هو التوراة وغيرها من كتب الله والأخبار المكتوبة، ومعنى تصديقه إيَّاها أنَّه نزل بحسب ما نعت فيها هو ـ أعني القرآن ـ وما نُعت فيها النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وما يختصُّ ببعثه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ونحو ذلك ممَّا لم ينسخه القرآن، وليس المراد أنَّه موافق للكلِّ، والقرآن لإعجازه لا يحتاج إلى ما يصدِّقه.
2. ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ﴾ قبل بعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ اللهَ، أي: يستنصرونه ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ مشركي العرب، من الأوس والخزرج المجاورين لهم إذا نالوا منهم سوءًا وغضبوا لدينهم قالوا: (اللهمَّ انصرنا عليهم بالنبيء المبعوث آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة) ويضعون أيديهم على اسمه فيها، فينصرون، وهو نبيئنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال لهم معاذ وبشر بن البراء: (اتَّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمَّد ونحن أهل شرك)، فقال: سلام بن مشكم: ما جاء بشيء نعرفه وما هو بالذي نذكره، فنزلت الآية، أو يستفتحون يملون ويخبرون العرب أنَّ نبيئًا يبعث الآن نقاتلكم معه قتل عاد وإرم، كما يقال: (فتح المأموم على الإمام) إذا أخبره بما توقَّف فيه، وكانوا يقاتلون غطفان فتغلبهم غطفان في كلِّ وقعة، فكانوا يقولون: (اللهمَّ إنَّا نسألك بالنبيء الأمِّيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي وعدتنا أن تبعثه آخر الزمان انصرنا عليهم) فينصرون، فلمَّا بُعث كفروا به فنزلت: ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ الآية، أو يستخبرون: هل وُلد؟
3. ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ﴾ في التوراة وغيرها من النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفاته وعلاماته وكتابه ﴿كَفَرُواْ بِهِ﴾ حسدًا وخوفًا على زوال رئاستهم وما يُعطَوْن، وجواب (لَمَّا) الأولى: يقدَّر كجواب الثانية: تأكيدًا، أي: كفروا به، أو تأسيسًا مدلولاً عليه بجواب الثانية، أي: استهانوا، أو ردُّوه، أو امتنعوا أو نحو ذلك، أو جوابها: (كفروا) فتكون الثانية: أعيدت لبعد الأولى، كقوله: ﴿أَيَعِدُكُمُ أنَّكُمُ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا اَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ [المؤمنون: 35] فأعاد (أنَّكم)، وعلى هذا الوجه أقحمت الفاء للإشعار بأنَّ ذلك عقب استفتاحهم، قيل: أو (لَمَّا) وما بعدها جواب للأولى كقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّـنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]، ويردُّه أنَّ جواب (لَمَّا) لا يقرن بالفاء إلَّا نادرًا جدًّا، ولا سيما أنَّه فعل ماض مجرَّد، وكذا لا يقبل قول بعض: إنَّ الجواب هو قوله: ﴿فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ إذ قرن بالفاء، وإذ هو جملة اسميَّة، الذين سبقت لهم الشقاوة أنس يموتوا كافرين، وهكذا لا يدخل في لعن الكافرين في القرآن إلَّا من قضى الله أن يموت كافرا، والمراد في الآية الجنس أو الاستغراق، فتدخل اليهود ببرهان أنَّ الكافر ملعون أوَّلا وبالذات، بمعنى أنَّ الكلام سيق لهم، وهكذا وكذا كلَّما قلت أوَّلا وبالذات، أو المراد اليهود، وعليه فذكروا باسم الكفر لا بالضمير ذمًّا وتصريحا بموجب اللعن.
4. ﴿بِيسَمَا اَشْتَرَوْا﴾ استبدلوا ﴿بِهِ أَنفُسَهُم﴾ أو باعوها باختيار الكفر، أو اشتروا أنفسهم في زعمهم من العذاب بتصلُّبهم في دينهم جازمين، ولو عرفوا ما جاء صلّى الله عليه وآله وسلّم به، كما قال تعالى : ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾، ﴿أَنْ يَّكْفُرُواْ﴾ مخصوص بالذمِّ، أي: هو كفرهم ﴿بِمَآ أَنزَلَ اللهُ﴾ من القرآن، والكفر ماض غير مستقبل، لكن قال: ﴿أَنْ يَّكْفُرُواْ﴾ لاستحضار الأمر الماضي بمنزلة المستقبل المترقَّب الوقوع، ليشاهَد ويعايَن، وإنَّما قلت ذلك لأنَّ المضارع المنصوبَ للاِستقبال، وهذا أولى من أن يقال: المضارع هنا للحال، ليكون الأمر كالمشاهد، وأنَّه لم تخلِّصه (أَنْ) للاستقبال.
5. ﴿بَغْيًا﴾ طلبًا لما ليس لهم، أي: حسدًا أو ظلمًا، تعليل لـ (يَكْفُرُوا)، أي: أن يكفروا لأجل البغي، أو تعليل لـ (اشْتَرَوْا)، ولو فُصل لِقلَّة الفاصل، أو ذوي بغي أو باغين، ووجه تعليقه بـ (اشْتَرَوْا) أنَّ المعنى على ذمِّ الكفر الذي أوثر على الإيمان بغيًا، لا على ذمِّ الكفر المعلَّل بالبغي، وأيضًا إبدال أنفسهم بالكفر هو لمجرَّد العناد الذي هو نتيجة البغي والحسد، كأنَّه قيل: بئس استبدال أنفسهم بالكفر لأجل محض الحسد.
6. ﴿اَن يُّنَزِّلَ اللهُ﴾ على أن ينزِّل الله الوحيَ، أو لأنْ ينزل، على أنَّه تعليلٌ لِـ (بَغْيًا)، ﴿مِن فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ حسدوا محمَّدا على رسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إذ كان من العرب ومن ولد إسماعيل لا منهم ولا من ولد يعقوب، أو نبيء من أنبيائهم.
7. ﴿فَبَآءُواْ بِغَضَبٍ﴾ هو هذا الكفر ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ استلحقوه من قبلُ لتضييع التوراة، والكفر بعيسى والإنجيل، وقولهم: عزير ابن الله، وقتلهم الأنبياء ونحو ذلك، والمراد اجتماع غضبات عليهم، وتكرُّرها عليهم هكذا عمومًا، أو الأوَّل لعبادة العجل، أو قولهم عزير ابن الله، ويد الله مغلولة ونحو ذلك.. والكفر بالإنجيل أو بعيسى، والثاني: الكفر بالقرآن أو به صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ مثل الكافرين في الآيةِ قَبلُ، ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ مذلٌّ، جُوزُوا بما حاولوا من أن يذلُّوا المسلمين بدعوى فضلهم عليهم، والمذلُّ الله، وأسند الإذلال إلى السبب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/161.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ﴾ هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة، وصفه بالهدى، وتنكيره للتفخيم، ونعته بقوله ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ للتشريف ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ من التوراة، وجواب (لما) محذوف دل عليه جواب (لما) الثانية، وعليه، فقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا﴾ :
أ. قيل: جملة معطوفة على الشرطية، عطف القصة على القصة.
ب. وقيل: جوابها كفروا، ولمّا الثانية تكرار للأولى، فلا تحتاج إلى جواب.
ج. وقيل: كفروا جواب للأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد.
2. على الوجهين جملة قوله ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي قبل مجيئه ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم، والاستفتاح: الاستنصار أي طلب النصر، أي يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزا بهم.
3. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ صحته وصدقه، كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ، وهو انتصارهم على المشركين وحصول العزة لهم مع المؤمنين، ولكن ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ أي امتنعوا من الإيمان به خوفا من زوال رئاستهم وأموالهم، وأصرّوا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته، ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة إسلامه: يا معشر اليهود اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، رواه البخاريّ في الهجرة، وروى أيضا أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ، فلما أجابه عنها قال أشهد أنك رسول الله.
4. ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ اللام فيه للعهد أي عليهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه، أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليّا، إذ الكلام فيهم، وأيّا ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾
5. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ (ما) نكرة موصوفة بما بعدها، منصوبة على التمييز، مفسرة لفاعل بئس، أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها، فرضوا به وعدلوا إليه.
6. المخصوص بالذم قوله تعالى: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته ﴿بَغْيًا﴾ حسدا ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ﴾ لأن ينزل، أو على أن ينزل، أي حسدوه على أن ينزل الله ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ الذي هو الوحي ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي يشاؤه ويصطفيه للرسالة.
7. ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ ﴾ أي رجعوا لأجل ذلك بغضب، في حسدهم لهذا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى كفروا به ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ كانوا استحقوه قبل بعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم من أجل تحريفهم الكلم، وتضييعهم بعض أحكام التوراة، وكفرهم بعيسى عليه السلام، قال الرازيّ: (إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: (اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله)، والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة.
8. يحتمل قوله تعالى: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾، فصاروا أحقاء بغضب مترادف، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور، بل المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر، وإن كان واحدا، إلا أنه عظيم.
9. الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها(2).، وليس غضبه كغضبنا، كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته، وما قيل: إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلا بها، كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ، وهذا يتبيّن بقاعدة: وهي أن كثيرا من الناس يتوهم، في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أ. أحدها كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
ب. الثاني أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطّله فبقيت النصوص معطلة، عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جناية على النصوص، وظنه السّيئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما، من إثبات صفات الله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.
ج. الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل، فيكون معطّلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى.
د. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات وصفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا.
10. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ أي لهم، والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ يراد به إهانتهم، أي إذلالهم، فإن كفرهم، لما كان سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60] أي صاغرين حقيرين.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/348.
(2) الكلام في هذه المسألة كله نسبه لابن تيمية، ولم يعقب عليه، تفسير القاسمي: 1/351.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ﴾ متصل بقوله قبله ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ والمعنى أن إيمانهم كان قليلا حال كونهم كانوا ينتظرون نبيا وكتابا مصدقا لما معهم، وكانوا يستفتحون به على المشركين، فكيف لا يكون قليلا، أو أقل بعد ما جاء ما كانوا ينتظرون وعرفوا أنه الحق ثم كفروا؟ فالجملة حالية: ويصح أيضا هذا الاتصال الذي ذكره على الوجه الثاني في تفسير ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾
2. الكتاب هنا القرآن نكره للتفخيم، وقوله: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ معناه أنه موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده.
3. الاستفتاح في قوله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معناه طلب الفتح، وهو الفصل في الشيء والحكم، ويستعمل بمعنى النصر لأنه فصل بين المتحاربين، وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبي المنتظر يقولون إنه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها ويبطلها، فيكون مؤيدا لدين موسى.
4. شذ بعضهم كالبغوي في تفسيره، فقال: إنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل ـ فكانوا ينصرون وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس لم يعرج ابن كثير على شيء منها، ولعله لأنها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وفى بعض الروايات: (بحقه) وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعى به كما قال أبو حنيفة وغيره، وكذلك فعل ابن جرير لم يذكر شيئا من روايات الدعاء بحقه والاستنصار بشخصه، بل ذكر عدة روايات في أنهم كانوا يدعون الله بأن يبعثه ليقتل المشركين، وفى بعضها أنهم كانوا يرجون أن يكون منهم، والكلام هنا في مجيء الكتاب لا في مجيء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يأتي ذكر مجيئه قريبا، على أنهما متلازمتان.
5. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ أعاد ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ﴾ وهى عين الأولى لطول الفصل، ووصل به الجواب وهو ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ ذلك أنه راعهم كونه بعث في العرب فحسدوه فحملهم الحسد على الكفر به جحودا وبغيا، فسجلت عليهم اللعنة التي أصابتهم بكفرهم الأول بأن الكفر صار وصفا لازما لهم ولذلك قال: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ولم يقل عليهم لأن المظهر أبلغ وأعم وأشمل.
6. ثم ذكر علة هذا الكفر وسببه وبين فساد رأيهم فيه بقوله ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي بئس شيئا اشتروا به أنفسهم هو كفرهم بما أنزل الله مصدقا لما معهم، كما كانوا ينتظرون، شرى الشيء واشتراه يستعمل كل منهما بمعنى باع الشيء، وبمعنى ابتاعه، لأن الحرف يدل على المعاوضة:
أ. قد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ﴿اشْتَرَوْا﴾ هنا بمعنى باعوا أي إنهم بذلوا أنفسهم وباعوها بما حرصوا عليه من الكفر بغيا وحسدا للنبي وحبا في الرياسة واعتزازا بالجنسية، وبما كان لكل من الرؤساء والمرؤوسين من المنافع المتبادلة في المحافظة عليها، فهذا كله يعد ثمنا لأنفسهم التي خسروها بالكفر حتى كأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع.
ب. وذكر ابن جرير وجها آخر وهو أن ﴿اشْتَرَوْا﴾ هنا بمعنى ابتاعوا، أي إنهم جعلوا أنفسهم ثمنا للكفر الذي ذكرت علته آنفا، وفيه من الزيادة على معنى المعاوضة في الوجه الأول أنهم قد أنقذوا أنفسهم بذلك الكفر، أي أنهم يزعمون ذلك ويدعونه في الظاهر، وإن كانوا في الباطن قد عرفوا أن ما جاءهم هو الحق الذي كانوا ينتظرون، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يكتمون.
7. فهم مما تقدم معنى قوله تعالى: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ فهو تعليل لكفرهم لا لشرائهم، أي كفروا به لمحض البغي الذي أثاره الحسد كراهة أن ينزل الله الوحى من فضله بمقتضى مشيئته، وأى بغى أقبح من بغى من يريد أن يحجر على فضل الله ويفيد رحمته فلا يرضى منه أن يجعل الوحى في آل اسماعيل كما جعله في آل أخيه اسحاق؟
8. ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ هو الغضب الذي استوجبوه حديثا بالكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فوق ذلك الغضب الذي لحقهم من قبل بإعنات موسى عليه السّلام والكفر به، وقد ذكر في قوله تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ﴾، ثم توعدهم بعد الغضب المزدوج، فقال ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ أي مقرون بالإهانة والإذلال، وبذلك صار بمعني الآية السابقة، فكأن الجزاء واحد تكرر بتكرر الذنب.. وقال: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل (ولهم) لما في المظهر من بيان التعليل بالوصف الذي سجله عليهم.
9. هذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فذنوب الأمم تتبعها عقوبتها في الدنيا لأنها أثر طبيعي لها، وإنما جعلها الله كذلك لتكون عبرة يتأدب المتأخرون بما أصاب منها المتقدمين، وكذلك الحال في عقوبة الآخرة بالنسبة إلى الأفراد، فإن عذاب كل شخص إنما يكون بحسب تأثير الجهل في عقله وفساد الأخلاق وسوء الأعمال في نفسه.
__________
(1) تفسير المنار: 1/381.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ هذا مرتبط معنى بقوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي وقالوا قلوبنا غلف وكذبوا لما جاءهم كتاب.. وقوله: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده.
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي وكانوا يستنصرون به على مشركي العرب وكفار مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.. وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فسجّل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.
3. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم وبذلوها ـ الكفر بما أنزل الله، وهو الكتاب المصدّق لما معهم، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع.
4. ثم بين علة ذلك فقال: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي إنهم كفروا لمحض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، ولا بغى أقبح من بغى من يريد الحجر على الله، فلا يرضى أن يجعل الوحى في آل إسماعيل كما جعله من قبل في آل إسحاق.
5. ثم ذكر مقدار ما نالهم من غضبه فقال: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ أي فرجعوا وهم مستوجبون لغضبين: غضب الكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فوق الغضب الذي استحقوه من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به.
6. ثم بين عاقبة أمرهم فقال: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/168.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يفضح الله تعالى السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ﴾ .. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا.. لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما، يكثر أو يقل، أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها.
2. لكن هذا هو الواقع، وإن بدا تمثيلا وتصويرا، لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين، وبما ذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه!
3. وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم.
4. هذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى، التي تربط البشرية جميعا.
5. وهكذا عاش اليهود في عزلة، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر؛ ويكنون للناس البغضاء، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفئ، وهلاكا يسلطونه على الناس، ويسلطه عليهم الناس.. وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ ..
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/91.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الحسد ليأكل صدورهم، وإن الشّره ليعمى أبصارهم، حتى إنهم ليهلكون أنفسهم، ويحرمونها موارد الخير، لأن غيرهم قد سبقهم إلى هذا الخير ونال منه، وهو خير لا ينفد أبدا، يسع الناس جميعا، ومع هذا فهم يريدونه خالصا لهم من دون الناس، لا ينال أحد شيئا منه.
2. وقد غضب الله عليهم غضبا بعد غضب، غضب عليهم أولا، لأنهم عرفوا الحق ولم ينصروه، بل خذلوه ومكروا به وحاربوه.. وغضب عليهم ثانيا، لأنهم نقضوا الميثاق الذي أخذه الله عليهم في الكتاب الذي بين أيديهم، ثم حرّفوا في كتابهم هذا وبدلوا، واستباحوا حرمته، وهذا كفر بكتابهم بعد كفرهم بمحمد وبما نزل عليه، وهذا ما جعلهم بمعرض من غضب الله، حالا بعد حال، ومرة بعد مرة!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/110.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: 88] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين.
2. قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به، وقوله: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر.
3. الاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر، قال تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ [الأنفال: 19] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة، وجوز أن يكون ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين.
4. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ أي ما كانوا يستفتحون به، أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به، وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل، فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول، ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل.
5. المراد بـ ﴿مَا عَرَفُوا﴾ القرآن، أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج، وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك، ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى: ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109] ويصير معنى الآية: (وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين.
6. جملة: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ في موضع الحال، وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة، وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان.
7. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ بالفاء عطف على جملة ﴿ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ ﴾، و(لما) الثانية تتنازع مع (لما) الأولى الجواب، وهو قوله: ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ فكان موقع جملة ﴿وَكَانُوا﴾ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة ﴿ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ ﴾ وجملة ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ إلخ واحد وإعادة ﴿لَمًّا ﴾ في الجملة الثانية دون أن يقول: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا.. قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى، قال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [آل عمران: 188] وقال: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ﴾ [المؤمنون: 35] فأعاد ﴿إِنَّكُمْ﴾ قبل خبر الأولى.
8. ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء، وليس غيره مطلوبا بالأدعية، وهذا كقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: 64] وقوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30] وقوله: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾
9. الفاء: للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم:
وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة... أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل... بإقدام نفس ما أريد بقاءها
فعطف قوله: (فإني) على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام.
10. اللام في ﴿الْكَافِرِينَ﴾ : للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم، بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم، وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم، والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي:
إنّا محيوك يا سلمى فحيينا... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.
11. ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ﴾ استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن، فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.
12. ﴿بِئْسَمَا﴾ : مركّب من (بئس) و(ما) الزائدة، وفي بئس وضدّها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان، وفي (ما) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن (ما) الموصولة فقوله: ﴿بِئْسَمَا﴾ يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي، والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها (ما) وحدها كانت (ما) معرفة تامة نحو قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: 271] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت (ما) معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ و(ما) فاعل (بئس).
13. قد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح، ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من (ما) وعليه فقوله تعالى: ﴿اشْتَرَوْا﴾ إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان.
14. الاشتراء: الابتياع، كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16]، فقوله تعالى هنا: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا، فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لتمسكهم بالتوراة، وأن قوله فيما تقدم ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ [البقرة: 89] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم.
15. قوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ هو أيضا بحسب الواقع، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت، وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ على أحد الاحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: 86].
16. من المعاني التي ذكرت لـ ﴿اشْتَرَوْا﴾ : باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾، وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله: ﴿مَا عَرَفُوا﴾ وقوله هنا: ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ فأنت في غنى عن التكلف.
17. على كلا التفسيرين يكون ﴿اشْتَرَوْا﴾ مع ما تفرع عنه من قوله: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران، وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.
18. جيء بصيغة المضارع في قوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ ولم يؤت به على ما يناسب المبيّن وهو ما ﴿اشْتَرَوْا﴾ المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبيّن بأن يكفروا معبّرا عنه بالماضي بقوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا﴾
19. ﴿بَغْيًا﴾ مفعول لأجله علة لقوله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا﴾ لأنه الأقرب إليه، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم، والبغي هنا مصدر بغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا... لمن بات في نعمائه يتقلّب
20. ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ﴾ متعلق بقوله: ﴿بَغْيًا﴾ بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل ﴿بَغْيًا﴾ بمعنى حسدا، فاليهود كفروا حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وقوله: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسرا، شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾
21. الظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: 35] أي نور عظيم، وقوله: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ [النور: 40] وقول أبي الطيب: (أرق على أرق ومثلى يأرق)، وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة:
أنت آل شماس بن لأي وإنما... أتاهم بها الأحلام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري: (بني الحسب الوضاح والمفخر الجم)، أي العظيم، قال القرطبي: (المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام)
22. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ هو كقوله: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/584.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكرهم الله تعالى بأعمال سلفهم مع الأنبياء بصورة عامة، ثم بدأ سبحانه وتعالى أعمالهم مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بصفة خاصة، وهى في ذاتها أشد كفرا مما كان من أسلافهم مع الأنبياء السابقين، ولذا كان الخطاب متصلا بخطاب أسلافهم، فأسلاف أخذ عليهم الميثاق لا يعبدون إلا الله، وأسلاف أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكوا دماءهم وأ لا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، خوطب أسلافهم بذلك، وكان الخطاب موجها لهم، والميثاق في رقابهم ولذلك ندد بقتلهم أنفسهم، وإخراجهم فريقا منهم من ديارهم.
2. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أخبر سبحانه وتعالى أنهم جاءهم كتاب، وهو قد جاء مع رسول من بنى إسماعيل عليه السلام بهذا الكتاب، فذكر الكتاب، وهو يقتضى أن يكون مع رسول، فأعلم بالكتاب لأن الأمر أنه كتاب يشتمل على المواثيق مثل المواثيق التي أخذت عليهم، ونقضوها، فهو ميثاق جديد للمواثيق التي جاءتهم من قبل.
3. لم يذكر اسم الرسول؛ لأن الاعتبار لهذا الكتاب الذي وصفه الله تعالى بوصفين:
أ. أنه من عند الله تعالى، وما يكون من عند الله جدير بأن يتقبلوه بقبول حسن، وأن يأخذوه بمأخذ الطاعة لأوامره ونواهيه.
ب. أنه مصدق لما معهم فهو مصدق لما جاء في التوراة من وصف للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومصدق للمواثيق التي أخذت عليهم من ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن يحسنوا إلى الأبوين وذوى القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقولوا للناس حسنا من القول.
4. يترتب على ذلك المعاملة الطيبة، وإن هذا النبيّ الذي جاء معه الكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو مصدق لما معهم من أوامر ونواه ومواثيق أخذت عليهم بقوة ـ قد كانوا يعلمون بمجيئه ويتوقعونه.
5. معنى تصديق الكتاب لما معهم أنه تصديق لما معهم من كتاب كانوا يكتبونه بأيديهم، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، حتى يجيء بعض البهتانيين الكاذبين من دعاة نصرانية بولس، فيقولون إن القرآن صدق ما بأيديهم من محرف التوراة المحرفة والمنحرفة والإنجيل المحرف، إنما صدق القرآن الأوامر الأصلية مما اشتمل المواثيق التي أخذت عليهم بقوة، ولم يصدق الذي حرفوه ولا المنحرف عن الحق والخلق المستقيم، كالذي اشتملت من أن نبيّ الله داوود زنى بحليلة جاره، وأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه عشيقته، ذلك إفك بين لا يليق بأخلاق نبيّ جعله الله تعالى خليفته في الأرض ولا يليق بذي خلق كريم، فهل هذا ما صدق به الكتاب ما معهم، ذلك هو الضلال البعيد، ولن يكون في كتاب منزل من عند الله، ولا يدّعيه إلا الذين هوت نفوسهم إلى مثل هذا الحضيض الأوهد من الأخلاق.
6. اليهود الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يعلنون أنه سيكون نبي، وأنهم يتوقعون أن لا يكون منهم كما ذكر من قبل؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ السين والتاء للطلب أي يطلبون الفتح، والفتح هو النصر كما في قوله تعالى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة] وأطلق الفتح على النصر العادل، لأن النصر يفتح الطريق أمام الحق، وقد بشر الله تعالى بالنصر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾
7. كان اليهود إذا كانوا في حرب مع المشركين ممن يجاورونهم في المدينة يطلبون النصر بالنبي الذي حان حينه وحل، أوانه ويحسبون أنه سينصرهم على المشركين؛ لأنه سيجيء بمحو عبادة الأوثان وتحطيمها.
8. لم يكن ذلك الاستفتاح بين اليهود من بنى النضير وجيرانهم في المدينة، بل كان بين اليهود، وغيرهم في داخل الجزيرة، يروى ابن عباس أنه كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فدعت بهذا الدعاء، وقالوا: (إنا نسألك بحق النبيّ الأمى الذي وعدتنا أن تخرجه إلا تنصرنا عليهم) فكان إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان.
9. كان معروفا عند اليهود ذلك النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يستفتحون به ويدعون الله بحقه أن ينصرهم، ولكنهم كسائر أسلافهم يتبعون أهواءهم، فلما جاء من غير قبيلهم أنكروا معرفتهم، وادعوا أنه لا ينطبق عليه أوصاف من كان يستفتحون به، وهم كما قال الله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة].
10. ولذا قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾، الفاء للترتيب أي أنهم مع هذا الاستفتاح ترتب نقيضه وهو أنهم لما جاءهم الذي عرفوه جحدوه وكفروا به، فهم رتبوا على الشيء نقيضه وبدل أن يذعنوا للحق الذي عرفوه أنكروه وكفروا به، وهكذا شأنهم هم وأسلافهم دائما يعرفون الحق ويكفرون به، عرفوا باطل فرعون ومع ذلك اتخذوا العجل.
11. عبر قوله تعالى عن إدراكهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلمهم به بأنهم عرفوه، والمعرفة هي العلم الجازم المطابق للواقع عن دليل، ومع ذلك كفروا به، فكانوا مطرودين عن رحمة الله، والحق الذي جاء به النبيون، ولذا قال تعالى: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ الفاء للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر مؤداه إذا كانوا قد كفروا بما عرفوا واستيقنوا فلعنة الله تعالى عليهم، وأظهر في موضع الإضمار للتصريح بأنهم صاروا في عداد الكافرين، وخرجوا عن دائرة المؤمنين الذين يؤمنون بأي شيء في كتابهم فهم قد كفروا بكتابهم وبما عندهم واللعنة هي الطرد، ووراء الطرد المذلة، وإن كفرهم هو السبب في طردهم وذلتهم.
12. ﴿بِئْسَمَا﴾ : بئس من أفعال الذم كنعم من أفعال المدح، ويكون معها تمييز ثم يعقبه المخصوص بالذم أو المدح كأن تقول: نعم محمد رجلا، فـ (رجلا) تمييز ومحمد المخصوص بالمدح أو الذي يمدح، وقد تكون (ما) هي التمييز فتكون نكرة تامة بمعنى شيء مذموم.. فـ (ما) ـ هنا على ما يخرجه النحاة نكرة موصوفة بالذم ـ لما اشتروا به أنفسهم ـ ويكون المعنى بئس شيئا مذموما، والمخصوص بالذم هو أن يكفروا بما أنزل الله بغيا.. إلى آخره، فاشتروا هنا بمعنى باعوا، أي أنه بئس هذا الفعل الذي باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل بغيا ظلما وحسدا وحقدا.. هذا ما يقوله النحويون في (ما) ولا نرى مانعا من أن تكون اسما موصولا بمعنى الذى، فيكون المعنى بئس الذي باعوا به أنفسهم فقد باعوها بأمر حقير مضرته شديدة وهو أن يكفروا بما أنزل الله تعالى من قرآن كريم هاد إلى الرشاد وإلى سواء السبيل.
13. قوله: ﴿بَغْيًا﴾ مفعول لأجله أي لأجل ما في نفوسهم من حسد أدى إلى ظلم شديد، والبغي في أصله طلب الشيء بشدة، إرضاء لهوى، وأن ذلك يؤدى إلى أن يطلب الشيء بغير حله، وإلى الظلم؛ ولذلك أطلق البغي على الظلم الذي يبتغى ويطلب في حرص ولذا يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، وإن ذلك البغي الناتج عن الهوى والحسد هو أنهم يكرهون أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ومعنى النص الكريم ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ لأجل البغي المستكن في نفوسهم، وهو كراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فهم ارتكبوا إثمين كبيرين بذلك:
أ. أولهما ـ الكفر بما أنزل الله تعالى وذلك إثم في ذاته، وهو كفر مبين؛ لأن من ينكر ما أنزل الله تعالى، وقد قامت بيناته، وعرفوه من قبل في كتبهم فقد كفر كفرانا مبينا.
ب. ثانيهما ـ أن الباعث إثم عظيم واغترار، بأنهم المختارون وحدهم لرسالة الله ـ فمعنى ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي من رسالة ربه، فهي من فضل الله، والله ذو الفضل العظيم، يختص برحمته من يشاء والله أعلم حيث يجعل رسالته.
14. حسد اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه جاء من ولد إسماعيل لا من ولد إسحاق، يريدون أن يكون خاتم النبيين من ولد إسحاق، فهم يكفرون بما أنزل الله تعالى لأنهم يكرهون أن ينزل الله رسالته على من يشاء من عباده، فهم يريدون أن تكون إرادة الله تعالى على هواهم في إرسال الرسل.
15. بيّن الله تعالى أن ذلك أدى إلى غضبه عليهم، وبعدهم عن رحمته؛ ولذا قال تعالى: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ أي فرجعوا، وكانت النتيجة لهذا البغي والحسد، أن نزل بهم غضب، والمراد أنهم باؤوا بغضب متزايد متكاثر شديد لتزايد أسبابه، وتعدد دواعيه، وبواعثه.
16. كفر اليهود الذين خاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرتين:
أ. إحداهما ـ بكفرهم بما أنزل الله تعالى، وقد عرفوه من قبل، وكانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يعرفون أبناءهم.
ب. الثانية ـ أنهم يريدون أن يكون أمر الله تعالى في رسله على هواهم.
17. لذلك قال تعالى: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾ والغضب يكون حالا تليق بذات الله تعالى يتجلى في عدم رضاه وإنزاله العذاب بمن يغضب عليه وطرده من رحمته ولعنه، وكل ما يذكر الله تعالى من صفات وأحوال يتشابه أسماؤه مع ما يتصف به من صفات وما تكون عليه من أحوال لا يكون مشابها لنا، بل يكون أمرا يليق بالذات العلية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ تعالى الله عن مشابهة الحوادث.
18. ذكر سبحانه وتعالى ما ينزله بهم سبحانه من عذاب فقال تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ أي عذاب يوقعهم في الذل والمهانة، وذكر سبحانه وتعالى العذاب لهم بأنه مهين مذل موقع في المهانة؛ لأنه عقاب لاستعلائهم الكاذب، وغرورهم حتى حسبوا أن الله تعالى يتصرف كما يهوون، وكما يبتغون، والله تعالى القاهر فوق عباده وهو الحكيم العليم.
19. إن الله يذل دائما كل من يتطاول، ويتسامى بغرور، روى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله)، ونحن نقول مقتدين بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، متبعين له: اشتد غضب الله على كل عتل جبار أذل البلاد، وأفسد العباد، وأنه القادر الذي ليس فوقه أحد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/310.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾، أي لما جاءهم القرآن كفروا به، فحذف جواب لما هذه، وهو كفروا به لدلالة جواب لما الثانية عليه، والقرآن الذي كفروا به فيه تصديق لما تضمنته توراتهم من التبشير بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فهم في النتيجة يكذبون بذلك من يصدقهم بل يكذبون أنفسهم بأنفسهم، وليس هذا بغريب ولا عجيب على من يتخذ من عاطفته وذاته مقياسا للتحليل والتحريم، والتصديق والتكذيب.. وكل من يحلل لنفسه ما يحرمه على الغير فهو من هذا النوع، اللهم اكفنا شر الجهل بأنفسنا.
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ كان اليهود قبل البعثة يستنصرون وينذرون الأوس والخزرج بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما جاء انعكست الآية، فآمن به الأوس والخزرج، وناصروه على أعدائه، حتى سموا الأنصار، وكفر به اليهود، فكان هلاكهم وتشريدهم على يد الأنصار بواسطة محمد، وهو نفس المصير الذي كانوا يرقبونه وينذرون به الأنصار على يدهم بواسطة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وهكذا يحيق المكر السيء بأهله، وتنزل الويلات على رأس من تمناها لغيره.
3. انقلب اليهود، وتحولوا من الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة الى الكفر به بعدها لأنهم كانوا يعتقدون أنه يأتي اسرائيليا من نسل اسحق قياسا على كثرة ما جاء من الأنبياء الاسرائيليين، فلما رأوه عربيا من نسل إسماعيل أنكروه حسدا وتعصبا للعنصرية اليهودية.. وكل من أنكر الحق تعصبا للعرق أو لغيره فهو تماما كهؤلاء اليهود الذين رفضوا الاعتراف بمحمد لا لشيء إلا لأنه عربي.
4. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، يستعمل القرآن الكريم كثيرا لفظ البيع والشراء والتجارة في العمل الصالح والطالح.. ذلك ان الإنسان إذا آمن وعمل صالحا فكأنه قد دفع الثمن لخلاص نفسه ونجاتها وإذا كفر وانحرف لمنفعة عاجلة فكأنه قد باع نفسه للشيطان بأنجس الأثمان.. واشتروا هنا بمعنى باعوا، أي ان اليهود باعوا أنفسهم للشيطان، وألقوا بها الى التهلكة، ولا ثمن لنفوسهم الهالكة إلا الحسد والتعصب للجنسية اليهودية.. ولذا قال سبحانه: ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، أي كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا لشيء إلا لأنهم يريدون أن يحصروا الوحي والفضل فيهم وحدهم، ولا يقبلون من الله، ولا من غيره إلا ما يوافق أهواءهم ومنافعهم.. فهم ـ اذن ـ يستحقون عقابين وغضبين: عقابا على كفرهم، وآخر على أنانيتهم وتعصبهم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/151.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. روي عن ابن عباس قال: كانت يهود بني قريظة والنضير ـ من قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم ـ فينصرون فلما جاءهم ما عرفوا يريد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يشكوا فيه كفروا به.. وروى قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا، قال بعض المفسرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة ونظائرها: (إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعى به)، وقولهم هذا ناشئ من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم، بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشيء ذي شرافة وكرامة من حيث إنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم امتثال التكليف، فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، وكذا إذا قلت أفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف حياتك وقيمة عمرك.
2. من هنا يظهر:
أ. أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.
ب. وثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة، وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا﴾ وكقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ وقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والإنسان والشجر والتين والزيتون، وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس ـ والكل شريف بشرف ذاته الشريفة ـ
3. ما المانع للداعي إذا سأل الله شيئا أن يسأله بشيء منها من حيث إن الله سبحانه شرفه وأقسم به؟ وما الذي هون الأمر في خصوص رسول الله ص حتى أخرجه من هذه الكلية واستثناء من هذه الجملة؟.. ولعمري ليس رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأهون عند الله من تينة عراقية، أو زيتونة شامية، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
4. ثم إن الحق ـ ويقابله الباطل ـ هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنه كذلك كالأرض والإنسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث إنها ثابتة بنظر الاجتماع، وقد أبطل القرآن كل ما يدعى حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الإيجاد أو في التشريع، فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الإخوان والوالدين على الولد، وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض الاستدلالات الاعتزالية غير أنه من الممكن أن يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾، والنصر مطلق، غير مقيد بشيء فالإنجاء حق للمؤمنين على الله، والنصر حق للمرسل على الله تعالى وقد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا مانع من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرف للحق والمقسم بكل أمر شريف.
5. بناء على هذا لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بحق نبيه، وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم وقد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت.
6. قول القائل: (ليس لأحد على الله حق) كلام واه.. نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه، ولا كلام لأحد في ذلك، ولا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره، بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/224.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. جاء القرآن على لسان النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يحمل في آياته التصديق لما في التوراة من عقيدة ومفهوم وتشريع، ليكون ذلك حجة عليهم من الله، لأن التوراة لم تكن منتشرة بين الناس ليتهموه بنقلها وتعلّمها، بل كانت محتكرة عند اليهود بلغة غير عربية، وكان اليهود قبل الرسالة ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ أي يطلبون الفتح والنصر على الكافرين الوثنيين المقيمين في المدينة عند اشتداد المشاكل والخلافات فيما بينهم وشعورهم بالضعف أمام قوة الآخرين، ويقولون لهم: إننا سنكون في موقف القوة عند ظهور النبي الموعود في هذه البلاد، فنقتلكم ونهلككم لأنه سيكون معنا فينصرنا عليكم، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ لأن الرسالة الإسلامية كبقية الرسالات التي سبقتها، لم تأت لتنسف الرسالات المتقدمة أو تنسخها بل لتكملها، ولذا جاء الحديث المأثور عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وروي عن عيسى عليه السّلام أنه قال: (جئت لأكمل الناموس)
2. ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالنبي وبالرسالة، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ من الرسالة فيما سمعوه من آياتها وعرفوه من شرائعها، ورأوا الانسجام واضحا بينها وبين ما لديهم من التوراة، وأيقنوا الحق في موقف النبي ودعوته، ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ وجحدوه بغيا وحسدا وعدوانا. ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ لأنهم ابتعدوا عن الله بعد أن عرفوا طريقه، فأبعدهم الله عنه.
3. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ ؛ والشراء هنا بمعنى البيع، كما في قوله تعالى: ﴿ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ ﴾ [البقرة: 207]، ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ فهم لم يكفروا لشبهة عرضت لهم أو لعدم وضوح الحق لديهم، بل كان الكفر كفر عدوان وعناد وحسد، لأنهم عرفوا من تعاليم الإسلام ومن مواقف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا يمنحهم أيّ امتياز يميزهم عن سائر المسلمين، فشعروا بأنهم سيتحولون مع هذا الدين الجديد إلى أتباع عاديين، وبذلك يفقدون المواقع التي كانوا فيها والامتيازات التي حصلوا عليها.
4. هنا يقف القرآن ليشجب هذا الموقف ويندد بهم، ويقول لهم إنهم باعوا أنفسهم بدون ثمن، لأنهم لم يحصلوا إلا على البغي والحسد الذي لن يؤدي بالإنسان إلى نتيجة محترمة، بل يؤدي بهم إلى الشعور القاتل الذي يحوّل داخل الإنسان إلى عقدة ضاغطة تقضي عليه في نهاية المطاف، وقد أوضح القرآن طبيعة هذا الحسد، فقد كانوا يحبون أن ينزل القرآن عليهم ليكمّل تاريخ النبوّات لبني إسرائيل، ليعزز من مكانتهم ويرفع من امتيازاتهم ويقوّي من مواقفهم.
5. ﴿ فَباؤُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ﴾؛ الغضب الأول ما واجهوه عند تمردهم على موسى وعلى الأنبياء من بعده قبل النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والغضب الثاني عندما تمردوا على النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ في الآخرة.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/126.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وهو القرآن ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ من كتب الله ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كانوا يدعون الله على الذين كفروا، أن يفتح بينهم وبين الذين كفروا، أي يفصل بينهم بحكم من عنده، وهذا الفصل إما بالنصر عليهم، وإما بالحجة القاطعة للخلاف.
2. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا﴾ بالدليل الذي يبين أنه الحق، وبموافقته الصفات الموجودة عندهم، فليس أمراً مستغرباً بحيث تنكره نفوسهم ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ وصاروا كالذين كفروا من قبل؛ الذين كانوا يستفتحون عليهم، وجحدوا الفتح الذي كانوا يطلبونه من قبل؛ لأن القرآن والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جعل الله من النصر على الذين كفروا كل ذلك فتح بالنصر وبالحجة القاطعة للخلاف، كما قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [البينة: 1 ـ 3]
3. ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ المذكورين أو المذكورين وسائر الكافرين، وهذه الجملة الاسمية أعظم مما لو قيل: فلعن الله؛ لأن الجملة الاسمية تدل على ثبات اللعنة واستمرارها، والأقرب: أن المراد بالكافرين المذكورين من أهل الكتاب وأن اللعنة هنا بمعنى اللعنة في قوله تعالى: ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾
4. ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ (بئس) كلمة ذم، ضد نعْمَ في المدح، واشتراء النفس الممدوح: تقوى الله التي تنقذها من النار، فاشتراء النفس: إنقاذها من النار بالثمن الذي هو تقوى الله كما في الحديث: (الناس غاديان، فمشتر نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها)، فلما كان هذا الاشتراء هو الذي ينبغي لكل عاقل وهو الاشتراء الممدوح سمي كفرهم بآيات الله الذي جعلوه بدل الإيمان والتقوى سمي اشتراءً على طريق المشاكلة التقديرية، ولكن جعل اشتراء مذموماً؛ لأنه لا ينقذهم من النار، بل يوقعهم في النار ويخلدون فيها بسببه.
5. ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ هذا الذي اشتروا به أنفسهم المذموم ﴿بَغْيًا﴾ محاربة لله ورسوله؛ كراهة ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ من بني إسماعيل أو غيرهم، والمنزل من فضل الله هنا الكتاب والحكمة، كرهوا إنزال الله لها على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد كرهوا أن يكون إنزاله على من يشاء هو، كما قال الشاعر:
ألا قل لمن كان لي حاسداً.. أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه.. لأنك لم ترضَ لي ما وهب
فالكفر مذموم وحده، فإذا انضاف إلى ذلك أنه بغي من حيث أنهم كفروا ليقتدي بهم ويضعف الإسلام بكفرهم وانضاف إلى ذلك ـ أيضاً ـ أنه حسد كان هذا الكفر يستحق الذم المضاعف.
6. ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ فاحتملوا ورجعوا بغضب من الله على غضب لتعدد الأسباب، وأعتقد أن هذه ـ أيضاً ـ مشاكلة تقديرية؛ لأن الإنسان يبوء إلى بيته بما يكسب لنفسه وعياله من الرزق، وهؤلاء رجعوا حاملين غضباً على غضب، والغضب ما وقع عليهم من اللعنات والخزي في الدنيا.
7. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ في الآخرة، فإذا مات هؤلاء كافرين كان لهم ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ وفائدة هذا التعليق على الكفر وأمثاله من التعليق: أن لا يتوهم أن الوعيد على الأشخاص الذين كان الكلام فيهم، ولو تابوا وآمنوا، ونظيره في سورة النساء: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾
8. معنى أن العذاب ﴿مَهِينٍ ﴾ أن الله يهينهم به؛ لأنه إهانة من حيث أنه عذاب جزاء بما عملوا، وإهانة بما فيه من ضروب الإهانة كإطعامهم الزقوم وسقيهم الصديد وإرجاعهم إلى أمكنتهم منها كلما حاولوا الخروج، وقوله تعالى: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108] وسحبهم في النار على وجوههم نعوذ بالله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/144.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات تتحدث أيضا عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء ـ كما ورد في أسباب النّزول ـ هاجروا ليتخذوا من يثرب سكنا بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النّبي الذي بشرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النّبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرّسول وعن الرسالة ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾، وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقا لهذه الحقيقة وتوّاقا للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضا أن تحوّل هذا الفرد إلى عدوّ لدود لهذه الحقيقة.
2. روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: (كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر (مكان هجرة) محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بين (جبلي) غير واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عير وأحد، (فعلموا أنهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير، وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا، فكتبوا إليهم أنّا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإن كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبّعا فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثمّ أمّنهم، فنزلوا عليه، فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّا مقيما فيكم، فقالوا له: ليس لك ذلك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمّدا عليه السّلام آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى آخر الآية.)
3. هذه الفئة التي كانت تبحث بولع شديد عن منطلق البعثة المحمّدية، لتكون أول من تؤمن برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت تفتخر أمام الأوس والخزرج بأنها ستكون من خاصة صحابة النّبي المبعوث، إذا هي تقف ـ بسبب لجاجها وعنادها ـ إلى جانب أعداء النّبي، بينما التف حول الرّسول من كان بعيدا عن هذه الأجواء.
4. ما أشدّ خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثا عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شيء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾، لقد ضيعوا كل شيء وكأنهم أرادوا أن يكون النّبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاء الله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، لذلك شملهم غضب الله المتوالي: ﴿ فباؤوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ﴾
5. إنه لخسران عظيم أن تتهيّأ للإنسان كل سبل الهداية، ثم يعرض عنها لأمور تافهة، واليهود المعاصرون للنبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم هم من أولئك، توفّرت لهم كل هذه السبل، بل تحركوا زمنا يبتغون مصدر هذه الهداية، وعثروا بعد جهد على مبتغاهم حين حطوا رحالهم بين (العير) و(أحد) انتظارا للنبي الموعود، ثم إذا هم يخسرون كل شيء، حين علموا أن هذا النّبي المبعوث ليس من بني إسرائيل، أو أنه لا يحقق مصالحهم الشخصية.
6. ما أكبر الخسارة حين يبيع الإنسان نفسه بهذا الشكل، ويشتري بها غضب الله عزّ وجلّ! بينما ليس لوجود الإنسان ثمن إلّا الجنّة كما علي عليه السّلام: (إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها)
7. عبارة (اشتراء النفس) أي بيعها توحي أن الاتجاه نحو طريق الضلال بيع للنفس، وكأن الكافر يبيع شخصيته الإنسانية، لأن الكفر يهدم قيمة الإنسان من الأساس، وبعبارة أخرى إنه يكون كالعبيد الذين باعوا أنفسهم فأمسوا اسرى بيد الآخرين.. أجل إنّهم أسرى الأهواء وعبيد الشيطان.
8. القرآن الكريم قال عن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء بأنّهم ﴿ وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ﴾ بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، وفي سورة آل عمران الآية 12، ورد هذا المعنى أيضا وأن اليهود بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء باؤوا بغضب من الله تعالى، وهذا هو الغضب الأول، وهؤلاء أحفادهم من اليهود المعاصرين للبعثة المحمّدية ساروا على طريق أسلافهم في الكفر بالرسالة، وزادوا على ذلك بوقوفهم بوجه الرّسول وتآمرهم على الدعوة ولذلك قال عنهم ﴿ فباء وبغضب على غضب ﴾
9. ﴿ باءوا ﴾ بمعنى رجعوا ـ وأقاموا في المكان ـ وهنا تعني استحقاقهم لعذاب الله، فكأنهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهي، أو كأنهم اتخذوا موقفا يغضب الله.
10. هؤلاء القوم كانوا يعيشون أمل ظهور النّبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان موقفهم من الرّسولين الكريمين واحدا، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب الله وسخطه مرّة بعد أخرى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/297.
36. بنو إسرائيل والتعامل المزاجي مع الحق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈36⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 91]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا﴾ وإذا قيل لهم: صدقوا ﴿قَالُوا نُؤْمِن﴾ يقولون: نقول(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٧٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَه﴾، أي: بما بعده، يعني: بما بعد التوراة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٥٥.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: قال الله تعالى وهو يعيرهم ـ يعني: اليهود ـ ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٥٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَه﴾، يعني: بما بعد التوراة الإنجيل والفرقان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ الْحَقّ﴾ يعني: قرآن محمد ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُم﴾ يقول: تصديقا لمحمد ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّه﴾ عليه من القرآن مكتوبا عندهم في التوراة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿قُل﴾ لهم يا محمد: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّه﴾ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود إلى الإيمان، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: آتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، يقول الله سبحانه: فقد كانت الأنبياء تجيء إلى آبائهم فكانوا يقتلونهم، فقال الله تعالى: ﴿قُل﴾ يا محمد: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْل﴾ يقول: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، يعني: آباءهم، وقد جاءوا بالآيات والقربان ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين﴾ يعني: إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم في التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، فقد جاؤوا بالقربان، ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُم﴾ يعني: آباءهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن.
2. ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعنى التوراة، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان في الإيمان بها إيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما أنزل عليه، وإيمان بجميع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والرسل، وبجميع ما أنزل عليهم؛ لأن فيها الأمر بالإيمان بجميع الرسل وبكتبهم؛ لأنه قال: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾، وموافقا له، فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب، وبعضها موافق لبعض.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾:
أ. قيل: وراء التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان؛ كأنه قال كفروا بالذي وراءه وهو الحق؛ إذ هما موافقان لما معهم، غير مخالف له.
ب. ويحتمل: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ يعنى: وراء موسى بعيسى وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ كأنه قال من ورائه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. سؤال وإشكال: إن قالوا: إنا لم نقتل الأنبياء، ونحن مؤمنون والجواب: إنكم ـ وإن لم تتولوا القتل ـ فقد رضيتم بصنيع أولئك، واتبعتم لهم، مع ما قد همّوا بقتل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مرارا؛ ولذلك أضيف إليهم.
5. أخبر ـ عزّ وجل ـ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم غاية سفههم، وعتوهم، ومكابرتهم في تكذيبه، وذلك: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا اليهود إلى الإيمان به، وبما أنزل عليه، فقالوا: ائتنا بالآيات والقربان، كما كانت الأنبياء ـ من قبل ـ يأتون بها قومهم، يقول الله ـ عزّ وجل ـ: قد كانت الأنبياء من قبل تجيء ـ بما تقولون ـ إلى آبائكم؛ من الآيات والقربان، فكانوا يقتلونهم، فيقول الله ـ عزّ وجل ـ لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن قل لهم: لم تقتلون؟ يقول: لم قتل آباؤكم أنبياء الله قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد جاؤوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم بقربان تأكله النار، وقد جاؤوا به، فلم قتلوهم!؟.. فهو أنهم أخذوا هذه المحاجة من أوائلهم، وإن علموا بما ظهرت نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه مبعوث، وأنتم تقلدونهم، فتقلدونهم ـ لو أوتيتم ـ كما قلدتموهم، وإن علمتم بما عاينتم؛ إذ لا حجة لكم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/510.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن، ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني التوراة، ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي بعده ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ يعني التوراة؛ لأن كتب الله تصدق بعضها بعضاً.
2. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ :
أ. معناه قل: فلم قتلتم ومثله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ [البقرة: 102]، أي ما تلت، وقال الشاعر:
وإني لآتيكم بشكري ما مضى... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
يعني ما يكون في غد.
ب. وقيل: معناه قل فلم ترضون بقتل أنبياء الله إن كنتم مؤمنين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/72.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني التوراة ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ يعني بما بعده ﴿ وَهُوَالْحَقُ ﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ يعني التوراة، لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا.
2. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ معناه فلم قتلتم، فعبر عن الفعل الماضي بالمستقبل، وهذا يجوز، فيما كان بمنزلة الصفة، كقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي ما تلت، وقال الشاعر:
وإني لآتيكم بشكر ما مضى... من الأمر واستحباب ما كان في غد
يعني ما يكون في غد.. وقيل: معناه: فلم ترضون بقتل أنبياء الله، إن كنتم مؤمنين؟
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/160.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن. ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعنون التوراة. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ :
أ. قيل: يعني بما بعده قال الشاعر:
تمني الاماني ليس شيء وراءها... كموعد عرقوب أخاه بيثرب
ب. وقال الفراء: معنى (وراءه) ها هنا سواه، كما يقال للرجل يتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شيء يراد به، ليس عند المتكلم شيء سوى ذلك الكلام.
2. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ وبما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله عز وجل التي أنزلها الله الى رسله، ﴿هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾ يعني القرآن مصدقاً لما معهم ـ ونصب على الحال ـ ويسميه الكوفيون على القطع.
3. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ ضم على الغاية، وكذلك أخواتها نحو بعد وتحت وفوق إذا جعلت غاية ضمت، وفي ذلك خبر من الله تعالى ذكره انهم من التكذيب في التوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والقرآن عناداً وخلافاً لأمره، وبغياً على رسله.
4. ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ يعني قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا ـ قالوا لك نؤمن بما انزل علينا ـ: لم تقتلون ان كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم ـ أنبياءه ـ وقد حرم عليكم في الكتاب الذي انزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وفي ذلك تكذيب لهم في قولهم نؤمن بما انزل علينا، وتعيير عليهم.
5. ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ :
أ. وإن كان بلفظ الاستقبال المراد به الماضي، بدلالة قوله: من قبل، وذلك لما مضى، كما قال ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ اي ما تلت، قال الشاعر:
ولقد امر على اللئيم يسبني... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني
وفي رواية أخرى ثمت، قلت يريد بقوله ولقد امر بدلالة قوله: فمضيت ولم يقل فأمضى وقال آخر:
واني لآتيكم تشكر ما مضى... من الامر واستيجاب ما كان في غد
يعنى بذلك ما يكون في غد، قال الحطيئة:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه... ان الوليد أحق بالعذر
يعني يشهد وقال آخر:
فما أضحى ولا أمسيت إلا... اراني منكم في كوفان
فقال: اضحى، ثم قال: ولا أمسيت، ومثله ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾ اي يستخلده، وقال بعض الكوفيين: انما قال: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ وأراد به الماضي كما يقول القائل ـ موبخاً لغيره، ومكذباً له: لم تكذب، ولم تبغض نفسك الى الناس، قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة... ولم تجدي من ان تقري به بداً
فالجزاء المستقبل، والولادة كلها قد مضت، وجاز ذلك لأنه معروف.
ب. وقال قوم: معناه فلم ترضون بقتل أنبياء الله إن كنتم مؤمنين، وقالت فرقة ثانية: فلم تقاتلون أنبياء الله فعبر عن القتال بالقتل، لأنه يؤول اليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/351.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. وراء: نظير خلف، ونقيضه: قدام وأمام، وهو وراء ممدود، والورى مقصور: الأنام على وجه الأرض، وأصله من الظهور، والورى لظهور الشخص في ذلك المكان، وتصغيره وُرّيَّة.
ب. الإيمان: التصديق في اللغة، ونقل في الشرع إلى أداء الواجبات.
2. حكى الله تعالى جوابهم عند دعائهم إلى الإيمان فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ يعني اليهود الَّذِينَ تقدم ذكرهم ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والشرائع التي جاء بها، ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني التوراة ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي يجحدون ما بعده، عن الحسن وقتادة وأبي العالية والربيع، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ يعني ما وراءه وهو القرآن، عن الحسن والسدي: حق وصدق، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ قيل: جاء على مصداق ما في التوراة.. وقيل: يصدق التوراة.
3. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ وإنما أراد قتل أسلافهم الأنبياء؛ إلا أنه خاطبهم بذلك، لأنهم كانوا على طريقتهم.
4. سؤال وإشكال: ﴿آمَنُوا﴾ خطاب لهَؤُلَاءِ الموجودين و ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ حكاية عن صنيع أسلافهم، فكيف وجه الجمع بينهما؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. قيل: إنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم، كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين.
ب. وقيل: إذا ادعى هَؤُلَاءِ الإيمان بالتوراة فذلك يوجب الإيمان بما يصدقه كسائر كتب الله، وبما يقارنها المعجز لأن التوراة إنما يجب الإيمان بها لهذا الوجه، فمن قتل نبيًّا لم يصح إيمانه بالتوراة، ومن كذب نبيًّا فكذلك.
ج. وقيل: معناه فلم ترضون بذلك؟ وكانوا راضين بأفعال أسلافهم مصوبين لهم، مقتدين بهم.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصح إذا ترك بعضه، أو ترك ما هو مثله في اقتران المعجز به.
ب. أن إجابة الداعي إلى الحق واجبة.
ج. أن قتل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كفر، فيوجب بطلان قول من قال إن الكفر لا يكون إلا في القلب.
6. مسائل نحوية:
أ. الفرق بين (إن) و(إذا): (إذا): وقت للفعل الذي هو جواب، وليس كذلك (إن)، تقول: إن جئتني وصلتك، فيصح أن تصله بعد وقت المجيء، وإذا قلت: إذا جئتني وصلتك، فيصح أن تصله وقت مجيئه لا بعد مجيئه، وإذا قلت: إذا جئتني، فإنما تخبر بأنك تصله وقت مجيئه.
ب. ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ لا يصح أن يعمل فيها قبل، لأن المضاف لا يعمل في الصفات كما لا تعمل الصلة في الموصول.
ج. قال ﴿وَرَاءَهُ﴾ وما كفروا به قدامه لمقارنة معنى ﴿وَرَاءَ﴾ معنى ﴿بَعْدِ﴾، كأنه قيل: ويكفرون بما بعده.
د. انتصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ بمعنى الحال، والعامل فيه معنى الخبر، كقولك: هو زيد حقًّا.
هـ. في جواز ﴿ لِمَ تقتلون ﴾ من قبل، وعدم جواز (أنا أضربك أمس) قولان:
• أحدهما: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة، كقولك لمن تعنفه تعاتبه بما سلف من قبيح فعله ويحك لِمَ تكذب؟ ولمَ تبغض نفسك إلى الناس؟ كأنه قال لم هذا من شأنك؟ قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتلُوا الشَّياطِينُ ﴾ ولم يقل: ما تلت؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة، وقال الشاعر:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّني.. فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لاَ يَعْنِينيِ
ولم يقل: مررت؛ لأن معناه من شأني المرور.
• الثاني: كأنه ـ قال لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين؟ فلم تقتلون أنبياء الله؛ لأن من كان مؤمنًا لا يقتل أنبياء الله؟ وقيل: إن كنتم مؤمنين بالتوراة، وتقديره إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فلم تقتلون أنبياء الله؟ وفيها النهي عن ذلك، وقيل: (إن) بمعنى: ما كنتم مؤمنين، حكاه الزجاج، وهو وجه بعيد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/490.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم ﴿آمَنُوا﴾ أي صدقوا ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والشرائع التي جاء بها ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعنون التوراة ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي يجحدون بما بعده يريد الإنجيل والقرآن أو بما سوى التوراة من الكتب المنزلة، كقوله سبحانه ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ وقال ابن الأنباري تم الكلام عند قوله ﴿بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ ثم ابتدأ الله بالإخبار عنهم فقال ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي بما سواه ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ يعني التوراة لأن تصديق محمد وما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة قال الزجاج: وفي هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم إذ كفروا بما يصدق ما معهم.
2. ما وراءه أي: ما بعده، قال الشاعر:
تمني الأماني ليس شيء وراءها... كموعد عرقوب أخاه بيثرب
قال الفراء: معنى وراءه سوى، كما يقال للرجل تكلم بالكلام الحسن ما وراء هذا الكلام شيء يراد ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام.
3. ثم رد الله تعالى عليهم قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ فقال: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أي قل يا محمد لهم فلم قتلتم أنبياء الله وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم وأمركم فيه باتباعهم وفرض عليكم طاعتهم وتصديقهم.
4. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بما أنزل عليكم وقال: الزجاج إن بمعنى ما هاهنا كأنه قال ما كنتم مؤمنين، وهذا وجه بعيد، وإنما قال تقتلون بمعنى قتلتم، لأن لفظ المستقبل يطلق على الماضي، إذا كان ذلك من الصفات اللازمة كما يقال أنت تسرق وتقتل إذا صار ذلك عادة له، ولا يراد بذلك ذمه ولا توبيخه على ذلك الفعل في المستقبل، وإنما يراد به توبيخه على ما مضى.
5. إنما أضاف إليهم فعل آبائهم وأسلافهم لأحد أمرين:
أ. (أحدهما) أن الخطاب لمن شهد من أهل ملة واحدة، ومن غاب منهم واحد، فإذا قتل أسلافهم الأنبياء وهم مقيمون على مذهبهم وطريقتهم، فقد شركوهم في ذلك.
ب. والآخر أنهم رضوا بأفعالهم، والراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وهذا المعنى قريب من الأول.
6. في هذه الآية دلالة على أن الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصح إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة التي هي مثله في اقتران المعجزة به.
7. مسائل نحوية:
أ. ﴿مُصَدِّقًا﴾ : نصب على الحال، وهذه حال مؤكدة، قال الزجاج: زعم سيبويه والخليل، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم، أن قولك هو زيد قائما، خطا لأن قولك هو زيد، كناية عن اسم متقدم، فليس في الحال فائدة، لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما فهو زيد، وإذا ترك القيام فليس بزيد، فهذا خطأ، فأما قولك: هو زيد معروفا، وهو الحق مصدقا، ففي الحال هنا فائدة، كأنك قلت أثبته له معروفا، وكأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا، فمعروف حال لأنه إنما يكون زيدا، بأنه يعرف بزيد، وكذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب الرسل عليهم السلام.
ب. ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ وإن كان بلفظ الاستقبال، فالمراد به الماضي، وإنما جاز ذلك لقوله ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ وإن بمعنى الشرط، ويدل على جوابه ما تقدم، وتقديره إن كنتم مؤمنين فلم قتلتم أنبياء الله، وقيل: إن بمعنى ما النافية أي: ما كنتم مؤمنين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/316.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، يعني: القرآن، ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، يعنون: التّوراة، وفي قوله تعالى: ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه أراد بما سواه، ومثله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾، قاله الفرّاء ومقاتل.
ب. الثاني: بما بعد الذي أنزل عليهم، قاله الزّجّاج.
2. ﴿ وهُوَالْحَقُ ﴾ يعود على ما وراءه.
3. ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ هذا جواب قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، فإن الأنبياء جاؤوا بتأييد التوراة، وإنما نسب القتل إلى المتأخّرين لأنهم في ذلك على رأي المتقدّمين، وتقتلون بمعنى: قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره، وأنشدوا في ذلك:
شهد الحطيئة حين يلقى ربّه... أنّ الوليد أحقّ بالعذر
أراد: يشهد.
__________
(1) زاد المسير: 1/89.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا النوع أيضاً من قبائح أفعالهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ يعني به اليهود: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة (ما) بمعنى الذي تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك، ولولا أن لفظة (ما) تفيد العموم لما حسن هذا الذم.
2. ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك: ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن، وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلًا من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإذا دل الدليل على كونه منزلًا من عند الله وجب الإيمان به، فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض.
3. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ هو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيانه من وجهين:
أ. الأول: ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ أنه لما ثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى، وأنه أمر المكلفين بالإيمان به، وكان الإيمان به واجباً لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال.
ب. الثاني: ما دل عليه قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ وتقريره من وجهين:
• الأول: أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتعلم علماً ولا استفاد من أستاذ، فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلًا علمنا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما استفادها من الوحي والتنزيل.
• الثاني: أن القرآن يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، وإلا لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة، بل مكذباً لها، وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. بيّن الله تعالى من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر، وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق، ودلت على أن من كان صادقاً في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً، فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة.
5. هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
6. قوله تعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾، وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم، ويدل عليه وجوه:
أ. أحدها: أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين.
ب. ثانيها: أنهم ما أقدموا على ذلك.
ج. ثالثها: أنه لا يتأتى فيه من قبل، فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه.
7. سؤال وإشكال: ﴿آمَنُوا﴾ خطاب لهؤلاء الموجودين: و ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما؟ والجواب: أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين.
8. جاز قوله: ﴿ لم تقتلون ﴾ من قبل ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس لوجهين:
أ. أحدهما: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك، قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ﴾ [البقرة: 102] ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة.
ب. الثاني: كأنه قال لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/603.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا﴾ أي صدقوا ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ﴾ أي نصدق ﴿بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يعني التوراة.
2. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ أي بما سواه، عن الفراء، وقتادة: بما بعده، وهو قول أبي عبيدة، والمعنى واحد.. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام، وهي من الأضداد، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ ) أي أمامهم، وتصغيرها ورئية (بالهاء) وهي شاذة، وانتصب ﴿وَرَاءَهُ﴾ على الظرف، قال الأخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن... لقاؤك إلا من وراء وراء
والوراء: ولد الولد أيضا
3. ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ ابتداء وخبر، ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال مؤكدة عند سيبويه، ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ ما في موضع خفض باللام، و ﴿مَعَهُمْ﴾ صلتها، و ﴿مَعَهُمْ﴾ نصب بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
4. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ : رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ، المعنى: فكيف قتلتم، وقد نهيتم عن ذلك! فالخطاب لمن حضر محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم، لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ ) فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، وقيل: لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم.
5. جاء ﴿تَقْتُلُونَ﴾ بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الاشكال بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾، وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه... أن الوليد أحق بالعذر
شهد بمعنى يشهد.
6. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن كنتم معتقدين الايمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء! وقيل: (إن) بمعنى ما، وأصل (لم) لما، حذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليه، لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/30.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ أي لليهود ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدّقوه واتبعوه ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ من التوراة، ولا نقرّ إلا بها ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ حال من ضمير (قالوا) بتقدير مبتدأ، أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ منها غير مخالف له، وفيه ردّ لمقالتهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها.
2. ﴿قُلْ﴾ تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم، قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]
3. الخطاب للحاضرين من اليهود والماضين، على طريق التغليب، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم.
4. دلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/352.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ إمِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللهُ﴾: القرآن، أو القرآن والتوراة وغيرها من كتب الله ووحيه، وهذا إشارة إلى أنَّهم كفروا بالتوراة كلِّها إذْ كفروا ببعضها، وإلى أنَّهم كفروا بكتب الله ووحيه كلِّها إذ كفروا ببعض التوراة، فإنَّه من كفر بكتاب أو بعضه أو بنبيء فقد كفر بجميع الكتب والأنبياء، ﴿قَالُواْ نُومِنُ﴾ نستمرُّ على الإيمان ﴿بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي: كلِّفنا به في كتبنا، مع أنَّهم لم يؤمنوا بها إذ كفروا ببعضها.
2. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ﴾ أي: سوى ما أنزل إلينا وهو التوراة، كقوله: (ليس وراء الله منتهى)؛ أو بمعنى بعده، والمراد على الوجهين: القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ﴾ أي: ما وراءه ﴿الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ﴾ فإنَّ هذا في القرآن مستعمل للقرآن؛ ولا مانع من أن يراد بـ (مَا وَرَاءَهُ) كتب الله، فإنَّها كلَّها حقٌّ مصدِّق للتوراة؛ لأنَّها كلَّها أمر بالتوحيد وطاعة الله واتِّباع كتبه ورسله، ويقال: ما وراءه هو القرآن والإنجيل، كما أنَّ التوراة مصدِّقة أيضًا لغيرها من كتب الله، ثمَّ إنَّه إمَّا أن يخصَّص ما أنزل الله بالتوراة والقرآن أو يعمَّم ـ وهو الحقُّ ـ لجميع ما سوى التوراة، وعلى كلِّ حال تناقَضَ كلامهم؛ لأنَّ كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به، ووجه الحصر التقييد بالحال وهو (مصدِّقًا) فإنَّ غير القرآن والإنجيل ولو صدَّق ما عندهم لكن لم يذكر فيه تصديق ما عندهم باسمه، ولكن فيه أنَّ التصديق بالموافقة يكفي، ولعلَّ الحصر هنا غير مرادٍ، أو يراد حصر غيرِ ما شُهر، وهو معنى ﴿وهو الحقُّ﴾ لا غير الحقِّ.
3. ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد، أو من يصلح للمناظرة ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ يقتل آباؤكم ورضيتم بقتلهم وصوَّبتم، وتتعاطون مثل فعلهم لو وجدتم ﴿أَنبِيَآءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ بالتوراة، ولقد نُهيتم فيها عن قتل الأنبياء وغيرهم، وعن سائر الظلم، أو (إنْ) نافية، أي: ما كنتم مؤمنين بما خالفتموهم، ويجوز أن يكون قولهم: ﴿نُومِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ بمعنى: نؤمن به نحن وأسلافنا، أي: نؤمن به كما آمن أسلافنا، فلمَّا ادَّعوا إيمانهم وإيمان أسلافهم توجَّه الاعتراض عليهم بأنَّكم وآباءَكم إن آمنتم بالتوراة فلم قتلوا الأنبياء؟ فيكون ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ تغليبًا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/164.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اعتذر بعض اليهود في عصر التنزيل عن عدم الإيمان به بأن قلوبهم غلف لم تفهم الدعوة ولم تعقل الخطاب، فرد الله تعالى عليهم ببيان السبب الحقيقي في ترك الإيمان، وما استحقوه عليه من الغضب والهوان، ثم ذكر اعتذارا آخر لهم مقرونا بالرد والإبطال، وإقامة الحجة عليهم به فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾
2. صيغة الدعوة تشعر بوجوب الإيمان بما أنزل الله تعالى لأنه هو الذي أنزله لا لأن المنزل عليه فلان، ولذلك لم يقل: آمنوا بما أنزل على محمد، فان ما أنزل عليه لو أنزل على غيره لوجب الإيمان به، فان الوحى هو المقصود بالذات، والأنبياء إنما هم مبلغون، فتقييد الخضوع لوحى الله بكونه لا بد أن يكون منزلا على شخص من شعب كذا بعينه تحكم على الله تعالى وقضاء عليه بأن تكون رحمته مقيدة بأهواء فريق من خلفه، فإيراد الدعوة بما ذكر من الإطلاق مع إيراد الجواب مقيدا بقيد ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ يشعر بقوة حجة الدعوة، ووهن ما بنى عليه الجواب من الشبهة.
3. ثم صرح بالحقيقة، وهى أنهم إنما يدعون هذا الايمان بألسنتهم ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ من مدلول ولازم لا ينفك عنه كالبشارة برسول من بنى إخوتهم أي ولد إسماعيل، وكون ما تثبت به نبوة محمد بمساواته لما تثبت به نبوة موسى يستلزم وجوب اتباع محمد كما اتبع موسى لأن المدلول يتبع دليله في كل زمن وكل موضوع، قال إنهم يكفرون بما وراء المنزل إليهم.
4. ﴿ وَهُوَالْحَقُ ﴾ أي والحال أنه الحق الثابت في نفسه بالدليل حال كونه ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ فهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل، وقد كان من مكابرتهم وعنادهم ما كان فلم يبق إلا إلزامهم الحجة بما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه ليعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم ويحكمون شهواتهم بما أنزل إليهم وما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولذلك قال: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بما أنزل اليكم وليس فيه الأمر بقتل الأنبياء بل فيه النهى الشديد عن قتل أنفسكم.
5. من مباحث اللفظ أو البلاغة: أنه جاء بالجملة الحالية في بيان كون ما كفروا به هو الحق لأن الجملة الحالية تدل على تقدم ثبوت مضمونها على حدوث ما جعلت قيدا له، وما كفروا به كذلك هو الحق من قبل كفرهم، وهذا المعنى للجملة الحالية صورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع، وإغراقا في التشنيع، ولما كانت هذه الصيغة تدل على الحال فتوهم أن الّذين في زمن التنزيل كانوا لا يزالون يقترفون هذه الجريمة على أنه لم يكن في ذلك العهد أنبياء إلا من يبكتهم ويحتج عليهم ـ وصلها بقوله (من قبل) دفعا لذلك الوهم، والفاء في قوله (فلم) واقعة في جواب شرط دل عليه ما بعده.
6. خطاب الخلف بإسناد ما كان من سلفهم إليهم مقصود لبيان وحدة الأمة وتكافلها، وكونها في الأخلاق والسجايا المشتركة بين أفرادها كالشخص الواحد، وبيان أن ما تبلى به الأمم من الحسنات والسيئات إنما هو أثر الأخلاق الغالبة عليها والأعمال الفاشية فيها منبعثة عن تلك الأخلاق، فما جرى من بنى إسرائيل من المنكرات لم يكن من قذفات المصادفة، وإنما كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع الآخرون فيها الأولين، إما بالعمل وإما بالإقرار وترك الإنكار، ولو أنكر المجموع ما كان من بعض الأفراد لما تفاقم الأمر، ولما تمادى واستمر، فالحجة تقوم على الحاضرين بأن الغابرين قتلوا الأنبياء فأقرهم من كان معهم، ولم يعدوا ذلك خروجا من الدين ولا رفضا للشريعة، وتبعهم من بعدهم على ذلك، وفاعل الكفر ومجيزه واحد.
__________
(1) تفسير المنار: 1/383.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي وإذا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ليهود المدينة وما حولها: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بنى إسرائيل كالتوراة وغيرها.
2. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شكّ فيه، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل؟
3. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه: إن كنتم صادقين حقا في اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال.
4. نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين: إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها؛ فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغائرين قتلوا الأنبياء؛ فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجا من الدين، ولا رفضا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/170.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام، كانوا يقولون ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ ففيه الكفاية، وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه، سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين.
2. القرآن يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم! ما داموا لم يستأثروا هم به؟ إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعبدون لعصبيتهم، لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به.
3. يلقن الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجبههم بهذه الحقيقة، وكشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ لم تقتلون أنبياء الله من قبل، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذين جاءوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/91.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كل حجّة كانت تقطع على القوم سبيل الإفلات منها، كانوا يلقونها بوجه وقاح، لا حياء فيه.. فمع علمهم بأن دين الله واحد، ورسالات رسله تصدر جميعها عن هذا الدين، فإنهم إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل الله على رسله لوّوا رؤوسهم، وقالوا: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ ! كأنما يحسبون أن ما أنزل عليهم هو شرع شرعه الله لهم، وخصهم به من دون الناس، وجعل لهم به سلطانا على العباد.. وكذبوا وضلوا! فالكتاب الذي نزل على محمد يحوى مضامين ما أنزل على موسى وعيسى وما أنزل على النبيين جميعا، ولهذا أمر أتباع محمد أن يؤمنوا بما أنزل على أنبياء الله، كما يقول القرآن الكريم، متوجها بهذا الأمر إليهم: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾
2. مع هذا فهل آمن بنو إسرائيل بما أنزل عليهم حقّا؟ إذن فلم قتلوا أنبياءهم؟ ولم حادّوا الله ورسله مع الآيات البينات التي جاءتهم على يد الأنبياء؟ ولم عبدوا العجل بعد أن أراهم موسى من آيات ربّه ما تلين له الصمّ الجلاد! أفهذا هو الإيمان، وما يأمر به الإيمان؟
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/111.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 89] المعطوف على قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ [البقرة: 88]، وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف، وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية، فإذا دعوا قالوا: قلوبنا غلف، وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على رجل من غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا: نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: 106] الآيات.
2. قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم.
3. ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم، أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا، وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه، وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع ﴿نُؤْمِنَ﴾ أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا، وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بـ ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ في جواب من قال لهم: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ وجوابها بقولهم ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾
4. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ جيء بالمضارع محاكاة لقولهم ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وتصريح بما لوحوا إليه، ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه، فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة، وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾
5. الوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا:
أ. جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص.
ب. واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر، فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة: (وليس وراء الله للمرء مطلب)
ج. واستعمل أيضا بمعنى الطلب والتعقب تقول: (ورائي فلان) بمعنى يتعقبني ويطلبني، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79] وقول لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي... لزوم العصا تحني عليها الأصابع
فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين، واحتج ببيت لبيد وبقرآن، وكان أمامهم ملك، وقد علمت أنه لا حجة فيه، ولذلك أنكر الآمدي في (الموازنة) كونه ضدا، فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه، أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ولتعقيبه بقوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾
6. جملة ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ حالية واللام في (الحق) للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان:
وإن سنام المجد من آل هشام... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد، وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به، فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في (دلائل الإعجاز).. وقيل: يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله ﴿مُصَدِّقًا﴾ أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم، ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة، بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات، وذلك يشبه عدم التصديق، ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم.
7. ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال مؤكدة لقوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ مشعر بوصف زائد على مضمون ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شئونهم وهيئاتهم.
8. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم، وأن قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم، وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبياء.
9. الإتيان بالمضارع في قوله: ﴿تَقْتُلُونَ﴾ مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه... أن الوليد أحق بالعذر
بقرينة قوله يوم يلقى ربه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/590.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اليهود سيرا على غلوائهم وزعمهم الفاسد أنه لا نبيّ إلا من بينهم، إنهم يبغون حسدا لغيرهم إذا قيل آمنوا بما أنزل الله قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا، ولذلك قال تعالى فيهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾
2. كان الكلام للغيبة، ولم يكن بالخطاب لأنه للحاضرين من بنى إسرائيل إذ هم الذين يعتذرون ذلك الاعتذار، وبه يجحدون ذلك الجحود، وكان الكلام بالغيبة فيه تنديد بهم وبأسلافهم من قبل.
3. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ بالبناء للمجهول:
أ. لكثرة القائلين، فكتبهم تقول لهم ذلك، وهم أنفسهم كانوا يقولون ذلك، إذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي الأمى صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون يدعونهم، وحلفاؤهم من المؤمنين كانوا يدعونهم، فكثر القائلون.
ب. وإن البناء للمجهول له معنى آخر، وهو تركيز القول على ما يكون من ردهم للداعي، فهذا موضع اللام، فلا لوم على من قال فلا حاجة إلى ذكره، إنما اللوم كله في ردهم.
4. القائل يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل فيقول آمنوا بما أنزل الله تعالى، فالله هو الذي أنزله وهو جدير بالإيمان به، لأنه من عند الله والكفر به كفر بالله تعالى، وردهم نؤمن بما أنزل علينا، أي لا نرى الإيمان إلا بما أنزل علينا نحن مع أن المنزل واحد، وهو الله تعالى ولكنهم يغالون في اتباع هواهم وشهواتهم، فيزعمون أنه لا أنبياء إلا فيهم، وإنهم يكفرون بما وراءه، أي بكل ما جاء بعده، فوراء يبين ما جاء خلفهم وبعدهم كما كفروا من قبل بعيسى عليه السلام.
5. يبين الله تعالى أن ما أنزل من القرآن هو الحق وهو مصدق لما معهم، فقد وصفه سبحانه وتعالى بوصفين:
أ. أحدهما ذاتي، وهو الحق أي أنه ثابت في ذاته ما أتى إلا بأمور ثابتة يقرها العقل، وتقرها الفطرة، وتدل عليها البينات وهو ذاته معجز، مثبت وجوده بنفسه، لا يحتاج إلى بينات وراءه.
ب. والثاني، إضافي وهو أنه مصدق لما تضمنته المواثيق التي أخذت عليهم، وهذا الوصف يرد زعمهم الفاسد، بإثبات عدم المغايرة بين ما جاءهم به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما نزل، وبين ما عندهم؛ فالأصل واحد وأن تفريقهم بين ما أنزل الله من قرآن، وما أنزل عليهم تفرقة بين شيئين غير متغايرين إن كانوا يؤمنون حقا بالحق من كتبهم.
6. لكنهم قوم لا يؤمنون بشيء لا بما عندهم، ولا بما أنزل الله من قرآن كريم؛ ولذا قال تعالى مثبتا كفرهم بكل شيء، بالوقائع التي كانت من أسلافهم، وارتضوها هم، فقال تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، والمعنى: قل لهم يا نبيّ الله، إن كنتم تزعمون أنكم آمنتم بما عندكم، فلم تقتلون أنبياء الله؟ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم.
7. ذكر الله تعالى الأنبياء مضافين إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق، وإنه إذا كان عندهم بقية من إيمان فما كان يسوغ قتل أنبياء الله؛ ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، أي أن ما كان منهم في ماضيهم وأمره حاضرهم يتنافى مع صفات المؤمنين وذلك تنديد بهم، وبيان أنهم لم يؤمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، ولا يؤمنون بما عندهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/315.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، أي آمنوا بالوحي من حيث هو وحي بصرف النظر عن شخصية المبلّغ ونسبه، لأن الرسول ما هو إلا وسيلة للتبليغ، أما شرطكم للإيمان بالوحي أن ينزل على شعب إسرائيل فقط، وإذا أنزل على غيره فلا تؤمنون به ـ أما هذا الشرط ـ فيكشف عن عدم ايمانكم بالوحي كمبدأ، بالإضافة الى أنه تحكم على الله وتقييد لإرادته بأهوائكم، ومعنى هذا انكم تريدون من الله أن يخضع لكم، وتأبون الخضوع له.
2. ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، وهذا اعتراف صريح بأنهم لا يؤمنون، ولن يؤمنوا إلا بالوحي على شريطة أن ينزل عليهم، ولا يؤمنون بما ينزل على غيرهم، ولو قام عليه ألف دليل ودليل.
3. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، ولا إلزام أقوى وأبلغ من الإلزام بهذه الحجة.. أي قل يا محمد لليهود: أنتم كاذبون في زعمكم ودعواكم الايمان بخصوص الوحي المنزل على شعب إسرائيل، بل أنتم لا تؤمنون بالوحي إطلاقا، حتى بما أنزل عليكم بالخصوص، والدليل ان الله أرسل منكم ولكم وفيكم أنبياء، وفرض عليكم تصديقهم وطاعتهم، ومع ذلك فريقا كذبتم كعيسى، وفريقا تقتلون كزكريا، ويحيى، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على كذبكم، ومناقضة أفعالكم لأقوالكم، وتكذيب أنفسكم لأنفسكم.. وصح توجيه الخطاب بالقتل الى يهود المدينة، ومشافهتهم به، مع ان القاتل أسلافهم لمكان وحدة الأمة، ومشاركة الراضي بالقتل لفاعله، كما تقدم.
4. أنكر اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه غير اسرائيلي، وأيضا أنكره أبو سفيان، وقاد الجيوش لحربه، لأنه يأبى أن تفوز هاشم بشرف النبوة دون أمية، وأنكرت قريش خلافة علي أمير المؤمنين عليه السلام لأنها كرهت ان تجتمع النبوة والخلافة في بيت هاشم، ويثقل على بعض الأعاجم ان المرجع الديني الأول من العرب، كما يثقل على بعض العرب أن يكون من الأعاجم.. بل اني أعرف أفرادا لو خيّروا بين أن تهتدي الألوف الى دين الحق عن طريق غيرهم، وبين أن تبقى على ضلالها لاختاروا الضلالة على الهدى، والكفر على الايمان.. وأيضا لو خيّروا بين أن يسمعوا الثناء على يزيد بن معاوية، وبين أن يسمعوا الثناء عن واحد من صنفهم لفضّلوا ألف مرة الأول على الثاني.. ومن أجل هذا يبحث الواحد منهم جاهدا ليجد عيبا لأخيه، فان وجد خردلة أذاعها جبلا، وان لم يجد اخترع وافترى.
5. من يكبر الفضيلة كمبدأ يكبرها أينما كانت وتكون، وعن أي طريق تحققت، ويراها في غيره، تماما كما يراها في نفسه، بل يعمل ويكافح من أجل بثها وانتشارها، أما من يدعيها لنفسه، وينكرها في غيره فإنه يستعمل نفس الأسلوب الذي استعمله اليهود عنادا لله وأنبيائه ورسله.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/153.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ لأن الله أنزله والحكم له لأنه ربكم، فالواجب عليكم الإيمان به؛ لأنه أنزله الله ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ وهذا منهم تحكّم على الله، إذ ليس لهم حق أن لا يؤمنوا إلاَّ بما أنزل عليهم، فيؤمنوا به؛ لأنه أنزل عليهم، أما غيره مما أنزله الله فيكفرون به وهو الحقّ مصدقاً لما معهم، فيكفرون به؛ لأنه لم ينزل عليهم مع أن دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم دعوى تكذبها أفعالهم.
2. كما حققه قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ لأن المؤمن لا يقتل مؤمناً متعمداً، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92] فكيف إن كان المؤمن نبيئاً من أنبياء الله الذين وجب الإيمان بهم وبما أوتوا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/147.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يزداد الموقف وضوحا فيما يكشفه القرآن لنا من ملامح شخصيتهم في هذا الحوار: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، فهذا كتاب الله أمامكم فآمنوا به، ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ فنحن أصحاب كتاب سماوي أنزله الله علينا، فلا حاجة لنا بغيره لأنه يحقق لنا الكفاية فيما نحتاجه من أمور الدنيا والآخرة، ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ من الكتب السماوية من الإنجيل والقرآن، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾، وبذلك كان الإيمان بكتابهم مستلزما للإيمان بالقرآن لأنه يصدق التوراة في تعاليمها.
2. هنا تتجلى عملية التعرية في أوضح بيان؛ إن القرآن يتجه إليهم ليقول لهم: هل أنتم جادّون في دعوى الإيمان بما أنزل عليكم من كتاب؟ هل تنطلقون فيها من مواقع الحق والإيمان، أم أنها مجرّد مبرر استعراضي تحاولون من خلاله تبرير كفركم بالقرآن؟ إنكم كاذبون في ذلك، لأن المؤمن بشيء لا بد له أن ينسجم مع إيمانه في مجال العمل به من جهة، وفي مجال التقديس لأنبياء الإيمان من جهة أخرى، ولكنكم سرتم في غير هذا الاتجاه.
3. ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وهم الأنبياء الذين جاؤوا من بعد موسى، يحملون رسالته، ويدعون الناس إلى العمل بالكتاب، ويعتبرون امتدادا طبيعيا له؟
4. ما نستوحيه من هذا الفصل من السورة، هو أن نتابع هذا التاريخ من خلال النماذج الحية الموجودة في الحاضر التي تواجه الدعاة إلى الله بالتكذيب تارة، وبالسجن أخرى، وبالقتل في بعض الحالات، وذلك لعدم انسجام شعارات الدعوة الإسلامية الحقة مع أهوائهم وأطماعهم وامتيازاتهم، في الوقت الذي نجد هذه النماذج تحمل مع شعاراتها الكثير من كلمات الإصلاح والخير والإيمان بالرسالات السماوية..
5. قد نجد كثيرا من ظلال هذه الصورة في بعض هؤلاء الذين كانوا ينتقدون الأسلوب التقليدي للعمل الإسلامي في أساليب العاملين من التقليديين، بحجة أنها لا تحقق للإنسان أهدافه في الحياة العملية الكريمة، التي تبحث عن التنظيم الواسع الدقيق لمطامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فلا بد للإسلام من أن يتحرك في هذا الاتجاه بعقلية جديدة وأسلوب جديد، فلما تحركت المسيرة الإسلامية الواعية لتقدم الإسلام للناس في صورته الشاملة الكاملة، بالأسلوب الذي لا يشعرون معه بوجود فراغ في أيّ جانب من الجوانب، وقفوا أمامها بالعنف والتعسف والجحود والنكران.. إنهم يشبهون كثيرا اليهود الذين جاءهم كتاب مصدّق لما معهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا، على الرغم من أنهم كانوا يستفتحون به على الكافرين.
6. قد نجد أمامنا صورة اليهود الذين يكفرون بما أنزل الله بغيا، وذلك في صورة هؤلاء الذين يرفضون العمل لأنهم لا يؤمنون به إلا إذا كانوا على قمّته، ولا يتفاعلون معه إلا إذا جاء من طريقهم، فليسوا مستعدين للإيمان إذا كان من وحي الآخرين، إنهم الأنانيون الذين لا يؤمنون بالدعوة إلا إذا كانت تحقق لهم امتيازاتهم الدنيوية، ثم تمتد الصورة في حياتنا لتكشف لنا عن هؤلاء الذين يدعون إلى الإسلام في عقيدته وشريعته، فيبادرون إلى طرح الدعوات المنحرفة التي تلبس لبوس الكفر تارة ولبوس الإسلام أخرى، ويقولون إننا نؤمن بما لدينا من مبادئ وأفكار، من دون أن يكلفوا أنفسهم الدخول في حوار جدي فيما يقدّم إليهم من أفكار الإسلام ومفاهيمه، ليتعرفوا من ذلك كيف يستطيع الإسلام أن يحقق لهم الشعارات التي يرفعونها بأفضل صورة وأروع أسلوب، إنها الصورة نفسها التي يقدمها القرآن لهؤلاء الذين يقولون: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ مع تبديل في المواقع وفي تفاصيل المنظر.
7. إنّ قيمة التاريخ القرآني تتمثّل فيما يقدّمه لنا من نماذج حيّة متحركة لا تتجمد في زوايا التاريخ، بل تظلّ تحمل للحاضر والمستقبل الغنى والامتداد فيما يواجهه الإنسان في مراحل تطوّره من مظاهر الانحراف والاستقامة والكفر والإيمان.. وتلك هي مهمّة القارئ للقرآن والدارس له؛ أن لا يظل يدور حول الصورة القرآنية للإنسان في خطوات التاريخ، بل يحاول أن يرصد من خلالها الصور القادمة في حركة المستقبل، ليعطي الحياة للآية في وعيه وفي وعي الآخرين.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/128.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يشير القرآن مرّة أخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾، فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرؤون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقا لما معهم في التوراة ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾
2. يكشف القرآن زيف ادعائهم مرة أخرى حين يقول لهم: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ هؤلاء يدّعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء!؟
3. هذا الذي يقوله بنو إسرائيل: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ ينطلق من روح ذاتية فردية أو فئوية، وهي تخالف روح التوحيد، فالتوحيد يستهدف القضاء على كل المحاور الذاتية في حركة الإنسان ومواقفه، وتكريس نشاطات الفرد حول محور العبودية لله لا غير.. بعبارة أخرى، لو كان الانصياع للأوامر الإلهية متوقفا على نزولها عليهم، فهو الشرك لا الإيمان، وهو الكفر لا الإسلام، ومثل هذا الانصياع ليس بدليل على الإيمان قط.
4. عبارة ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ تحمل مفهوم نفي كل ذاتية بشرية في الرسالة، بما في ذلك ذات النّبي المرسل، فلم تتضمن العبارة اسم محمّد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل التأكيد على الإيمان بما أنزل الله تعالى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/299.
37. نماذج عن عناد بني إسرائيل
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈37⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 92 ـ 93]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿بِالْبَيِّنَات﴾ هو الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، ونقص من الثمرات، والسنين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٧٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل﴾ أشربوا حب العجل بكفرهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٦٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ليس كلهم تاب(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٦١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل﴾ أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٥٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ معناه سقوا حبّ العجل، حتى غلب ذلك عليهم، وخلص إلى قلوبهم)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 86.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل﴾ أشربوا حب العجل في قلوبهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٦٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
أ. روي أنّه قال: ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: قل لليهود: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَات﴾، يعني: بالآيات التسع(1).
ب. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْل﴾ إلها ﴿مِنْ بَعْدِه﴾، يعني: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل(1).
ج. روي أنّه قال: يقول الله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِم﴾، قال لهم موسى: أن تحبوا شيئا دونه يعدل حبه في قلوبكم، كحب الله خالقكم، ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين﴾ كما تزعمون(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٣.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٢٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. البينات: ما ذكر من الآيات المعجزة، والحجج العجيبة، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته، وصدق ما يدعوهم إليه، مما يدل كله أنه من عند الله.. ثم ـ مع ما جاءهم موسى بها ـ عبدوا العجل، واتخذوه إلها، وكفروا بالله.
2. يعزّى الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لئلا يظن أنه أول مكذّب من الرسل، ولا أول من كفر به؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون، ويستقبلونه بما يكره، وبالله التوفيق، كقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120].
3. قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: اسمعوا، أي أجيبوا.
ب. ويحتمل: اسمعوا: أطيعوا، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة.
4. إضافة الطاعة إلى الله ـ عزّ وجل ـ غير جائز؛ إذ لا يجوز أن يقال: أطاع الله، وأما السمع فإنه يجوز؛ لقوله: (سمع الله لمن حمده)
5. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولك، ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك.. لكن قولهم: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ لم يكن على أثر قولهم: ﴿سَمِعْنَا﴾، ولكن بعد ذلك بأوقات؛ لأنه قيل: لما أبوا قبول التوراة؛ لما فيها من الشدائد والأحكام، رفع الله الجبل فوقهم، فقبلوا؛ خوفا من أن يرسل عليهم الجبل، وقالوا: أطعنا، فلما زايل الجبل، وعاد إلى مكانه، فعند ذلك قالوا: ﴿وَعَصَيْنَا﴾، وهو كقوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 64] فالتولي منهم كان بعد ذلك بأوقات.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ وكله يرجع إلى واحد، وذلك كله آثار الحب:
أ. قيل: أشربوا، أي جعل في قلوبهم حبّ عبادة العجل بكفرهم بالله عزّ وجل.
ب. وقيل: سقوا حبّ العجل.
ج. وقيل: إن موسى عليه السلام لما أحرق العجل، ونسفه في البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل.
د. وقيل: لما أحرق ونسف في البحر جعلوا يلحسون الماء حتى اصفرت وجوههم.
هـ. وقيل: إنهم لما رأوا في التوراة ما فيها من الشدائد، قالوا عند ذلك: عبادة العجل علينا أهون مما فيها من الشرائع.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ :
أ. قيل: قل يا محمد: بئسما يأمركم إيمانكم بالعجل الكفر بالله عزّ وجل.
ب. وقيل: إن اليهود ادعوا أنهم مؤمنون بالتوراة؛ فقال: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ أي بالتوراة؛ إذ كفرتم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد وجدتم فيها نعته وصفته.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/512.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ : أي أشربهم السامري حب العجل، ولكنه اختصر(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 276.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أي بجد واجتهاد.
2. ﴿وَاسْمَعُوا﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: واعملوا بما سمعتم.
ب. والثاني: فاقبلوا ما سمعتم كما قيل: سمع الله لمن حمده، قال الراجز:
السمع والطاعة والتسليم... خير وأعفى لبني تميم
3. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ :
أ. يعني سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
ب. ويحتمل وجها آخر وهو أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
4. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ يقال أُشرب قلبه كذا وكذا قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل... والحب يشربه فؤادك داء
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/73.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ يعني بجد واجتهاد.
2. ﴿وَاسْمَعُوا﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: يعني فاعملوا بما سمعتم.
ب. الثاني: أي اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده، أي قبل الله حمده، وقال الراجز:
السمع والطاعة والتسليم... خير وأعفى لبني تميم
3. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: أنهم قالوا ذلك حقيقة، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
ب. الثاني: أنهم لم يقولوه، ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني... مهلا رويدا قد ملأت بطني
4. في قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أن موسى برد العجل وذرّاه في الماء، فكان لا يشربه أحد يحب العجل إلا ظهرت نخالة الذهب على شفتيه، وهذا قول السدي، وابن جريج.
ب. الثاني: أنهم أشربوا حب العجل في قلوبهم، يقال أشرب قلبه حبّ كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حبّ داخل... والحبّ تشربه فؤادك: داء
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/161.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى﴾ يعني جاء اليهود موسى ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الدالة على صدقه وصحة نبوته، كقلب العصاحية، وانبجاس الماء من الحجر، واليد البيضاء، وفلق البحر، والجراد، والقمل، والضفادع، وغيرها من الآيات، وسماها بينات، لظهورها وتبينها للناظرين اليها انها معجزة لا يقدر على أن يأتي بمثلها بشر، وإنما هي جمع بينة مثل طيبة وطيبات.
2. ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ :
أ. يعني بعد (موسى) لما فارقهم ومضى الى ميقات ربه.
ب. ويجوز أن تكون الهاء كناية عن المجيء، فيكون التقدير: ثم اتخذتم العجل من بعد مجيئ موسى بالبينات، ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ كما يقول القائل: جئتني فكرهتك: اي كرهت مجيئك.
3. ليس المراد بثم ها هنا النسق، وإنما المراد بها التوبيخ، والتعجب والاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات.
4. ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ يعني انكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل، وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الله، وكان ينبغي لكم ان تعبدوا الله، لان العبادة لا تكون لغير الله، فأنتم بفعل ذلك ظالمون أنفسكم.
5. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ تقديره واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم وعهودكم بان تأخذوا ما آتيناكم من التوراة التي أنزلها الله على موسى بجد واجتهاد، ومعناه اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده: اي قبل الله حمده قال الراجز:
بالحمد والطاعة والتسليم... خير واعفى لفتى تميم
فصار تقدير الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ بأن ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ واعملوا بما سمعتم وأطيعوا الله ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ من اجل ذلك.
6. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ كأن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، لما تقدّم ذكره من ابتداء الكلام، إذ كان حكاية، والعرب تخاطب، ثم تعود بعد ذلك الى الخبر عن الغائب، ثم تخاطب، لان قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ بمعنى قلنا لكم، فأجبتمونا..
7. ﴿سَمِعْنَا﴾ إخبار من الله تعالى عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم ان يعملوا بما في التوراة، وان يطيعوا الله بما يسمعون منها:
أ. انهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
ب. ويحتمل ان يكون ما قالوه لكن فعلوا ما يدل على ذلك، فقام الفعل مقام القول، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني... مهلا رويداً قد ملأت بطني
8. في قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ وجوه:
أ. أحدهما ـ ما قال قتادة وابو العالية: واشربوا في قلوبهم حب العجل، يقال أشرب قلبه حبّ كذا وكذا قال زهير:
فصحوت عنها بعد حبّ داخل... والحبّ يشربه فؤادك داء
وقالت اعرابية:
باهلي من عادى ونفسي فداؤه... به هام قلبي منذ حين ولا يدري
هوى اشربته النفس ايام جهلها... ولحّ عليه القلب في سالف الدهر
ب. وقال السدي: لما رجع موسى الى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال: اشربوا فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذّهب.
9. القول بأنهم (اشربوا في قلوبهم حب العجل) عليه اكثر محصلي المفسرين، وهو الصحيح، لان الماء لا يقال فيه: أشرب منه فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك: في حب الشيء، ولكن يترك ذكر الحب اكتفاء بفهم السامع، لمعنى الكلام، إذ كان معلوماً ان العجل لا يشربه القلب وان الذي اشرب منه حبّه، كما قال: ﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ وانما أراد أهلها، كما قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقاً... وما هي ويب غيرك بالعناق
يريد بذلك حسبت بغام راحلتي بغام عناق، وقال طرفه بن العبد:
ألا إنني سقيّت اسود حالكا... ألا بجلي من الشراب ألا بجل
يريد بذلك سقيت سما اسود، فاكتفى بذكر (اسود) عن ذكر (السم) لمعرفة السامع بمعنى ما أراد بقوله سقيت اسود، وقال آخر:
وكيف تواصل من أصبحت... خلالته كأبي مرحب؟
اي كخلالة أبي مرحب وقال آخر: (وشر المنايا ميتة وسط اهله، أو الى حاتم)، فيجتزئون بذكر الاسم عن ذكر فعله، للعلم به.
10. المعنى: وأشربوا في قلوبهم حب العجل بكفرهم، اي لا لفهم الكفر وثبوتهم فيه، والكفر يدعو بعضه الى بعض، ويحسّن بعضه بعضاً، وليس المعنى في قوله: ﴿وَاشْرَبُوا﴾ ان غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون له، كما يقول القائل: أنسيت ذلك من النسيان ليس يريد إلا انك فعلت، وقولهم: لقد أوتى فلان علماً جماً ـ وان كان هو المكتسب له، وإن الجنس الذين قالوا: سمعنا وعصينا غير الذين رفع عليهم الطور بأعيانهم، لكنهم كانوا على منهاجهم، وسبيلهم، فأما أولئك بأعيانهم، فإنهم آمنوا: إما طوعاً، واما كرهاً، والمعنى في (الباء) المتصلة بالكفر: أنهم كفروا بالله بما اشربوا من محبة العجل، وليس المعنى انهم في ذلك اشربوا حبّ العجل جزاءً على كفرهم، لأن محبة العجل كفر قبيح، والله لا يفعل الكفر في العبد، لا ابتداء، ولا مجازاة.
11. ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ معناه قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به ايمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله والتكذيب بكتبه، وجحد ما جاء من عنده، وقال الازهري: معنى ان كنتم: اي ما كنتم مؤمنين ـ نفياً ـ والاول أجود، ومعنى ايمانهم: تصديقهم الذي زعموا انهم مصدقون، من كتاب الله إذا قيل لهم آمنوا بما انزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا.
12. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي ان كنتم مصدقين كما زعمتم، فأخبر ان تصديقهم بالتوراة، انه كان يأمرهم بذلك، فبئس الامر يأمرهم به، وإنما ذلك نفي عن التوراة ان يكون يأمر بشيء بما يكرهه الله من أفعالهم، واعلاماً منه ان الذي تأمرهم به أهواؤهم، وتحمل عليه عداوتهم، وهذا كما يقول الرجل: بئس الرجل أنا إن رضيت بفعلك، أو ساعدتك عليه
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/353.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البينات: الحجج والعلامات الدالة على طريق الحق، واحدها بينة، وأصله من القطع، ومن ذلك بانَ، وأصله من البينونة، ومنه: مَا أُبِينَ من الحي فهو ميت، واتخذتم: افتعلتم من الأخذ، والأخذ نقل الشيء إلى الآخذ.
ب. الظلم: ضرر قبيح.. وقيل: ضرر ليس فيه نفع أو دفع أو استحقاق.. وقيل: وضع الشيء في غير موضعه، وليس بالوجه.
ج. الأخذ: نقيض الإعطاء.
د. الميثاق: العهد المؤكد.
هـ. أشرب: الزرع سقي، والشرب مادة الزرع، وأشرب لون كذا: إذا لزمه، ويقولون: أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حبٍّ دَاخِلٍ.. وَالْحُبُّ تُشْرِبهِ فُؤَاَدكَ دَاءُ
2. حكى الله تعالى عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ :
أ. قيل: هذا وإن كان خطابًا لمن كان في عصر النبي، فالمراد ما فعل آباؤهم على عادة جارية للعرب بتقريع الأبناء بفعل الآباء.
ب. وقيل: أراد أنكم سلكتم في التكذيب والعناد طريق أسلافكم، فإنهم بعد الآيات ورؤيتها اتخذوا العجل، فلا غرو أن كفرهم بالقرآن وإن اتضح دلالته ككفر أسلافهم بعد رؤية آيات.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ :
أ. قيل: أي بالحجج.
ب. وقيل: أراد الآيات التسع التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ﴾ وهي: العصا، واليد، وانفلاق البحر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ورفع الطور، وإحياء الميت عند ضربه ببعض البقرة.
ج. وقيل: هي الآيات التي ألزمت الحجة، وأزالت الشك.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ :
أ. قيل: يعني اتخذتم العجل إلها وعبدتموه ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد موسى.
ب. وقيل: بعد مجيئه بالآيات.
ج. وقيل: من بعد مجيئه الميقات، ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسكم بكفركم حيث وجبت لكم العقوبة.
5. ثم ذكر تعالى خصلة أخرى من أسلافهم توبيخًا لهم، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ يعني أعطيتم العهد، وقبلتم الأمر، فأخذنا ذلك عليكم، ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾، يعني الجبل.
6. التكرار في هذا وأمثاله:
أ. قيل: للتأكيد، وإيجاب الحجة على الخصم على عادة مخاطبات العرب.
ب. وقيل: الآية حجة عليهم عند ادعائهم أولاً، فلما عادوا إلى الدعوى في مثل قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وما أشبه ذلك، أعيد الحجاج عليهم، عن أبي علي، كأنه يشير إلى اختلاف الأحوال والأوقات، ولا يعد تكرارًا.
ج. وقيل: لما عد فضائح اليهود أعاد ذكر رفع الجبل.
د. وقيل: ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى، والثاني الاحتجاج عليهم.
7. ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أي أعطيناكم:
أ. قيل: التوراة.
ب. وقيل: الشرائع.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ :
أ. قيل: بجد واجتهاد.
ب. وقيل: بقدرة، أي وأنتم قادرون على أخذه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ :
أ. قيل: اقبلوا ما سمعتم، كقوله: سمع الله لمن حمده، أي قبل، قال الراجز:
السَّمْعُ والطَّاعَةُ والتسَّلِيمْ.. خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيْم
يعني قبول ما تسمع والطاعة لما تؤمر.
ب. وقيل: اسمعوا ما يتلى عليكم، أي اسمعوا لتسمعوا، وهذا اللفظ يحتمل الاستماع والقبول، ولا تنافي بينهما فيحمل عليهما فيصير كأنه قيل: استمعوا لتسمعوا، ثم أقبلوا وأطيعوا، يدل عليه أنه قال في الجواب: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
10. في قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قولان:
أ. الأول: أنه كان منهم قول في الحقيقة قالوه استهزاء: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، وذلك كفر.
ب. الثاني: حالهم كحال من قال ذلك حيث سمعوا وقابلوا بالعصيان.
11. اختلف في ﴿قَالُوا﴾ وكونها كناية عَمَّنْ:
أ. قيل: هم اليهود الَّذِينَ كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا ذلك له، ثم رجع إلى حديث أوائلهم، فقال ﴿وَاشْرَبُوا﴾، عن الحسن.
ب. وقيل: هم الَّذِينَ كانوا في زمن موسى عليه السلام ردوا عليه، وقالوا: سمعنا وعصينا، عن أبي علي، وهو الوجه؛ لأنه تبيين الكلام.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ :
أ. قيل: حب العجل، عن قتادة وأكثر أهل العلم، وهو الوجه لذكره القلوب، ولأنه لا يقال: أُشرِبَ من سقْىِ الشَّفَةِ، ولأنه أظهر، وعليه أكثر العلماء.
ب. وقيل: ما قال السدي: لما رجع موسى إلى قومه أخذ العجل وحرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب، فلذلك قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ وروي نحوه عن ابن جريج.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاشْرَبُوا﴾ :
أ. قيل: أدخل قلوبهم حبه، كإشراب اللون لشدة الملازمة.
ب. وقيل: لما داموا على عبادة العجل قيل: أشربوا لأن الشرب مادة الزرع، فلما أمروا بعبادة العجل قيل: أشربوا.
14. اختلف فيمن أَشْرَبَ ذلك قلوبهم:
أ. قيل: لم يرد أن غيرهم فعل ذلك بهم، ولكن لفرط ولوعهم به، وإِلْفِهِمْ لعبادته، أشربوا في قلوبهم حبه، فألزموا ذكره ومحبته، فَذُكِرَ على ما لم يسم فاعله، كما يقال: فلان مُعْجَبٌ بنفسه.
ب. وقيل: أَشْرَكَهُ مَنْ زينهُ عندهم ودعا إليه، كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن.
15. لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى فعل ذلك:
أ. لأنه ذمهم بذلك ووبخهم، ولو كان ذلك فِعْلَهُ لما صح ذلك.
ب. ولأن تزيين عبادة الصنم قبيح، وقد نهى عنه، وأوعد عليه، ولا يجوز أن يفعله.
ج. ولأنه لو جاز أن يفعل ذلك بنفسه جاز أن يبعث رسولاً يدعو إليه، وهذا فاسد.
16. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ يعني لاعتقادهم التشبيه وجهلهم بِاللهِ، وتجويزهم العبادة لغير الله أشربوا في قلوبهم حب العجل؛ لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر، فأما من قال فعل الله ذلك بهم بكفرهم مجازاة لهم فغلط عظيم؛ لأن حب العجل ليس من العقوبة في شيء، ولا ضرر فيه، ولا يجوز أن يخلق حب العجل لأنه قبيح، يتعالى الله عن ذلك.
17. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ اليهود ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ يعني إن كان الترغيب فيه من جهة إيمانكم لكنه جاء على البلاغة، كقوله: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ أي فيها ذلك، فهذا مجاز أبلغ من الحقيقة.
18. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ يعني بئس الإيمان إيمان يأمر بالكفر؛ ليدل بذلك على أنهم ليسوا بمؤمنين، وتقدير الكلام: إن كنتم مؤمنين بزعمكم، وقد أَمَرَكُمْ بعبادة العجل، فبئس الإيمان إيمان يأمر بالكفر، ولا يمنع منه؛ لأن حقيقة الإيمان تمنع من الكفر.
19. تدل الآية الكريمة على:
أ. تقريع اليهود بفعل أسلافهم حيث وافقوهم في أديانهم، وصوبوا أفعالهم، كما يقال لبني تميم: رهنتم قوسكم كسرى، وإنما رهنها رجل منهم، وتقول للرجل إذا ذهب مذهبًا: أنتم تقولون كذا، وتريد بعض أسلافه.
ب. عظيم ذنبهم لمخالفتهم البينات، وذلك يوجب بطلان قول أصحاب المعارف.
ج. أن الكفر ظلم.
د. يدل قوله: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ لأنه لو قال اصعد السطح بِسُلَّم، ولا سلم هناك، فلم يفعل، كان معذورًا، عن أبي علي.
هـ. أن الكفر وَحب العجل فِعْلُهُمْ؛ لذلك عاتبهم به، ومعنى المحبة هاهنا الإرادة لا الشهوة؛ لأن الشهوة لا يقدر عليها العباد، ولا يُؤْمَرُ بها، ولا يُنْهَى عنها.
و. أن جميعهم لم يتوبوا، وأن فيهم مَنْ زَعَمَ أن عبادة العجل من الإيمان؛ فلذلك أجيبوا بهذا.
20. مسائل نحوية:
أ. اللام في قوله: (ولقد) لام القسم، واللامات عشر: لام القسم، ولام الابتداء، ولام الإضافة، كقوله: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ﴾، ولام الأمر كقوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾، ولام (كَي) كقوله: ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾، ولام الأصل: ﴿آلِهَتَكُمْ﴾، ولام التعريف كقوله: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾، ولام الجنس كقوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾، ولام العاقبة كقوله: ﴿لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾، ولام الاستغاثة كقول الشاعر:
يَا لَبَكْرٍ انشُرُوا لِي كُلَيبًا.. يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الفِرَارُ
ب. ﴿ثُمَّ﴾ للعطف، والمراد الاستعظام لكفرهم بعدما رأوا الآيات.
ج. ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ قيل: محله نصب تقديره: اتخذتم العجل ظالمين في ذلك لأنفسكم.. وقيل: رفع تقديره: وأنتم ظالمون بذلك وبغيره من خصال الكفر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/492.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
2. اسمعوا معناه: اقبلوا، ومنه قوله (سمع الله لمن حمده) أي: قبل الله حمد من حمده.
3. أشربوا: أصله من الشرب، يقال: شرب وأشرب غيره: إذا حمله على الشرب، وأشرب الزرع أي: سقي، وأشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل... والحب يشربه فؤادك داء
4. ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين وضعفهم في اليقين، فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الدالة على صدقه والمعجزات المؤيدة لنبوته كاليد البيضاء وانبجاس الماء من الحجر وفلق البحر وقلب العصا حية والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وسماها بينات لظهورها وتبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر الإتيان بها على كل بشر.
5. ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ يعني اتخذتم العجل إلها وعبدتموه ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ :
أ. أي من بعد موسى لما فارقكم ومضى إلى ميقات ربه.
ب. ويجوز أن يكون الهاء كناية عن المجيء، فيكون التقدير ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات.
6. ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسكم بكفركم وعبادتكم العجل لأن العبادة لا تكون لغير الله.
7. الفائدة في تكرير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ وأمثاله:
أ. قيل: التأكيد وإيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها.
ب. وقيل: إنه سبحانه لما عد فضائح اليهود أعاد ذكر رفع الجبل.
ج. وقيل: أنه تعالى إنما ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى، والثاني للاحتجاج عليهم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ :
أ. قيل: أي اقبلوا ما سمعتم واعملوا به وأطيعوا الله.
ب. وقيل: معناه اسمعوا ما يتلى عليكم، أي استمعوا لتسمعوا، وهذا اللفظ يحتمل الاستماع والقبول، ولا تنافي بينهما، فيحتمل عليهما، فكأنه قيل: استمعوا لتسمعوا، ثم أقبلوا وأطيعوا، وبدل عليه أنه قال في الجواب عنهم ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
9. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قولان:
أ. أحدهما، أنهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
ب. الثاني، أن حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دل عليه كما قال الشاعر: (قالت جناحاه لرجليه ألحقي)، وإن كان الجناح لا يقول ذلك، وإنما رجع سبحانه عن لفظ الخطاب إلى الخبر عن الغائب على عادة العرب المألوفة.
10. اختلف في هذا الضمير إلى من يعود:
أ. قيل: إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنهم قالوا ذلك، ثم رجع إلى حديث أوائلهم فقال ﴿وَاشْرَبُوا﴾
ب. وقيل: إلى اليهود الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، إذ ردوا عليه قوله، وقابلوه بالعصيان.
11. معنى قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ﴾ دخل قلوبهم حب العجل، وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها، والطعام يجاوز الأعضاء ولا يتغلغل، فيها قال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب... ولا حزن ولم يبلغ سرور
12. ﴿الْعِجْلَ﴾ : أي حب العجل حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه ومثله قول الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا... وما هي ويب غيرك بالعناق
أي حسبت بغام راحلتي بغام عناق، وقال طرفة:
ألا إنني سقيت أسود حالكا... ألا بجلي من الشراب الأبجل
يريد سقيت سم أسود قال آخر:
وشر المنايا ميت وسط أهله... كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضرة
أي منية ميت.
13. ليس المعنى في قوله ﴿وَاشْرَبُوا﴾ أن غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون لذلك، كما يقول القائل: أنسيت ذلك من النسيان، وليس يريد أن غيره فعل ذلك به، ويقال: أوتي فلان علما جما، وإن كان هو المكتسب له.
14. قوله تعالى: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ ليس معناه أنهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم، لأن محبة العجل كفر قبيح، والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء ولا جزاء، بل معناه:
أ. قيل: أنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل.
ب. وقيل: إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينة عندهم، ودعاهم إليه كالسامري وشياطين الجن والإنس.
15. قوله ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ معناه لاعتقادهم التشبيه وجهلهم بالله تعالى وتجويزهم العبادة لغيره أشربوا في قلوبهم حب العجل لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر، وقول من قال فعل الله ذلك بهم عقوبة ومجازاة غلط فاحش، لأن حب العجل ليس من العقوبة في شيء ولا ضرر فيه.
16. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ معناه قل يا محمد لهؤلاء اليهود: بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم، إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله والتكذيب بكتبه وجحد ما جاء من عنده، ومعنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي مصدقين كنا زعمتم بالتوراة، وفي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشيء يكرهه الله من أفعالهم، وإعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ويحملهم عليه آراؤهم.
17. مسائل نحوية:
أ. ﴿الْعِجْلَ﴾ أي: حب العجل، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ومثله قول الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا... وما هي ويب غيرك بالعناق
أي: حسبت بغام راحلتي بغام عناق، وقال طرفة:
ألا إنني سقيت أسود حالكا... ألا بجلي من الشراب الأبجل
يريد سقيت سم أسود.
قال آخر:
وشر المنايا ميت وسط أهله... كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره
أي: منية ميت.
ب. ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ يجوز أن يكون بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين، وجاز أن يكون تقديره إن كنتم مؤمنين فبئسما يأمركم به إيمانكم هذا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/317.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ما في الألواح من الحلال والحرام، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: الآيات التسع، قاله مقاتل.
2. في هاء ﴿بَعْدَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود إلى موسى، فمعناه: من بعد انطلاقه إلى الجبل، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: أنها تعود إلى المجيء، لأن ﴿جَاءَكُمُ﴾ يدل على المجيء، وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾
3. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل، قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا.
4. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾، أي: سقوا حبّ العجل، فحذف المضاف، وهو الحبّ، وأقام المضاف إليه مقامه، ومثله قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ أي: وقت الحج، وقوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ أي: أجعلتم صاحب سقاية الحاج، وقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، أي: أهلها، وقوله: ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ﴾، أي: ضعف عذاب الحياة، وقوله: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾، أي: بيوت صلوات، وقوله: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، أي: مكركم فيهما، وقوله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾، أي: أهله، ومن هذا قول الشاعر:
أنبئت أنّ النّار بعدك أوقدت... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
أي: أهل المجلس، وقال الآخر: (وشرّ المنايا ميّت بين أهله)، أي: وشرّ المنايا منيّة ميّت بين أهله.
5. في ﴿إِنَّ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى: الجحد، فالمعنى: ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله، وعبدتم العجل.
ب. الثاني: أن تكون ﴿إِنَّ﴾ شرطا معلّقا بما قبله، فالمعنى: إن كنتم مؤمنين؛ فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل وقتل الأنبياء، ذكرهما ابن الأنباريّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/89.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تكرير هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ يغني عن تفسيرها، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ووصفهم بالعناد والتكذيب، ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم، بل يزيد عليه، أعاد ذكر موسى عليه السلام، وما جاء به من البينات، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلهاً، وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه، والتمسك بدينه وشرعه، فكذلك القول في حالي معكم، وإن بالغتم في التكذيب والإنكار.
2. في الإعادة وجوهاً:
أ. أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب.
ب. ثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وذلك يدل على نهاية لجاجهم.
3. لا شك أن إظلال الجبل من أعظم المخوفات، ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم، وصرحوا بقولهم ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وهذا يدل على أن التخويف، وإن عظم لا يوجب الانقياد.
4. الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول، قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 177] وكقوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11] والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز.
5. في وجه هذه الاستعارة في قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ وجهان:
أ. الأول: معناه تداخلهم حبه، والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ بيان لمكان الإشراف كقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]
ب. الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
6. قوله تعالى: ﴿وَاشْرَبُوا﴾ يدل على أن فاعلًا غيرهم فعل بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله، وقد أجاب المعتزلة ومن وافقهم عنه من وجهين:
أ. الأول: ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم، ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه، فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان: معجب بنفسه.
ب. الثاني: أن المراد من أشرب أي زينه عندهم، ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن.
7. أجاب المخالفون لهم مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: أن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره، وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل، ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن هناك حاجة إلى ترك هذا الظاهر.
8. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ المراد باعتقادهم التشبيه على الله، وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى.
9. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: 87] وكذلك إضافة الإيمان إليهم.
10. الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]
11. المراد من قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/605.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ اللام لام القسم، والبينات:
أ. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ ) وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر.
ب. وقيل: البينات التوراة، وما فيها من الدلالات.
2. ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ توبيخ، وثم أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الآيات، أو الإتيان بها اتخذتم، وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من الزمن.
3. ﴿ اسْمَعُوا ﴾ أطيعوا، وليس معناه الامر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب، قال:
دعوت الله حتى خفت ألا... يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل، وقال الراجز:
والسمع والطاعة والتسليم... خير وأعفى لبني تميم
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال:
امتلأ الحوض وقال قطني... مهلا رويدا قد ملأت بطني
5. هذا احتجاج عليهم في قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾
6. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ أي حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وفي الحديث: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء) الحديث، يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل... والحب تشربه فؤادك داء
7. عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لان شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها، وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الامر فطلقها وكان محبا لها:
تغلغل حب عثمة في فؤادي... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها... أطير لو أن إنسانا يطير
8. روي عن السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه، وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري:
أ. أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾
ب. وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه، فيرده قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾
9. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾، وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/31.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الأمر بالسماع معناه: الطاعة والقبول، وليس المراد: الإدراك بحاسة السمع، ومنه قولهم: (سمع الله لمن حمده) أي: قبل وأجاب، وقولهم في الجواب: سَمِعْنا هو على بابه وفيه معناه؛ أي: سمعنا قولك بحاسة السمع وعصيناك؛ أي: لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم: سَمِعْنا ما هو معهود من تلاعبهم واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى: اسْمَعُوا على معناه الحقيقي، أي: السماع بالحاسة، ثم أجابوا بقولهم: ﴿سَمِعْنَا﴾ أي: أدركنا ذلك بأسماعنا عملا بموجب ما تأمر به، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد الله عزّ وجلّ، بل مراده بالأمر بالسماع: الأمر بالطاعة والقبول، لم يقتصروا على هذه المغالطة، بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم، فقالوا: ﴿وَعَصَيْنَا﴾
2. في قوله: ﴿وَاشْرَبُوا﴾ تشبيه بليغ؛ أي: جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه.. وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاورها ولا يتغلغل فيها.
3. الباء في قوله ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ سببية؛ أي: كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم وخذلانا.
4. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ أي: إيمانكم الذي زعمتم: أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بما وراءه، فإن هذا الصنع وهو قولكم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ في جواب ما أمرتم به في كتابكم، وأخذ عليكم الميثاق به، مناد عليكم بأبلغ نداء، بخلاف ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب، هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ لا صادقون، فإن زعمتم: أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/134.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ من الآيات كفلق البحر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله.
2. ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ معبودا من دون الله ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: 148]
3. ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي بعبادته، واضعين لها في غير موضعها، أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى، أو هو اعتراض.. أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
4. ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ على الإيمان والطاعة. ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ قائلين ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أي ما أمرتم به في التوراة ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد ﴿وَاسْمَعُوا﴾ أطيعوا ﴿قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك، وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة، قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى: سمعوه فتلقوه بالعصيان، فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه: كقوله تعالى ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]
5. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ أي حبّه على حذف المضاف، وإقامة المضاف مقامه للمبالغة، أو العجل مجاز عن صورته، فلا يحتاج إلى حذف المضاف، وعلى كلّ، فأشربوا استعارة تبعية، إما من إشراب الثوب الصبغ ـ أي تداخله فيه ـ أو من إشراب الماء ـ أي تداخله أعماق البدن ـ والجامع السراية في كل جزء، وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب.
6. ثم بيّن بقوله ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو: وأشرب قلوبهم العجل، ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ بسبب كفرهم.
7. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي كما زعمتم، بالتوراة، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ [هود: 87]، وكذا إضافة الإيمان إليهم، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ قدح في صحة دعواهم، فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة، فهو غاية الاستهزاء.
8. حاصل الكلام: إن كنتم مؤمنين بها عاملين، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها، وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا، فجواب الشرط محذوف، كما ترى، لدلالة ما سبق عليه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/353.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ كفلق البحر، والمنِّ والسلوى، وتظليل الغمام، وإحياء القتيل، ورفع الطور فوقهم، وانفجار الماء من الحَجر، وهذا أولى من تفسير بعض العلماء الآيات بدلائل التوحيد، والعموم أولى، وليس هذا وما بعده تكريرا لما تقدَّم؛ لأنَّه أُمِر أن يقوله لهم، فهو من جملة المحكيِّ بـ (قُلْ) في قوله: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ﴾ مشيرا إلى أنَّ طريقتهم مع محمَّد طريقتهم مع موسى 6 ، وأيضا سيقت لإبطال دعواهم في الإيمان بالتوراة، وللتلويح بأنَّ كفرهم بمحمَّد ليس بأعجب من كفرهم بموسى، وإن قلنا كرَّر ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى﴾ لإبطال دعواهم الإيمان بالتوراة، أو لبيان أنَّ طريقتهم معه صلّى الله عليه وآله وسلّم طريقتهم مع موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم جاز أن يقدَّر: (قائلين)، أو: (قلنا خذوا..) إلخ على أنَّ خذوه غير داخل في الحكاية بـ (قُلْ).
2. ﴿ثُمَّ اتَّخَذتُّمُ الْعِجْلَ﴾ عجل السامريِّ إلها تعبدونه، أو اتَّخذتم العجل بمعنى صوَّرتموه، ونصَّ التوراة: (لا تعملوا صوَرًا)، فتصوير الرأس أو مع الجسد محرَّم، ولو لم يُعبد، والتوراة نزلت بعد اتِّخاذه بمدَّة قريبة، و(ثُمَّ) للاستبعاد، أو لأنَّهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك فعل لآبائهم خوطِبوا به، فجرى الخطاب على مقتضى أنَّهم فعلوه، لرضاهم عن آبائهم عن ذلك، وبهذا الاعتبار يصحُّ أن يراد بالبيِّناتِ التوراةُ، فلا يُعترض بأنَّ اتَّخاذ العجل قبل التوراة.
3. ﴿من بَعْدِهِ﴾ بعد ذهابه إلى الميقات، أو بعد مجيئه بالبيِّنات، كما قال: ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ﴾، وقيل: الاتِّخاذ بعد رجوعه من الميقات، وهو ضعيف، ﴿وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾ أنفسَكم باتِّخاذ العجل، وظالمون لمن يقتدي بكم، ولدين الله والزمان والمكان، ولِنعم الله، إذ وضعتموها في غير محلِّها، وهكذا تستحضر بعد، أو أنتم عادتكم الظلم قبل الاتِّخاذ فينتج منكم الاتِّخاذ وغيره.
4. ﴿وَإِذَ اَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ على التوراة درسا وتفهُّمًا وعملا، والحال أنَّا رفعنا الطور كما قال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ يسقط عليكم إن امتنعتم من قبولها، مقولا لكم أو قائلين لكم: ﴿خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُمْ﴾ جعلناه آتيا إيَّاكم ﴿بِقُوَّةٍ﴾ باجتهاد وترك الكسل والفتور، كما هو عادة المنافقين ﴿وَاسْمَعُواْ﴾ سماع إجابة، ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا﴾ قولَك بآذاننا ﴿وَعَصَيْنَا﴾ بقلوبنا وجوارحنا، لا نعتقد أمرك ولا تعمل به جوارحُنا، كلُّ ذلك باللسان، أو سمعنا بلسان القال وعصينا بلسان الحال، أو سمعنا قبلُ أحكامًا وعصينا.
5. ﴿وَأُشْرِبُوا﴾ أشربهم الشيطان بالوسوسة، أو أشربهم اللهُ بالخذلان، أو موسى إذ بَرَدَ بالمبْرَدِ العجلَ وأسقاهم بُرادته، كما يأتي إن شاء الله، جعل مخالطًا كما يخالط الشرابُ أعماق البدن، أو كما يدخل الصبغ الثوب، وهذا على أنَّه من الإشراب بمعنى دخول لونٍ على لونٍ، ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ حبَّ العجل، ورسخ كما رسخ الماء في محلِّه من العطشان، أو الصبغ في الثوب، قيل: ولك أن لا تقدِّر (حُبَّ) بأن رسخت صورته وشغفوا بها، وفيه بُعدٌ، إذ لا بدَّ من حكم يعرض على ذات، فيقدَّر (شغف) أو (حبّ)، ووجهه المبالغة بأنَّه كأنَّه نفسه مشروب، وبأنَّه مثل قولك: فلان يأكل في جميع بطنه، إذا بالغ في الأكل.
6. وذكر القلوب مع أنَّ الحبَّ لا يكون إلَّا فيها، ليجمع بين مزيد التقرير والتأكيد، وبيان أنَّ الْمُشرَبَ الحبُّ إذ لم يُذكر، ولفائدة البيان بعد الإجمال أو بعد الإبهام، فإنَّ محلَّ الشرب في المعتاد البطن، واختار الإشراب لأنَّ الماء أبلغ مساغا في البدن، ومطيَّة الأغذية والأدوية، وقيل: برَدَه موسى بالمبرد وألقاه في الماء وأمرهم بشربه، فمن أحبَّه خرجت بُرادته إلى شفتيه، وهو قولٌ باردٌ، ويردُّه ذكر القلوب أو يضعِّفه، وقيل: رُبِط إلى قلوبهم كما يشرب البعير، بمعنى: شدَّ في عنقه حبلٌ يمسك به.
7. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ بسبب كفرهم السابق على اتِّخاذ العجل، كفرَ شركٍ، وهم مجسِّمةٌ يجيزون ألوهيَّة الأجسام، أو حلوليَّةٌ يجيزون حلول اللهِ أو الألوهيَّة منه في الأجسام ـ زادهم الله عذابا في الدنيا والآخرة ـ ﴿قُلْ بِيسَمَا يَامُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمُ﴾ بالتوراة والمخصوص بالذمِّ عبادة العجل، تهكَّم عليهم بأنَّ إيمانهم بالتوراة أمرَهم بعبادة العجل، فذلك نفي للإيمان بها؛ لأنَّ الإيمان يورث العلم والحكمة والفهم والإيمانَ بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لا عبادةَ غير الله، ولا سيما أبلد الحيوان وهو البقر ولا سيما صغيره، أو المخصوص قتل الأنبياء ونحوه، أو قولكم: ﴿عَصَيْنَا﴾ أو كلُّ ذلك، وما ذكرتُه أوَّلاً أولى.
8. ﴿إِنْ كُنتُم مُّومِنِينَ﴾ بها، متَّصلٌ بما قبله، أو إن كنتم مؤمنين فاعملوا بما فيها، أو فلا تقتلوا الأنبياء ولا تكذِّبوا الرسلَ ولا تكتموا الحقَّ، أو ما كنتم مؤمنين إذ خالفتموهم إنكارا أو فسقا، فـ (إِنْ) نافية.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/165.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبق التذكير باتخاذ العجل في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾، ثم أعاده هنا بعبارة وأسلوب آخرين في سياق آخر، أما اختلاف العبارة والأسلوب فظاهر، وأما السياق فقد كان أولا في تعداد النعم على بنى إسرائيل وبيان ما قابلوها به من الكفران، وهو هنا في ذكر الآيات ورد شبهاتهم المانعة بزعمهم من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهناك يقول إن النعم التي أسبغها الله عليكم لم يكن لها من شكر عندكم إلا اتخاذ عجل تعبدونه من دونه، وههنا يقول إن الآيات البينات على النبوة والوحدانية، لم تزدكم إلا إيغالا في الشرك وانهما كا في الوثنية، فكيف تعتدرون عن الايمان بمحمد بأنكم لا تؤمنون إلا بما أنزل اليكم وهذا شأنكم فيه؟
2. مجموع الآيتين ينبئ بفساد قلوب القوم، وفساد عقولهم حتى لا مطمع في هداية أكثرهم من جهة الوجدان، ولا من ناحية العقل والجنان، وهذه البينات التي ذكرها ههنا قد كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة وأما النعم التي ذكرها هناك فقد كانت في أرض الميعاد كما تقدم، ووجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها قد علم في السياق وفيه المقابلة بين معاملتهم لموسى عليه السّلام ومعاملتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ قالوا: قلوبنا غلف، وادعوا أنهم مأمورون بأن لا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم خاصة، وقد علم من هذه الحجج كلها بطلان شبههم وكذبهم في دعواهم وأنه لا عذر لهم في ترك الايمان.
3. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد هذا المجيء لا من بعد موسى، والمراد أنه لم يكن لهم عذر في ذلك الاتخاذ فإنه بعد بلوغ الدعوة، وقيام الحجة، ولذلك قال ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ وأى ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى؟ ولا تغفل عن الايجاز في قوله ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ وحذف مفعول ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾ أي اتخذتموه إلها.
4. ثم ذكرهم هنا أيضا بأخذ الميثاق ورفع الطور كما ذكرهم به في آية تقدمت، وقد قال هناك: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾، وقال هنا: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾، وأمرهم في تلك بالحفظ وأمرهم في هذه بالفهم والطاعة، وقلنا في تفسير ﴿وَاذْكُرُوا﴾ إن المراد الحث به على العمل، فالعبارتان تتلاقيان في المعنى والمراد.
5. في اختلاف النظم والأسلوب حجة على الذين توهموا أن إعجاز القرآن في البلاغة إنما هو في السبق إلى العبارة التي يتأدى بها المعنى على أكمل الوجوه الممكنة في نظم الكلمات العربية، رأى هؤلاء أن المعنى الذي يفيد علما بشيء ما له كلمات في اللغة تؤديه بوجوه من النظم، وأن الكلمات والوجوه محدودة، فمن سبق إلى أتمها أداء وأبلغها تأثيرا كان كالسابق إلى انتقاء أكرم جوهرة من طائفة من الجواهر أمامه أو إلى أنفس عقد وأحسنه نظما من عقود عرضت عليه.
6. معنى الآية أن الله أخذ العهد على بنى إسرائيل بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن يعملوا بشريعته ووصاياه وكان أخذ هذا العهد في موقف رهبة وخشوع يعين على أخذه بالجد والعزيمة، إذ كان الجبل مرفوعا فوقهم بصفة لم يعهدوها حتى ظنوا أنه يريد أن يقع بهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا هذا الميثاق، وتركوا العمل به، وعبدوا العجل الذي صاغوه من حليهم بأيديهم عن حب متمكن من النفس، وغالب على العقل والحس، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في كتابه غير مرة، ولكن بعبارات مختلفة كالآية التي تقدمت، وذكر هناك أنهم تولوا عن الميثاقي بعد الأمر بحفظه والعمل به رجاء التقوى، وكآية الأعراف ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾، وذكره هنا بنظم آخر تنتهى اليه البلاغة في سياق آخر فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾
7. ثم التفت الله تعالى عن خطاب الحاضرين إلى الحكاية عن الغابرين فقال: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، ولكنهم لم يعملوا به، بل خالفوه تعنتا وتأولا، وليس المراد أنهم نطقوا بهاتين الكلمتين ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، بل المراد أنهم بمثابة من قال ذلك، ومثل هذا التجوز معروف في عهد العرب وفى هذا العهد ـ يعبرون عن حال الانسان وغيره بقول يحكيه عن نفسه حتى حكى مثل ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضا، وهو أسلوب يوجد في كل لغة أو في اللغات الراقية فقط.
8. ثم ذكر الله تعالى أقبح أمثلة هذا العصيان بعبارة مدهشة في بلاغتها فقال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ هذه الاستعارة من فرائد الاستعارات يتمثل بها عند ذكر بلاغة القرآن، وإشراب الشيء الشيء مخالطته إياه وامتزاجه به، يقال بياض مشرب بحمرة، أو هو من الشرب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسرى في قلب المحب ويمازجه كما يسرى الشراب العذب البارد في لهاته، وقد قدّر الأكثرون هنا مضافا محذوفا، فقالوا المراد (حب العجل)
9. ذهب بعض الجامدين على الظواهر إلى أن المراد بالشرب هنا حقيقته، وزعموا أن موسى لما سحق العجل وذراه في اليم طفقوا يشربون المسحوق مع الماء، وغفل صاحب هذا الزعم عن قوله تعالى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾، والشراب الحقيقي لا يكون في القلب، والشرب غير الإشراب، ولبعض المفسرين مزاعم وقصص في العجل لا يدل عليها وحى منزل، ولا تاريخ صحيح ينقل.
10. الباء في قوله: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ للسببية أي سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل، هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فقد رسخ الكفر في قلوبهم بطول الزمن وورثه الأبناء عن الآباء.
11. السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية مع الاتحاد في المعنى هو إقامة الحجة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورد زعمهم أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطبا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن صح زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة ـ والإيمان الحقيقي يقتضى العمل بما له من السلطان على الإرادة ـ فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، لكن هذا الزعم مشكوك فيه بل يصح القطع بعدمه، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا له، ولا ينسى القارئ ما تقدم من ربط الايمان بالعمل الصالح في تفسير قوله تعالى ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ الآية
12. هذه حجة عليهم بطبيعة الايمان وأثره في عمل المؤمن وتليها حجة أخرى تتعلق بفائدة الايمان ومثوبته في الحياة الأخرى، وهى قوله عز وجل: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ المراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها، لأن حال الانسان فيها لا يخلو من أحد الأمرين ـ المثوبة بالنعيم المقيم، والعقوبة بالعذاب الأليم، واستغنى عن التصريح بالنعيم أو الثواب بقوله ﴿لَكُمْ﴾ فإنه يشعر بالمحذوف، وإنما أوجز هنا في خطاب اليهود لأنه يحكى عن شيء يعرفونه في أنفسهم، وقد أوضح المراد بقوله ﴿خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ والخالصة هي السالمة من الشوائب.
__________
(1) تفسير المنار: 1/386.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهي حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن.
2. عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بنى إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية؛ فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم؟ وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختلّ الوجدان، وضعف الجنان، وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد.
3. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به، وأيّ ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟
4. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ وهنا قال ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ فأمرهم هناك بالحفظ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة، والعبارتان متقاربتان في المراد.
5. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ بل كانوا بمثابة من قال ذلك، والعرب تعبّر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول في قرارة نفسه ويدور يخلده فيكون هذا القول ترجمانا عنه.
6. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي صار حبّ العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم؛ أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.
7. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي قل توبيخا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/172.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. نقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ .. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ إنهم قالوا: سمعنا، ولم يقولوا عصينا، ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق، لقد قالوا بأفواههم: سمعنا، وقالوا بأعمالهم: عصينا، والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته، وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق.. وهذا التصوير الحي للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل، إن العمل هو المعتبر، أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، وهي مناط الحكم والتقدير.
2. الصورة الغليظة التي ترسمها: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ هي صورة فريدة، لقد أشربوا، أشربوا بفعل فاعل سواهم، أشربوا ماذا أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب!
3. هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور، بالقياس إلى التعبير الذهني المفسر.. إنه التصوير.. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل.
4. ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة.. إنهم شعب الله المختار، إنهم وحدهم المهتدون، إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة، إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب.. لا بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى ـ نبيكم الأول ومنقذكم الأكبر ـ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ فهل اتخاذكم العجل من بعد ما جاءكم موسى بالبينات، وفي حياة موسى نفسه، كان من وحي الإيمان؟ وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟
5. لم تكن هذه هي المرة الوحيدة، بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة، وكان هناك التمرد والمعصية: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية.. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين ـ وإلى الناس جميعا ـ فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/92.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، وفى الجمع بين السمع والعصيان ما يشير إلى تلك الطبيعة اللئيمة المستقرة في كيان القوم، وهى أنهم لا يتقبلون الخير ولا يستقيمون عليه، وأنه إذا نفذت إلى آذانهم دعوة الخير استقبلها من قلوبهم عواء مخيف، يردّها عن أفقه، ويصدها عن مورده: (سمعنا وعصينا)! سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا!
2. في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وتكرار هذا القول مرتين في موقف واحد ـ في هذا ما يكشف عن حقيقة هذا الإيمان الذي يدّعونه.. فهو إيمان على دخل، تختلط به خمائر الشك، والنفاق.. وهذا إيمان لا يقبله الله، ولا يدخل أهله في زمرة المؤمنين به!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/111.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ :
أ. يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله: ﴿وَاسْمَعُوا﴾، وإنما أجابوه بأمرين، لأن قوله: ﴿ اسْمَعُوا ﴾ تضمن معنيين معنى صريحا، ومعنى كنائيا، فأجابوا بامتثال الأمر الصريح، وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه، وذلك يتضمن جواب قوله: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه ﴿وَاسْمَعُوا﴾، وفي هذا الوجه بعد ظاهر، إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية.
ب. وقيل: إن قوله: ﴿سَمِعْنَا﴾ جواب لقوله: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ أي سمعنا هذا الكلام، وقوله: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ جواب لقوله: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه، ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة ﴿سَمِعْنَا﴾ مشير إلى كونه جوابا لقوله: ﴿ اسْمَعُوا ﴾ لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به، وقوله: ليكون كل كلام قد أجيب عنه.
ج. يحتمل جعل ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ جوابا لقوله: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ يغني عن تطلب جواب لقوله: ﴿خُذُوا﴾ ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم: ﴿ عَصَيْنا ﴾ كان بلسان الحال يعني فيكون ﴿قَالُوا﴾ مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا: سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا.
د. يحتمل أن قولهم ﴿ عَصَيْنا ﴾ وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم: ادخلوا القرية ﴿لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا﴾ [المائدة: 24]
وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول، وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 64]
2. الإشراب: هو جعل الشيء شاربا، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه، ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره، ولذا يقول الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية، ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء:
تغلغل حب عثمة في فؤادي... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب... ولا حزن ولم يبلغ سرور
ومنه قولهم: أشرب الثوب الصبغ، قال الراغب: من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب، وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب.. وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي.
3. ذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل، وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف.
4. العجل مفعول ﴿ أُشْرِبُوا ﴾ على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3] أي أكل لحمها، وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب، وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى:
أكاد إذا ذكرت العهد منها... أطير لو أن إنسانا يطير
5. ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده.
6. إسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ مبالغة، وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة، وقريب منه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]، وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب.
7. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ هو خلاصة لإبطال قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 91] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 91] وقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ وقوله: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ ولذلك فصله عن قوله: ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ﴾ لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى: قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء: ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم: فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالجملة الشرطية كلها مقول: ﴿قُلْ﴾، والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب.
8. إنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعو ذلك لأنهم لما فعلوه، وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر، ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم، هذا وجه الملازمة، وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة، فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع.
9. هذا ظاهر الكلام، والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة، وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ [الزخرف: 81] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم، أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور، فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء.
10. بطل بذلك كونهم ﴿مُؤْمِنِينَ ﴾ وهو المقصود فقوله: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ جواب الشرط مقدم عليه أو ﴿قُلْ﴾ دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بأنّ التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض المحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم ﴿مُؤْمِنِينَ ﴾ إلا منفيا.
11. مقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم، وفي الإتيان بأنّ إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ وإلى هذا أشار الزمخشري كما قاله التفتازانيّ وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
12. لا معنى لجعل ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل.. لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة، على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذا المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم؟
13. ﴿بِئْسَمَا﴾ هنا نظير بئسما المتقدم في قوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: 90] سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/593.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تبين في الآيات السابقة أن بنى إسرائيل كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين، وأنهم قرروا في ذاتهم ألا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم، فلا يؤمنون بالقرآن، وإن جاء مصدقا لما معهم، وذلك الكفر أكبر العناد، وفى هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أن العناد فيهم منذ أرسل موسى إليهم، لقد أتى لهم ببينات حسية قاطعة في الدلالة على أن موسى أرسله الله تعالى لإنقاذهم.
2. لقد أوتى عيسى بينات كثيرة وكفروا به وحاولوا قتله، ولم يمكنهم الله تعالى منه، فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وموسى عليه السلام أتى لهم بمعجزات حسية بلغت تسعا، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ﴾، ومنها العصا التي أبطلت سحر الساحرين، والتي ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، والتي ضرب بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، ومنها ما ظهر بين أيديهم مما جرى لفرعون وقومه، وقد قال الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾، ولما خرجوا إلى سيناء ظللتهم السحاب من هجيرها، وأمدهم الله تعالى بالمن والسلوى.
3. جاءهم موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم بالبينات القاهرة الظاهرة المحسوسات، ومع وضوحها وظهورها ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾ أي اتخذوه معبودا وهو مصنوع بين أيديهم وتحت أبصارهم، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾
4. ثم قال تعالى مخاطبا الذين عاصروا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنهم في تفكيرهم وجحودهم وعنادهم امتداد للسابقين يحذون حذوهم، وما يعملونه صورة مما عملوا والباعث واحد، ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾، والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا، وهو لا يضر ولا ينفع، ولا عذر ولا مبرر إلا أن يكون التقليد لفرعون وآله وقومه الذين عبدوا العجل وكانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم لأهوائهم وشهواتهم.
5. قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ ولم يقل سبحانه وتعالى: وأنتم كافرون؛ لأنه كفر يتضمن أشد الظلم وأفحشه، فقد ظلموا أنفسهم بأن أعطوا قوة الحق، فأبوا إلا أن يستضعفوا ويذلوا لمن أذلوهم، وظلموا الحق وظلموا من أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم فهو كفر يتضمن ظلما، وكما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة]
6. هذه حالهم مع موسى عليه السلام الذي دفعه الله تعالى لإنقاذهم مع ما جاءهم من البينات، فكيف يمكن أن ينتزع الضلال من قلوبهم بالقرآن الكريم يا محمد، فلا تأس على القوم الفاسقين.. إن اليهود لا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه.. لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعا، وكلها حسى قاهر، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه.
7. ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا﴾ دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد، ولا ينحرفوا عنه، وأن يسمعوا إليه، ولا يخالفوه.
8. اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق، فهل أجابوا؟
9. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم، وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا: ﴿سَمِعْنَا﴾ تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم، ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم، ﴿وَاسْمَعُوا﴾ فإنه لا بد أن يكون الجواب ﴿سَمِعْنَا﴾، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم، والعهد قريب، ولذلك:
أ. قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لا بلسان المقال، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم.
ب. ويصح أن نقول: إن عصينا القلبية كانت مقارنة لسمعنا، أي أنهم قالوا سمعنا، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم، وهو عصينا فكأنهم سمعوا، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون.
10. كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان، فقال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ :
أ. بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف مضاف تقديره حب العجل، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف، فذكر القلوب، والقلوب لا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف، والقلوب تنكت فيها المفاسد، روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال (تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء)
ب. بعض المتفقهين في اللغة قالوا: لا حاجة إلى تقدير محذوف؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة، وإلى أنه تكون صورته في قلوبهم لا تفترق عنها، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة، أي خالطت أجزاءه، وتغلغلت فيه، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب، لا تنفصل عنه، وهذا نوع من الاستعارة، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها.
11. كلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم، فالشيطان زينه لهم، وسول لهم عبادته، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه، والعشرة المستمرة لهم مع مظالمهم، وضلال نفوسهم كل هذا سهّل سريان عبادة العجل إليهم؛ ولذلك قال بكفرهم، أي بسبب كفرهم المستكن في نفوسهم.
12. ﴿يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم هم الذين واجهوه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقولهم: ﴿قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة]، وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لا يؤمنون بشيء حتى تركوا ما يدعوهم إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإيمان بما عندهم، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم.
13. ﴿بِئْسَمَا﴾ دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك، كقوله تعالى حكاية عن قول قوم شعيب له: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [هود]، وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لا إيمان.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/317.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجادل المخالفين بالحسنى: ومعنى الجدال بالحسنى مخاطبة القلب والعقل، وكل حجاج القرآن من هذا النوع.. فلقد دعا الجاحدين الى التفكر في أنفسهم، وفي خلق السموات والأرض، وقال لمن نسب السيد المسيح الى الألوهية: انه وامه كانا يأكلان الطعام، وخاطب قلوب اليهود بهذه الآيات، حيث ذكرتهم بنعمة الله عليهم بالتوراة، فيها الهدى والنور، كما ذكرتهم آيات سابقة بخلاصهم وتحررهم من فرعون، وما الى ذاك.
2. ثم وبخهم الله بعبادة العجل كفرا وجحودا لنعمته، وكرر ذكر رفع الجبل فوقهم لتمردهم وعصيانهم، وكذّب بمنطق العقل دعواهم انهم أبناء الله وأحباؤه، وان الجنة خالصة لهم لا يدخلها أحد غيرهم، وأمرهم ـ ان كانوا صادقين ـ بتمني الموت، لأن من اعتقد انه للجنة قطعا آثر الموت المريح على حياة البلاء والشقاء.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/155.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ حين غاب عنكم ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأن الشرك ظلم عظيم، ﴿ و﴾ اذكروا ﴿ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ على اتباع ما أنزل إليكم ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ آية عظيمة قائلين لكم: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ﴾ التوراة وغيرها ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد وعزيمة وصبر ﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما في الكتاب وغيره سماع طاعة وانقياد.
2. ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ﴾ حبّ ﴿الْعِجْلَ﴾ وذكره كما قال الشاعر: أنتم حلول فؤادي وهو بيتكم ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي بسبب كفرهم خذلوا، فصار في قلوبهم، وقد جعل عرض العجل عليهم أو حبه الذي ترتب عليه قبولهم له شبه السقي لهم إذا سقوا شراباً فشربوه لأنهم تقبلوه بسهولة وسرعة كما يتقبل الشارب ما يشربه فكأنهم أشربوا العجل إذ عرض لهم هو أو حبه فجعلوه في قلوبهم.
3. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ لأن الإيمان بما أنزل الله يبعث على اتباعه والحذر من مخالفته، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 60 ـ 65] وهذا تهكم بهم في دعواهم الإيمان، كأنه يقول: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ فإيمانكم يأمركم بقتل الأنبياء، وقولكم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وعبادة العجل والإصرار عليها.
4. ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ وما هكذا الإيمان؛ لأنه يدعو إلى عبادة الله وحده والسمع والطاعة وترك قتل النفس التي حرم الله إلاَّ بالحق، والمقصود أن دعواكم الإيمان تكذبها أفعالكم الخبيثة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/147.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لم يقتصر الموقف المعاند على هؤلاء الأنبياء، فماذا عن موقفكم من موسى الذي جاء بالكتاب؟ ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسكم في عبادتكم لغير الله، مع أن موسى قد دعاكم إلى عبادة الله الواحد الأحد.
2. ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ بعد إنزال الكتاب ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الجبل، حتى ظللنا عليكم به في طريقة إعجازية، وقلنا لكم في مجال دعوتكم إلى حمل المسؤولية تجاه أنفسكم وتجاه الناس: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ وقناعة ويقين وعزيمة لا ضعف فيها ﴿وَاسْمَعُوا﴾ سماع وعي في الإيمان وطاعة في العمل؛ فماذا كان الجواب؟ قالُوا ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، لقد سمعنا كل ما قلت، ولكننا غير مستعدين للانسجام معك في واقعنا العملي، لأننا لا نريد تغيير واقعنا وعاداتنا وأوضاعنا التي تلتقي بأطماعنا وشهواتنا ومواقعنا في الحياة.
3. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ فلا تزال ذكريات العجل تعيش في وجدانهم وقلوبهم، ولا يزال حبه يجري في مشاعرهم مجرى الدم في العروق.
4. وهنا يوحي القرآن ـ في أسلوبه ـ بالمرارة والسخرية منهم في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾، فإذا كان إيمانكم يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل وإنكار الحق، فبئس هذا الاتجاه الإيماني الغريب فيما يأمر به، ممّا يضاد معناه وحيويته، ولكن الحقيقة هي أنكم غير مؤمنين، لأن للإيمان وحيه الطاهر الذي يملأ روح الإنسان بالخير ويحرك طاقاته في طريق الطاعة والعبادة والحق والصلاح.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/129.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يعرض القرآن وثيقة أخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف ادعائهم، فيقول: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾، ما هذا الانحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين!؟ لو كنتم آمنتم به حقّا، فلم تبدّل إيمانكم إلى كفر عند غياب موسى وذهابه إلى جبل الطور، وبذلك ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم والأجيال المتعاقبة بعدكم!؟
2. في الآية الأخرى يطرح القرآن وثيقة إدانة أخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، وما كان عصيانهم إلّا عن انغماس في حبّ الدنيا الذي تمثّل في حبّ عجل السّامري الذّهبي: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ ولذا نسوا الله عزّ وجلّ!؟ كيف يجتمع الايمان بالله مع قتل أنبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الالهية المؤكدة!؟ أجل ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ .
3. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ كناية رائعة تعبّر عن وضع هذه الجماعة.. والاشراب له معنيان كما ورد في المفردات: الإحكام كقولك (أشربت البعير) إذا شددت رقبته بالحبل، وكذلك الإرواء، ويكون المعنى على الوجهين أن حبّ العجل قد غمر قلوب بني إسرائيل واستحكم في أنفسهم.
4. ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ يوحي أيضا ما يصدر عن هؤلاء القوم من انحراف، إنما هو ظاهرة طبيعية ناتجة عن تغلغل روح الشرك في قلوبهم، والقلوب التي أشربت الشرك لا يصدر عنها إلا القتل والإنكار والخيانة، وتتبين أهمية الموضوع أكثر لو طالعنا مقدار ما أكدت عليه الديانة اليهودية من تقبيح لعملية القتل ونهي عنها فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس، ص 678: (القتل العمدي وتقبيحه كان على درجة من الأهمية لدى بني إسرائيل، بحيث لا تبرأ ذمّة القاتل له لولجا إلى الأماكن المقدسة، بل لا بدّ إنزال عقوبة القصاص به بأيّ حال من الأحوال)، هذا هو معنى قتل الإنسان في نظر التوراة، فما بالك بقتل الأنبياء؟
5. عبارة ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ ليست حكاية عمّا قالوه بألسنتهم، بل حسب الظاهر هي تعبير عن واقع عملي لهؤلاء القوم، وكناية رائعة عن انحرافهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/301.
38. الكفر بالله والحرص على الحياة الدنيا
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈38⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 94 ـ 96]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ ﴿قُل﴾ يا محمد لهم ـ يعني: اليهود ـ: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَة﴾ يعني: الجنة ﴿خَالِصَةً﴾ خاصة لكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُل﴾ لهم، يا محمد: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَة﴾ يعني: الجنة، كما زعمتم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مِنْ دُونِ النَّاس﴾ من دون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاس﴾، يعني: المؤمنين(2).
5. روي أنّه قال: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقول الله لنبيه: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾(4).
6. روي أنّه قال: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْت﴾ فسلوا الموت ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾(1).
7. روي أنّه قال: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ أنها لكم خالصة من دون المؤمنين(2).
8. روي أنّه قال: ﴿قُل﴾ لهم يا محمد: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَة﴾ يعني: الجنة، كما زعمتم، ﴿خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاس﴾ يعني: المؤمنين، ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ أنها لكم خالصة من دون المؤمنين، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن كنتم في مقالتكم صادقين قولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه، فمات مكانه)، فأبوا أن يفعلوا، وكرهوا ما قال لهم، فنزل: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند نزول هذه الآية: (والله، لا يتمنونه أبدا)(2).
9. روي أنّه قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه(5).
10. روي أنّه قال: لو تمنى اليهود الموت لماتوا(6).
11. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات(4).
12. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ يا محمد، ولن يتمنوه أبدا؛ لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا(7).
13. روي أنّه قال: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾ أسلفت(7).
14. روي أنّه قال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾، يعني: عملته أيديهم(2).
15. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين﴾ أنهم لن يتمنوه(2).
16. روي أنّه قال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ اليهود(8).
17. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم(4).
18. روي أنّه قال: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم: زه هزار سال، يعني: عش ألف سنة(9).
19. روي أنّه قال: الذين أشركوا هم المجوس، وذلك أن المجوس كانوا يأتون الملك بالتحية في النيروز والمهرجان، فيقولون له: عش أيها الملك ألف سنة، كلها مثل يومك هذا(10).
20. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِه﴾ بمنجيه من العذاب(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٧١.
(2) البيهقي في الدلائل: ٦/٢٧٤.
(3) ابن جرير: ٢/٢٧٢.
(4) سيرة ابن هشام: ١/٥٤٢.
(5) ابن أبي حاتم: ١/١٧٧.
(6) عبد الرزاق: ١/٥٢.
(7) ابن جرير: ٢/٢٧٣.
(8) ابن أبي حاتم: ١/١٧٨.
(9) سعيد بن منصور.
(10) ذكره يحيي بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٦١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّر﴾ وإن عمر فما ذاك بمغنيه من العذاب ولا منجيه(1).
2. روي أنّه قال: قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١]، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه﴾ [المائدة: ١٨]، فقال الله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾، فلم يفعلوا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٨١.
(2) ابن جرير: ٢/٢٧٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: زه هزار سال(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٧٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ حببت إليهم الخطيئة طول العمر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٧٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي بمبعده من العذاب)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 87.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّه﴾ الآية، وذلك بأنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١]، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه﴾ [المائدة: ١٨](1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ المجوس(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٧٠ وعلقه ابن أبي حاتم: ١/١٧٧.
(2) ابن جرير: ٢/٢٧٧.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال (: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾، وكانت اليهود أشد الناس فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٧٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبر عنهم بمعصيتهم، فقال: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾، يعني: ولن يحبوه أبدا، يعني: الموت(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم﴾ من ذنوبهم، وتكذيبهم بالله ورسوله(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، أي: مشركي العرب(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٥.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: 95] يريد: بما قدمت أيديهم من كفرهم بك، وجحدهم لك، من بعد علمهم بأمرك الذي وجدوه في التوراة(1)..
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/153.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذلك أن أعداء الله ـ تعالى ـ كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة، بقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، وكقولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135]، وكقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]؛ فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: قل لهم: إن كانت لكم الدار الآخرة ـ كما تزعمون ـ وأنكم أبناء الله وأحباؤه ـ كما تقولون ـ ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، وذلك أن المرء لا يكره الانتقال إلى داره، وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرء لا يكره القدوم على أبيه، ولا على ابنه، ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا، فإن كان كما تقولون، فتمنوا الموت؛ حتى تنجوا من غم الدنيا، ومن تحمل الشدائد التي فيها إن كنتم صادقين في زعمكم: بأن الآخرة لكم، وأنكم أبناء الله وأحباؤه.
2. سؤال وإشكال: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمنّ الموت، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟ والجواب: لوجهين:
أ. أحدهما: أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله ما جعلوا هم لأنفسهم؛ فكان في تمنيهم صدق ما ادعوا لأنفسهم، وفى الامتناع عن ذلك ظهور صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنهم ادعوا: أنهم أبناء الله وأحباؤه، وفى تمنيهم الموت ردهم، وصرفهم إلى الحبيب، والأب الذي ادعوه، ولا أحد يرغب وينفر عن حبيبه وأبيه؛ فدل امتناعهم عن ذلك: على كذبهم في دعاويهم، وبالله نستعين.
3. سؤال وإشكال: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأجل الذي جعل لهم، وفى ذلك: تقديم الآجال عن الوقت الذي كان أجلا، وقال الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34] والجواب:
أ. قيل: إن الله علم منهم ـ في سابق علمه، وأزليته ـ أنهم لا يتمنون جعل أجلهم ذلك، ولو علم منهم أنهم يتمنون الموت لكان يجعل أجلهم ذلك في الابتداء، وكذلك هذا الجواب؛ لما روى: (أن صلة الرحم تزيد في العمر)
ب. إنه كذلك يحتمل في الابتداء، لا أن يجعل أجله إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأجل أو ينقص، فيتمنى الموت عن الأجل المجعول المضروب له.
4. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ دلالة إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أنه أخبر ـ عزّ وجل ـ أنهم لا يتمنون أبدا، فكان كما قال فدل أنه من عند الله علم ذلك.
5. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الذنوب، والعصيان، والتكذيب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والحسد له، وهم قد عرفوا عن صنيعهم، وما لهم من عند الله من العذاب والجزاء، لكنهم قالوا ذلك؛ على التعنت، والمكابرة، والسفه؛ لذلك لم يتمنوا.
6. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ :
أ. قيل: هو على الوعيد؛ كقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ﴾ [إبراهيم: 42]
ب. ويحتمل: عليم بالظالمين؛ بما يفضحهم بالحجج، ويظهر كذبهم في الدنيا؛ لئلا يظن أحد أنه عن غفلة بما يعملون، بل خلقهم على علم منه بما يعملون، خلقهم؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلقهم، وأن ذلك لا يضره.
7. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ يعنى اليهود ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ وعلى كراهية الموت.. فدل حرصهم على حياة الدنيا أنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون.
8. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾:
أ. قيل: يعنى: المجوس.. أي هم أحرص الناس على حياة الدنيا من المجوس؛ لأن المجوس لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة، وهم يؤمنون بها؛ فهم ـ مع إيمانهم بالبعث، وتصديقهم بالقيامة ـ أحرص على حياة الدنيا من المجوس الذين لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة.
ب. وقيل: إنّه على الابتداء.
9. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعنى: المجوس ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ؛ لأنهم يقولون فيما بينهم: ألف سنة تأكل النيروز والمهرجان، ويقولون بالفارسية: هزارساله بزه.. فأخبر الله ـ تعالى ـ أن طول العمر في الدنيا لا ينجيه من العذاب في الآخرة، ولا يباعده عنه، وهو قوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾، وهو كقوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ .. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ هو على الوعيد أيضا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/513.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ :
أ. أي الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. ويحتمل أن يكون المراد به جمع الناس.
2. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة لما يصير إليه من نعيم الجنة ويزول عنه من أذى الدنيا، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار.
3. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ تحقيقاً لكذبهم وفي تركهم للتمني قولان:
أ. أحدهما: أنهم تركوه لأنهم لو تمنوه لماتوا كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: صرفهم الله تعالى عن التمني ليكون ذلك حجة، وآية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ يعني اليهود، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني المجوس لأن المجوس هم الذين ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ واليهود أحرص منهم على الحياة.
5. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي بمباعده من العذاب ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ لأنه لو عمره ما تمنى لما نفعه طول العمر على معاصيه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/74.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعني اليهود تزعم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وفيه قولان:
أ. أحدهما: من دون الناس كلهم.
ب. الثاني: من دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به، وهذا قول ابن عباس.
2. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ لأنه من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحب إليه من الحياة، لما يصير إليه من نعم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لو أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النّار).
3. ثم قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ تحقيقا لكذبهم، وفي تركهم إظهار التمني قولان:
أ. أحدهما: أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ يعني اليهود.. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني المجوس، لأن المجوس هم الذين ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم (عش ألف سنة) حرصا على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون: أن لهم الجنة خالصة أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء.
5. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي بمباعده من العذاب ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ لأنه لو عمّر ما تمنى، لما دفعه طول العمر من عذاب الله على معاصيه.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/162.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية مما احتج الله بتأويلها لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم، لأنه دعاهم الى قضية عادلة بينه وبينهم، كما كان من الخلف الواقع بينهم، فقال لفريق من اليهود: ان كنتم صادقين ان الجنة خالصة لكم دون الناس كلهم، أو دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به فتمنوا الموت، لان من اعتقد انه من أهل الجنة قطعاً، كان الموت أحب اليه من حياة الدنيا التي فيها النقص، وانواع الآلام، والمشاق، ومفارقتها الى نعيم خالص يتخلص به من أذى الدنيا.
2. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ ـ وان كان صورته صورة الامر ـ المراد به التوبيخ، والزام الحجة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: (لو ان اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار)، فقال الله تعالى لهم: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ تحقيقاً لكذبهم، فقطع على انهم لا يظهرون التمني، وفي ذلك أعظم الدلالة على صدقه، لأنه اخبر بشيء قبل كونه، فكان كما اخبر، لأنه لا خلاف انهم لم يتمنوا:
أ. قيل: إنهم ما تمنوا، لأنهم علموا انهم لو تمنوا الموت، لماتوا ـ كما قاله ـ فلذلك لم يتمنوه، وهذا قول ابن عباس.
ب. وقال غيره: إن الله صرفهم عن اظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. التمني: هو قول لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن ليته كان:
أ. قال قوم: هو معنى في القلب، غير انه لا خلاف انه ليس من قبل الشهوة، فمن قال من المفسرين: انه أراد فتشهوا، فقد اخطأ.
ب. وقد روي عن ابن عباس انه قال فاسألوا الموت، وهذا بعيد، لان التمني بمعنى السؤال لا يعرف في اللغة.
4. سؤال وإشكال: من اين انهم ما تمنوه بقلوبهم عند من قال انه معنى في القلب؟ والجواب: لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصاً منهم على تكذيبه في إخباره، وجهداً في إطفاء أمره، وهذه القصة شبيهة بقصة المباهلة، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دعا النصارى الى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. معنى ﴿خَالِصَةً﴾ : صافية، يقال خلص لي هذا الامر: اي صار لي وحدي، وصفا لي يخلص خلوصاً وخالصة، والخالصة: مصدر كالعاقبة يقال للرجل هذا خلصاني: اي خالصتي ـ من دون اصحابي.
6. اخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين قيل لهم: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ بأنهم لا يتمنون ذلك ابداً، وفي ذلك دلالة على صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث تضمنت انهم لا يتمنون ذلك في المستقبل، وكان كما قال.
7. ﴿أَبَدًا﴾ نصب على الظرف: اي لم يتمنوه ابداً طول عمرهم، كقول القائل: لا أكلمك ابداً، وإنما يريد ما عشت.. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ معناه بالذي قدمت أيديهم ويحتمل ان يكون المراد بتقدمة أيديهم: فتكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر.
8. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ :
أ. قيل: انما خص الظالمين بذلك ـ وان كان عالماً بغيرهم لأن الغرض بذلك الزجر، كأنه قال عليم بمجازاة الظالمين، كما يقول القائل لغيره، مهدداً له: أنا عالم بك بصير بما تعمله.
ب. وقيل: انه عليم بأنهم لا يتمنونه ابداً حرصاً على الحياة، لان كثيراً منهم يعلم انه مبطل: وهم المعاندون منهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون.
9. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ﴾ اي بمباعده من العذاب ان يعمر، لأنه لو عمر ما تمنى لما دفعه طول العمر من عذاب الله تعالى على معاصيه، وإنما وصف الله اليهود بأنهم احرص الناس على حياة لعلمهم بما قد أعدّ الله لهم في الآخرة على كفرهم، مما لا يقرّ به اهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما هناك من العذاب، وان المشركين لا يصدقون ببعث ولا عقاب، واليهود احرص منهم على الحياة واكره للموت.
10. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ قرئ بالتاء والياء معاً: اي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ حتى يذيقهم بها العذاب ومعنى بصير مبصر عند اهل اللغة وسميع بمعنى مسمع، لكنه صرف الى فعيل في بصير وسميع، ومثله ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ بمعنى مؤلم ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ﴾ بمعنى مبدع، وعند المتكلمين المبصر: هو المدرك للمبصرات، والبصير هو الحي الذي لا آفة به، لأنه يجب ان يبصر المبصرات إذا وجدت، وليس أحدهما هو الآخر وكذلك سميع ومسمع.
11. قال بعض المفسرين: ان تأويل قوله ﴿ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ﴾ اي من الناس اجمع، ثم قال: واحرص من الذين أشركوا على وجه التخصيص، لان من لا يؤمن بالبعث، والنشور، يكون حرصه على البقاء في الدنيا اكثر ممن يعتقد الثواب، والعقاب.
12. سؤال وإشكال: أليس نجد كثيراً من المسلمين يحرصون على الحياة، ويكرهون الموت؟ فكيف تدل هذه الآية على ان اليهود لم يكونوا على ثقة مما كانوا يدّعونه من انهم اولى به من المسلمين ـ مع ان المسلمين يشاركونهم في الحرص على الحياة ـ وهم على يقين من الآخرة، وما فيها من الثواب، والعقاب؟ والجواب: إن المسلمين لا يدّعون أن الدار الآخرة لهم خالصة، ولا انهم أحباء الله، ولا انهم من اهل الجنة قطعاً، كما كانت اليهود تدعي ذلك، بل هم مشفقون من ذنوبهم، يخافون أن يعذبوا عليها في النار، فلهذا يشفقون من الموت، ويحبون الحياة، ليتوبوا من ذنوبهم التي يخافون ان يعذبوا عليها في النار، فلهذا يشفقون من الموت ويحبون الحياة ليتوبوا من ذنوبهم، ويصلحوا أعمالهم، ومن كان على يقين مما يصير اليه، لم يؤثر الحياة على الموت، كما روي عن علي عليه السلام انه قال: (لا ابالي سقط الموت عليّ أو سقطت على الموت)، وقال: (اللهم سئمتهم، وسئموني: فابدلني بهم خيراً منهم، وابدلهم بي شراً مني)، وقوله: (اللهم عجل إليّ الراحة، وعجل لهم الشقوة) وكما روي عن عمار انه قال يوم صفين: (القى الأحبة: محمداً وصحبه)، وكما قال حذيفة عند الموت: (حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم)
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/358.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخالصة والصافية من النظائر، ونقيضه: الشائب، يقال: خلص خلوصًا، وخالص الشيء إذا كان قد شيب ثم نجا، وخلص فلان إلى فلان وصل إليه، وتقول: هذا الشيء خالصة لك، أي خاص لك، وأصل الخلوص صفو الشيء من كل شائب.
ب. ﴿دُونَ﴾ : يستعمل على ثلاثة أوجه: دونه في المكان، ودونه في الشرف، ودونه في الاختصاص، وهو المراد بالآية.
ج. الأبد والدهر من النظائر.
د. القديم والأول والسابق متقارب في المعنى، والقديم الموجود لم يزل، ونقيضه الحديث، وأصله من التقدم خلاف التأخر، ولا يطلق اسم القديم على غير الله في عرف المتكلمين، وأما من حيث اللغة، فقال أبو علي: لا، وقال أبو هاشم: نعم، ومنه: ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾
هـ. وجده وألفاه وصادفه نظائر، وهو من قولك: وجدت الشيء وجدانًا، إذا أصبته، ويستعمل وجدت بمعنى علمت.
و. الحرص: شدة الطلب، ورجل حريص، وقوم حراص.
ز. الشركة: مخالطة الشريكين، والشرك بِاللهِ: أن يشرك معه غيره في العبادة، وفي الشرع: كل كفر شرك، وكل كافر مشرك، وكل مشرك كافر.
ح. المودة: المحبة، ومصدر الود: الوَدَادُ، والوَدَادَةُ، يقال: وَدِدْتُ الشيء أوده ودًّا.
ط. العمر: والعمر بفتح العين، وضمها لغتان، وهو عمر الحياة وأصله من العمارة الذي هو ضد الخراب، فالعمر المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة.
ي. الألفُ: عدد مخصوص مأخوذ من التأليف، وهو ضم الشيء إلى الشيء، وسمي بذلك لأنه ضم مائةً عشر مرات.
ك. السنة والعام من النظائر، وهي اسم مدة مخصوصة، وهو اثنا عشر شهرًا.
ل. تزحزح: تباعد، يقال: زحزحه فتزحزح لازم ومتعد، تقول: تزحزح عن البئر لا تقع فيها، وأصله الزوال عن الشيء، قال الشاعر:
رَأَتْنَا كَأَنَّا قَاصِدِينَ لِوَصْفِهَا.. بِهِ فَهيَ تَدْنو تَارَةً وَتَزَحْزَحُ
يصف الظبية، وأراد عهدها بولدها.
2. الموت: ضد الحياة:
أ. وقيل: هو عرض يضاد الحياة، عن أبي علي وهو الصحيح.
ب. وقيل: بمعنى ولكن عبارة عن بطلان الحياة، عن أبي هاشم.
3. التمني: مصدر تمنى تمنيًا:
أ. قيل: هو من جنس الأقوال، وهو قولهم: ليت لي مالاً، هكذا ذكره أهل اللغة والنحو، وهو قول أبي علي.
ب. وقيل: هو معنى في القلب، عن أبي هاشم، والأول أصح.
4. (ليت) أَصْل في أداة التمني، ثم يقام الاستفهام مقامه كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا﴾، وكقولهم: ألاَ ماء فأشربه.
5. اختلف في سبب النزول:
أ. قيل: لما ادعت اليهود دعاوي باطلة، كقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، و ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قيل لهم: (فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ) في هذا ومثله نزلت الآية، عن قتادة وأبي العالية والربيع، وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: لما جادلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قيل: (فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ) أي ادعوا الموت على أي الفريقين أكذب، عن ابن عباس.
6. عاد إلى الاحتجاج على اليهود في بطلان قولهم: إن الحق ما هم عليه، فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾، يا محمد لهم ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ يعني خاصة، أي كنتم واثقين بخلوص الجنة لكم، وحسن حالكم في المعاد.
7. ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ :
أ. قيل: من دون الله ومحمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه الَّذِينَ استهزأتم بهم وزعمتم أنكم بالحق أولى منهم، والناس خاص.
ب. وقيل: هو عام لقوله حكاية عنهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾
8. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أي سلوه وأريدوه ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما زعمتم وادعيتم أن ذلك لكم.
9. سؤال وإشكال: قوله ﴿فَتَمَنَّوُا﴾ أمر أم لا؟ والجواب:
أ. قيل: هو تَحَدٍّ، وليس بأمر، فتحداهم بذلك.
ب. وقيل: احتجاج عليهم، ودعا إلى المباهلة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرجوا إلى المباهلة لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالاً، فلما لم يتمنوا الموت افتضحوا كما افتضح النصارى حين أحجموا عن المباهلة وظهر الحق)
10. سؤال وإشكال: لم كره للمؤمن تمني الموت؟ والجواب:
أ. قيل: لأنه يخاف التقصير فيما أمر، ويرجو في البقاء التلافي، ولأنه لا يأمن إقدامه على كبيرة، أو ترك واجب، فأما إذا كان على ثقة، فيجوز أن يتمنى؛ ألا ترى أن أمير المؤمنين كيف كان يتمنى، ويقول: (ما أبالي سقط الموت عَلَيَّ، أم سقطت على الموت)، وقال معاذ لما نزل به الطاعون: (مرحبًا بزائر جاء على فاقة، لا أفلح من ندم)
ب. وقيل: لأنه لا يعلم المصالح، فيجوز أن يتمنى الموت لشرط المصلحة، وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي) ولأن ذلك يدل على جزع منه، والله تعالى أمره بالصبر وتفويض الأمر إليه.
ج. وقيل: يجوز ذلك عقلاً، إلا أن الشرع منع منه، والصحيح أن العقل والشرع فيه سواء، وأنه لا يجوز إلا بشرط المصلحة.
11. سؤال وإشكال: إذا كان التمني معنى في القلب، فكيف يعرف حصوله منهم؟ والجواب:
أ. عند أبي علي: التمني هو القول، فالسؤال ساقط.
ب. عند أبي هاشم: ليس المراد به ما يحصل بالقلب؛ لأنه لا يُعْرَفُ، وإنما يعرف من جهتهم، ولا يعرف صدقهم، فالتحدي وقع بما يظهر باللسان، فكان يسهل عليهم أن يقولوا: ليت الموت نزل بنا، وذلك نظير ما قاله الفقهاء إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فالاعتبار بما يظهر من قولها، لا بما في قلبها، وكذلك إن قال لها: إن كنت تحبينني أو تبغضينني.
12. ثم أخبر تعالى عنهم بما لا يعلمه إلا علام الغيوب، فقال تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ يعني اليهود لن يتمنوا الموت:
أ. قيل: لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، عن ابن عباس وجماعة.
ب. وقيل: إنما تركوا التمني حرصًا على الدنيا، وخوفًا من الموت أن يعجل لهم.
ج. وقيل: إنه تعالى أورد على قلوبهم ما توفرت معه دواعيهم إلى ترك إظهار التمني ليكون حجة لرسوله.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ :
أ. قيل: بما أسلفوا من الأعمال القبيحة، وتكذيب الكتاب والرسول، عن الحسن والأصم وأبي مسلم وأبي علي.
ب. وقيل: بما عرفوا أن محمدًا نبي فكتموا، عن ابن جريج.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ :
أ. قيل: إنه وعيد لهم، يعني عليم بما يستحقونه من الجزاء على قبيح فعلهم.
ب. وقيل: إنه إخبار عن علمه بضمائرهم، وما يمتنعون لأجله من إظهار التمني للموت خوفًا أن يقع بهم، كأنه قيل: عالم بضمائرهم، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: عليم بالحجج التي تفضحهم وتخزيهم، فيوردها عليهم، عن الأصم.
15. سؤال وإشكال: لِم أضاف الفعل إلى اليد، وبها يكون أم بغيرها؟ والجواب: على عادة العرب أن تضيف الفعل إلى اليد تأكيدًا وتحقيقًا للإضافة؛ إذ قد يضاف إليه ما يأمر به أيضًا، ولأن أكثر الجنايات من الناس بأيديهم، فحمل الأمر على الغالب.
16. ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود وأسرارهم، فقال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ اللام لام القسم، والنون للتأكيد، وتقديره: والله لتجدنهم يا محمد:
أ. قيل: هَؤُلَاءِ اليهود، فهم كناية عن اليهود، عن الحسن وابن عباس وأبي العالية، وغيرهم من أهل العلم.
ب. وقيل: هم علماء اليهود، عن الأصم.
17. ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ يعني حرصهم على بقائهم في الدنيا أشد من حرص سائر الناس ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ :
أ. قيل: اليهود أحرص الناس، وأحرص من الَّذِينَ أشركوا، عن الفراء والأصم وأبي علي وأبي القاسم.
ب. وقيل: هو ابتداء أي من الَّذِينَ أشركوا من يود، عن أبي علي.
ج. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الَّذِينَ أشركوا أحرص الناس على حياة، عن أبي مسلم.
18. اختلفوا في المراد بقوله: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على ثلاثة أقوال:
أ. قيل: المجوس، عن أبي العالية والربيع.
ب. وقيل: مشركو العرب، عن الحسن.
ج. وقيل: كل مشرك، قال ابن عباس: المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، وهو يحب طول الحياة.
19. سؤال وإشكال: كيف صارت اليهود أحرص الناس، وأحرص من الَّذِينَ أشركوا على أحد التأويلين؟ والجواب:
أ. قال ابن عباس: لأن اليهودي عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم.
ب. وقيل: هذا في المعاندين، فأما الجهال فجعلوا تبعًا على التغليب.
20. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ يريد، ولحب ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، وخص الألف:
أ. قيل: لأنه تحبه المجوس، يقولون: عش ألف سنة، وعش ألف نيروز وألف مهرجان، عن بعض المفسرين، قال ابن عباس: هو قول أحدهم إذا عطس: (زه هزا رسال)، يعني ألف سنة.
ب. وقيل: المراد به التكثير، وهو معروف في كلام العرب. (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) أي بمنجيه، عن ابن عباس وأبي العالية.
ج. وقيل: بمباعده، وقد بينا أنه كناية عن التعمير، أو عن أحدهم، أو هو عماد.
21. ﴿أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ﴾ يعني: عليم بأعمالهم يعلم ما يستحقون، فيجازيهم بها، وذلك وعيد لهم.
22. تدل الآية الكريمة على:
أ. صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن المعلوم من حال اليهود شدة معاداتهم إياه، ومعلوم أنه تحداهم بتمني الموت، وأخبر أنهم لا يفعلونه، وإذا أمكنهم إبطال أمره بالسهل الذي هو التمني لا يجوز ألا يقع منهم، ثم مع ذلك خافوا إظهار تمني الموت، ومعلوم أنهم لو تمنوا لبطل أمره، ولصاروا بزعمهم إن ماتوا إلى نعيم دائم، فمجموع ذلك يقتضي المبادرة إلى التمني، فلما عدلوا دل على صدقه، وعلى أنهم لم يكونوا على ثقة من صدقهم فيما ادعوه.
ب. صحة الحجاج في الدين.
ج. كذب اليهود في قولهم: إن لهم الدار الآخرة خالصة.
د. بطلان قولهم: نحن أحباء الله، وإنا أحق بالحق، وأنهم قالوا ذلك عنادًا لا حقيقة؛ لأن الصادق عن نفسه العارف بأن له الجنة خاصة لا يشتد حرصه على الدنيا، مع كثرة الغموم وما تنفك أحوال المرء منه، عن أبي علي والقاضي.
هـ. أن طول العمر إذا لم يكن في طاعة الله لا يغني شيئًا، بل يكون حسرة، وإنما يغني إذا طال عمره وحسن عمله.
و. أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوها مذموم، وإنما المحمود طلبِ البقاء للطاعة وتلافي الفائت.
ز. أن أفعال العباد جارية من جهتهم لذلك قال ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ .
ح. صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عنهم بترك التمني، فكان الأمر على ما أخبر، لا سيما وقد جرى ذلك معهم على جهة الحجاج، فتدل على أنه أخبره بذلك علام الغيوب.
ط. أنهم كانوا معاندين، فلذلك تركوا التمني.
23. مسائل نحوية:
أ. اختلف في الواو في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ﴾ :
• قيل: أنه واو عطف، تقديره: ﴿ أَحْرَصَ النَّاسِ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾، كقولهم: هو أسخى الناس ومن حاتم، يعني وأسخى من حاتم.
• الثاني: أنه واو الاستئناف، وقد تم الكلام عند قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ تقديره: ومن ﴿ الَّذِينَ أشركوا مَنْ ﴾ يود أحدهم، قال أبو علي: هو على حذف من، أي ومن الَّذِينَ أشركوا من يود، قال علي بن عيسى: هذا غير صحيح؛ لأن حذف مَنْ لا يجوز في مثل هذا الموضع.
ب. اختلف في سبب ارتفاع (لَوْ يُعَمَّرُ):
• قيل: بالابتداء وخبره (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) أو يكون على تقدير الجواب لما كنى عنه، كأنه قيل: وما هو الذي ليس بمزحزحه؟ فقيل: هو التعمير.
• وقيل: أن يرتفع بمزحزحه ارتفاع الفاعل بفعله.
ج. اختلف في وجه الكناية عماذا في قوله: ﴿وَمَا هُوَ﴾ :
• قيل: كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره.
• وقيل: كناية عن التعمير.
• وقيل: هو عماد.
د. دخلت ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ولم تدخل في قوله ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ لأنهم بعض الناس، والإضافة في باب أفعل لا تكون إلا كذلك، وإذا دخلت (من) جاز الوجهان، كقولك: الياقوت أفضل من الزجاج، ولا يجوز الياقوت أفضل الزجاج؛ لأنه ليس منه، ولكن لو قلت: الياقوت أفضل الحجارة جاز، فلذلك قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ لأن اليهود ليسوا من المجوس، وهم من الناس.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/497.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخالصة: الصافية، يقال: خلص لي هذا الأمر أي: صار لي وحدي، وصفا لي يخلص خلوصا وخالصة مصدر كالعافية، واصل الخلوص: أن يصفو الشيء من كل شائبة.
ب. دون: يستعمل على ثلاثة أوجه: أن يكون الشيء دون الشيء في المكان، وفي الشرف، وفي الاختصاص، وهو المراد في الآية.
ج. التمني: من جنس الأقوال عند أكثر المتكلمين، وهو أن يقول القائل لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن ليته كان، وقال أبو هاشم: هو معنى في القلب، ولا خلاف في أنه ليس من قبيل الشهوة.
د. وجده، وصادفه، وألفاه، نظائر، يقال: وجدت الشيء وجدانا: إذا أصبته، ويقال: وجدت بمعنى علمت.
هـ. الحرص: شدة الطلب، ورجل حريص، وقوم حراص.
و. المودة: المحبة، يقال: وددت الرجل أوده ودا وودا وودادا وودادة ومودة.
ز. التعمير: طول العمر، والعمر والعمر لغتان، وأصله من العمارة: الذي هو ضد الخراب، فالعمر: المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة.
ح. الألف: من التأليف، سمي بذلك العدد ضم مائة عشر مرات.
ط. الزحزحة: التنحية، يقال: زحزحته فتزحزح، وقال الشاعر:
وقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة... إليك، ولا منا لوهيك راقع
ي. البصير: بمعنى المبصر، كما أن السميع: بمعنى المسمع، ولكنه صرف إلى فعيل، ومثله بديع السماوات: بمعنى المبدع، هذا في اللغة، وعند المتكلمين: المبصر هو المدرك للمبصرات، والبصير هو الحي الذي لا آفة به، فهو ممن يجب أن يبصر المبصرات إذا وجدت، وليس أحدهما هو الآخر، وكذلك القول في السميع والسامع.
ك. العذاب الأليم: بمعنى المؤلم.
2. ثم عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم وعلماءهم، ودعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿إِنْ كَانَتْ﴾ الجنة ﴿خَالِصَةً﴾ لكم ﴿دُونِ النَّاسِ﴾ كلهم أو دون محمد وأصحابه كما ادعيتم بقولكم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وكنتم صادقين في قولكم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وإن الله لا يعذبنا: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعاً كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق والهموم والآلام والغموم، ومن كان على يقين أنه إذا مات تخلص منها وفاز بالنعيم المقيم فإنه يؤثر الموت على الحياة، ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة، لما قال له الحسن ابنه: ما هذا زي الحرب؟ قال: (يا بني، إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه)، وقول عمار بن ياسر بصفين أيضاً: (الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه). وأما ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي)، فإنما نهي عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع، والمأمور به الصبر وتفويض الأمور إليه تعالى، ولأنا لا نأمن وقوع التقصير فيما أمرنا به، ونرجو في البقاء التلافي.
3. أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذين قيل لهم: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، بأنهم لا يتمنون ذلك أبداً:
أ. قيل: بما قدموه من المعاصي والقبائح وتكذيب الكتاب والرسول، عن الحسن وأبي مسلم.
ب. وقيل: بما كتموا من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن ابن جريج.
4. أضاف ذلك إلى اليد، وإن كانوا إنما فعلوا ذلك باللسان، لأن العرب تقول: هذا ما كسبت يداك، وإن كان ذلك حصل باللسان، والوجه فيه أن الغالب أن تحصل الجناية باليد، فيضاف بذلك إليها ما يحصل بغيرها.
5. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، خصص الظالمين بذلك وإن كان عليماً بهم وبغيرهم:
أ. قيل: بأن الغرض بذلك الزجر والتهديد، كما يقال: (إني عارف بصير بعملك)
ب. وقيل: معناه إن الله عليم بالأسباب التي منعتم عن تمني الموت وبما أضمروه وأسروه من كتمان الحق عناداً، مع علم كثير منهم أنهم مبطلون، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار)، فقال الله سبحانه: ﴿ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ تحقيقاً لكذبهم.
6. في ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا وصحة نبوته، لأنه أخبر بالشيء قبل كونه فكان كما أخبر، وأيضاً فإنهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنه حق، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا، روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لهم: (إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا، فو الذي نفسي بيده، لا يقولها رجل إلا غص بريقه فمات مكانه)
7. هذه القصة شبيهة بقصة المباهلة، وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: (لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا)، فلما لم يتمنَّ اليهود الموت افتضحوا، كما أن النصارى لما أحجموا عن المباهلة افتضحوا وظهر الحق.
8. سؤال وإشكال: من أين علمتم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم؟ والجواب:
أ. أن من قال التمني هو القول، فالسؤال ساقط عنه.
ب. ومن قال هو معنى في القلب قال: لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصًا منهم على تكذيبه في إخباره، ولأن تحديهم بتمني الموت إنما وقع بما يظهر على اللسان، وكان يسهل عليهم أن يقولوا: ليت الموت نزل بنا. فلما عدلوا عن ذلك ظهر صدقه صلّى الله عليه وآله وسلّم ووضحت حجته.
9. ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ :
أ. قيل: أي ولتعلمن يا محمد هؤلاء اليهود.
ب. وقيل: يعني به علماء اليهود ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ أي أحرصهم على البقاء في الدنيا، أشد من حرص سائر الناس.
10. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ :
أ. قيل: أي ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهم المجوس ومن لا يؤمن بالبعث.
ب. وقال أبو علي الجبائي: إن الكلام تم عند قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ تقديره: ومن [اليهود] الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، فحذف (من)، وقال علي بن عيسى: هذا غير صحيح، لأن حذف (من) لا يجوز في مثل هذا الموضع.
ج. وقال أبو مسلم الأصفهاني: إن في هذا الكلام تقديمًا وتأخيرًا. وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.
11. إذا جاز هنا أن يحذف الموصوف الذي هو (طائفة) وتقام الصفة مقامه، وهو قوله: ﴿ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾، فليجز على ما ذهب إليه الجبائي أن يكون تقديره: ومن الذين أشركوا طائفة يود أحدهم، فيحذف الموصوف، ويقام صفته الذي هو ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ مقامه، فيصح على هذا تقدير الحذف، ويستوي القولان من حيث الصورة والصفة، ويختلفان من حيث المعنى، ويكون (من) هنا هي الموصوفة لا الموصولة، كما قدره الجبائي.
12. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض، وتحيى به الملوك. يقولون: عش ألف نوروز وألف مهرجان، قال ابن عباس: هو قول أحدهم لمن عطس (هزار سأل بزي)، يقال: فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة لا يتمنون الموت، وهم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هؤلاء لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم والعذاب الأليم على كفرهم وعنادهم مما لا يقر به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، وعلى الحياة أحرص لهذه العلة.
13. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ أي وما أحدهم بمنجيه من عذاب الله، ولا بمبعده منه تعميره، وهو أن يطول له البقاء، لأنه لا بد للعمر من الفناء.. هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها.
14. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي عليم بأعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها، بل هو محيط بجميعها، حافظ لها حتى يذيقهم بها العذاب.
15. في هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم، وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة، ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (بقية عمر المؤمن لا قيمة له، يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات)
16. مسائل نحوية:
17. ﴿خَالِصَةً﴾ : نصب على الحال.
18. ﴿أَبَدًا﴾ : نصب على الظرف أي: طول عمرهم، يقول القائل: لا أكلمك أبدا، يريد ما عشت.
19. ما بمعنى الذي أي: بالذي قدمت أيديهم، ويجوز أن يكون ما بمعنى المصدر فيكون المراد بتقدمة أيديهم.
20. ﴿ لتجدنهم ﴾: اللام لام القسم، والنون للتأكيد، وتقديره: والله لتجدنهم، قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأ، فقال: هي على نية القسم، وهذه اللام إذا دخلت على المستقبل لزمته في الأمر الأكثر بالنون، وإذا كان وجدت بمعنى وجدان الضالة يعدى إلى مفعول واحد، كفقدت الذي هو ضده، فينتصب ﴿أَحْرَصَ﴾ على الحال، وإذا كان بمعنى علمت، تعدى إلى مفعولين ثانيهما عبارة عن الأول، فيكون ﴿أَحْرَصَ﴾ هو المفعول الثاني، وهو الأصح.
21. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ : قال الفراء: يريد وأحرص من الذين أشركوا أيضا كما يقال: هو أسخى الناس، ومن حاتم ومن هرم، لأن تأويل قولك أسخى الناس، إنما هو أسخى الناس، وقال الزجاج: تقديره ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وقيل: إنما دخلت من في قوله ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، ولم يدخل في قوله ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ﴾، لأنهم بعض الناس، والإضافة في باب أفعل لا يكون إلا كذلك، تقول: الياقوت أفضل الحجارة، ولا تقول: الياقوت أفضل الزجاج، بل تقول: أفضل من الزجاج، فلذلك قال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، لأن اليهود ليسوا هم بعض المجوس، وهم بعض الناس.
22. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فيه وجوه:
• أحدها: إن هو كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، و ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ في موضع رفع بأنه فاعل تقديره وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، كما يقال: مررت برجل معجب قيامه.
• وثانيها: إنه كناية عما جرى ذكره من طول العمر، وقوله ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بيان لقوله هو، وتقديره: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، وكأنه قيل: وما هو الذي ليس بمزحزحه، فقيل: هو التعمير.
• وثالثها: إنه عماد و ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ في موضع الرفع بأنه مبتدأ، وبمزحزحه خبره، ومنع الزجاج هذا القول الأخير قال: لا يجيز البصريون ما هو قائما زيد، وما هو بقائم زيد، بمعنى الأمر والشأن، وقال غيره: إذا كانت ما غير عاملة في الباء، جاز كقولهم: ما بهذا بأس.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/320.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾، كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنّة إلا لإسرائيل وولده، فنزلت هذه الآية.
2. من الدليل على علمهم بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صادق، أنهم ما تمنّوا الموت، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنّونه بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾ فما تمنّاه أحد منهم، والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة.
3. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾، اللام: لام القسم، والنون توكيد له، والمعنى: ولتجدنّ اليهود في حال دعائهم إلى تمنّي الموت أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا.
4. في ﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم: المجوس، قاله ابن عبّاس، وابن قتيبة والزّجّاج.
ب. الثاني: مشركو العرب، قاله مقاتل.
5. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾، في الهاء والميم من ﴿أَحَدُهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود على الذين أشركوا، قاله الفرّاء.
ب. الثاني: ترجع إلى اليهود، قاله مقاتل.
6. إنما ذكر ﴿أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال له: عش ألف نيروز، وألف مهرجان.
7. في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، تقديره: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره.
ب. الثاني: أن يكون (هو) كناية عما جرى من التّعمير، فيكون المعنى: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل (أن يعمّر) مبينا عنه، كأنه قال ذلك الشيء الدّنيء ليس بمزحزحه من العذاب.
__________
(1) زاد المسير: 1/90.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه:
أ. أحدها: أنه لا يجوز أن يقال على طريق الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح الزام الثاني عليه.
ب. ثانيها: ما حكى الله عنهم في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] وفي قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] وفي قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80].
ج. ثالثها: اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون.
د. رابعها: اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. احتج الله تعالى على فساد قولهم بقوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾، وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة، ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنازعته معهم بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة، ثم إن تيقن أنه بعد الموت لا بد وأن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة فإنه لا بد وأن يكون راغباً في الموت لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوباً فوجب أن يكون هذا الإنسان راضياً بالموت متمنياً له، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت لهم خالصة لوجب أن يتمنوا الموت، ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا الموت بل لن يتمنوه أبداً، وحينئذ يلزم قطعاً بطلان ادعائهم في قولهم إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.
3. سؤال وإشكال: لا نسلم أنه لو كانت لهم الدار الآخرة خالصة لوجب أن يتمنوا الموت، لأن نعيم الآخرة مطلوب ولا سبيل إليه إلا بالموت والذي يتوقف عليه المطلوب، لا بد وأن يكون مطلوباً، والذي يتوقف عليه المطلوب يجوز أن يكون مطلوباً نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب إلا أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة وما كانوا يطيقونها، فلا جرم ما تمنوا الموت، والجواب: كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل بأن المنفعة الحاصلة بسبب الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
4. سؤال وإشكال: كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقولوا: إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر، فإن كان الأمر كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك، فإنا نراك ونرى أمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال وبعد الموت فإنكم تتخلصون إلى نعيم الجنة فوجب أن ترضوا بقتلكم! والجواب: الفرق بين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبينهم أن محمداً كان يقول إني بعثت لتبليغ الشرائع إلى أهل التواتر، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.
5. سؤال وإشكال: الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً لأنهم كانوا وعيدية أو لأنهم جوزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً فلأجل هذا ما تمنوا الموت، وليس لأحد أن يدفع هذا السؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة لأن كل يوم من أيام القيامة كألف سنة مما تعدون، فكانت هذه الأيام، وإن كانت قليلة بحسب العدد لكنها طويلة بحسب المدة، فلا جرم ما تمنوا الموت بسبب هذا الخوف، والجواب: : القوم ادعوا كون الآخرة خالصة لهم، وذلك يؤمنهم من امتزاج ثوابها بالعقاب.
6. سؤال وإشكال: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن تمني الموت فقال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي)، وأيضاً قال الله تعالى في كتابه: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾، فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال، ثم إنه يتحدى القوم بذلك، والجواب:
أ. هذا النهي طريقة الشرع، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات، روي أن علياً كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط، أم عليه يسقط الموت، وقال عمار بصفين:
الآن ألاقي الأحبة... محمداً وحزبه
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الأوقات تمني الموت.
ب. على أن هذا النهي مختص بسبب مخصوص، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حرم أن يتمنى الإنسان الموت عند الشدائد لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضاء بما قسم الله، فأين هذا من التمني الذي يدل على صحة النبوة.
7. سؤال وإشكال: أن لفظ التمني مشترك بين التمني الذي هو المعنى القائم بالقلب وبين اللفظ الدال على ذلك المعنى، وهو قول القائل: ليتني مت، ولليهود أن يقولوا: إنك طلبت منا التمني، والتمني لفظ مشترك، فإن ذكرناه باللسان فله أن يقول: ما أردت به هذا اللفظ، وإنما أردت به المعنى الذي في القلب، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب فله أن يقول: كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه، والجواب: التمني في لغة العرب لا يعرف إلا ما يظهر منه كما أن الخبر لا يعرف إلا ما يظهر بالقول، والذي في القلب من ذلك لا يسمى بهذا الاسم، وأيضاً فمن المحال أن يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم: تمنوا الموت، ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه، مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره.
8. سؤال وإشكال: هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنوا الموت، فلم قلتم إنهم ما تمنوا الموت، والاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ ضعيف لأن الاستدلال بهذا إنما يصح لو ثبت كون القرآن حقاً، والنزاع ليس إلا فيه، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أنه لو حصل ذلك لنقل نقلًا متواتراً لأنه أمر عظيم، فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته، وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلًا متواتراً، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.
ب. ثانيها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهراً والموافق طوعاً لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه.
ج. ثالثها: ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا)، وقال ابن عباس: لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا، وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة.
9. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ المراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة.
10. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ليس المراد المكان، بل المنزلة ولا بعد أيضاً في حمله على المكان، فلعل اليهود كانوا مشبهة، فاعتقدوا العندية المكانية، فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها.
11. ﴿خَالِصَةً﴾ فنصب على الحال من الدار الآخرة، أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق، يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى.
12. اختلف في أل في قوله تعالى: ﴿النَّاسِ ﴾ :
أ. قيل: للجنس، وهو أولى لقوله: إلا من كان هوداً أو نصارى، ولأنه لم يوجد هاهنا معهود.
ب. وقيل: للعهد وهم المسلمون.
13. ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ المراد به سوى لا معنى المكان، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً: هذا لك من دون الناس.
14. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ هذا أمر معلق على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، فلا يكون الأمر موجوداً، والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم.
15. في هذا التمني قولان:
أ. أحدهما: قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب.
ب. الثاني: أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.
16. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾ خبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة، أخبر بأنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
17. ﴿أَبَدًا﴾ غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان.
18. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بيان للعلة التي لها لا يتمنون الموت لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت.
19. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ هو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى، ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً، فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر.
20. سؤال وإشكال: قال الله تعالى هاهنا: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ وقال في سورة الجمعة: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾ فلم ذكر هاهنا (لن) وفي سورة الجمعة (لا)، والجواب: إنهم في هذه السورة، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس، والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت، والدعوى الأولى أعظم من الثانية، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة، فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ: ﴿لَنْ﴾ لأنه أقوى الألفاظ النافية، ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ ﴿لَا﴾ لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي.
21. لما أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن هاهنا قسماً ثالثاً وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت، ولا يتمنى الحياة.
22. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله: وجدت زيداً ذا حفاظ، ومفعولاه (هم) و(أحرص)، وإنما قال ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ بالتنكير لأنه حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي (على الحياة)
23. في الواو في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ثلاثة أقول:
أ. أحدها: أنها واو عطف، والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا كقولك: هو أسخى الناس، ومن حاتم، هذا قول الفراء والأصم، وذكروا أنهم دخل الذين أشركوا تحت الناس، وأفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد، وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقياً بأعظم التوبيخ.. وزاد حرصهم على حرص المشركين لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك.
ب. الثاني: أن هذه الواو واو استئناف، وقد تم الكلام عند قوله: (على حياة) وتقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الصافات: 16]
ج. الثالث: أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره، ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، وهو قول أبي مسلم.
24. القول بأن الواو في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ واو عطف أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة، فالأليق بالظاهر أن يكون المراد: (ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا)، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم، إن الدار الآخرة لنا لغيرنا والله أعلم.
25. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. قيل المجوس: لأنهم كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان، وعن ابن عباس هو قول الأعاجم: زي هزار سال.
ب. وقيل: المراد مشركو العرب.
ج. وقيل: كل مشرك لا يؤمن بالمعاد، لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر.
26. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ المراد أنه تعالى بين بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد، ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت؟ وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة، بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب.
27. اختلف في الكناية في ﴿وَمَا هُوَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه كناية عن ﴿أَحَدُهُمْ﴾ الذي جرى ذكره أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره.
ب. ثانيها: أنه ضمير لما دل عليه ﴿يُعَمَّرُ﴾ من مصدره و ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بدل منه.
ج. ثالثها: أن يكون مبهماً و ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ موضحه.
28. الزحزحة: التبعيد والإنحاء، المراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير، ولو قال تعالى: (وما هو بمبعده وبمنجيه) لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول.
29. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ البصر قد يراد به العلم، يقال: إن لفلان بصراً بهذا الأمر، أي معرفة، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصحان عليه سبحانه إلا أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصح أن يرى، حمل هذا البصر على العلم لا محالة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/606.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما ادعت اليهود دعاوي باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه، كقوله تعالى: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ ) أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد: ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ يعني الجنة. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في أقوالكم، لان من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا، لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا.
2. أحجموا عن تمنى ذلك:
أ. فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وحرصهم على الدنيا، ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم بقوله الحق: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ تحقيقا لكذبهم.
ب. وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار)
ج. وقيل: إن الله صرفهم عن إظهار التمني، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمني.
3. سؤال وإشكال: التمني يكون باللسان تارة، وبالقلب أخرى، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم؟ والجواب: نطق القرآن بذلك بقوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾، ولو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم، ردا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإبطالا لحجته، وهذا بين.
4. ﴿خَالِصَةً﴾ نصب على خبر كان، وإن شئت كان حالا، ويكون ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ في موضع الخبر.
5. ﴿أَبَدًا﴾ ظرف زمان يقع على القليل والكثير، كالحين والوقت، وهو هنا من أول العمر إلى الموت، و(ما) في قوله ﴿بِمَا﴾ بمعنى الذي والعائد محذوف، والتقدير قدمته، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد.
6. ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وإن كانت في موضع نصب حركتها، لان النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر.
7. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ يعني اليهود، ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ :
أ. قيل: المعنى وأحرص، فحذف ﴿ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، ألا ترى قول شاعرهم:
تمتع من الدنيا فإنك فان... من النشوات والنساء الحسان
والضمير في ﴿أَحَدُهُمْ﴾ يعود في هذا القول على اليهود.
ب. وقيل: إن الكلام تم في ﴿حَيَاةً﴾ ثم استؤنف الاخبار عن طائفة من المشركين:
• قيل: هم المجوس، وذلك بين في أدعيتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه (عش ألف سنة)، وخص الالف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب.
• وذهب الحسن إلى أن ﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ مشركو العرب، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر.
• وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.
8. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أصل (يود) يودد، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين، وقلبت حركة الدال على الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل، وحكى الكسائي: وددت، فيجوز على هذا يود بكسر الواو، ومعنى يود: يتمنى.
9. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ اختلف النحاة في (هو):
أ. قيل: هو ضمير الأحد المتقدم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فاعل بمزحزح.
ب. وقيل: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بدل من التعمير على هذا القول.
ج. حكى الطبري عن فرقة أنها قالت: (هو) عماد، وفيه بعد، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين، مثل قوله: ﴿ إِنْ كانَ هذا هُوَالْحَقَ ﴾، وقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾ ) ونحو ذلك.
د. وقيل: ﴿مَا﴾ عاملة حجازية، و ﴿هُوَ﴾ اسمها، والخبر في ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ .
هـ. وقيل: ﴿هُوَ﴾ ضمير الامر والشأن، ابن عطية: وفيه بعد، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر.
10. ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الزحزحة: الابعاد والتنحية، يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد، يكون لازما ومتعديا، قال الشاعر في المتعدي:
يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت... وغافر الذنب زحزحني عن النار
وأنشده ذو الرمة:
يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا... وغافر الذنب زحزحني عن النار
و ـ قال آخر في اللازم:
خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا)
11. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة.. وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير:
أ. قيل: على معنى أنه عالم بخفيات الأمور، والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال:
فإن تسألوني بالنساء فإنني... بصير بأدواء النساء طبيب
قال الخطابي: البصير العالم، والبصير المبصر.
ب. وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/34.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ ردّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان.
2. ﴿خَالِصَةً﴾ منصوب على الحال، ويكون خبر كان هو: عند الله، أو يكون خبر كان هو: خالصة، ومعنى الخلوص: أنه لا يشاركهم فيها غيرهم.
3. إذا كانت اللام في قوله: ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد، وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وإنما أمرهم بتمني الموت، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحبّ إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾
4. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ موصولة، والعائد محذوف:
أ. قيل: أي: بما قدّمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب، بل غير طامع في دخول الجنة، فضلا عن كونه قاطعا بها، فضلا عن كونها خالصة له مختصة به.
ب. وقيل: إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. المراد بالتمني هنا: هو التلفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة، ومواطن الخصومة، ومواقف التحدي، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرؤ على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا؛ إلا لما قد تقرّر عندهم؛ من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل بهم الموت، إما لأمر قد علموه، أو للصرفة من الله عز وجل.
6. سؤال وإشكال: ثبت النهي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تمني الموت، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهي عنه في شريعته؟ والجواب: أن المراد هنا إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان دعواهم.
7. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ تهديد لهم، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك.
8. اللام في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ جواب قسم محذوف.
9. تنكير حياة: للتحقير، أي: أنهم أحرص الناس على أحقر حياة، وأقل لبث في الدنيا، فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول؟ وقال في الكشاف: إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة، وتبعه في ذلك الرازي في تفسيره.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ :
أ. قيل: هو كلام مستأنف، والتقدير: ومن الذين أشركوا ناس ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾، وهو ـ وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب ـ أرجح لعدم استلزامه للتكليف، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود.
ب. وقيل: إنه معطوف على الناس؛ أي: أحرص الناس، وأحرص من الذين أشركوا، وعلى هذا يكون قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ راجعا إلى اليهود، بيانا لزيادة حرصهم على الحياة، ووجه ذكر الذين أشركوا بعد ذكر الناس مع كونهم داخلين فيهم، الدلالة على مزيد حرص المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم، فمن كان أحرص منهم وهم اليهود، كان بالغا في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها، وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على حرص المشركين، لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة، بخلاف المشركين من العرب ونحوهم فإنهم لا يقرّون بذلك، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود، وقال الرازي: هذا أرجح، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم، وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا، ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحا قد أفاده قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا يكونوا من جملة الناس.
11. خص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة، وأصل سنة: سنهة، وقيل: سنوة.
12. اختلف في الضمير في قوله: ﴿ وما هُوَبِمُزَحْزِحِهِ ﴾:
أ. قيل: هو راجع إلى أحدهم، والتقدير: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وعلى هذا يكون قوله: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فاعلا لمزحزحه.
ب. وقيل: هو لما دل عليه يعمر من مصدره؛ أي: وما التعمير بمزحزحه، ويكون قوله: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بدلا منه.
ج. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد، وهو ضعيف جدا لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين، ولهذا يسمونه ضمير الفصل.
د. وقيل: هو ضمير الشأن، وهو يفسر بجملة سالمة عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة.
هـ. وقيل: (ما) هي الحجازية، والضمير: اسمها، وما بعده خبرها،
والقول الأوّل أرجح، وكذلك الثاني، والثالث.
13. الزحزحة: التنحية؛ يقال: زحزحته فتزحزح، أي: نحيته فتنحى وتباعد، ومنه قول ذي الرمة:
يا قابض الرّوح عن جسم عصى زمنا... وغافر الذّنب زحزحني عن النّار
14. البصير: العالم بالشيء، الخبير به؛ ومنه قولهم: فلان بصير بكذا: أي: خبير به، ومنه قول الشاعر:
فإن تسألوني بالنّساء فإنّني... بصير بأدواء النّساء طبيب
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/135.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ﴾ كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم، وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله ﴿إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ نصب على الحال من الدار الآخرة، والمراد الجنة، أي سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾
2. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، كقوله ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: 24]
3. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بما أسلفوا من أنواع العصيان، واليد مجاز عن النفس، عبّر بها عنها، لأنها من بين جوارح الإنسان، مناط عامة صنائعه، ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها، ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء.
4. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي بهم، تذييل للتهديد، والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن سواهم، ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 6 ـ 7]
5. تلطف الغزاليّ في توجيه الإتيان ب (لن) هنا و(لا) في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة، فلما كانت الدعوى الأولى أعظم، لا جرم بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ (لن) لأنها أقوى الألفاظ النافية، ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ (لا) لأنه ليس في نهاية القوة، في إفادة معنى النفي.
6. لما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ والتنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي: على الحياة.
7. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ :
أ. عطف على ما قبله بحسب المعنى، كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وإفرادهم بالذكر، مع دخولهم في الناس، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص، للمبالغة في توبيخ اليهود، فإن حرصهم، وهم معترفون بالجزاء، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار.
ب. ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه، أي وأحرص من الذين أشركوا.
ج. وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ تقديره ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ناس يود أحدهم، على حذف الموصوف، وقول أبو مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ـ فلا يخفى بعده، لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم: إن الدار الآخرة لنا، لا لغيرنا.
8. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ بيان لزيادة حرصهم، على طريق الاستئناف، و ﴿لَوْ﴾ مصدرية، بمعنى (أن (مؤوّل ما بعدها بمصدر، مفعول يود، أي يود أحدهم تعمير ألف سنة ﴿ وما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما ﴾ حجازية، والضمير العائد على أحدهم اسمها، وبمزحزحه خبرها، والباء زائدة، وأن يعمر فاعل مزحزحه، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب، تعميره، قال القاضي: والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير، ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ فسوف يجازيهم عليه، وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللّغة بمعنى العليم لا يخفى فساده، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة، نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد، ولا ضرورة إليه هنا، ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى، فلذا حمل هذا البصر على العلم ـ هو من باب قياس الغائب على الشاهد، وهو بديهيّ البطلان، قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب الكافية الشافية.
وهو البصير يرى دبيب النملة... السّوداء تحت الصخر والصّوّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها... ويرى عروق بياضها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها... ويرى، كذاك، تقلّب الأجفان
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/354.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اِن كانَتْ لَكمُ الدَّارُ الَاخِرَةُ﴾ الجنَّة نفسها أو نعيمها، وليست الدار الآخرة انقضاء الدنيا، بل انقضاؤها اليومُ الآخر، والنار أيضا دار آخرة، والعهد والسياق ينفيان إرادتها، ﴿عِندَ اللهِ﴾ في حكمه، أو عنديَّة.
2. ﴿خَالِصةً﴾ لم يشبها النقص بثبوت بعضها لغيركم، بمعنى صافية حقيقة، أو خاصة بكم مجازا من دُونِ النَّاسِ كما قلتم: ﴿لَنْ يَّدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا اَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، و﴿نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، و﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، ولم يخلق الله الجنَّة إلَّا لإسرائيل وبنيه.
3. ثمَّ إمَّا أن يريدوا بالنَّاس سائرهم بعد الخاصَّة، فيستثنون إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحوهم، ومن دعواهم الباطلة أنَّ هؤلاء يهوديُّون؛ ويَستثنون أيضا آدم ونوحا ونحوهما ومن مات قبل اليهوديَّة، وإمَّا أن يعملوا ولا يستثنوا هؤلاء ولا غيرهم؛ لأنَّ من شأنهم إنكار ما عَرفوا من الحقِّ واعتقدوه، كما أنكروا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعيسى، والقرآنَ والإنجيل، وكثيرا من التوراة، مع معرفتهم بهم، وكما قالوا: ﴿مَآ أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91]، وإمَّا أن يريدوا النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمينَ من أمَّته.
4. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقينَ﴾ في دعوى اختصاص الجنَّة بكم، فإنَّ من أيقن بذلك يحبُّ الإفضاءَ إليها من دار البؤس والأكدار.
5. والمسلمون ولو لم يتمنَّوا الموت لكنَّهم لا يخصِّصون أنفسهم بها، بل يقولون: هي لكلِّ مؤمن من الأمم، والأمر بالتمنِّي مسبَّب عن دعواهم، وذلك نقيض التالي، هكذا: لو اختصصتم بها لتمنَّيتم الموتَ لكنَّكم لا تتمنَّونه فليست مختصَّة بكم، وتمنِّي ما يختصُّ بك أعظم من تمنِّي ما شورِكتَ فيه، وقد تمنَّاه مَن صَدَقَ في دعواه كقول عمَّار: (غدًا نلقى الأحبَّة محمَّدا وأصحابه)، وحذيفة إذ قال: (مرحبا بحبيب جاء على فاقة)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قتلى بئر معونة: (يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل)، وعبد الله بن رواحة:
يا حبَّذا الجنَّة واقترابَها... طيِّبةً وباردٌ شرابُها... والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها
6. ﴿وَلنْ يَّتَمَنَّوْهُ أبداَم بِمَا قَدَّمَتَ اَيْدِيهِمْ﴾ من تحريف التوراة وسائر معاصيهم، والكفرِ بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآنِ، لِعلمهم أنَّه على الحقِّ فتخوَّفوا من عقاب الآخرة على إنكاره، ومَن لم يعتقد منهم نبوءته فما قدَّمت يده عنده هو غير إنكاره صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاللهُ عَلِيمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ الجاحِدين، والآية إخبار بالغيب إذ لم يقدروا أن يتمنَّوا، ودلالة على نبوءته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنَّهم لو لم يوقنوا لتمنَّوْا، ولا سيما إذا قلنا: التمنِّي هنا التلفُّظ، فلم يقدروا أن يتلفَّظوا بالتمنِّي، ولو مع خلوِّ قلوبهم منه، ولو وقعَ لنُقِل، ولو تمنَّوا لماتوا في موضعهم بالريق، كما روي عن ابن عبَّاس موقوفا، وروي عنه مرفوعا، وفي رواية عنه مرفوعا: (لو أنَّ اليهود تمنَّوا الموت لماتوا)، وعنه موقوفا: (ما بقي على وجه الأرض يهوديٌّ إلَّا مات).
7. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُم﴾ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لمن يصلح، وكذا في جميع القرآن بحسب الإمكان، والأوَّل أولى، والهاء لليهود المخاطبين، ويلتحق بهم اليهود الباقون؛ وقيل: للجنس، ﴿أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ نوع من الحياة، وهي المتطاولة لقوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، والآية تدلُّ على أنَّ لغيرهم أيضًا حرصًا على الحياة الطويلة إلَّا أنَّهم أحرص؛ لأنَّ (أَحْرَصَ) اسم تفضيل، فإنَّ الحرص على الحياة في طباع المؤمن وغيره، وفي الحديث القدسيِّ: (إنَّ المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)، وإنَّه قد يحرص المؤمن على الحياة ليكثر العبادة، إلَّا أنَّه ليس ذلك منه مذمومًا، وقد يحمل الحديث عليه.
8. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ المجوس وعبدة الأصنام من العرب، وكانت المجوس يقولون للعاطس: (عش ألف سنة)، عُطِفَ على المعنى، ويقال في غير القرآن: عطف توهُّمٍ؛ لأنَّ معنى (أحرص الناس من الناس)، أي: من سائرهم، أو يقدَّر (أحرص من الذين أشركوا)، أو يقدَّر: (ومن الذين أشركوا أناس يودُّ أحدهم)، وعلى الوجهين الأوَّلين يكون (يودُّ..) إلخ مستأنفا، أو حالاً من (الَّذِينَ)، أو واوِ (أشركوا) أو من الهاء، وذكرُهم مع دخولهم في الناس زيادة في التوبيخ لهم بأنَّهم مع إقرارهم بالبعث والحساب أشدُّ حرصا ممَّن يعبد الصنم وينكر البعث.
9. وبيَّن حرص اليهود بقوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُم﴾ أي: أحد اليهود ليس المراد واحدا خاصًّا، ولكن التمثيل بالواحد كأنَّه معيَّنٌ مخصوص مشاهد ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي: يودُّ تعميره ألف سنة، والنصب على الظرفيَّة، أو (لَوْ) حرف تمنٍّ محكيًّا مع ما بعده بـ (يَوَدُّ) لتضمين معنى القول، أو (لَوْ) شرطيَّة جوابها: لسرَّه ذلك، والأَلْف هي تمثيل للكثرة لا خصوص هذا العدد، وبيَّنَ حرصَهم بقوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، على أن يراد بالذين أشركوا اليهود تصريحا بشركهم، وجاء الظاهر في موضع الضمير لذلك، على معنى: ومن المشركين ناس يودُّ.. إلخ، فـ (يَوَدُّ..) إلخ نعت لمبتدأ محذوف على هذا.
10. ﴿وَمَا هُوَ﴾ أي: أحدهم ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ مُبْعِدِهِ، خبر (مَا)، والباء صلة، أصله: (زحَّحَ) أبدلت الحاء المدغمة فيها من جنس الفاء، بوزن فعَّل بشدِّ العين، وقيل: كُرِّرت الفاء فوزنه (فعفل).
11. ﴿مِنَ﴾ أي: عن ﴿الْعَذَابِ﴾ بالنار وغيرها، من حين يموت إلى ما لا ينتهي ﴿أَنْ يُّعَمَّرَ﴾ تعميره ألف سنة فاعل (مُزَحْزِح)، كقولك: ما زيد قائمًا أبوه، ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ﴾ عليم ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ كلِّه، يعذِّبهم على كلِّ صغير وكبير.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/168.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. فسر المفسرون الخالصة بالخاصة، وقالوا إنه استعمال لم يعهد في الكلام الفصيح، والتخصيص مفهوم من قوله ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ يقول إن صحت دعواكم وصدق قولكم إنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وأنكم شعب الله المختار، فلن تمسكم النار إلا أياما معدودات لا تزيد على أيام عبادة العجل ولا تتجاوز عابديه، فتمنوا الموت الذى يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم، الذي لا منازع لكم فيه ولا مزاحم، وإن لم تتمنوا الموت فما أنتم بصادقين، إذ لا يعقل أن يرغب الانسان عن السعادة ويختار الشقاء عليها.
2. التمني هو ارتياح النفس وتشوفها إلى الشيء توده وتحب المصير اليه، وروى عن ابن عباس تفسير التمني بالسؤال والطلب، وهو غير معروف عن غيره من العرب.. ولعله فسره باللازم، فان من تمنى شيئا طلبه بالقول أو الفعل أو بهما، وقد روى عن كثير من الصحابة تمنى الموت عند القتال وبعد القتال يعبرون بألسنتهم عما في نفوسهم، وما هو إلا صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة.
3. تفسير التمني بلازمه القولي كما نقل عن ابن عباس أو العملي كالتعرض للقتل في سبيل الايمان يدفع إيراد من يقول: إذا كان المراد بالتمني تمنى النفس فلا يظهر صدق قوله تعالى في الآية التي بعد هذه الآية ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾ وقد ظهر صدقها على الوجه الاول فلم يتمن أحد من المخاطبين الموت، وقد ورد أنهم لو تمنوا الموت لماتوا رواه البخاري.
4. ما قاله محمد عبده في تفسير التمني بحقيقته يدفع كل إيراد، فقد قال: إن الكلام حجة على مدعى الإيمان واستحقاق ما أعده الله لأهله في الآخرة تقنعهم في أنفسهم بأنهم إما صادقون في دعواهم، وذلك اذا كانوا يتمنون في أنفسهم الموت والوصول الى الدار الآخرة، ويبذلون أرواحهم في سبيل الله بارتياح اذا كان حفظ الحق يقتضى بذلها، وإما كاذبون فيها، وذلك إذا كانوا شديدي الحرص على هذه الحياة، وليس المراد به الحجة الإلزامية أمام الناس، ولذلك كانت العبرة في الآية عامة، فهي واردة في سياق الاحتجاج على اليهود ويجب على المسلمين أن يتخذوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين في الإيمان والقيام بحقوقه لأن الله أنزلها لذلك.
5. لو كان المراد بقوله ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ أنهم لن يقولوا: يا ليتنا نموت، أو كلمة هذا معناها لكان الاحتجاج عليهم إنما هو بالتجعيز عن لفظ يحركون به ألسنتهم ولكان ذلك من الخوارق الكونية ولما صح تعليل نفى التمني بقوله ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ فإن هذا التعليل صريح بأن المانع لهم من تمنى الموت هو أنهم يعرفون من أنفسهم أنهم عاصون مقترفون للذنوب التي يستحقون عليها العقوبة لا أن ألسنتهم عاجزة عن النطق بكلمة تدل على تمنى الموت وإن كذبا، وكثيرا ما كانوا يكذبون.
6. أسند الفعل إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ولذلك جرى عرف اللغة على جعلها كناية عن الشخص باعتبار أنه عامل مطلقا.
7. ختم الآية بقوله ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ ليبين أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم وأن غيرهم من الشعوب محروم منها، وأن كل من كان مثلهم مفتاتا على الله تعالى فهو ظالم مثلهم.
8. بيّن حقيقة حالهم في الإخلاد إلى الأرض، والفناء في حب البقاء، وأنهم ليسوا على بينة مما يدعون، ولا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، فقال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ كذلك كانوا وكذلك هم الآن، والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله وإن كان الظاهر أن الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويشاغبونه ويجاحدونه، معتزين بشعبهم مغترين بكتابهم، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد علماؤهم فقط، ونكر الحياة للتحقير، كأنه يقول: إنهم شديد والحرص على الحياة وإن كانت في بؤس وشقاء، ثم خص طائفة من الناس بالذكر عرفوا بشدة الحرص على الحياة وتمنى طول البقاء في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بحياة بعدها فقال: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أي أنهم أحرص الناس من جميع الناس حتى من الذين أشركوا.
9. ثم بيّن مثالا من هذا الحرص مستأنفا فقال: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي يتمنى لو يعمره الله ويبقيه ألف سنة، أو أكثر، فإن لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد فيعبر به عن المبالغة في الكثرة لأنه يعرف من نفسه أنه مخالف لكتابه ويتوقع سخط الله وعقابه فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها، قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ أي وما تعميره الطويل بمزحزحه أي منحيه ومبعده عن العذاب المعد له ولأمثاله فإنه ميت مهما طال عمره وكل ماله حد فهو منته إليه.
10. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ لا تخفى عليه خافية من أمرهم ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن طول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقوبته، فإن المرجع إليه، والأمر كله بيديه.
11. من مباحث اللفظ أن الضمير في قوله ﴿وَمَا هُوَ﴾ مبهم يفسره ما بعده كما اختاره محمد عبده، وأكثر المفسرين على أن (ما) حجازية والضمير العائد على (أحدهم) اسمها وبمزحزحه خبرها، والباء زائدة في الاعراب و(أن يعمر) فاعل مزحزحه.
__________
(1) تفسير المنار: 1/390.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم أمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء، وقد روى عن كثير من الصحابة تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم:
يا حبّذا الجنة واقترابها... طيبة وبارد شرابها
وأن عمّار بن ياسر في حرب صفّين قال:
غدا نلقى الأحبّة... محمدا وصحبه
فإن لم تتمنوه، بل كنتم شديدي الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقي الإيمان.
2. هذه حجة تنطبق على الناس عامة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله والذّود عن الدين كانوا مؤمنين حقا، وإن ضنّوا بها وكانوا شديدي الحرص على الحياة إذا جدّ الحدّ ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدّعون.
3. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع البشارة به في كتابهم.
4. العرب تسند الفعل إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص.
5. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها.. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد.
6. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها، فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم في كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.. وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واغترارا بكتابهم.
7. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها.
8. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي يتمنى كل منهم أن يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر، لأنه يتوقع سخط الله وعقابه، فيرى أن الدنيا على ما فيها من الآلام والأكدار خير له مما يستيقن وقوعه في الآخرة، والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة.
9. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ أي وما بقاؤه فيها بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له، فإن العمر مهما طال فهو منته لا محالة.
10. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي والله عليم بخفيات أعمالهم، وبجميع ما يصدر منهم، وهو مجازيهم به، فطول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقابه، فالمرجع إليه، والأمر كله بيديه.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/173.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نصيب لهم في الآخرة، والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم.. فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو اليهود إلى مباهلة، أي بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
2. يعقب على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا المباهلة، ولن يطلبوا الموت، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون؛ ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم، وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه.. ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدي، فهم أحرص الناس على حياة، وهم والمشركون في هذا سواء.
3. لن يتمنوه، لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب، ولا يؤمنهم من عقاب، إنه مدخر لهم هناك، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون.
4. ليس هذا فحسب، ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنصح بالتحقير والمهانة: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ .. أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء، وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة، فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة.. أي حياة!
5. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ .. يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة..
6. ما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة.. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة، نعمة يفيضها الإيمان على القلب.. نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني، المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة، فالإيمان بالآخرة ـ فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى ـ هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق، الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/93.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الدعوى التي يدعيها بنو إسرائيل، ليتخذوا منها مقنعا لهم وللناس، من أنّهم أبناء الله، وأنهم موضع رعايته واختصاصه إياهم بالرحمة والرضوان ـ هذه الدعوى مفتراة على الله، أوردوا بها أنفسهم موارد الضلال والهلكة.. وليس أدل على بطلان هذه الدعوى وفساد هذا المتعلّق الذي يتعلقون به، من أنهم لو كانوا يؤمنون حقّا بصدق هذه الدعوى لكان تعلقهم بالدار الآخرة أكثر من تعلقهم بالحياة الدنيا، ففي الآخرة نعيم لا ينفد أبدا، وسعادة شاملة لا تدخل عليها شائبة من شقاء أو نصب.. ولكن القوم يتعلقون بالحياة الدنيا أشد التعلق، وينفرون من كل أمر يقطعهم عن هذه الحياة ويصلهم بالآخرة، أشدّ النفور.
2. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ فهم أحرص الناس جميعا بلا استثناء على الحياة، حتى إنّ المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون حياة بعد هذه الحياة ليس فيهم هذا الحرص على التمسك بالحياة التي يحرص اليهود عليها هذا الحرص العجيب.. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ليستوفي حطّه من الجمع والاقتناء.. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فليس له من هذا المصير مهرب، وإن امتد عمره إلى آلاف السنين!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/112.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلام في ﴿لَكُمْ﴾ مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها، و ﴿لَكُمْ﴾ خبر ﴿كَانَتْ﴾ قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة:
لكم مسجدا الله المزوران والحصى... لكم قبصه من بين أثرى وأقترا
2. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف متعلق بكانت، والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله، وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة.
3. انتصب ﴿خَالِصَةً﴾ على الحال من اسم (كان) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم (كان)، ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.
4. ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة، فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه، فقوله: ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر، ومن قوله: ﴿خَالِصَةً﴾ لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم، والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾
5. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط ـ وهو أن الدار الآخرة لهم ـ وجزائه ـ وهو تمني الموت ـ أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما قال عمير بن الحمام:
جريا إلى الله بغير زاد... إلا التقى وعمل المعاد
وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله:
يا حبذا الجنة واقترابها... طيبة وبارد شرابها
وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين:
لكني أسأل الرحمن مغفرة... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
6. جملة ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ إلى آخره معترضة بين جملة ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ وبين جملة ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾، والكلام موجه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين:
أ. إعلاما لهم ليزدادوا يقينا.
ب. وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.
7. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 91] وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، ثم يعترفون بأنهم اجترؤوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة، ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب.
8. اختلف في المراد بـ ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ :
أ. قيل: ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل.
ب. وقيل: أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها، وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي، ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد، فالأجمع هو تحريف التوراة، والأفظع هو قتل الأنبياء، لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم.
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة، وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي.
9. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير: (فمهما يكتم الله يعلم)
10. عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية، ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة، فسكوتهم يدل على عدم وقوعه، وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء.
11. هذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية، وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية، ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله، على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة.
12. جملة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ في موضع الحال من ضمير الرفع في ﴿يَتَمَنَّوْهُ﴾ أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.
13. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: 95] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية، بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش، فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها، ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه، ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد.
14. ﴿ لَتَجِدَنَّهُمْ ﴾ من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين.
15. المراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر، فهم أحرصهم على الحياة، فإن الحرص على الحياة غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه... حريصا عليها مستهاما بها صبّا
فحب الجبان النفس أوده التّقى... وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا
16. نكّر (الحياة) قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه: (الحياة وكفى)
17. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ عطف على (الناس) لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة، فإذا عطف عليه جاز إظهارها، ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا، فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا، وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ـ على قوله ـ عطفا بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من ﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ وإليه مال في (الكشاف).
18. ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها، وقد قال الحريري:
والموت خير للفتى... من عيشه عيش البهيمة
فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها.
19. (لو): للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى، ويجوز أن تكون (لو) مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة، ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ بيان ليود أي يود ودّا بيانه لو يعمر ألف سنة، وأصل (لو) أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة ﴿يَوَدُّ﴾ على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط (لو) ومضمون مفعول ﴿يَوَدُّ﴾ واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فاكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف (لو) بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على (لو) الواقعة بعد فعل ﴿يَوَدُّ﴾ وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة.. هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن (لو) تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من مواقع ذلك موقعها بعد ﴿يَوَدُّ﴾ ونحوه وهو قول الفراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون: لا حذف ويجعلون (لو) حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول أضعف تحقيقا وأسهل تقديرا.
20. ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ﴾ يجوز أن يكون الضمير لأحدهم، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره المصدر بعده على حد قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم... وما هو عنها بالحديث المرجّم
ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة.. وقيل: هو عائد على التعمير المستفاد من ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، وقوله: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بدل منه وهو بعيد.
21. ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني... بصير بأدواء النساء طبيب
وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محال ومنه قول زهير:
فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم... ليخفى فمهما يكتم الله يعلم
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم
فجعل قوله: يعلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر، البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان:
علمتك ترعاني بعين بصيرة... وتبعث حرّاسا عليّ وناظرا
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/597.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان السبب في غرور اليهود، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله تعالى عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولذلك قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ .. وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم يؤمنون، ويواجهون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بكفرهم به، فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
2. الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه، خالصة لكم من دون الناس، أي أنكم في منزلة والناس دونكم، ولا تكون إلا لكم؛ لأن غيركم من الناس ـ سواء كانوا أتباع محمد أم لا ـ هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها.. إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول، أن يسرع في الذهاب إليها، وإنها جنات ونعيم مقيم، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون.
3. كلمة ﴿لَكُمْ﴾ فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص، وقد ابتدأ بها بيانا لزعمهم، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس.
4. الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه.
5. الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين، بل هم كاذبون؛ ولذلك كانت أداة التعليق هي إن في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه.
6. سؤال وإشكال: يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ [البقرة] وقوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ [البقرة] وفى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، ولم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك؟ والجواب: ما تصل إليه مداركنا ـ والله هو الحكيم العليم ـ إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم، ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفى مداركهم يعلمون مآثمهم، ويعلمون كذبهم؛ ولذلك ليست الجنة لهم، ولذا لا يتمنون الموت، فقال تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
7. نفى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا، وأكد ذلك النفي بـ (لن) الدالة على النفي المؤبد، وبقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَبَدًا﴾، وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعاءهم أنهم ابناء الله وأحباؤه، وأنهم كاذبون في قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة]، وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر، وما قدمه أسلافهم، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها.
8. ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ الباء للسببية، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم، من كفر قلوبهم، وجحودهم بآيات الله تعالى، واعتدائهم في يوم السبت، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك، ومن كفرهم بألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به.
9. سر التعبير في ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، دون أنفسهم:
أ. يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل، فهو الذي به البطش والاعتداء، وارتكاب المآثم الجماعية.
ب. فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم، فهم أيد باطشة آثمة، وليس لهم قلوب مدركة عالمة.
10. سجل الله تعالى عليهم الظلم، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ :
أ. وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم.
ب. وبيّن عظيم علمه، ودقة علمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ج. وأظهر في موضع الإضمار، فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم، بل قال: ﴿عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ ؛ ليسجل عليهم وصف ظلمهم، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجية لهم.
11. قال الله تعالى في هذا المعنى، وهو طلب تمنى الموت، وامتناعهم في سورة الجمعة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾، والفرق بين النصين، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر، في أمرين:
أ. الأمر الأول ـ أن الشرط في الآية الكريمة التي تتصدى لتعرف معناها شرط كبير، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بلن، والشرط خال من معنى زعمهم.
ب. الثاني ـ أن الآية الثانية كان الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس، فكان النفي بـ (لا)، وهو دونه؛ فكان النفي ب (لا) لا بـ (لن) على مقدار الشرط، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم.
12. بعد ذلك التحدي من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر ربه، كان الوصف الحقيقي لبنى إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة، وأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا، وأنه يرتقبهم خير؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا؛ لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها، ولا يرجون خيرا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ .
13. أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة، ونكر سبحانه وتعالى (حياة) في قوله تعالى: ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ لتعميم معانى الحياة، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز، وسواء كانت حياة استعباد أم كانت حياة حرية، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها، أم كانت بكرامة من غير مهانة، وإن هذا يدل على كمال الحرص.
14. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا، ومن الذين أشركوا، وهم الوثنيون، وخصوا بالذكر، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية.. وهم أحرص من المشركين على الحياة؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة، أما المشركون من العرب فإنهم لا يريدونها إلا عزيزة لا ذلة فيها، وشاعرهم الجاهلي يقول:
لا تسقني ماء الحياة بذلة... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم... وجهنم بالعز أطيب منزل
لذلك كانوا أحرص على حياة، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة، وإن كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور، ولا حساب ولا عقاب.
15. يصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ يود هنا بمعنى: يتمنى أحدهم، أي أحد اليهود، لو يعمر ألف سنة، ولو هنا مصدرية وهى التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [القلم] فهنا (لو) مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لا تنصب مثل (أن)، وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم.. طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بنى أمية، فأعطاه ألفا، فقال له قائل: لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك، فقال: لو كنت أعلم أن فوق الألف عددا لطلبته، فالألف كناية عن أكبر عدد.
16. مع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد، ألفا أو أكثر، فإن العذاب ملاقيهم، ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ بالعذاب الذي يستقبلكم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ والزحزحة الإبعاد أو الإزالة، وهى تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾
17. (ما) في قوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ النافية، والباء دالة على استغراق النفي وهى زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى، والضمير (هو) يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن، والمعنى على هذا التخريج: وما هو؛ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره، فالمصدر المكون من ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فاعل لمزحزحه، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي وبالباء، وبكلمة مزحزح.
18. ما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمن ـ إلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ ولذا ختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر على مثال ما به الناس، بما يعملونه من شرور وآثام، وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/323.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أخبر القرآن ان اليهود أشد الناس حرصا على حياة الدنيا، بل هم أحرص عليها من الذين لا يؤمنون بجنة ولا نار، بل ان الواحد منهم يتمنى لو عاش ألف سنة، ولكن تعميره لا يجديه شيئا، ولا ينجيه من العذاب.. والغرض من الجدال بهذا المنطق العقلي السليم هو الزام اليهود الحجة بأنهم كاذبون في دعواهم الايمان بالتوراة، وفي زعمهم بأنهم شعب الله المختار.
2. لا نشك أبدا بأن مسألة تكذيب اليهود لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليست مسألة ايمانهم بخصوص ما ينزل عليهم من الوحي تعصبا لجنسيتهم، كلا، والف كلا.. ان الدافع الوحيد للتكذيب هو مصالحهم الشخصية، ومنافعهم المادية، انهم يعيشون على الغش والربا والدعارة، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يحرم ذلك، فكيف يؤمنون به؟ والدليل انهم كفروا بتوراتهم، وقتلوا أنبياءهم، ولا سبب الا حرصهم على المنفعة الذاتية، وكل من حرص على منفعته لا يجدي معه جدال بالحسنى.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ اشعار بهذه الحقيقة، وما عدا هذه الآية الكريمة من المحاجة انما جرت معهم مجرى النقاش، والإلزام بالحجة، تماما كما تقول: لو سلمنا جدلا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/156.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما كان قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وقولهم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ في جواب ما قيل لهم: ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم، وأن نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة، وهي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم وأنهم يعلمون ذلك من غير تردد وارتياب فقال تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعد.
2. وقوله ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
3. ﴿خَالِصَةً﴾ أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم.
4. قوله تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، وهذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك، وهو أن الإنسان، بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب اختار الراحة من غير تردد وتذبذب، وإذا خير بين حياة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا، ولو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة، فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.. فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا وأركانا، ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.
5. قوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد، فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه، ففيه عنايتان: نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي، وعد كل فعل عملا للأيدي.
6. بالجملة أعمال الإنسان وخاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره، وارتكز في باطنه والأعمال الطالحة والأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله والحلول في دار أوليائه.
7. قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾، كالدليل المبين لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والإخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: عَلى حَياةٍ للتحقير كما قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
8. قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.
9. قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾، الظاهر أن ما نافية وضمير هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله: ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ أي بمبعده، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب، وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ بيان له.
10. معنى الآية: ولن يتمنوا الموت، وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة، بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا، يود أحدهم لو يعمر أطول العمر، وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر وهو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد وأجل.
11. قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، أي أطول العمر وأكثره، فالألف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة ألف وألف ألف.
12. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/228.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ الجنة التي عرضها السموات والأرض و ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ عند الله معدة لكم عنده و ﴿خَالِصَةً﴾ سالمة، فهي لكم كلها ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ سبقتم الناس إليها، فأنتم بالنسبة إليها من دون الناس فيما بينها وبين الناس، كقول الشاعر يصف شراباً صافياً: (تريك القذا من دونها وهي دونه)، وأحسن من هذا قول الله تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ [مريم: 17] وقوله تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ﴾ [الكهف: 90] وقوله تعالى: ﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ [الكهف: 93]
2. ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ لأن من علم أن الجنة له لا يبالي بفراق الدنيا ويكون شوقه إلى الجنة أقوى من حب الدنيا؛ لقلة لذات الدنيا، واقترانها بالمنغصات والمتاعب، وعظم لذات الجنة، وخلوصها من المنغصات والمتاعب والأمن فيها من كل شر، فكيف لا يعجل عليها الإنسان الذي من طبعه العجل، ويتمنى الموت ليخرج من هذه الدنيا ويصير في الجنة.
3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواكم، حيث تزعمون أن الجنة لكم ﴿خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ في قولكم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾
4. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ لن يتمنوا الموت أبداً، وذلك لعلمهم بجرائمهم التي اكتسبوها، فإذا ماتوا صاروا إلى النار من أجلها.
5. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ فهو يعلم ما يبدون وما يكتمون، ويعلم ما قد وقع منهم من الظلم الموجب للنار.
6. هذه الآية معجزة؛ لأنها خبر قاطع أنهم لن يتمنوه أبداً، وكان ذلك صدقاً لم يتمنوه، وهو خبر غيب مع أنهم مظنة أن يحملهم الجدل وحب تكذيب القرآن والرسول أن يتمنوا الموت؛ لأنها كلمة سهلة على اللسان، وليس الموت في العادة تبعاً للتمني، فقد يتمنى الإنسان الموت ولا يموت؛ لأن في أجله بقية، فلا بد أن باعثهم على التمني كان قوياً جداً، فلما لم يتمنوا دل ذلك على أنهم يعلمون أن هذا كلام الله وأنه ينذر بعذاب عاجل كالمسخ أو الخسف مما يكشف زيفهم بالتمني.
7. دل ذلك على أن هذا كلام الله علام الغيوب، ولو كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تقوّله ما تجرأ على أن يتحداهم بتمني الموت؛ لأنه لا يأمن حينئذ أن يتمنوا الموت فيكذبوه، وتكون لهم حجة عليه، فهذه معجزة أخرى، هذا كله لأنهم لم يتمنوا الموت؛ لأنهم لو تمنوه لاشتهر لتوفر دواعي الكفار والمنافقين إلى نقله على كثرتهم لو كان.
8. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ لفرط حبهم للدنيا واعتقادهم أنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب الذي قد استحقوه بالكفر وغيره، والحرص: شدة الرغبة، وشدة طلب النفس للشيء، فهو من المعاني النفسية، وهو يبعث على شدة طلب الشيء، فلذلك يقال لمن اشتد طلبه للشيء: إنك لحريص على هذا، وذلك لأن شدة الطلب دليل على الحرص.
9. الحرص قد يكون على ما يمكن طلبه كالمال، وعلى ما لا يمكن طلبه كالحياة في بعض الأحوال، وقد يكون محموداً كالحرص على صلاح الناس والحرص على بقاء الصالحين، قال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: 128] وقد يكون مذموماً كالحرص على الحياة للتمتع بما تهواه النفس فيها لا لغرض ديني، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي رواه أبو طالب في (الأمالي) في (ذكر الرزق) قال: أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (عليك يا علي باليأس عما في أيدي الناس، فإنه الغنى الحاضر)، فقلت: زدني يا رسول الله، فقال: (يا علي إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر) إلى قوله (ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا يصرفه كراهة كاره)، فقابل الحرص بالكراهة، وأما قوله: (فإنه الغنى..) فالمراد أن اليأس يؤدي إلى القناعة، وقد قال عليه السلام ـ كما في نهج البلاغة ـ: (القناعة مال لا ينفد)، فلذلك جعل اليأس الغنى، أو لأن اليأس عما في أيدي الناس يذهب الطمع فيما في أيديهم ويوجب القناعة عما في أيديهم، وذلك يوجب الغنى عما في أيديهم، وهو المهم من الغنى.. فأما الفقر إلى الله فهو محمود، وليس هذا مقابلة بين اليأس والطمع، بل كل واحد في كلام مستقل بدليل قوله: (زدني) فقد ظهر من هذه الجملة أن الحرص شدة الرغبة، وقد فسروه بشدة الطلب، ولا ينبغي أن يكون المراد به إلاَّ طلب النفس، أي شدة طلب النفس.
10. يؤكد هذا أن (صاحب الكشاف) والشرفي في (المصابيح) قالا في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف، قال الشرفي في (المصابيح): أي يحب أحدهم أن يعيش ألف سنة، فظهر أن الحرص هو شدة الرغبة.
11. ﴿عَلَى حَيَاةٍ﴾ التنكير فيه؛ لأن المقصود على حياة في المستقبل، ولو قليلاً منها يعيشون، فهم يحرصون على أي حياة، ولو ساعة يحيون، ولم يناسب أن يقول: على الحياة؛ لأنهم فيها، وليس المقصود حرصهم على الموجود، بل المقصود حرصهم على المفقود في الحال، وهو الحياة في المستقبل، فإذا عاش اليوم فهو حريص على حياته في غد، وحريص على أن يحيى فيما بعد حتى أنه عند اقتراب موته وظنه أن قد قرب فراقه للحياة يحرص على حياة يبقى فيها ولو قلّت، ولو كان في شدة المرض وحين يرغب الإنسان في التخلص من شدة المرض وطوله ولو بالموت، فهؤلاء على خلاف ذلك لا يزالون راغبين في الحياة والبقاء كارهين للموت.
12. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ فهم أحرص من الذين أشركوا من قريش ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وبيان تلك الجملة بهذه يبين أن المقصود حرصهم على حياة في المستقبل، ولو كان المقصود حرصهم على الحياة الموجودة لكان بيانه بذكر شدة حذرهم من أسباب فراقها، فالحرص على حياة في المستقبل يرجونها بطول آمالهم وحياة في المستقبل لا يرجون بلوغها؛ لأنها أبعد من المأمول.. فقد ظهرت فائدة التنكير لأنهم يحرصون على حياة لا يبلغونها، وهي غير الحياة التي هم فيها وهي المقصودة في هذا الذم أصالة، ويتبعها في الذم حرصهم على ما لا يعلمون أنهم يبلغونه؛ لأنهم يحرصون عليه سواء كانوا يبلغونه أم لا، فهم يحرصون عليه ولو كانوا في الواقع لا يبلغونه.
13. الحاصل: أنهم أحرص الناس على حياة زائدة على الحياة التي هم فيها، ولو كانت زائدة على المكتوبة لهم، بل وعلى الحياة الزائدة على الحياة المكتوبة لهم، ولذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.
14. ﴿وَمَا هُوَ﴾ ضمير عائد إلى أحدهم، أي وما أحدهم، هذا الذي يود لو يعمر ألف سنة ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، وقوله: ﴿أَنْ يُعَمَّرَ﴾ فاعل مزحزح، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: 2] وفي هذا تأكيد لوعيده بالعذاب، وبيان أنه لا بد له منه سواء عمر أم لم يعمر، وتجهيل له حيث يرغب في طول الحياة فراراً من العذاب، أي عذاب نار جهنم وطول الحياة لا ينجيه من العذاب بل لا بد له منه.
15. في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ بـ ﴿مِنَ﴾ الابتدائية، تشبيه له في الحال بنفسه حين يكون في العذاب كأنه يقول: لا بد له من العذاب حتى كأنه الآن قد صار فيه، وهو لا يزحزحه منه أي لا ينجيه منه ويباعده أن يعمر، والزحزحة فيها معنى التنحية ـ بالحاء المهملة ـ والإبعاد، فلا تنحية ولا إبعاد ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ فلا يعيى بجزاءه، وفي قوله: ﴿يَعْمَلُونَ ﴾ دلالة على استمرارهم في أباطيلهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/149.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يعود القرآن إلى فكرة (شعب الله المختار) التي يعيشها اليهود في داخلهم كحقيقة دينية عميقة، فيشعرون معها بالاستكبار والعلوّ والرفعة على الآخرين، ليناقشها مناقشة تفصيلية بعد أن كان قد أشار إليها، فيما تقدم، إشارة مجملة.
2. ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً﴾ من كل محاسبة ومسئولية ﴿مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ الّذين يحاسبون على كل ما عملوا من صغيرة وكبيرة، ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ لأن الدار الآخرة للمؤمنين في التفكير الديني نعيم لا بؤس فيه، وسعادة لا شقاء معها، فهي الحياة المثالية التي هي أعلى مستوى للحياة، لأنها تحقق للإنسان كل أحلامه بل فوق أحلامه؛ كما ورد في الحديث المأثور عن الجنة: فيها (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، فإذا كانت لكم هذه المنزلة الرفيعة، التي تمنحكم مثل هذه الحياة عند الله، فتمنّوا الموت الذي ينقلكم إليها من دون جهد أو تعب، فإن الإنسان يتمنى المستوى الأفضل للحياة بشكل طبيعي.
3. ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ فهم يعرفون ما قدموا من جرائم يحاسبون عليها يوم القيامة، فيتعرضون من أجلها لأقصى أنواع العقاب، فكيف يتمنّون الموت بعد ذلك؟ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾
4. ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ أحرص الناس على حياة، مهما كانت ذليلة أو غير مسئولة، هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا نهاية المطاف والفرصة الأخيرة للاستمتاع، إنهم لا يحرصون على هذه الحياة كما يحرص عليها اليهود ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ليبتعد عن أشباح الجريمة والعقاب التي تلاحقه في يقظته ومنامه، ولكن ما فائدة الألف سنة من العمر لو عمّر ألف سنة!؟ إن النتيجة الحاسمة ستكون أمامه ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ لأنه سيلتقي بالعذاب وجها لوجه على أساس ما جنته يداه ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
__________
(1) من وحي القرآن: 2/129.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. القرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جوابا دامغا إذ يقول: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ألا تحبّون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه!؟
2. لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنّة خالصة لنا دون سائر النّاس، أو أن النار لا تمسّنا إلّا أيّاما معدودات ـ إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.
3. لماذا تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدّعون!؟ لماذا هذا الالتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقّا!؟ بهذا الشكل فضح القرآن أكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.
4. ثم يؤكد الله تعالى على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، والله عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.
5. ثم يذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الادعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.
6. وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفا من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغيّر من مصيره شيئا ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ إذ كل شيء محصى لدى الله، ولا يعزب عن عمله شيء ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
7. في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ ليس هذا العدد المعروف، بل يعني العمر الطويل المديد، فهو ليس للتعدد، بل للتكثير.. وذهب بعض المفسرين إلى أن العرب لم تكن تعرف آنذاك عددا أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عند العرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة!
8. تنكير الحياة في تعبير الآية ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ تفيد ـ كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين ـ الاستهانة والتحقير، أي إن هؤلاء حريصون حتى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة.
9. يبدو من تاريخ اليهود ـ مضافا لما أخبر القرآن عنه ـ أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أن الجنّة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء الله وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.. هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية من سورة المائدة تقول عن لسانهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، ونرى ادعاء آخر لهم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ .. هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان، وتبعث فيهم ـ من جهة أخرى ـ الغرور والتكبّر والاستعلاء.
10. كان التعصّب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التأريخ، وفي عصرنا الحديث كان التعصب العرقي الألماني عاملا فعالا في إشعال لظى الحربين العالميتين الاولى والثانية.. واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين المتعصبين على مرّ التأريخ، وها هي دويلتهم المسماة بإسرائيل أقيمت على أساس هذه العنصرية المقيتة، وما يرتكبه هذا الكيان العنصري الصهيوني من جرائم فظيعة إنما هو استمرار لجرائمه التأريخية الناشئة عن عنصريته البغيضة، لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتّى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.. وهذه النزعة الأنانية هي التي جعلت هؤلاء القوم منبوذين ممقوتين من قبل كل شعوب العالم.
11. التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإسلام بشدّة، مؤكدا أن كل أبناء البشر من أب واحد وأمّ واحدة، ولا تمايز إلّا بالتقوى والعمل الصالح.
12. أكثر النّاس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:
أ. الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرار لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.
ب. الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يؤدّون أن تتأخّر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.
13. الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والانعدام من الأذهان، وبينوا أن الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.. من جهة أخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/304.
39. عداوة الملائكة والكفر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈39⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 97 ـ 98]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي، قال (سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني)، قالوا: فذلك لك، قالوا: أربع خلال نسألك عنهن؛ أخبرنا أي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة؟ وكيف الأنثى منه والذكر؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم؟ ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، قال (فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا طال سقمه، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وكان أحب الشراب إليه ألبانها؟)، فقالوا: اللهم، نعم، فقال: (اللهم، اشهد)، قال (أنشدكم بالذي لا إله إلا هو، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه ـ بإذن الله ـ، إن علا ماء الرجل كان ذكرا ـ بإذن الله ـ، وإن علا ماء المرأة كان أنثى ـ بإذن الله ـ؟)، قالوا: اللهم، نعم، قال (اللهم، اشهد)، وقال: (فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن النبي الأمي هذا تنام عيناه، ولا ينام قلبه؟)، قالوا: نعم، قال (اللهم، اشهد عليهم)، قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك، قال (وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه)، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك وصدقناك، قال فما يمنعكم أن تصدقوه؟، قالوا: هو عدونا، فعند ذلك أنزل الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل﴾ إلى قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾، فعند ذلك باءوا بغضب على غضب(1).
2. روي أنّه قال: إن حبرا من أحبار اليهود ـ يقال له: عبدالله بن صوريا ـ قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال (جبريل)، قال ذلك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل لآمنا بك، إن جبريل ينزل العذاب والقتال والشدة، وإنه عادانا مرارا، وكان من أشد ذلك علينا أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بختنصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلبه لقتله، فانطلق حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا، فأخذه ليقتله، فدفع عنه جبريل، وكبر بختنصر، وقوي، وغزانا، وخرب بيت المقدس؛ فلهذا نتخذه عدوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية(2).
3. روي أنّه قال: ﴿قُل﴾ يا محمد: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّه﴾ يقول: فإن جبريل ﴿نَزَّلَه﴾ يقول: نزل القرآن من عندي ﴿عَلَى قَلْبِك﴾ يقول: على قلبك، يا محمد ﴿بِإِذْنِ اللَّه﴾ يقول: بأمر الله، يقول: يشدد به فؤادك، ويربط به على قلبك، يعني: بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله، وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك(3).
4. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْه﴾ لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو: موسى، وعيسى، ونوح، وهود، وشعيب، وصالح، وأشباههم من المرسلين مصدقا، يقول: فأنت تتلو عليهم يا محمد وتخبرهم غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي، لم تقرأ كتابا، ولم تبعث رسولا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه وصدقه، يقول الله: في ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعقلون(4).
5. روي أنّه قال: جبريل وميكائيل كقولك: عبد الله، وعبد الرحمن(5).
__________
(1) أحمد: ٤/٣١١.
(2) أورده الثعلبي: ١/٢٣٨.
(3) ابن جرير: ٢/٢٩٢.
(4) ابن أبي حاتم: ١/١٨٠.
(5) البيهقي في شعب الإيمان.
ابن أبي ليلى:
روي عن ابن أبي ليلى (ت 83 هـ) أنّه قال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل﴾ قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة وهو لنا عدو، قال فنزلت هذه الآية: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٩٢.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل﴾ الآية: نزل عمر بالروحاء، فرأى ناسا يبتدرون أحجارا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يقولون: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى إلى هذه الأحجار، فقال: سبحان الله، ما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا راكبا مر بواد، فحضرت الصلاة، فصلى، ثم حدث، فقال: إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم، فقالوا: ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك، لأنك تأتينا، قلت: وما ذاك إلا أني أعجب من كتب الله كيف يصدق بعضها بعضا! كيف تصدق التوراة الفرقان، والفرقان التوراة! فمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوما وأنا أكلمهم، فقلت: أنشدكم بالله وما تقرؤون من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قالوا: نعم، فقلت: هلكتم، والله، تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه! فقالوا: لم نهلك، ولكن سألناه: من يأتيه بنبوته؟ فقال: عدونا جبريل؛ لأنه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك ونحو هذا، فقلت: فمن سلمكم من الملائكة؟ فقالوا: ميكائيل؛ ينزل بالقطر والرحمة وكذا، قلت: وكيف منزلتهما من ربهما؟ فقالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر من الجانب الآخر، قلت: فإنه لا يحل لجبريل أن يعادي ميكائيل، ولا يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا، وحرب لمن حاربوا، ثم أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا أريد أن أخبره، فلما لقيته قال (ألا أخبرك بآيات أنزلت علي!)، قلت: بلى، يا رسول الله، فقرأ: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل﴾ حتى بلغ: ﴿لِلْكَافِرِين﴾، قلت: يا رسول الله، والله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم، فوجدت الله قد سبقني(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٧/٣٢٧.
أبو مجلز:
روي عن لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ١٠]قال: قوله: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، كأنه يقول حين يضيف جبر، وميكا، وإسرا إلى إيل؛ يقول: عبد الله، فقال: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا﴾ [التوبة: ١٠]، كأنه يقول: لا يرقبون الله تعالى(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٩٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ فجبر: عبد وإيل: هو الله تعالى.. مثل عبد الله)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 87.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْه﴾، يعني: قرآن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يصدق الكتب التي كانت قبله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُدًى﴾ أي: وهذا القرآن هدى من الضلالة، ﴿وَبُشْرَى﴾ لمن آمن به من المؤمنين ﴿لِلْمُؤْمِنِين﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ذلك أن اليهود قالوا: لو كان الذي ينزل موضع الاحتجاج عليهم بما أتى به معجزا؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103] إذ كان لهم أن يقولوا: أنزل على لسان العجمي، لكنه غيّر ذلك بلسانه، وكذلك قوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ [القيامة: 16] مخافة النسيان والذهاب، وكذلك قوله: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: 114].. فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم، وفساد مذهبهم، وبعدهم عن دين الله المستقيم.
2. ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين بالجنة.
3. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: من كان عدوّا لله، أو ملائكته، أو رسله.
ب. ويحتمل: افتتاح العداوة به دون هؤلاء على التعظيم لهم، وفضل المنزلة عند الله، وحسن المآب لديه؛ كقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 41] معنى إضافة ذلك إليه: على التعظيم له، والإفضال لله، لا على جعل ذلك لله مفردا.. فعلى ذلك: معنى افتتاح العداوة به.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/518.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبب نزول هذه الآية أن ابن صوريا وجلة من يهود فدك لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك فقد خبرنا عن النبي الذي يأتي في آخر الزمان فقال: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) قالوا: صدقت يا محمد؛ فما بال الولد يشبه أعمامه وليس فيه من شبه أخواله شيء أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شيء فقال: (أيهما علا ماءه كان الشبه له) قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]، قال ابن صوريا خصلة إن كنت قلتها آمنت بك واتبعتك: أي ملك يأتيك بما يقول الله عز وجل؟ قال: (جبريل) قال: ذلك عدو لنا ينزل بالقتال والحرب والشدة، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك وصدقناك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. قد قيل: إن جبريل معناه عبدالله، وميكائيل عبيد الله.
3. سؤال وإشكال: ما معنى قوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الآية والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما: أنهما خصا بالذكر تشريفاً وتمييزاً.
ب. الثاني: أنهما خصا بالذكر لأن اليهود قالوا: جبريل عدونا وميكائيل ولينا، فإن الله سبحانه أبان بذلك أن ولي أحدهما ولي الآخر، وعدو أحدهما عدو الآخر، ثم عدوهما عدو الله.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/74.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبب نزول هذه الآية، أن ابن صوريا وجملة من يهود (فدك)، لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فإنه قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان، فقال: (تنام عيناي وقلبي يقظان) قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال: (أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرّجل، وأمّا اللّحم والدّم والظّفر والشّعر فمن المرأة)، قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شيء، أو يشبه أخواله، ليس فيه من شبه أعمامه شيء فقال: (أيهما علا ماؤه كان الشبه له)، قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى: قال ﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الاخلاص الآية: 1] إلى آخر السورة، قال له ابن صوريا: خصلة إن قلتها آمنت بك واتبعتك، أي ملك يأتيك بما يقول الله؟ قال (جبريل)، قال ذاك عدونا، ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك، فقال: عمر بن الخطاب عند ذلك: فإني أشهد أن من كان عدوّا لجبريل، فإنه عدو لميكائيل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. جبريل وميكائيل: هما اسمان، أحدهما عبد الله والآخر عبيد الله، لأن إيل هو الله وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكان جبريل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، وهذا قول ابن عباس، وليس له من المفسرين مخالف.
3. سؤال وإشكال: لم قال ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الملائكة فلم خصهما بالذكر؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أنهما خصّا بالذكر تشريفا لهما وتمييزا.
ب. والثاني: أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا، وميكائيل ولينا، خصّا بالذكر، لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته، لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة، فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.
4. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/163.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في ﴿ جبريل ﴾ ست لغات: جِبرائيل، وجَبرئيل، وجَبرال، وجبريل، وجبرال، وجبريل. وحكى الزجاج بالنون أيضًا بدل اللام، وهي لغة بني أسد، وبتشديد اللام.
2. أجمع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود ـ حين زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكال ولي لهم ـ لما أخبروا أن جبريل هو الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: جبريل عدو لنا، يأتي بالحرب والجدب، وميكائيل يأتي بالسلام والخصب: فقال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ إذ كان هو المنزل الكتاب عليه، فإنه إنما أنزله على قلبه بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وإنما أنزل لما هو مصدق بين يديه من الكتب التي في أيديهم، لا مكذبًا لها، وإنه وإن كان فيما أنزل الأمر في الحرب، والشدة على الكافرين، فإنه هدىً وبشرى للمؤمنين.
3. ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾، ولم يقل: على قلبي، كقولك للذي تخاطبه: لا تقل للقوم إن الخبر عندك، ويجوز أن تقول: لا تقل: إن الخبر عندي، وكما تقول: قال القوم: جبرائيل عدونا، ويجوز أن تقول: قالوا: جبرائيل عدوهم.
4. لا ينبغي أن يستنكر أحد أن اليهود يقولون: إن جبرائيل عدونا؛ لأن الجهل في هؤلاء أكثر من أن يُحصى، وهم الذين أخبر الله عنهم بعد مشاهدة فلق البحر، والمعجزات الباهرة: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، وقالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾، ومثل ذلك طائفة من النصارى تعادي سليمان، فلا تذكره ولا تعظمه، ولا تقر بنبوته.
5. جبرائيل، وميكائيل: اسمان أعجميان أُعربا.. وقيل: إن جبر عبد، وإيل الله، مثل عبد الله، وضعّف ذلك أبو علي الفارسي من وجهين:
أ. أن (إيل) لا يُعرف في أسماء الله في لغة العرب.
ب. أنه لو كان كذلك لأُعرب آخر الكلمة، كما فعل ذلك في سائر الأسماء المضافة، والأمر بخلافه.
6. كان سبب نزول هذه الآية ما رُوي أن صوريا، وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان. فقالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد: يكون من الرجل أو من المرأة؟ فقال: أما العظام والعصب والعروق، فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر، فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد. فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شيء، أو يشبه أخواله، ليس فيه من شبه أعمامه شيء فقال: أيهما علا ماؤه كان الشبه له. قالوا: صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾، فقال ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، واتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله لك؟ قال: جبريل. قالوا: ذلك عدونا، ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك: آمنا بك. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
7. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني القرآن، ونصب (مصدّقاً) على الحال، والهاء في قوله: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ يا محمد ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يعني القرآن، ويعني مصدقًا لما سلف من كتب الله أمامه التي أنزلها على رسله، وتصديقًا لها: موافقةً لمعانيها في الأمر باتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما جاء به من عند الله. وإنما أضافه ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ من حيث كانوا المهتدين به، والعالمين العاملين به.
8. جبريل وميكائيل، وإن كانا من جملة الملائكة، فإنما أُفردا بالذكر لأجل أمرين:
أ. ذُكِرا لفضلهما ومنزلتهما، كما قال: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾، ولما تقدم من فضلهما، وأن الآية نزلت فيهما، وفيما جرى من ذكرهما.
ب. أن اليهود لما قالت: جبريل عدونا، وميكال ولينا، خُصّا بالذكر، لئلا يزعم اليهود أن جبريل وميكال مخصوصان من جملة الملائكة، وغير داخلين في جملتهم، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.
9. ثم قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ولم يقل: فإنه، فكرر اسم الله، لئلا يُظن أن الكناية راجعة إلى جبريل أو ميكائيل. ولم يقل: (لهم)، لأنه يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.
10. في هذه الآية دلالة على خطأ من قال من المجبرة: إن الأمر ليس بمحدث، احتجاجًا بقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، قالوا: فلما أفرد الأمر بالذكر بعد ذكره الخلق، دل على أن الأمر ليس بمخلوق، ولو كان الأمر على ما قالوه، لوجب أن لا يكون جبريل وميكائيل من الملائكة، ونظير ذلك أيضًا قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/362.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العدو: ضد الولي، والعداوة ضد الولاية.
ب. الهدى: الدلالة والبيان.
ج. البشارة: الخبر السار، أول ما يرد فيظهر ذلك في بشرة الوجه.
د. المَلكُ وإن كان أصله من الرسالة ـ على ما تقدم ـ فقد اختص بنوع من الحيوان، فلذلك عطف عليه (ورسله).
2. جبريل: اسم معرب اختلفت العرب في تعريبه، قال الشاعر:
وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ الله فِينَا.. وَرُوُح القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وأنكر بعضهم جبريل؛ لأنه ليس في الكلام فِعْلِيلُ، وأجازه قوم، ورووا عن الحسن، وأنشدوا:
بِحيْثُ لَوْ وزنتْ لَخْمُ بِأَجْمَعِهَا.. مَا وَزنتْ رِيشَةً مِنْ رِيشِ شَمْوِيلاَ
شمويل: طائر.
3. قيل: جبريل معناه: عبد الله، فجبر: عبد، وإيل: هو الله، وميكائيل عبد الله، عن ابن عباس وجماعة، قال المنهال بن عمرو: إيل بالعبرانية اسم الله، وقال أبو علي الفسوي: هذا لا يصح لوجهين:
أ. أحدهما: أنه لا يعرف من أسماء الله إيل.
ب. الثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورًا أبدًا كقولهم: عبد الله.
4. الهاء في قوله: ﴿فَإِنَّهُ﴾ وفي قوله: ﴿نَزَّلَهُ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. الأول: الهاء الأولى تعود على جبريل، والثانية على القرآن، وإن لم يَجْرِ له ذكر لأنه كالمعلوم، كقوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ يعني على الأرض، عن ابن عباس وأكثر أهل العلم.
ب. الثاني: فإن الله نزل جبريل لا أنه نزل بنفسه.
ج. الثالث: فإن الله نزل القرآن على يده.
5. أجمع أهل التفسير أنه جواب لليهود حين زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولي لهم، وفيهم نزلت الآية، واختلفوا في الحال الذي ظهر منهم ذلك على أربعة أقوال:
أ. الأول: قال ابن عباس كان ذلك في الحجاج بين ابن صوريا اليهودي وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما لزمته الحجة قال من يأتيك؟ قال جبريل، قال إنه ينزل بالعذاب والشدة، وهو عدونا، وميكائيل ينزل بالرحمة، وهو صديقنا.
ب. الثاني: قال الشعبي وقتادة وعكرمة والسدي والأصم: كان ذلك في كلام جرى بينهم وبين عمر بن الخطاب، قالوا: من يأتي صاحبكم؟ فقال: جبريل، فقالوا: هو عدونا، وميكائيل ولينا، فقال: من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل، فرجع عمر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد نزلت الآية فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد وافقك ربك يا عمر)
ج. الثالث: قال مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عدونا أُمِرَ أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
د. الرابع: قال بعضهم: كانت اليهود تقول ذلك للمسلمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
6. اختلفوا في سبب العداوة:
أ. قيل: لأنه نزل بالقرآن على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مشتملاً على أخبار اليهود، وفضائحهم، وقتلهم، وأخذ الجزية منهم صغارًا، وإجلائهم.
ب. وقيل: لأنهم قالوا: إنه ينزل بالشدة في العذاب.
ج. وقيل: لأنهم قالوا: إنه غلط في النبوة، عن مقاتل.
د. وقيل: قالوا: وجدنا في كتابنا أن بختنصر سيخرب بيت المقدس فبعثنا من يقتله، وهو صبي ضعيف، فمنعه جبريل، وقال لصاحبنا: إن كان ربكم أذن في خرابه فلن تسلط عليه، وإن لم يأذن فعلى أي وجه تقتله، فتركه صاحبنا ورجع، وكبر بختنصر، وخرب بيت المقدس، عن ابن عباس.
7. رد الله تعالى عليهم ما قالوا ـ في جبريل فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ اليهود ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ يعني فإن جبريل نزل القرآن على قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به يقرأ عليه فيحفظه كأنه نزله على قلبه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: بأمره نزل عليه.
ب. وقيل: بعلمه، ومعناه إن كانت عداوتهم لجبريل؛ لَأَنه ينزل بالقرآن عليه، فإنما نزل بعلمه وأمره.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ :
أ. قيل: جاء على مصداق ما قبله من الكتب.
ب. وقيل: على وفق ما فيه.
ج. وقيل: مصدق لما بين يديه أنه حق.
د. وقيل: يصدقه في التوحيد والعدل، وإن خالفه في الشرائع.
هـ. وقيل: في صفة محمد، وما بين يديه هو التوراة.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُدًى﴾ :
أ. قيل: دلالة وبيانًا، وخص المؤمنين به لاهتدائهم به، ولو كان هدى لغيرهم.
ب. وقيل: رحمة وثوابًا.
11. ﴿وَبُشْرَى﴾ يعني إن كان نزل بالعذاب على الكافرين، فقد نزل بالرحمة والبشرى للمؤمنين ومعنى (وَبُشْرَى) أي يبشرهم بالنعيم الدائم.
12. في هدى، وبشرى وجهان:
أ. الأول: القرآن كأنه قال نزله هدى وبشرى.
ب. الثاني: جبريل هدى وبشرى، أي يأتي بالهدى والبشرى.
13. في الواو في قوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ قولان:
أ. الأول: أنه واو العطف.
ب. الثاني: أنه بمعنى (أو)، يعني من كان عدوا لأحد هَؤُلَاءِ فهو عدو للجميع.
14. ثم بَيَّنَ تعالى أن عداوة جبريل عداوة لله ورسله، فقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ أي معاديًا له:
أ. ولا يصح العداوة مع الله؛ لأنه طلب الإضرار به، وهذا مستحيل عليه، وإنما معناه أنه يفعل فعل المعاداة من المخالفة، والعصيان.
ب. وقيل: المراد معاداة، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾
15. ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ إنما أعاد ذكرهما، وإن دخلا في جملة الملائكة:
أ. تفضيلاً لهما وتفخيمًا لشأنهما، كقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾
ب. وقيل: لأنه أبعد من الشبهة، لئلا يقول أحد: إنهما لم يدخلا في الملائكة الَّذِينَ عناهم الله بهذا القول.
ج. ولأن النزاع جرى فيهما، فكان ذكرهما أهم.
16. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ يعني يفعل بهم فعل المعادي من الإضرار والعقاب الدائم، ومعنى الآية أن من كفر بواحد مما ذكر كان كافرًا بالكل، والله يعاديه ويجازيه.
17. جرى اسم الله، ثم قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ ولم يُكَنِّ، لوجهين:
أ. أحدهما: ليخرج عن حد الاحتمال؛ إذ لو كنى لاحتمل أن يعود إلى جبريل لتقدم ذكره.
ب. الثاني: تأكيدًا.
18. صرح ولم يُكَنِّ في قوله تعالى: ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ وإن جرى ذكرهم لوجهين:
أ. أحدهما: زوال الاحتمال.
ب. الثاني: ليدل أنهم مع عداوته لهم كافرون.
19. في سبب إبجاب عداوة جبريل عداوة الله أقوال:
أ. قيل: كان ينزل العذاب بأمره فمن عاداه بهذا السبب فهو في الحقيقة يعادي الله.
ب. وقيل: لأنه أنزل بالوحي على محمد بأمره تعالى، فإنكاره يوجب العداوة.
ج. وقيل: لأن عداوة جبريل كفر، والكافر عدو لله.
20. سؤال وإشكال: طعن بعض الملحدة في هذا، وقال: كيف يجوز أن يقول عاقل: أنا عدو لجبريل؟ والجواب: الله تعالى إنما حكى ذلك عنهم لفرط جهلهم، وليس للجاهل والجهل غاية، ولا عجب في هذا ممن يعبد عجلاً، ويقول لنبي: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، وفي الآية تسلية للرسول في أنهم إن كذبوا فلا غرو، فقد فعلوا مثل هذه الأفعال، وقالوا مثل هذه الأقوال.
21. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن في اليهود من كان يعتقد عداوة جبريل؛ لأن إظهار النبيّ ذلك وادعاءه عليهم وسكوتهم عن إنكاره دليل على عداوتهم إياه، أما إنكار اليهود ذلك اليوم، فيحتمل:
• أنه كان قول بعضهم.
• أنه جرى في محاجة كما يفعله كثير من المبطلين في ارتكاب الأمر العظيم ليتم ما يرومه من إثبات باطل.
• أنهم تركوا قول سلفهم للتبعة والفضيحة التي فيه، كقولهم: عزير ابن الله.
ب. عظم عداوة جبريل؛ لذلك ذمهم، وألزمهم الكفرِ والعذاب.
ج. أن من عادى واحدًا من الرسل والملائكة فقد عادى الله وجميع ملائكته ورسله، وأن المؤمن من آمن بالجميع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/505.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. جبرئيل وميكائيل اسمان أعجميان عربا، وقيل: جبر، في اللغة السريانية، هو العبد، وإيل هو الله، وميك هو عبيد. فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله. وقال أبو علي الفارسي: هذا لا يستقيم من وجهين:
أ. أحدهما: أن إيل لا يعرف من أسماء الله تعالى في اللغة العربية.
ب. والآخر: أنه لو كان كذلك، لكان آخر الاسم مجروراً أبداً، كقولهم: عبد الله.
2. البشرى والبشارة: الخبر السار أول ما يرد، فيظهر ذلك في بشرة الوجه.
3. أنزل الله تعالى هذه الآية جوابًا لليهود وردًا عليهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ إذا كان هو المنزل للكتاب عليك: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، لا من تلقاء نفسه، وإنما أضافه إلى قلبه؛ لأنه إذا أُنزل عليه كان يحفظه ويفهمه بقلبه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: بأمر الله.
ب. وقيل: أراد بعلمه، أو بإعلام الله إياه ما ينزل على قلبك.
5. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ معناه موافقًا لما بين يديه من الكتب، ومصدقًا له بأنه حق، وبأنه من عند الله، لا مكذبًا لها.
6. ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ معناه: إن كان فيما أنزله الأمر بالحرب والشدة على الكافرين، فإنه هدى وبشرى للمؤمنين، وإنما خُصَّ الهدى بالمؤمنين:
أ. من حيث كانوا هم المهتدين به، العاملين بما فيه، وإن كان هدى لغيرهم أيضًا.
ب. وقيل: أراد بالهدى الرحمة والثواب، فلذلك خصه بالمؤمنين.
7. معنى البشرى أن فيه البشارة لهم بالنعيم الدائم.
8. إن اعتبر قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ حالًا لجبريل، فالمعنى: أنه يصدق بكتب الله الأولى، ويأتي بالهدى والبشرى.
9. إنما قال سبحانه: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ ولم يقل: على قلبي على العرف المألوف؛ كما تقول لمن تخاطبه: لا تقل للقوم إن الخبر عندك، ويجوز أن تقول: لا تقل لهم إن الخبر عندي، وكما تقول: قال القوم جبريل عدونا، ويجوز أن تقول: قالوا جبريل عدوهم.
10. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ﴾، معناه:
أ. قيل: من كان معاديًا لله، أي يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان، فإن حقيقة العداوة طلب الإضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى.
ب. وقيل: المراد به معاداة أوليائه، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾
11. ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾، أي ومعاديًا لملائكته، ﴿وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾، وإنما أعاد ذكرهما:
أ. لفضلهما ومنزلتهما، كقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾
ب. وقيل: إنما أعاد ذكرهما لأن اليهود قالت: جبريل عدونا وميكائيل ولينا، فخصهما الله بالذكر لأن النزاع جرى فيهما، فكان ذكرهما أهم.
ج. ولئلا تزعم اليهود أنهما مخصوصان من جملة الملائكة، وليسا بداخلين في جملتهم، فنص الله تعالى عليهما ليبطل ما يتأولونه من التخصيص.
12. قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل: فإنه، وكرر اسم الله لئلا يُظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل أو ميكائيل. ولم يقل: لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.
13. 14. سؤال وإشكال: طعن بعض الملحدة في هذا، فقال: كيف يجوز أن يقول عاقل: أنا عدو جبريل؟ والجواب: ليس هذا القول من اليهود بمستنكر، ولا عجب مع ما أخبر الله تعالى عن قولهم بعد مشاهدتهم فلق البحر والآيات الخارقة للعادة: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، وقولهم: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾، وعبادتهم العجل وغير ذلك من جهالاتهم.
15. مسائل نحوية:
أ. جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدوا لجبرائيل فليمت غيظا، فإنه نزل الوحي على قلبك بإذن الله، والهاء في قوله ﴿فَإِنَّهُ﴾ تعود إلى جبريل، والهاء في ﴿نَزَّلَهُ﴾ تعود إلى القرآن، وإن لم يجر له ذكر، كما أن الهاء في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ تعود إلى الأرض، ويجوز أن يكون على معنى جبرئيل، وتقديره فإن الله نزل جبريل على قلبك، لا أنه نزل بنفسه، والأول أصح.
ب. نصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ على الحال من الهاء في ﴿نَزَّلَهُ﴾، وهو ضمير القرآن، أو جبريل عليه السلام.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/325.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في جبريل إحدى عشرة لغة:
أ. إحداها: جبريل، بكسر الجيم والراء من غير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، قال ورقة بن نوفل:
وجبريل يأتيه وميكال معهما... من الله وحي يشرح الصّدر منزل
وقال عمران بن حطّان:
والرّوح جبريل فيهم لا كفاء له... وكان جبريل عند الله مأمونا
وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا... وروح القدس ليس له كفاء
ب. الثانية: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن: فعليل، وبها قرأ الحسن البصريّ، وابن كثير، وابن محيصن، وقال الفرّاء: لا أشتهيها، لأنه ليس في الكلام فعليل، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب، لأنه اسم أعجميّ.
ج. الثالثة: (جبرئيل): بفتح الجيم والراء، وبعدها همزة مكسورة على وزن: جبرعيل، وبها قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائيّ، قال الفرّاء: وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وقال الزّجّاج: هي أجود اللغات، وقال جرير:
عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد... وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا
د. الرابعة: جبرئل، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام، مكسورة من غير مدّ على وزن جبرعل، رواها أبو بكر عن عاصم.
هـ. الخامسة: (جبرئلّ) بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام، وهي قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر.
و. السادسة: جبرائيل، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف.
ز. السابعة: جبراييل بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة.
ح. الثامنة: جبرين، بفتح الجيم ونون مكان اللام.
ط. التاسعة: جبرين، بكسر الجيم وبنون، قال الفرّاء: هي لغة بني أسد، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ عن ابن الأنباريّ قال في جبريل تسع لغات، فذكرهنّ.
ي. العاشرة: ذكر ابن الأنباريّ في كتاب (الردّ على من خالف مصحف عثمان): (جبرائل)، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء.
ك. وذكر: جبرئين، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون.
2. في ميكائيل خمس لغات:
أ. إحداهن: (ميكال)، مثل: مفعال بغير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم.
ب. الثانية: (ميكائيل) بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة، مثل: ميكاعيل، وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وبها قرأ ابن عامر، وابن كثير، وحمزة، والكسائيّ، وأبو بكر عن عاصم.
ج. الثالثة: (ميكائل) بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء، مثل ميكاعل، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ، وابن الصّباح، جميعا عن قنبل.
د. الرابعة: (ميكئل)، على وزن ميكعل، وبها قرأ ابن محيصن.
هـ. الخامسة: (ميكائين) بهمزة معها ياء ونون بعد الألف، ذكرها ابن الأنباريّ.
3. قال الكسائيّ: جبريل وميكائيل، اسمان لم تكن العرب تعرفهما، فلما جاءا عرّبتهما، قال ابن عباس: جبريل وميكائيل، كقوله: عبد الله، وعبد الرحمن، ذهب إلى أن (إيل) اسم الله، واسم الملك (جبر) و(ميكا)، وقال عكرمة: معنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله.
4. دخل جبريل وميكائيل في الملائكة، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما، كقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾
5. إنما قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل: لهم، ليدلّ على أنهم كافرون بهذه العداوة.
__________
(1) زاد المسير: 1/91.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا النوع أيضاً من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة، فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أموراً:
أ. أحدها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) قال صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر، فمن المرأة فقال صدقت، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له، قال صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب، وهو لحمان الإبل وألبانها؟ فقالوا: نعم، فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، أي ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال جبريل: قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك، فقال عمر: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا: مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له: بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالًا فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس، فلا فائدة في قتله، ثم إنه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا، فلذلك نتخذه عدواً، وأما ميكائيل فإنه عدو جبريل فقال عمر، فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عاداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.
ب. ثانيها: روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك، فقال: والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدونا يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: أقرب منزلة، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدواً لجبريل فقال عمر: لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدو لأحدهما كان عدواً للآخر، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد وافقك ربك يا عمر) قال عمر: لقد رأيتني في دين بعد ذلك أصلب من الحجر.
ج. ثالثها: قال مقاتل زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا، أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات.
2. من دلائل فساد قولهم:
أ. أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال: إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله، فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
ب. أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود، فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نقرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه، ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
3. من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود: إن جبريل عدوهم قالوا: لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك، مصرين على أن أحداً من سلفهم لم يقل بذلك، وهذا باطل لأن حكاية الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً، وهم الذين قالوا: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138]
4. قال بعضهم: جبريل معناه عبد الله، ف (جبر) عبد و(إيل) الله: وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم، قال أبو علي السوسي: هذا لا يصح لوجهين:
أ. أحدهما: أنه لا يعرف من أسماء الله (أيل)
ب. الثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً.
5. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ﴾ وفي قوله: ﴿نَزَّلَهُ﴾ في قوله: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ :
أ. قيل: أن الهاء الأولى تعود على جبريل، والثانية: على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: 45] يعني على الأرض، وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم، أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن، فإنما ينزله بإذن الله، قال الزمخشري: إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته.
ب. وقيل: المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه.
6. سؤال وإشكال: القرآن: إنما نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فما السبب في قوله نزله على قلبك؟ والجواب: أكثر الأمة على أن الله تعالى أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظاً جاز أن يقال: نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه.
7. سؤال وإشكال: كان حق الكلام أن يقال على قلبي، والجواب: جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي، من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك.
8. سؤال وإشكال: كيف استقام قوله: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ جزاء للشرط؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. الأول: أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكوراً فكيف تليق به العداوة.
ب. الثاني: أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك، لأنه نزل عليك الكتاب برهاناً على نبوتك، ومصداقاً لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه.
9. الأظهر أن معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه:
أ. أولها: أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم، واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
ب. ثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر، لا من العلم.
ج. ثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة.
10. قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ محمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب دون كتاب، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. سؤال وإشكال: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب، فلم صار بأن يكون مصدقاً لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها؟ والجواب: الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع.
12. قوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى﴾ المراد به أن القرآن مشتمل على أمرين:
أ. أحدهما: بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى.
ب. ثانيهما: بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدماً على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى.
13. سؤال وإشكال: لم خص الله تعالى القرآن الكريم بكونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
ب. الثاني: أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به.
14. لما بين الله تعالى في الآية الأولى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد، وجب أن يكون عدواً لله تعالى، بين في هذه الآية: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ أن من كان عدواً لله كان عدواً له، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه.
15. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله، ومن حق العداوة الإضرار بالعدو، وذلك محال على الله تعالى؟ والجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا، لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وذلك محال على الله تعالى، بل المراد منه أحد وجهين:
أ. إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة لله كقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: 33]، وكقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: 57]، لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه.
ب. وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن التمسك بذلك، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.
16. عداوتهم لجبريل والرسل صحيحة لأن الإضرار جائز عليهم، لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم.
17. سؤال وإشكال: لما ذكر الملائكة، لم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة؟ والجواب: لوجهين:
أ. الأول: أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة.
ب. الثاني: أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على اسميهما.
18. هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وإلا لم يصح هذا التأويل، وإذا ثبت هذا فإنه يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل عليه السلام لوجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً، فوجب أن يكون مستقبحاً شرعاً لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)
ب. ثانيها: أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.
ج. ثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل: ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 21] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه.
19. اختلف في الواو في جبريل وميكال:
أ. قيل: واو العطف.
ب. وقيل: بمعنى أو يعني من كان عدواً لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين.
20. ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/611.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ الضمير في (إنه) يحتمل معنيين:
أ. الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك.
ب. الثاني: فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك.
2. خص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف.
3. دلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه.
4. قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بإرادته وعلمه.
5. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يعني التوراة.
6. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ شرط، وجوابه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته، ومعادات أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه.
7. خص الله جبريل وميكائيل بالذكر، وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما:
أ. قيل: تشريفا لهما، كما قال: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾
ب. وقيل: خصا لان اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.
8. لعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات(2).
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/37.
(2) هي نفس اللغات التي ذكرها ابن الجوزي، تفسير القرطبي: 2/38.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية قد أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود، قال ابن جرير الطبري: وأجمع أهل التأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل وليّ لهم، ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك؟ فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمر نبوّته، ثم ذكر روايات في ذلك.
2. الضمير في قوله: ﴿فَإِنَّهُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. الأول أن يكون لله، ويكون الضمير في قوله: ﴿نَزَّلَهُ﴾ لجبريل، أي: فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك، وفيه ضعف كما يفيده قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾
ب. الثاني أنه لجبريل، والضمير في ﴿نَزَّلَهُ﴾ للقرآن، أي: فإن جبريل نزّل القرآن على قلبك.
3. خصّ القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم.
4. وقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله، و ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ هو التوراة كما سلف، أو جميع الكتب المنزلة.
5. في هذا دليل على شرف جبريل وارتفاع منزلته، وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له، حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك، أو من تنزيل الله له على قلبك، وهذا هو وجه الربط بين الشرط والجواب، أي:
أ. من كان معاديا لجبريل منهم، فلا وجه لمعاداته له، فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبّة دون العداوة.
ب. أو من كان معاديا له، فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل، وليس ذلك بذنب له وإن نزهوه، فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم وعدوان، لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو مصدق لكتابهم، وهدى وبشرى للمؤمنين.
6. ثم أتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط وجزاء، يتضمن الذمّ لمن عادى جبريل بذلك السبب والوعيد الشديد له، فقال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ :
أ. والعداوة من العبد: هي صدور المعاصي منه لله والبغض لأوليائه.
ب. والعداوة من الله للعبد: هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة له.
7. إنما خصّ جبريل وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما، والدلالة على فضلهما، وأنهما وإن كانا من الملائكة، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة، تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، كما ذكره صاحب الكشاف، وقرّره علماء البيان.
8. في جبريل عشر لغات ذكرها ابن جرير الطبري وغيره، وفي ميكائيل ست لغات، وهما اسمان عجميان، والعرب إذا نطقت بالعجمي تساهلت فيه، وحكى الزمخشري عن ابن جني أنه قال: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.
9. قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر؛ أي: فإن الله عدوّ لهم، لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من وقعت منه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/137.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال عبد الله بن صوريا ـ حَبر من اليهود ـ للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أيُّ ملَكٍ يأتيك من السماء؟) قال: (جبريل)، قال: (هو عدوُّنا، ينزل بالعذاب والشدَّة والخسف، عادانا مرارا، لو كان ميكائيل لآمنَّا بك)، وقيل: سأل عبد الله بن صوريا عمرَ: (من يأتي محمَّدا من السماء؟) فقال: (جبريل)، فقال: (هو عدوُّنا..) إلخ، وقيل: كان لعمر أرض بأعلى المدينة، ويمرُّ على اليهود في مدارسهم، ويجلس إليهم، ويسألهم، ويسمع كلامهم، فقالوا: (ما في أصحاب محمَّد أحبُّ إلينا منك، وإنَّا نطمع فيك)، فقال: (والله ما آتيتكم لحبِيِّكم، ولا لأنِّي شاكٌّ في ديني، بل لأزداد بصيرة في أمر محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأرى أثره في كتابكم)، فقالوا: (من يأتيه من السماء؟) قال: (جبريل)، قالوا: (هو عدوُّنا، يُطلع محمَّدا على سرِّنا، وهو صاحب عذاب وخسف وشدَّة؛ وإنَّ ميكائيل يأتي بالخصب والسلامة، ولو كان يأتيه هو لآمنَّا، وإنَّ محمَّدا رسول الله، وإنَّ بين جبريل وميكائيل عداوة)، وقال عمر: (أشهد أنَّهما سِلمٌ، ومع الله سِلمٌ، ومن عادى جبريل فهو حربٌ لله ولميكائيل، ولأنتم أكفرُ من الحمير) ـ أي: أجهل ـ ، وقيل: سألهم عمر عن جبريل فقالوا: (يأتي بالشرِّ، ولو كان يأتي محمَّدا ميكائيل لآمنَّا به)، وعن عبد الله بن صوريا: (عادانا مرارا، أشدُّها: أنَّ نبيئنا بعث من يقتل بخت نصر، وهو طفل؛ لأنَّه يخرب بيت المقدس، فردَّه، فقال: إن قضى الله تعالى خرابه لم تقتلوه، وإلَّا فلمَ تقتلونه؟ فرجع فكَبُر بخت نصر فخربه).
2. وعلى كلِّ حالٍ نزل في ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبرِيلَ﴾، و(جبريل) عَلَم عجميٌّ، وزعم بعض أنَّه عَلَمٌ عربيٌّ مركَّب من جبروت الله، وفيه أنَّه لو كان كذلك لورد فيه وجهان آخران: البناء، وإضافة الجزء الأوَّل للثاني، كنظائره، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر ـ وقد سبقه الوحي ـ : (لقد وافقكَ ربُّك يا عمر) قال عمر: (لقد كنتُ بعد ذلك أَصلَبَ من الحديد)، والمعنى من كان عدوًّا لجبريل لمجيئه بالعذاب والقرآن الفاضح لهم، فهو عدوٌّ لله؛ لأنَّه هو الذي أرسله؛ أو فلْيَمُت غيظًا؛ أو فلا وجه لعداوته؛ أو فلِعداوته وجهٌ هو أنَّه نزَّله على قلبك، كقولك: (إن عاداك فقد آذيته أمس) وناب عن الجواب علَّته، وهو قوله: ﴿فَإِنَّهُ﴾ أي: جبريل، أو الشأن، أو الله لأنَّه ﴿نَزَّلَهُ﴾ أي: القرآنَ المستتر في (نَزَّلَ) لجبريل، أو لله تعالى ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ مقتضى الظاهر: (على قلبي) لقوله: ﴿قُلْ﴾، لكن قال: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾؛ لأنَّ المعنى: قل ذلك لأنَّه نزل على قلبك، وقيل: التقدير: قال الله: مَن كَانَ.. إلخ، ولم يقل: عَلَيَّ، أو عليك تصريحا بالقلب الذي هو محلُّ النزول، وبيتٌ لوحي الله والفهم والحفظ.
3. ولا يجوز أن يكون: ﴿فَإِنَّهُ﴾ تعليلا لما قبله، ويقدَّر الجواب: فليمت غيظا، أو فالله عدوُّه؛ لأنَّ فاء التعليل عاطفة على جملة، ولا يصحُّ العطف على ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ﴾، ولو صحَّ معنًى قولُك: (لأنَّهُ نَزَّلَه..) إلخ.
4. ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ بأمره في صورة القول وتيسيره في صورة الفعل، وأصل الإذن الإباحة، والعلاقة اللزوم ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من هاء (نَزَّلَهُ) العائدة إلى القرآن، أو من ضمير (نَزَّلَ)، ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من كتب الله التوراة وغيرها، والموجود هو بين اليدين، وَأَمَّا ما سيوجد فهو مفقود لا يصحُّ أنَّه موجود بين اليدين، ويصحُّ بمعنى أنَّه مستقبل ﴿وَهُدًى﴾ من الوقوف لعدم العلم، ومن العمل بغير علم، وهذا في غير هذا المحلِّ ﴿وَبُشْرَى﴾ بالجنَّة، ذا هدى، وتبشيرا، وهاديا ومبشِّرًا، أو مبالغة، ﴿لِلمُومِنينَ﴾.
5. ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلـهِ﴾ بأن قال: إنِّي عدوٌّ له، أو بمخالفته ﴿وَمَلَآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَآئِلَ﴾ خصَّهما بالذكر لأنَّ الكلام في عداوتهم جبريل ومصادقتهم لميكائيل، فصرَّح لهم بأنَّ ميكائيل قد عادوه أيضا، لمخالفتهم جبريل وما نزل به من الوحي، ولأنَّ جبريل يجيء بالوحي الذي هو حياة للقلوب، وميكائيل يجيء بالأرزاق التي هي حياة الأبدان، ولأنَّهم قالوا: بين جبريل وميكائيل عداوة، ورواية أنَّ عمر نطق بهذه الآية قبل نزولها ضعيفة، وجبريل أفضل الملائكة؛ لأنَّه رسول الله إلى الأنبياء بالكتب والدين، ولأنَّه ينصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمَّته ويحبُّهم، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (جبريل أفضل الملائكة).
6. ﴿فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلكَافِرينَ﴾ أي: لليهود، لكفرهم؛ ولهذا لم يقل: عدوٌّ لهم، وهكذا أمثاله في سائر القرآن ولو لم أنبِّه عليه من وضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنَّ تعليق الحكم بالمشتقِّ يؤذن بكونه علَّة للحكم، والآية دلَّت أنَّه من عادى ملَكا كجبريل فقد عادى الآخَرين أيضا، كميكائيل.
7. وقد جمع الملائكةَ جميعا والرسلَ ليفيد أنَّ من عادى واحدا من جمع الملائكة فقد عادى الآخر، ومن عادى واحدا من الأنبياء كمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد عادى الأنبياء كلَّهم عليهم السلام؛ وَأَمَّا ما روي أنَّ عبد الله بن سلَّام قال: (أسألك عن ثلاثة لا يعلمهنَّ إلَّا نبيءٌ: أوَّل أشراط الساعة، وأوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة، وما ينزع الولد لأبيه أو أمِّه) فقال: (أتاني بهنَّ جبريل آنفا) فقال: (هو عدوُّ اليهود) فقد أنزلت قبله، ولكن قرأها عليه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/172.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره، ومرجعها واحد، فإن قيل: بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف، فالجواب: لا منافاة، لأن قراءته صلّى الله عليه وآله وسلّم لها في محاورة عبد الله بن سلام، ردّا لقول اليهود، لا يستلزم نزولها حينئذ، فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات، فإن طرقها يقوي بعضها بعضا، وكأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قال له عبد الله بن سلام: إن جبريل عدو لليهود، تلا عليه الآية، مذكّرا له سبب نزولها، كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح، وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ في (الإتقان) حيث قال (تنبيه) قد يكون في إحدى القصتين، (فتلا) فيهم الراوي، فيقول (فينزل)، وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه (أصول التفسير) وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها.. فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا، وللقصص المتعددة هنالك سعة، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية.
2. ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ تعليل لجواب الشرط قائم مقامه، والبارز الأول لجبريل عليه السلام، والثاني للقرآن، أضمر من غير سبق ذكر، إيذانا بفخامة شأنه، واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته، لا سيما عند ذكر شيء من صفاته.
3. ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحي، فإنه القابل الأول له، إن أريد به الروح، ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو، وهذا كقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193 ـ 194]، وكان حق الكلام أن يقال (على قلبي) لأنه المطابق لقل، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله، وأنه أمر بإبلاغه.
4. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بأمره، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة، ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44] الآية، وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82]، وفيه رد على اليهود، حيث قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة، فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا.
5. سؤال وإشكال: من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب، فكيف استقام قوله ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ جزاء للشرط؟ والجواب:
أ. قيل: قوله ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ تعليل لجواب الشرط، والمعنى: من عادى جبريل من أهل الكتاب، فلا وجه لمعاداته، بل يجب عليه محبته، فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه، في إنزاله ما ينفعهم، ويصحح المنزل عليهم.
ب. وقيل: الجواب محذوف تقديره (فليمت غيظا)، وعليه فلا يكون ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ نائبا عنه، ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرا عن قوله ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة، كأنه قيل: من عاداه، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا.. قال الرضى: كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام، قال الله تعالى ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [الحجر: 34]..
ج. وقيل: تقديره: فهو عدو لي وأنا عدوه، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر.
6. أفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه، وقد روى البخاريّ في صحيحه، عن أبي هريرة حديثا قدسيا (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)
7. صدّر الكلام بذكر الجليل تفخيما لشأنهم، وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا، وقدم الملائكة على الرسل، كما قدم الله على الجميع، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي، ونزوله بتنزيل الملائكة، وتنزيلهم لها بأمر الله، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب.
8. إنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما، والدلالة على فضلهما، وإنهما، وإن كانا من الملائكة، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة، تنزيلا للتغاير الوصفيّ، منزلة التغاير الذاتيّ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما.
9. وضع ﴿الْكَافِرِينَ﴾ موضع ﴿لَهُمْ﴾، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/357.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلام متصل بما قبله من ذكر تعلات اليهود، واعتذارهم عن الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به من البينات والهدى ـ زعموا أنهم مؤمنون بكتاب لا حاجة لهم بهداية في غيره، فاحتج عليهم بما ينقض دعواهم، وزعموا أنهم ناجحون في الآخرة على كل حال لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل زعمهم، ثم ذكر لهم تعلة أخرى أغرب مما سبقها، وفندها كما فند ما قبلها، وهى أن جبريل الذي ينزل بالوحى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عدوهم فلا يؤمنون بوحى يجيء هو به.
2. جاء في أسباب النزول روايات عنهم في ذلك، منها أن عبد الله بن صوريا من علمائهم سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحى؟ فقال: هو جبريل، فزعم أنه عدو اليهود، وذكر من عداوته أنه أنذرهم خراب بيت المقدس، فكان، ومنها أن عمر بن عبد الخطاب دخل مدراسهم فذكر جبريل، فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلم.. وهذا القول هراء، وخطله بين، وإنما عنى القرآن بذكره ورده لأنه مؤذن بتعنتهم وعنادهم، وشاهد على فساد تصورهم وعدم تدبرهم، ليعلم الذين كانوا ينتظرون ما يقول أهل الكتاب فيه أنه لا قيمة لأقوالهم، ولا اعتداد بمرائهم وجدالهم.
3. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي قل لهم أيها الرسول حكاية عن الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ﴾ شأن جبريل كذا، فهو إذا عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها ولهداية الله تعالى لخلقه وبشراه للمؤمنين.
4. ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تقييد تنزيله باذن الله، وإذا كان يناحى روحك، ويخاطب قلبك باذن الله، لا افتياتا من نفسه، فعداوته لا يصح أن تصد عن الإيمان بك، وليس للعاقل أن يتخذها تعلة وينتحلها عذرا، فان القرآن من عند الله لا من عنده، فقوله ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ حجة أولى عليهم.
5. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجيء من أبناء إسماعيل، كأنه يقول: فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة، لا لأن جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله.
6. وهذه حجة ثانية ثم عزرهما بثالثة وهى قوله ﴿وَهُدًى﴾ أي نزله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، فألقت أهلها في حضيض الهوان، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه، وتنقذه من ضلال هو فيه، لأن الواسطة في مجيئها كان عدوا له من قبل، فإن هذا الرفض من عمل الغبي الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته، وإنما يعرفه بمن كان سببا في حصوله.
7. ثم أيد الحجج الثلاث برابعة فقال: ﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، أي إذا كنتم تعادون جبريل لأنه أنذر بخراب بيت المقدس، فهو إنما أنذر المفسدين، وقد أنزل هذا القرآن علىّ بشرى للمؤمنين، فما لكم أن تتركوا هذه البشرى إن كنتم من أهل الإيمان، لأن الذي نزل بها قد نزل بانذار أهل الفساد والطغيان.
8. قوله ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ ورد على طريق الالتفات عن التكلم إلى الخطاب إذ كان مقتضى السياق أن يقول: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾، وقد قالوا في نكتته: إنها حكاية ما خاطبه الله تعالى به، ولا أرى صاحب الذوق السليم إلا مستنكرا صيغة التكلم في هذا المقام؛ والعلة في ذلك لا تبعد عن الأفهام.
9. الضمير المنصوب البارز في ﴿نَزَّلَهُ﴾ للقرآن وهو لم يذكر فيما قبلها، وإنما عينته قرينة الحال، وذلك يدل على فخامة شأنه، كأنه لشهرته قد استغنى عن ذكره.
10. أقام الله تعالى الحجج على حماقتهم وسخفهم في دعوى عداوة جبريل، وبيان أنها لا يصح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله بتلك الصفات التي طويت فيها الحجج، ثم بين في آية أخرى حقيقة حالهم في هذه العداوة فقال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ بكفره بما ينزله من الهداية ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ برفض الحق والخير الذي فطروا عليه وكراهة القيام بما يعهد به إليهم ربهم عز وجل، لأنهم ﴿ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ وَرُسُلِهِ ﴾ بتكذيب بعض وقتل بعض ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ بأن الأول ينزل بالآيات والنذر، ومن كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكال لأن فطرتهما واحدة وحقيقتهما واحدة من مقتها وعاداها في أحدهما فقد عاداها في الآخر.
11. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي من عادى الله، وعادى هؤلاء المقربين من الله الذين جعلهم رحمة لخلقه فان الله عدو له، لأنه كافر بالله ومعاد له، والله عدو للكافرين أي يعاملهم معاملة الاعداء للأعداء، وهم الظالمون لأنفسهم إذ دعاهم فلم يقبلوا أن يكونوا مع الأولياء.. وهذا وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاؤوا بها، وهم لم يدعو عداوة هؤلاء كلهم، ولكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع، وهى أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله وينقله ويدعو إليه:
أ. فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكال الذي يزعمون أنهم يحبونه، وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي لو كان هو الذي ينزل بالوحى عليه.
ب. ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب الالهية، لأن الغرض من الجميع واحد.
ج. ومعاداة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كمعاداة سائر رسل الله لأن وظيفتهم واحدة.
فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إبجاز القرآن التي انفرد بها.
12. في قوله تعالى ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ وضع للمظهر في موضع المضمر لبيان أن سبب عداوته تعالى لهم هو الكفر، فان الله لا يعادى قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو
13. عذاب الله وانتقامه من الكفرة الفجرة لا يشبه انتقام ملوك الدنيا وزعمائها، وإنما قضت سنته تعالى بأن يكون لكل عمل يعمله الانسان في ظاهره أو في نفسه وضميره أثرا في نفس العامل يزكيها ويدسيها وسعادة الانسان في الآخرة أو شقاؤه تابع لآثار اعتقاداته وأعماله في نفسه، ولذلك قال تعالى ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/393.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
2. هنا ذكر تعلّة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفنّدها كما فنّد ما قبلها، تلك هي قولهم: إن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحى عدوهم، فلا يؤمنون بما يجيء به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
3. لا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون.
4. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل، فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك، أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها، ولهدى الله لخلقه، ولبشراه للمؤمنين، وقوله: بإذن الله يرشد إلى أن مناجاته لروحك ومخاطبته قلبك، إنما كان بأمر الله لا افتياتا منه، فعداوته لا تمنع من الإيمان بك، ولا تصلح أن تكون عذرا لهم، إذ القرآن من عند الله لا من عنده.
5. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم، ﴿وَهُدًى﴾ أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، ﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين.. وكل هذه حجج أقامها لبيان سخفهم وكمال حمقهم، وللإرشاد إلى أنها لا تصلح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله جامع لكل هذه الصفات الشريفة.
6. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله ﴿وَمَلَائِكَتَهُ﴾ بكراهة العمل بما يعهد به إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس، ﴿وَرُسُلِهِ﴾ بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها، أو بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى، ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ بادّعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عنده، فالله عدوّ له، لأنه كافر به ومعاد له، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب.
7. في هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريح بأنهم أعداء الحق وأعداء كل من يدعو إليه، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب السماوية، لأن المقصد من الجميع واحد وهو هداية الناس وإرشادهم إلى سبل الخير، ومعاداة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كمعاداة سائر الأنبياء، لأن رسالتهم واحدة والمقصد منها متحد.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/176.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون ـ وكانوا ـ كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل ـ قد فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم، فقالوا: إنهم على صداقة مع ميكائيل أما مع جبريل فلا!
2. لذلك جمعت الآية جبريل وميكال وملائكة الله ورسله، لبيان وحدة الجميع، ولإعلان أن من عادى أحدا منهم فقد عاداهم جميعا، وعادى الله سبحانه، فعاداه الله، فهو من الكافرين: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/94.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. انظر إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ حيث الشرط الذي يفيد العموم، وهو يراد به بنو إسرائيل خاصة.. وفى هذا ما ينادى بأن هؤلاء القوم لا يحتاجون في هذا المقام إلى وصف أو تخصيص، فإذا ذكرت فعلة شنعاء دون متعلّق لها، فإنها لا تعلق إلا بهم، ولا تأخذ إلا بمخانقهم، من دون الناس جميعا، وإذا أطلقت صفة ذميمة على عمومها، فإنها تحوّم وتحوّم، ثم لا تسقط إلا على رؤوسهم هم أولا.
2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ توكيد لتمكن القرآن الكريم من كيان الرسول، وأنه تلقاه سماعا من الوحى، فإن هذا السماع ينفذ إلى القلب، ويستقر فيه، وحتى لكأن القلب هو الأذن التي تلقّت كلمات الله! أو لكأن الأذن هي قلب، في الحفظ والوعى لما تسمع!
3. تعلق بعض المفسرين بظاهر اللفظ في قوله تعالى: ﴿نَزَّلَهُ﴾ ففهم أن الوحى لم يكن من لفظ مسموع يلقيه جبريل إلى النبيّ الكريم، وإنما كان إلهاما يجده الرسول في قلبه، فيتحدث به لسانه، واستند أصحاب هذا الرأي إلى قوله تعالى للنبي الكريم، في آية أخرى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾، فقالوا: إن النبيّ كان حين يلقى إليه الوحى على هيئة خواطر في قلبه، يبادر فيشكّلها كلمات يجريها على لسانه في عجلة، مخافة أن تفلت منه، أو تتغير هيئتها! وهذا الرأي قد فتح للمستشرقين وغيرهم بابا للقول، بأن القرآن في هيئته اللفظية، ليس كلام الله، وإنما هو من صياغة (محمد)، حيث كان يصوغ الخواطر التي يتلقاها من الوحى، في الصورة اللفظية المناسبة، ولهذا ـ كما يقولون ـ جاء القرآن أنماطا مختلفة من الأساليب، بعضها ممتد النفس، هادئ، ليّن، وبعضها متقطع الأنفاس، صارخ عنيف.. وذلك حسب حال النبيّ وما تثيره الخواطر المتنزلة عليه.. وعلى عكس هذا لو كان القرآن لفظا ومعنى من عند الله، فإنه يكون نمطا واحدا، لا يتأثر بالعوامل النفسية الإنسانية، التي يكون عليها النبيّ حين يتصل بالوحى.. وهذا جهل أو تجاهل، بالحق الواضح، إذ أن كلام الله الذي يخاطب به عباده، إنما يبلغ آثاره فيهم، إذا جاء على أنماط كلامهم، وجرى على أساليب بيانهم، فلان في مواضع اللّين، واشتدّ في أحوال الشدة، وهذا ما عبر عنه علماء البلاغة في وصفهم للكلام البليغ، بأنه: المطابق لمقتضى الحال، وهذا القول إنما يقوله من المستشرقين من يسلّمون لمحمد بالنبوة والرسالة، أما من لا يؤمنون بالوحى، ولا يعتقدون في الرسالات السماوية؛ فيقولون: إن القرآن ـ لفظا ومعنى ـ هو من عمل محمد!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/114.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. العدو المبغض وهو مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فعول.
2. جبريل: اسم عبراني للملك المرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين، وفيه لغات(2)... وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إيل:
أ. أما كلمة جبر فمعناه عند الجمهور نقلا عن العبرانية أنها بمعنى عبد، والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة.
ب. أما كلمة إيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى.
3. ذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور، فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها، وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح، وهي المعروفة (برسالة الغفران)، فقال: (قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل، وهو في كل الخيرات سبيل أنّ في مسكني حماطة)، أي قد علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه، أي اسمه جبر يريد بذلك القسم، وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة.
4. عداوة اليهود لجبريل نشأت:
أ. قيل: من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد.
5. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ شرط عام مراد به خاص وهم اليهود، قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر، وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل، ففي البخاري عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في أرض يخترف فأتى النبي فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيء، فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال) الحديث، وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم، وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل.
6. من عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله، ويبغضونه، وهذا من أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظاهر آرائهم على الخطأ والأوهام.
7. ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، الضمير المنصوب بـ ﴿نَزَّلَهُ﴾ عائد للقرآن:
أ. إما لأنه تقدم في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: 91]
ب. وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ [ص: 32]، ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ [الواقعة: 83]
8. ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، هذه الجملة:
أ. قائمة مقام جواب الشرط لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن، فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى، فالتقدير من كان عدوا لجبريل فلا يعاده، وليعاد الله تعالى، وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وأظهر ارتباطا بقوله بعد ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ﴾
ب. ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك... فليأت ساحتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه... بالليل قبل تبلج الإسفار
أي فلا يسر بمقتله، فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح، فإن قاتله من أولياء من كان مسرورا بمقتله.
ج. ويجوز أن يكون المراد: فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم، وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به، فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به، فالتقدير: فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف.
9. الإتيان بحرف التوكيد في قوله: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ لأنهم منكرون ذلك.
10. القلب هنا: بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: 37] كما يطلقونه أيضا على العضو الباطني الصنوبري كما قال كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا.
11. ﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من الضمير المنصوب في ﴿نَزَّلَهُ﴾ أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل، أي أنزله مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل، والمصدق المخبر بصدق أحد، وأدخلت لام التقوية على مفعول ﴿مُصَدِّقًا﴾ للدلالة على تقوية ذلك التصديق، أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة، فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة.
12. تصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق، لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاؤوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين، فلا يسعهم تصديقهم، ولذا حذّر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة، كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل.
13. المراد بما بين يديه ما سبقه، وهو كناية عن السبق، لأن السابق يجيء قبل المسبوق، ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن، ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن، فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا.
14. الهدى: وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به، والبشرى: الإخبار بحصول أمر سار، أو بترقب حصوله، فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
15. حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن، وهي:
أ. أنه منزل من عند الله بإذن الله.
ب. وبأنه منزل على قلب الرسول.
ج. وأنه مصدق لما سبقه من الكتب.
د. وأنه هاد أبلغ هدى.
هـ. وأنه بشرى للمؤمنين.
الثناء على القرآن بكرم الأصل، وكرم المقر، وكرم الفئة، ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرا عاجلا، وواعد لهم بعاقبة الخير، وهذه خصال الرجل الكريم محتده وبيته وقومه، السخي بالبذل الواعد به، وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم:
إنّ المساحة والمروءة والنّدى... في قبة ضربت على ابن الحشرج
16. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ : قد ظهر حسن موقعه بما علم من وجه معنى ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول، ورجعت بالأخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه، وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى، فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل، وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له، فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80] فإن ذلك بعيد.
17. أثبت الله تعالى لهم عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل، لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي، وهو تبليغ أمر الله التكليفي، فإن ذلك خصيصتهم، قال تعالى: ﴿وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آئلة إلى عداوة جنس الملائكة، إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد، وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آئلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول، فمن عادى واحدا كان حقيقا بأن يعاديهم كلّهم، وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه.
18. خص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه، وليذكر معه ميكائيل، ولعلهم عادوهما معا، أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب، وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام، وقالوا: نحن نحب ميكائيل، فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله، وأعيد ذكر جبريل للتنويه به، وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته.
19. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ جواب الشرط، والعدو مستعمل في معناه المجازي، وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك، وأنه لا يفلته كما قال النابغة: (فإنك كالليل الذي هو مدركي)، وقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله، ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر، ولم يقل فإني عدو، أو فإنه عدو، لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة: (أمير المؤمنين يأمر بكذا) حثّا على الامتثال.
20. المراد بالكافرين جميع الكافرين، وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل، وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر، ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/603.
(2) ذكر نفس اللغات التي ذكرها ابن الجوزي.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال الطبري في تفسيره: أجمع مفسرو السلف على أن هذه الآية وما بعدها نزلت؛ لأن اليهود يعدون الروح القدس جبريل الأمين عدوا لهم؛ لأنه ينزل بالعذاب والهلاك، وأن ميكائيل وليهم لأنه ينزل بالغيث والرحمة، وتعددت الروايات عن الصحابة في ذلك، وكلها ينته إلى أنهم واجهوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن جبريل، وهو ولى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو عدوهم، وأن ميكائيل وليهم، وأنهم لهذا يفارقون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يتبعونه.
2. لئن صحت هذه الروايات أو بعضها ليكونن مؤداها أنهم يتخذون تعلة لكفرهم سواء أكانت التعلة مقبولة في العقل أو مرذولة، ومهما يكن فقد رد الله تعالى قولهم، وأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يرد قولهم.
3. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي إذا كان جبريل عدوا لكم فأنتم تعادون الله تعالى؛ لأن الله تعالى اختاره رسولا أمينا لنزول القرآن فما نزّل القرآن بغير إذن الله تعالى إنما نزله على قلبك بإذنه سبحانه وتعالى.
4. عبّر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ بكاف الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن يقول قلبي، لبيان أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يحكى قول ربه، ولتأكيد معنى قوله تعالى بإذنه.
5. الضمير الأول فى ﴿فَإِنَّهُ﴾ يعود على جبريل عليه السلام، والضمير الثاني فى ﴿نَزَّلَهُ﴾ يعود على القرآن باعتبار أنه حاضر للذهن؛ لأنه ذكر في السياق في قوله تعالى من قبل: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعين أن الضمير يعود على القرآن الحاضر في الأذهان.
6. مع قبول الروايات التي انتهى المفسر السلفي فيها إلى إجماعهم من أن اليهود كانوا يعدون جبريل عدوا، فإنا نرى من المعاني القرآنية والإشارات البيانية أنهم كانوا يجعلونه عدوا؛ لأنه نزل بالقرآن على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لسفه عقولهم وفساد تفكيرهم، فرد الله عليهم بأنه هو الذي نزل القرآن بإذن الله، فلا محل لعداوته، فعادوا من أنزله، ولكن سوء ظنهم جعلهم يحمّلون جبريل عليه السلام التبعة، وإذا كان نزول القرآن سببا للعداوة، فاتخذوا الله عدوا، ولا غرابة في ذلك ممن اتخذوا العجل وليا لهم.
7. المعنى الذي يفهم من الآية: لقد اتخذتم جبريل عدوا لما انتحلتم من كذب بأنه ينزل بالهلاك أو نحو ذلك، إنما اتخذتموه عدوا؛ لأنه ينزل بالقرآن على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا كان نزول القرآن هو السبب فإنه يكون الله هو العدو، ويكون قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ شرطا، ويكون قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تعليلا لجواب الشرط المحذوف إذ تقديره، فإنه عدو لله تعالى؛ لأنه الذي نزله على قلبك بإذنه.
8. التعبير بـ ﴿قَلْبِكَ﴾ أي أن التنزيل على قلبك للإشارة إلى أن القرآن ينزل على القلب ليحفظ في الصدور، لا أن يكتفى فيه بالسطور؛ لأن السطور يجرى فيها التصحيف والتحريف، أما ما يحفظ في القلب فإنه في أمان لا يجرى فيه تغيير ولا تبديل؛ ولذا قال تعالى في نزول القرآن الكريم وتلقى قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم له، ثم حفظه قلوب الصحابة من بعده، في سورة القيامة: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾
9. هكذا بيّن الله تعالى طريقة نزول القرآن على القلب ليحفظه ويحتويه، ثم يحفظه أصحابه، ثم يتواتر من بعد ذلك محفوظا، وإن كان مع ذلك مكتوبا بأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وصرّح القرآن بأن نزول جبريل به يكون متجها إلى قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في آيات أخرى، فقد قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ .
10. قال الله تعالى في وصف القرآن الكريم الذي نزله بإذن الله جبريل على قلبه بأنه مصدق، وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ والمراد بما بين يديه من الكتب التى أنزلها تعالى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتعبير ببين يديه كناية عن أنه أمامه، فما يكون أمام الإنسان يكون بين يديه سابقا له، فهو مصدق لكل ما اشتملت عليه الكتب السابقة التي لم يجر بها تحريف، ولم ينس فيها حظ مما ذكروا به.
11. كان حقا عليهم ألا يعادوا الملك الذي اتخذه الله تعالى روحا أمينا نزل به، ولكنهم أعداء الحق دائما عادوا موسى وربه إذ كفروا بأنعم الله تعالى.
12. قال تعالى في وصف الكتاب: ﴿وَهُدًى﴾ أي فيه الهداية إلى الحق في ذاته، وفيه البشرى بالنعيم المقيم للمؤمنين الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق إذ جاءه، وهو مع ذلك شفاء للقلوب ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
13. بعد أن بين الله تعالى عداوتهم لجبريل؛ لأنه الروح الأمين الذي نزل بالقرآن، بين سبحانه أنه من كان عدوا لله تعالى وملائكته، وكتبه ورسله، فإن الله عدو للكافرين، وفي هذا النص الكريم إثبات أن من كان عدوا للملائكة أو لواحد منهم، ومن كان عدوا للكتب التي أنزلها التي لم تحرف، والرسل الذين أرسلهم رحمة للعباد، وهداية لهم فهو عدو لله تعالى، وهو كافر، والله تعالى عدو للكافرين.
14. ابتدأ الله تعالى بذكر عداوة الله تعالى فقال: قل يا محمد أيها البشير النذير ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾، فابتدأ سبحانه بلفظ الجلالة الكبير في ذاته خالق الوجود، وخالق الملائكة والجن والإنس، والشمس والقمر والسموات والأرض ابتدأ بذكره جل جلاله لبيان أن من عاداه، فقد تعرض لأعظم نقمة وأشد ضلال وخروج عن الحق، فالابتداء به سبحانه وتعالى لبيان أعظم خطورة يتعرضون لها بجهلهم وفساد نفوسهم وضلال فكرهم.
15. ثنى سبحانه بالملائكة، وأضافهم سبحانه وتعالى إليه للإشارة إلى أن عداوتهم هي عداوة له فهم يعادونه ابتداء بمعاداة ذاته العلية، ثم يعادونه ثانيا بمعاداة ملائكته الذين خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم فى الملكوت.
16. ثم ثلث بكتبه التي أنزلها هداية للناس ورحمة، وشفاء لأدواء الجماعات، ونسبها سبحانه وتعالى إليه إشعارا لهم بأن عداوة هذه الكتب عداوة لله تعالى لأنها هجر لكلامه، ورد لرسالته، وأى ذنب أقبح من عداوة رسالات الله تعالى التي شرفت بإرساله واحتوت على البينات والحكم الباهرة.
17. ثم بين بعد ذلك عداوتهم لرسله الأكرمين، وأنها عداوة لمن أرسلهم، فمن عادى الرسول فقد عادى من أرسله مبشرا ونذيرا، وداعيا إليه وسراجا منيرا.
18. ذكر سبحانه وتعالى عداوة جبريل وميكائيل وخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في عموم الملائكة؛ لأن الله تعالى خصهما بالشرف والتفضيل على غيرهما من الملائكة وهو يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم، ولأن جبريل كان روح القدس الأمين الذي نزلت عن طريقه الرسالات الإلهية على من أرسلهم مبشرين ومنذرين، وأن اليهود حكى عنهم أنهم كانوا يفاضلون بين هذين الملكين الكبيرين، فيعادون جبريل، لأنه ينزل بالقرآن ويوالون ميكائيل؛ لأنه يأتي بالرحمة والغيث، فأشار سبحانه إلى أن عداوة أحدهما عداوة له، ومن عادى جبريل لأنه مكلف بالقيام بأمر من الله تعالى فقد عادى الآخر؛ لأنه قائم بمثل ما قام به.
19. هذا هو فعل الشرط الذي يتضمن عداوة الله وملائكته وكتبه ورسله، وجبريل وميكائيل، وجواب الشرط هو قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ فجزاء هذه العداوة الظالمة، كراهية عادلة، ويتبعها العقاب الشديد.
20. في تقدم الكتب على الرسل، والسياق يسوغ تقديم الرسل على الكتب؛ لأنهم الذين جاؤوا بها، ونزلت عليهم، لأن الكتب هي موضوع الرسالة ولبها، وهى المشتملة على أمر الله تعالى ونهيه وهى خطاب الله تعالى إلى عباده، فقدمت كما يقدم الكتاب الذي تكتبه على الرسول الذي تحمله الكتاب.
21. أظهر الله تعالى في موضع الإضمار فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل لهم، وذلك لبيان أنهم بهذه العداوة قد كفروا وجزاء الكفر العذاب الأليم، فالإضمار كان فيه وصف هو سبب العقاب، وقد جاء في حديث قدسي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلىّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/327.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ أي فهو كافر عليه لعنة الله.. وأجمع أهل التفسير على ان سبب نزول هذه الآية ان اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي؟، فقال: هو جبريل، قالوا: ذاك عدونا، لأنه ينزل بالشدة والحروب، وميكال بالسلام والرخاء، ولو كان ميكال هو الذي يأتيك بالوحي لآمنا بك.
2. لقد جعلوا النزاع في ظاهره أولا حول شخصية محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وانهم يريدون نزول الوحي على واحد من شعب إسرائيل، لا من شعب العرب ـ كما زعموا ـ ولما ألزمهم الله ونبيه بالحجة حوّلوا النزاع الى شخص جبريل، لا محمد.
3. الحقيقة انه لا نزاع على محمد وجبريل، ولا عرب وعروبة، ولا يهود ويهودية، لا شيء أبدا الا مصالحهم الذاتية.. الا الدعارة والخمر والربا والاحتكار.. ولكنهم ينافقون، ويتسترون بالأكاذيب والأباطيل.
4. من باب النقاش والإلزام بالحجة قال سبحانه: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، أي ان عداوتكم لجبريل لا وجه لها، لأنه مجرد أداة وواسطة لتبليغ الوحي من الله الى محمد.. وهذا الوحي يشتمل على تصديق ما تضمنته توراتكم من صفات محمد وعلامات نبوته، وفي الوقت نفسه هو هدى وبشرى للمؤمنين، وعليه يكون معنى عدائكم لجبريل عداء لله وللوحي وللتوراة، ولهدى الله لخلقه، وبشراه للمؤمنين.
5. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، أي ان ما أتى به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يقبل الشك بعد ان اقترن بالحجج والبراهين، ولا ينكره الا كافر بالله، معاند للحق، والمراد بالفسق هنا فسق العقائد، أي الكفر، لا فسق الأفعال الذي يجتمع مع الايمان.
6. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، والعهود التي نبذها ونقضها اليهود كثيرة: منها الايمان بمحمد، ومنها عدم اعانة المشركين عليه، ومنها تصديق الأنبياء وعدم قتلهم، ومنها ان لا يعبدوا الا الله، وغير ذلك.. فكذّبوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأعانوا عليه أهل الشرك أعداءه وأعداءهم، وكذّبوا الأنبياء، وصلبوا السيد المسيح، وعبدوا العجل، وفعلوا الأفاعيل.
7. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، أي ان فريقا منهم عبدوا العجل، وقتلوا الأنبياء، وغير ذلك، والأكثر لم يفعلوا شيئا من هذا النوع، ولكنهم مع ذلك هم الكفرة الفجرة.
8. المبطل يستطيع أن يدعي الحق لنفسه، والمجرم البراءة لها، وأيضا يستطيعان أن يبررا الباطل والجريمة بالأقاويل والأباطيل، ولكن سرعان ما يفتضحان إذا دمغتهما البراهين التي لا مفر منها، ولا ملجأ، كما افتضح اليهود في كذبهم ودعواهم العمل بما أنزل الله عليهم من الوحي والعداء لجبريل.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/157.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾، السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود، وأنهم تابوا واستنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه، والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن، وفي جبريل معا في الآيتين، وما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك.
2. أجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به:
أ. أولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه، فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله.
ب. ثانيا: أن القرآن مصدق لما في أيديهم من الكتاب الحق، ولا معنى للإيمان بأمر والكفر بما يصدقه.
ج. ثالثا، أن القرآن هدى للمؤمنين به.
د. رابعا أنه بشرى، وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية، ويغمض عن البشرى، ولو كان الآتي بذلك عدوا له.
3. أجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل: أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال، وسائر الملائكة، وهم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله، ومن الله سبحانه، فبغضهم واستعدائهم بغض واستعداء لله، ومن كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو لهم، وإلى هذين الجوابين تشير الآيتان.
4. ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب، وكان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ.
5. هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب، واستحقار لشأنه، فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات، للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم، ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.
6. في قوله تعالى: ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ وضع للظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم، كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون والله عدو للكافرين.
7. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ دلالة على علة الكفر، وأنه الفسق، فهم لكفرهم فاسقون، ولا يبعد أن يكون اللام في قوله: ﴿الْفَاسِقُونَ ﴾ للعهد الذكري، ويكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾
8. قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تنام عيناي؛ وقلبي يقظان)، استفاض الحديث من العامة والخاصة أنه كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تنام عينه ولا ينام قلبه، ومعناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه، فكان وهو في النوم يعلم أنه نائم، وأن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، وهذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم واشتغالها بذكر مقام ربهم، وذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحياة الدنيوية، ونحو تعلقها بربها، وهذا نحو مشاهدة يبين للإنسان أنه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط، وكذا اليقظة التي يراها الناس يقظة، وأن الناس وهم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود وإن عدوا أنفسهم أيقاظا، فعن علي عليه السلام: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/230.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأهل الكتاب؛ لأن السياق فيهم أو لأهل الكتاب وغيرهم؛ لأنك رسول إلى الناس جميعاً، قال الشرفي في (المصابيح): (اعلم أنه لا بد من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم، والمفسّرون ذكروا أموراً، ولنكتفِ هاهنا بما ذكره المرتضى عليه السلام حيث قال: فإن اليهود لما سألت محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم من الذي ينزّل عليك بالوحي؟ فقال لهم: (جبريل عليه السلام)، فقالوا ـ عليهم لعنة الله ـ: فنحن أعداء جبريل، فهو عدوّنا؛ لأنه ينزل عليك بإبطال أمرنا، وهذا أعدى الخلق لنا، فأنزل الله ـ عزَّ وجل ـ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ فإنما هو مهلك لهم ومخزٍ ومعاقب)
2. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ يشير إلى الذين عادوه من أهل الكتاب، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ﴾ أي فإن جبريل نزل هذا القرآن ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ وقد تكرر قوله: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ فوقع هنا، وفي (سورة الشعراء) فكأنه عليه السلام كان يوصله إلى قلبه صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرة، ويقوم مقام حاسة السمع التي توصل الكلام إلى القلب ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فهو الحق الذي ليس لكم أن تردوه بعلة عداوتكم للرسول الذي نزّله؛ لأنه لو كان باطلاً ما أذن الله بإنزاله.
3. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من كتب الله التوراة وغيرها، فلا عذر لكم في رده، ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، فهو النعمة العظمى التي يجب أن تقبل وتشكر، فكيف تردوا الهدى الذي فيه سعادتكم إن هديتم، والبشرى لكم بالجنة إن آمنتم اعتلالاً بعداوتكم للرسول الذي نزل به، وكيف عاديتموه، وإنما جاء ـ بإذن الله ـ بالهدى والبشرى للمؤمنين.
4. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ قال الشرفي في (المصابيح) ـ حاكياً عن المرتضى عليه السلام ـ: (ومعنى: عدو لميكائيل، فإنهم سألوه من أين يأتي جبريل بالوحي؟ فقال: (من ميكائل) فقالوا: ميكائل ـ أيضاً ـ عدوَّنا)
5. هذه الآية تبين: أن اليهود الذين اتخذوا جبريل عدواً ليسوا أعداء له وحده بل هم أعداء لله وملائكته كلهم ورسله كلهم وجبريل وميكائل، وليس المراد بهذا السياق الإخبار بهذا، بل المراد الوعيد على هذه العداوة، وأفاد أنهم كذلك إن لم يتوبوا، وفائدة هذا التعليق أن لا يوهم أن الله عدو لهم ولو تابوا، وأكد هذا بتعليق العداوة ـ عداوة الله ـ لهم على الكفر حيث قال ﴿عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ولم يقل: عدو لهم، وفيه فائدة عموم سائر الكافرين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/153.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ الذي هو الملك المقرب عند الله، المكلّف بنقل رسالته إلى أنبيائه ـ ولا سيما النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ليكون وعيك له في عقلك فتحفظه وتتفهّم معانيه.
2. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب المنزّلة على الرسل السابقين، لأن القرآن لم يأت ناسخا لما في الكتب كلها، ولكنه جاء معترفا بها ومصدقا لما فيها ومكمّلا لما يحتاجه الناس مما استجدّ من قضايا ومشاكل بعد نزولها، فإن قيمة الرسالات الإلهية أنها ـ في مضمونها الفكري ـ يلتقي بعضها مع بعض لتكون حقا.
3. ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيما ينتظرهم من النتائج الطيبة بالتزامهم بما فيها في حياتهم العملية.. فإذا كان جبريل برسالته الإلهية التي نزّلها على قلبك، مما يوحي باصطفاء الله له في حمل الرسالة إليك من بين الملائكة، وإذا كان قد جاء بها بإذن الله لا من خلال نفسه، فإن المفروض أن يكون في موقع الإعزاز والمحبة والتقدير لدى المؤمنين، لأن الإنسان المؤمن يحب من يحبه الله ويبغض من أبغضه، فكيف تجمعون بين حبكم لله وعداوتكم لحبيبه جبريل!؟
4. ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ لأن الله يريد من عباده الإيمان به وبكل ملائكته ورسله، وبجبريل وميكال، والتقدير لهم، باعتبار أن الإيمان بالحقّ يمثل وحدة في المضمون، كما أنه يمثل وحدة في الالتزام، مما يعني أن إنكار بعض مفرداته يؤدي إلى الكفر الذي يعطي صاحبه صفة الكافر الذي لا بدّ له من أن يعدّ نفسه للوقوع تحت سيطرة عداوة الله له.
5. جاء الحديث عن جبريل في سورة النحل بأنه (روح القدس): ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ وفي سورة الشعراء بأنه (الروح الأمين): ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ ؛ وقد ذكر المفسرون أن المراد بهاتين الكلمتين جبريل، كما ورد اسم (جبريل) في سورة التحريم الآية، ويتحدث التاريخ القرآني أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شاهد جبريل مرتين في عروجه إلى السماء بهيئته الأصلية، كما ورد ذلك في تفسير سورة النجم، وعن بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم، وهذا يوحي بأن المسألة لم تكن ـ لدى هؤلاء المعاصرين للنبي ـ متصلة بالجانب العقيدي، بل هي حركة طفولية مشاغبة لتبرير مواقفهم المضادّة للإسلام، وتقديم شيء ـ أي شيء ـ أمام ذلك، أما ميكال فقد اقتصر ذكره على هذا المورد، وفي هذه الآية دلالة على قربه من الله وتعظيم الله له حتى اعتبرت عداوته كفرا.
6. جاءت هذه الآية توبيخا لليهود على هذه العقلية الطفولية التي يحملونها، لأن جبريل إذا كان عدوّا لهم، فما دخله بما ينزل به من عند الله مما يكون مصدقا لما بين أيديهم من الكتب ومتضمنا للهدى والبشرى للمسلمين الذين يسلمون قلوبهم ووجوههم لله؟ وهل يكون حال هذا المنطق إلا كمنطق الإنسان الذي يرفض الرسالة التي تحقق له الربح والسعادة والنجاح بحجة أن الناقل لها غير محبوب له، أو غير مرغوب لديه.. إنه منطق الطفولة الغبية الذي لا يعتمد على أساس فكري، بل يخضع للانفعالات الساذجة.
7. أكّد الله أنّ العداوة لله وللملائكة ومنهم جبريل وميكال، وللرسل، تستوجب الكفر في مدلولها السلبي في رفض الالتزام بالأسس التي يقوم عليها الإيمان، وتؤدي بالتالي إلى عداوة الله لهم متمثلة في سخطه وعقابه، أما بالنسبة إلى عداوة الله فواضح، وأما بالنسبة إلى عداوة الأنبياء والملائكة، فلأنهم لا يمثلون أنفسهم فيما يدعون إليه أو يفيضون فيه، بل ينطلقون في سلوكهم من موقع علاقتهم بالله وقربهم منه، مما يجعل من عداوتهم عداوة لله وحده.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/133.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبب نزول الآية الكريمة يبيّن طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود، ابتداء من زمان موسى عليه السّلام ومرورا بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا يعرضون عن الحقّ بألوان الحجج الواهية.
2. حجّتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل، وعداؤهم لهذا الملك، ورغبتهم في أن يكون ميكائيل أمينا للوحي! وكأن الملائكة هم مصدر الأحكام الإلهية! والقرآن الكريم يصرّح بأن الملائكة ينفّذون أوامر الله ولا ينحرفون عن طاعته: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾
3. القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو إضافة إلى كل هذا: ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، والجواب في هذه الآية ينطوي على ثلاث شعب:
أ. أوّلا: إن جبريل لا يأتي بشيء من عنده، بل ما يأتي به هو ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
ب. ثانيا: ما جاء به جبريل تصدّقه الكتب السماوية السابقة، لانطباقه على العلامات والدلالات المذكورة في تلك الكتب.
ج. ثالثا: محتوى ما جاء به جبرائيل يدلّ على أصالته وحقّانيته.
4. ثم يؤكد الله تعالى هذا تأكيدا مقرونا بالتهديد ويقول: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ مشيرا بذلك إلى أن موقف الإنسان من الله وملائكته ورسله ومن جبرئيل وميكائيل، لا يقبل التفكيك، وأن الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين.. أي أن الأوامر الإلهية الباعثة على تكامل الإنسان، تنزل عن طريق الملائكة على الرسل، وإن كان بين مهمات الملائكة اختلاف، فذلك يعود إلى تقسيم المسؤوليات لا إلى التناقض بين المهمات، واتخاذ موقف معاد من أحدهم هو عداء الله سبحانه.
5. ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم، ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقرّبان من ملائكة الله تعالى، قيل إن اسم جبرئيل عبري يعني (رجل الله) أو (قوة الله) (جبر: تعني الرجل أو القوّة، وئيل: بمعنى الله.
6. هذه الآيات الكريمة تعرّف جبريل أنه رسول الوحي الإلهي إلى النّبي، ومنزّل القرآن على قلبه، ولواسطة الوحي اسم آخر في قوله تعالى في سورة النحل هو: ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ أمّا في سورة الشعراء فتسميه ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾، ويصرّح المفسرون أن المقصود من روح المقدس والروح الأمين، هو جبرئيل.
7. هناك أحاديث تدور حول تشكل جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على النّبي، وكان في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة، ويستفاد من سورة النجم أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شاهد جبرائيل مرّتين على هيئته الأصلية.
8. ذكرت المصادر الإسلامية أسماء أربعة من الملائكة المقربين هم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وأعظمهم مرتبة جبرائيل.. وفي كتب اليهود ورد ذكر جبريل وميكال، ومن ذلك ما ورد في كتاب دانيال حيث وصف جبرائيل بأنه الغالب لرئيس الشياطين، ووصف ميكائيل بأنه حامي قوم بني إسرائيل.
9. ذكر بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم، وهذا يؤيد أن ادعاءات اليهود بشأن موقفهم من جبرائيل، لم يكن إلّا ذريعة للتنصل من الإسلام إذ لا يوجد في مصادرهم الدينية ما يشير إلى وجود مثل هذه العداوة بينهم وبين جبرئيل.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/308.
40. الكفر والفسوق ونبذ الكتاب
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈40⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 99 ـ 101]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: هي العهود التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين اليهود، كفعل بني قريظة والنضير(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٤٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون﴾ قال ابن صوريا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، ففي ذلك عبرة لهم وبيان وحجة عليهم لو كانوا يعلمون(1).
3. روي أنّه قال: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد: والله، ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا ميثاقا، فأنزل الله تعالى الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٠٥.
(2) ابن جرير: ٢/٣٠٨.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: كانوا يقرؤون التوراة، ولا يعملون بها(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٤٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْفَاسِقُون﴾ العاصون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ ذكر يهود(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٨٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُون﴾ نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غدا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿نَبَذَه﴾ نقضه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ نقضه فريق من الذين أوتوا الكتاب ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ أي: أن القوم قد كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوه، وكتموه، وكفروا به(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٠٩.
(2) ابن جرير: ٢/٣١٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ معناه تركه فريق منهم.. وجمعه أفرقاء، وأفرقة، وفرق)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 87.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يُؤْمِنُون﴾ لا يؤمنون بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم﴾ الآية: ولما جاءهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، كأنهم لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتصديقه(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٣.
(2) ابن جرير: ٢/٣١١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُم﴾ لم يكن في الأرض عهد يعاهدون إليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٠٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُم﴾ يعني: اليهود ﴿رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم﴾ يعني: يصدق محمدا أنه نبي رسول معهم في التوراة؛ ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ يعني: جعل طائفة من اليهود ﴿كِتَابَ اللَّه﴾ يعني: ما في التوراة من أمر محمد ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِم﴾ فلم يتبعوه، ولم يبينوه للناس، ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ بأن محمدا رسول نبي؛ لأن تصديقه معهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٦.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: أدرجوها في الحرير والديباج، وحلوها بالذهب والفضة، ولم يعملوا بها، فذلك نبذهم لها(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٤٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: بيّن فيها الحلال والحرام، وما يؤتى وما يتّقى، وما ينهى وما يؤمر.
ب. ويحتمل: الآيات التي أنزلها عليه لينصر بها على المعاندين له، والمكابرين.
2. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، يقول: كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم، يحتمل:
أ. العهود التي أخذت عليهم ـ في التوراة ـ أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يكفروا به بعد الإيمان.
ب. أو أخذ عليهم: ألا يكتموا نعته، وصفته، الذي في التوراة لأحد، فنبذوا ذلك، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التي أخذت عليهم.
3. في الآية دلالة جعل القرآن حجة؛ لأنه قال ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، ولو كان في كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأتوا به معارضا؛ لدفع ما احتج به عليهم؛ فثبت أنهم كانوا كذبة في دعاويهم؛ حيث امتنعوا عن معارضته.
4. ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا﴾ أي وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون.
5. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعنى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾، أي نعته الذي كان في التوراة موافق لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. وقيل: لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عارضوه بالتوراة؛ فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن، وأخذوا بكتاب السحر الذي كتبه الشياطين.
ب. ويحتمل: أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما جاءهم كان موافقا لما مضى من الرسل، غير مخالف لهم؛ لأن الرسل كلهم آمنوا به، وصدق بعضهم بعضا.
﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: كتاب الله: التوراة، على ما ذكرنا.
ب. ويحتمل: كتاب الله، القرآن العظيم.
﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي يعلمون، ولكن تركوا العمل به، والإيمان بما معهم؛ كأنهم لا يعلمون؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.. أخبر: أنهم نبذوا نبذ من لا يعلم، لا أنهم لم يعلموا، ولكن نبذوه، سفها، وتعنتا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/519.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى الآيات يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ذكره البلخي وجماعة من أهل العلم: يعني سائر الآيات المعجزات التي أعطاها الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الآيات: القرآن، وما فيه، وغير ذلك من الدلالات.
ب. وقال بعضهم: هو الأخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة من التوراة، والإنجيل، وغيرهما.
2. قال ابن عباس: إن ابن صوريا القطراني قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك لها)، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ .
3. إن قال بعض اليهود: (أنتم مقرون بآياتنا، ونحن نجحد بآياتكم، فحجتنا لازمة لكم لأنها مردودة إلى ما تعرفونه)، قيل لهم: (فيجب على هذا ألا يكون لكم حجة على الدهرية، والبراهمة، والثنوية، لأنهم لا يعترفون بآياتكم)
4. إنما قال: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، ولم يقل الكافرون، وإن كان الكفر أعظم من الفسق، لأحد أمرين:
أ. لأن الفسق يعني الخروج عن الطاعة بارتكاب المعاصي، وهو أقرب لوصف اليهود في نقضهم العهود.
ب. لتخصيص الكفر بآيات الله بوصف الفسق، وهو الخروج عن الإيمان بمعرفة الحق وتجاهله.
5. اختلف في المراد بالفاسقين:
أ. قيل: عنى الخارجين عن أديانهم، وإن أظهروا أنهم يتمسكون بها، لأن اليهود قد خرجت بالكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من شريعة موسى، والفسق هو الخروج عن أمر الله إلى ما يعظم من معصيته.
ب. وقيل: أنه أراد الفاسقين المتمردين في كفرهم، لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر، فإن كان في الكفر، فهو أعظم الكفر، وإن كان فيما دون الكفر، فهو أعظم المعاصي.. هذا يجيء على مذهب الحسن، لأنه ذكر أن الفاسقين عني بهم جميع من كفر بها.
6. الواو في قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ عند سيبويه وأغلب النحويين هي واو العطف، ولكن دخلت عليها ألف الاستفهام لأن لها صدر الكلام، وقال الزجاج: (تدخل الواو على هل، لأن الألف أقوى منها)، أما ﴿كُلَّمَا﴾ فهي ظرف زمان متصل بالفعل (عاهدوا).
7. العهد المذكور هنا:
أ. هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالإيمان بالنبي الأمي، على قول ابن عباس.
ب. قال أبو علي: المعني هو العهود التي أعطاها اليهود في أيام أنبيائهم، وفي عهد نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ عاهدوه على ألا يعينوا عليه أحدًا، لكنهم نقضوا العهد وأعانوا عليه قريشًا يوم الخندق.
8. نبذه: النبذ يعني الطرح والإلقاء، والمنابذة: أن ينبذ الفريقان العهد، كإعلان للحرب، قال قتادة: (معنى نبذه في الآية: نقضه)
9. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ : الهاء والميم عائدتان على المعاهدين، قال المفسرون: المعاهدون منهم من آمن كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار.
10. إنما دخلت بل على قوله: ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، لأمرين:
أ. أحدهما ـ انه لما قال: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ دل على انه كفر ذلك الفريق بالنقض، وحسن هذا التفصيل، لان منهم من نقض عناداً، ومنهم من نقض جهلًا.
ب. الثاني ـ كفر فريق منهم بالنقض، وكفر أكثرهم بالجحد للحق، وهو أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يلزم من اتباعه، والتصديق به
ج. وقيل: بل يعني ان الفريق وان كانوا هم المعاندون، والجميع كافرون، كما تقول: زيد كريم بل قومه جميع كرام.
11. اختلف في معنى ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ :
أ. قال السدي وأكثر المفسرين: المعني بالرسول هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: يحتمل أن المعني هو الرسالة، كما قال كثير:
فقد كذب الواشون ما بحت عندهم... بليلى ولا أرسلتهم برسول
لكن هذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر.
12. يحتمل أن يراد بالكتاب:
أ. التوراة، أي أنهم تركوا ما فيها من دلالات وصفات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقال قتادة: نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، يعني أنهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
13. ﴿فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ :
أ. قال قتادة وجماعة من أهل العلم: إن ذلك الفريق كانوا معاندين.
ب. وقال أبو علي: لا يجوز على جماعتهم أن يكتموا ما علموا مع كثرة عدوّهم واختلاف همهم، لأنه خلاف العادة، ولكن يجوز على الجمع الكثير أن يتواطؤوا على الكتمان، ولذلك قال: ﴿فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ .
14. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: مصدق لما معهم، لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة، وهو أحسن، لأنه فيه حجة عليهم وعبرة لهم.
ب. الثاني: أنه مصدق بالتوراة أنها حق من عند الله.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ :
أ. قال الحسن: من التوراة والإنجيل.
ب. قال غيره: يصدق بالتوراة، لأن الأخبار ها هنا عن اليهود دون النصارى.
16. إنما قال: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، ولم يقل منهم، إذ تقدم ذكرهم، لأحد أمرين:
أ. أحدهما: أنه لما أريد علماء أهل الكتاب، أعيد ذكرهم لاختلاف المعنى، على قول البلخي.
ب. الثاني: أنه للبيان.
17. ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، معناه أنهم يعلمون، وكأنهم لكفرهم وكتمانهم لا يعلمون.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/367.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الآية: العلامة التي فيها عبرة، وقيل: العلامة التي فيها أعجوبة.
ب. البينة: الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل حتى يزول الالتباس، يقال: بَيّنهُ فتبين.
ج. النَّبْذُ: طرح الشيء، نبذت الشيء أَنْبُذُهُ، ومنه سمي النبيذ؛ لأن التمر كان يلقى في الجرة وغيره.
د. العهد: العقد، والعهد: الوصية.
هـ. النَّبْذُ: الطرح، نبَذْتُ الشيء نبذًا فهو منبوذ.
و. وراء: نقيض قدام.
ز. الظَّهْرُ: خلاف البطن.
2. بَيَّن الله تعالى الحجة الدالة على نبوته عند محاجتهم فقال تعالى: ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ يعني واضحات تفصل بين الحق والباطل ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا﴾ يعني بتلك الآيات:
أ. قيل: أراد: كفرهم بهذه الآيات: كُفْرٌ بها وبما تقدمها من الكتب.
ب. وقيل: أراد المبالغة في الكفر، يعني لا يكفر بها إلا من بلغ منتهاه في الكفر، كما يقال: لا يهلك على الله إلا هالك، عن أبي مسلم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ :
أ. قيل: المتمردون في كفرهم.
ب. وقيل: الخارجون عن أديانهم، وهم علماء اليهود، فإنهم وإن أظهروا اليهودية فمن حيث حرفوا وغيروا، وكتموا، ولم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد خرجوا عن شريعة موسى.
ج. وقيل: معناه إلا الفاسقون في دينهم؛ لأن أهل الصلاح منهم لا يكفر به كابن سلام، عن الأصم.
4. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ :
أ. قال ابن عباس: لما ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما عهد الله إليهم في التوراة في أمره والإيمان به، قال مالك بن الصيف: والله ما عُهِدَ إلينا في محمد عَهْدٌ ولا ميثاق، فنزلت الآية.
ب. وقيل: عاهدوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عهودًا منها ألا يعينوا الكفار عليه، ثم نقضوا يوم الخندق ذلك، فأعانوا قريشًا، وأرادوا أن يلقوا عليه حجرًا فأخبره الله بذلك، وذلك في قريظة فنزلت الآية، عن عطاء.
5. ثم أخبر تعالى عن اليهود أيضًا فقال: ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ هو استفهام والمراد الإنكار، و ﴿كُلَّمَا﴾ لفظة تقتضي التكرار، والمراد به: قد تكرر منهم العهد والنقض ﴿عَاهَدُوا﴾ يعني اليهود.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَهْدًا ﴾ :
أ. قيل: هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم لتؤمنن بالنبي الأمي، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أراد العهود التي كانت اليهود أعطتها من أنفسهم أيام أنبيائهم، وفي أيام نبينا؛ لأنهم عاهدوه أن لا يعينوا عليه مشركًا، ثم نقضوا، وأعانوا قريشًا يوم الخندق، عن أبي علي.
ج. وقيل: هو العهود التي كانوا يعطون: لئن خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لنؤمنن به، ولنخرجن المشركين من ديارهم قبل البعث، فلما بعث كفروا به، ونظيره: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقيل: كانوا يعاهدون الله كثيرًا، وينقضون، فأخبرهم بما يعلمونه من أنفسهم ما لا يعلمه غيره تعالى، عن الأصم.
د. وقيل: هو العلم بالتوراة وما فيها فلم يفعلوا، وكتموا وحرفوا إلا القليل، وهم الَّذِينَ أسلموا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نَبَذَهُ﴾ :
أ. قيل: نقضه.
ب. وقيل: ألقاه وتركه.
8. ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ أي جماعة، يعني أن جماعة نبذوا العهد ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ يعني أكثر المعاهدين ﴿لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
9. دخل عليه ﴿بَلْ﴾ لوجهين: أحدهما: أنه لما نبذه فريق بالنقض، وفريق بالجحد والتكذيب، ومعنى لا يؤمنون: لا يصدقون، واختلفوا:
أ. قيل: لا يؤمنون بك حسدًا.
ب. وقيل: بكتابهم؛ لأنهم كانوا ينافقون، عن الأصم.
10. في اتصال ذكر العهد بما قبله قولان:
أ. أحدهما: أن يكون على قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ الآية، فلما ذكر الميثاق ذكر النقض.
ب. الثاني على أنهم كفروا بنقض العهد، كما كفروا بالآيات.
11. ثم أخبر تعالى عن اليهود، وما قابلوا به رسوله، فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ يعني جاء اليهود الَّذِينَ كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. قيل: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن السدي وأكثر المفسرين.
ب. وقيل: أراد بالرسول الرسالة، عن أبي مسلم، قال الشاعر:
لَقَد كَذَبَ الوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ.. بِلَيْلَى وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
قال علي بن عيسى: وهذا خلاف الظاهر، وقليل في الاستعمال.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ :
أ. قيل: مصدق لكتبهم؛ لأنه جاء على الصفة التي تقدمت البشارة.
ب. وقيل: يصدق بالتوراة، أنها حق من عند الله.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِمَا مَعَهُمْ﴾ :
أ. قيل: التوراة والإنجيل، عن الحسن.
ب. وقيل: التوراة؛ لأن الخبر عن اليهود دون النصارى.
14. ﴿نَبَذَ﴾ ترك وألقى ﴿فَرِيقٌ﴾ طائفة ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ .
15. سؤال وإشكال: لم قيل: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ولم يقل: منهم وقد تقدم ذكرهم؟ والجواب: فيه قولان:
أ. الأول: أنه أريد به علماء اليهود، فأعيد ذكرهم لاختلاف المعنى، عن أبي القاسم.
ب. الثاني: للبيان لما طال الكلام.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: القرآن، عن أبي علي.
ب. وقيل: التوراة، عن السدي والأصم وأبي مسلم، قال السدي: نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آخر، وسحر هاروت وماروت.
17. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ هذا كناية عن تركهم العمل به، فأخير أنهم كفروا بإنكار الرسل، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم.
18. سؤال وإشكال: هل كان هَؤُلَاءِ معاندين؟ والجواب:
أ. قيل: نعم عن قتادة وأكثر أهل العلم.
ب. قال أبو علي: ولا يجوز على جماعتهم الكتمان؛ لأنه خلاف العادة، وإنما يجوز على العدد القليل؛ ولذلك قال ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾
19. سؤال وإشكال: كيف نبذوا كتاب الله وهم متمسكون بالتوراة؟ والجواب:
أ. قيل: لأنهم لَمَّا لم يعملوا بها ابتغاء للرئاسة صاروا نابذين لها وراء ظهورهم، وقال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكن نبذوا العمل به، وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ، هذا إذا حمل الكتاب على التوراة.
ب. وقيل: لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب، ولم يقبلوه صاروا نابذين للكتاب الأول أيضًا الذي فيه البشارة، عن أبي مسلم.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ :
أ. قيل: لا يعلمون أنه حق وصدق، والمراد أنهم علموا فكفروا بغيًا وعنادًا.
ب. وقيل: كأنهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.
وقيل: كأنهم لا يعلمون ما في كتابهم، يعني أحلوا أنفسهم محل الجاهل بالكتاب، عن الأصم.
21. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن القرآن معجزة دالة على صحة نبوته لما فيه من الإعجاز بالفصاحة، ولما فيه من أخبار الغيوب، ولما يتضمن من أصول الشرائع مع قلة الحروف، وكثرة المعاني، ولما يتضمنه من النظم والمواعظ والتحاميد والأحكام.
ب. حدث القرآن؛ لأن المراد بالآيات القرآن، ويستحيل الإنزال على القديم.
ج. أنه حجة لذلك وصفه بأنه بيان يفصل بين الحق والباطل.
د. على قبح نقض العهد، وأن فيه ما يبلغ حد الكفر.
هـ. أن ذلك تكرر من اليهود؛ لذلك قال ﴿كُلَّمَا﴾
و. أن أكثرهم نقضوا وكفروا، ومنهم من آمن وإن كانوا القليل.
ز. أن من لم يعمل بكتاب الله ردًّا وعنادًا يكفر.
ح. أن الذنب مع العلم به أعظم، وعقابه أكبر.
22. مسائل نحوية:
أ. (قد) تدخل في الكلام للتأكيد، أو تقريب الماضي حتى المستقبل، تقول: قد جاء زيد، وجاءني زيد وقد عزم على، الخروج، أي عازمًا عليه.
ب. الواو في قوله: ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ :
• قيل: واو عطف دخلت عليه ألف الاستفهام، عن سيبويه وجماعة من النحاة، وقد يدخل ذلك على الفاء، وثم نحو قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾
• وقيل: الواو زائدة، وليس بصحيح؛ لأنه مع صحة معناه لا يحكم بالزيادة.
ج. الضمير في قوله: ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ يعود على المعاهدين، ولا يصلح على الفريق؛ لأنهم كلهم كانوا غير مؤمنين، فأما المعاهدون فمنهم من آمن كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار.
د. انتصب ﴿كُلَّمَا﴾ لأنه ظرف، والعامل قيه ﴿نَبَذَ﴾، ولا يجوز أن يعمل فيه ﴿عَاهَدُوا﴾؛ لأنه منهم و ﴿مَا﴾ إما صلة وإما صفة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/511.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الآية: العلامة التي فيها عبرة، وقيل: العلامة التي فيها الحجة.
ب. البينة: الدلالة الفاصلة الواضحة بين القضية الصادقة والكاذبة، مأخوذة من إبانة أحد الشيئين من الآخر ليزول التباسه به.
ج. النبذ: طرحك الشيء عن يدك أمامك أو خلفك، والمنابذة: انتباذ الفريقين للحرب، ونابذناهم الحرب، والمنبذون: هم الأولاد الذين يطرحون، والمنابذة في البيع منهي عنها، وهو كالرمي كأنه إذا رمى به، وجب البيع له: وسمي النبيذ نبيذا: لأن التمر كان يلقى في الجرة وغيرها، وقيل: معنى نبذه تركه، وقيل: ألقاه، قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه، فنبذته... كنبذك نعلا أخلقت من نعالك
2. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد: ﴿آيَاتِ﴾ :
أ. يعني سائر المعجزات التي أُعطيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البلخي.
ب. وقيل: هي القرآن وما فيها من الدلالات، عن أبي مسلم وأبي علي.
ج. وقيل: هي علم التوراة والإنجيل، والأخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة، عن الأصم، كقوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ .
3. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾، أي واضحات تفصل بين الحق والباطل ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، ومعناه الكافرون، وإنما سُمي الكفر فسقًا لأن الفسق خروج من شيء إلى شيء، واليهود خرجوا من دينهم، وهو دين موسى، بتكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. إنما لم يقل الكافرون، وإن كان الكفر أعظم من الفسق، لأحد أمرين:
أ. أن المراد أنهم خرجوا عن أمر الله إلى ما يعظم من معاصيه.
ب. أن المراد به أنهم الفاسقون المتمردون في كفرهم؛ لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر، فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر، وإن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي.
5. معنى الآيات يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ذكره البلخي وجماعة من أهل العلم، يعني سائر الآيات المعجزات التي أعطاها الله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الآيات: القرآن، وما فيه، وغير ذلك من الدلالات.
ب. وقال بعضهم: هو الأخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة من التوراة والإنجيل وغيرهما.
6. قال ابن عباس: إن ابن صوريا القطراني قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بيّنة فنتبعك لها. فأنزل الله في ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ .
7. إن قال بعض اليهود: أنتم مقرون بآياتنا ونحن نجحد بآياتكم، فحجتنا لازمة لكم لأنها مردودة إلى ما تعرفونه. قيل لهم: فيجب على هذا ألا يكون لكم حجة على الدهرية والبراهمة والثنوية، لأنهم لا يعترفون بآياتكم.
8. إنما اتصل ذكر العهد بما قبله لأحد أمرين:
أ. أحدهما ـ بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ .
ب. الثاني ـ أنهم كفروا ينقض العهد كما كفروا بالآيات.
9. المراد بالعهد هنا:
أ. قيل: الميثاق الذي أخذه الله ليؤمننّ بالنبي الأميّ، على قول ابن عباس.
ب. قال أبو علي: المعني به العهود التي كانت اليهود أعطوها من أنفسهم، في أيام أنبيائهم، وفي أيام نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنهم كانوا عاهدوه ألا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشًا يوم الخندق.
10. (نبذه): النبذ والطرح والإلقاء نظائر. قال صاحب العين: النبذ طرحك الشيء عن يدك أمامك أو خلفك. والمنابذة: انتباذ الفريقين للحرب. تقول: نبذنا إليهم على سواء، أي نابذناهم الحرب. والمنبوذون هم الأولاد الذين يُطرحون. والنبيذ معروف. والفعل نبذت لي ولغيري، وانبذت: خاصة لنفسي.. والمنابذة في البيع منهي عنها، وهي كالرمي، كأنه إذا رمى إليه وجب له. وسُمي النبيذ نبيذًا، لأن التمر كان يُلقى في الجرة وغيرها، وهي فعيل بمعنى مفعول. وأصاب الأرض نبذة من المطر: أي قليل.
11. معنى نبذه في الآية: قال قتادة: نقضه. وقيل: تركه. وقيل: ألقاه. والمعنى متقارب. قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته... كنبذك نعلًا أخلقت من نعالك
12. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾، الهاء والميم عائدتان على المعاهدين، ولا يصلحان على الفريق إذ كانوا كلهم غير مؤمنين.. وأما المعاهدون: فمنهم من آمن كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾ :
أ. قال السدي وأكثر المفسرين: المعني بالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ب. وقال بعضهم: يجوز أن يعني به هنا الرسالة، كما قال كثير:
فقد كذب الواشون ما بحت عندهم... بليلى ولا أرسلتهم برسول
وهذا ضعيف، لأنه خلاف الظاهر، قليل الاستعمال.
14. اختلف في معنى الكتاب:
أ. يحتمل أن يُراد به التوراة، قال السدي: نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب أصف وسحر هاروت وماروت.
ب. ويحتمل أن يُراد به القرآن.
15. معنى نبذه: قيل: تركه، وقيل: ألقاه، قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته... كنبذك نعلًا أخلقت من نعالك
16. أخبر الله سبحانه عن اليهود أيضًا فقال: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَهْدًا ﴾:
أ. أراد به العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأميّ، عن ابن عباس، وكلما لفظ يقتضي التكرر، فيقتضي تكرر النقض منهم.
ب. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين اليهود، فنقضوها كفعل قريظة والنضير. عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشًا يوم الخندق.
17. ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أي نقضه جماعة منهم. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي أكثر المعاهدين. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ولا تعود الهاء والميم إلى فريق، إذ كانوا كلهم غير مؤمنين.
18. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ أي ولما جاء اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ :
أ. يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: أراد بالرسول الرسالة كما قال كثير:
فقد كذب الواشون ما بحت عندهم... بليلى وما أرسلتهم برسول
قال علي بن عيسى وهذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر قليل في الاستعمال.
19. ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أنه مصدق لكتبهم من التوراة والإنجيل لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة.. وهو أحسن لأن فيه حجة عليهم.
ب. أنه مصدق للتوراة بأنها حق من عند الله لأن الأخبار هاهنا إنما هو عن اليهود دون النصارى.
20. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي ترك وألقى طائفة منهم وإنما قال: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ولم يقل منهم، وقد تقدم ذكرهم:
أ. لأنه يريد به علماء اليهود فأعاد ذكرهم لاختلاف المعنى.
ب. وقيل: أنه لم يكن عنهم للبيان لما طال الكلام.
21. ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ يحتمل أن يريد به التوراة، ويحتمل أن يريد به القرآن.
22. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ كناية عن تركهم العمل به، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكن نبذوا العمل به، وقال سفيان بن عيينة: (أدرجوه في الحرير والديباج وحلوه بالذهب والفضة ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه فذلك النبذ)، هذا إذا حُمِل الكتاب على التوراة، وقال أبو مسلم: لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب فلم يقبلوه، صاروا نابذين للكتاب الأول أيضًا الذي فيه البشارة به. وقال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، يعني أنهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال قتادة وجماعة من أهل العلم: إن ذلك الفريق كانوا معاندين، وإنما ذكر فريقًا منهم لأن الجمع العظيم، والجم الغفير، والعدد الكثير لا يجوز عليهم كتمان ما علموه مع اختلاف الهمم، وتشتت الآراء، وتباعد الأهواء، لأنه خلاف المألوف من العادات، إلا إذا كانوا عددًا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكتمان.
23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ :
أ. قيل: أي لا يعلمون أنه صدق وحق، والمراد أنهم علموا وكتموا بغيًا وعنادًا.
ب. وقيل: المراد كأنهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب.
ج. وقيل: المراد كأنهم لا يعلمون ما في كتابهم أي حلوا محل الجاهل بالكتاب.
24. مسائل نحوية:
أ. ﴿قَدْ﴾ : تدخل في الكلام لأحد أمرين: أحدهما: لقوم يتوقعون الخبر، والآخر: لتقريب الماضي من الحال، تقول: خرجت وقد ركب الأمير، وهي هنا مع لام القسم على تقدير قوم يتوقعون الخبر، لأن الكلام إذا خرج ذلك المخرج، كان أوكد وأبلغ.
ب. الواو في قوله ﴿ أو كلما ﴾:
• عند سيبويه وأكثر النحويين: واو العطف، إلا أن ألف الاستفهام دخلت عليها، لأن لها صدر الكلام، وهي أم حروف الاستفهام بدلالة أن هذه الواو تدخل على هل تقول: وهل زيد عالم، لأن الألف أقوى منها، وهو الأصح، لأنه لا يحكم على الحرف بالزيادة مع وجود معنى من غير ضرورة.
• وقال بعضهم: يحتمل أن تكون زائدة كزيادة الفاء في قولك أفألله ليفعلن.
ج. نصب ﴿كُلَّمَا﴾ على الظرف، والعامل فيه ﴿نَبَذَهُ﴾ ولا يجوز أن يعمل فيه ﴿عَاهَدُوا﴾ لأنه متمم لما إما صلة، وإما صفة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/327.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته، فقال بعضهم: ما جاءنا بشيء من البينات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. اختلف في المراد من الآيات البينات:
أ. الأظهر أنها القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.. قال القاضي: الأولى تخصيص ذلك بالقرآن لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل كانت أخص بالقرآن.
ب. وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن، مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر.
3. الوجه في تسمية القرآن بالآيات وجوه:
أ. أحدها: أن الآية هي الدالة، وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات.
ب. ثانيها: أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب.
ج. ثالثها: أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع، فهي آيات من هذه الجهة.
4. سؤال وإشكال: الدليل لا يكون إلا بيناً، فما معنى وصف الآيات بكونها بينة، وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال، وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل، فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علماً وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه، والجواب: التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه، فإن العلوم تنقسم إلى:
أ. ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات، فيكون الوصول إليه أصعب.
ب. وإلى ما يكون أقل مقدمات، فيكون الوصول إليه أقرب، وهذا هو الآية البينة.
5. الإنزال: عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالًا.
6. ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الكفر بها من وجهين:
أ. أحدهما: جحودها مع العلم بصحتها.
ب. الثاني: جحودها مع الجهل، وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه.
7. الفسق في اللغة: خروج الإنسان عما حد له، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50] وتقول العرب للنواة: إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد إذا صار إليه، فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد.
8. سؤال وإشكال: أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور؟ والجواب: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر، وكذلك الفسق، إنما يقال: إذا عظم التعدي.
9. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن كل كافر فاسق، ولا ينعكس، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى.
ب. الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره، والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى، وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع.
10. اختلف في الواو في قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا﴾ :
أ. قيل: واو عطف دخلت عليه همزة الاستفهام.. قال الزمخشري: الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات والبينات وكلما عاهدوا.
ب. وقيل: الواو زائدة وليس بصحيح لأنه مع صحة معناه لا يجوز أن يحكم بالزيادة.
11. المقصود من هذا الاستفهام، الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت.
12. دل بقول: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالًا بعد حال لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
13. في العهد وجوه:
أ. أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى.
ب. ثانيها: أن العهد هو الذي كانوا يقولون قبل مبعثه عليه السلام لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم.
ج. ثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه.
د. رابعها: أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحداً من الكافرين، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق.
هـ. قال القاضي: إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية لكن لا يجوز قصر الآية عليه بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله، وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أقوى.
14. إنما قال ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ﴾ لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون، فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ وفيه قولان:
أ. الأول: أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم.
ب. الثاني: لا يؤمنون: أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.
15. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة أو مصدقاً لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة.
16. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ هو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ :
أ. قيل: أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه، قال هذا القائل: الدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم عند قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ .
ب. وقيل: المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه، بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ :
أ. قيل: إنه التوراة.
ب. وقيل: إنه القرآن، وهذا هو الأقرب لوجهين:
• الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولًا وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه.
• الثاني: أنه قال ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن.
19. سؤال وإشكال: كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به؟ والجواب: إذا كان يدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما فيه من النعت والصفة، وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة.
20. في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ دلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة لأنه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم، فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون، وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/615.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في الواو في قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا﴾ :
أ. قيل: الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾، ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾، وعلى ثم كقوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ ) هذا قول سيبويه.
ب. وقال الأخفش: الواو زائدة.
ج. مذهب الكسائي أنها أو، حركت الواو منها تسهيلا، وقرأها قوم أو، ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، كما يقول القائل: لأضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله.
قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه.
2. ﴿كُلَّمَا﴾ نصب على الظرف، والمعني في الآية:
أ. قيل: مالك بن الصيف، ويقال فيه ابن الضيف، كان قد قال والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق، فنزلت الآية.
ب. وقيل: إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به.
ج. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، دليله قول تعالى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾
3. ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الأسود:
وخبرني من كنت أرسلت إنما... أخذت كتابي معرضا بشمالكا
نظرت إلى عنوانه فنبذته... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
وقال آخر:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا... نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾، وأنشد الفراء:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي... بظهر فلا يعيا علي جوابها
4. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ ابتداء. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فعل مستقبل في موضع الخبر.
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ نعت لرسول، ويجوز نصبه على الحال.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: المراد التوراة، لان كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها، قال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت.
ب. وقيل: يجوز أن يعني به القرآن، قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكن نبذوا العمل به، وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ .
6. ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/40.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الضمير في قوله: ﴿إِلَيْكَ﴾ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي: أنزلنا إليك علامات واضحات دالة على نبوتك، وقوله: ﴿إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الظاهر أن المراد جنس الفاسقين، ويحتمل أن يراد اليهود لأن الكلام معهم.
2. الواو في قوله: ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ للعطف، دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾، ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾ وكما تدخل على ثم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ وهذا قول سيبويه، وقال الأخفش: الواو زائدة.. وقال الكسائي: إنها أو حركت الواو تسهيلا، قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه.
3. المعطوف عليه محذوف، والتقدير: اكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا.
4. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ قال ابن جرير: أصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط: منبوذا، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء.
5. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي: خلف ظهورهم، وهو مثل يضرب لمن يستخفّ بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبر أذنك، وتحت قدمك؛ أي: اتركه وأعرض عنه.
6. ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ أي: التوراة، لأنهم لما كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة الإيمان به، وتصديقه، واتباعه، وبيّن لهم صفته، كان ذلك منهم نبذا للتوراة، ونقضا لها، ورفضا لما فيها؛ ويجوز أن يراد بالكتاب هنا القرآن، أي: لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول، وهذا أظهر من الوجه الأول.
7. ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئا، مع كونهم يعلمون علما يقينا من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبيّ، ولكنّهم لما لم يعملوا بالعلم، بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم، كانوا بمنزلة من لا يعلم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/139.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدَ اَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتِ م بَيِّنَاتٍ﴾ يا محمَّد، القرآن المعجز والمعجزات الأخرى، وذلك ردٌّ على قول ابن صوريا: (ما جئتنا بشيء يصدِّقك في دعوى النبوءة)، فإنَّ معنى (بَيِّنَاتٍ) واضحات المعنى والدلالة على نبوءته التي يدَّعيها.
2. ﴿وَمَا يَكفُرُ بِهَآ إِلَّا الفَاسِقُونَ﴾ إلَّا اليهود لفسقهم، أو جنس الفاسقين، فدخلت اليهود ببرهان الفسق، وقال مالك بن الصيفي: (والله ما عهد إلينا في محمَّد عهد في التوراة) فنزل: ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ أكفروا وكلَّما؟ ﴿عَاهَدُواْ﴾ لله ﴿عَهْدًا﴾ على أن يؤمنوا بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم إن بُعث، أو عاهدوا النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا يعينوا عليه المشركين، وقد قيل: نزلت في قول اليهود: (لئن خرج لنومننَّ به، ولنقاتلنَّ معه العرب المشركين)، ولَمَّا بُعث كفروا به، وقيل في قريظة والنضير نقضوا عهودا له.
3. ﴿نَّبَذَهُ﴾ طرحه ﴿فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ بنقضه، وهذا الفريق هو الأكثر، والفريق الآخر لم ينقضوا ولكن لم يؤمنوا، ﴿بَلَ اَكْثَرُهُمْ لَا يُومِنُونَ﴾ أي: كلُّهم لا يؤمنون، مَن نَقض ومَن لم ينقض، فاستعمل الأكثر بمعنى الكلِّ لقلَّة من آمن، كاستعمال القلَّة بمعنى النفي، أو أراد بالأكثر ظاهره، وأنَّ الفريق الآخر القليل لم ينقضوا وهم آمنوا، وهم عبد الله بن سلَام وأهله، والذي قال: (ما ننتظر، واللهِ لقد علمتم أنَّ محمَّدا هو رسول الله فأعينوه)، فقالوا: (لا ننقض السبت)، فخرج وقال: (لا سبت لكم)، فقاتل يوم السبت، أو أراد أنَّ الأكثر نقضوا جهرا، والأقلَّ خفاء.
4. ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ﴾ عيسى عليه السلام ﴿مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ من التوراة بالإنجيل ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿كِتَابَ اللهِ﴾ الإنجيل، وهذا لأسلافهم عوتبوا به لأنَّهم على ملَّتهم إذ جاءهم محمَّد بالقرآن مصدِّقا للتوراة فنبذه فريق منهم، وهم الأكثر، أو الرسول سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم و(كِتَابَ اللهِ) القرآن، أو (كِتَابَ اللهِ) الذي نبذوه هو التوراة، نبذوها بإنكار القرآن، أو الإنجيل نبذهما الذين على عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وليس المراد الذين على عهد سليمان كما قال بعضٌ محتجًّا بقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ﴾ [الآية: 102]؛ لأنَّ النبذ عند مجيء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يُتصوَّر منهم، وقال السُّدِّيُّ: لَمَّا جاءهم محمَّد عارضوه بالتوراة، فاتَّفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها، وأخذوا بكتاب (آصف) وسحر (هاروت وماروت) فلم يوافق القرآن، فهذا قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ﴾.
5. ﴿وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ لم يعتنوا به إذ لم يعملوا بما فيه من الفرائض، والإيمان برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولم ينتهوا عمَّا نهوا فيه كالشيء الحقير الملقى وراء الظهر لجامع عدم المبالاة، فلم ينفعهم أن أدرجوه في الحرير وحَلَّوْه بالفضَّة والذهب الإبريز، وقد سمَّاه الله (كِتَابَ اللهِ) تعظيمًا له، وتهويلاً لِما اجترؤوا عليه، من نبذه وراء الظهر ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ التوراة كتاب الله، وأنَّ فيها نبوءة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهم خمس فرق:
أ. فرقة آمنوا بها وقاموا بحقِّها، وعملوا بما لم ينسخه الإنجيل منها، كعبد الله بن سلَام، وهم الأقلُّون المفهومون مفهوم مخالفة من قوله: ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾، كأنَّه صرَّح بهم إذ فُهموا بالقيد.
ب. فرقة نبذوها جهرا، وهم المذكورون بقوله: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ﴾ وهم عالمون بأنَّها حقٌّ.
ج. فرقة نبذوها في خفاء جهلا بأنَّها حقٌّ، وهم الأكثرون في قوله تعالى: ﴿بَلَ اَكْثَرُهُمْ لَا يُومِنُونَ﴾.
د. فرقة علموا أنَّها حقٌّ، وتمسَّكوا بها ظاهرا، ونبذوها خفية عنادا أو تجاهلا، وهم في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
هـ. فرقة علموا أنَّها حقٌّ، ولا يتمسكون بها ظاهرا.
وهذه قسمة متعيِّنة صحَّت بالعناية المقصودة في التقسيم، فلا يضرُّنا جواز دخول الخامسة فيما قبلها، والعدد من حكم المجموع المتوزِّع في الآيات، مع أنَّ الضمائر فيها لليهود مطلقا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/175.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ أي المتمردون من الكفرة، واللام للعهد، أي الفاسقون المعهودون، وهم اليهود، أو للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليّا.
2. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام، أي كفروا بالآيات بالبينات.
3. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ المقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه، لأن مثل ذلك، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت، ودل بقوله ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم، على ما بيّنه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال، لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
4. اليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم، ومن آبائهم، فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يفوا ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ [الأنفال: 56]، والنبذ الرمي بالذمام، ورفضه، وإسناده إلى فريق منهم، لأن منهم من لم ينبذه، وفي قوله ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون.
5. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ تصريح بما طوى قبل، فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157] الآية، فتنكير رسول للتفخيم، والجار بعده متعلق بجاء، أو بمحذوف وقع صفة لرسول، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية.
6. ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ يعني التوراة، لأنهم بكفرهم برسول الله، المصدق لما معهم، كافرون بها، نابذون لها.. وقيل: ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
7. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثّل بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه، وقلة التفاوت إليه.
8. ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية، أي نبذوه وراء ظهورهم، مشبّهين بمن لا يعلمه، فإن أريد بهم أحبارهم، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففيه إيذان بأن علمهم به رصين، لكنهم يتجاهلون، أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو لا يعلمونه أصلا، كما إذا أريد بهم الكل، وفي هذين الوجهين، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن، فالمراد بالعلم المنفيّ في ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ هو العلم بأنه كتاب الله، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/362.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. صرح الله تعالى بأن القرآن منزل من عند الله وحده، وأنه في نفسه آيات بينات لا يحتاج إلى آية أخرى تبينه وتشهد له، فان ما كان بينا في نفسه أولى بالقبول مما يحتاج في بيانه إلى غيره، فقال ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، والوحى من الله للنبي يسمى تنزيلا وانزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض.
2. علو الله تعالى على خلقه حقيقة(2). أثبتها لنفسه في كتابه، لا حاجة إلى تأويلها بعلو مرتبة الربوبية على مرتبة المخلوقين هربا من استلزامها الحصر والتحيز في جهة واحدة، فان التنزيه القطعي يبطل اللزوم، ومسألة الجهات نسبية لا حقيقية، وإذ كان الرب تعالى بائنا من خلقه، وهو من ورائهم محيط فهم أينما كانوا لا يتوجهون اليه إلا أنه فوقهم وإذا كان الملائكة ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ فماذا يقال فيمن دونهم؟ وتوجه البشر إلى ربهم في جهة العلو وقبل السماء فطرى معروف في جميع أهل الملل، فهو فوق الخلق في جملته، وفوق العباد أينما كانوا من أرض أو سماء، وهنا لك مقام الاطلاق الذي لا يقيد بقيد ولا يحصر في حيز، وإنما الحيز والحصر من الأمور النسبية والاعتبارية في داخل دائرة الخلق، وصح في الحديث أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله في السموات عراهم ما عراهم مما أشير إليه في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾
3. كون آيات القرآن بينات فهي أنها بأعجازها البشر، وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها، والأحكام الأدبية والعملية بوجوه منافعها، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله تعالى، وأنها جديرة بالاتباع، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الذين خرجوا من نور الفطرة، وانغمسوا في ظلمة التقليد، فتركوا طلب الحق بذاته لاعتقادهم أن فطرتهم ناقصة لا استعداد فيها لادراكه بذاته على شدة ظهوره، وإنما يطلبونه من كلام مقلديهم ـ وكذا الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه وعنادا له.
4. بعد هذا كله بين الله تعالى شأنين من شئون أهل الكتاب وهما أنه لا ثقة بهم في شيء لما عرف عنهم من نقض العهود، وأنه لا رجاء في إيمان أكثرهم لأن الضلالة قد ملكت عليهم أمرهم إلا قليلا منهم، فان كان ما تقدم من الأعمال والأقوال قد صدر عن بعضهم ـ وإن كان نقض العهود قد وقع في كل زمن من فريق منهم دون فريق ـ فلا يتوهمن أحد أن أولئك هم الأقلون، كلا بل هم الاكثرون، ولذلك قال ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ همزة الاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف أي أكفروا بالآيات وقالوا ما قالوا وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم؟
5. النبذ طرح الشيء وإلقاؤه والمراد بالعهود هنا عهودهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولما كان لفظ (فريق) يوهم العدد القليل، وكان الواقع أن الذين كانوا يرون الوفاء له صلّى الله عليه وآله وسلّم قليلون، والناقضين هم الأكثرون ـ أضرب عنه وقال ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فهم لا أيمان لهم لأنهم لا إيمان لهم، أي لا عهود لهم، وفيه من خبر الغيب أن أكثر اليهود لا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذلك كان وصدق الله العظيم
6. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ بيان لحال جديدة من أحوال أهل الكتاب يصح أن تكون علة لجميع ما صدر عنهم من الشناعات في معاداة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومجاحدته، وهى أن فريقا منهم قد نبذوا كتاب الله الذي يفاخرون به ويحتجون بأنهم اكتفوا بالهداية به، وأنه لا حاجة لهم بسواه ـ نبذوه أن جاءهم رسول مصدق له بحاله وصفاته لأن البشارات التي فيه بالنبي الذي يجيء من آل اسماعيل لا تنطبق إلا على هذا الرسول ومصدق له بمقاله باعترافه بنبوة موسى عليه السّلام وصدقه فيما جاء به من الهدى والشريعة، وتوبيخه اليهود على تحريف بعضها ونسيان بعض وترك العمل بما بقى لهم منها.
7. ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله، وإنما المراد أنهم طرحوا جزءا منه وهو ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه، أي فهو تشبيه لتركهم إياه، إنكاره بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره.
8. ترك الجزء منه كتركه كله لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس ويجرئ على ترك الباقي: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى، فكل منهما مبشر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابه، وكل منهما قد نبذ الكتاب فلم يعمل به ولم يضر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الجحود من الفريق الجاحد لأن دعوته قد قبلها الآخرون، واهتدى بها من لا يحصى من الامتين ومن سائر الأمم، وإنما يضر الجاحدين لأنهم تركوا كتابهم الذي يزعمون أنه المنجى والمخلص لهم وحرموا من هداية خاتم النبيين، التي هي أكمل هداية أنعم الله بها على العالمين.
9. قال تعالى بعد ما ذكر نبذهم الكتاب ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي نبذوه نبذ من لا يعلم أنه كتاب الله، يريد أنهم بالغوا في تركه واهماله، ومن ترك شيئا من أمر الله وهو يعلم أنه أمره ولكن طاف به طائف من الشيطان فغلب على أمره، فانه لا يلبث أن يعود، ولكن هذا الفريق النابذ لكتاب الله تعالى من حيث هو مبشر بالنبي وآمر باتباعه، يتمادى بهم الزمان ولا يتوبون ولا يرجعون، وما أحسن التعبير عن ذلك بنفي الحال والاستقبال دون نفى الماضى.
__________
(1) تفسير المنار: 1/395.
(2) الكلام في هذه المسألة كله نسبه لمحمد عبده، وهو يتناسب مع الاتجاه السلفي لمحمد رشيد رضا، وعقب على هذا بقوله: (وشيخنا على دعوته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثرا بمذهب الاشعرية)، تفسير المنار: 1/396.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ لاقتران نظرياتها الاعتقادية بأدلتها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهي كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى ما يظهره.
2. ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم.
3. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ العهود هنا هي عهودهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولما كان لفظ الفريق يوهم قلة العدد مع أن الناقضين للعهد هم الأكثر أضرب عنه وقال:
4. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ لأنهم لا عهود لهم، وهذا من أخبار الغيب، إذ أن أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلا ممن يعلم خفيّات الأمور.
5. إن الله سبحانه بين في هذه الآية حالين لأهل الكتاب: أولاهما أنه لا يوثق بهم في شيء، لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان، ثانيتهما أنه لا يرجى إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم وجعلهم في طغيانهم يعمهون.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/178.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يتجه بالخطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يثبته على ما أنزل عليه من الحق، وما آتاه من الآيات البينات، مقررا أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون، ويندد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد، سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل، أو عهودهم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يندد بنبذهم لكتاب الله الأخير الذي جاء مصدقا لما معهم.
2. لقد كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البينات التي أنزلها الله.. إنه الفسوق وانحراف الفطرة، فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات، وهي تفرض نفسها فرضا على القلب المستقيم، فإذا كفر بها اليهود ـ أو غيرهم ـ فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكن لأنهم هم فاسد والفطرة فاسقون.
3. ثم يلتفت إلى المسلمين ـ وإلى الناس عامة ـ منددا بهؤلاء اليهود، كاشفا عن سمة من سماتهم الوبيئة.. إنهم جماعة مفككة الأهواء ـ رغم تعصبها الذميم ـ فهم لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد، ولا يستمسكون بعروة، ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم، يكرهون أن يمنح الله شيئا من فضله لسواهم، إلا أنهم ـ مع هذا ـ لا يستمسكون بوحدة، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند منهم فرقة فتنقض ما أبرموا، وتخرج على ما أجمعوا: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
4. وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أول مقدمه إلى المدينة؛ وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه؛ وأول من عاب دينه، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه.
5. وبئس هي من خلة في اليهود! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض، يعلنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم).. يسعى بذمتهم أدناهم، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم.
6. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ وكان هذا مظهرا من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه، فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم، أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه، وأن ينصروه ويحترموه، فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، خاسوا بذلك العهد، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم، والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد نبذوه أيضا!
7. في الآية ما فيها من سخرية خفية، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوما! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب، هم الذين عرفوا الرسالات والرسل، هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور.. وما ذا صنعوا؟ إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! والمقصود طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم، ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس؛ ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة، تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا، ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة؛ ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/95.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ توكيد لما نزل على النبيّ من قرآن، وآيات بينات، منزلة من الله.. وفى قوله سبحانه: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ تهديد لليهود، ووعيد لهم، على كفرهم وفسقهم.. فهم الكافرون الفاسقون.. كفروا بمحمد، وفسقوا عن دينهم الذي كانوا عليه، أي خرجوا عن دينهم، حين أنكروا ما فيه من أمر محمد ورسالته.
2. الحسد الذي أدّى ببني إسرائيل إلى الكفر، وأوردهم موارد الهلاك ـ هذا الحسد قد جعلهم يحادّون الله علنا، ويجهرون بالتطاول على ملائكته، الذين يصدعون بأمره، ويحملون رحمته إلى عباده.. فهم يعلمون أن جبريل عليه السلام هو حامل كلمات الله إلى الرسول الكريم، وهم ـ مع علمهم هذا ـ يضمرون البغضة والعداوة لهذا الملك الكريم، لأنه حمل رحمة الله إلى عبد من عباد الله، وهم يرون أنهم أحق بهذه الرحمة وأهلها، وأن الله هو إلههم وحدهم، ورحمته مقصورة عليهم! فكيف يحمل جبريل رحمة السماء إلى أرض غير أرضهم، وإلى جنس غير جنسهم؟
3. نبذ العهود ونقض المواثيق، هو الطبيعة الغالبة على بنى إسرائيل، لا فرق في موقفهم هذا مع الناس، أو مع الله! ذلك لأنهم لا يؤمنون بالمبادئ والقيم، ولا يتقيدون بقيد الفضيلة والشرف، لما يغلب عليهم من أثرة قاتلة، وأنانية متحكمة، يستبيحون بها كل شيء، وينزلون بها عن كل شيء، من خلق أو دين.
4. في قوله تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ حيث عدل عن التعميم إلى التخصيص، في قوله ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ بدلا من ﴿مِنْهُمْ﴾ ـ في هذا ما يشير بأن علماء القوم وأهل الذكر فيهم، هم الذين يتولّون هذا الإثم العظيم، وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم، بالخلاف عليه، والتحريف فيه، عن علم، و ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/115.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة، وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم، وقد شاع في القرآن وصف اليهود به، والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات، فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه.
2. الإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد، والتوصيف وقع باسم الفاعل المعروف باللام.
3. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب، وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف.. وتقديم (كلما) تبع لتقديم حرف الاستفهام.
4. النبذ إلقاء الشيء من اليد، وهو هنا استعارة لنقض العهد.. شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكا باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكا قال كعب: (ولا تمسك بالوعد الذي وعدت)
5. المراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذا مكررا حتى سميت التوراة بالعهد.
6. قد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم، ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم أن يؤموا بالرسول المصدق للتوراة.
7. أسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به ﴿كُلَّمَا﴾ أو احتراسا من شمول الذم للذين آمنوا منهم، وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم، فنبه على أنه أكثرهم بقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، وهذا من أفانين البلاغة، وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال، فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال، ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر، والأول أظهر.
8. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾ معطوف على قوله: ﴿أَوَكُلَّمَا﴾ عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشئون، والرسول هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لقوله: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾
9. والنبذ: طرح الشيء من اليد، فهو يقتضي سبق الأخذ.
10. اختلف في معنى كتاب الله:
أ. ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله، فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه، فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ.
ب. وقيل: المراد بكتاب الله التوراة وأشار في (الكشاف) إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظا ومعنى.
ج. وقيل: المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام، أو تجعل النبذ تمثيلا لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مرادا به معناه.
11. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ : تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره، وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك، فجعل للظهر وراء، وإن كان هو هنا بمعنى الوراء، فالإضافة كالبيانية، وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول: مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه، وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر، قال ابن عرفة: وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراء وراء.
12. ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/608.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. نلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى قوله تعالى: ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ بالتعدية بـ (إلى) دون التعدية بـ (على) إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية بـ (على)، كقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾، وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذا النبيّ الأمى المقصود بالرسالة، وكان حقّا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل.
2. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾، وقد جاءت على يدى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خوارق للعادة حسية كثيرة، ولكنه لم يتحد المشركين وغيرهم أن يأتوا بمثله إلا بالقرآن، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من نبيّ إلا أوتى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلىّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)، وكانت المعجزة من هذا النوع؛ لأن رسالة محمد خاتمة الرسائل الإلهية، وهو خاتم النبيين، فكانت من نوع الكلام الذي يبقى متحديا الأجيال كلها حجة قائمة إلى يوم القيامة.
3. أكد الله تعالى نزول القرآن باللام وقد، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ ولكن كفروا ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، أي المتمردون في الكفر الخارجون عن كل حد، إذ إنها آيات واضحة شاهدة بصدق ما جاء بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالفاسق الكافر المتمرد الخارج عن كل حد، ولقد قال الحسن البصرى: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره، فالفاسق الكافر أشد أنواع الكفر؛ لأنه تمرد على كل معقول.
4. ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ نفى وإثبات للدلالة على أن الكفر بهذه الآيات البينات لا يمكن أن يقع من إنسان فيه الفطرة الإنسانية، بل لا يقع فيه إلا المتمرد على الفطرة وعلى كل ما يتقاضاه العقل المدرك، واللام فى ﴿الْفَاسِقُونَ ﴾ للجنس، وليس المراد بها قوما معهودين، وإن كان أشد من ينطبق عليه الأمثال اليهود الذين كفروا بها، وإن اليهود إذا كانوا فسقوا، وكفروا بالقرآن الكريم معجزة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه في الميثاق الذي أخذ عليهم، وناقضوا أنفسهم، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
5. إذا كان اليهود قد كفروا بالكتاب الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد نقضوا عهدا أخذ عليهم مرارا، نقضوا الميثاق الذي أوجب تعالى عليهم أن يؤمنوا برسله، ونقضوا العهد الذي أخذوه على أنفسهم إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، ولما عقد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الميثاق بينهم وبينه عندما هاجر نقضوه جميعا؛ فنقضه بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، وأوى الناقضون إلى خيبر، وشنوها حربا مشبوبة على المؤمنين.
6. بين الله تعالى أن ذلك شأنهم، فقال: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري الإنكار الواقع، وهو ما يقع منهم من نقض العهد، ونبذ للمواثيق، والواو عاطفة وهى مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى أنكروا الكتاب والنبي الذي عرفوه كما يعرفون أبناءهم ونقضوا الميثاق، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم إلى آخر الآية، وتأخير العاطف عن الاستفهام كثير في القرآن من مثل قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة] وقوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾، وهكذا مثل ذلك كثير في القرآن المبين.
7. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ تدل على نقض العهد بين طرفين، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم، والعهد الذي يكون بين طرفين لا ينقض إلا بتراضيهم، ولكنهم لا يلتزمون بذلك، بل ينفردون بالنقض، أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم.
8. ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ النبذ الطرح والرمي، ومعناه في العهود، نبذ الوفاء وطرحه، من غير موجب ولا مراعاة ذمام، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة، كما قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال]
9. نسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم، لأن الله العدل الحكيم لا يقرر إلا ما هو عدل حكيم، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر، ولم يمنع وهو قادر على المنع؛ ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون.
10. حكم الله تعالى عليهم بقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فـ (بل) هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل، وهو أن أكثرهم فاضل، ومانع لهم من الشر، وذلك لقوله تعالى: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾، فبين سبحانه أن كثرتهم لا يؤمن بالحق فقال تعالى: ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، فنفى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق، فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لا يؤمنون، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق، وإذا كانوا لا يؤمنون بكتاب الله تعالى الذي أنزل متجها إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنهم أيضا لا يؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع ما كان منهم قبل أن يبعث صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينبذون كتابه.
11. لذا قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ التعبير بلما دليل على أنهم كانوا يتوقعون مجيئه، وقد كانوا يتوقعون ذلك ويعرفونه ويستفتحون على الذين كفروا، وعبر سبحانه بـ (رسول من عند الله) للإشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي أنعم عليهم بالنعم المتوالية، و(رسول) التنكير فيها للتعظيم، أي رسول بالغ أقصى درجات الفضل وقد اختاره الله تعالى.
12. وصفه الله تعالى بأنه مصدق لما معهم، وتصديقه لما معهم من ناحيتين:
أ. الناحية الأولى: أنه قد جاء بالتكليفات الكثيرة التي جاءت في المواثيق التي أخذها الله تعالى عليهم.
ب. الناحية الثانية أنه تصديق للبشارات التي جاءت بها كتبهم، وقد بشرت به في عدة نصوص منها، كما أشار القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، ومثل قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ .
13. هذا هو معنى التصديق، وليس التصديق الإقرار بصدق ما حرفوا وبدلوا حتى يقول ذلك الذين لا يفهمون، فإن القرآن يفهم بعضه ببعض، وقد كفّرهم، وسجل التحريف عليهم ولا يزالون يغيرون ويبدلون.
14. لما جاءهم محمد ـ رسول الله ـ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله أي طرحوه، وهو يدل على أنهم لم يأخذوا به، ونبذوا تعاليمه، وراءهم ظهريا، وعبر الله تعالى (بالذين أوتوا الكتاب) توبيخا لهم، وتنديدا بفعلهم فإنهم كانوا جديرين بأن يكونوا أول من يأخذ بالكتاب لا أن ينبذوه ويجعلوه وراء ظهورهم، ودبر آذانهم، والكتاب الذي نبذوا تعاليمه وجعلوه وراء ظهورهم كما هو السياق يدل على أنه القرآن؛ لأنه هو الذي جاء به الرسول الكريم، الذي جاء به مصدقا لما معهم.. وقال بعض المفسرين: إن المراد بكتاب الله التوراة، أي أنهم نبذوا بشاراته بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وراء ظهورهم، ونرى أن ذلك بعيد، ولم نجد ذكرا للتوراة في هذا المقام، ولأن الكلام في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما جاء به.
15. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مثل لمن يستغنى عن شيء، فإنه يرميه وراء ظهره، ولا يعنى به، أو يقبل عليه بوجهه، مثل قول العرب: (اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك وتحت قدمك)، فهذه أمثال للاستخفاف، وقوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ معناه أنهم لم يقرؤوه؛ لأن ما وراء الظهر لا يقرأ، وإنما يقرأ ما يكون أمامك، وتقبل عليه.
16. صور الله سبحانه وتعالى حالهم فقال: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ كأنهم لا يعلمون أمر النبوة ورسائل الله تعالى إلى رسله وهم أهل الكتاب، أو المعنى كأنهم لا يدركون ولا يفرقون بين علم نازل من قبل الله تعالى وأهوائهم، والله عزيز حكيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/332.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أرسله الله سبحانه للناس كافة، ومنهم اليهود الذين كانوا في عصره ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ أي مصدق لما في التوراة من أصول التوحيد، والبشارة بمحمد.
2. ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، وهم علماء اليهود، ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ المراد بكتاب الله القرآن.. وقيل: بل التوراة، لأن كفرهم بمحمد كفر بالتوراة التي بشرت بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى، لأن كلا منهما قد حرّف كتابه فيما يتعلق بالبشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل لا فرق بين اليهود، وبين معمم يحرّف كلام الله تبعا لأهوائه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/160.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿نَبَذَهُ﴾، النبذ الطرح ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ﴾، المراد به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ﴾ على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة.
2. الآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/232.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ في دلالتها على صدقك، وأن الحق معك، وعلى إبطال المكذبين لك، وتهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الخبثة الفاجرون، أهل الجرأة على الباطل، والممارسة للقبائح؛ لأن الآيات بينات لا يجحدها منصف وجحدها قبيح جداً من حيث أهميتها من حيث أنها تهدي إلى طريق السعادة للناس كافة، ونجاتهم من عذاب الله، فهي خير عظيم عام للبشر، ومدافعتها شرّ عام عظيم.
2. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فلذلك يتجرؤون على نقض العهود، وقد كان من عهدهم الإيمان برسل الله، فكفروا برسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبعضهم كفر بعيسى عليه السلام؛ لأن عادتهم وطريقتهم ترك الإيمان، والسياق في الكفار من (بني إسرائيل)
3. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مُصَدِّقٌ﴾ للتوراة، وما ﴿مَعَهُمْ﴾ منها ومن كتب الله ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ عُلّموا التوراة وما فيها من صفات الرسول وأخذ الميثاق عليهم بالإيمان برسل الله فنبذوا ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ الذي هو التوراة، وذلك كبير جداً؛ لأن من نبذ كتاب الأمير في بلده يُعَدّ مسيئاً في حقه يستحق العقوبة، فكيف بمن نبذ كتاب ملك الملوك الذي يدعو عباده إلى رحمته وإلى أسباب كرامتهم ونجاتهم من العذاب المهين!؟
4. ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ وهذا أقبح النبذ والتمرد أن يلقوه وراء ظهورهم رفضاً له واستخفافاً به ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ شيئاً من العلم كأنهم لا يعلمون من وعد الله ووعيده ما يردع عن التمرّد، وكأنهم لا يعلمون من عظمة الله ورقابته عليهم ما يخيفهم من عذابه كأنهم لا يعلمون كما لا تعلم الأنعام.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/155.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ في هذا القرآن الذي بين يديك، في وضوح الفكرة فيها، وعمق الحجّة التي تؤدي إلى الالتزام بالإيمان، ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ الذين يتحركون في الحياة من خلال ذهنية التمرد على الله في سلوكهم العملي، الأمر الذي يصل بهم إلى الكفر، لأن الإيمان يفرض عليهم الالتزام الدقيق بالمضمون الواسع للتوحيد في حركة الواقع، فيكفرون هربا من الالتزام من غير عقدة فكرية تفرض عليهم ذلك؛ ومن هنا نفهم أن الكفر قد يكون نتيجة الفسق كعنصر سلبي من عناصر شخصية الكافرين.
2. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا﴾ فيما عاهدوا الله عليه، أو فيما أبرموه مع الأنبياء أو مع الناس، ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ وطرحوه انطلاقا من فقدانهم للقاعدة الروحية الأخلاقية التي تدعو الإنسان إلى الالتزام بعهوده، كمظهر من مظاهر التوازن في الشخصية والاحترام للذات والآخرين، لأن الذي ينقض عهده ويتنكر لكلمته هو إنسان لا يحترم نفسه في التزاماتها ولا يحترم الآخرين في علاقته بهم. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فليست القضية في الانحراف لديهم حالة جزئية محدودة، بل هي ظاهرة بارزة في مجتمعهم في حجم الأكثرية الرافضة للإيمان والمؤثرة سلبا على التزامات الإنسان في عهوده.
3. ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ من التوراة في مفاهيمه وشرائعه ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وهم الأكثرية، كتأكيد لما ورد في الآية السابقة، ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ فلم يؤمنوا به ولم يدخلوا مع النبي في حوار حوله، ليتعرفوا بذلك الدلائل الواضحة على صدقه، ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ كما لو كانوا لا يعرفون الحقائق الواضحة التي يعرفونها، والمتمثّلة في آياته.
4. في الآية دلالة إيحائية على أن هناك أقلّية من أهل الكتاب دخلت في الإسلام، وانفتحت عليه وعلى رسوله وكتابه، ولذلك فإنه يشير إليها ولا يلغي دورها.
5. في هذه الآيات عودة إلى توضيح الصورة القلقة في سلوك المجتمع اليهودي آنذاك، فهم يكفرون بآيات الله التي أنزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع وضوح دلائل ألوهيتها، ونراهم ـ في الوقت نفسه ـ يدّعون لأنفسهم الاستقامة والثبات على الخط، ويتجاهلون مدلول تصرفاتهم المتذبذبة؛ فالذي يكفر بها مع هذا الوضوح، لا يمكن إلا أن يكون فاسقا خارجا عن خطّ الإيمان، وفي هذا إيحاء بأن الكفر والفسق في المدلول القرآني لا يمثّلان مصطلحين متقابلين، كما هي الحال في مفهوم الفقهاء، حيث يطلقون الفسق على ما يقابل العدالة، مع التحفظ على مبدأ الإيمان في العقيدة، ويطلقون الكفر على ما يقابل الإيمان، مع عدم ملاحظة جانب العمل في ذلك.
6. ثم تكمل الآية الصورة في المجال العملي؛ فنواجه نقض العهود التي كانوا يعقدونها مع النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومع الآخرين، فهذا هو ديدنهم وطريقتهم في علاقاتهم الاجتماعية، ثم اعتبر القرآن الكريم أن الفريق الذي يمارس هذا السلوك يمثّل الأكثرية المنطلقة من عدم الإيمان، لأن الإيمان يدعو إلى الحقّ، والحقّ يدعو إلى الوفاء.
7. وتتضح الصورة في الجانب التطبيقي للفكرة التي ألمحت إليها الآية مع بعض التفاصيل، فقد جاء رسول الله ومعه القرآن الذي يصدق ما لديهم من التوراة، حتى أنهم لا يحتاجون في التعرف على صحته إلا إلى الرجوع إلى التوراة ليقارنوا بينها وبينه، ولكنهم نبذوا التوراة التي هي كتاب الله وراء ظهورهم، فلم يعملوا بها، لأنّ ذلك لا ينسجم مع عصبيتهم وأنا نياتهم، كأنهم لا يعلمون وجه الحقّ في ذلك، مع أنهم يعلمونه حقا كما يعرفون أنفسهم وأولادهم، وذلك هو الضلال الكبير.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/139.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي توفرت لدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتؤكد أن المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقّانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ .
2. التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف، وبمطالعة هذه الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعظمة القرآن.. لكن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب، من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة.
3. ثم تتطرق الآية الكريمة إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنها صفة تأريخية تلازمهم على مرّ العصور ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، لقد أخذ الله ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.
4. يهود (بني النضير) و(بني قريضة) عقدوا الميثاق مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لدى هجرته المباركة إلى المدينة أن لا يتواطؤوا مع أعدائه، لكنهم نقضوا العهد، وتعاونوا مع مشركي مكة في حرب الأحزاب ضد المسلمين.
5. هذه الخصلة في هذا الفريق من اليهود نجدها اليوم متجسدة في الصهيونية العالمية التي تضع كل المواثيق والقرارات والمعاهدات الدولية تحت قدميها، متى ما تعرّضت مصالحها للخطر.
6. كان أحبار اليهود يبشرون النّاس قبل البعثة النبوية بالرّسول الموعود ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلمّا بعث نبي الإسلام، أعرضوا عمّا جاء في كتابهم، وكأنهم لم يروا ولم يقرؤوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.
7. هذه هي النتيجة الطبيعية للأفراد الغارقين في ذاتياتهم، هؤلاء ـ حتى في دعوتهم إلى حقيقة من الحقائق ـ لا يتجردون عن ذاتياتهم، فإن وصلوا إلى تلك الحقيقة ووجدوها تنسجم مع أهوائهم، أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهروهم.
8. واضح أن تعبير (النّزول) أو (الإنزال) بشأن القرآن الكريم لا يعني الانتقال المكاني من الأعلى إلى الأسفل وأن الله مثلا في السماء وأنزل القرآن إلى الأرض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة ربّ العالمين.
9. كلمة (فاسق) من مادة (فسق) وتعني خروج النّواة من الرطب، فقد تسقط الرطبة من النخلة، وتنفصل عنها النّواة، ويقال عن هذا الانفصال في العربية (فسقت النواة)، ثم أطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله، وعن طريق العبودية.. فكما أن النّواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي، كذلك الفاسق ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيّته الإنسانية.
10. القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل (فريق) (أكثر) ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/312.
41. الشياطين والسحر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈41⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102 ـ 103]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة، والعجم: أناهيذ، وكان الملكان يحكمان بين الناس، فأتتهما، فأرادها كل واحد منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما: يا أخي، إن في نفسي بعض الأمر أريد أن أذكره لك، قال اذكره، لعل الذي في نفسي مثل الذي في نفسك، فاتفقا على أمر في ذلك، فقالت لهما المرأة: ألا تخبراني بما تصعدان به إلى السماء، وبما تهبطان به إلى الأرض! فقالا: باسم الله الأعظم، قالت: ما أنا بمؤاتيتكما حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها إياه، فقال: كيف لنا بشدة عذاب الله!؟ قال الآخر: إنا نرجو سعة رحمة الله، فعلمها إياه، فتكلمت به، فطارت إلى السماء، ففزع ملك في السماء لصعودها؛ فطأطأ رأسه، فلم يجلس بعد، ومسخها الله فكانت كوكبا(1). وظاهر أنه مدسوس عليه، كما سنرى في أقوال المفسرين.
__________
(1) ابن أبي الدنيا في العقوبات.
عائشة:
روي عن عائشة (ت 58 هـ) أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، قالت: كان لي زوج، فغاب عني، فدخلت على عجوز، فشكوت إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك، فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما، وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري، وارجعي، فأبيت، وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه، فذهبت، ففزعت، ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: فعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلدك، ولا تكفري، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه، ثم ائتي، فذهبت، فاقشعر جلدي، وخفت، ثم رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا، فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك، ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه، فذهبت، فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه، وجئتهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: رأيت فارسا مقنعا خرج مني، فذهب في السماء حتى ما أراه، قالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله، ما أعلم شيئا، ولا قالا لي شيئا، فقالت: بلى، لم تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت: أطلعي، فأطلعت، قلت: أحقلي، فأحقلت، ثم قلت: أفركي، فأفركت، ثم قلت: أيبسي، فأيبست، ثم قلت: أطحني، فأطحنت، ثم قلت: اخبزي، فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي، وندمت، والله، يا أم المؤمنين، ما فعلت شيئا، ولا أفعله أبدا، فسألت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلهم خاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك(1).، وهذا حديث مدسوس، أو هو من تأثير مخالفة ما ورد من النهي عن الثقة في أهل الكتاب(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٥٣.
(2) علَّقَ ابن كثير: 1/533 ـ: 534 على أثر عائشة هذا بقوله: وقد ورد أثر غريب، وسياق عجيب في ذلك، أحببنا أن ننبه عليه، ثم ساق الحديث، وقال: فهذا إسناد جيد إلى عائشة، وقد استدلّ بهذا الأثرِ من ذهب إلى أن الساحر له تَمَكُّنٍ في قَلْبِ الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت، واستغلت في الحال، واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل دُنباوند، كما قاله السدي وغيره.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) هذه الآثار مع التنبيه إلى أن الكثير منها مدسوس عليه، كما سنرى في أقوال المفسرين:
1. روي أنّه قال: ﴿مَا تَتْلُو﴾ ما تتبع(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾، أي: الشهوات التي كانت الشياطين تتلو، وهي المعازف، واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ التفريق بين المرء وزوجه(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ لم ينزل الله السحر(4).
5. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ قوام(5).
6. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ من نصيب(6).
7. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ من نصيب: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت أمية بن أبي الصلت وهو يقول(7).:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم... إلا سرابيل من قطر وأغلال
8. روي أنه قال: لما ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس، واتبعوا الشهوات، فلما رجع إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين؛ ظهر على كتبهم، فدفنها تحت كرسيه، وتوفي حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان، أخفاه منا، فأخذوه، فجعلوه دينا، فأنزل الله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾(2).
9. روي أنّه قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس، واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داوود، فأخذها، فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق، فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع! قالوا: نعم، فأخرجوه، فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر، فقال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ الآية(8).
10. روي أنّه قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، فأكفره جهال الناس، وسبوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه، حتى أنزل الله على محمد: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾ الآية(9).
11. روي أنّه قال: كان الذي أصاب سليمان بن داوود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها: جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه، قال فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا، قال وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من شأنه؛ أعطى الجرادة ـ وهي امرأته ـ خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت، لست سليمان، فعرف أنه بلاء ابتلي به، فانطلقت الشياطين، فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها، فقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرئ الناس من سليمان، وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنزل عليه: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ [البقرة: 102] يعني: الذي كتب الشياطين من السحر والكفر، ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾، فأنزل الله عذره(10).
12. روي أنّه قال: لما كثر بنو آدم وعصوا؛ دعت الملائكة عليهم، والأرض، والجبال: ربنا، لا تمهلهم، فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو تركتكم لفعلتم أيضا، قال فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، يسمونها: بيذخت، قال فواقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا(11).
13. روي أنّه قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله؛ قالت الملائكة في السماء: رب، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد وقعوا فيما وقعوا فيه، وركبوا الكفر، وقتل النفس، وأكل مال الحرام، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم، ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم، من أفضلكم ملكين؛ آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما أن يعبداه ولا يشركا به شيئا، ونهاهما عن قتل النفس الحرام، وأكل مال الحرام، وعن الزنا، وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها، فخضعا لها في القول، وأراداها عن نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما، فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا، فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها عن نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبا، ثم أتيا عليها، فأراداها عن نفسها، فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم قال لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث؛ إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذا النفس، وإما أن تشربا هذا الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر، فأخذت منهما، فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما، فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْض﴾ [الشورى: ٥]، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان(12).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٢٠.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٨٥.
(3) ابن جرير: ٢/٣٣٣.
(4) ابن جرير: ٢/٣٣١.
(5) ابن جرير: ٢/٣٦٦.
(6) ابن أبي حاتم: ١/١٩٥.
(7) الطَّسْتِيُّ ـ كما في الإتقان: ٢/٨٢.
(8) سعيد بن منصور.
(9) النسائي في الكبرى: ١٠/١٢.
(10) ابن جرير: ٢/٣٢٤.
(11) ابن جرير: ٢/٣٤٢.
(12) ابن أبي حاتم: ١/١٨٩.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) هذه الآثار مع التنبيه إلى أن الكثير منها مدسوس عليه، كما سنرى في أقوال المفسرين:
1. روي أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب، ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك﴾!قال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون﴾، قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان، فقالوا: ربنا، هاروت وماروت، قال فأهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة، امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها، فقالت: لا، والله، حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك، قالا: لا، والله، لا نشرك بالله أبدا، فذهبت عنهما، ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا، والله، حتى تقتلا هذا الصبي، قالا: لا، والله، لا نقتله أبدا، فذهبت، ثم رجعت بقدح من خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا، والله، حتى تشربا هذا الخمر، فشربا، فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله، ما تركتما شيئا أبيتماه إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا)(1).، وهذا من أحاديث كعب الأحبار التي نسبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زورا وبهتانا(2).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أشرفت الملائكة على الدنيا، فرأت بني آدم يعصون، فقالت: يا رب، ما أجهل هؤلاء، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك، فقال الله: لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني، قالوا: كيف يكون هذا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك!؟ قال فاختاروا منكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض، وركبت فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة، فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، قال ما تقول فاختر، قال أقول: إن عذاب الدنيا ينقطع، وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ ) الآية(3).، وهو من الأحاديث التي رُفعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زورا وبهتانا(4).
3. روي أنّه روي عن كعب الأحبار، قال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل: لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا، فليس بيني وبينكما رسول، أنزلا، لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر، قال كعب: فو الله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه(5).
4. روي عن بعضهم أنّه قال: كنت مع ابن عمر في سفر، فقال لي: ارمق الكوكبة، فإذا طلعت أيقظني، فلما طلعت أيقظته، فاستوى جالسا، فجعل ينظر إليها ويسبها سبا شديدا، فقلت: يرحمك الله، أبا عبد الرحمن، نجم سامع مطيع، ما له يسب!؟ فقال: ها، إن هذه كانت بغيا في بني إسرائيل، فلقي الملكان منها ما لقيا(6).، وهو حديث منكر، ومن تأثير اليهود(7).
5. روي عن مجاهد قال: كنت نازلا على ابن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر، طلعت الحمراء؟ لا مرحبا بها، ولا أهلا، ولا حياها الله، هي صاحبة الملكين؛ قالت الملائكة: رب، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام، وينتهكون محارمك، ويفسدون في الأرض!؟ قال إني قد ابتليتهم، فلعلي إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض، وعاهد إليكما: ألا تشركا، ولا تزنيا، ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض، وألقي عليهما الشبق، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما؛ فأراداها عن نفسها، فقالت: إني على دين لا يصلح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسية، قالا: الشرك! هذا شيء لا نقربه، فمكثت عنهما ما شاء الله، ثم تعرضت لهما، فأراداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجا، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما أن تصعدا بي إلى السماء، فعلت، فأقرا لها بدينها، وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما، فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلانا فسألناه يطلب لنا التوبة، فأتياه، فقال: رحمكما الله، كيف يطلب أهل الأرض لأهل السماء، قالا: إنا قد ابتلينا، قال ائتياني يوم الجمعة، فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما؛ إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: الدنيا لم يمض منها إلا القليل، وقال الآخر: ويحك، إني قد أطعتك في الأول، فأطعني الآن؛ إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى، وإننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا، قال لا، إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة؛ لا يجمعهما علينا، قال فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار، أعاليهما أسافلهما(8).، وهذا من آثار التلمذة على اليهود، وخصوصا كعب الأحبار(9).
6. روي أنّه قال: وأما شأن هاروت وماروت؛ فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما في الأرض بين بني آدم، فاختاروا ـ فلم يألوا ـ هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم؟ وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمر، ونهاهما، ثم نزلا على ذلك، ليس أحد أطوع لله منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم، فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال نعم، فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك، فلما رجعت قالا لها ـ وقضيا لها ـ: ائتينا، فأتتهما، فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا طارت الزهرة، فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا عرجا، فزجرا، فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه، فقالا: ادع لنا ربك، فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوما يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقالا: نعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، نعم، ومع الدنيا سبع مرات مثلها، فأمرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما، وزعم أنهما معلقان في الحديد، مطويان، يصطفقان بأجنحتهما(10).
__________
(1) أحمد: ١٠/٣١٧.
(2) قال المنذري في الترغيب والترهيب: 3/179 ـ: 180: 3575.
(3) البيهقي في الشعب: ١/٣٢١.
(4) قال البيهقي: ورويناه من وجه آخر عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا عليه، وهو أصح؛ فإن ابن عمر إنما أخذه عن كعب.
(5) عبد الرزاق: ١/٥٣.
(6) سعيد بن منصور التفسير: ٢/٥٨٣.
(7) علَّقَ ابن عطية: 1/302 على الروايات الواردة في الزهرة، وما روي عن ابن عمر من أنه كان يلعنها، فقال: وهذا كله ضعيف، وبعيد على ابن عمر.
(8) ابن أبي حاتم: ١/١٩٠.
(9) قال ابن كثير: 1/528: وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر، وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية ابن صالح عن نافع عنه رفعُه، وهذا أثبت وأصح إسنادًا، ثم هو من رواية ابن عمر عن كعب.
(10) ابن جرير: ٢/٣٤٨.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما الإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي(1).
2. روي أنّه قال: إن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل علينا منا، وإنهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾ الآية، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب، فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه، ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد خزوا، وأدحض الله حجتهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٨٦.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزائنه، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزائنه، وتحت كرسيه، فاستثارته الإنس، فاستخرجوه، فعملوا به، فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر، فأنزل الله ـ جل ثناؤه ـ على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم براءة سليمان، فقال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ الآية، فأبرأ الله سليمان على لسان نبيه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٢٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ كانت الشياطين تستمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر(1).
2. روي أنّه قال: أما السحر فإنما تعلمه الشياطين، وأما الذي يعلمه الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣١٩.
(2) ابن جرير: ٢/٣٣٦.
(3) ابن جرير: ٢/٣٦٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾، لما توفي سليمان وقع في الناس أوصاب، فقال الناس: لو كان سليمان حيا كان عنده من هذا فرج، قال فظهرت لهم الشياطين، فقالوا: نحن ندلكم على ما كان يعمل سليمان، قال فكتبوا كتبا، فجعلوها في بيوت الدواب، فأمرهم أن يحفروا في بيوت الدواب، واستخرجوا الكتب التي كتب الشياطين من السحر والسجع، فقالوا: هذا ما كان سليمان يعمل، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر﴾، قال لم يكن من عمل سليمان، ولكن من عمل الشيطان(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٢/٢٥٦.
أبو مجلز:
روي عن لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل، فسأل بذلك العهد؛ خلي عنه، فزاد الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان، فقال الله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٢٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ واتبعته اليهود على ملكه، وكان السحر قبل ذلك في الأرض، ولم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ اتباع السحر كفر، وليس من دين سليمان السحر، يقول: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ بتركهم دين سليمان، واتباعهم ما تلت الشياطين على ملكه(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِل﴾، قال وكان هاروت وماروت مطيعين لله تعالى، هبطا بالسحر ابتلاء من الله لخلقه، وعهد إليهما عهدا أن لا يعلما أحدا سحرا حتى يقولا له مقدمة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ يعني: محنة وبلوى، ﴿فَلَا تَكْفُر﴾ فإذا أبى عليهما إلا تعليم السحر قالا له: اذهب إلى موضع كذا وكذا، فإنك إذا أتيته وفعلت كذا وكذا كنت ساحرا(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه﴾ لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه﴾ نعم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله، كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ(5).
7. روي أنّه قال: لو كانوا علماء أتقياء ما اختاروا السحر(6).
8. روي أنّه قال: أن صخرا المارد حين كان غلب على ملك سليمان، فلما فطن له الناس كتب كتاب السحر، ودعا الشياطين، فأخبرهم أنه قد غلب سليمان على ملكه، وأنه يلقي خاتمه في البحر فلا يقدر عليه، ويستريحوا منه، وأن هذا كتابا كتبه فيه أصناف السحر، وختمه بخاتم سليمان، وإني أدفنه تحت كرسيه، وكتب في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داوود من العلم، فلما مات سليمان جاءت الشياطين في صورة الإنس، فقالوا لبني إسرائيل: إن لسليمان كنزا من دفائن من كنوز العلم، كان يعمل به هذه العجائب، فهل لكم فيه؟ قالوا: نعم، فحفروا ذلك الموضع، واستخرجوا ذلك الكتاب، فلما نظروا فيه أنكر الأحبار ذلك، وقالوا: ما هذا من أمر سليمان، وأخذه قوم، وقالوا: والله ما كان سليمان يعمل إلا بهذا، ففشا فيهم السحر، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود، فلما ذكر الله لرسوله أمر سليمان، وأنزل عليه في سليمان في المرسلين، وعده فيهم، قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يزعم أن سليمان كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله تعالى فيما قالوا: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ يقول: ما كتبت الشياطين ـ يعني: أيام غلب صخر سليمان على ملكه ـ، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ هم كتبوا السحر، وما عمل سليمان بالسحر، ﴿وَمَا أَنْزَل﴾ السحر ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت﴾ حتى فرغ من قصتهما(7).
9. روي أنّه قال: إن الملكين ببابل إلى يوم القيامة، وإن من عزم على تعلم السحر ثم أتاهما سمع كلامهما من غير أن يراهما(8).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٥.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٨٦.
(3) ابن أبي حاتم: ١/١٨٧.
(4) تفسير مقاتل: ١/١٢٨.
(5) ابن أبي حاتم: ١/١٩٣.
(6) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٦٦.
(7) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٢/٢٥٦.
(8) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٦٥.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ ما أنزل على جبريل وميكائيل السحر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٨.
شهر:
روي عن شهر بن حوشب (ت 112 هـ) أنّه قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد، يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، إنما كان ساحرا يركب الريح، فأنزل الله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير مطولًا: ٢/٣٢٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾، قال فالسحر سحران؛ سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاه﴾، أي: لمن استحبه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ لقد علم أهل الكتاب فيما يقرؤون من كتاب الله، وفيما عهد لهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٣٣.
(2) ابن جرير: ٢/٣٦٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ معناه تتبع.. وتتلو أيضا: تقرأ)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ من نصيب خير)(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ : معناه باعوا به أنفسهم)(1).
4. روي أنّه قال: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يريد بها الثّواب)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 87.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾، قال هذا سحر خاصموه به؛ فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، يعني: اليهود، يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه واختاره ما له في الآخرة من خلاق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا﴾ باعوا(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ أما المثوبة فهو الثواب(4).
5. روي أنّه قال: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني، قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل، فقال لهما: انزلا، فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس، فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها، واسمها بالعربية: الزهرة، وبالنبطية: بيذخت، واسمها بالفارسية: أناهيذ، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني، فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك، فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله، فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء؟ وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت، فأنساها الله ما تنزل به، فبقيت مكانها، وجعلها الله كوكبا ـ فكان ابن عمر كلما رآها لعنها، وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت ـ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا، فلم يستطيعا، فعرفا الهلكة، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر(5).
6. روي أنّه قال: إذا أتاهما ـ يعني: هاروت وماروت ـ إنسان يريد السحر وعظاه، وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة، فإن أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه، فذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾ الآية(6).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٣٣.
(2) ابن جرير: ٢/٣٦٣.
(3) ابن جرير: ٢/٣٦٨.
(4) ابن جرير: ٢/٣٧٢.
(5) ابن جرير: ٢/٣٤٤.
(6) ابن جرير: ٢/٣٥٥.
خصيف:
روي عن خصيف بن عبد الرحمن (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال لأي داء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فلما نبتت الشجرة الخرنوبة قال لأي شيء أنت؟ قالت: لمسجدك أخربه، فلم يلبث أن توفي، فكتب الشياطين كتابا، فجعلوه في مصلى سليمان، فقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به، فانطلقوا، فاستخرجوا ذلك الكتاب، فإذا فيه سحر ورقى، فأنزل الله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ ـ وذكر أنها في قراءة أبي: (وما يتلى على الملكين) ـ ﴿بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾، سبع مرار، فإن أبى إلا أن يكفر علماه، فيخرج منه نور حتى يسطع في السماء، قال المعرفة التي كان يعرف(1).
2. روي أنّه قال: كنت مع مجاهد، فمر بنا رجل من قريش، فقال له مجاهد: حدثنا ما سمعت من أبيك؟ قال حدثني أبي: أن الملائكة حين جعلوا ينظرون إلى أعمال بني آدم وما يركبون من المعاصي الخبيثة، وليس يستر الناس من الملائكة شيء، فجعل بعضهم يقول لبعض: انظروا إلى بني آدم كيف يعملون كذا وكذا! ما أجرأهم على الله! يعيبونهم بذلك، فقال الله لهم: قد سمعت الذي تقولون في بني آدم، فاختاروا منكم ملكين أهبطهما إلى الأرض، وأجعل فيهما شهوة بني آدم، فاختاروا هاروت وماروت، فقالوا: يا رب، ليس فينا مثلهما، فأهبطا إلى الأرض، وجعلت فيهما شهوة بني آدم، ومثلت لهما الزهرة في صورة امرأة، فلما نظرا إليها لم يتمالكا أن تناولا ما الله أعلم به، وأخذت الشهوة بأسماعهما وأبصارهما، فلما أرادا أن يطيرا إلى السماء لم يستطيعا، فأتاهما ملك، فقال: إنكما قد فعلتما ما فعلتما، فاختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة، فقال أحدهما للآخر: ماذا ترى؟ قال أرى أن أعذب في الدنيا، ثم أعذب، أحب إلي من أن أعذب ساعة واحدة في الآخرة، فهما معلقان منكسان في السلاسل، وجعلا فتنة(1).
__________
(1) سعيد بن منصور.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ ما أنزل الله عليهما السحر(1).
2. روي أنّه قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر، وقتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين، آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتي، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، وأمرا أن يعبدا الله، ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنها أتت عليهما، فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها الذي هي عليه، فأخرجت لهما صنما، فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فصبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها، فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، فقالت: لا، إلا أن تكونا على ما أنا عليه، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث؛ إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمرة فيهما وقعا بها، فمر إنسان وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه، فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ إن اليهود سألوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر﴾، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه، ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده، وقد خزوا، وأدحض الله حجتهم(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٣١.
(2) ابن جرير: ٢/٣٤٥.
(3) ابن جرير: ٢/٣١٥.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف: هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه، ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوها من تحت مصلاه، وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا؛ فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان، وأما السفلة، فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة لسليمان، فلم تزل هذا حالهم حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل عذر سليمان على لسانه، وأظهر براءته مما رمي به، فقال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين﴾(1).
2. روي أنّه قال: لا يعلمان إلا الفرقة، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه ويقولا له: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾(2).
__________
(1) الواحدي في أسباب النزول: ص ١٣٧.
(2) عبد الرزاق: ١/٥٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾، لا يجترئ على السحر إلا كافر(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٥٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾، يعني: ما تلت الشياطين على عهد سليمان، وفي سلطانه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت﴾، أي: واتبعوا ما أنزل على الملكين، يعني: هاروت وماروت، وكانا من الملائكة، مكانهما في السماء واحد(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر﴾، وذلك أن هاروت وماروت يصنعان من السحر الفرقة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّين﴾ يعني: السحرة ﴿بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ يعني: بالسحر ﴿مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه﴾ في ضره(2).
5. روي أنّه قال: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ ما له في الآخرة من نصيب، نظيرها في براءة قوله سبحانه: ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُم﴾ [التوبة: ٦٩]، وكقوله: ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة﴾ [آل عمران: ١٧٧]، يعني: نصيب(1).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا﴾ يقول: باعوا به أنفسهم من السحر، ﴿لَو﴾ يعني: إن ﴿كَانُوا يَعْلَمُون﴾، ولكنهم لا يعلمون(3).
7. روي أنّه قال: ثم قال لليهود: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ يعني: صدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَاتَّقُوا﴾ الشرك(3).
8. روي أنّه قال: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه﴾ لكان ثوابهم عند الله خير من السحر والكفر، ﴿لَو﴾ يعني: إن كانوا ﴿يَعْلَمُون﴾، نظيرها في المائدة [٦٠]: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّه﴾، يعني: ثوابا(3).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٢٦.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٢٧.
(3) تفسير مقاتل: ١/١٢٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ أي: في ملك سليمان، يعني: اليهود الذين قالوا ما قالوا، ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَان﴾ أي: ما علم بالسحر، والسحر كفر لمن عمل به، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي: هم الذين صنعوا ما صنعوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه﴾، أي: بتخلية الله بينه وبين ما أراد(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/١٨٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/١٩٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن﴾ فقرأ حتى بلغ: ﴿فَلَا تَكْفُر﴾، قال الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله ما له في الآخرة من خلاق، ومن لم يكن له خلاق فالنار مثواه ومأواه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان﴾ قال لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ الآية، قال اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب، فقرأ حتى بلغ: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٣٣٣.
(2) ابن جرير: ٢/٣٦٤.
(3) ابن جرير: ٢/٣١٥.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، السحر أمر لا يكون، ولا يؤاتي أهله إلا بعظيم من الكفر، والأئمة فيه والمعلمون له فهم الشياطين، الكفرة الظالمون؛ ولذلك يقول منهم من علمه لـمن يريد أن يتعلمه: ﴿ لا تكفر ﴾؛ ليكفر إذا كفر بإقدام وتصميم، بعد النهي بالتوقيف، والإبانة للكفر والسحر والتعريف، فكفر أهله بعد المعرفة بالتصميم ككفر إبليس فيما صمم من الكفر بالسحر.
2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ قد يكون نفيا، لا أن يكون السحر أنزل عليهما، وإكذابا لمن نسب السحر من اليهود إليهما، ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ : فقد يكون في النفي للسحر عنهما في النفيان، كقوله سبحانه في النفي: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾
3. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ قد يقال: اسمان نبطيان، معروف ذلك فيما يستنبط من اللسان؛ لأن ماروت القرية في لسان النبط هو: القرية وواليها، وهاروت القرية فيما نرى هو: مستخرجها وجابيها.
4. لو كان من يعلم السحر ـ لكان من الملائكة إذا من قد كفر، ولما صح قوله سبحانه فيهم: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 26 ـ 28]، وقوله سبحانه: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: 172]، وقربتهم هي: منزلتهم عند الله في الزلفى والمكان، وبراءتهم كلهم عند الله من العصيان، ولو كان منهم صلى الله عليهم من عصى بكفر أو غيره ـ لذكره الله بعصيانه، كما ذكر إبليس في تنزيله؛ أما تراه كيف نحاه لمعصيته عنهم، ولم يجعله ـ إذ عصى ـ منهم، فقال فيهم: ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر به أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ﴾ [الكهف: 50]، وذريته فإنما هم: أمثاله وقبيله، وفي إبليس وقبيله ما يقول الله سبحانه في تنزيله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/56.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كذلك قال سبحانه في هاروت وماروت ومن يتعلم منهما: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، يريد سبحانه: بتخلية الله لهم؛ لإثبات الحجة عليهم.
2. إذ قد مكنهم من العمل والفعل، ثم أمرهم بتقواهم، وبصرهم غيهم وهداهم، وعن تعليم السحر وتعلمه نهاهم، فإن ائتمروا، وتعليم السحر وتعلمه تركوا ـ أنيلوا الثواب، وإن أبوا، وما نهوا عنه تخيروا ـ وجب عليهم بفعلهم العقاب، وحرموا بذلك من الله الثواب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/58.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى: ﴿ وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ : إلا بعلم الله وتخليته لهم، فهذا معنى جهلته المجبرة، ويتعالى الله عن الأمر بما نهى عنه علوا كبيرا.
2. قال سبحانه منكرا على من نسبه إلى مثل ذلك: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾، إلى قوله: ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ... الآية؛ فمعنى ﴿فَادْعُوهُ﴾ : فاعبدوه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/58.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾، هذه حكاية من الله سبحانه عن أهل الشرك من اليهود وأمثالهم؛ كانوا يزعمون: أن ملك سليمان ـ صلى الله عليه ـ وما نال إنما هو بسبب السحر، وأنه كان يسحر؛ حتى نال كل ما نال من الملك، فعليهم لعنة الله؛ فقد قالوا زورا وبهتانا، واجترأوا في قولهم، وكفروا بخالقهم، فأبرأ الله سبحانه سليمان من ذلك، فقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، فكان ذلك فعلا من شياطين الإنس والجن، وافتراءا على سليمان، فبرأه الله من قولهم، ونزهه من كلامهم، وبين كذبهم وقبح مقالتهم.
2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾، تقرأ بكسر الزاي وفتح اللام؛ وإنما كان أهل الزيغ والكفر ينسبون السحر الذي كان ببابل هاروت وماروت إلى ملكين من الملائكة؛ فقال الله عز وجل نفيا عنهما: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾، أراد سبحانه: شيئا مما يقولون؛ لأن الملائكة أطهر وأعرف بالله وبدينه من أن تعصي الله، أو تدخل فيما لا يرضيه، فنفى الله ذلك عنهما، فقال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ مما يقولون عليهما شيء، ولا فعلاه.
3. إنما كان ـ يرحمك الله ـ اللذان يسحران ببابل هاروت وماروت: رجلين كانا جابيا القريتين، آمرين فيهما ناهيين.. وهاروت وماروت فهما: قريتان، وهما بلغة النبطية: القرية؛ فكانا يعلمان السحر، كما ذكر الله عنهما، ثم يروى: أنهما تابا؛ فكان من قصتهما ما قد تناهى إليكم.
4. قد قالت في ذلك الحشوية: بقول عظيم عند الله ـ سبحانه ـ جليل، في أمر الملكين والمرأة وما كان منهما؛ وهذا أمر لا يقول به مؤمن بالله عز وجل.. فأما ما ذكرت في مسألتك هذه، وما تخرج عليه القراءة وتقع، وما بينته فيه وأخرجته من طريق النحو ـ فليس يطرد على ذلك؛ وكيف يجوز لأحد أن يدخله شك فيما هو أبين من الشمس؛ لأن من شك في هذا، ونسبه إلى الملائكة ـ فقد أكذب الله سبحانه وتعالى، وكفر به، وسواء عليه نسبه إلى الملائكة، أو جحد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو جحد الكتاب؛ لأن الكتاب إنما هو من عند الله عز وجل، وكذلك النفي عن الملكين من الله، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل في الملائكة: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾؛ فشهد لهم بالطاعة، ثم قال ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، فشهد لهم تبارك وتعالى بالعبادة، واختارهم لوحيه، وإنفاذ أمره ونهيه، وائتمنهم على ما تعبد به خلقه.
5. وقد ذكر الله عز وجل الملائكة حين قال المشركون: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، فقال سبحانه: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾، فأخبر سبحانه: أنهم لا يطمئنون في الأرض، ولا يمشون معهم، ولا يبدون لهم، وقد قال سبحانه في موضع آخر: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾، فأخبر سبحانه في الآية الأولى: بأنهم لا يطمئنون في الأرض مع الآدميين، ولا يبدون لهم ولا يؤانسونهم، وفي هذه الآية الآخرة: أخبر سبحانه أنه لو أنزل ملكا لقضي الأمر، يقول: لو أنزل ملكا حتى ينظر ويخاطب لقضي الأمر وقامت القيامة؛ لأن ظهور الملائكة للآدميين لا يكون إلا في القيامة، أو عند الموت؛ فهذا أيضا تصديق لما قلنا به؛ لأنه لو تناقض قول الله سبحانه لتضادت أحكامه، ولوقع الخلل فيما شرح الله وقص في كتابه، ولكان في ذلك من الفساد مالا يقع معه أبدا سداد، والله سبحانه بريء من ذلك، لا يختلف قوله ولا يتناقض حكمه، الصادق في وعده ووعيده، البريء من ظلم عبيده.
6. وقال الله سبحانه في طاعة الملائكة، وإبعاد ما يقول به الظالمون فيهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾، يريد أهل الكفر عليهم لعنة الله بذلك الملائكة، فقال سبحانه: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، يريد عز وجل: أنهم لا يقولون إلا ما أمرهم به، ولا يمضون إلا ما أمرهم بإمضائه، ثم قال في آخر الآية: ﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾
7. فكيف يحل لمسلم أن يقول في من كانت هذه حاله، وهذا خبر الله عنه: أن منهم من قد عصا الله، ونزل مع الخلق، وعلمهم السحر؛ هذا قول فاحش عظيم، لا يقول به مؤمن، ولا عبد عند الله مكرم، إلا أن ينقض أمر الله سبحانه، ويكذب قوله، فيكون من الهالكين، وعند الله سبحانه من الملعونين؛ لأن في الملائكة خبرين من الله:
أ. أحدهما: أنهم لا يطمئنون في الأرض مع الخلق يحدثونهم، ولا يبدون لهم إلى يوم القيامة، وأنهم لو بدوا في هذه الدنيا لقامت القيامة، ولم يذكر عز وجل أنهم يظهرون في هذه الدنيا إلا لمن ذكر من أنبيائه أو لمن حضرته الوفاة.
ب. والخبر الثاني: أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ولا يسبقونه بالقول، فأثنى عليهم، ومدحهم بالطاعة والعبادة، وفي أقل مما احتججنا به هدى وشفاء لما في الصدور، وبرهان واضح في جميع الأمور، لا شبهة ولا ارتياب، والله نسأله حسن التوفيق للصواب، والعون على واضح الجواب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/53.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾
أ. قيل: تتلو: ما كتبت الشياطين من السحر.
ب. وقيل: تتلو؛ من التلاوة.
ج. وقيل: ما تتلو: ما يروى الشياطين من السحر، وهو قول ابن عباس وهو يرجع إلى واحد.
2. الآية في موضع الاحتجاج على اليهود؛ لأنهم ادعوا: أن الذي هم عليه أخذ عن سليمان عليه السلام، فإن كان كفرا فقد كفر سليمان، فأخبر الله ـ عزّ وجل ـ نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. أن سليمان ما كفر، ولكن الشياطين كفروا بما علّموا الناس من السحر.
ب. ويحتمل: لكن أتباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر، وعملهم به بتعليم الشياطين، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا، كما نسبت عبادة الأصنام إلى الشياطين بما بهم عبدوا.
3. اختلف في قصة ذلك:
أ. روى عن ابن عباس قال كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان، ويدفنه تحت كرسيه؛ فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا، وكفرا، وكذبا؛ فقالوا: هذا الذي كان يعمل به سليمان؛ فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه؛ حتى أنزل الله ـ عزّ وجل ـ على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ الآية.
ب. وقال بعضهم: إن الشياطين ابتدعت كتابا من السحر والأمر العظيم، ثم أفشته في الناس وعلمته إياهم؛ فلما سمع بذلك سليمان تتبع تلك الكتب، فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس، فلما قبض نبيّ الله سليمان عليه السلام عمدت الشياطين إلى تلك الكتب فاستخرجتها من مكانها، وعلموها الناس، وأخبروهم أنه علم كان سليمان يكتمه، ويستأثره؛ فعذر الله نبيّه سليمان، وبرأه من ذلك على لسان نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ الآية.
ج. وقيل أيضا: لما مات سليمان عليه السلام وقع في الناس أوصاب وأوجاع؛ فقال الناس: لو كان سليمان عليه السلام حيّا لكان عنده من هذا فرج، فظهرت الشياطين لهم فقالوا: نحن ندلكم على ما كان يعمل به سليمان عليه السلام كتبا، فجعلوها في البيوت، فاستخرجوا الكتب التي كتبت لهم الشياطين من السحر، فقالوا: هذا ما كان يعمل به سليمان، فأنزل الله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ الآية.
4. لا ندرى كيف كانت القصة، غير أن اليهود تركت كتب الأنبياء والرسل، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر، وفيه دلالة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ بما أخبرهم عن قصتهم ـ على ما كان ـ فدل أنه كان عرف ذلك بالله عزّ وجل.. وفى ذلك أن قد نسب إلى سليمان ما برأه الله عنه من غير أن يبيّن ماهيّته، ذكره الله عزّ وجل لوجهين: دلالة لرسوله، وتكذيبا للذين نحلوه بما هو كفر.
5. معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي في ملكه؛ إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم، ثم سخّرهم الله لسليمان، فأمكن ذلك منهم، ألقاه على ألسن المعاندين لسليمان في السّر؛ فرووه عنه بعد الوفاة؛ فكذبهم الله ـ عزّ وجل ـ وبرأ نبيّه عليه السلام عن ذلك، وبين كيف كان بدؤه.
6. إنما بينها للخلق؛ لئلا يتبعوا في الرواية كلّ من لقى النبى؛ إذ قد يكون من أمثالهم: اختراع الرواية، وإلزام السامعين الأمور المعتادة من الرسل، ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية؛ ولذلك أبطل أصحابنا خبر الخاصّ فيما يبلى به العام.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾
أ. قيل: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ على النفي والجحد، معطوفا على قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾
ب. وقيل: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ والذى أنزل على الملكين ببابل.
8. قيل: سميت بابل لما تبلبلت به الألسن، يعنى: اختلفت؛ فلا يعلم ذلك إلا بالسمع.
9. اختلف في (هاروت) و(ماروت):
أ. قال الحسن: لم يكونا ملكين، ولكنهما كانا رجلين فاسقين متمردين؛ وذلك أن الله ـ عزّ وجل ـ وصف ملائكته بالطاعة له والائتمار بأمره، بقوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ الآية [التحريم: 6]، وكقوله: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ الآية [الأنبياء: 27]، وكذلك يقول الحسن في إبليس: إنه لم يكن من الملائكة.
ب. ومنهم من يقول: كانا ملكين، لكنهما علما الاسم الأعظم، فيقضيان به الحوائج إلى أن حل بهما ما حل، وبهذا يحتج في بلعم بقوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ الآية [الأعراف: 175].
10. اختلف من يقول بأنهما كانا ملكين على أوجه:
أ. قال بعضهم: لم يكن ذلك منهما سحرا، بل هو تعويذ الفرقة يقدر عليه.
ب. قال قائلون: إن ما أنزل على الملكين أنزل كلاما حسنا صوابا، لكنه خلط بالذي لقنهم الشيطان؛ فصار سحرا.
ج. وقال آخرون: بلى، كان هو في نفسه سحرا، يعلمان الناس ذلك، لكنه لا ينهى عن تعليمه، ولا يكفر الذي تعلم، إنما ينهى عن الاعتقاد له، فكان كالكفر الذي يعلم، لا ينهى عن ذلك؛ لأنه ما لم يعلم لم نعلم قبحه وفساده، ولكن إنما ينهى عن الاعتقاد له؛ فكان كالكفر الذي في تعلمه، ثم نقول: إن قولهما: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ على الاختيار منهما، وكلمة السحر جار عليهما في اللسان، من غير صنع لهما فيه.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: إلا بعلم الله وقضائه.
ب. وقيل: بخذلانه وتخليه.
ج. وقيل: بمشيئة الله وإرادته.. وأما ظاهر الإذن فهو يخرج على الإباحة؛ فالعقل يدفعه.
د. وقيل: إنه لا يصل إلى هاروت وماروت أحد من بنى آدم، وإنما يختلف بينهم شيطان في كل مسألة.
12. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ﴾ ـ في الدنيا ـ ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ في آخرتهم ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ يعنى: اليهود في التوراة.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ :
أ. قيل: يعنى: اختاره للسحر.
ب. وقيل: يتعلمون ما يضرهم في آخرتهم، ولا ينفعهم إن علموه.
14. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ يقول: لقد علمت اليهود أن في التوراة آية لمن اختار السحر.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ :
أ. قيل: نصيب في الثواب.
ب. وقيل: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ﴾ أي ما له عند الله وجه.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ :
أ. أي بئس ما باعوا به أنفسهم، يعنى: اليهود الذين يعلّمون الفرقة والسحر.
ب. وقيل: ﴿مَا شَرَوْا بِهِ﴾ يقول: ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر، يعنى: من لا يقرأ التوراة.
ج. أو يعنى: أن لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم، ولكنهم لا يعلمون، أي لو علموا أنهم بم باعوا أنفسهم من العذاب الدائم، لعلموا أنهم بئس ما باعوا به.
17. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ بتوحيد الله ﴿وَاتَّقُوا﴾ الشرك، والسحر ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ لكان ثوابهم عند الله خيرا من السحر والكفر.
18. ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ولكنهم لا يعلمون علم الانتفاع به، وهو كقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: 18، 171] ليسوا بصم ولا بكم ولا عمى في الحقيقة، ولكنهم صم من حيث لا ينتفعون به؛ إذ الحاجة من العلم، والبصر، والسمع الانتفاع به، فإذا ذهبت المنافع بهما فكان كمن لا علم معه ولا بصر له ولا سمع؛ حيث لا ينتفع، ولا يعمل به.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/521.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ : أي اتبعوا السحر الذي ادعى الشياطين تلاوته على ملك سليمان كذباً منهم، وقالوا إنما ملك سليمان ملكه الذي نال من قبل أنا سخرنا له وملكناه، فأكذب الله قولهم في ذلك، لأنه عز وجل قد حكى عن سليمان أنه طلب من الله ودعى إليه أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأجاب الله دعوته، وأعطاه من ذلك مسألته وأمنيته، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾
2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ أي وما أنزل السحر عليهما، وما فعل الله ذلك بهما، ولكنهما اخترعا ذلك من أنفسهما، وما في هذه الآية حرف نفي، وروي عن العالم صلوات الله عليه: أن معنى هاروت وماروت اسمان نبطيان، معروف ذلك للنبط من اللسان، لأن ماروت البلاد هو عندهم قيم القرية وواليها، وهاروت القرية هو مستخرجها وجابيها، وهذان الملكان هم ملكان من ملوك الدنيا ساحران.
3. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي ضلالة ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ يتأولان في ذلك: أنهما قد أمرا بالخير ونهيا عن الشر، ويخدعان أنفسهما بالتأويل الفاحش المستنكر، ولو أنصفا عقولهما لعلما أنهما يخدعان أنفسهما، وأنهما قد نقضا ما تكلما به عند تعليمهما، وهدما أمرهما بالخير عند تعليمهما للشر.
4. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ : أي من السحر والخدع الذي يباعد بين الناس والكذب والنمائم والحيل.
5. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ : أي وما يضرون أحداً إلا بترك الله لهم، ولو شاء سبحانه لمنعهم، ولكنه تركهم وأنظرهم وأملى لهم، ليكون تركه وإنكاره وحلمه أقطع لحجتهم، وأبين لفضل الله سبحانه عليهم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 276.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ وبب نزول هذه أن نفراً تواصوا بعد موت سليمان على دفن السحر تحت كرسيه، ثم قالوا لعامة قومهم وجهالهم: إن هذا السحر الذي كان سليمان يسحر به الريح والإنس، وقالوا: كان ساحراً ولم يكن نبيئاً، فأنزل الله هذه الآية براءة لنبيه صلى الله عليه وتكفيراً لمن نسبه إلى السحر وعلم الناس السحر.
2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ معنى (ما) في هذا الموضع النفي ولم ينزل ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قراءتين إحداهما بكسر اللام والثانية بفتح اللام، فأما من كسر اللام فإنه أراد من ملوك بابل وعلوجها، وأما بفتح اللام فهو تثنية الملائكة، ومعناه أن اليهود زعموا أن الله سبحانه أنزل السحر على الملائكة ليبلغ سليمان ذلك، وقالوا: الذي نزل عليهما جبريل وميكائيل فأكذبهم الله عز وجل.
3. في الكلام تقديم وتأخير وهو: ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت وهما رجلان ببابل..
4. أما السحر فهو أن الساحر لا يقدر على قلب الأعيان كما ذهب إليه جماعة من الحشوية بأن يجعل الإنسان بهيمة والبهيمة إنساناً، وحقيقة السحر عندنا: أنه خدع ومَغَارٍّ يفعلها الساحر فيخيل إلى الرائي أنه بخلاف ما هو به كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكذلك السفينة السائرة سيراً حثيثاً يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه، ولو كان في وسع الساحر أن يقلب الأعيان لما كان بين الباطل والحق فرق ولا فضل، ولجاز أن تكون سائر الأجسام مما سحرته السحرة فقلب أعيانها وقد وصف الله سحرة فرعون بقوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾، والساحر ربما قتل بسحره لأنه قد يوسوس به ويخيل والتخييل بدؤ الوسوسة والوسوسة بدؤ المرض والمرض بدؤ التلف.
5. أرض بابل هي الكوفة وإنما سميت بابل لأن منها تبلبلت الألسنة.
6. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ وكان قد أخذ الله عليهما أنهما لا يعلمان أحداً حتى يقولا آنفاً: فلا تكفر إنما نحن فتنة أي امتحان واختبار، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ والمراد بقوله منهما أي من هاروت وماروت.
﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: إلا بأمر الله.
ب. الثاني: بعلم الله.
7. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ أي يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا، ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ يعني السحر الذي يفرق به بين المرء وزوجه ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ يعني نصيب، ويحتمل أن يكون الخلاق بمعنى الدين.
8. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي باعوها به من السحر والكفر:
أ. في تعليمه وفعله.
ب. ويجوز أن يكون ذلك من إضافتهم السحر إلى سليمان وتخريصهم عليه الكذب.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/75.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ اختلف أهل التفسير في سبب ذلك، على قولين:
أ. أحدهما: أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ويستخرجون السحر، فأطلع الله سليمان بن داوود عليه، فاستخرجه من أيديهم، ودفنه تحت كرسيه، فلم تكن الجن تقدر على أن تدنو من الكرسي، فقالت الإنس بعد موت سليمان: إن العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشياطين والرياح هو تحت كرسيه، فاستخرجوه وقالوا: كان ساحرا ولم يكن نبيا، فتعلموه وعلّموه، فأنزل الله تعالى براءة سليمان بهذه الآية.
ب. الثاني: أن (آصف بن برخيا) وهو كاتب سليمان واطأ نفرا من الشياطين على كتاب كتبوه سحرا ودفنوه تحت كرسي سليمان، ثم استخرجوه بعد موته وقالوا هذا سحر سليمان، فبرأه الله تعالى من قولهم، فقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾، وهم ما نسبوه إلى الكفر، ولكنهم نسبوه إلى السحر، لكن لما كان السحر كفرا صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
ب. الثاني: أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
3. في قوله تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه.
ب. الثاني: أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه.
4. اختلف في معنى السحر:
أ. قال قوم: يقدر الساحر أن يقلب الأعيان بسحره، فيحول الإنسان حمارا، وينشئ أعيانا وأجساما.
ب. قال آخرون: السحر خدع ومعان يفعلها الساحر، فيخيل إليه أنه بخلاف ما هو، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكواكب السفينة السائرة سيرا حثيثا، يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائرة معه، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله(2).، قالوا: ولو كان في وسع الساحر إنشاء الأجسام وقلب الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحق فصل، ولجاز أن يكون جميع الأجسام مما سحرته السحرة، فقلبت أعيانها، وقد وصف الله تعالى سحرة فرعون ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ .
ج. وقال آخرون: إن الساحر قد يوسوس بسحره فيمرض وربما قتل، لأن التخيل بدء الوسوسة، والوسوسة بدء المرض، والمرض بدء التلف.
5. في ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين.
ب. الثاني: أنها بمعنى النفي، وتقديره: ولم ينزل على الملكين.
6. في الملكين قولان:
أ. أحدهما: أن سحرة اليهود زعموا، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داوود، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل.
ب. الثاني: أن هاروت وماروت ملكان، أهبطهما الله عزّ وجل إلى الأرض، وسبب ذلك، أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم، عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أنعمه عليهم، فقال الله تعالى لهم: أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك ما ينبغي لنا، فأمرهم الله أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وأحل لهما كل شيء، على ألا يشركا بالله شيئا، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرضت لهما امرأة ـ وكان يحكمان بين الناس ـ تخاصم زوجها واسمها بالعربية: الزهرة، وبالفارسية: فندرخت، فوقعت في أنفسهما، فطلباها، فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنما ويشربا الخمر، فشربا الخمر، وعبدا الصنم، وواقعاها، وقتلا سابلا مر بهما خافا أن يشهر أمرهما، وعلّماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج إلى السماء، فتكلمت وعرجت، ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبا، قال كعب فو الله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجب الملائكة من ذلك، ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، فكانا يعلّمان السحر.. وذكر عن الربيع أن نزولهما كان في زمان (إدريس).
7. في قوله تعالى: ﴿بِبَابِلَ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها الكوفة وسوادها، وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها وهذا قول ابن مسعود.
ب. الثاني: أنها من نصيبين إلى رأس عين، وهذا قول قتادة.
ج. الثالث: أنها جبل نهاوند، وهي [فطر].
8. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ بما تتعلمه من سحرنا.
9. في المراد بقوله ﴿مِنْهُمَا﴾ في قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: يعني من هاروت وماروت.
ب. الثاني: من السحر والكفر.
ج. الثالث: من الشيطان والملكين، فيتعلمون من الشياطين السحر، ومن الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
10. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ يعني السحر.
11. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يعني بأمر الله.
ب. الثاني: بعلم الله.
12. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ يعني ما يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم في الدنيا ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ يعني السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
13. في قوله تعالى: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن الخلاق النصيب، وهو قول مجاهد والسدي.
ب. الثاني: أن الخلاق الجهة، وهو قول قتادة.
ج. الثالث: أن الخلاق الدين، وهو قول الحسن.
14. في قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله.
ب. الثاني: من إضافتهم السحر إلى سليمان، وتحريضهم على الكذب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/164.
(2) لا نرى صحة هذا الحديث، وقد ذكرنا ذلك في محله من هذه السلسلة.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلفوا في المعني بقوله ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ على ثلاثة اقوال:
أ. قال ابن جريج، وابو إسحاق: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقال الجبائي: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان.
ج. وقال قوم: المراد به الجميع وهو قول المتأخرين، لان مبتغي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى ان بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. روي عن الربيع: أنّ اليهود سألوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم زماناً عن امور من التوراة ـ لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا انزل الله عليه ما سألوا عنهـ فيخبرهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما انزل علينا منا وانهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَتْلُو﴾ :
أ. قال ابن عباس: تتبع، لان التالي تابع.
ب. وقال بعضهم: يُدّعى ـ وليس بمعروف ـ
ج. وقال قتادة، وعطا: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله: اي قرأته، وقال تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ﴾ اي تتبع وقال حسان بن ثابت:
بنيّ يرى ما لا يرى الناس حوله... ويتلوا كتاب الله في كل مشهد
4. اختلف في الذي تتلوه:
أ. قيل: هو السحر ـ على قول ابن إسحاق، وغيره من اهل العلم.
ب. وقال بعضهم: الكذب.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ هل كان على عهد سليمان:
أ. قال ابن إسحاق وابن جريج: في ملك سليمان حين كان حياً، وهو قول المبرد.
ب. وقال قوم: إنما قال تتلو (على ملك) لأنهم كذبوا عليه بعد وفاته، كما قال ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وقال: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ وقال الشاعر:
عرضت نصيحة مني ليحيى... فقال غششتني والنصح مرّ
وما بي ان أكون اعيب يحيى... ويحيى طاهر الأخلاق برّ
ولكن قد اتاني ان يحيى... يقال عليه في نفعاء شرّ
فإذا صدق، قيل: تلا عنه، وإذا كذب، قيل تلا عليه، وإذا أبهم، جاز فيه الأمران.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الشَّيَاطِينِ ﴾ :
أ. قال قوم: هم شياطين الجن، لان ذلك هو المستفاد من اطلاق هذه اللفظة.
ب. وقال بعضهم: المراد به شياطين الانس المتمرّدة في الضلالة، كما قال جرير:
ايام يدعونني الشيطان من غزلي... وكنّ يهوينني إذ كنت شيطانا
7. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وإن لم يجر لذلك ذكر، يكون هذا تكذيباً له، فمعناه:
أ. ان اليهود أضافوا الى سليمان السحر، وزعموا ان ملكه كان به، فبرّأه الله مما قالوا، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة.
ب. وقال ابن إسحاق: قال بعض أخبار اليهود: ألا تعجبون من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يزعم أن سليمان كان نبياً، والله ما كان إلا ساحراً فانزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾
ج. وقيل: تقدير الكلام واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، فتضيفه الى سليمان، وما كفر سليمان. لان السحر لما كان كفرا، نفى الله تعالى عنه ذلك على المعنى ـ وان كانوا لم يضيفوا اليه كفرا ـ
8. اختلف في السبب الذي لأجله اضافت اليهود الى سليمان السحر:
أ. قيل: ان سليمان جمع كتب السحر تحت كرسيه، وقيل في خزائنه، لئلا يعمل به فلما مات وظهر عليه قالت الشياطين: بهذا كان يتمّ ملكه، وشاع في اليهود وقبلوه، لعداوتهم لسليمان.
ب. وقيل: انهم وضعوا كتاب السحر بعد سليمان وأضافوه اليه وقالوا: بهذا كان يتمّ له ما كان فيه، فكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفى عنه ذلك.
9. السحر والكهانة والحيلة نظائر. يقال سحره يسحره سحرا، واسحرنا اسحارا، وسحَّره تسحيراً. قال صاحب العين: السحر عمل يقرّب الى الشيطان. كل ذلك يكتبونه السحر، ومن السحر الاخذة التي تأخذ العين حتى يظن ان الامر كما ترى ـ وليس الأمر كما ترى ـ والجمع الأخذ، والسحر البيان من اللفظ كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان من البيان لسحراً)، والسحر فعل السحر في شيء يلعب به الصبيان إذا مد خرج على لون، فإذا مد من جانب آخر خرج على لون آخر يسمى السحارة والسحر العدو قال لبيد:
أرانا موضعين لأمر غيب... ونسحر بالطعام وبالشراب
وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ يعني من المخلوقين، وفي تمييز العربية هو المخلوق الذي يطعم، ويسقى، والسحَر اخر الليل. بالتنوين، قال الطرماح:
بان الخليط بسحرة فتبددوا... والدار تشعب بالخليط وتبعد
وتسحّرنا أكلنا سحوراً، واسحرنا كقولك أصبحنا، والسحر الرئة مخفف، وما يتعلق بالحلقوم، ويقال للجبان إذا جبن انتفخ مسحره واستحر الطائر إذا غلبه بسحر، واصل الباب الخفاء، والسحر قيل: الخفاء سببه توهم قلب الشيء عن حقيقته كفعل السحرة في وقت موسى ـ لما أوهموا ان العصا والحبال صارت حيوانا ـ فقال: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ .
10. في قوله تعالى: ﴿ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ﴾ ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ انهم كفروا بما نسبوه الى سليمان من السحر.
ب. الثاني ـ انهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
ج. الثالث ـ معناه ولكن الشياطين سحروا فعبر عن السحر بالكفر.
11. في قوله تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ انهم القوا السحر اليهم فتعلموه.
ب. الثاني ـ انهم دلوه على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه، وهو قول أبي الأسود الدؤلي، والربيع، والضحاك، وبه قرأ الحسن البصري، ورواها عن ابن عباس.
12. اختلف من قال انهم دلوه على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه:
أ. قال قوم: كانا مؤمنين، ولذلك نهيا عن الكفر.
ب. وقال قوم: انهما كانا نبيين من أنبياء الله.
13. اختلف من قرأ بالفتح:
أ. قال قوم منهم: كانا ملكين.
ب. وقال آخرون: كانا شيطانين.
ج. وقال قوم: هما جبريل وميكائيل خاصة.
14. اختلفوا في بابل:
أ. قال قوم: هي بابل العراق، لأنها تبلبل بها الألسن، وروي ذلك عن عائشة وابن مسعود.
ب. وقيل: بابل دماوند. ذكره السدي.
ج. وقال قتادة: هي من نصيبين الى رأس العين.
د. وقال الحسن ان الملكين ببابل الكوفة الى يوم القيامة، وان من أتاهما سمع كلامهما، ولا يراهما.
15. قيل في معنى السحر اربعة اقوال:
أ. أحدها ـ انه خدع ومخاريق، وتمويهات لا حقيقة لها يخيل الى المسحور أن لها حقيقة.
ب. الثاني ـ انه أخذ بالعين على وجه الحيلة.
ج. الثالث ـ انه قلب الحيوان من صورة الى صورة، وإنشاء الأجسام على وجه الاختراع فيمكن الساحر ان يقلب الإنسان حماراً وينشئ اجساماً.
د. الرابع ـ انه ضرب من خدمة الجن كالذي يمسك له التجدل فيصرع.
16. اقرب الأقوال في تعريف السحر أنه انه خدع ومخاريق، وتمويهات لا حقيقة لها يخيل الى المسحور أن لها حقيقة، لان كل شيء خرج عن العادة الخارقة، فإنه لا يجوز أن يتأتى من الساحر، ومن جوز للساحر شيئاً من هذا، فقد كفر لأنه لا يمكنه مع ذلك العلم بصحة المعجزات الدالة على النبوات، لأنه أجاز مثله من جهة الحيلة والسحر.
17. يتصل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ بأحد ثلاثة أشياء:
أ. أحدها ـ فلا تكفر بالعمل بالسحر.
ب. الثاني ـ فلا تكفر بتعلم السحر ويكون مما امتحن الله عز وجل به كما امتحن بالنهر في قوله: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾
ج. ثالثها ـ فلا تكفر بواحد منهما للتعلم للسحر والعمل به.
18. سؤال وإشكال: كيف يجوز ان يعلم الملكان السحر؟ والجواب:
أ. قيل: يعلّمان ما السحر وكيف الاحتيال به، ليجتنب، ولئلا يتموه على الناس انه من جنس المعجزات التي تظهر على يد الأنبياء فيبطل الاستدلال بها.
ب. وقال جماعة من المفسرين منهم ابو علي وغيره: انزلهما الله من السماء وجعلهما بهيئة الانس، حتى بينا للناس بطلان السحر.
ج. وقال الحسن وقتادة: أخذ عليهما ألا يعلماه ﴿حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ على قول من جعل ما جحداً.
19. قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ يحتمل ان يكون ذلك من قولِ هاروت وماروت وليسا ملكين. كما يقول الغاوي الخليع لنا انك في ضلال فلا تردّ ما أنا فيه، فيقرّ بالذنب وهو يأتيه، والتقدير على هذا: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ هاروت وماروت.
20. من قرأ الملكين بفتح اللام ـ وهو قراءة الجمهور، اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: ان سحرة اليهود زعموا ان الله انزل السحر على لسان جبريل، وميكائيل الى سليمان، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، فتقديره وما كفر سليمان وما انز على الملكين، ولكن الشياطين كفروا. يعلمان الناس السحر. ببابل هاروت وماروت ـ وهما رجلان ببابل غير الملكين اسم أحدهما ـ هاروت والآخر ماروت، ويكون هاروت وماروت بياناً عن الناس.
ب. وقال قوم: ان هاروت وماروت ملكان من الملائكة.
21. اختلف من ذكر ان هاروت وماروت ملكان من الملائكة في سبب هبوطهما ـ على قولين:
أ. قال قوم: ان الله أهبطهما ليأمرا بالدين، وينهيا عن السحر، لان السحر كان كثيراً في ذلك الوقت، ثم اختلفوا:
• فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر وينهيانهم عن فعله، ليكون النهي بعد العلم به، لان من لا يعرف الشيء فلا يمكنه اجتنابه.
• وقال قوم آخرون: لم يكن للملكين تعليم السحر، ولا إظهاره، لما في تعليمه من الإغراء بفعله.
• والثالث هبطا لمجرد النهي ـ إذ كان السحر فاشيا ـ.
ب. وقال قوم: كان سبب هبوطهما ان الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم، فقال لهم: اما لو كنتم مكانهم لعملتهم مثل أعمالهم، فقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا، فأمرهم ان يختاروا ملكين ليهبطا الى الأرض فاختاروا هاروت وماروت، فاهبطا الى الأرض، وركَّب فيهما شهوة الطعام والشراب والنكاح، واحلّ لهما كل شيء بشرط الا يشركا بالله ولا يشربا الخمر ولا يزنيا، ولا يقتلا النفس التي حرم الله فعرضت لهما امرأة للحكومة فمالا اليها، فقالت لهما لا أجيبكما حتى تعبدا صنماً وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، فعبدا الصنم وواقعاها، وقتلا سائلًا مرّ بهما خوفاً ان يشهر أمرهما في حديث طويل، لا فائدة في ذكره. قال كعب فو الله ما امسيا من يومهما الذي اهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهبا عنه فتعجبت الملائكة من ذلك ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصّعود الى السماء وكانا يعلمان الناس السحر ومن قال بعصمة الملائكة، لم يجز هذا الوجه، وقال قوم من اهل التأويل: ان ذلك على عهد إدريس.
22. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ : الامتحان والفتنة والاختبار نظائر. يقال فتنه فتنة وافتتن افتتانا، وقال ابو العباس، فتن الرّجل وأفتن بمعنى اختبر، وتقول: فتنت الرجل، وافتنته.. ولغة قريش: فتنته قال الله تعالى: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾، وقال اعشى همدان:
لئن فتنتني فهي بالأمس افتتنت... سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم
فجاء باللغتين:
أ. وقوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ اي اختبرناه.. ويقال فتنت الذهب في النار: إذا اختبرته فيها، لتعلم أخالص هو أم مشوب. فقيل ـ لكل ما أحميته في النار: ـ فتنته، وتقول فتنت الخبزة في النار: إذا أنضجتها.. ومثله يقال في اللحم.
ب. وقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ اي الكفر أشد من القتل، والفتن في الدين والحروب وقولهم: فتنة السوط أشد من فتنة السيف، ومعناه اختبار السوط أشد لان فيه تعذيباً متطاولًا.
ج. وقوله: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ اي يشوون من قولك فتنت الخبز، والمعنى الصحيح انهم يعذبون بكفرهم. يقال فتن الكافر، العذاب وافتنته اي جزاه بفتنته كقولك: كذب واكذبته، وكل من صبأ فقد فتن.
د. وقوله: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ﴾ قال الأخفش: معناه الفتنة: فهو مصدر، كقولك: رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره، وابى ذلك سيبويه، وقال: خذ ميسوره اي ما تيسر له، وليس له مرفوع: اي ما يرفع. قال صاحب العين: فتن فلان فتوناً فهو فاتن: اي مفتن.
هـ. وقوله: ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ اي مضلّين ـ عن الحسن ومجاهد. ـ وأصل الباب الاختبار، ومعناه في الآية: انما نحن اختبار وبلوى وامتحان، فلا تكفر.
و. وقال قتادة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ اي بلاء، ويحتمل أن يكون معناه انهما كانا كافرين، فيكون معنى قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ اي شيء عجيب مستطرف كما يقال للمرأة الحسناء انها فتنة من الفتن، ويكون قوله: (فلا تكفر) على هذا الوجه يعني بما جئناك به، بل صدّق به واعمل عليه.
23. قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ انّ حتى، بمعنى إلا وتقديره وما يعلمان من احد إلا أن يقولا: انما نحن فتنة، فلا تكفر ويكون ذلك زيادة في الابتلاء من الله في التكليف.
ب. الثاني ـ انه نفي لتعليمهما الناس السحر، وتقديره ولا يعلمان أحداً السحر، فيقولان: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين، والنهي عنه من الملكين.
24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ :
أ. قال قوم: معنى تعلم واعلم واحد. كما جاء علمت، وأعلمت، وفهمت، وافهمت كما قال كعب بن زهير:
تعلم رسول الله إنك مدركي... وان وعيداً منك كالأخذ باليد
وقال القطامي:
تعلّم ان بعد الغي رشداً... وان لهذه الغير انقشاعا
ب. ومنهم من قال تعلم بمنزلة تسبب الى ما به تعلم من النظر في الادلة، وليس في اعلم ذلك، لأنه قد ينبئهم على ما يعلمه بالتأمل له، كقوله: اعلم ان الفعل يدل على الفاعل.. وما لم يسبق المحدث فهو محدث، والأول كقوله: تعلم النحو والفقه.
25. سؤال وإشكال: كيف يفرق بين المرء وزوجه؟ والجواب: فيه ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ انه إذا تعلم السحر كفر فحرمت عليه امرأته.
ب. الثاني ـ ان يمشي بينهما بالنميمة حتى يفسد بينهما، فيفضي الى الطلاق والبينونة.
ج. الثالث ـ قال قتادة وغيره: يوجد كل واحد منهما على صاحبه ويبغضه اليه.
د. وقيل: انه كان من شرع سليمان أن من تعلم السحر، بانت منه زوجته.
26. اختلف في الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمَا﴾ :
أ. قيل: انه راجع الى الملكين.
ب. وقيل: بل الى الكفر والسحر، لأنه تقدم الدليل عليهما في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ كما جاء ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ اي يتجنب الذكرى، ومن قال الملائكة معصومون، يقول الكناية ترجع الى الكفر والسحر لا غير دون الملكين، فكأنه قيل: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ مكان ما علماهم ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾، كقول القائل: ليت لنا من كذا، وكذا كذا: اي بدله. قال الشاعر:
جمعت من الخيرات وطباً وعُلبة... وصراً لأخلاف المزممة البزل
ومن كل اخلاق الكرام نميمة... وسعياً على الجار المجاور بالنَّجل
يريد جمعت مكان خيرات الدنيا هذه الخيرات الرديئة، والافعال الدنيئة.
27. المرء تأنيثه المرأة. قال صاحب العين: امرأة تأنيث المرء ويقال مرأة بلا ألف، والمرأة مصدر الشيء المريء الذي يستمرأ يقال ما كان مريئاً، ولقد مرؤ واستمرأته، وهو المريء، للطعام وأصل الباب المريء، فقولهم مرأة كقولهم جارية اي جرت في النمو والشباب. فأمّا أمراء الطعام فإنه يجري وينفذ في مجاريه، ولا يقف، وكذلك المرأة تجري في السن الى حد.. وفرق في الشواذ ما بين المرء ـ بضم الميم ـ وهي لغة هذيل.
28. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ : الضرر والألم والأذى نظائر، والضر نقيض النفع. يقال ضره يضره ضراً، وأضر به اضراراً، واستضر استضراراً، واضّطرّ اضطراراً، وضاره مضارّة وضراراً. قال صاحب العين: الضَّر والضُّر لغتان، فإذا جمعت الضر والنفع.. فتحت الضاد، والضرر نقصان يدخل في الشيء. يقال دخل عليه ضرر في ماله. والضرورة اسم لمصدر الاضطرار، والضرير: الذاهب البصر من الناس. تقول: رجل ضرير بين الضرارة، والضراء من الضر، وقوم اضراء. والضرر مصدر اضره مضارة وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) وإذا ضرّ به المرض قيل: ضرير، وامرأة ضريرة، والضرير: اسم للمضارة، واكثر ما يستعمل في الغيرة تقول: ما أشد ضريره عليها.
29. الاذن في اللغة على ثلاثة أقسام:
أ. أحدها ـ بمعنى العلم وذكرنا شاهده.
ب. الثاني ـ الاباحة والإطلاق كقوله ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ .
ج. الثالث ـ بمعنى الامر: كقوله: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وقد أجمعت الأمة على انه لم يأمر بالكفر، ولم يتجه نفي القسم الثالث.
30. لا يجوز أن يكون المراد ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ إلا بإرادته، ومشيئته، لان الارادة لا تسمى إذناً. الا ترى أن من أراد الشيء من غيره أن يفعله، لا يقال أذن له فيه؟ فبطل ما قالوه، وقد روي عن سفيان إلا بقضاء الله.
31. قال بعض من لا معرفة له: الاذن بمعنى العلم بفتح الهمزة والذال دون الاذن بكسر الهمزة وسكون الذال ـ وهذا خطأ، لان الاذن مصدر يقال فيه اذن واذن مثل حذر وحذر، وقال تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ ويجوز فيه لغتان مثل: شِبه وشَبه ومِثل ومَثل، وقال هذا القائل: من شاء الله يمنعه، فلم يضره السّحر، ومن شاء خلي بينه، وبينه، يضره.
32. ﴿لَا يَنْفَعُهُمْ﴾ : النفع نقيض الضر والنفع والمنفعة واللذة نظائر. يقال نفع ينفع نفعا، فهو نافع، وانتفع فلان بكذا وكذا، ورجل نفاع ينفع الناس، وأصل النفع: ضد الضر، وحد النفع هو كل فعل يكون الحيوان به ملتذا: اما لأنه لذة، أو يؤدي الى اللذة، والمضرة كل معنى يكون الحيوان به ألما: اما لأنه ألم، أو يؤدي الى الألم.
33. الهاء في قوله (لمن اشتراه) عائدة الى السحر.
34. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ :
أ. قيل: لقد علمت اليهود أن من استبدل السحر بدين الله، ماله في الآخرة من خلاق، وهو قول ابن زيد، وقتادة.
ب. وقال قوم من المفسرين، كأبي علي، وغيره: كانوا يعطون عليه الأجرة، فذلك اشتراؤهم له، والخلاق: النصيب من الخير، وهو قول مجاهد، وسفيان.
ج. وقال قوم: ماله من جهة.
د. وقال الحسن: ماله من دين. قال امية بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم... إلا سرابيل من قطر وأغلال
يعني لا نصيب لهم في الآخرة من الخير.
35. معنى ﴿شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ باعوا به أنفسهم في قول السدي، وغيره.
36. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ وقد قال قبله ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ ؟ والجواب: عنه ثلاثة اجوبة:
أ. أحدها ـ إنهم فريقان: فريق علموا، وعاندوا وفريق علموا وضيعوا.
ب. الثاني ـ انهم فريق واحد إلا انهم ذُمّوا في أحد الكلامين بنفي العلم، لأنه بمنزلة المنتفي: واخبر عن حالهم في الاخرة وتقديره أنهم علموا قدر السّحر، ولم يعلموا ان هلاكهم بتصديقه، واستعماله، ا ولم يعلموا كنه ما أعد الله من العذاب على ذلك وان علموه على وجه الجملة.
ج. الثالث: قال قوم: هو مقدّم ومؤخر، وتقديره وما هم بضارين به من احد الا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراء ماله في الآخرة من خلاق.
د. وقال بعضهم: هما جميعاً خبر عن فريق واحد، وأراد بقوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ اي لو كانوا يعلمون بما علموه فعبر عن المعلوم بالعلم، كما قال كعب بن زهير المزني يصف ذئباً وغرابا تبعاه، لينالا من طعامه، وزاده:
إذا حضراني قلت لو تعلمانه... ا لم تعلما اني من الزاد مرمل
فأخبر انه قال لهما: لو تعلمانه فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما، فقال: الم تعلما، وكذلك الآية.
هـ. وقال قوم: إن الذين علموا الشياطين والذين لم يعلموا الناس دون الشياطين.
37. سؤال وإشكال: ما معنى لمن اشتراه، واين جوابها ان كانت شرطا؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما ـ انها بمعنى الجزاء.
ب. والآخر: بمعنى الذي في قول الزجاج، وجوابها مكتفى منه جواب القسم. كما قال ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ ولذلك وقع قالوا: ولا يجوز الجزم إلا في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً... أصم في نهار القيظ للشمس باديا
والوجه، لأصومن، ولا يجوز لا صوم إلا في ضرورة الشعر كما قال:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم... ليعلم ربي ان بيتي واسع
قالوا وان جزمت الاول، جاز جزم الثاني، كقولك: لئن تفم لا نقم إليك.
38. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ :
قيل: يجوز ان يكون عطفاً على فيأتون فيتعلمون، وقد دل أول الكلام على يأتون.
وقيل: فيعلمون الناس السحر فيتعلمون ـ وكلاهما ذكره الكسائي والفراء ـ وأنكر الزجاج القول الأخير.
39. سؤال وإشكال: ما اللام الاولى في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ وما الثانية في قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ ومثله قوله: ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ﴾؟ والجواب:
أ. الثانية لام القسم بالإجماع قال الزجاج: لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك ـ في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنّك.
ب. فأمّا الاولى فزعم بعض النحويين أنها لما دخلت في أول الكلام أشبهت لام القسم، فاجيبت بجوابه ـ قال الزجاج: هذا خطأ، لان جواب القسم لا يشبه القسم، فاجيبت بجوابه، ولكن اللام الاولى دخلت إعلاماً ان الجملة بكاملها معقودة بالقسم، لان الجزاء ـ وان كان القسم عليه ـ، فقد صار للشرط فيه حظ، ولذلك دخلت اللام. قال الرماني: هذا الذي ذكره، لا يبطل شبهها بالقسم، لأنها للتوكيد، كما انه للتوكيد، فكأنه قال والله إن اتيتني لاكرمنّك.
40. الظاهر في روايات أصحابنا ان الساحر يجب قتله وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف، وقال ابو علي: من قال انه يقلب الأجسام، وينشئها، يجب قتله ان لم يتب، لأنه مرتد كافر بالأنبياء، لأنه لا يجد بين ما ادعى وبين آياتهم فضلًا، فإنه يؤدب، فلا يقتل.
41. الروايات التي في ان الملكين أخطئا، وركبا الفواحش، اخبار آحاد. من اعتقد عصمة الملائكة، يقطع على كذبها ومن لم يقطع على ذلك، جوز ان تكون صحيحة، ولا يقطع على بطلانها، والذي نقوله ان كان الملكان رسولين فلا يجوز عليهما ذلك، وان لم يكونا رسولين، جاز ذلك ـ وان لم نقطع به ـ
42. ما روي من أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر ـ وكان يرى انه يفعل ما لم يفعله وانه لم يفعله ـ فأخبار آحاد، لا يلتفت اليها، وحاشا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كل صفة نقص، إذ تنفر من قبول قوله، لأنه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علم منه. فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة، وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة، والخلق المشينة، ولا يجوّز ذلك على الأنبياء الا من لم يعرف مقدارهم ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وقد أكذب الله من قال ان يتبعوا إلا رجلًا مسحوراً. فقال: ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ فنعوذ بالله من الخذلان، ونحمده على التوفيق لما يرضاه.
43. ﴿لَكِنِ﴾ مشدّدة، ومخففة معناهما واحد، قال الكسائي: والذي اختارته العرب إذا كانت (ولكن) بالواو مشددة، وإذا كانت بلا واو اختاروا التخفيف ـ وكل صواب ـ وقرئ بغير ما اختاروه اتباعاً للاخبار في القراءة.
44. الضمير في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ عائد على الذين يتعلمون السحر. قال الحسن: تعلموا ان ثواب الله خير لهم من السحر، وأما جواب ﴿لَوْ﴾ فللنحويين فيه قولان:
أ. البصريون يذهبون الى ان جوابه محذوف، وتقديره، ولأثيبوا، وأوقع لمثوبة من عند الله موقعه لدلالته عليه.
ب. وقال بعضهم: التقدير ولو انهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، ثم قال ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لو كانوا يستعملون ما يعلمون، وليس انهم كانوا يجهلون ذلك، كما يقول الإنسان لصاحبه ـ وهو يعظه: ـ ما أدعوك اليه خير لك لو كنت تعقل أو تنظر في العواقب والفكر فيها، وقال الفراء: الجواب في (لمثوبة).. لأن (لو) أشبهت لئن، من حيث كان كل واحد منهما جزاء، فلما اشبهتها أجيبت بجوابها، فالمعنى لئن آمنوا لمثوبة.
45. على القول الاول، لا يجوز، لو أتاني زيد لعمرو خير منه، وعلى الثاني يجوز، ولو قلت لو اتاني زيد، لا كرامي خير له، جاز على الوجهين، واللام التي في (لمثوبة) لام الابتداء، لأنها دخلت على الاسم، كما دخلت في (علمت لزيد خير منك)، ولو جاز ها هنا، لام القسم، لنصبت الاسم في علمت.
46. سؤال وإشكال: ما معنى قول الله تعالى (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وهو خير علموا أو لم يعلموا؟ والجواب:
أ. قيل: لو كانوا يعلمون، لظهر لهم بالعلم ذلك، أي لعلموا أن ثواب الله خير من السحر.
ب. وقال ابو علي: المعني في ذلك الدلالة على جهلهم، والترغيب لهم في ان يعلموا ذلك، وان يطلبوا ما هو خير لهم من السحر ـ وهو ثواب الله الذي ينال بطاعته، واتباع مرضاته وفيه دلالة على بطلان قول اصحاب المعارف، لأنهم لو كانوا عارفين ـ على ما يقولونه، لما قال: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
47. المثوبة: الثواب ـ في قول قتادة والسدي والربيع ـ والثواب: هو الجزاء على العمل بالإحسان وهو منافع مستحقة يقاربها تعظيم وتبجيل.. والمثوبة والثواب والأجر نظائر، ونقيض المثوبة العقوبة، يقال ثاب يثوب ثوباً وإثابة، وأثابه اثابة، وثواباً، ومثوبة، واستثابة، وثوّب تثويباً، والثواب في الأصل معناه: ما رجع اليك من شيء. تقول اعترت الرجل غشية، ثم ثابت اليه نفسه، ولذلك صار حق الثواب الجزاء، لأنه العائد على صاحبه مكافأة ما فعل، ومنه التثويب في الأذان وغيره: وهو ترجيع الصوت، ولا يقال، ذلك للصوت مرة واحدة، ويقال ثوّب الداعي إذا كرر دعاءه الى الحرب، أو غيرها، ويقال انهزم القوم ثم ثابوا، أي رجعوا، والثوب مشتق من هذا، لأنه ثاب لباساً بعد أن كان قطناً، أو غزلًا، والثيّب: التي قد تزوجت بوجه ما كان، ولا يوصف به الرجل إلا ان تقول ولد الثيبين وولد البكرين، والمثابة: الموضع الذي يثوب اليه الناس. قال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مجتمعاً بعد التفرق، وان لم يكن تفرقوا من هناك، فقد كانوا متفرقين ثم ثابوا اليه، ويقال ثاب الحوض ثئوباً إذا امتلأ أو كاد يمتلئ، وأصل الباب الثوب: الرجوع.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/370.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. اتبعه: اقتدى به، ومنه قيل: تَبِيعٌ وتَبِيعَة لولد البقرة؛ لأنه يتبع أمه.
ب. التلاوة: القراءة، تلا يتلو: قرأ، وتلاه: تبعه، وهو الأصل، وسمي التالي؛ لأنه التابع.
ج. السحر والحيلة والكهانة نظائر، سَحَرَ يَسْحَرُ سِحْرًا، وأصله من الخفاء، وسمي سحرًا؛ لأنه يوهم ـ لخفائه ـ نقل الشيء عن حقيقته، كفعل السحرة زمن موسى، أوهموا بفعلهما نقلا بالعصا حيوانًا، قال الله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾
د. الفتنة: أصلها الامتحان، فَتَنْتُ الذهب بالنار: اختبرته؛ ليعلم أخالص أم مشوب، وفُتِنَ الرجل: اخْتُبِرَ، ويقال: أَفْتَنَهُ، وأنكره الأصمعي، ولغة قريش فتنته، وبه جاء القرآن ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ والمرء: تأنيثه المرأة.
هـ. الضر: نقيض النفع، وفتح الضاد، وضمها لغتان، وأصله من النقصان، فالضر انتقاص الحق.
و. النفع: الانتفاع، ورجل نَفَّاعٌ: ينفع الناس.
ز. بئس: خلاف (نِعْمَ).
ح. المثوبة: والثواب والأجر نظائر، وأصل الثواب: ما رجع إليك من شيء، وبذلك سمي الثواب؛ لأنه العائد على صاحبه مكافأةَ ما فَعَلَ، وأصله الثوب، وهو الرجوع، يقال: ثاب إليه: رجع، وحد الثواب: الجزاء على العمل بالإحسان.
2. في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. قيل: هم اليهود الَّذِينَ كانوا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الربيع وابن زيد والسدي.
ب. وقيل: اليهود الَّذِينَ كانوا زمن سليمان، عن ابن عباس وابن جريج وابن إسحاق.
ج. وقيل: الجميع عن بعضهم، قال لأن مُبْتَغِي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعنى اتبعوا اقتدوا به.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو﴾ يعني الذي تتلو:
أ. قيل: تتبع وتعمل به، عن ابن عباس.
ب. وقيل: تقرأ، عن قتادة وعطاء.
ج. وقيل: تكذب على ملك سليمان، عن أبي مسلم، يقال: تلا عليه إذا كذب، وتلاعنه إذا صدق، وإذا أبهم جاز الأمران، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾
د. وقيل: تتحدث وتخبر عنه، عن أبي عبيدة وأبي علي.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الشَّيَاطِينِ ﴾ :
أ. قيل: شياطين الجن.
ب. وقيل: شياطين الإنس والجن، عن أبي علي.
ج. وقيل: شياطين الإنس وهو الأوجه.
5. اختلف في معنى ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾
أ. قيل: على عهد ملك سليمان.
ب. وقيل: كذبوا على ملكه.
6. سؤال وإشكال: لم أضافوا السحر إلى سليمان؟ والجواب: فيه خلاف:
أ. قيل: عداوة.
ب. وقيل: ليقبل منهم، وكذبوا في ذلك، عن أبي علي.
7. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ يعني أن اليهود أضافوا السحر إلى سليمان؛ لأن معنى قوله: ﴿ مَا تَتْلُوالشَّيَاطِين ﴾ المراد به السحر عند جماعة أهل العلم، والسحر كفر، فرد الله تعالى عليهم وقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ ولكن: أضافوا السحر إليه، وزعموا أن ملكه كان به، عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير. قال ابن إسحاق: قالوا: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا، وتقدير الكلام: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر فتضيفه إليه ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾
8. سؤال وإشكال: كيف كان سبب إضافة اليهود السحر إلى سليمان عندكم؟ والجواب: فيه خلاف:
أ. قيل: إنه جمع كتب السحر ودفنه تحت كرسيه، وروي جَمَعَهُ في خزائنه، ومَنَعَ الناس من العمل به، فلما مات وظُهِرَ عليه، قالت الشياطين: بهذا كان يتم ملكه، وشاع في اليهود، وقبلوه لعداوتهم لسليمان، عن السدي.
ب. وقيل: الشياطين كتبوا السحر على لسان آصف، ودفنوه تحت كرسيه، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلما مات أخرجوه وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم سليمان، عن الكلبي.
ج. وقيل: كان أودع تحت كرسيه شيئًا من علومه كيلا يضيع، فاستخرجوه، وكتبوا بين أثناء أسطرها بخط يشبه المكتوب فيه أشياء من السحر والكهانة، ثم عرضوها على الناس وأضافوها إلى سليمان.
د. وقيل: كان سليمان لا يصبح يومًا إلا وينبت في محرابه نبت فيذكر اسمه لأي شيء يصلح، ونفعه وضره، حتى نبت الخُرْنُوب، فغرسها فلم يلبث أن مات، وجعل الناس يقولون في مرضاهم لو كان لنا مثل سليمان، فكتب الشياطين كتب السحر، ودفنوه تحت مصلاه، ثم قالوا: هل ندلكم على ما كان سليمان يداوي به؟ فانطلقوا واستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه السحر، فرد الله عليهم ذلك.
9. سؤال وإشكال: من الَّذِينَ أضافوها إليه؟ والجواب:
أ. قيل: سفهاء بني إسرائيل، فأما صلحاؤهم فلم يقبلوا ذلك، وقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان.
ب. وقيل: بعض أَحْبَارِهِمْ، ثم تبعهم العوام.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾
أ. قيل: كفروا بتعليم السحر.
ب. وقيل: كفروا ومع ذلك يعلمون السحر أيضًا.
11. اختلف في معنى ﴿السِّحْرَ﴾ :
أ. قيل: هو الحذق والعلم.
ب. وقيل: هو تمويه يُظَنُّ أنه شيء، ولا حقيقة له.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ :
أ. قيل: الذي أنزل، ثم اختلفوا على قولين:
• الأول: يعلمون السحر، وما أنزل على الملكين من ذلك، ليعلم الناس كيف هو حتى يجتنب، فيبطل التمويه على الناس أنه من جنس المعجزات، قال أبو علي: أنزلهما الله تعالى من السماء وجعلهما بهيئة الأنفس حتى يُبَيِّنَا للناس بطلان السحر، وقال الحسن وقتادة: أخذ عليهما ألا يُعَلِّمَاهُ حتى يقولا: إنما نحن فتنة، فلا تكفر.
• الثاني: اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين، وكذبوا في الوجهين.
ب. وقيل: ما أُنْزِلَ: أي لم ينزل السحر على الملكين؛ لأن ما ينزل عليهما ينزله الله تعالى، فالسحر لا يضاف إليه، ولهذا أضافه إليهم وكفَّرَهُم به ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾ يعني الشياطين دون الملكين، عن أبي مسلم.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ :
أ. قيل: بكسر اللام، عن الحسن، وقال: كانا عِلْجَيْنِ أعجمين أغلفين ببابل، عن الحسن والضحاك.
ب. وقيل: كانا رجلين، عن السدي.
ج. وقيل: كانا ملكين نزلا من السماء، عن ابن عباس وعائشة، وهو اختيار أبي علي وأبي مسلم، وهو الصحيح.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ هَارُونَ وَمَارُونَ ﴾:
أ. قيل: ملكان يسميان بذلك.
ب. وقيل: جبريل وميكائيل.
ج. وقيل: كان ذلك زمن إدريس؛ لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذه البغية، ولا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين؛ لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس إلا منهم.
د. وذكر الأصم في ذلك وجهًا، فقال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ . تم الكلام، ثم ابتدأ فقال: ولكن ببابل هاروت وماروت يعلمان، وهما رجلان.
15. سؤال وإشكال: هل يصح ما روي في قصة هاروت وماورت أنهما اختيرا من الملائكة، وركب فيهما الشهوة لما عيرت الملائكة بني آدم بالعصيان، وأنزلا إلى الأرض، وتحاكم إليهما رجل وامرأته فمالا إليها، وكانت تسمى زهرة، وشربا الخمر، وقتلا رجلاً رآهما وحكما لها باطلاً، وسجدا للصنم، وعلما الزهرة الاسم الأعظم، فصعدت السماء فمسخت نجمًا، وهو الزهرة، وإن سهيلا كان، عَشَّارًا، وأنهما عذبا في بابل في بئر منكوسين يعلمان الناس السحر؟ وما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر حتى كان لا يدري ما يقول؟ والجواب: مثل هذا لا يليق بكلام أهل العلم، وإنما هو حشو وهذيان، وقد قال تعالى في صفة الملائكة: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ ونحوها من الآيات التي ذكرناها، والذي ذكرناه هو قول الحسن، وكل موثوق بعلمه من أهل الدين، ومن أجاز مثل ذلك على الملائكة والرسل لا يمكنه معرفة النبوَّات، ولا يوثق برسول وقوله وفعله، وما روي في حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فغلط عظيم، وقد قال تعالى: ﴿يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وهذا القول يشبه قول الكفرة حيث قالوا: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ﴾ ونعوذ بِاللهِ من الخذلان.
16. اختلف في معنى ﴿بِبَابِلَ﴾ :
أ. قيل: اسم بلد لا ينصرف، عن الكسائي.
ب. وقيل: بابل العراق، عن الحسن، وعائشة.
ج. وقيل: بابل دينَاوند، عن الضحاك والسدي.
17. سميت بابل: كما قال الخليل: لأن ألسنتهم تبلبل بها، يعني اختلفت اللغات.
18. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ يعني الملكين.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ :
أ. قيل: نحن امتحان واختبار نبين السحر ليُجْتَنَبَ ولا يُكْفَرُ بعمل السحر، فإنما بعثنا لنمنع الناس منه، ونبين بطلانه، عن أبي علي.
ب. وقيل: نحن عقوبة على من لا يقبل نصيحتنا فلا تكفر.
ج. وقيل: ما أنزل عليهما السحر وما علماه، فكانا لا يعلمان أحدًا شيئًا إلا وينصحان، فيقولان: لا تكفر، ينهيان عن الكفر والسحر، عن أبي مسلم.
د. وقيل: كانا علجين، وقولهما: لا تكفر كقول الخليع: (أنا في ضلال فلا تفعل ما أنا فيه)، وتقديره إنما نحن ضلال كفار، فلا تكفر أنت، عن الحسن.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ :
أ. قيل: بعمل السحر.
ب. وقيل: لا تكفر بتعلم السحر.
ج. وقيل: بواحد منهما.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ :
أ. قيل: من الملكين، عن أكثر المفسرين، وهو قول أبي علي.
ب. وقيل: من السحر والكفر، عن أبي مسلم، وتقديره: فيتعلمون مكان ما علمناه.
ج. وقيل: من الشياطين وهاروت وماروت، عن الأصم.
22. ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ أي يفرقون بما يتعلمون بينهما:
أ. قيل: بالنميمة والتضريب، فينغص كل واحد منهما إلى صاحبه، عن قتادة.
ب. وقيل: إذا عمل بالسحر كفر، فحرمت عليه زوجته، فكأنه يغريه بالكفر والسحر فيفرق بينه وبين زوجته، عن أبي مسلم.
23. ﴿وَمَا هُمْ﴾ يعني الَّذِينَ يفرقون بين المرء وزوجه ﴿بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ يعني لا يلحقان ضررًا بغيره إلا بإذنه، و ﴿مِنَ﴾ : صلة، وتقديره وما يضران أحدًا.
24. اختلفوا في معنى الإذن:
أ. قيل: بعلم الله تعالى، عن أبي علي والأصم، من قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾
ب. وقيل: الإذن، بسكون الذال وكسر الهمزة، والأذن بفتحهما بمعنًى، كشِبْهٍ وشَبَهٍ، ومِثْلٍ ومَثَلٍ، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: بتخلية الله، قال من شاء الله منعه من السحر، فلم يضره، ومن شاء خلى بينه وبينه فضره، وروى سفيان: (إلا بقضاء الله) ويحمل على معنى العلم.
د. وقيل: بإذن الله لخلقه، وهو كالأمراض التي تحصل عند سقي السم والأطعمة وغيره، عن أبي علي.
25. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ لأنهم يصيرون به إلى العذاب الدائم ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ يعني اليهود الَّذِينَ نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ :
أ. قيل: استبدل السحر بدين الله، فالهاء في اشتراه كناية عن السحر، عن قتادة وابن زيد وجماعة.
ب. وقيل: كانوا يعطون الأجرة عليه، فذلك اشتراؤهم له، عن أبي علي.
27. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ :
أ. قيل: نصيب من الخير، عن مجاهد وسفيان والسدي.
ب. وقيل: ما له دِينٌ، عن الحسن.
ج. وقيل: من خلاص.
28. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني ما باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان، عن السدي وغيره ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
29. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ وقبله ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. الأول: هما فريقان فريق علموا وعاندوا، وفريق جهلوا، عن الأصم.
ب. الثاني: هم فريق واحد إلا أنهم ذموا في أحد الكلامين بنفي العلم؛ لأنه بمنزلة المنتفي، حيث لم يعملوا به، وأخبر عن حالهم في الكلام الثاني.
ج. وقيل: الَّذِينَ علموا الشياطين، والَّذِينَ لم يعلموا الناس، وأنكر بعضهم للإجماع أن المراد بقوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ اليهود دون الشياطين، وقيل: لو كانوا يعلمون كنه ما أعد الله لهم من العذاب، عن أبي مسلم.
30. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ :
أ. قيل: يعني الَّذِينَ يتعلمون السحر، ويعلمونه.
ب. وقيل: هم اليهود ومن يسلك مسلكهم.
31. ﴿آمَنُوا﴾ أي صدقوا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن ﴿وَاتَّقُوا﴾ :
أ. قيل: السحر والكفر.
ب. وقيل: جميع المعاصي.
32. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ :
أ. قيل: أي لأثيبوا، وثواب الله خير، عن قتادة والربيع والسدي.
ب. قال الحسن: يعلمون أن ثواب الله خير من السحر، ولو علموا ما أعد الله للمؤمنين من الثواب لآمنوا، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: إنهم لا يعلمون، فينبغي أن يعلموا ويطلبوا ما هو خير لهم من السحر، عن أبي علي.
33. تدل الآية الكريمة على:
أ. جواز إنزال الملك لبيان الشبه، وإن تعلق به من لا يريد الدين؛ لأنه تعالى أنزل الملكين لبيان السحر والنهي عنه، وقيل: كثر السحر والتكهنات في زمانهم، فأنزل الله الملكين ليميزوا بين المعجز والشعبذة، وبَيَّنا بطلان السحر.
ب. يدل قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ على وجوب نصيحة المعلم للمتعلم.
ج. أن الأفعال تختلف بالمقاصد؛ لذلك كان تعليم السحر لإزالة الشبهة والتَّجَنُّبِ له إيمانًا، وتَصْدِيقُهُ والعمل به كفر.
د. أن أفعال العباد فِعْلُهْم؛ لذلك أضافه في مواضع إليهم، وذمهم بها.
هـ. أن في السحر ما هو كفر، فلذلك قال ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾، وأنه لا حقيقة له، فإنه تمويه.
و. أن تعليم السحر لا يكون كفرًا.. وأن التمسك به تفريق، ويوجب العقاب.
ز. أنه يكون في الضرر ما يكون من فعل الله تعالى، كما يحصل عند شرب السموم والأدوية والأطعمة.
ح. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنه نَفَى ذلك العلم عنهم، عن أبي علي.
ط. أنهم متمكنون من الإيمان قادرون عليه، وذلك يدل على الاستطاعة قبل الفعل، وأن العبد متمكن من الإيمان والكفر، وفيها ترغيب في الإيمان والتقوى والتنفير عن السحر والعمل به.
34. مسائل نحوية:
أ. اختلف في ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ :
• قيل: بمعنى (الذي) في معنى قول ابن عباس وقتادة والسدي.
• وقيل: بمعنى الجحد، عن ابن عباس ـ بخلاف ـ والربيع وأبي مسلم.
فعلى الأول تقديره: والذي أنزل، وعلى الثاني: ما أنزل.
ب. اختلفوا فيما عطف عليه ﴿مَا﴾ :
• قيل: على ﴿مَا﴾ في قولة ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو﴾
• وقيل: عطف على السحر.
• وقيل: موضعه جر عطفًا على ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ وتقديره: ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين، عن أبي مسلم.
ج. اختلف فيما يعود الضمير في قوله: ﴿مِنْهُمَا﴾ :
• قيل: على الملكين، عن أكثر المفسرين، وهو قول أبي علي.
• وقيل: يعود على السحر والكفر، عن أبي مسلم، لأنه تقدم الدليل عليهما في قوله: ﴿كَفَرُوا﴾ كقوله: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾، يعني يتجنب الذكرى.
د. اختلف في معنى ﴿مِنَ﴾ في قوله: (لِمَن اشْتَرَاه):
• قيل: أنها بمعنى الجزاء.
• وقيل: بمعنى (الذي)
وجوابها مكتف بجواب القسم، كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ فلذلك رفع.
هـ. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ : اسمان أعجميان لا ينصرفان، ومحلهما جر؛ لأنه بدل من الملكين.
و. اختلف في عطف ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ على ثلاثة أقوال:
• الأول: قيل: يأتون فيتعلمون، وقد دل أول الكلام على (يأتون)، فيتعلمون: عطف عليه.
• وقيل: يعلمون الناس السحر فيتعلمون، ذكر الوجهين الكسائي والفراء.
• والثالث: يعلمان فيتعلمون، عن الزجاج.
ز. لا يجوز أن يكون جوابًا للنفي في قوله: (وَمَا يُعَلّمَانِ) لأن لفظه على النفي، ومعناه الإيجاب، كأنه قال يعلمان إذا قالا: نحن فتنة فلا تكفر، واللام في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) لام القسم.
ح. اللام في قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ لام الابتداء؛ لأنها دخلت على الاسم كما تدخل في (علمت لزيد خير منك)
ط. جواب ﴿لَوْ﴾ : لأثيبوا، ووقع ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ موقعه لدلالته عليه، وقيل: شبهت ﴿لَوْ﴾ بـ (لئن)، فأجيبت بجوابها، المعنى: لَئِنْ آمنوا لمثوبة.
ي. هذه الآية عطف على ما تقدم أي نبذ فريق منهم كتاب الله الذي في أيديهم ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ وهو أيضًا إخبار عن مقابح اليهود.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/517.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح الكلمات:
أ. اختلف في معنى ﴿تَتْلُو﴾ :
• قيل: تتبع، لأن التالي تابع.
• وقيل: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي: قرأته، قال الله تعالى: ﴿ هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت ﴾ أي: تتبع، وقال حسان بن ثابت:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
ب. السحر، والكهانة، والحيلة، نظائر، يقال: سحره يسحره سحرا.. وقال صاحب العين: السحر عمل يقرب إلى الشياطين، ومن السحر الآخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى، وليس الأمر كما ترى، والجمع الاخذ.. فالسحر: عمل خفي لخفاء سببه، يصور الشيء بخلاف صورته، ويقلبه عن جنسه في الظاهر، ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ .. والسحر: الغذاء، قال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لحتم غيب... ونسحر بالطعام، وبالشراب
والسحر أيضا: الرئة، يقال للجبان: انتفخ سحره.
ج. الفتنة والامتحان والاختبار نظائر، يقال: فتنته فتنة وأفتنه، قال أعشى همدان فجاء باللغتين:
لقد فتنتني، وهي بالأمس أفتنت... سعيدا، فأمسى قد قلا كل مسلم
وفتنت الذهب في النار: إذا اختبرته فيها لتعلم أخالص هو أم مشوب.. فقيل لكل ما أحميته في النار: فتنة.. وفتنت الخبزة في النار: أنضجتها، ومنه قوله: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ أي: يشوون.
د. اختلف في معنى (تعلم):
• قد تكون بمعنى اعلم، كما قيل: علمت وأعلمت بمعنى، وكذلك فهمت وأفهمت، قال كعب بن زهير:
تعلم رسول الله أنك مدركي... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
• وقيل: إن بينهما فرقا: فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة، وليس في اعلم ما لا يسبق المحدث محدث.. وتقول في الأول: تعلم النحو والفقه.
هـ. الضرر، والألم، والأذى، نظائر.. والضرر: نقيض النفع، يقال: ضره يضره ضرا، وأضر به إضرارا، واضطره إليه اضطرارا.. قال صاحب العين: والضر لغتان، فإذا ضممت إليه النفع، فتحت الضاد، والضرير: الذاهب البصر من الناس، يقال: رجل ضرير بين الضرارة، وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وضريرا الوادي: جانباه، وكل شيء دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك.. وأصل الباب الانتقاص.
و. الإذن في اللغة على ثلاثة أقسام:
• أحدها: بمعنى العلم كقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: فاعلموا، وقال الحطيئة:
ألا يا هند إن جددت وصلا... وإلا فأذنيني بانصرام
• الثاني: بمعنى الإباحة والإطلاق، كقوله تعالى ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾
• الثالث: بمعنى الأمر كقوله: ﴿نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
ز. النفع والمنفعة واللذة نظائر.. وحد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا، إما لأنه لذة، أو يؤدي إلى لذة.. وحد الضرر: كل ما يكون به الحيوان ألما إما لأنه ألم، أو يؤدي إلى ألم.
ح. الخلاق: النصيب من الخير، قال أمية بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها، لا خلاق لهم... إلا سرابيل من قطر، وأغلال
ط. المثوبة والثواب والأجر نظائر، ونقيض المثوبة: العقوبة، يقال: ثاب يثوب ثوبا وثوابا وأثابه إثابة ومثوبة وثوابا.. والأصل في الثواب: ما رجع إليك من شيء.. يقال: اعترت الرجل غشية ثم ثابت إليه نفسه، ولذلك سمي الثواب ثوابا، لأنه العائد إلى صاحبه مكافاة لما فعل، ومنه التثويب في الأذان وهو ترجيع الصوت، يقال: ثوب الداعي: إذا كرر دعاءه إلى الحرب، أو غيرها، ويقال: انهزم القوم ثم ثابوا أي: رجعوا.. والثوب: مشتق من هذا أيضا، لأنه ثاب لباسا بعد أن كان قطنا، أو غزلا.. والمثابة: الموضع يثوب إليه الناس.
ي. أجمع العرب على قولهم: هذا خير منه، وهذا شر منه، إلا بعض بني عامر، فإنهم يقولون: هذا أخير من ذا، وأشر من ذا.
2. ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله الذي في أيديهم وراء ظهورهم، فقال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ واختلف في المعني بقوله ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إنهم اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الربيع، وابن إسحاق، والسدي.
ب. ثانيها: إنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان، عن ابن عباس، وابن جريج.
ج. ثالثها: إن المراد به الجميع لأن متبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وروي عن الربيع أن اليهود سألوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم زمانا عن التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل علينا منا، وأنهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله تعالى.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ الآية:
أ. قيل: اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين أي: تتبع وتعمل به، عن ابن عباس.
ب. وقيل: معناه تقرأ عن عطا وقتادة.
ج. وقيل: معناه تكذب، عن أبي مسلم، يقال تلا عليه إذا كذب، قال سبحانه وتعالى: ﴿ ويقولون على الله الكذب.. وتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾، فإذا صدق قيل تلا عنه، وإذا أبهم جاز الأمران.
4. اختلف في قوله ﴿الشَّيَاطِينِ﴾ :
أ. قيل: هم شياطين الجن، لأنه المستفاد من إطلاق هذه اللفظة.
ب. وقيل: هم شياطين الإنس المتمردون في الضلالة كما قال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي... وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ج. وقيل: هم شياطين الجن والإنس.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ :
أ. قيل: معناه في ملك سليمان، كقول أبي النجم (فهي على الأفق كعين الأحول ﴾ أي: في الأفق.. ثم إن هذا يحتمل معنيين:
أ. أحدهما: في عهد ملك سليمان.
ب. الثاني: في نفس ملك سليمان، كما يقال فلان يطعن في ملك فلان، وفي نفس فلان.
ب. وقيل: معناه على عهد ملك سليمان.
ج. وقال أبو مسلم: معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين.
6. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ بين بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين وتأثره وترويه، كان كفرا إذ برأ سليمان عليه السلام منه، ولم يبين سبحانه بقوله ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أنها أي شيء كانت تتلو الشياطين.
7. لم يبين بقوله سبحانه ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أن ذلك الكفر أي نوع من أنواع الكفر، حتى قال ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، فبين سبحانه أن ذلك الكفر كان من نوع السحر، فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر، وزعموا أن ملكه كان به، فبرأه الله منه، وهو قول ابن عباس وابن جبير وقتادة.
8. اختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان عليه السلام:
أ. قيل: إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة، ووضعها في خزانته.
ب. وقيل: كتمها تحت كرسيه لئلا يطلع عليها الناس، ولا يعلموا بها، فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب، وقالوا: إنما تم ملك سليمان بالسحر، وبه سخر الإنس والجن والطير، وزينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان عليه السلام، وشاع ذلك في اليهود وقبلوه لعداوتهم لسليمان، عن السدي.. وروي العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما هلك سليمان وضع إبليس السحر، ثم كتبه في كتاب، وأطواه، وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا من ملك سليمان بن داوود من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا وكذا فليقل كذا وكذا، ثم دفنه تحت السرير، ثم استثاره لهم، فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: هو عبد الله ونبيه، فقال الله في كتابه: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ الآية.
9. في قوله ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
ب. ثانيها: إنهم كفروا بما نسبوا إلى سليمان من السحر.
ج. ثالثها: إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر.
10. في قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه.
ب. الثاني: إنهم دلوهم على استخراجه من تحت الكرسي، فتعلموه.
11. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إن المراد أن الشياطين يعلمون الناس السحر، والذي أنزل على الملكين، وإنما أنزل على الملكين وصف السحر، وماهيته، وكيفية الاحتيال فيه، ليعرفا ذلك، ويعرفاه الناس فيجتنبوه، غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه، وإن كان المؤمنون إذا عرفوه اجتنبوه وانتفعوا بالاطلاع على كيفيته.
ب. ثانيها: أن يكون المراد على ما ذكرناه قبل من أن معناه واتبعوا ما كذبت به الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين أي: معهما وعلى ألسنتهما، كما قال سبحانه: ﴿مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي: معهم، وعلى ألسنتهم.
ج. ثالثها: أن يكون ما بمعنى النفي، والمراد وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ويكون قوله ﴿بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ من المؤخر الذي معناه التقديم، ويكون في هذا التأويل:
• هاروت وماروت رجلين من جملة الناس، ويكون الملكان اللذان نفي عنهما السحر جبرئيل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله، عز وجل، أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل على سليمان، فأكذبهم الله في ذلك.
• ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين، كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ يعني لحكم داوود وسليمان ويكون على هذا قوله ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ راجعا إلى هاروت وماروت، ومعنى قولهما ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ يكون على طريق الاستهزاء والتماجن، لا على سبيل النصيحة والتحذير.
12. يجوز على هذا التأويل أيضا الذي يتضمن النفي والجحد، أن يكون هاروت وماروت اسمين للملكين، ونفي عنهما إنزال السحر، ويكون قوله ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ﴾ راجعا إلى قبيلتين من الجن والإنس، أو إلى شياطين الجن والإنس، فيحسن التثنية لهذا وروي هذا التأويل في حمل ﴿مَا﴾ على النفي، عن ابن عباس، وغيره من المفسرين، وحكي عنه أيضا أنه كان يُقرأ على الملكين بكسر اللام، ويقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين؟ وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ إليهما.
13. يمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر، وإن لم يحمل قوله ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ على الجحد والنفي، وهو: أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين وتدعيه على ملك سليمان، واتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر، ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى، وإن أطلق لأنه، جل وعز، لا ينزل السحر بل يكون أنزله إليهما بعض الضلال، ويكون معنى ﴿أَنْزَلَ﴾ وإن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء أنه أتي به من نجود البلاد وأعاليها، فإن من هبط من النجد إلى الغور، يقال نزل.
14. اختلف في بابل:
أ. قيل: هي بابل العراق، لأنه تبلبلت بها الألسن، عن ابن مسعود.
ب. وقيل: هي بابل دماوند، عن السدي.
ج. وقيل: هي نصيبين إلى رأس العين.
15. اختلف في هاروت وماروت:
أ. قيل: هما رجلان على ما تقدم بيانه.
ب. وقيل: هما ملكان من الملائكة أهبطهما الله إلى الأرض على صورة الإنس لئلا ينفر الناس منهما إذا كانا على صورة الملائكة.
16. اختلف في سبب هبوطهما:
أ. قيل: إن الله أهبطهما ليأمرا بالدين، وينهيا عن السحر، ويفرقا بينه وبين المعجز، لأن السحر كان كثيرا في ذلك الوقت، ثم اختلف في ذلك:
• فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر، وينهيان عن فعله، ليكون النهي بعد العلم، فإن من لا يعرف الشيء لا يمكنه اجتنابه.
• وقال آخرون: لم يكن لهما تعليم السحر لما في ذلك من الإغراء بفعله، وإنما أهبطا لمجرد النهي، إذ كان السحر فاشيا.
ب. وقيل أيضا في سبب هبوطهما: إن الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم فقال طائفة منهم: (يا ربنا أما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك، ومما يفترون عليك من الكذب والزور، ويرتكبونه من المعاصي، وقد نهيتهم عنها وهم في قبضتك، وتحت قدرتك)، فأحب الله سبحانه أن يعرفهم ما من به عليهم من عجيب خلقهم، وما طبعهم عليه من الطاعة، وعصمهم به من الذنوب، فقال لهم: (اندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض، وأجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب، والشهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلت في ولد آدم، ثم أختبرهما في الطاعة لي)، قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت، وكانا من أشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم، واستجرار عتب الله عليهم.. إلى آخر الخبر الذي رواه العياشي مرفوعا إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام.. ومن قال بعصمة الملائكة عليهم السلام، لم يجز هذا الوجه.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ :
أ. قيل: يعني الملكين ما يعلمان أحدا، والعرب تستعمل لفظة علم بمعنى أعلم أي: لا يعرفان صفات السحر وكيفيته، حتى يقولا أي إلا بعد أن يقولا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي: محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة والاختبار والابتلاء، وإنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه، ويمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله، ولا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك، فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه، لا لتفعله.. ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا ومعصية، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل.
ب. وقيل: إن المراد به نفي تعليمهما السحر، والتقدير: ولا يعلمان أحدا السحر، فيقولان إنما نحن فتنة.. فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين، والنهي عنه من الملكين.
18. قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ يعني به أحد ثلاثة أشياء:
أ. أحدها: فلا تكفر بالعمل بالسحر.
ب. الثاني: فلا تكفر بتعلم السحر، ويكون مما امتحن الله، عز وجل، بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلمه كافرا، وبتركه التعلم مؤمنا، لأن السحر كان قد كثر.. وهذا ممكن أن يمتحن الله به، كما امتحن بالنهر في قوله: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾
ج. الثالث: فلا نكفر بكليهما.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾
أ. قيل: أي: من هاروت وماروت.
ب. وقيل: من السحر والكفر.
ج. وقيل: أراد بدلا مما علماهم، ويكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم الملكان من النهي عن السحر إلى فعله واستعماله، كما يقال: ليت لنا من كذا وكذا أي: بدلا منه، وكقول الشاعر:
جمعت من الخيرات وطبا، وعلبة... وصرا لأخلاف المزممة البزل
ومن كل أخلاق الكرام نميمة... وسعيا على الجار المجاور بالمحل
20. في قوله تعالى: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إنهم يوجدون أحدهما على صاحبه، ويبغضونه إليه، فيؤدي ذلك إلى الفرقة، عن قتادة.
ب. ثانيها: إنهم يغوون أحد الزوجين، ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى، فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه، فيفرق بينهما اختلاف النحلة، وتباين الملة.
ج. ثالثها: إنهم يسعون بين الزوجين بالنميمة والوشاية، حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: أي: لا يلحقون بغيرهم ضررا إلا بعلم الله، فيكون على وجه التهديد.
ب. وقيل: معناه إلا بتخلية الله، عن الحسن، قال: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلى بينه وبينه فيضره.
22. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ معناه: يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم وإن كان ينفعهم في الدنيا، لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه، لا أن يجتنبوه، صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم.
23. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ يعني اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، علموا لمن استبدل السحر بدين الله ـ فالهاء في ﴿اشْتَرَاهُ﴾ كناية عن السحر، عن قتادة، وجماعة من المفسرين ـ فما له في الآخرة من نصيب.. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني: بئس ما باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا التكسب بالسحر.
24. في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ بعد قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا، أو يكون الذين علموا الشياطين، أو الذين خبر تعالى عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر.
ب. ثانيها: أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا أنهم علموا شيئا، ولم يعلموا غيره، فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك، ورضيه لنفسه على الجملة، ولم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من العقاب الدائم.
ج. ثالثها: أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته، أنهم لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا كما قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه ليصيبا من زاده:
إذا حضراني، قلت: لو تعلمانه... ألم تعلما أني من الزاد مرمل
فنفى عنهما العلم، ثم أثبته، والمعنى في نفيه العلم عنهما، أنهما لم يعملا بما علماه، فكأنهما لم يعلماه.
25. في هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد، ولذلك كان تعلم السحر لإزالة الشبهة، والتحرز منه، واجتنابه، إيمانا، ولتصديقه واستعماله كفرا.
26. اختلف في ماهية السحر على أقوال:
أ. قيل: إنه ضرب من التخييل، وصنعة من لطيف الصنائع، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ منه، وجعل التحرز بكتابه وقاية منه، وأنزل فيه سورة الفلق، وهو قول الشيخ المفيد أبي عبد الله من أصحابنا.
ب. وقيل: إنه خدع ومخاريق وتمويهات، لا حقيقة لها، يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة.
ج. وقيل: إنه يمكن الساحر أن يقلب الانسان حمارا، ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع، وهذا لا يجوز، ومن صدق به فهو لا يعرف النبوة، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع، ولو أن الساحر والمعزم قدرا على نفع أو ضر، وعلما الغيب، لقدرا على إزالة الممالك، واستخراج الكنوز من معادنها، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، من غير أن ينالهم مكروه وضرر، فلما رأيناهم أسوأ الناس حالا، وأكثرهم مكيدة واحتيالا، علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك.
27. ما روي من الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر، فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله، وأنه لم يفعل ما فعله، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، وقد قال الله، سبحانه وتعالى، حكاية عن الكفار: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، فلو كان للسحر عمل فيه، لكان الكفار صادقين في مقالهم، حاشا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، من كل صفة نقص، تنفر عن قبول قوله، فإنه حجة الله على خليقته، وصفوته على بريته.
28. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾، قيل: يعني الذين يتعلمون السحر ويعملونه.. وقيل: هم اليهود.. ﴿آمَنُوا﴾ أي: صدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والقرآن ﴿وَاتَّقُوا﴾ السحر والكفر.. وقيل: جميع المعاصي ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ أي: لأثيبوا، وثواب الله خير.. ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي: لو كانوا يستعملون ما يعلمونه، وليس أنهم كانوا يجهلون ذلك، كما يقول الانسان لصاحبه، وهو يعظه: ما أدعوك إليه خير لك لو كنت تعقل، أو تنظر في العواقب.
29. في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وهو خير علموا أو لم يعلموا، وجهان:
أ. أحدهما: إن معناه لو كانوا يعلمون لظهر لهم بالعلم ذلك أي: لعلموا أن ثواب الله خير من السحر.
ب. والآخر: إن المعنى فيه الدلالة على جهلهم، وترغيبهم في أن يعلموا ذلك، وأن يطلبوا ما هو خير لهم من السحر، وهو ثواب الله الذي ينال بطاعاته، واتباع مرضاته.
30. في هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، لأنه نفى ذلك العلم عنهم.
31. مسائل نحوية:
أ. في قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو﴾ وجهان:
• أحدهما: أن تكون ﴿تَتْلُو﴾ بمعنى تلت، وإنما جاز ذلك لما علم من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال: إن المراد على عهد ملك سليمان، أو في زمن ملك سليمان، أو بملك سليمان، فيمن لم يقدر حذف المضاف، فدل ذلك على أن مثال المضارع أريد به الماضي.. قال سيبويه: قد تقع يفعل في موضع فعل، كقول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني... فمضيت ثقة قلت: لا يعنيني
• الوجه الآخر: أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل، ولكنه حكاية حاول وإن كان ماضيا، كقوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ﴾، فيسومونكم: حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه، وإن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب، ومن هذا ما أنشده ابن الأعرابي:
جارية في رمضان الماضي... تقطع الحديث بالايماض
ب. ذكر في ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ ثلاثة أقوال:
• أحدها: إنه بمعنى الذي و ﴿أَنْزَلَ﴾ صلته، وموضعه نصب بكونه معطوفا على السحر، وقيل: إنه معطوف على قوله ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾
• ثانيها: إنه بمعنى أيضا، وموضعه جر ويكون معطوفا بالواو على ملك سليمان.
• وثالثها: إنه بمعنى الجحد والنفي، وتقديره: وما كفر سليمان، ولم ينزل الله السحر على الملكين.
و (بابل ﴾: اسم بلد لا ينصرف للتعريف والتأنيث.
ج. قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله، أو يكون خبر مبتدأ محذوف.. والفعل الذي قبله لا يخلو: إما أن يكون كفروا من قوله ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ فيجوز أن يكون ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ معطوفا عليه، لأن ﴿كَفَرُوا﴾ في موضع رفع بكونه خبر لكن، فعطف عليه بالمرفوع، وهو قول سيبويه.
د. ﴿يَعْلَمُونَ﴾ يجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي: كفروا في حال تعليمهم، ويجوز أن يكون بدلا من كفروا، لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى.. وإذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى، كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾، جاز إبداله منه.. وإما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله يعلمون، وهو قول الفراء، وأنكر الزجاج هذا القول قال: لأن قوله ﴿مِنْهُمَا﴾ دليل على التعلم من الملكين خاصة.. قال أبو علي: فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا، كما يدخل على قول الفراء، لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين، قال: وهذا الاعتراض ساقط من جهتين إحداهما: إن التعلم، وإن كان من الملكين خاصة، فلا يمتنع أن يكون قوله ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ عطف على ﴿كَفَرُوا﴾، وعلى ﴿يَعْلَمُونَ﴾، وإن كان متعلقا بهما، وكان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين.
هـ. سؤال وإشكال: كيف يجوز هذا؟ وهل يسوغ أن يقدر هذا التقدير، ويلزمك أن يكون النظم: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما، فتضمر الملكين قبل ذكرهما، والإضمار قبل الذكر غير جائز.. وإن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر، وكان ذلك غير جائز، لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا ويعلمون، بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين، كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج، فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي: فيأبون فيتعلمون، أو على يعلمان من قوله ﴿ ما يعلمان من أحد ﴾ لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين؟ والجواب:
• أما النظم فإنه على ما ذكرته وهو صحيح، وأما الإضمار قبل الذكر، فإن ﴿مِنْهُمَا﴾ في قوله ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين، فإن اضمارهما بعد تقدم ذكرهما، وذلك سائغ، ونظيره قوله تعالى: ﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ﴾ لما تقدم ذكره أضمر اسمه، ولو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز، لكونه إضمار قبل الذكر، وهذا بين جدا، فالاعتراض بذلك على سيبويه والفراء ساقط.
• أما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك، فهي أنه قد قيل في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى: قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين، وقول منها تعلمه من الشياطين، فيكون نظم الكلام على هذا: ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر، فيتعلمون منهما.
و. ﴿ما يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ أي: وما يعلم هاروت وماروت من أحد، فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين، إنما يرجع إلى هاروت وماروت اللذين هما الشياطين في المعنى.. فأما حمل الكلام على التثنية والشياطين جمع، فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع، وعلى لفظ هاروت وماروت فيثنى، ونظيره قوله ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾، ثم قالوا ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ .
ز. يجوز أن يكون ﴿ يتعلمون ﴾ معطوفا على يعلمان من قوله ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ فيكون الضمير الذي في ﴿ يتعلمون ﴾ لأحد، إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى، كقوله تعالى ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ .. فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله وقيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام، لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيأبون فيتعلمون، وهذا قول حسن فهو قول الفراء.. قال أبو علي: وهو عندي جائز، لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه.. وأما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما، وذلك غير ممتنع.. وقد قيل في قوله ﴿مِنْهُمَا﴾ : إن الضمير عائد إلى السحر، والكفر، قاله أبو مسلم، قال: لأنه تقدم الدليل عليها في قوله كفروا، وهذا كقوله سبحانه: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ أي: يتجنب الذكرى.
ح. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾، قال الزجاج: دخول اللام على ﴿قَدْ﴾ على جهة القسم والتوكيد.
ط. قال النحويون في قوله ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ قولين:
• جعل بعضهم ﴿مِنَ﴾ بمعنى الشرط، وجعل الجواب ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وهذا ليس بموضع شرط وجزاء، ولكن المعنى ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخر من خلاق، كما تقول: والله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل.. انتهى كلام الزجاج.. فموضع ﴿مِنَ﴾ رفع بالابتداء، وموضع ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ رفع على أنه خبر المبتدأ، وهذا قول سيبويه.. فاللام في قوله لمن اشتراه لام الابتداء دون القسم، لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم، واللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا، كما أن الاستفهام كذلك في نحو علمت أزيد في الدار أم عمرو، وهذا هو المسمى تعليقا.. قال أبو علي: قول من قال إن من جزاء بعيد، لأنه إذا كان جزاء فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ﴾، فيقتضي ذلك قسما والقسم الذي يقتضيه قوله ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ إذا حملت ﴿مِنَ﴾ على أنه جزاء، لا يخلو من أن يكون علموا، لأن العلم والظن قد يقامان مقام القسم، كما في قوله:
ولقد علمت لتأتين منيتي... إن المنايا لا تطيش سهامها
وقوله: ﴿وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾، أو يكون مضمرا بين قوله علموا، وقوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾، ويبعد أن يكون علموا قسما، وقوله لمن اشتراه جوابه هنا، لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم، والمقسم عليه لا يكون قسما، لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم، لأن في أول الكلام قسما، وهو المضمر الجالب للام في لقد، فهذا هو القسم الأول.
• الثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول المضمر، وهو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء، وبالنفي فيمن جعل من جزاء.. ودخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه، ولا يسوغ، فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون ﴿عَلِمُوا﴾ هنا بمنزلة القسم وأن يجاب بجوابه.. فقال سيبويه والخليل: لا يقوى أن تقول وحقك وحق زيد لأفعلن، والواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها، لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه، إلا أن يضم الآخر إلى الأول، ويحلف بهما على المحلوف عليه، ولهذا جعل هو والخليل الحرف في قوله ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ على أنها لام ابتداء دون قسم، وليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم: لعمرك لأفعلن كذا، فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم، ويبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ وبين ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ لأن علموا يقتضي مفعوليه، وإذا وقع قسم بينه وبين مفعوليه لم يجب، وكان لغوا، كما أنه في نحو قولك زيد والله منطلق، وإن تأتني والله أتيتك لغو لا جواب له، ولأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه، فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت، وذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه، لأخرجته عما وضع له، لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره، فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره، ولجعلته قائما بنفسه، ولو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به، ويوصف به النكرة، وهذا ممتنع.. فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت، لا يلزم أن يكون له جواب، فإضمار القسم بعد علموا غير جائز، لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف، كما يدل ليفعلن ونحوه، من الجواب على القسم والمحذوف، فإذا لم يجز أن يكون له جواب، لم يجز حذفه وإرادته.. فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت، فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع، فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما، ويكون قوله ما لهم في الآخرة من خلاق جوابه وكان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه، وحمل اللام في لمن على أنه لام الابتداء، ومن بمعنى الذي، لئلا يلزم ما لا يستحسنه ولا يستجيزه من دخول قسم على قسم، فمذهب سيبويه في هذا هو البين.
ي. اللام في ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ لام الابتداء، وهي في موضع جواب ﴿لَوْ﴾ لأنها تنبئ عن قولك لأثيبوا.. والضمير في ﴿إِنَّهُمْ﴾ عائد إلى الذين يتعلمون السحر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/331.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبيّ عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السّحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
ب. الثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قال يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمّد يزعم أن ابن داوود كان نبيّا!؟ والله ما كان إلا ساحرا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن إسحاق.
2. ﴿تَتْلُو﴾ بمعنى: تلت، و ﴿عَلَى﴾ بمعنى: (في) قاله المبرّد، قال الزّجّاج وقوله: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾، أي: على عهد ملك سليمان.
3. في كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه لما خرج سليمان عن ملكه؛ كتبت الشياطين السّحر، ودفنته في مصلّاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا: بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عبّاس، وهو قول مقاتل.
ب. الثاني: أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيّه، فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كلّ سطرين سحرا وكذبا، وأضافوه إلى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.
ج. الثالث: أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم أضافته إليه، قاله عكرمة.
د. الرابع: أن الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلّمه الناس، فلما قبض استخرجته، فعلّمته الناس وقالوا: هذا علم سليمان، قاله قتادة.
هـ. الخامس: أن سليمان أخذ عهود الدّوابّ، فكانت الدّابة إذا أصابت إنسانا طلب إليها بذلك العهد، فتخلّى عنه، فزاد السّحرة السّجع والسحر، قاله أبو مجلز.
و. السادس: أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدّث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتاب، وفشا في بني إسرائيل أن الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتاب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيّه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلا احترق، وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان؛ جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلّهم على تلك الكتاب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا؛ ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذ بنو إسرائيل تلك الكتاب، فلما جاء محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، خاصموه بها، هذا قول السّدّيّ.
4. ﴿سُلَيْمَانَ﴾ : اسم عبرانيّ، وقد تكلّمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النّابغة سليما ضرورة، فقال: (ونسج سليم كلّ قضاء ذائل)، واضطر الحطيئة فجعله: سلّاما، فقال:
فيه الرّماح وفيه كلّ سابغة... جدلاء محكمة من نسج سلّام
وأرادا جميعا: داوود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيّراه.
5. في قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا سليمان إلى السحر، لا إلى الكفر.
6. في ﴿مَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها معطوفة على (ما) الأولى، فتقديره: واتّبعوا ما تتلو الشياطين وما أنزل على الملكين.
ب. الثاني: أنها معطوفة على السّحر، فتقديره: يعلّمون الناس السّحر، ويعلّمونهم ما أنزل على الملكين.
7. سؤال وإشكال: إذا كان السحر نزل على الملكين، فلما ذا ذكره؟ والجواب: من وجهين ذكرهما ابن السّرّي:
أ. أحدهما: أنهما كانا يعلّمان الناس: ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلا لو قال ما الزّنى؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلّم أنه حرام.
ب. الثاني: أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلّم كان كافرا، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت.
8. في الذي أنزل على الملكين قولان:
أ. أحدهما: أنه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد.
ب. الثاني: أنه التّفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس كالقولين. قال الزّجّاج: وهذا من باب السحر أيضا.
9. ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم؛ دعت عليهم الملائكة، فقال الله تعالى: لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدّثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، وهذا مرويّ عن ابن مسعود، وابن عباس، واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال(2).:
أ. أحدها: أنهما زنيا، وقتلا، وشربا الخمرة، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنهما جارا في الحكم، قاله عبيد الله بن عتبة.
ج. الثالث: أنهما همّا بالمعصية فقط.
10. نقل عن عليّ عليه السلام أن الزّهرة كانت امرأة جميلة وأنها خاصمت إلى الملكين هارون وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا: باسم الله الأعظم، فقالت: ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلّمانيه، فعلّماها إياه، فطارت إلى السماء، فمسخها الله كوكبا.. وهي آثار بعيدة عن الصحة، وتأوّل بعضهم هذا فقال: إنه لما رأى الكوكب، ذكر تلك المرأة، لا أن المرأة مسخت نجما.
11. اختلف العلماء في كيفية عذابهما:
أ. روي عن ابن مسعود أنهما معلّقان بشعورهما إلى يوم القيامة.
ب. وقال مجاهد: إن جبّا ملئ نارا فجعلا فيه.
12. أمّا بابل؛ فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها، واختلفوا في حدّها على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها: الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود.
ب. الثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة.
ج. الثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، قاله السّدّيّ.
13. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي اختبار وابتلاء ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، يريد: بقضائه، ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ إشارة إلى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ، يعني: اختاره، يريد: السحر، واللام لام اليمين.. فأما الخلاق؛ فقال الزّجّاج: هو النّصيب الوافر من الخير.. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾، أي: باعوها به، ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ العقاب فيه.
__________
(1) زاد المسير: 1/93.
(2) لا أصل لهذه الأحاديث في المرفوع، وإنما هي من الإسرائيليات، ورد مرفوعا وموقوفا ومقطوعا.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ حكاية عمن تقدم ذكره وهم اليهود، وفيه أقوال:
أ. أحدها: أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. ثانيها: أنهم الذين تقدموا من اليهود.
ج. ثالثها: أنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر.
د. رابعها: أنه يتناول الكل، وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، إذ لا دليل على التخصيص، قال السدي: لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فهذا قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: 101] ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحر.
2. ذكروا في تفسير: ﴿تَتْلُو﴾ وجوهاً:
أ. أحدها: أن المراد منه التلاوة والإخبار.
ب. ثانيها: قال أبو مسلم (تتلو) أي تكذب على ملك سليمان، يقال: تلا عليه إذا كذب وتلا عنه، إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران.
3. الأقرب أن المراد منه التلاوة والإخبار، لأن التلاوة حقيقة في الخبر، إلا أن المخبر يقال في خبره إذا كان كذباً إنه تلا فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال فيه، روي عن فلان، بل يقال: روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن فلان وذلك لا يليق إلا بالأخبار والتلاوة، ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف.
4. اختلفوا في الشياطين المقصودين هنا:
أ. قيل: المراد شياطين الجن، وهو قول الأكثرين، وقالوا: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون: هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره.
ب. وقيل: شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة، واستندوا في ذلك إلى ما روي أن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء.
ج. وقيل: هم شياطين الإنس والجن معاً.
5. احتج القائلون بأن المراد شياطين الإنس على فساد القول الأول بأن:
أ. شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف محققاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان.
ب. أن الذي يفعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه، أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن نزيد في كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفياً فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ :
أ. قيل: في ملك سليمان، عن ابن جريج، قال القاضي: إن ملك سليمان هو النبوة، أو يدخل فيه النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة، وإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر، وقد دفنوها تحت سرير ملكه، ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولًا على ملكه في الحقيقة، والأصح عندي أن يقال: إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان.
ب. وقيل: على عهد ملك سليمان.
7. الأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلو الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرؤون من كتب السحر، ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم، فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان.
8. السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه:
أحدها: أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم.
ثانيها: أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر.
ثالثها: أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسراراً عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه السلام استفاد السحر منهم.
9. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ هذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر، وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر، وقيل فيه أشياء:
أ. أحدها: ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله هذه الآية.
ب. ثانيها: أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه.
ج. ثالثها: أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً،
10. بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان، ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولًا بالسحر فقال تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾
11. ﴿السِّحْرَ﴾ : ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد: (ونسحر بالطعام وبالشراب)، قيل فيه وجهان، أحدهما: أنا نعلل ونخذع كالمسحور المخدوع، والآخر: نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء، وقال:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا... عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضاً أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر، والسحر هو الرئة، وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء:
أ. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ [الشعراء: 153]، يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ [الشعراء: 154] ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.
ب. وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: 81] وقال: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ [الأعراف: 116]
12. لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله، قال تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: 116] يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وقال تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]
13. قد يستعمل لفظ السحر مقيداً فيما يمدح ويحمد، روي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو: خبرني عن الزبرقان، فقال: مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه، فقال عمرو: إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما، أرضاني فقلت: أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من البيان لسحراً)، فسمى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته.
14. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبئ عنه سحراً؟ وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفي، لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر؟ والجواب: إنما سماه سحراً لوجهين:
أ. الأول: أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب، فمن هذا الوجه سمي سحراً.
ب. الثاني: أن المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً فذلك يشبه السحر من هذا الوجه.
15. ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ ظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضاً كفر، ولمن منع ذلك أن يقول: لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، بل المعنى أنهم كفروا، وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر.
16. سؤال وإشكال: هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر، فلو كان تعليم السحر كفراً لزم تكفير الملكين، وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون، وأيضاً ليس كل ما يسمى سحراً كفر، والجواب: اللفظ المشترك لا يكون عاماً في جميع مسمياته، فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات، فهذا السحر كفر، والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام.. وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر، بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على ما قال تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾، وأيضاً فبتقدير أن يقال: إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفراً إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيته وكونه صواباً، فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفراً، وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزاً عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق.
17. في ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه بمعنى الذي، ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
• قيل: أنه عطف على (السحر) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضاً.
• وقيل: أنه عطف على قوله: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي واتبعوا ما تتلو الشياطين افتراء على ملك سليمان وما أنزل على الملكين لأن السحر منه ما هو كفر وهو الذي تلته الشياطين، ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما.
• وقيل: أن موضعه جر عطفاً على (ملك سليمان) وتقديره ما تتلو الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله.
ب. الثاني: أن يكون (ما) بمعنى الجحد، ويكون معطوفاً على قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ كأنه قال: لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، فرد الله عليهم في القولين قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ جحد أيضاً أي لا يعلمان أحداً بل ينهيان عنه أشد النهي.
18. أنكر أبو مسلم في الملكين أن يكون السحر نازلًا عليهما، واحتج عليه بوجوه:
أ. الأول: أن السحر لو كان نازلًا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل.
ج. الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى.
د. الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟
19. الجواب على ما ذكره أبو مسلم من إنكار أن يكون السحر نازلًا على الملكين، لأن عطف قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل:
أ. قوله أولا: لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى.. فالجواب: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر: (عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه)
ب. قوله ثانياً: إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، فالجواب: أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق.
ج. قوله ثالثاً: إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة، فالجواب: لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله.
د. قوله رابعاً: إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟، فالجواب: فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهياً عنه؟ وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأموراً به.
20. سلك أبو مسلم في تفسير الآية نهجاً آخر يخالف قول أكثر المفسرين، فقال: كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر، وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير، وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ توكيداً لبعثهم على القبول والتمسك، وكانت طائفة تتمسك وأخرى تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
21. ﴿حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر، وهو كقولك ما أمرت فلاناً بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا، أي ما أمرت به بل حذرته عنه.
22. من قرأ أنهما (ملكين) بكسر اللام، وهو مروي عن الضحاك وابن عباس، اختلفوا:
أ. قال الحسن: كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر.
ب. وقيل: كانا رجلين صالحين من الملوك.
23. الذين كسروا اللام في (ملكين) احتجوا بوجوه:
أ. أحدها: أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر.
ب. ثانيها: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8]
ج. ثالثها: لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلًا وتلبيساً على الناس وهو غير جائز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنساناً، بل ملكاً من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: 9]
24. جواب الذين كسروا اللام في (ملكين):
أ. عن الأول: أن هناك حكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر(2)..
ب. عن الثاني: أن هذه الآية عامة، وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة، وخاصة والخاص مقدم على العام.
ج. عن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنساناً، كما أنه في زمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه.
25. ما روي أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30] ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح.. إلى آخر القصة، هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك، بل فيه ما يبطلها من وجوه:
أ. الأول: ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي.
ب. ثانيها: أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟
ج. ثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان.
26. السبب في إنزال الملكين وجوه:
أ. أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.
ب. ثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
ج. ثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم أو مندوباً، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله.
د. رابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً لأن الذي لا يكون متصوراً امتنع النهي عنه.
هـ. خامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن.
و. سادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر.
27. قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكاً.
28. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ عطف بيان للملكين، علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، وقرأ الزهري: هاروت وماروت بالرفع على: هما هاروت وماروت.
29. شرح الله تعالى حالهما فقال: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي أن هذين الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، والمراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب.. أي أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة، فيقولا له: (إنما نحن فتنة) أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي، فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة.
30. ذكروا في تفسير التفريق الوارد في قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وجهين:
أ. الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافراً، وإذا صار كافراً بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما.
ب. الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة.
31. ذكر الله تعالى أنهم ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ لا يعني أنهم يتعلمون منهما هذا القدر فقط، لكن ذكر هذه الصورة تنبيهاً على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى.. وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ يدل على ذلك لأنه أطلق الضرر، ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه.
32. الإذن في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ حقيقة في الأمر، والله لا يأمر بالسحر، ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه، فلا بد من التأويل وفيه وجوه:
أ. أحدها: قال الحسن: المراد منه التخلية، يعني السحر إذا سحر إنساناً فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر.
ب. ثانيها: قال الأصم: المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذاناً لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذناً لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ﴾ [التوبة: 3] أي إعلام، وقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 279] معناه: فاعلموا وقوله: ﴿آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنبياء: 109] يعني أعلمتكم.
ج. ثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]
د. رابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً والكفر يقتضي التفريق، فإن هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.
33. إنما ذكر الله تعالى لفظ الشراء في قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ على سبيل الاستعارة لوجوه:
أ. أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلو الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله.
ب. ثانيها: أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
ج. ثالثها: أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال.
34. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ :
أ. قال الأكثرون: (الخلاق) النصيب، قال القفال: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ومعناه التقدير ومنه خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا.
ب. وقال آخرون: الخلاق الخلاص ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها لأخلاق لهم... إلا سرابيل قطران وأغلال
35. سؤال وإشكال: كيف أثبت الله تعالى لهم العلم أولًا في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ ثم نفاه عنهم في قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون، وهذا جواب الأخفش وقطرب.
ب. ثانيها: لو سلمنا كون القوم واحداً ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها.
ج. ثالثها: لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار: ﴿عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ [الإسراء: 97] إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس، ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه: صنعت ولم تصنع.
36. الضمير في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم، فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ﴾ [البقرة: 102] أتبعه بالوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية.
37. لما قال الله تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: 101] ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر، قال من بعد: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ يعني بما نبذوه من كتاب الله. فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز، وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات.
38. الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الاسمية ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ لما في الجملة الاسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها.
39. سؤال وإشكال: هلا قيل لمثوبة الله خير؟ والجواب: لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 3/618.
(2) تطرق إلى ذكرها لاحقا كما سنرى.
ابن حمزة:
روي عن الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
أ. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾، إلى آخر القصة، الصحيح عندنا إنما جرت نفي لما حكى الناس في قصة الملكين ببابل، وكذلك ما بعده إلى نهاية الآيتين، وكذلك ما حكى من تعلمهم منهما إنما حكاية عنهم ما رووه عن العوام؛ ليقبلوا منهم إفكهم الذي أفكوه.
ب. وكذلك أرباب الضلالة يسندون ضلالتهم إلى الأنبياء وإلى الصالحين، ولولا ذلك لما قبلها الأغمار والجهال؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا بعصمة الملائكة عموما، ولم يستثن أحدا، وقوله الحق، وخبره الصدق.
ج. ومن ضلالتهم: أنهم حكوا أن الفرق لا يكون بين الزوجين إلا بإذن الله، وهذا ظاهر؛ فكيف يرضاه الله عز وجل، أو يأذن فيه، فهذا الذي علمناه من سلفنا، وإن كانت الألفاظ تختلف، ولكنه يعود إلى ما قلنا؛ فهذا ما عندنا في ذلك، وجعلناه إشارة تدل على ما جانسه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/58.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود، وقال السدى: عارضت اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت، وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داوود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا.
2. ﴿مَا﴾ مفعول بـ ﴿اتَّبَعُوا﴾ أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته، وقيل: ﴿مَا﴾ نفي، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي.
3. ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي على شرعه ونبوته، قال الزجاج: المعنى على عهد ملك سليمان، وقيل: المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع، وقال ﴿عَلَى﴾ ولم يقل بعد لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أي في تلاوته.
4. الشياطين هنا: قيل: هم شياطين الجن، وهو المفهوم من هذا الاسم.. وقيل: المراد شياطين الانس المتمردون في الضلال، كقول جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي... وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
5. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أثبت كفرهم بتعليم السحر.
6. ﴿يَعْلَمُونَ﴾ : في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان.
7. لكن: كلمة لها معنيان: نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات: لا، ك، إن.. (لا) نفي، و(الكاف) خطاب، و(إن) إثبات وتحقيق، فذهبت الهمزة استثقالا، وهي تثقل وتخفف، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بأنّ الخفيفة.
8. اختلف في أصل معنى السحر:
أ. قيل: السحر أصله التمويه بالحيل والتخائيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه.
ب. وقيل: هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال آخر:
أرانا موضعين لأمر غيب... ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود... وأجرأ من مجلحة الذئاب
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ يقال: المسحر الذي خلق ذا سحر، ويقال من المعللين، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب.
ج. وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية.
د. وقيل: أصله الصرف، يقال: ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه، فالسحر مصروف عن جهته.
هـ. وقيل: أصله الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك.
و. وقيل في قوله تعالى: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا.
ز. وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا، والساحر: العالم، وسحره أيضا بمعنى خدعه.
ح. وقال ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضة، والعضة عند العرب: شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا... ت في عضه العاضه المعضه
9. اختلف هل للسحر حقيقة أم لا.. وذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض.. وعندنا أصله طلسم يبني على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر.. وعلى مذهب أهل السنة، ومن وافقهم أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء.. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد لخفة سيره.. قال ابن فارس في المجمل: الشعوذة ليس من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين واخذه كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقي من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك.
10. سمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: (إن من البيان لسحرا) أخرجه مالك وغيره، وذلك لان فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من البيان لسحرا):
أ. خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر.
ب. وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم.
11. القول بأن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من البيان لسحرا) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة هو الأصح، والدليل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، وقوله: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون)، وبهذا المعنى فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه ألحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والاطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق، وهذا بين، والحمد لله.
12. مما فسرت به (ما) في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ أنها للنفي، والواو للعطف على قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾،. وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقه أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الانس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ )، وقال الشاعر: (أعوذ بربي من النافثات)
13. سؤال وإشكال: كيف يكون اثنان بدلا من جمع، والبدل إنما يكون على حد المبدل منه، والجواب: من وجوه ثلاثة:
أ. الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الاخوة فصاعدا.
ب. الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما، كما قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾
ج. الثالث: إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾، وقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم:
• إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ﴾، وقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾
• وإما لطيبه كقوله: ﴿فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾
• وإما لأكثريته، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا)
• وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله تعالى أعلم.
14. مما فسرت به (ما) في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ أنها عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون (ما) بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: إنما نحن فتنة، أي محنة من الله، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت، وإن عصيتنا هلكت.
15. لا صحة لما روي عن على وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي مما معناه: أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام ـ وذلك في زمن إدريس عليه السلام ـ عيرتهم الملائكة.. إلى آخر ما ورد، وهذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شي، فإنه:
أ. قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾، ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾
ب. وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة، ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، ولكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح.
ج. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر: (أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر)، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾، فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم.
د. ثم إن قول الملائكة: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا﴾ عورة: لا تقدر على فتنتنا، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره، ونقله المفسرون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
16. ﴿بِبَابِلَ﴾ بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الأرض:
أ. قيل: العراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين.
ب. وقال قوم: هي بالمغرب. قال ابن عطية: وهذا ضعيف.
ج. وقال قوم: هو جبل نهاوند.
17. اختلف في تسميته ببابل:
أ. فقيل: سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمرود.
ب. وقيل: سمي به لان الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد، والبلبلة: التفريق، قال معناه الخليل، وقال أبو عمر بن عبد البر: من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داوود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض.
18. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ لا ينصرف (هاروت)، لأنه أعجمي معرفة، وكذا (ماروت)، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت.
19. روي عن علي أنه قال أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه، والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا، ف ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ بمعنى يعلمان، كما قال ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ أي أكرمنا.
20. ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ زائدة للتوكيد، والتقدير: وما يعلمان أحدا ﴿حَتَّى يَقُولَا﴾ نصب بحي فلذلك حذفت منه النون، والضمير في ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ لهاروت وماروت.
21. في ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ قولان:
أحدهما: أنه على بابه من التعليم.
الثاني: أنه من الاعلام لا من التعليم، فـ ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ بمعنى، يعلمان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الاعرابي وابن الأنباري، قال كعب بن مالك:
تعلم رسول الله أنك مدركي... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغي رشدا... وأن لذلك الغي انقشاعا
وقال زهير:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما... فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقال آخر:
تعلم أنه لا طير إلا... على متطير وهو الثبور
22. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها، ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله، وحكى المهدوي أنه استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.
23. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ :
أ. قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ ﴾
ب. وقيل: هو معطوف على موضع ﴿ ما يُعَلِّمانِ ﴾، لان قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ﴾ وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم.
ج. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾، ويكون ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ متصلة بقول ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ فيأتون فيتعلمون.
24. اختلف في هل يقدر الساحر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة:
أ. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لان الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
ب. وقالت طائفة: ذلك خرج على الأغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الألأم وعظيم الاسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة.
25. اختلف في ﴿مَا هُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ : قيل: إشارة إلى السحرة.. وقيل إلى اليهود.. وقيل إلى الشياطين.
﴿بِضَارِّينَ بِهِ﴾ أي بالسحر ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي أحدا، ومن زائدة.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: بإرادته وقضائه لا بأمره، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها.
ب. وقال الزجاج: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ إلا بعلم الله، قال النحاس: وقول أبي إسحاق ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ إلا بعلم الله غلط، لأنه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا، ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا.
27. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ﴾ :
أ. قيل: يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا.
ب. وقيل: يضرهم في الدنيا، لان ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لأنه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر.
اللام في ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ لام توكيد و ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ لام يمين، وهي للتوكيد أيضا، وموضع (من) رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها، و(من) بمعنى الذي، وقال الفراء: هي للمجازاة، وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و(من) بمعنى الذي، كما تقول: لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل.
28. اختلف في ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنْ خَلَاقٍ ﴾ قيل: زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين.. وقال الكوفيون: تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
﴿مِنْ خَلَاقٍ ﴾ الخلاق: النصيب، قاله مجاهد، قال الزجاج: وكذلك هو عند أهل اللغة، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير.
29. سؤال وإشكال: عن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ فأخبر أنهم قد علموا، ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أخبر أنهم لا يعلمون، والجواب:
أ. قال قطرب والأخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم ـ أي باعوها ـ هم الانس الذين لا يعلمون.
ب. قال الزجاج وقال علي بن سليمان: الأجود عندي أن يكون ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا، وقال: ﴿عَلِمُوا﴾ كما يقال: الزيدان قاموا.
ج. وقال الزجاج: الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي فدخلوا في محل من يقال له: لست بعالم، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر.
30. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ أي اتقوا السحر ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ المثوبة الثواب، وهي جواب ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ عند قوم، وقال الأخفش سعيد: ليس لـ (لو) هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لا ثيبوا، وموضع (أن) من قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لان (لو) لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بدله من جواب، و(أن) يليه فعل. قال محمد بن يزيد: وإنما لم يجاز ب (لو) لان سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل، فلما لم يكن هذا في (لو) لم يجز أن يجازى بها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/42.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ معطوف على قوله: ﴿نَبَذَ﴾ أي: نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر ونحوه، قال الطبري: اتبعوا بمعنى: فعلوا، ومعنى ﴿تَتْلُو﴾ : تتقوّله وتقرؤه.
2. ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ على عهد ملك سليمان، قال الزجاج؛ وقيل المعنى في ملك سليمان: يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح (على وفي) في هذا الموضع، والأوّل أظهر، وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان، وأنه يستجيزه ويقول به، فردّ الله ذلك عليهم، وقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾، ولم يتقدم أن أحدا نسب سليمان إلى الكفر، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر، لأن السحر يوجب ذلك، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي: بتعليمهم.. ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع أنه خبر بعد خبر.
3. السحر: هو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبيّ إذا خدعته؛ وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله خفية؛ وقيل أصله الصرف، لأن السحر مصروف عن جهته؛ وقيل: أصله الاستمالة، لأن من سحرك فقد استمالك، وقال الجوهري: السحر: الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا، والساحر: العالم، وسحره أيضا بمعنى: خدعه.
4. اختلف في السحر هل له حقيقة أم لا:
أ. ذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع، لا أصل له، ولا حقيقة.
ب. وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثّرة، وقد صحّ أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه، ثم شفاه الله سبحانه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ :
أ. قيل: أي: ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين، فهو معطوف على السحر.
ب. وقيل: هو معطوف على قوله: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي: واتبعوا ما أنزل على الملكين.
ج. وقيل إن (ما) في قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ نافية، والواو عاطفة على قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ ذكر هذا ابن جرير وقال: (فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل الله على الملكين، ولكنّ الشياطين كفروا، يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داوود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلّمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردّا عليهم)، وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام، ورجّح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين، ما لفظه: هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصحّ ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وذكر أنه يؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحّاك والحسن (الملكين) بكسر اللام.
6. لعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنة لعباده على ألسن ملائكته، والصحيح أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قال ابن جرير: (وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان)
7. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا﴾ قال الزجاج: تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه؛ قال وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه: أنهما يعلّمان على النهي، فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، و ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ زائدة للتوكيد؛ وقد قيل: إن قوله: ﴿يُعَلِّمَانِ﴾ من الإعلام لا من التعليم، وقد جاء في كلام العرب: تعلّم بمعنى اعلم، كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي، وهو كثير في أشعارهم.
8. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ هو على ظاهره، أي: إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده؛ وقيل: إنه استهزاء منهما، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.
9. في قولهما: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ أبلغ إنذار وأعظم تحذير، أي: أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلّم السحر كفر، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ :
أ. قيل: فيه ضمير يرجع إلى قوله: ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله ﴿كُنْ فَيَكُونُ ﴾
ب. وقيل: هو معطوف على موضع ما يعلمان، لأنه وإن كان منفيا فهو يتضمن الإيجاب.
ج. وقال الفرّاء: هي مردودة على قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ أي: يعلمون الناس فيتعلمون.
11. اختلف في قوله تعالى: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ :
أ. في إسناد التفريق إلى السحرة، وجعل السحر سببا لذلك دليل على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحبّ والبغض، والجمع والفرقة، والقرب والبعد.
ب. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر وبيّن ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
ج. وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه؛ وقيل: ليس للسحر تأثير في نفسه أصلا، لقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
12. الحق أنه لا تنافي بين قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وبين قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه، وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة.
13. في قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة، ولا يجلب إليه منفعة، بل هو ضرر محض، وخسران بحت.
14. اللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ﴾ جواب قسم محذوف، وفي قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ للتأكيد و(من) موصولة، وهي في محل رفع على الابتداء، والخبر قوله: ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ وقال الفرّاء: إنها شرطية للمجازاة، وقال الزجّاج: ليس هذا بموضع شرط، ورجّح أنها موصولة.
15. والمراد بالشراء هنا: الاستبدال، أي: من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله، والخلاق: النصيب عند أهل اللغة، كذا قال الزجّاج، والمراد بقوله ﴿مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: باعوها.
16. أثبت لهم العلم في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ ونفاه عنهم في قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ واختلفوا في توجيه ذلك:
أ. قال قطرب والأخفش: إن المراد بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ الشياطين، والمراد بقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ الإنس.
ب. وقال الزجّاج: إن الأول للملكين، وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم: الزيدان قاموا، والثاني المراد به علماء اليهود، وإنما قال ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ لأنهم تركوا العمل بعلمهم.
17. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ أي: بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما جاء به من القرآن ﴿وَاتَّقُوا﴾ ما وقعوا فيه من السحر والكفر، واللام في قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ جواب لو، والمثوبة: الثواب، وقال الأخفش: إن الجواب محذوف، والتقدير: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، فحذف لدلالة قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ عليه، وقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم.
18. روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدرّ المنثور، وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها، ثم قال: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدّي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيّان وغيرهم وقصّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
19. وقال القرطبي بعد سياق بعض ذلك: قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصحّ منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ثم ذكر ما معناه: أن العقل يجوّز وقوع ذلك منهم، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع، ولم يصحّ.
20. هذا مجرد استبعاد، وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك، فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار شرّ البرية وأكفر العالمين.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/140.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاتَّبَعُواْ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ﴾ عطفَ قصَّة على أخرى ﴿مَا﴾ أي: السحر وما تأخذ الكهنة عن الشياطين، وما تضمُّ إليه من الأكاذيب، ﴿تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ﴾ تتَّبع، أو تقرأ على الناس، أي: ما تلت، ولكن نزَّل الحال الماضية منزلة الحاضرة كأنَّها تشاهد، فليس ممَّا يترتَّب على (نَبَذَ) الذي هو جواب لـ (مَا)، إلَّا على ما مرَّ من أنَّ القرآن وافق التوراة فنبذوها، وأخذوا بكتاب (آصف)، وسحر (هاروت وماروت)، فلم يوافق القرآن، فهذا قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ﴾ الآية.
2. ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ في عهد ملكه، أي: زمانه، أو (عَلَى) بظاهرها فيتضمَّن (تَتْلُو) معنى تتقوَّل، أي: تكذب، قالت اليهود: انظروا إلى محمَّد يخلط الحقَّ بالباطل، يذكر سليمان في الأنبياء، إنَّما كان ساحرًا يركب الريح، وكانوا لا يسألونه عن شيء إلَّا أنزل عليه، فقالوا: محمَّد أعلم بما أنزل إلينا منَّا، فسألوه عن السحر فنزل: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا﴾ الآية، وقيل: (مُلْك سُلَيْمَانَ): كرسيُّه.
3. ﴿وَمَا كَفَرَ﴾ أشرك ﴿سُلَيْمَانُ﴾ فإنَّ السحر الذي تتلوه الشياطين تضمَّن إشراكًا، كدعوى أنَّ الساحر خَلق كذا، أو حوَّل الشيخ شابًّا، أو الإنسان حمارًا، أو الطبيعة علَّة تغني عن الله، وكدعوى أنَّ السحر حلال، وما لم يكن فيه شركٌ ففسقٌ، فلا مانع من أنَّ الكفر شامل لذلك كلِّه، وهذا كما عند هذه الأمَّة، ويحتمل أنَّه عند من قبلنا شرك مطلقًا، وما فعل سليمان ذلك وما علَّمه.
4. ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ﴾ إذ فعلوه وعلَّموه الناس، كما فسَّر الكفر بقوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، والمراد بالشياطين في الموضعين متمرِّدو الجنِّ، أو المعنى الموجود في الحقيقة وهي متمرِّدو الجنِّ، وفي المجاز وهو هنا متمرِّدو الإنس، وذلك المعنى هو مطلق التمرُّد، وذلك عموم المجاز؛ وقيل: شياطين الإنس.
5. وتعلُّم السحر للعمل به أو لتعليمه أو للرياء به حرام، وللحذر منه أو لتعليمه من لا يَعصِي به فمباح، أو لغيره فمكروه، أو مباح أو حرام، أقوال، وعن أحمد: إنَّ السحر شرك ولو لم يعتقد حلَّه، ولا تضمَّنَ خصلة شرك.
6. دَفَنَ سليمان عليه السلام كُتُبَ السحر وما يلقيه مسترقو السمع من الملائكة إلى الكهنة مِن صِدْقٍ وكَذِبٍ في صندوق تحت كرسيِّه، وقد شاع في الناس أنَّ الشياطين تعلم الغيب، وقال: من قال ذلك قَتَلْتُه!، وَلَمَّا مات قال شيطان في صورة إنسان لنفر من بني إسرائيل: احفروا تحت الكرسيِّ تستخرجوا منه ما لا يفنى، وأراهم المكان فقالوا: اُدْنُ، فقال: مِنْ هُنَا، وإن لم تجدوا فاقتلوني، وكان لا يدنو منه شيطان إلَّا احترق فأخرجوها، وقال لهم: إنَّ سليمان ضبط الثقلين والطير بها؛ وفشا في الناس أنَّه ساحر، ورفضوا كتب الله، إلَّا العلماء والصالحين علموا أنَّ ذلك ليس من علمه بل نبيء يعمل بتأييد الله، وما زال قول السوء عليه حتَّى بُعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل عليه براءته من السحر.
7. وقيل: دفنها (صخر) تحت الكرسيِّ، حين قبض الخاتم من زوجه الأمينة، وكان يضعه عندها بجنابته أو حاجة الإنسان، وقال: أعطيني الخاتم، فأعطته ظنَّته سليمان، فلبسه وقعد على الكرسيِّ، وأذعن له الخلق، وجاء سليمان يطلبه منها فقالت: ما أنت هو، قد أخذه سليمان، وطار بعد أربعين يومًا، وألقاه في البحر على طريقه، فبلعته سمكة فوقعت في يد سليمان فأخذه منها؛ وَلَمَّا مات استخرجوها من تحت الكرسيِّ على ما مرَّ؛ ولا مانع من ذلك، وَأَمَّا ما يقال أنَّه كان (صخر) يدخل على زوج سليمان فيطأها فمنكر لا يصحُّ!! لأنَّ أزواج الأنبياء محفوظة عن ذلك، ولو كنَّ مشركات، وأمر الجنَّ فأحضروه فحبسه في صخرة فسدَّ عليه بالرصاص والحديد في قعر البحر.
8. ﴿وَمَآ أُنزِلَ﴾ عطف على (مَا تَتْلُو)، أو على (السِّحْرَ)، كأنَّه قيل: ويعلِّمونهم ما أُنزل ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ من ملائكة الله، أو رجلين كالملَكين في الصلاح، والإنزال على ظاهره، أو بمعنى الإلهام؛ وما أنزل عليهما نوع من السحر قويٌّ، بل نوع غير السحر كما يدلُّ عليه العطف، وعلى أنَّه من السحر فالعطف لتنزيله بالقوَّة منزلة تغاير الذات.
9. ﴿بِبَابِلَ﴾ في بابل، بلد في سواد الكوفة؛ وعن ابن مسعود: هو أرض الكوفة؛ وقيل: من نَصِيبِين إلى رأس العين، سمِّيت لتبلبل ألسنة الناس عند وقوع صرح نمروذَا، ولأنَّ الله حشر الناس بالريح لهذه الأرض، فلم يدر أحدٌ ما يقول الآخر، ثمَّ فرَّقتهم الريح في البلاد كلٌّ بلغته، فالبلبلة تفرُّقُهم عن بابل، أو تغاير الألسنة فيها، والتغاير تفرُّق، ونزل نوح بلدة (بنوها) قرية بثمانين إنسانًا سمِّيت بهم، فأصبحوا يومًا وقد تبدَّلت ألسنتهم على ثمانين لغة، فقيل: سمِّيت بهذه الثمانين لغة.
10. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ لفظان أعجميَّان، وقيل: عربيَّان من الهرت والمرت بمعنى الكسر، ويردُّه منع الصرف، واسمهما عزا وعزايا فلمَّا أذنبا سمِّيا باسم الكسر، أباح الله لهما ملكين أو بشرين تعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس هل يتعلَّمونه وهل يعملون به؟ كما أنَّ الله خلق المعصية ونهى عنها، وخلق المحرَّمات كالخنزير ونهى عن تناولها، وكما ابتلي قوم طالوت بالشرب من النهر، أو لتمييز السحر من المعجزة، إذ كثر في ذلك الزمان مع ادِّعاء النبوءة به.
11. وَأَمَّا ما روي أنَّهما ملَكان من أعبد الملائكة، تعجَّبت الملائكة من كثرة ذنوب الناس وعظمها، فقال الله: لو ركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم من الشهاوي لعصيتم مثلهم، فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا ذلك!، فقال: اختاروا من هو أعبدكم، فاختاروهما، فركَّبها فيهما، وأمرهما بالقضاء بين الناس، ويصعدَان مساءً، فاختصمت إليهما امرأة من لخم أو فارسيَّة ملِكة مع زوجها، فراوداها فشرطت أن يقضيا لها عليه، فقضيا لها، ثمَّ أن يقتلاه فقتلاه، وأن يشربَا خمرًا ويسجدا للصنم ففعلا، وأن تعلِّماني الاسم الذي تصعدان به، فعلَّماها، فصعدت فمسخت زهرة، فلم يقدرا على الطلوع، فالتجآ إلى إدريس في عصرهما، فشفع لهما أن يختارا عذاب الدنيا أو الآخرة، فاختاراه لأنَّه ينقطع، وعلِّقا بشعورهما أو منكوسين، يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة، فبعيدٌ، ولو أنَّه ممكن.
12. ولا يحكم بالكفر على قائله؛ لأنَّه لم يثبت لهما تلك المعاصي مطلقًا، بل قال: ركَّب الله فيهما ما ركَّب في البشر من الشهوة، وذلك من حين أنزلا، وليس متأخِّرًا إلى وقت القضاء بين المرأة وزوجها، فلا يعارض بعصمة الملائكة؛ لأنَّ الله أخرجهما من شأنهما إلى شأن البشر.
13. وقول الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا﴾ تعظيم لله، لا ردٌّ لقوله: لو ركَّبتُ فيكم الشهوة لعصيتم، وهما ملكان ولو ركَّب فيهما ذلك فلا ينافي تسميتهما ملكين في الآية، وإن سلِّم ذلك فهما ملكان قبلُ، فهو مجاز بلا ضعف، والشاهد الأحاديث، والكلام في العصمة مع البقاء على شأنها بلا إخراج، وَأَمَّا مع الإخراج عن شأنها فلله أن يخرج من يشاء من أهلها إلى غيره فلا يكون معصومًا، وَأَمَّا الزهرة فالظاهر أنَّها قبل ذلك لكن بلا نصٍّ على قَبليَّتها، فجاءت هذه الرواية بحدوثها بنسخ المرأة إليها.
14. وقد روي أنَّ امرأة دخلت على عائشة # تطلب التوبة من تعلُّم السحر منهما، وأنَّ رجلا من هذه الأمَّة أتاهما ليتعلَّم فوجدهما معلَّقين بأرجلهما، مزرقَّة أعينهما، مسودَّة جلودهما، بين ألسنتهما وبين الماء أربعة أصابع يعذَّبان بالعطش.
15. وقد أثبت قصَّتهما الشيخ يوسف بن إبراهيم الوارجلاني، ورواها مرفوعة عن أحمد وابن حبَّان والبيهقي، وموقوفة عن عليٍّ وابن مسعود وابن عبَّاس، وصحَّح السيوطي الرواية.
16. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنَ اَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا﴾ له مرَّة، وهو الثابت، وقيل: ثلاثًا، وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ابتلاء من الله للناس، فمن تعلَّمه كَفَر، ومَن تعلَّمه وعمل به كَفَر، وكذا من اعتقد أنَّه حقٌّ جائز، ومن لم يتعلَّمه أو تعلَّمه ليتَّقي ضرَّه، أو يدفع به دعوى النبوءة عمَّن ادَّعاها به، وكان مؤمنًا فهو باق على إيمانه.
17. ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ بتعلُّمه أو بالعمل به أو دعوى النبوءة به، فإن لم يرتدع بهذه النصيحة علَّماه، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ أي: الناس المعبَّر عنهم بـ (أَحَدٍ) في سياق السلب عطف على (وَمَا يُعَلِّمَانِ)، كأنَّه قيل: يعلِّمان الناس، بعد قولهما: (إِنَّمَا نَحْنُ..) إلخ، فيتعلَّمون، أو على (يُعَلِّمُونَ)، ﴿مِنْهُمَا﴾ من الملكين أنفسهما، وقيل: بتوسُّط شيطانين يأخذان عنهما مرَّة في السنة ويعلِّمان الناس، أو من السحر وما أنزل على الملكين، أو من الفتنة والكفر، أي: يتعلَّمون بعضًا من كلٍّ منهما؛ وعلى الثاني: العطف على (اتَّبَعُوا)، والوجه الأوَّل أحقُّ، ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ﴾ الإنسان ﴿وَزَوْجِهِ﴾ أي: قرينه، حليلة وحليلها، أو صاحبٍ وصاحبِه مطلقًا، بأن يُبغِّض كلًّا إلى الآخر؛ ولا مؤثِّر إلَّا الله، والله يؤثِّر السحر ويطبع الطبائع ويؤثِّر أثرها، ومن قال باستقلال شيء أشرك.
18. ﴿وَمَا هُم﴾ أي: السحرة، وهذا أولى من ردِّ الضمير إلى اليهود أو الشياطين، ﴿بِضَآرِّينَ بِهِ﴾ أي: بالسحر، أو ما يفرِّقون به، ﴿مِنَ اَحَدٍ اِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ متعلِّق بـ (ضَارِّينَ)، أي: إلَّا بتقديره، ومن قال بتخليته بينه وبين المسحور لم يُرِد أنَّ السِّحر مستغنٍ عن الله ومستقلٌّ، فإنَّه لا تأثير لشيء إلَّا بالله، وكلُّ شيء مستأنف من الله تعالى .
19. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ﴾ في الآخرة أو مع الدنيا وهو السحر، ﴿وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾ زاده لأنَّه قد يضرُّ الشيء ومعه نفع، فالسحر ضرر محض، وَأَمَّا تعلُّمه لدفع الشبهة عن دعوى النبوءة وليتَّقيه ففي تعلُّمه خير على ما مرَّ، والذي عندي أنَّه لا يجوز تعلُّمه إلَّا لمن استوثق من نفسه أنَّه لا يستعمله، ولا يعلِّمه لمن يعلم أنَّه يستعمله، أو لا يعلم حاله؛ لأنَّ للعلم بالشيء قوَّة داعية للعمل به، ولا سيما مثل هذا، والنفس داعية.
20. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ﴾ أي: اليهود المذكورون بالسوء في عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو عهد سليمان والشياطين، والكلام متعلِّق بقوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ﴾ فُصل بقصَّة السحر.
21. ﴿لَمَنِ اِشْتَرَاهُ﴾ استبدله أو اشتراه بدينه، اللام للابتداء، والجملة مفعول العِلْم، والمجموع جواب القسم، ﴿مَا لَهُ فِي الَاخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ نصيب في الجنَّة لبيعه بالسحر أو تعلُّمه.
22. ﴿وَلَبِيسَ﴾ اللام لام جواب القسم، والجملة معطوفة على الجواب السابق وهو: (لَقَدْ عَلِمُوا) ﴿مَا شَرَوْاْ﴾ باعوا ﴿بِهِ أَنفُسَهُمْ﴾ وهو الكفر مطلقا، أو السحر، أو تعلُّمه، إذ نبذوا كلام الله ـ المنجِّي من الهلاك ـ إلى ذلك الهلاك.
23. ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب للكفر، أو السحر، أو تعلُّمِه، ما فعلوه، وإلَّا فقد أثبت لهم العلم في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ﴾؛ فالعلم المثبَتُ الظنُّ، أو هو العلم بأنَّ اشتراءَ النفس بالسحر مثلا مذموم بدون علم أنَّ منه ما يفعلونه، فإنَّ حبَّ الشيء يُعمي ويُصمُّ، والعلم المنفيُّ بِـ (لَوْ): العلم بحقيقة ما يصيرون إليه، والعلم بأنَّ منه ما يفعلونه، أو التفكُّر في ذلك، أو (يَعْلَمُونَ) بمعنى: يعملون؛ لأنَّ العلم سبب للعمل وملزوم له في الجملة، ويجوز كون (لَوْ) للتمنِّي، فلا جواب لها.
24. ﴿وَلَوَ اَنَّهُمُ ءَامَنُواْ﴾ بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآنِ، أو أراد اليهودَ مطلقا لو آمنوا بالكتب والأنبياء مطلقا ﴿وَاتَّقَوْاْ﴾ عقاب الله على الكفر والسحر والمعاصي لأُثيبوا من عند الله، دلَّ عليه ذكر المثوبة، أو للتمنِّي فلا يقدَّر لها جواب، والتمنِّي في الموضعين مصروف للناس، والمصدر من خبر (أنَّ) بعد (لَوْ) الشرطيَّة أو التمنِّـيَّة فاعل بمحذوف، أي: لو ثبت إيمانهم واتِّقاؤهم؛ أو مبتدأ خبره محذوف وجوبا، ونُسب لسيبويه؛ أو مبتدأ لا خبر له، ووجهه اشتمال الكلام على المسند والمسند إليه لفظًا قبل التأويل، وهو وجه سيبويه إذ قدَّر المبتدأ مع اختصاص (لَوْ) بالفعل، حيث استغنى بوجوده قبل التأويل، والصحيح الأوَّل، وهكذا في القرآن، ولا أعيده.
25. ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ مستأنفة، وليس من جواب (لَوْ)؛ لأنَّ جوابها لا يكون جملة اسميَّة، واللَّام للاِبتداء، والمعنى: ثواب، نُقلت ضمَّة الواو إلى الثاء الساكنة كمعونة، أو وَصْفٌ بمعنى المصدر، كمفعول ومصون، والأصل: (مثووبة)، نُقلت ضمَّة الواو للثاء، فحُذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، كمفتون ومعقول وصْفَيْن في الأصل وكانا بمعنى الفتنة والعقل، وهو وجه في قوله تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم: 5 ـ 6] أو اسم مصدر، أي: إثابة.
26. ﴿مِنْ عِندِ اللهِ خَيْرٌ﴾ من كلِّ شيء، أو ممَّا استبدلوا به دينهم، وهذا مراعاة لما في استبدالهم من نفع ادَّعوه، ولا يلزم التنقيص الذي في قولك: هذا السيف خير من العصا، أو السلطان خير من الحجَّام؛ لأنَّ الكلام باعتبار القصد، والقصدُ في المثالين النقص.
27. وفي الآية ذمُّهم بأنَّهم مع جهلهم تظهر لهم الخيريَّة، وأيضًا ما استبدلوا به الدين في اعتقادهم عظيم، أو أنَّه فاق في الخير أكثر ممَّا فاق في استبدالهم في شرِّه، كقولك: الخلُّ أحمض من العسل، أي: زاد في حموضته على زيادة العسل في حلاوته، ولك أن تقول: (خَيرٌ) خارج عن التفضيل، أو هو بمعنى المنفعة، قابَلَ به أنَّ ما استبدلوا به غير حسن، أو أنَّه مضرَّة.
28. ﴿لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّها خيرٌ لم يستبدلوا الحقَّ بالباطل، أو (لَوْ) للتمنِّي مصروف للناس، وقس على هذا في مثله، إلَّا أنَّ الأصل الشرط لتبادره وأكثريَّته.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/177.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم، وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر، وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه، والصد عن سبيل الحق، وابتغائهم إياها عوجا.
2. ﴿تَتْلُو﴾ بمعنى تقصّ وتحدث، من التلاوة، وهي القراءة، أو بمعنى تكذب وتختلق، وهو قول أبي مسلم، قال: يقال تلا عليه، إذا كذب، وتلا عنه إذا صدق، وهكذا قال الراغب في تفسيره: تلا عليه كذب، نحو روى عليه، وقال عليه ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [آل عمران: 75]، وقال: الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود، وهي منطوية على أمرين: ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه، وتخرصوه عليه، وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبني لها المعابد، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث، فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفري، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين، يعني بلا إلهام، كما في (إظهار الحق)
3. المراد بالشياطين شياطين الإنس، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء، الدعاة إلى الباطل، وقوله ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه.
4. وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه، وتكذيب لمن تقولها، وقال كثيرون: هذا تبرئة من السحر، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه، وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى.. والمعنى الأول أصرح وأوضح.
5. ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ عنى بالشياطين خبثاء الإنس وأشرارهم، كما في قوله تعالى ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14]، وقوله ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [الأنعام: 112]، والذي يعيّن هذا المعنى قوله ﴿تَتْلُو﴾ لأن تلاوة شياطين الجن، لا يسمعها أحد، ومعنى (تتلو) تقص، وقوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ يعيّن هذا المعنى أيضا، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس.
6. المراد بقوله ﴿كَفَرُوا﴾ كفرهم بآيات الله المنزلة، أو عبادتهم غيره تعالى، أو كفرهم باستعمال السحر والشعودة، تعمية على الحق، وتغشية للبصائر.
7. وجملة قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ حالية من ضمير ﴿كَفَرُوا﴾، أو خبر ثان ل ﴿لَكِنِ﴾، أو مستأنفة.. هذا على تقدير كون الضمير للشياطين، وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل ﴿اتَّبَعُوا﴾ فهي إما حال منه أو استئنافية.
8. للعلماء في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ الآية.. وجوها كثيرة، وأقوالا عديدة، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخبار بين نقلة الغث والسمين، ومنهم من وقف مع ظاهرها البحث وتمحّل لما اعترضه، بما المعنى الصحيح في غنى عنه، ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير وردّ آخرها على أولها، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام، إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها.
9. الذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل ـ وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات ـ وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله، وبلغ مكر هذين الرجلين، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك، أتشكر أم تكفر، وننصح لك أن لا تكفر.. يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير. كما يفعل ذلك دجاجة هذا الزمان، قائلين لم يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم: نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء، ولليهود في ذلك خرافات كثيرة حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله، وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس. فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء، وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه، فقال: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ الآية، فـ ﴿مَا﴾ هنا نافية، على أصح الأقوال، ولفظ ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم، وكما يرد في كلام المسلم، في الرد على المسيحيين، ذكر تجسد الإله وصلبه، وإن كان لا يعتقد ذلك.
10. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ من قبيل التمثيل، وإظهار الأمر في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل، وطرق الإفساد، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع: كالمرء وزوجه.
11. معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا: أن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه، وزعموا أنه كفر، وهو لم يكفر.. لكن شياطينهم هم الذين كفروا، وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت، اللذين سمّوهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير، ويحذرانهم من الكفر، وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين، ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا المقام كله للذم، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت.
12. الذي يدل على صحة هذا أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله، غير الوحي إلى الأنبياء، ونص نصّا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7]، وقال منكرا على من طلب إنزال الملك: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8]، وقال في سورة الفرقان: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 7 ـ 9].
13. للقصّاص في هاروت وماروت في أحاديث عجيبة، فزعموا أنهما كان ملكين من الملائكة، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض. فأوحى الله إليهما: إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني، فقالا: يا رب، لو ابتليتنا لم نفعل، فجرّبنا، فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى (الزهرة) فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس وسجدا للصّنم، وعلماها الاسم الأعظم، الذي كانا به يعرجان إلى السماء، فتكلمت المرأة بذلك الاسم، وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة. ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا، ثم خيّرهما بين عذاب الآخرة آجلا، وبين عذاب الدنيا عاجلا، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة، وهما يعلّمان الناس السحر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة.. وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم، ولم يقل بها القرآن قط، وإنما ذكرها التلمود، كما يعلم من مراجعة (مدارس يدكوت) في الإصحاح الثالث والثلاثين، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين، فأخذوها منه.
14. للراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولا عن بعض المحققين.
15. لفظ السحر، في عرف الشرع، مختص بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد، أفاد ذم فاعله، قال تعالى ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: 116]، يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيّهم تسعى، وقد يستعمل مقيدا: فيما يمدح ويحمد، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمرو بن أهتم: (إن من البيان لسحرا)، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، وبليغ عبارته، وبالجملة، فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع، فلا يغير حقائق الأشياء، ولا ينقل الصور.
16. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال الراغب: الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، ويقال للعلم، ومنه آذنته بكذا، ويقال للأمر الحتم، وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان:
أ. أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته. نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم.
ب. الثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله، والترياق في تخليصه من أذيته، فإذن الله تعالى وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: (الأشياء كلها بإذن الله وقضائه)، ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه.
17. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ﴾ إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة، لما فيه من التلبيس والتمويه، وإيهام الباطل حقا، والتوصل به إلى المفاسد والشرور، وقوله سبحانه ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ صرح به إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر، بل هو شر بحت، وضرر محض.
18. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ أي اليهود الذي حكيت ضلالاتهم.. ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، والحق الذي أنزله.. ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي نصيب، لإقباله على التمويه والكذب، واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها، وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر، ليس من جهلهم بضرره، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى.. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي ما باعوا به حظهم الأخرويّ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم، وإنما نفى عنهم العلم بقوله ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسميّ بقوله ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ ـ لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلمهم، فجعلهم غير عالمين، لعدم عملهم بموجب علمهم.
19. لما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ أي بما دعوا إليه من القرآن الحكيم ﴿وَاتَّقُوا﴾ أي ما يؤثمهم، ومنه السحر والتمويه، وقوله ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ جواب (لو) وأصله: لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم. فحذف الفعل وغيّر السبك إلى ما عليه النظم الكريم، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي أن ثواب الله خير، وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/364.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر تعالى أن أولئك الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم مجاحدة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحسدا له قد تبدلوا الكفر بالإيمان، واشتروا الضلالة بالهدى، ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ من الإنس في قصصها وأساطيرها، أو من الجن في وسوستها، أو منهما جميعا، على حد قوله تعالى: ﴿ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ﴾ أي ما كانت تتلو على عهده وفى أيام ملكه، إذ زعموا أن ملكه قام على أساس السحر والطلسمات، وأنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام مرضاة لنسائه الوثنيات.
2. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وما سحر ﴿وَلَكِنْ﴾ أولئك ﴿الشَّيَاطِينِ ﴾ الذين يسندون إليه ما انتحلوه من السحر، وما تلبسوا به من الكفر، هم الذين ﴿كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ ليفتنوا به العامة ويضلونهم عن طلب الأشياء من أسبابها الظاهرة ومناهجها المشروعة.
3. هذه الأوهام والأكاذيب على نبيّ الله سليمان عليه السّلام مما افتجره بعض الدجالين من بنى إسرائيل ووسوسوا به إلى بعض المسلمين، فصدقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، وإنك لترى دحاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساما وعزائم، ويخطون خطوطا وطلاسم، ويسمون ذلك خاتم سليمان وعهوده، ويزعمون أنها تقى حاملها من اعتداء الجن ومس العفاريت(2)..
4. زعم اليهود أن سليمان سحر ودفن السحر تحت كرسيه، وأنه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه للحكم.. ما خلطوا فيه التاريخ بالدجل، وروى عنهم أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه، ثم استخرجها الناس وتناقلوها، وفى رواية أخرى أنه انما دفن تحت كرسيه كتبا أخرى في العلوم، فلما استخرجت أشاع الشياطين أنها كتب سحر، وأنشأ الدجالون بعد ذلك ينتحلون ما شاءوا وينسبونه إلى تلك الكتب.. ولا شك أن ما قالوه على سليمان وملكه من خبر السحر والكفر مكذوب افتراه أهل الاهواء، وقد قصه الله تعالى علينا لنعتبر بما افتراه هؤلاء الناس على الأنبياء، وبترجيح فريق من خلفهم الاشتغال بذلك على الاهتداء بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى إنهم نبذوا كتابهم الذي بشر به وراء ظهورهم.
5. من البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضى أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحا، فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم اثبات ما يعتقد الناس منه، كما أن نسبة الكفر إلى سليمان التي علمت من النفي لا تستلزم أن تكون صحيحة لأنها ذكرت في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفى.
6. القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية، ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح، وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله ﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، وكقوله ﴿بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيرا من كتاب العربية وكتاب الافرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية، ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئى.
7. جاء ذكر السحر في مواضع متعددة في القرآن، وأكثره في قصة موسى وفرعون، وذكر هنا في الكلام عن اليهود، وإذا أردنا فهمه من عرف اللغة وجدنا أن السحر عند العرب كل ما لطف مأخذه ودق وخفى، وقالوا سحره وسحّره بمعنى خدعه وعلله، وقالوا عين ساحرة وعيون سواحر، وفى الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحرا)، والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة وهى أصل هذه المادة والرئة في الباطن فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدى إليه غير أهله، فهو باطن خفى، ومنه الخداع، وهو أن يظهر لك شيئا غير الواقع في نفس الأمر فالواقع باطن خفى، وتأثير العيون في عشاق الحسان، والكلام البليغ في عشاق البيان، مما يخفى مسلكه ويدق سببه، حتى يعسر على أكثر الناس الوقوف على العلة في تأثيره.
8. وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس بكائن كائنا فقال: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾، والكلام في حبال السحرة وعصيهم، وفى آية أخرى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ .. وفى هذه الآية إشارة إلى أن السحر كان يؤخذ بالتعليم والتاريخ يشهد بهذا، وقد كان المصريون يطلقون لقب الساحر على العالم كما يؤخذ من قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾، ومجموع هذه النصوص يدل على أن السحر:
أ. إما حيلة وشعوذة.
ب. وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، ويجهلها الأكثرون، فيسمون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه، ويمكن أن يعد منه تأثير النفس الانسانية في نفس أخرى لمثل هذه العلة، وقد قال المؤرخون إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصى بصور الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى.
9. اعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام مبهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجان، وأنهم يحضرون إذا دعوا بها، ويكونون مسخرين للداعي، ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة، وسببه اعتقاد الواهم أن الشياطين يستجيبون لقارئه ويطيعون أمره، ومنهم من يعتقد أن فيه خاصية التأثير، وليس فيه خاصية، وإنما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغنى منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته، وهذا هو السبب في اعتقاد الدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
10. اختلف المتكلمون والمفسرون والفقهاء في حقيقة السحر وفى أحكامه وعده بعضهم من خوارق العادات، وفرقوا بينه وبين المعجزة، ولم يذكروا في فروقهم أن السحر يتلقى بالتعليم ويتكرر بالعمل فهو أمر عادى قطعا بخلاف المعجزة
11. في قوله تعالى ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أنه متصل بقوله ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي ان الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
ب. الثاني: وهو الاظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود، وان الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم، وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل، ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم.. أي إن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان.
12. ههنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب الله تعالى على طريق الاستئناف البيانى ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، ونفى الكفر عن سليمان.. وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبيسا.
13. أجمل الله تعالى بهذه العبارة الوجيزة: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو؟ أشعوذة وتخييل؛ أم خواص طبيعية، وتأثيرات نفسية؟ وهذا ضرب من الاعجاز في الايجاز انفرد به القرآن ـ يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به، فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفى مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعى أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ولا يستطيع أن يردها من يدعى أنه من خوارق العادات؟
14. الحكمة في ذلك أن الله عز وجل قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم لأنه من الأمور الكسبية، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب، فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحى لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم وإن تكن نصا ولا ظاهرا فيه، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم وان كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا.
15. في ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ قراءتان فتح اللام وكسرها، فالأولى قراءة الجمهور، والثانية قراءة ابن عباس والحسن وأبى الأسود والضحاك، وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر، ويؤيده ما قبل إن المراد بهما داوود وسليمان عليهما السّلام، وقيل بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشبها بالملائكة، وكان يؤمهما الناس بالحوائج الأهلية ويجلونهما أشد الاجلال فشبها بالملوك، وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون: هذا ملك وليس بإنسان كما يقولون فيمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس من حيث يحتاجون إليه: هذا سلطان زمانه. جلت حكمة الله في خلقه فقد قدّ هؤلاء الآدميين من أديم واحد، كان الناس على عهد هاروت وماروت ـ اللذين كان يتحدث بخبرهما ولا يحدد تاريخهما ـ على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الأهلية من الجهة الروحانية إلا إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح؛ هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا وهذا ما حكى الله تعالى عنهم في الزمن القديم.
16. لعل الله تعالى سماهما ملكين (بفتح اللام) حكاية لاعتقاد الناس فيهما، وجاز أيضا كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازا كما قال بعض المفسرين.
17. قال تعالى في اليهود ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾، والظاهر من العطف أن ما أنزل عليهما هو غير السحر ضم إليه لأنه من جنسه في كون تعليمه سيئة مذمومة أو هو لتغاير الاعتبار أو النوع.
18. ليس معنى الانزال عليهما أنه وحى من الله كوحيه للأنبياء فيشكل عده من الشر والباطل الذي يذم تعلمه، فإن كلمة أنزل تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحى الأنبياء، قالوا: أنزلت حاجتي على كريم، وانزل لي عن هذه الأبيات، ويقال: قد أنزل الصبر على قلب فلان: وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ وقال: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
19. لعل التعبير عما أوتياه من العلم بالإنزال لأنه لم يكن يعرف له مأخذ غيرهما يراد أنهما ألهماه إلهاما، واهتديا إليه من غير أستاذ ولا معلم، ويصح أن يسمى مثل هذا وحيا لخفاء منبعه، وليس الوحى وإلهام الخواطر خاصا في عرف اللغة ولا عرف القرآن بالأنبياء ولا بما يكون موضوعه خيرا أو حقا فقد قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وقال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، وقال: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ وقال الشاعر:
رأس الغواية في العقل السقيم فما... فيه فأكثره وحى الشياطين
20. ذكر ابن جرير الطبري وجها آخر في تفسير ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ ونقله كثير من المفسرين وهو أن (ما) نافيه أي إن اليهود يعلمون الناس السحر، ويرتقون بسنده إلى الملكين ببابل، وما أنزل السحر على الملكين، فكيف كانوا يعلمونه بنى إسرائيل؟ وقد ضعفوه بأن الثابت في الواقع أن بنى إسرائيل كانوا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين، وقد أجاز هذا التضعيف محمد عبده على أنه يمكن أن يراد به نفى الانزال خاصة، أي أن ذلك السحر الذي ينسبونه إلى الملكين لم ينزل عليهما إنزالا من الله فينظمه اليهود في سلك العلوم المحمودة ويزعمون أنه حق وإنما هو شيء افتجراه واخترعاه من عند أنفسهما.
21. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي إن ما عندنا هو أمر يبتلى به الله الناس ويختبرهم فلا تتعلم ما هو كفر، فإن أصر علماه هذا ما عليه الجمهور، وقال البيضاوي: وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور وإنما المنع من اتباعه والعمل به.. ويجوز أن يكون المعنى إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتشكر أم تكفر وننصح لك بأن لا تكفر، ولعلهما يقولان هذا للمحافظة على حسن اعتقاد الناس بفضلهما إذ كانوا يقولون هما ملكان، واننا نسمع الدجاجلة الذين ينتحلون مثل هذا، ويوهمون الناس أنهم روحانيون يقولون لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة وللبغض: نوصيك بأن لا تكتب هذا لجلب امرأة متزوجة إلى حب رجل غير زوجها، ولا تكتب لأحد الزوجين بأن يبغض الآخر، وأن تخص هذه الفوائد بالمصلحة كالحب بين الزوجين، والتفريق بين العاشقين الفاسقين، وإنما يقولون هذا ليوهموا الناس أن علومهم إلهية، وأن صناعتهم روحانية، وأنهم صحيحو النية، وقد كان اليهود يسندون سحرهم إلى ملكين ببابل وترى دجاجلة المسلمين من المغاربة وغيرهم يسندون خز عبلاتهم إلى دانيال النبيّ، وهذا المعنى يصح على القول بأن قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ نفى بحسب توجيهنا السابق، وقال البيضاوي إن معناه على وجه النفي إنما نحن مفتونون فلا تكن مثلنا.
22. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ صيغة المضارع في هذه الجملة وما قبلها لتصوير ما كان كأنه كائن، فالكلام تصوير للقصة، لا حكم بمضمونها أي أنهم كانوا يتعلمون منهم ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين وهو نحو ما يسميه الدجاجلة الآن (كتاب البغضة)، وليس في العبارة ما يدل على أن ما يتعلمونه لهذا الغرض هو مؤثر فيه بطبعه أو بسبب خفى أو بخارقة لا تعقل لها علة ولا أنه غير مؤثر، وليس فيها بيان لما يتعلمونه هل هو كتابة تمائم، أو تلاوة رقى وعزائم، أو أساليب سعاية، أو دسائس تنفير ونكاية، أو تأثير نفساني أو وسواس شيطاني وأى شيء من ذلك ثبت علما كان تفصيلا لما أجمله القرآن في الواقع، ولا يجوز لنا أن نتحكم بتفصيل ما أجمله القرآن فنحمله على أحد ما ذكر أو على غيره، ولو علم الله أن الخير لنا في بيان ذلك لبينه كما قلناه في مثله مرارا لم يبين القرآن ذلك الإجمال ولا حقيقة ذلك العلم لأنه موكول إلى بحث البشر وارتقائهم في العلم كما تقدم، ولكنه لم يهمل ما يتعلق بالعقائد وبيان الحق فيها ولذلك قال بعد حكاية السحر عنهم: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي أنهم ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منعوا من القوى والقدر، فاذا اتفق أن أصيب أحد بضرر من أعمالهم فإنما ذلك باذن الله أي بسبب من الاسباب التي جرت العادة بان تحصل المسببات من ضر ونفع عند حصولها باذن الله تعالى، وهذا الحكم التوحيدي هو المقصد الأول من مقاصد الدين، فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة، بل يبينه عند كل مناسبة، وربما ترد في القرآن قصة مثل هذه القصة لأجل بيان الحق في مسألة اعتقادية كهذه المسألة لان ايراد الاحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف.
23. ثم قال بعد نفى القوة التي وراء الاسباب عنهم: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ يضرهم لانه سبب في الاضرار بالناس، وهو محرم يعاقب الله تعالى عليه في الآخرة، ومن عرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه، ولما كان بعض الضار من جهة نافعا من جهة أخرى، وربما كانت منفعته أكبر من إثمه نفى المنفعة بعد اثبات المضرة، فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه، وقد صدق الله تعالى فإننا نرى منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون اليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والايقاع بأعدائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره، لان فاقد الشيء لا يعطيه.
24. هذه حالهم في الدنيا فكيف يكونون في الآخرة يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون؟ لا جرم أنها تكون حالا سوأى واليهود يعلمون ذلك كما قال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، أي إنهم يعلمون أن من اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فليس له نصيب في نعيم الآخرة، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر وجعلته كعبادة الاوثان وشددت العقوبة على فاعله وعلى اتباع الجن والشياطين والكهان، ولا ينافى هذا العلم قوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾، فإن العلم علمان:
أ. علم تفصيلي متمكن من النفس متسلط على إرادتها يحركها الى العمل.
ب. وعلم إجمالي خيالي يلوح في الذهن مبهما عندما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال، وهو يقبل التحريف والتأويل، وليس له منفذ الى الإرادة ولا سبيل، فقد كانوا يستحلون أكل السحت كالرشوة والربا بالتأويل كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم، ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علما تفصيليا يستغرق جميع جزئيات المحرم ويفقهون علة التحريم وسره ويصدقون بما توعد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقا جازما، ويتذكرونه وقت العمل بما للعقيدة من السلطان على الارادة لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الاصرار عليه، ولكنهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصور أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة لان في الكتاب عبارة تدل على ذلك فإن العبارة تحتمل ضروبا من التأويل ككون النهى خاصا بمعاملة شعب إسرائيل وكانوا يقولون: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ إذا أكلنا أموالهم بالباطل، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادعاء أن ما يأتونه منه نافع غير ضار وغير ذلك.
25. نرى كثيرا من الحرمات قد انتهكت في المسلمين بمثل تلك التأويلات حتى جوّز بعض المشتغلين بالفقه هدم ركن من أعظم أركان الاسلام بالحيلة وهو ركن الزكاة الذي يحارب تاركوه شرعا، وترى هذه الحيل قد أثرت في الأمة أسوأ التأثير فقلما يوجد فيها غنى يؤدى الزكاة، ولا يعتقد المتمسك بالدين من هؤلاء الاغنياء أنه متعرض لمقت الله وعقوبته، وأنه قد فسق عن أمر ربه، لانه يمنع الزكاة بحيلة يسميها شرعية، وقد أخذها عمن يسمون فقهاء، ويفتخرون بأنهم ورثة الانبياء، ثم إن الحيل على التزوير وأكل أموال الناس بالباطل لها في بعض الكتب وعلى ألسنة كثيرين من أصحاب العمائم مجال واسع وميدان فسيح، ولها أقبح التأثير في إفساد العامة واستباحتهم المحظورات، ولقد صارت هذه الحيل على الله عز وجل والتأويلات الباطلة الهادمة لدينه معدودة من علم الدين حتى إنه ليأتيها من لا منفعة له في إتيانها ممن يعدون صالحين.
26. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ أي لو أنهم استبدلوا الايمان بما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا السحر الخادع واتباع نزغات الشياطين أو لو آمنوا بكتابهم إيمانا حقيقيا ومنه البشارة بالنبي والامر باتباعه واتقوا بالعمل به والمحافظة على حدوده مغبة ما ينتظره المجرمون من العقوبة على العصيان ـ لكان ثواب الله لهم على الايمان الصحيح والعمل الصالح خيرا لهم من جميع ما توهموه في المحالفة من المنافع. ثم قال ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي إنهم في كل ما هم عليه من الاباطيل، ومن زعمهم أنها ترجع إلى الكتاب بضروب من التأويل، يتبعون الظنون ويعتمدون على التقليد، وليسوا على شيء من العلم الصحيح ـ ولو كانوا يعلمون علما صحيحا لظهر أثره في أعمالهم ولآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوه فكانوا من المفلحين.
27. من مباحث اللفظ في الآيات:
أ. أن بابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة (قبل الكوفة) في أشهر أقوال المفسرين، ويؤخذ من بعض كتب التاريخ أنها كانت في الجانب الشرقي من نهر الفرات بعيدة عنه، ويقال إن أصل اشتقاقها في العبرانية يدل على الخلط، إشارة إلى ما يرويه العبرانيون من اختلاط الالسنة هناك.
ب. هاروت وماروت اسمان أعجميان، ولو كانا مشتقين من الهرت والمرت كما زعم بعضهم لما منعا من الصرف، و(من) في قوله تعالى ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ لاستغراق النفي وتأكده، وقد شدد الاستاذ الامام كعادته الانكار على من قال انها زائدة، وقال إنما الزائدة ما يذكر للتحلية ولا يكون له معنى ما وفاقا لكثير من المفسرين.
ج. المثوبة الثواب و(لمثوبة) خبر (لو) قال الاستاذ: أي لكانت مثوبة من الله خيرا، وقد قدروا لها فعلا فقالوا: الأصل لأثيبوا مثوبة، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة، ونكرت لبيان أنها مهما قلت فهي خير لهم، وأصلها الثوب بمعنى الرجوع، كان المحسن يثوب إلى من أحسن إليه بعد الاعراض.
__________
(1) تفسير المنار: 1/399.
(2) مما قاله هنا: ولقد رأى كاتب هذا التفسير شيئا من ذلك، وكان في أيام حداثته يصدق به ويعتقد فائدته، تفسير المنار: 1/399.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بيّن سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هي علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، هي أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطّلّسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها، وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومسّ العفاريت.
2. إنما قصّ القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم.
3. ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلا منهم بما هم به عالمون ـ اتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان بن داوود وعملوا به، وذلك هو الخسران المبين.. وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها، وهذا من مفتريات أهل الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا.
4. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أي وما سحر، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.
5. ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ قد جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ولا سيما في قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا كما قال: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾، وقال في آية أخرى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ .. والآية نص صريح على أن السحر كان يعلّم ويلقّن، والتاريخ يؤيد هذا.
6. السحر: إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفىّ يعرفه بعض الناس ويجهله الكثير منهم، ومن ثم يسمون العمل به سحرا لخفاء سببه عليهم، وقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصىّ بصور الحيات والثعابين حتى خيّل إلى الناس أنها تسعى.
7. اعتاد الذين اتخذوه صناعة للمعاش أن يتكلموا بأسماء غريبة وألفاظ مبهمة، اشتهر بين الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجن، ليوهموهم أن الجنّ يستجيبون دعاءهم ويسخّرون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامة أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب، ولمثل هذا تأثير في إثارة الوهم دلت التجربة على وجوده، وهو يغنى منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته فيمن يعمل له السحر.
8. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ في الملكين قراءتان فتح اللام وكسرها، وهما رجلان شبها؛ إما بالملائكة لانفرادهما بصفات محمودة، وقد جرت العادة أن يقولوا هذا ملك وليس بإنسان، وإما بالملوك كما يقال لمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس: هذا من الملوك، وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الروحية إلا أهل السمت والوقار الذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى.
9. ظاهر الآية يدل على أن ما أنزل على الملكين غير السحر لكنه من جنسه، وقد ألهماه واهتديا إليه بلا أستاذ ولا معلم، وقد يسمى مثل هذا وحيا كما في قوله: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾
10. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عزّ اسمه، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم ولم يعمل به ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به.. وفي هذا إيماء إلى أن تعلم السحر وكل ما لا يجوز اتباعه والعمل به ليس محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحسب، وإنما كانا يقولان ذلك إبقاء على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان إنهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين الذين يحترفون مثل ذلك لمن يعلمونهم الكتابة للحب والبغض. نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة إلى حبّ غير زوجها ولا تكتب لأحد الزوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامة كالحبّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهام بأن علومهم إلهية وصناعتهم روحية.
11. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ أي كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين، مما يسمى الآن (كتاب البغضة).. والآية لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلمونه من السحر ـ أمؤثر بطبعه أو بسبب خفىّ أو بخارق من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنها لم تبين نوع ما يتعلمونه، أتمائم وكتابة هو، أم تلاوة رقى وعزائم، أم أساليب سعاية، أم دسائس تنفير ونكاية، أم تأثير نفساني، أم وسواس شيطاني فأي ذلك أثبته العلم كان تفصيلا لما أجمله القرآن ولا نتحكم في حمله على نوع منها، ولو علم الله الخير في بيانه لبينه، ولكنه وكل ذلك إلى بحوث الناس وارتقائهم في العلم، فهو الذي يجلّى الغامض، ويكشف الحقائق.
12. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي إن هذين لم يعطيا شيئا من القوى الغيبية فوق ما أعطى سائر الناس، بل هي أسباب ربط الله بها مسبباتها، فإذا أصيب أحد بضرر بعمل من أعمالهم، فإنما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب.
13. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ من قبل أنه سبب في إضرار الناس، وهذا مما يعاقب الله عليه، ومن عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه، فإنا نرى منتحلي هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم، وذلك حالهم في الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يجزى كل عامل بما عمل.
14. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي إنهم عالمون بأن من اختار هذا وقدّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين فليس له حظ في الآخرة، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنّ والشياطين والكهان، كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان.
15. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم السحر، وعبر عن بيع الإيمان ببيع النفس، لأنها إنما خلقت لمعرفة الدين والعمل به، أي أنهم لو كانوا يعلمون حرمة السحر علما يصدر عن اعتقاد له أثر في النفس ويصدقون بما توعد به مرتكبه من العقوبة ـ لما ارتكبوه ولا أصرّوا عليه، لكنهم خانهم هذا النوع من العلم واكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس، فتسرب إليهم كثير من التأويل والتحريف لنصوص التوراة.. وهذا هو ما يفعل مثله بعض المسلمين اليوم، إذ ينتهكون بعض حرمات الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلة، ويأكلون أموال الناس بحيلة أخرى، ويشهدون الزور بحيلة ثالثة وهكذا.
16. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ أي ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والأمر باتباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه ـ لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية.
17. ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي إنهم ليسوا على شيء من العلم الصحيح، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/179.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم ماذا ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجئوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟ كلا.. لا شيء من هذا كله.. إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة.
2. لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم؛ وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان، إذ يقولون: إنه كان ساحرا، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه.
3. القرآن ينفي عن سليمان عليه السلام أنه كان ساحرا، فيقول: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان عليه السلام ويثبته للشياطين: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ .. ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين: هاروت وماروت. اللذين كان مقرهما بابل: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾
4. يبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا. فرية تنزيل السحر على الملكين، ثم يبين الحقيقة، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة، وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء إليهما، طالبا منهما أن يعلماه السحر: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ ..
5. مرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا؛ ويذكر هذا على لسان الملكين: هاروت وماروت، وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما، على الرغم من تحذيره وتبصيره، وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ .. وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان.
6. هنا يبادر القرآن، فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشئ آثارها وتحقق نتائجها.. وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما، وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق، ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله.. فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها، وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها؛ كما وقع لإبراهيم عليه السلام، وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، ينشئ هذا الأثر بإذن الله، وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها.. وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار.. كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله، فهو يعمل بهذا الإذن، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء.
7. ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون، وما يفرقون به بين المرء وزوجه.. إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ .. ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه!
8. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب.. فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ..
9. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ وينطبق هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين ببابل، وعلى الذين يتبعون ما تقصه الشياطين عن عهد سليمان وملكه، وهم اليهود الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهريا، ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم.
10. حقيقة السحر، وما يفرق بين المرء وزوجه، مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله تتبين لنا من خلال هذه المقدمات:
أ. إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. لقد سمي بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها!
ب. هذا (التيليپاثي) ـ التخاطر عن بعد ـ ما هو؟ وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره، فيتلقى عنه، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟
ج. وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟
د. إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها، هو أن أعطاها أسماء! ولكنه لم يقل قط: ما هي؟ ولم يقل قط كيف تتم؟
هـ. ثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم، إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها؛ وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه:
• هذه الأحلام التنبئية ـ وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها ـ كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول، ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟
• وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد.. كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل أو أن شخصا ما قادم بعد قليل؛ ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء!
إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري، لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى.
و. ليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة، والجري وراء كل أسطورة.. إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا.. لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق، حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه؛ أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته، ويعرف حدوده، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه..
ز. السحر من قبيل هذه الأمور، وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور، وقد تكون صورة من صوره: القدرة على الإيحاء والتأثير، إما في الحواس والأفكار، وإما في الأشياء والأجسام.. وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له: ﴿ خيل إليه من سحر هم أنها تسعى ﴾، ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه. فالانفعالات تنشأ من التأثرات، وإن كانت الوسائل والآثار، والأسباب والمسببات، لا تقع كلها إلا بإذن الله، على النحو الذي أسلفنا.
11. أما من هما الملكان: هاروت وماروت؟ ومتى كانا ببابل؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها، وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها؛ وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود.
12. لا أحب أن نجري نحن ـ في ظلال القرآن ـ خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين. فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها، ولقد مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من أطوارها، فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين ـ أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة ـ فليس هذا غريبا ولا شاذا بالقياس إلى شتى الصور وشتى الابتلاءات الخارقة، التي مرت بها البشرية، وهي تحبو، وهي تخطو، وهي تقفو أشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم! والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك الزمن المديد، وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير، ونبذهم كتاب الله المستيقن، وأن نعرف أن السحر من عمل الشيطان؛ وأنه من ثم كفر يدان به الإنسان، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل رصيد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/96.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. فى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ احتراز عن فهم خاطئ لاستخدام الشياطين، التي لا يحمد لها قول أو عمل، وذلك أن سليمان كان يضبط أعمالها على الوجه المحمود، الذي لا يخرج بها عن طريق الحق والخير! أما هؤلاء القوم فإنما يبتغون من وراء تسخيرها التسلط على الناس، ووضع مقدّراتهم تحت أيديهم، حيث يتعلمون منهم أبوابا من الحيل، وأشتاتا من المكايد.
2. القوم إنما يلتمسون الباطل من كل وجه، ويصيدون الضلال من كل أفق، فهناك غير ما ألقت به الشياطين على ملك سليمان، وما تركته من آثار أفعالها ـ هناك كان لملكيين أو ملكيين ـ بكسر اللام ـ اسمهما هاروت وماروت، حديث إلى الناس في بابل، وفى هذا الحديث ضروب من السحر والحيل، كانا يكشفان أمرها للناس، على سبيل الابتلاء والاختبار، حيث يقولان لكل من يستمع إليهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾
3. لله سبحانه وتعالى أن يبتلى عباده بما يشاء من الشر والخير، كما يقول سبحانه. ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، ولقد ابتلى الله سليمان عليه السلام بتلك القوى القاهرة التي وضعها بين يديه، لينظر كيف يكون أمره معها، وفى هذا يقول الله سبحانه على لسان سليمان: ﴿هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾، فهذا الذي كان من فعل الملكين ـ بفتح اللام أو بكسرها ـ إنما هو من قبيل الابتلاء، وقد عمد القوم إلى تلك الآثار التي خلّفها الملكين من ضروب السحر والحيل فجعلوها أسلحة فتك ودمار، وأدوات تهديد وتبديد للناس، لم يتعلموا منها إلّا ما هو بلاء ونقمة، كما يقول تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾، أي ما يشيع الفرقة والتفكك في المجتمع، وما يفصم أواصر المودة والأخوة بين الناس حتى بين ألصق الناس بعضهم ببعض.. المرء وزوجه!
4. هذا الذي يتلقاه هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، من قوى السحر، ليس بالذي يؤثّر أثره تلقائيا، وإنما شأنه شأن كل قوة في الوجود.. هو خاضع لأمر الله، ماض بحكمه وتقديره: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، فما هم إلا أدوات كأدوات السحر التي في أيديهم، وما تلك الأدوات وأفعالها إلا محنة وبلاء عليهم، حيث تعلق آثامها بهم، وينسب شرها إليهم، وفى هذا يقول سبحانه: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ فذلك هو محصّل القوم من هذا العلم الذي تعلموه: الشرّ المحض الذي لا نفع معه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، فهم وإن حققوا نفعا عاجلا في هذه الدنيا بهذا السّحر الذي تعلموه، فإنهم لا يمسكون من هذا السحر في الآخرة إلا بما يحزن ويسوء! ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/117.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 101] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق، فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله:
أ. إن كان المراد بكتاب الله في قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: 101] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها، وقد اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وهو مخالف للتوراة لأنها تنهى عن السحر والشرك، فكما قيل لهم فيما مضى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 85] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى.
ب. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة، فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول، وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة.
2. اختلف في المقصود بـ ﴿الشَّيَاطِينِ﴾:
أ. يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور.
ب. ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية، فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]، وقرينة ذلك قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس، وكذلك قوله بعده: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه.
3. المراد من الآية مع سبب نزولها ـ إن نزلت عن سبب ـ أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكا بعد أبيه، وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم، فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين: إن أباك قاس علينا وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك، فأجابهم اذهبوا، ثم ارجعوا إلي بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه، واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة إن خنصري أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط، فأنا أؤدبكم بالعقارب، فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذا وبنيامن واعتصم رحبعام بأورشليم، وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالا قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يومئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم، ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة، وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة: 62] الآية ولا يخفى ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من بيت الملك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطريق أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية(2).، والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكا يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة، ولا يخفى ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضى الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضرر ضلاله بعد اجتناء ثماره.
4. الاتباع في الأصل هو المشي وراء الغير ويكون مجازا في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة.
5. التلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه ﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ﴾ [الزمر: 71] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال يقوّل على فلان أي قال عليه ما لم يقله، وإنما فهم ذلك من حرف (على)
6. المراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر وقول حميد بن ثور:
وما هي إلا في إزار وعلقة... مغار ابن همام على حي خثعما
يريد أزمان مغار ابن همام، وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عمر أو هذا كتاب في ملك العباسيين وذلك أن الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم، قال النابغة: (وليل أقاسيه بطيء الكواكب) أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق.
7. الشياطين: قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر، وقيل: أريدت شياطين الجن، وأل للجنس على الوجهين، وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العرب، وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط.
8. ﴿تَتْلُو﴾ جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة، أو هو مضارع على بابه على اعتبار أن الشياطين هم أحبارهم، فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه.
9. سليمان هو النبي سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 قبل المسيح وولي ملك إسرائيل سنة 1014 قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيئا حكيما شاعرا وجعل لمملكته أسطولا بحريا عظيما كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا.
10. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ وبين قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ إن كان ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ معطوفا على ﴿مَا تَتْلُو﴾ وبين ﴿اتَّبَعُوا﴾ وبين ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ إلخ إن كان ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ معطوفا على السحر، ولك أن تجعله معطوفا على ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلا بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبرا عن اليهود كذلك.
11. كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبه إلى آلهتهن مثل (عشتروت) إله الصيدونيين (ومولوك) إله العمونيين (الفينيقيين) وبنى لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى.
12. ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ حال من ضمير ﴿كَفَرُوا﴾ والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوبا بتعليم السحر على حد قوله: كفر دون كفر فهي حال مؤسسة.
13. السحر: الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14، 15] ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول: سحرت الصبي إذا عللته بشيء، قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا... عصافير من هذا الأنام المسحّر
ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعا وترويج المحال، تقول العرب: عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت، قال أبو عطاء:
فو الله ما أدري وإني لصادق... أداء عراني من حبابك أم سحر
أي شيء لا يعرف سببه، والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان.. والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدنية الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابليين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشئوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة (3951 ـ 3703) ق. م.
14. للعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة، وقالت قريش: لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: 2] وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14، 15]، وفي حديث البخاري عن عمران بن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقى رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها: فو الله إنه لأسحر من بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، وفي الحديث: (إن من البيان لسحرا)
15. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، يتعين أن (ما) موصولة وهو معطوف على قوله: ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين، والمراد بما أنزل:
أ. ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعلم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس، فيكون عطفا على ﴿مَا تَتْلُو﴾ الذي هو صادق على السحر فعطف (ما أنزل) عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلّمونه الناس مع السحر الموضوع منهم، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلّمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهما... م وليث الكتيبة في المزدحم
ب. وقيل: أريد من السحر أخفّ مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف.
16. كل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل، وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصّلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر.. فالوجه أن قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ عطف على ﴿مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ فهو معمول لتتلو الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق.
17. قيل: (ما) نافية معطوفة على (ما كفر سليمان) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل، وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر، وقد قيل إن (هاروت وماروت) بدل من (الشياطين) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله: ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله: ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ كلاما حشوا.
18. على ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه:
أ. أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله.
ب. الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة.
ج. الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما ﴿نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ وقولهما ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها.
د. الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ فلما ذا تورطا في هذه الحالة؟
19. دفع هذا الإشكال برمته:
أ. أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها..
ب. الظاهر أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل، ولكنه إنزال الأمر للملكين، أو إنزال الوحي، أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرذمة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.
ج. الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم ـ أي السحرة ـ مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث.
د. أما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ الآية.
20. في قراءة ابن عباس والحسن (الملكين) بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى، فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر، وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل، وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله، ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك، وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك.
21. أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ﴾ قالوا: كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر.. ولا يخفى فساد التنظير.
22. بابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة.. وكانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب:
سقى الله أيام الصّبا ما يسرها... ويفعل فعل البابلي المعتق
ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر صح جعل صلة الموصول قوله: ﴿أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ إشارة إلى قصة يعلمونها.
23. ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بدل من ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب (هاروكا) وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب (ماروداخ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم، ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين، ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون (هاروكا) و(ماروداخ) قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام.
24. لأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار، وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية، والعجب للإمام أحمد بن حنبل كيف أخرجها مسندة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد، أو أنه غرّه فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه، واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا، وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عرفة في (تفسيره): وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا أنكر ذلك في حق هاروت وماروت.
25. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ جملة حالية من ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ و(ما) نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه، وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية.
26. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصّص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين.
27. لمّا كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا، ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج، وقد سمى القرآن هاروت وماروت فتنة وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: 10] وقال: ﴿لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 27]، والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة، وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي، وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها، وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة.
28. الذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها، وقولهما: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا، فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء، فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة، فذلك معنى قولهما ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ فالكفر هو الفتنة وقولهما ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم.
29. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ تفريع عما دل عليه قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا﴾ المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون، والضمير في ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ راجع لأحد، الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعا.
30. ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، فإن المودة وحدها آصرة عظيمة، وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان.
31. هذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما.
32. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ جملة معترضة، وضمير ﴿هُمْ﴾ عائد إلى (أحد) من قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحدا، وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء منقوله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة، فالباء في قوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ للملابسة.
33. أصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت، وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين، إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله: ﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]، وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 166]
34. قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن.
35. ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس، وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة، فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة.
36. ليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر، بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها، وقوله: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير ﴿يَضُرُّهُمْ﴾ عائد على غير ما عاد عليه ضمير ﴿يتعلمون﴾، والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا، فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر، وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به، وهو مقصد الآية، وبهذا التفسير يكون عطف قوله: ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ تأسيسا لا تأكيدا.
37. الملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا، وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل: (ويتعلمون ما ليس إلا ضرا): كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تسيل على حد الظّبات نفوسنا... وليس على غير الظّبات تسيل
وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة، وهي التنبيه على أنه ضر، وإعادة فعل ﴿يَتَعَلَّمُونَ﴾ مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة.
38. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ عطف على قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا لضمير ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ ، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم، واللام في ﴿لَقَدْ عَلِمُوا﴾ يجوز أن تكون لام القسم، وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم، ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب، ويجوز أن تكون لام الابتداء، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام، فلذلك قيل لها لام الابتداء، والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم، وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد، قال الرضى إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء، والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب.
39. اللام في قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر، ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره، فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم.
الخلاق: الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له)، وقال البعيث بن حريث:
ولست وإن قربت يوما ببائع... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه، فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة، وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى.
﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ عطف على ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ عطف الإنشاء على الخبر، و﴿شَرَوْا﴾ بمعنى باعوا بمعنى بذلوا، وهو مقابل قوله: ﴿لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ مقتض لنفي العلم بطريق (لو) الامتناعية، والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾ إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم، وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال، وهذا هو الوجه لأن ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ذيل به قوله: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾، فدل على أنه دليل مفعوله، وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذوما فكيف يعدون غير عالمين بذمه، وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية.
40. لهم في الجواب عن دفع الإشكال المتعلق بإثبات العلم ونفيه في معلوم واحد وجوه أخرى:
أ. أحدها ما ذهب إليه صاحب (الكشاف) وتبعه صاحب (المفتاح) من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به، أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم.
ب. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه، فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا: إن الفقيه يعلم كبرى القياس، والقاضي والمفتي يعلمان صغراه، وأن الفقيه كالصيدلاني، والقاضي والمفتي كالطبيب، وهذا الوجه هو الصحيح.
ج. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه.
د. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر، ومن المثبت العلم الغريزي، وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي، وفي الجمع بين ﴿لَقَدْ عَلِمُوا﴾ و﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ طباق عجيب.
هـ. وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير ﴿عَلِمُوا﴾ وضمير ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فضمير ﴿لَقَدْ عَلِمُوا﴾ راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم، قاله فطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.
41. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، أي لو آمنوا بمحمد، واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله، ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.. و(لو) شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس:
ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة... كفاني ولم أطلب قليل من المال
و (أن) مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جمل الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر، وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت.
42. ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ يترجح أن يكون جواب (لو) فإنه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب (لو) المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في الغالب، وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا.. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لأثيبوا ومثوبة من عند الله خير، وعدل عنه صاحب (الكشاف) فقال: أوثرت الجملة الاسمية في جواب (لو) على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الزمر: 73] لذلك.. ومراده أن تقدير الجواب لأثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم، أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات، ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت، وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ و﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل (لمثوبة) بالنصب لكان تقديره لأثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما كان فيه من النسبة قبل الرفع، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني، وهذا وجه تنظير (الكشاف) وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو المتأصل في الفعلية، ثم إذا سمع قوله (خير) علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب (الكشاف) لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها، وبهذا ظهر الترتب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا.
43. هناك وجه آخر وهو أن يقال إن قوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم، ولما كانت (لو) امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتلميحا بهم.
44. قد قيل: إن (لو) للتمني على حد ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ [الشعراء: 102]، والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوبا: (وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا)، واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جوابا منصوبا كجواب ليت وجوابا مقترنا باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل:
فلو نبش المقابر عن كليب... فيخبر بالذنائب أي زير
ويوم الشعثمين لقر عينا... وكيف لقاء من تحت القبور
فأجيب بقوله: فيخبر وقوله: لقر عينا، والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21] ونحوه، وعلى هذا الوجه يكون قوله ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ مستأنفا واللام للقسم.
45. المثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي، ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة والمكروهة.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول ﴿يَعْلَمُونَ﴾ لدلالة المثوبة من الله خير، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر.. وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/609.
(2) ولو أنه ذكر ما فعله بنو أمية بالعترة الطاهرة، والكذب عليهم لكان أدق وأصح، ففضائح بني أمية لا تحتاج إلى من يزيد عليها.
أبو زهرة:
$أبو زهرة
1. ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).: جاءت آيات الله بينات داعيات إلى الحق فنبذوها، وجاءهم رسول الله تعالى بكتاب مصدق للحق الذي معهم، فنبذوه وراءهم ظهريا.. تركوا الحق الذي ظهر نوره، وكان من دأبهم أن يتركوا النور، ويتبعوا الظلام، لتعشعش فيه أوهامهم، ولذلك مع تباعد العهد بينهم وبين نبيّ الله سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الطير والحيوان أخذوا يتبعون أوهاما كانوا قد حرفوا بها التوراة، لقد زادوا في التوراة قصة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنهم كانوا يكتبون بأيديهم ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله.
2. لقد جاء في الإصحاح الحادى عشر من سفر الملوك أن السحرة هم الذين أقاموا ملك سليمان، وأن سليمان ارتد وكفر، فأخذوا يذكرون هذا السحر!.. وذلك لأن الذين يضلون دائما عن الحق يتبعون أوهاما لا أساس لها من المنطق ولا من العقل.
3. ترك اليهود كتاب الله تعالى الذي يتلى بيّنا هاديا مرشدا إلى الحق، واتبعوا كلام السحر المكذوب، وراحوا يرددونه في مدراسهم، ومواضع عبادتهم، ولذا قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ اتبعوا ذلك القول، وصغت قلوبهم العامرة الممتلئة بهذا العطن من الأقوال الفاسدة.
4. الشياطين هنا هم أهل الشر من الإنس، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، والشياطين يكونون من الإنس، كما يكونون من الجن كقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾، فالظاهر في هذه الآية أن الشياطين هنا من الإنس.
5. قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أنهم يتبعونها مصغين إليها متتبعين لها، كما يتبع الكلام القيم؛ ولذا عبر بتتلو لأن التلاوة قراءة واضحة بينة تتوالى كلماتها، فعبر بذلك للإشارة إلى أن الشياطين يحسنون تنسيق الكلمات ويلقونها بنغمات معينة كسجع الكهان، وأولئك اليهود يستمعون إليها بعناية مصدقين، مع أنها كاذبة، ولكن أوهامهم يثبت لهم صدقها، فسمعوها محافظين على السماع.
6. رد الله تعالى عليهم أوهامهم التي سجلوها في التوراة على أنها من عند الله، وما هي عند الله، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾، والكفر الذي نفاه الله عن نبيه سليمان عليه السلام، هو ما ادعته الكذبة التي ألحقت بالتوراة ـ بتوراتهم ـ وما هي منها، وهو أنه ارتد وكفر، فنفى الله تعالى عنه ذلك الكفر، وتلك الردة، وأن شياطينهم الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا بدعواهم على سليمان الكفر، وافترائهم عليه وادعائهم السحر، والتمويه على الناس به، فكل هذا كفر.. هذا هو ظاهر القول، إذ كان اليهود قد اتبعوا هذه القصة المكذوبة التي وضعت في التوراة افتراء على الله تعالى.
7. نظر بعض المفسرين نظرة أخرى فقالوا: إن الكفر هو السحر، فما كفر سليمان بادعائهم أنه استعان بالسحر على تثبيت ملكه، وما كفر سليمان باتخاذه السحر واعتقاد أن فيه قوة ولا وقع منه ذلك، ولكن الشياطين الذين كانوا يتلونه على ملك سليمان، هم الذين كفروا باتخاذهم السحر وهو كفر.
8. ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي على تثبيت ملك سليمان في زعمهم، وقال بعض علماء اللغة إن على تجيء بمعنى في والمعنى ما تتلو الشياطين في ملك سليمان.. والصحيح أن على في موضعها من حيث إنها تعويذات، والتعويذات تقع على موضوعها، وموضوعها هو ملك سليمان في زعمهم الفاسد، وكما كذب ما في توراتهم.
9. بين سبحانه أن أولئك الشياطين لا يقتصرون على ذكر ما ادعوه على ملك سليمان، وافتروه عليه، وهو النبيّ الذي سخر الله تعالى له بعض الرياح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب، بل يتجاوزون ذلك إلى تعليم الناس السحر فقال تعالى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾
10. سؤال وإشكال: حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى؟ والجواب: جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف:
أ. أول وصف جاء في أخبار موسى عليه السلام مع فرعون، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون: ﴿قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾، ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعى، بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لا في الوقائع، فتأثيرهم في الرؤية لا في تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين.
ب. وفى سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه].
11. نرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة، وليس تغيير للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا، ولكن يكون تأثيرا في العيون، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف ﴿اسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم؛ ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه.
12. هذا السحر مهر فيه أهل بابل، حتى ضللوا به، وكان السحرة علماء، وكان اليهود يعلمون الناس السحر ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
13. الظاهر أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى سماهما ملكين، ولأن الله تعالى سمى ما كانا يقومان به أنزله تعالى عليهما، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه، كما قال إمام الهدى على بن أبى طالب رضى الله عنه وكرم الله وجهه، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا.. وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام، وعلم القرآن على أساس أننا لا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص؛ ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام على.
14. رأى بعض الكتاب المتأخرين في التفسير أن من سميا الملكين كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وهى مدينة على نهر الفرات، ونالوا ثقة الناس حتى ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء، وبلغ مكر هذين الرجلين أنهما كانا يقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر.. وذكر هؤلاء أن نزول الملك مستحيل؛ لأنه لو كان ممكنا لأرسل إليهم ملكا مؤيدا للرسول، ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل، ولكن علم أنهم متعنتون، وقد طلبوا غير ذلك، وقالوا في طلبهم آيات أخرى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾، فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا، فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به، أم أن الله تعالى لا يريد أن يأتي بآيات أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا؛ ولهذا نقول إنه لا يوجد دليل على استحالة أن ينزل الله تعالى ملكا إلى الأرض، وقد نزل جبريل عليه السلام في صورة رجل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الإيمان الذي رواه البخاري لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر، ويقولان ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾.
15. كان هذان الملكان غير مضلين للناس، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لا يضلوا بالسحر، وقد اشتد ظلامه، وطم سيله ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ، أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الناس به ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ ، أي فلا تأخذ به لأنه كفر، وإنما علمناك هذا لتتخذ منه وقاية، ولتحذره، وليكون ذلك إنذارا حتى لا تصدقه بعد ذلك، ولتعلم أنه يضل السحر والساحر.
16. اتبع اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، وأخذوا يعلمونه، وجاء الملكان ليبينا زيفه وطرق التمويه فبدل أن يحذروه تعلموه منهما، وهكذا هم دائما يأخذون من كل شيء ما يضر ويتركون ما ينفع، فهم دائما يأخذون من التحذير طريق الوقوع في المحظور، كما أخذ إخوة يوسف من قول أبيهم يعقوب: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾، فقالوا عندما ألقوه في غيابة الجب: أكله الذئب.
17. علم الملكان أهل بابل التمويه الذي يكون في السحر ليتقوه، فأخذ اليهود ذلك، واتخذوه سبيلا؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ هذه صورة من أقبح الصور، ذكرها مثال لغيرها، كاستهواء النفوس بمسح تفكيرها، وأن يستبد بما فيها تفكيرا، ويسمون ذلك في هذه الأيام بغسل المخ.
18. قال تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ ولم يقل فيعلمانهم، لأن الملكين ما كانا بصدد تعليمه، بل كانا بصدد بيان زيفه، ولكن هؤلاء تعلموه ليكون نقيض ما أراد الملكان كفقيه يبين الحيل الفقهية الباطلة، فيتخذها الفاسق سبيلا للتحايل على شرع الله سبحانه، وكرجل يجمع الأحاديث الموضوعة لكيلا تتخذ للاستشهاد فيجيء فسقة الناس وينشرونها، وهكذا شأن الفاسدين يتبعون الشواذ فيقولونه.
19. ما يفرقون به بين المرء وزوجه هو طريق الاستهواء بأن يعملوا بالطريق الذي يسمونه التنويم المغناطيسى، وهو من أشد أنواع السحر، ينزع شعور المحبة من أحد الزوجين لزوجه فيكون التفريق بينهما، والسحرة الآن لا يفرقون بين المرء وزوجه، بل يفرقون بين المؤمن ودينه، والناس عنهم غافلون، ألا يستيقظ المسلمون وذلك كله فسوق عن أمر الله تعالى ونهيه.
20. ليس ذلك الكفر خارجا عن إرادة الله، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، ويطلق إذن الله تعالى تارة بمعنى الترخيص في فعل، كقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، ويطلق إذن الله تعالى تارة أخرى بمعنى تسخيره، ككون السم يؤثر في الجسم، والسحر يؤثر في النفس، والترياق في إزالة السم فعل هذا بإذن الله تعالى، كذلك السحر ما كان ليؤثر تأثيره في النفوس إلا بالأوهام الفاسدة إلا بتسخير من الله تعالى، أو إذن منه سبحانه وتعالى.. وتأثير السحر في النفوس إنما هو بتسخير الله تعالى اختبارا للنفوس القوية التي تقاوم النفوس الشريرة والتآثير الفاسدة.
21. سؤال وإشكال: لماذا كان السحر، وهو على هذا النحو من الإفساد للنفوس وتخليق الأوهام؟ والجواب: كما خلق الأفاعى والجرذ؛ فإنها خلق الله تعالى، خلقها لاختبار عباده، وقد يكون لها فوائد يعلمها الله تعالى، وإنه هو الفاعل، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
22. بين الله تعالى أن اليهود الذين اختاروا السحر على علم الكتاب يتعلمون ما يضرهم ولا نفع فيه فقال تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ والضرر في السحر واضح لأنه يفسد العقول، فالساحر الدائب على السحر، ينته أمره بفساد عقله، فيضطرب وتسارع إليه الوساوس، فلا يكون عنده ميزان عقلى سليم، يدرك به الحق من الباطل، ويكون في وسواس مستمر، ويضر المجتمع؛ إذ به تفسد القلوب وتضطرب الأفهام، ولا يكون حق واضح، ولقد كان لنا صديق كان يتخذ السحر والتنويم المغناطيسى، وكان عالما رياضيا منظم العقل مستقيم الفكر، فلما أكثر من هذا التنويم الذي هو السحر، اضطربت موازين تقديره، وصار يصدق ما لا يقبل التصديق ويقبل من القول ما لا يصدقه.. وآخر كان مؤمنا أشد الإيمان، وأكثر من هذا التنويم الذي هو السحر حتى فسد التقدير عنده، وصار يهرف بقول لا يصدر عن مؤمن عاقل، فيفضل الرسول على رب العالمين، وذلك لأن السحر أفسد عقله المؤمن، وتفكيره السليم، ونفى الله النفع منه، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ أي لا ينفع متخذيه بأي صورة من صور النفع.
23. ليس لعاقل أن يقوم بعمل مؤكد الضرر، ولا نفع فيه بأي صورة من النفع؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
24. أكّد الله سبحانه وتعالى أن من اتخذ هذا النوع؛ أي أن من اشترى السحر، ودفع نفسه وعقله وإحساساته ـ ليس له نصيب في الآخرة، فالخلاق هو النصيب.. وأكد ذلك باللام الأولى الداخلة على قد، وبقد وباللام الثانية والجملة في معنى المجاز بتشبيه المشترى للسحر بتقديم نفسه العاقلة الطاهرة بحال من يشترى شيئا تافها، ويدفع فيه شيئا قيما ويبيع آخرته، فلا يكون له نصيب فيها.
25. أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ في هذه الجملة السامية تأكيد الذم للسحر وأكده باللام، وبئس فعل دال على الذم، أي بئس هذا السحر الذي باعوا به أنفسهم، أي أن السحر فوق مضراته الواضحة المفسدة للنفس وللجماعة هو في ذاته أمر مذموم لا يصح أن يطلب في ذاته، ولكنهم يدفعون فيه أغلى الأثمان إذ يدفعون أنفسهم، وعقلهم وإحساسهم وقلوبهم، وقوله تعالى: ﴿شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي باعوا؛ لأن شروا بمعنى باعوا، ولكنهم في عمياء من أمورهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي نوع من العلم، فلا يقدم عليه من عنده ذرة من العلم.
26. يرشد الله إلى الحق بدل الباطل لليهود؛ لأنهم يعرضون، ويطلبون السحر، وينبذون آيات الله تعالى البينات الداعية إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وذلك من اضطراب إدراكهم وعدم إيمانهم كشأن من تحكمه الأوهام وتسيطر عليه الأهواء؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾، لم يقل سبحانه آمنوا بمحمد، والضمير يعود إلى اليهود، بل قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ وذلك لأنهم لا إيمان عندهم بشيء، بل هم في اضطراب لا قرار في قلوبهم بشيء، والإيمان إذعان للحقائق، وجعلها مستقرة في القلوب مصدقة للحق فالمعنى: لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وصدقوا بالحق واتقوا غضب الله تعالى وطلبوا رضاه، واتجهوا إلى السير في الطريق السوى لكان ذلك خيرا بدل الاعوجاج الذي اختاروه لأنفسهم، فساروا في طريق عوج، لو فعلوا ذلك لكان لهم ثواب؛ ولذا قال تعالى في جواب الشرط المقدر من (لو) ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ ، أي لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وسكن ذلك قلوبهم، واتقوا أي اتقوا غضب الله بعمل صالح ينفعهم وينفع الناس، ويكونون به مصدر خير لخلطائهم من الناس ـ لكان لهم الثواب الدائم، فالمثوبة هي الثواب الدائم المستمر، وذكر سبحانه وتعالى أن ذلك خير لهم مما هم فيه من اضطراب مستمر وفساد قلب، وقوله تعالى: ﴿خَيْرُ﴾ إما عطف بيان، وإما خبر لمبتدإ محذوف تقديره هو خير.
27. أكد الله تعالى المثوبة باللام المؤكدة الواقعة في جواب فعل لو المحذوف، وبين سبحانه وتعالى بعد علمهم بهذه الأمور التي يكون علمها والأخذ بها خيرا لهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وعلماء النحو يقولون في (لو) أنها حرف امتناع لامتناع أي يمنع جوابها لامتناع شرطها، والمعنى أنه يمتنع علمهم بذلك فيمتنع إيمانهم، فهم في ضلال مبين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/337.
مُغْنِيَّة:
$مُغْنِيَّة
1. ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).: تكلم المفسرون هنا وأطالوا، ولا مستند لأكثرهم سوى الاسرائيليات التي لا يقرها عقل ولا نقل، وسوّد الرازي حوالى عشرين صفحة في تفسير هذه الآية، فزادها غموضا وتعقيدا، ونفس الشيء فعل صاحب مجمع البيان، أما سيد قطب فأخذ يشرح التنويم المغناطيسي، والأحلام، والتأثير والانفعالات بالايحاء وما اليه، وهذا هو الهروب بعينه، وبقيت أمدا غير قصير أبحث وأنقب في الكتب والتفاسير، فما شفى غليلي شيء منها، حتى تفسير الشيخ محمد عبده وتلميذيه المراغي وصاحب المنار، وخير ما قرأته في هذا الباب ما جاء في كتاب (النواة في حقل الحياة) للسيد العبيدي مفتي الموصل، لأنه قد اعتمد على قول جماعة من علماء الآثار، وهذا ما قاله بالحرف: (ما زلت أجهل معنى الآية الكريمة، لا يشفي غليلي فيها مفسر، حتى وقفت على تاريخ جمعية البنائين، فتبينت معناها، وحيث اضطربت كلمة المفسرين، حتى عرضوا الآية للجمع بين النقيضين، وحتى دخلها شيء من الأساطير التي تنبو عنها مغازي الشريعة الغراء رأيت من واجب الخدمة لكتاب الله أن أثبت هنا كلمة في ذلك)
2. ذكر العبيدي أنه لما عظم ملك سليمان عليه السلام استراب ملك بابل الطامع في سورية وفلسطين، وحل منه الجزع محل الطمع، فأوفد الى بيت المقدس رجلين من دهاة بطانته، يبثان من التعاليم ما عسى أن يفسد على سليمان ملكه، فاعتنقا اليهودية، وأظهرا الزهد باسم الدين، فالتف من حولهما الناس، كما هو شأن العامة، واستهويا الرأي العام، فشرعا يفسدان الأفكار، ويوغران الصدور على سليمان، حتى رمياه بالكفر، فكان هذا الرجلان بظاهر حالهما من الزهد والتقشف كملكين ـ بفتح اللام ـ، ولكنهما في الواقع شيطانان، وكانت تعاليمهما كالسحر بما يعضدها من حسن البيان، وطالما استعمل لفظ الملك في الرجل الصالح، ولفظ الشيطان في الرجل الطالح، ولفظ السحر في العبارة الفاتنة.. من ذلك قوله تعالى عن يوسف حكاية عن صويحباته: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وقوله سبحانه: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾.. وقوله حكاية عن الوليد: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾.. وفي الحديث: (ان من البيان لسحرا)، وقد أنبأنا التاريخ بما كان من شأن بختنصر ملك بابل من غزوه فلسطين بعد سليمان، وتخريبه بيت المقدس، ونرى القرآن يؤيد حوادث التاريخ بقوله في سورة الاسراء: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾
3. بناء على هذا ذكر العبيدي أن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ عائد الى يهود المدينة الذين تقدمت هذه الآية اثنتان وستون آية متتابعة في حقهم.. ومتى عرفت هذا، ثم تدبرت الآيات المتصلة بآية سليمان، ووقفت وقفة تدقيق وإمعان عند قوله: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ وما اكتنفها من مضامين ودلالات علمت ان معنى الآية الكريمة ان يهود الحجاز كانوا يكيدون للنبي العربي بالمكايد والدسائس المقنّعة، والدعاية المزوقة اقتداء بالمارقين من أسلافهم الذين أعانوا رسل بابل في تقويض ملك سليمان.
4. على أساس فهم العبيدي للآية الكريمة فإن معنى ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ أي اتبع يهود المدينة الذين كانوا على عهد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ المراد بالشياطين المشعوذون، ومنهم الرجلان البابليان اللذان ظهرا بمظهر القداسة، وهما في الواقع من الأبالسة ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي ان يهود المدينة استعملوا الدسائس والمكائد، ضد محمد، تماما كما استعمل ذلك أسلافهم اليهود ضد ملك سليمان.
5. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ أي كل ما كانوا ينسبونه الى سليمان فهو بريء منه، وإنما هو من عند الدساسين واختراعاتهم ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ أي يلقنون الناس الأشياء الباطلة الكاذبة ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ أي الرجلين اللذين هما من بابل وتظاهرا بالقداسة والتقوى.. وليس المراد من الانزال الوحي من الله، كالوحي للأنبياء، بل مجرد الإلهام أو التعلم، وما اليه ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ كانوا يقولون ذلك دجلا ونفاقا، ليوهموا الناس ان علومهم إلهية، وان صناعتهم روحانية، وانهم صحيحو النية، تماما كما يقول الدجال لمن يعلمه كتابة البغض والمحبة: إياك أن تكتب هذا لتفريق الزوجين الشرعيين، أو لمحبة امرأة متزوجة بغير زوجها.. ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ أي ما يحسبون انه يفرق بين المرء وزوجه على نحو ما يأخذ الإنسان من الدجال كتابة الحب والبغض معتقدا الصدق والتأثير.
6. تجمل الاشارة الى ان الآية لا تدل على ثبوت التأثير ولا نفيه، لأن قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾ ليس حكما جازما بتحقق التفريق بين الزوجين على كل حال، بل معناه يتعلمون ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين، تماما كقولك شرب الشفاء، أي ما وضع لأجل الشفاء.. واختصارا ان الآية من حيث ترتّب الأثر مجملة سلبا وإيجابا، وكثيرا ما تقتضي الحكمة الإلهية البيان من جهة، والإجمال من جهة، بخاصة في غير العقائد.
7. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي لا يستطيعون إضرار واحد من الناس أيا كان بسبب القراءة والكتابة، فإذا تضرر فإنما ذلك من باب الصدفة والاتفاق مع سبب من الأسباب الخارجية، فالمراد بإذن الله السبب الخارجي الذي يترتب عليه الضرر.. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ لأنه مجرد شعوذة، والشعوذة تضر ولا تنفع ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي انهم عالمون بأن من اختار الشعوذة على الحق لا نصيب له عند الله ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي انهم قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ بعد أن عدّد الله مساوئ اليهود، ودسائسهم ضد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ما كان أغناهم عن هذا الكفر والجحود، ولو آمنوا بمحمد كما أمرتهم التوراة لاراحوا واستراحوا، ونالوا عند الله الدرجات العلى، قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ اليه، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى.
تكلم فقهاء الامامية في السحر، وأطالوا الكلام عن معناه وأقسامه، والممكن منها، والممتنع، وعن جواز تعليمه وتعلمه، والعمل به، والسحر الذي ذكره القرآن هو نوع من الخديعة والشعوذة، وتصوير الباطل بصورة الحق، قال تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾.. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وعن الإمام الصادق ان السحر على أنواع، منها خفة وسرعة، ومنها احتيال، لأن المحتالين قد جعلوا لكل صحة آفة، ولكل عافية سقما، ولكل معنى حيلة.. أما الكتابات والرقى والعزائم، والنفث في العقد، وما اليه مما قيل انها تحدث أثرا ملموسا، كعقد الزوج عن زوجته، أو غيرها، بحيث يعجز عن وطئها، وإلقاء المحبة والبغضاء بين اثنين، واستخدام الملائكة والشياطين في كشف المغيبات، وعلاج المصابين بالصرع، أما هذه فقال الشهيد الثاني في المسالك باب التجارة: (إن أكثر علماء الامامية يعتقدون انها وهم وخيال لا أساس له من الصحة، وان البعض منهم يراها حقيقة واقعة، وهو من القائلين بحقيقتها)
روى البخاري أن النبي سحر، حتى كان يخيل اليه انه يفعل الشيء، وما يفعله.. وأنكر ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، وأيضا أنكره الشيخ محمد عبده في تفسير سورة الفلق.
نحن مع الذين لا يرون للسحر واقعا، قال الإمام الصادق: (السحر أعجز وأضعف من أن يغير خلق الله.. ولو قدر الساحر لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفى البياض عن رأسه، والفقر من ساحته، وان من أكبر السحر النميمة يفرق بها بين المتحابين، ويجلب العداوة بين المتصافين).. ومهما يكن، فقد اتفقت كلمة الامامية على ان عقاب الساحر القتل والاعدام ان كان مسلما، والتأديب بما يراه الحاكم من الجلد والسجن ان كان غير مسلم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/162.
الطباطبائي:
$الطباطبائي
1. ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).: اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد:
أ. فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: ﴿اتَّبَعُوا﴾ ، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الجميع؟
ب. واختلفوا في قوله: ﴿تَتْلُو﴾ ، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟
ج. واختلفوا في قوله: ﴿الشَّيَاطِينِ﴾ ، فقيل: هم شياطين الجن، وقيل: شياطين الإنس، وقيل: هما معا.
د. واختلفوا في قوله: ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ ، فقيل: معناه في ملك سليمان، وقيل: معناه في عهد ملك سليمان، وقيل: معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل: معناه على عهد ملك سليمان.
هـ. واختلفوا في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ ، فقيل: إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس، وقيل: إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل: إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر.
و. واختلفوا في قوله: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ ، فقيل: إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، وقيل: إنهم دلوا الناس على استخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه.
ز. واختلفوا في قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ فقيل: ما موصولة والعطف على قوله: ﴿مَا تَتْلُو﴾ ، وقيل: ما موصولة والعطف على قوله: ﴿السِّحْرَ﴾ أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل: ما نافية والواو استينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود.
ح. واختلفوا في معنى الإنزال فقيل: إنزال من السماء وقيل: بل من نجود الأرض وأعاليها.
ط. واختلفوا في قوله: ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ ، فقيل: كانا من ملائكة السماء، وقيل: بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور.
ي. واختلفوا في قوله: ﴿بِبَابِلَ﴾ ، فقيل: هي بابل العراق وقيل: بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين.
ك. واختلفوا في قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ﴾ ، فقيل: علم بمعناه الظاهر، وقيل: علم بمعنى أعلم.
ل. واختلفوا في قوله: ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ ، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل: لا تكفر بتعلمه، وقيل: بهما معا.
م. واختلفوا في قوله: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ ، فقيل: أي من هاروت وماروت، وقيل: أي من السحر والكفر، وقيل: بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله.
ن. واختلفوا في قوله: ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ ، فقيل: أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما، وقيل: إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة والنحلة وقيل: إنهم يسعون بينهما بالنميمة، والوشاية فيئول إلى الفرقة.
2. هذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجمله، وهناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية، وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال.. وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب واحتمالات تدهش العقول وتحير الألباب، والكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾
3. الذي ينبغي أن يقال: إن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود، وهو تداول السحر بينهم، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان عليه السلام إنما ملك الملك وسخر الجن والإنس والوحش والطير، وأتى بغرائب الأمور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان عليه السلام لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها؟ ولم يكفر سليمان عليه السلام وهو نبي معصوم، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ فسليمان عليه السلام أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر.
4. استعظم الله قدر سليمان عليه السلام في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام والأنبياء والنمل وسورة ص، وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر، بل هو من القصص الخرافية والأساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤوها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر.
5. ورد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت وماروت بأنه وإن أنزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله، وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرقون به بين المرء وزوجه ابتغاء للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم.
6. فقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان، والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه، وبذلك كان عليه السلام يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾
7. ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ ، أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا، والحال أنهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر.
8. ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ ، أي واتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار والإلهام على الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا إنما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا﴾ ، أي من الملكين وهما هاروت وماروت ﴿مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ﴾ أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.
9. ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، وإنما قدّم هذه الجملة على قوله: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ ، لأن هذه الجملة أعني: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ ، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.
10. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ ، علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾
11. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ، أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾، فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية.
12. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ ، إلخ أي اتبعوا الإيمان والتقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: ولو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، واقتصر على الإيمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين، ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ، أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.
13. في تفسير العياشي، والقمي في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ عن الباقر عليه السلام في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر ـ وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود ـ من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا ـ فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريرهـ ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيه، فقال الله جل ذكره: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾.. إسناد الوضع والكتابة والقراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والإنس لانتهاء الشر كله إليه وانتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الأخبار، وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة، وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: ﴿تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ يقرؤونه كاذبين على ملك سليمان والأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية وهو أن يملك الشيء من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر.
14. القصة مروية في روايات أخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.. وقد روي في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر عليه السلام وروى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها، وفي منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر، وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت ـ وأنها أضحوكة ـ وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: ﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
15. هذه القصة المذكورة في تلك الروايات تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.. ومن هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤوا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون، لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وقال ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَشِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً﴾، فأطلق القول ولم يقيد، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخه، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه، فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان، قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾، ولا معنى لإحقاق الحق ولا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.
16. بعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء، وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين وأصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الإفراط، والأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت، وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثناؤه: ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، إذ لو لم يكن لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حجية أو لما ينقل من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعتوره البشر ويقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك.
17. وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب؟ ونحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شيء من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.. هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، وأما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والأخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.
18. هذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من أهل بيته.. هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/233.
الحوثي:
$الحوثي
1. ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوالشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الواو عاطفة لما بعدها على قوله تعالى: ﴿نَبَذَهُ﴾ فأفادت أنهم جمعوا بين الإثمين، نبذ كتاب الله واتباع ما تتلوا الشياطين، لارتكاب جريمة السحر، وتلاوة الشياطين قراءتهم التي بها يُعلمون السحر.
2. ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي أنهم يتلون السحر عليه ليوهموا أنه إنما تم الملك لسليمان به، وأن سليمان لما عمل به حصل له ملكه ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ ما عمل السحرَ كما أوهمت الشياطين.
3. ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ حكى الشرفيّ في (المصابيح): (عن القاسم عليه السلام أنه قال: (السحر أمرٌ لا يواتي أهله إلاَّ بعظيم من الكفر)، ولعل القاسم عليه السلام أخذه من هذه الآية، وأراد عليه السلام أن الشياطين في حال تعليمهم الناس يكفرون ليواتيهم السحر ويحصل به ما أرادوا به، فظهر أنهم يحتاجون إلى الكفر لهذا الغرض؛ لأن السحر إنما يتقبله الناس عنهم إذا شاهدوا تجربته.
4. ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ نفي لمفسدة من مفاسد السحر عطف على نفي المفسدة الأولى، أي عطف على قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ و﴿الْمَلَكَيْنِ﴾ اسم لرجلين كانا ﴿بِبَابِلَ﴾ سميا به لاعتقاد الناس فيهم الفضل الكبير، وظنهم أنهما في فضلهما بمنزلة الملكين، وذلك لما يجري على أيديهما من الخوارق في اعتقادهم، فجعلوهما ملكين كما قالت النسوة في يوسف عليه السلام: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31]، فبين الله تعالى: أن ذلك ليس منزلاً من عند الله تكون به الخوارق، وإنما هو سحر من الشياطين، أو أن اليهود كانت تدّعي أن الله أنزل السحر على الملكين ليوهموا أن الله يرضاه وأنه ليس كفراً، فرد الله قولهم هذا إذا كانت ما نافية، وهو الأظهر، والموافق لتفسير المرتضى عليه السلام الذي حكاه الشرفي، وقول بعض المفسرين: أنها موصولة، فهو بعيد؛ لأن السياق في ذم اليهود باتباع تعليم السحر، وعلى فرض أنها موصولة، يصير المعنى: واتبعوا ما أنزل الله، وهذا التعبير في الذم بعيد.
5. ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ فهما يعرفان بأن السحر كفر أو لا يتم إلاَّ بالكفر، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ وهذه جريمة عظمى ينضاف فيها إلى كفرهم ظلم الزوجين، وما أكثر ما يصيب الناس هذا العدوان وما أشده على الزوجين ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بإذنه بوقوع الضرر لا بإيقاعه، أي بإرادته التخلية بينهم وبينه وتمكينهم منه؛ ابتلاءً للمظلوم وفتنةً للظالم أو بإذنه أي بتخليته وتمكينه، وهو قادر على منعهم غير غافل عما يعملون.
6. ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ أي هؤلاء المتعلمون للسحر من أهل الكتاب لظنهم أنهم ينتفعون به بما ينالون به من المال، والواقع أنهم يتعلمون ﴿مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ لأنه سبب لعذابهم وفساد عليهم في دينهم ولا يحصل به غرضهم من الثروة ووفور المال، بل يكونون مع استعماله كما لو لم يستعملوه أو أسوأ حالاً، وإذا كان معنى يضرهم بالنسبة إلى غرضهم من السحر الذي هو المال فهو دليل على أن السحر شؤم عليهم ونقص من أرزاقهم؛ لأن بعض المعاصي تنقص الرزق، فهو يضرهم في معاشهم ولا ينفعهم والأظهر يضرهم في آخرتهم أو في دنياهم وآخرتهم، ولا ينفعهم في دنياهم.
7. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي نصيب، فقد علموا أنه يفوت عليهم الثواب ولا ينالون في الآخرة أيّ نصيب، وعلمهم بذلك من التوراة أو غيرها من كتب الله، ومعنى اشتراه: استبدله بدينه، وهذه جرأة على معصية الله عظيمة وسوء نظر لأنفسهم.
8. ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ (بئس) كلمة ذم، و(اللام) تأكيد للذم، و﴿مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ ما باعوا به أنفسهم؛ لأن في السحر هلاكهم وعذابهم الدائم الذي فيه يخسرون أنفسهم، فقد باعوها بالسحر.
9. ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أنهم بئس ما باعوا به أنفسهم فينقذونها من الهلكة بالتوبة من السحر والرجوع إلى الله، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 26] والمعنى لو كانوا يعلمون لانتفعوا بهذا التحذير والإنذار، وعدم علمهم بما أخبر الله به في هذا القرآن لغفلتهم وإعراضهم عن آيات الله واشتغالهم بالدنيا وكثرة ذنوبهم، فلم يعلموا أن السحر الذي باعوا به أنفسهم ذميماً أيّ ذميم.
10. سؤال وإشكال: قد يشكل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ مع قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ والجواب: أن قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ معناه: لو كانوا يعلمون أن السحر ذميم ـ أيّ ذميم ـ وهو ما عبر عنه بقوله سبحانه: ﴿وَلَبِئْسَ﴾ ـ وذلك لأنهم لا يعتبرونه ذميماً؛ لأن الشيطان قد زيّنه لهم مع حرصهم على المال الذي يحصل لهم به، وحبُّهم له من أجل المال ينسيهم عيبه، فلا يعتبرونه ذميماً لعظم فائدته في اعتقادهم، فاختلف المثبت والمنفي.
11. سؤال وإشكال: كذلك يشكل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ مع قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ والجواب: أن المتبعين للسحر بعضهم، فما كل أهل الكتاب يعملونه، والذين يتبعونه يعلمون أن من اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، والذين يعتقدون أنها لن تمسهم النار إلاَّ أيماً معدودة هم غير مرتكبي جريمة السحر، مع أن من الجائز عليهم أن يقولوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ وهم ـ أعني مرتكبي السحر ـ يعلمون أنهم في قولهم هذا كاذبون، مع أن القائلين: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا﴾ المذكورين فيما مر، يمكن أنهم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا﴾ بعد قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ﴾ فيمكن أنهم هم القائلون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾، وعلى هذا: فوظيفة بعضهم التزوير وبعضهم السحر، وأهل التزوير يقولون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وأهل السحر قد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من نصيب أو كلهم يعلمون ذلك، والقائلون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ هم الذين: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ وقالوا ـ هم ـ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ يعنون أنفسهم لا كل أهل الكتاب على اختلافهم في الجرائم، فلا إشكال.
12. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ الإيمان الذي أمروا به ﴿وَاتَّقُوا﴾ ربهم بأن تابوا من جرائمهم واجتنبوا المعاصي من وقت التوبة ﴿لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ثواب من عند الله وهو الجنة ﴿خَيْرُ﴾ مما هم فيه من السحر والكسب الحرام ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ والأصل لو كانوا يعلمون لاختاروا ما هو خير لهم الذي هو الإيمان والتقوى، أو لعلموا أنه خير لهم، ولكنهم لكفرهم وغفلتهم وإقبالهم على الدنيا كأنهم لا يعلمون شيئاً ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: 44]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/156.
فضل الله:
$فضل الله
1. ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).: هذا لون جديد من ألوان الممارسات المنحرفة الضارة، التي كان يقوم بها اليهود لتخريب حياة الناس، فينشرون فيها الضرر والخرافة والفساد، وهي الممارسات التي تتمثل في اللعب على أعين الناس وعقولهم في تخييل ما لا حقيقة له، وفي الإيحاء بما لا واقع له، وفي الوسائل التي تفرق الناس بعضهم عن بعض.
2. جاءت هاتان الآيتان لتوضحا هذا الجانب من الصورة، في طريقة موحية تشير في مثل اللمحة الخاطفة إلى الموقف الإسلامي من السحر كمبدإ، من خلال معالجتهما للسلوك اليهودي المنحرف، فقد اعتبر السحر الذي يمارسونه لونا من ألوان البدع الشيطانية التي ينسبها الشياطين إلى ملك سليمان، من أجل أن يمنحوها جوّا من القداسة النبوية لدفع الناس إلى ممارستها كأسرار مقدّسة.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ليعطوا الملك سليمان طابعا سحريا يضفي عليه نوعا من الغموض والإبهام الذي يبتعد به عن الجانب الروحي المتجسّد في شخصيته، لتكون له شخصية الملك الساحر بعيدا عن شخصية النبي المؤيّد من الله.
3. يؤكد القرآن القضية في موقف حاسم، أن السحر فصيلة من فصائل الكفر الذي إذا لم يتصل بالجانب العقيدي في دائرة الفكر الكافر والمؤمن، فإنه يتصل بالجانب العملي الذي يقترب من الكفر بمدلوله ولوازمه، وهذا ما يرتفع عنه المستوى الروحي الإيماني لسليمان، فليس له أية علاقة به من قريب أو من بعيد، لأنه لم يتحرك في ملكه من موقع التحكّم بالناس واللعب عليهم، بل انطلق فيه من قاعدة الحكم العدل والإيمان الفصل المرتبط بالله، ولكن الشياطين هم الذين مارسوا الكفر في السحر، فأضلوا الناس وأفسدوا حياتهم، عندما انطلقوا يعلّمون الناس السحر، ليثيروا الخلافات والمنازعات، ويؤججوا نار العداوة والبغضاء من خلاله.
4. ينطلق الحديث ليربطنا ـ في السحر ـ برافد آخر هو: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾، هذان اللذان كانا يعلّمان الناس السحر للمعرفة والثقافة ودفع الضرر، لا لاستلام زمام المبادرة العملي فيه، ولهذا كانا يرشدان الإنسان الذي يتعلم منهما إلى أنهما فتنة للناس وامتحان لهم على الانضباط والالتزام الديني في عدم الإضرار من موقع القدرة والمعرفة لا من موقع العجز، لأن هناك فرقا بين أن تلتزم بترك الشيء لأنك لا تعرف حدوده وقواعده التي تملك من خلالها إمكانية التصرف، وبين أن تتركه وأنت تعرف كيف تتلاعب به وتوجهه الوجهة التي تريدها في طريق الخير والشرّ.
5. لكن الناس ـ ومنهم اليهود ـ لا ينجحون في الامتحان غالبا، فيوجّهون المعرفة التي يكسبونها في طريق الإضرار بالناس ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ والظاهر أن المراد من ذلك ما يستعمل لهذا الهدف، لا ما يحدث منه ذلك بشكل حتمي، وذلك بقرينة قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، ويطلق إذن الله عادة على الظروف والأسباب الطبيعية التي أودعها الله في خصائص الأشياء، مما يساهم في حدوث الظاهرة في حركة الوجود الإنساني والكوني؛ وفي هذا إيحاء بأن الإنسان لا يملكها ما لم يكن ذلك بإرادة الله الذي يملك القدرة على كل شيء من خلقه.
6. ثم يدخل القرآن في الأجواء الروحية التي يريد للإنسان أن يستحضرها في وعيه ووجدانه عندما يواجه حدود الحلال والحرام، فيفكر بالله وبالدار الآخرة فيما ينتظره من سخط الله وعذابه، وفيما يخسره من حظ الدنيا والآخرة، لينفصل الإنسان عن الدوافع الذاتية الشريرة التي تربطه بالأرض بعيدا عن آفاق السماء، والتي تزيّن له الانحراف وتهوّن عليه المعصية، طمعا في إرضاء نوازعه المنحرفة الضيّقة. ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ أي السحر في وسائله الضارة ﴿مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي نصيب، ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي باعوها، لأنه ثمن بخس لا يحصلون منه على شيء، لأنهم سيتركونه في الدنيا في عمر اللحظة ويواجهون الآخرة صفر اليدين، ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ولكنهم لا يعلمون لغلبة الغفلة عليهم من خلال سيطرة الشهوة على تفكيرهم ووجدانهم، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فلو وقفوا عند حدود ما أحلّه الله وما حرّمه عليهم، واتقوا ربهم، فإن المثوبة تنتظرهم من عند الله لو عرفوا قيمة المثوبة المنطلقة في أجواء رضاه ورحمته، ولكنهم لا يعلمون.
7. هذه صورة كلامية عن أجواء هاتين الآيتين، وقد أفاض المفسرون في عدة جوانب من الآية:
أ. فتحدثوا عن اليهود الذين اتبعوا السحر، هل هم الذين كانوا على عهد سليمان، أم غيرهم؟
ب. وتحدثوا عن كلمة ﴿تَتْلُو﴾ هل هي بمعنى تقرأ أم تكذب أم تتبع؟
ج. وعن كلمة ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ هل هي في عهده أم في ملكه نفسه؟
د. وعن ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ هل هو متعلق بكلمة ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ أم بكلمة: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ ليكون معطوفا على السحر؟
هـ. وعن شخصية هاروت وماروت، هل هما ملكان أم شيطانان أم آدميان؟
وغير ذلك من الأبحاث.. ولا نجد مجالا مفيدا للإفاضة في ذلك فيما سيقت له الآية، لأن البحث عن شخصية اليهود أو شخصية الملكين لا يجدينا شيئا ما دامت القضية في الآية واردة في سياق إعطاء الصورة للسلوك اليهودي كطابع عام يطبع الشخصية التاريخية والمعاصرة.
8. أمّا الملكان، فإن المقصود من حديثهما هو اعتبارهما مصدرين خيّرين، أو غير شريرين على الأقل، من دون دخل لشخصيتهما في الموضوع، وقد لا نريد أن نلغي أهمية معرفة ذلك في بعض الجوانب الأخرى التي تتصل بعصمة الملائكة وطبيعتهم من ناحية فكرية مجردة، ولكن مثل هذه المعرفة لا تمثل شيئا كبيرا في الطبيعة العامة للعقيدة.
9. أمّا كلمة ﴿تَتْلُو﴾، فالظاهر بقرينة المقام، أنها كناية عن النسبة الكاذبة، إذ لا معنى للقراءة المجردة في هذا المجال، كما أن معنى الاتباع لا ينسجم مع كلمة ﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أما كلمة ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾ فهي معطوفة ـ ظاهرا ـ على كلمة ﴿مَا تَتْلُو﴾، لأن ذلك أقرب إلى الانسجام مع طبيعة الآية، لأن ما أنزل على الملكين ليس شيئا آخر غير السحر، ليكون معطوفا على الكلمة نفسها.
10. أما عن السحر، ما حقيقته، وما تأثيره، وهل له أساس من الحق يركن إليه؟ لا يبعد أن نستوحي من القرآن الكريم في آياته المتفرقة، ولا سيما فيما جاء من حديث موسى مع السحرة، أن السحر عملية تخييل ولعب على الأعين والحواس الأخرى، وذلك في قوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116]، وقوله تعالى في حديث موسى معهم: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: 81]، كدلالة على أنه لا يرتكز على أساس من الحق الذي يمكن له أن يتماسك، وقوله: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69]، لأن عمله لا يؤدي إلى نتيجة حاسمة، بل ينتهي إلى الخيبة والخسران والفشل الذريع.. وقد نجد هذا المعنى فيما كان الكفار يواجهون به الأنبياء من اتهامهم بالسحر، باعتبار أنهم يفقدون الإنسان قدرته على مواجهة الدعوة بحرية الإرادة والاختيار بما يملكون من وسائل السحر.
11. وردت الأحاديث الكثيرة في التنديد بالساحر والسحر والتشديد على عقوبة الساحر في الدنيا والآخرة، فقد جاء في الحديث: (الكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار)، و(ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل، فقيل: يا رسول الله، ولم ذاك؟ قال لأن الشرك والسحر مقرونان).. ولعل الوجه في ذلك هو طبيعة الخطورة التي يمثلها السحر في ربط الناس بالخرافة والتضليل والتمويه والابتعاد عن طبيعة الأشياء تحت ستار الأسرار الغامضة المقدّسة، أو الاعتقاد ببعض المؤثرات في خصائص الأشياء بالمستوى الذي يتنافى مع وحدانية الله وعظمته.
12. لا ننطلق، في تحفّظنا في موضوع اعتبار السحر شيئا حقيقيا، من فكرة استبعاد علاقة الأشياء غير الملموسة أو غير المادية بالتأثير بالواقع، لأننا لا نؤمن إلا بالجانب الحسي في قضايا الحياة الواقعية، بل لأننا لا نملك أدلة وجدانية أو شرعية ـ فيما نعرفه من أدلة ـ على ذلك، فتبقى القضية في طور الاحتمال الذي يحتاج في جميع تفاصيله إلى دليل.
13. اختلف في ماهية السحر على أقوال:
أ. فقيل: إنه ضرب من التخييل وصنعة من لطيف الصنائع، وقد أمر الله بالتعوذ منه وجعل التحرز بكتابته وقاية منه، وأنزل فيه سورة الفلق، وهو قول الشيخ المفيد.
ب. وقيل: إنه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة.
ج. وقيل: إنه يمكن للساحر أن يقلب الإنسان حمارا ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع.. وهذا لا يجوز، ومن صدّق به فهو لا يعرف النبوّة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع، ولو أن الساحر والمعزّم قدرا على نفع أو ضرر وعلما الغيب لقدرا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من معادنها، والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه أو ضرر، فلما رأيناهم أسوأ حالا وأكثرهم مكيدة واحتيالا، علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك.
14. ما روي من الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر، فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله أو أنه لم يفعل ما فعله، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، وقد قال الله سبحانه وتعالى ـ حكاية عن الكفار ـ: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 47]. حاشا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله، فإنه خيرة الله من خليقته وصفوته من بريته.
15. نعقّب على ما استفاده الشيخ المفيد من سورة الفلق، في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4]، أن من الممكن أن تكون الاستعاذة أسلوبا من أساليب التخلص من الحالات النفسية التي يعيشها الإنسان من خوف أو قلق إزاء هذه الحالات، وذلك بسبب العقلية الشعبية التي درجت على اعتقاد وجود آثار حقيقية لمثل هذه الأمور، وقد يكون قريبا من هذا الجوّ الأحاديث الواردة في الاستعاذة بالله من أسباب الطيرة والتشاؤم إذا حدث في النفس شيء بسببها، مما يوحي بأن المعالجة ليست معالجة لشيء حقيقي يخاف من خطره، بل هي معالجة لحالة نفسية تحدث من خلال العقائد الموروثة، وقد لا يعني هذا أن نلغي من الحساب كل التأثيرات الروحية بسبب بعض الكلمات المقدسة من أسماء الله الحسنى وآياته، فقد ورد في كثير من الأحاديث تأثيرها في بعض القضايا التي تبقى من اهتمامات الأديان المرتكزة على وحي الله الذي يعلم حقائق الأشياء في خصائصها الروحية والمادية، لكن هذه الأمور ليست مساحة مفتوحة للجميع، بل هي من صلاحيات أهل المعرفة الدينية الواعية الذين يميزون بين الخرافة والحقيقة ويعرفون صحيح الحديث من فاسده، فلا يأخذون من هذه القضايا إلا ما ثبت لهم صحته مما لا يخالف المنطق وطبيعة الأشياء، ولا يمكن الاستسلام فيها إلى أشباه الأميين الذين لا يملكون من المعرفة إلا قليلا، فيعتمدون على الصدفة في ربح ثقة الناس، مما لم يكن لهم فيه أي دخل من معرفة أو تأثير، فيتبعهم الناس لذلك ويعتذرون عنهم في غير ذلك مما يخطئون فيه، لأن شأن الناس أن يحبوا التصديق السهل في الأمور، فذلك يجعلهم في حالة استسلام للحل السهل الذي لا يكلّفهم عناء في مواجهة الأشياء.
__________
(1) من وحي القرآن: 2/141.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يفهم من الأحاديث أن مجموعة من النّاس مارست السحر في عصر النّبي سليمان عليه السّلام، فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص، لعل الاحتفاظ بها يعود إلى إمكان الاستفادة منها في إبطال سحر السحرة، وبعد وفاة سليمان عليه السلام عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه، واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أن سليمان لم يكن نبيّا أصلا، بل كان يسيطر على ملكه ويأتي بالأمور الخارقة للعادة عن طريق السحر! مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.
2. عند ما ظهر النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر! وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التّهمة الكبرى عن سليمان عليه السّلام.
3. الآية الاولى إذن تكشف فضيحة أخرى من فضائح اليهود وهي اتهامهم لنبي الله بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾.. والضمير في ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ قد يعود إلى المعاصرين للنبي، أو إلى أولئك اليهود المعاصرين لسليمان، أو لكلا الفريقين.. والمقصود بكلمة ﴿الشَّيَاطِينِ﴾ قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.
4. ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾، فسليمان عليه السّلام لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾.. هؤلاء اليهود لم يستغلوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا الاستفادة أيضا من تعليمات هاروت وماروت: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾، لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.. لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والانحراف ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
5. كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتى ما عاد بالإمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، ويظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن وأقربه إلى الموازين العقلية والتاريخية والأحاديث الشريفة هو أنه شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج النّاس وازعاجهم، فبعث الله ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شرّ السحرة.
6. كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس أصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر، واستغلت مجموعة هذه الأصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذى للناس.. والملكان حذرا النّاس ـ حين التعليم ـ من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم.. وهذا ينسجم مع العقل والمنطق، وتؤيده أحاديث أئمّة آل البيت عليهم السّلام منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (وقد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا عليه السّلام في طريق آخر عن الامام الحسن العسكري عليه السّلام).
7. ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب بالخرافات والأساطير، وبعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن، من ذاك مثلا أن الملكين أرسلا إلى الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر، فنزلا وارتكبا أنواع الآثام والذنوب والكبائر! والنص القرآني بعيد عن هذه الأساطير ومنزّه منها.
8. زعم بعض المحققين أن (هاروت) و(ماروت) لفظان فارسيان قديمان، وقال: إن كلمة (هوروت) تعني (الخصب)، و(موروت) تعني (عديم الموت) واسما هاروت وماروت مأخوذان، من هذين اللفظين، وهذا الاتجاه في فهم معنى الاسمين لا يقوم على دليل.. وفي كتاب (أوستا) وردت ألفاظ مثل: (هرودات) ويعني (شهر خرداد)، وكذلك (أمردات) بمعنى عديم الموت، وهو نفسه اسم (شهر مرداد)، وفي معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.
9. العجيب أن البعض ذهب إلى أن هاروت وماروت من البشر ومن سكنة بابل!، وقيل أيضا أنّهما من الشياطين! والآيات المذكورة ترفض ذلك طبعا.
10. سؤال وإشكال: ما هي الرابطة بين الملك والإنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت وماروت علّما النّاس السحر، وهذا تمّ طبعا من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع، فهل يمكن للملك أن يكون معلما للإنسان؟ والجواب: الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب على هذا السّؤال، وتقول: إن الله بعثهما على شكل البشر، وهذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضا، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾
11. نفهم من قول الله في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن الله سبحانه، وليس في الأمر (جبر) ولا إرغام، بل إن هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو إن كلّ القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة الله تعالى، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن الله، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر الله. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليفة خلافا لإرادة الله.. وكلّ ما نراه من آثار وخواص إنما هي آثار وخواص جعلها الله سبحانه للموجودات المختلفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهية ومنهم من يسيء الاستفادة منها، و(الاختيار) الذي منحه الله للإنسان إنما هو وسيلة لاختباره وتكامله.
12. الحديث عن السحر وتاريخه طويل، ونكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ، ولكن بداياته وتطوراته التاريخية يلفّها الغموض ولا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.. وبشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، وهو أحيانا نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار، كما إنه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.
13. السحر في اللغة له معنيان:
أ. الخداع والشّعوذة والحركة الماهرة.
ب. كل ما لطف ودقّ.
14. الراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية:
أ. الأوّل: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.
ب. الثّاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.
ج. الثّالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور والطبائع فيجعل الإنسان حمارا، ولا حقيقة لذلك.
15. نستنتج من دراسة 51 موضعا من مواضع ذكر كلمة (سحر) في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم على قسمين:
1 ـ الخداع والشعبذة وخفة اليد وليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ ويستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتى يمكنه التأثير في الأشياء، بل هو خفة حركة اليد ونوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.
2 ـ يستفاد من آيات أخرى أن للسحر أثرا واقعيا، كقوله سبحانه: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ ، وقوله: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾، وهل إن للسحر تأثيرا نفسيا فقط، أم يتعدى ذلك إلى الجسم أيضا؟ لم تشر الآيات إلى ذلك، ويعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.
16. جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تمارس عن طريق الاستفادة من خواص المواد الكيمياوية والفيزيائية لخداع النّاس، فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (ولعلها الزئبق)، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة أخرى، وتوحي للمشاهد أنها حيّة، وهذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/315.